تفسير المراغي

المراغي، أحمد بن مصطفى

مقدمة

[الجزء الاول] مقدمة بسم الله الرّحمن الرّحيم المحمود الله، جلت آلاؤه، والمصلى عليه محمد وآله. وبعد: فإنا لنشاهد في عصرنا الحاضر ميل الناس إلى التزيد في الثقافة الدينية، ولا سيما تفسير الكتاب الكريم والسنة النبوية، وكثيرا ما سئلت أىّ التفاسير أسهل منالا، وأجدى فائدة للقارئ في الزمن القليل؟ فكنت أقف واجما حائرا لا أجد جوابا عن سؤال السائل، علما منى بأن كتب التفسير على ما فيها من فوائد جمة، وأسرار دينية عظيمة وإيضاح لمغازى الكتاب الكريم، قد حشيت بالكثير من مصطلحات الفنون: من بلاغة ونحو وصرف وفقه وأصول وتوحيد إلى نحو أولئك مما كان عقبة كأداء أمام قارئيها، إلى ما فيها من أقاصيص مجانفه، لوجه الصواب متنكّبة عن حظيرة العقل ووجوه المعارف التي يصح تصديقها، إلى تفسير للقضايا العلمية التي أشار إليها القرآن العزيز بحسب ما أيده العلم فى تلك العصور، وقد أثبت العلم فى هذا العصر وأيد الدليل والبرهان أنه لا ينبغى التعويل على مثل ما كان معروفا حينئذ، إلى أن هذه المؤلفات وضعت

- فى عصور قد خلت- بأساليب تناسب أهلها، وكان مؤلفوها يتباهون بإيجازها ويرون ذلك مفخرة لهم، ولكن الزمان وهو الحوّل القلّب غيّر آراء الناس في الموسوعات العلمية، فرأوا أن الكتاب الذي لا يناجيك معناه لدى قراءة لفظه، أولى لك ألا تضيع وقتك في قراءته وكدّ الفكر فى الوصول إلى المعمّى من معناه. ومن ثم نهج الناس فى التأليف منهج السهولة والسلاسة مع تحقيق المسائل العلمية حتى تعتز بمظاهرة الدليل والبرهان لها، ونفى الزائف الذي لا يقوم على ساقين، أو يستند إلى عضوين، من تجربة واختبار، وحجة وبرهان. من جرّاء هذا رأينا مسيس الحاجة إلى وضع تفسير للكتاب العزيز يشاكل حاجة الناس فى عصرنا فى أسلوبه وطريق رصفه ووضعه، ويكون دانى القطوف، سهل المأخذ يحوى ما تطمئن إليه النفس من تحقيق علمى تدعمه الحجة والبرهان، وتؤيده التجربة والاختبار، ويضم إلى آراء مؤلفه آراء أهل الذكر من الباحثين فى مختلف الفنون التي ألمع إليها القرآن على نحو ما أثبته العلم فى عصرنا، وتركنا الروايات التي أثبتت فى كتب التفسير، وهى بعيدة عن وجه الحق مجانفة للصواب، والله أسأل أن يوفقنا للرشاد، ويهدينا إلى سواء السبيل؟ أول المحرم عام 1365 هـ أحمد مصطفى المراغي

عناية المسلمين بتفسير الكتاب الكريم

عناية المسلمين بتفسير الكتاب الكريم كتاب الله هو دستور التشريع، ومنبع الأحكام التي طلب إلى المسلمين أن يعملوا بها، ففيه بيان الحلال والحرام والأمر والنهى، هو معين الآداب والأخلاق التي أمروا أن يستمسكوا بها، لتكون مصدر سعادتهم، ومنبع هدايتهم، ونيلهم الزّلفى عند ربهم في جنات النعيم فهى الوسيلة لإصلاح حال المجتمع الإسلامى إذا أخذوا بها ولم يحيدوا عن طريقها، وينحرفوا عن سننها. ومما ساعد على العمل بها أنه نزل منجّما بحسب الحوادث والوقائع في نيف وعشرين سنة، وقد كانت تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم الآية أو الآيات فى واقعة بعينها فيتدارسها مع صحبه، ويفصل لهم مجملها، ويوضح لهم مبهمها، ويفسر لهم مشكلها، حتى لا تبقى فى النفس بقية من لبس، وكان عليه الصلاة السلام الهادي لهم إلى سواء السبيل، والفاتح لهم ما استغلق من أمر دينهم، والمفسر لكتاب الله بسنته القولية وسنته الفعلية كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وظلّ دائبا هكذا حتى لحق بالرفيق الأعلى. فلا غرو أن كان تفسيره وإيضاح ما أشكل عليهم فهمه منه- هجيراهم من بدء التنزيل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وما زال الأمر كذلك في كل العصور حتى عصرنا، وما طفقت التفاسير تترى وهى مختلفة المناجى والمناهج، فما من عصر إلا جدّت فيه تفاسير تشاكل حاجة ذلك العصر ما بين مطوّل ومختصر كما نشاهد ذلك رأى العين، وإن كتاب الله لفيه من الأسرار ما لم يقف على كنهه جهابذة المفسرين وسيفسره الزمن وتقدم العلوم والفنون، ورقىّ الفكر الإنساني كما قال سبحانه وتعالى: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) .

طبقات المفسرين

طبقات المفسرين 1- التفسير فى عصر الصحابة: طفق المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يتدارسون القرآن، ويتفهمون معناه بطريق الرواية عن صحبه الذين كانوا يجلسون فى حضرته كثيرا. وقد اشتهر بالتفسير عشرة من الصحابة: الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ، ثم عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير وأكثر من روى عنه التفسير من الخلفاء على بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة الباقين نادرة، وروى عن ابن مسعود المتوفى بالمدينة سنة 32 هـ أكثر مما روى عن علىّ رضى الله عنه. أما عبد الله بن عباس المتوفى بالطائف سنة 68 هـ فهو ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وشيخ المفسرين، فقد روى عنه فى التفسير ما لا يحصى كثرة، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهمّ فقّهه فى الدين وعلّمه التأويل. قال صاحب كشف الظنون ما نصه: وأصح الطرق فى الرواية عنه: (1) طريق علىّ بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة 143 هـ، وعليها اعتمد البخاري فى صحيحه. (2) طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة 120 هـ عن عطاء بن السائب. (3) طريق ابن إسحاق صاحب السيرة. (4) طريق أبى النصر محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 146 هـ وهى أوهى الطرق، ولا سيما إذا وافقتها طريق محمد بن مروان السّدّى الصغير المتوفى سنة 186 هـ.

2 - التفسير في عهد التابعين

وقد طبع تفسير ينسب إلى ابن عباس برواية الفيروز بادى صاحب القاموس، سماه (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس) . وروى عن أبيّ بن كعب المتوفى سنة 20 هـ تفسير كبير رواه عنه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أقرأ الصحابة وسيد القراء. وزيد بن ثابت الأنصاري المتوفى سنة 45 هـ أحد كتاب الوحى، وهو الذي جمع المصحف أولا في عهد أبى بكر، ثم كان رئيس الجماعة الذين كتبوا المصحف فى عهد عثمان. وأبو موسى الأشعري هو عبد الله بن قيس الأشعري المتوفي سنة 44 هـ. 2- التفسير في عهد التابعين أعلم الناس بالتفسير فى هذا العصر: (ا) علماء مكة أصحاب عبد الله بن عباس، وأشهرهم: (1) مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103 هـ وقد قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري. (2) سعيد بن جبير المتوفى سنة 94 هـ. (3) عكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة 105 هـ. (4) طاوس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة 106 هـ. (5) عطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة 114 هـ. قال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك. وقال قتادة: كان أعلم التابعين أربعة، كان عطاء بن أبى رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن «1» أعلمهم بالحلال والحرام.

_ (1) الحسن البصري.

3 - طبقة ثالثة جمعت أقوال الصحابة والتابعين:

(ب) علماء الكوفة أصحاب ابن مسعود، وأشهرهم: (1) علقمة بن قيس المتوفى سنة 102 هـ. (2) الأسود بن يزيد المتوفى سنة 75 هـ. (3) إبراهيم النخعي المتوفى سنة 95 هـ. (4) الشعبي المتوفى سنة 105 هـ. (ح) علماء المدينة أصحاب زيد بن أسلم العدوى المدني المتوفى سنة 136 هـ، وله تفسير يعدّ من أمهات التفاسير، ومن أشهرهم: (1) ابنه عبد الرحمن بن زيد المتوفى سنة 182 هـ. (2) مالك بن أنس المتوفى سنة 179 هـ. (3) الحسن البصري المتوفى سنة 121 هـ. (4) عطاء بن أبى مسلم الخراسانى المتوفى سنة 135 هـ. (5) محمد بن كعب القرظي المتوفى سنة 117 هـ. (6) أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة 90 هـ. (7) الضحاك بن مزاحم المتوفى سنة 105 هـ. (8) عطية بن سعيد العوفى المتوفى سنة 111 هـ. (9) قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة 117 هـ. (10) الربيع بن أنس المتوفي سنة 139 هـ. (11) إسماعيل بن عبد الرحمن السّدى الكبير المتوفى سنة 127 هـ. 3- طبقة ثالثة جمعت أقوال الصحابة والتابعين: وأشهر هؤلاء: (1) سفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 هـ. (2) وكيع بن الجراح الكوفي المتوفى سنة 197 هـ.

4 - الطبقة الرابعة طبقة ابن جرير:

(3) شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هـ. (4) يزيد بن هرون السّلمى. (5) عبد الرازق المتوفى سنة 211 هـ. (6) آدم بن أبي إياس المتوفى سنة 221 هـ. (7) إسحاق بن راهويه الإمام الحافظ النيسابوري المتوفى سنة 238 هـ. (8) روح بن عبادة المتوفى سنة 205 هـ. (9) عبد الله بن حميد الجهني. (10) أبو بكر بن أبى شيبة الإمام الحافظ الكوفي المتوفى سنة 335 هـ. 4- الطبقة الرابعة طبقة ابن جرير: تلت هؤلاء طبقة أخرى، منها: (1) علىّ بن أبى طلحة المتوفى سنة 343 هـ. (2) ابن أبى حاتم عبد الرحمن بن محمد الرازي المتوفى سنة 327 هـ. (3) ابن ماجه الحافظ أبو عبد الله محمد القزويني المتوفى سنة 273 هـ. (4) ابن مردويه أبو بكر أحمد بن موسى الأصفهانى المتوفى سنة 410 هـ. (5) أبو الشيخ بن حبان البستي المتوفى سنة 354 هـ. (6) إبراهيم بن المنذر المتوفى سنة 236 هـ. (7) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ وهو من أشهر مفسرى هذا العصر. قال السيوطي فى الإتقان: وكتابه أجل التفاسير وأعظمها، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وللإعراب، والاستنباط، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين اهـ. وقال النووي النيسابورى الشافعي في تهذيبه: كتاب ابن جرير فى التفسير لم يصنف أحد مثله، وقال أبو إسحاق الاسفرائينى: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا، وروى أن ابن جرير قال لأصحابه:

5 - الطبقة الخامسة طبقة المفسرين بحذف الأسانيد:

أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا كم يكون قدره؟ قال: ثلاثين ألف ورقة. قالوا هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره فى نحو ثلاثة آلاف ورقة، ذكر ذلك السبكى فى طبقاته. 5- الطبقة الخامسة طبقة المفسرين بحذف الأسانيد: ألف بعد هؤلاء جماعة من المفسرين لهم تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد، من أشهرهم: (1) أبو إسحاق الزجاج إبراهيم بن السرىّ النحوي المتوفي سنة 310 هـ وقد سمى تفسيره (معانى القرآن) . (2) أبو على الفارسي الحجة الثبت فى اللغة والبلاغة، وصاحب المؤلفات الكثيرة فى مختلف الفنون، توفى سنة 377 هـ. (3) أبو بكر محمد بن الحسن المعروف بالنقاش الموصلي المتوفى سنة 351 هـ. (4) أبو جعفر النحاس النحوي المصري المتوفى سنة 338 هـ. (5) مكىّ بن أبى طالب القيسي النحوي المغربي المتوفى سنة 437 هـ. (6) أبو العباس أحمد بن عمار المهدوى المتوفي سنة 430 هـ وله تفسير يسمى (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل) . وقد دخل فى التفسير فى هذه الفترة الدخيل، إذ نقلت الأقوال بترا محذوفة الأسانيد، فالتبس الصحيح بالعليل، وصار كل من سنح له قول يورده، ومن خطر بباله شىء يعتمده، غير ملتفت إلى ما روى عن السلف الصالح فى ذلك، ومن هم القدوة فى هذا الباب. 6- عصر المعرفة الإسلامية: التقت فى البلاد الإسلامية تيارات العقل البشرى حاملة تراث المدنيات والحضارات

اليونانية والفارسية والهندية، ومرت بأهلها أعاصير من جدل أهل الكتاب يهودهم ونصاراهم، فكان كل أولئك حافزا للعلماء على أن يؤلفوا موسوعات فى التفسير تجمع بين دفتيها فنونا من المعرفة لم يكن لهم بها سابقة عهد، وسار الفكر الإسلامى حرّا طليقا فى معرفتها حينا، ومقيدا حينا آخر، يحكّم العقل مرة، ويسلس قياده للنص أخرى، ويميل إلى التقليد حين الضعف والانحلال والركود الفكرى. ولما كان القرآن كتابا سماويا تنزل على قلب أكمل الأنبياء، مشتملا على معارف عالية ومطالب سامية، يجد المنقّب عنها من الهيبة والجلال ما يكاد يحول بينه وبين الوصول إليها- سهل سبحانه الأمر علينا، فلم يطلب منا إلا الفهم والتدبر فى كلامه، لأنه نزّله نورا وهدى للناس، وجعله حاويا للشرائع والأحكام التي لا يمكن العمل بها إلا إذا فهمت حق الفهم، واستوضحت مغازيها، وكشفت أسرارها ومراميها، من حيث هى دين إلهى، وهدى سماوى، ترشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتيهم الدنيوية والأخروية، وما سوى ذلك من وجوه النظر والبحث، فتابع لذلك، ووسيلة إليه فى التحصيل، ولا يعنينا العناية التي نهتم لها اهتمامنا بالمطلب الأول، لكنّ كثيرا من المفسرين، جعلوا عنايتهم تكاد تكون وقفا على الوسائل دون المقاصد: (1) فمنهم من وجه النظر إلى البحث فى أساليب الكتاب ومعانيه، وبيان ما احتوى عليه من بلاغة وفصاحة، وأطنب فى ذلك وجعل مقصده بيان ميزته عن غيره من الكلام وإظهار إعجازه للناس، ليتبين لهم كيف أعجز مقاويل العرب وفصحاءهم، وكيف استخذوا أمامه ووقفوا وأجمعين؟ وكيف لجئوا إلى السيف والسنان، دون مقابلة البرهان بالبرهان؟ وكيف عمّى عليهم الأمر؟ فلم يجدوا لرد التحدي سبيلا. وقد سلك هذا المسلك الزمخشري فى كشافه، فألمّ بالكثير من مقاصد البلاغة، وأبدع فيها أيّما إبداع، ونحا نحوه خلق كثير. (2) ومنهم من وجه النظر إلى إعرابه وتوسع فى بيان وجوهه، حتى كأن القرآن

لهذا أنزل، وممن سلك هذا المسلك الزجّاج فى تفسيره معانى القرآن، والواحدي النيسابورى في تفسيره (البسيط) وأبو حيان محمد بن يوسف الأندلسى فى البحر المحيط (3) ومنهم من وجه النظر إلى القصص والأخبار عمن سلف، وقد نحا هذا النحو أقوام زادوا فى قصص القرآن ما شاءوا من كتب التاريخ والإسرائيليات. وليتهم اقتصروا على النقل من التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة لدى أهل الكتاب، لكنهم أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غثّ وسمين، ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل، ومن أشهر هؤلاء الثعلبي، وصاحب الخازن علاء الدين بن محمد البغدادي المتوفى سنة 741 هـ. (4) ومنهم من وجّه همه إلى الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وكيفية استنباطها من الآيات، وربما استطردوا إلى إقامة الأدلة عليها، والرد على المخالفين مما لا تعلق له بالتفسير كما فعل القرطبي فى تفسيره. (5) ومنهم من عنى بالكلام فى أصول العقائد ومقارعة الزائغين، ومحاجة المخالفين وللإمام الرازي المتوفى سنة 610 هـ فى ذلك القدح المعلّى فى تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب، فقد خرج فيه من باب إلى باب، حتى ليقضى الناظر العجب من صنيعه. ومن ثمّ قال أبو حيان الأندلسى فى البحر المحيط: جمع الرازي فى تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة إليها فى علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: تفسيره فيه كل شىء إلا التفسير اهـ. (6) ومنهم من اتجه إلى الوعظ والرقائق ممزوجة بحكايات المتصوفة والعبّاد، وفى بعضها خروج عن حدود الفضائل والآداب التي جرى عليها القرآن. (7) ومنهم من سلك طريق التفسير بالإشارة إلى دقائق لا تنكشف إلا لأرباب السلوك، ويمكن إرادتها مع إرادة ظاهر المعنى، وقال إن ذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان.

7 - طريق كتابة القرآن الكريم:

ولقد نعلم أن الإكثار فى مقصد من هذه المقاصد يدخل النقص على الغرض الأصلى من تفسير الكتاب الكريم، وهو فهم الكتاب من حيث هو دين وهداية للناس فى دنياهم وآخرتهم. 7- طريق كتابة القرآن الكريم: من المعروف أن لكتابة القرآن طريقا خاصة تخالف الطريق التي اتبعها العلماء فيما بعد ودرجوا عليها، ودوّنوا فيها كتبا تعرف بعلم رسم الحروف، أو علم الإملاء، وبه كتبت جميع المؤلفات من القرن الثالث فما بعده إلى اليوم. أما كتابة المصحف فهى تابعة للطريق التي كتب بها المصحف فى عهد عثمان ابن عفان الخليفة الثالث على يد جماعة من كبار الصحابة وتسمى (الرسم العثماني) وقد اتبع فيها نهج خاص يخالف ما اتبع فيما بعد فى كثير من المواضع، ومن ثم قيل: خطان لا يقاس عليهما: خط العروض، وخط المصحف العثماني. آراء العلماء فى التزام الرسم العثماني فى كتابة المصاحف الرأى الأول- عبر عنه الإمام أحمد بقوله: تحرم مخالفة خط عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك. وقال أبو عمرو الداني: لا مخالف لما حكى عن مالك من وجوب الكتابة على الكتبة الأولى من علماء الأمة. الرأى الثاني: أن رسم المصاحف اصطلاحى لا توقيفى، وعليه فتجوز مخالفته، ومن جنح إلى هذا الرأى ابن خلدون فى مقدمته، وممن تحمس له القاضي أبو بكر فى الانتصار، إذ قال: وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتّاب القرآن وخطاطى المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه،

إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس فى نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحدّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا فى نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية، بل السنة دلت على جواز رسمه بأى وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى عن كتابته بغيره. ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه أن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوّج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك. وإذا كانت خطوط المصاحف، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا ذلك، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ فى ذلك على الناس حدّ محدود مخصوص، كما أخذ عليهم فى القراءة والأذان. والسبب فى ذلك أن الخطوط إنما هى علامات ورسوم تجرى مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دالّ على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكتابة به على أىّ صورة كانت. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنّى له ذنك؟ اهـ.

الرأى الثالث: يميل صاحب التبيان ومن قبله صاحب البرهان إلى ما يفهم من كلام العز بن عبد السلام، من أنه يجوز بل يجب كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم، ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني الأول، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن يجب فى الوقت نفسه المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار النفيسة الموروثة عن سلفنا الصالح، فلا يهمل مراعاته لجهل الجاهلين، بل يبقى فى أيدى العارفين الذين لا تخلو منهم الأرض. وهاك عبارة التبيان قال: واما كتابته (المصحف) على ما أحدث الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل الشرق بناء على كونها أبعد من اللبس، وثحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك، وقد سئل هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال: لا. إلا على الكتبة الأولى. قال في البرهان: قلت وهذا كان فى الصدر الأول والعلم حىّ غض، وأما الآن فقد يخشى الالتباس، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغى إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدى إلى دروس العلم، وشىء قد أحكمه القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بهجته اهـ. وقد جرينا على الرأى الذي أوجبه العز بن عبد السلام فى كتابة الآيات أثناء التفسير العلة التي ذكرها، وهى فى عصرنا أشد حاجة إليها من تلك العصور، على أن الخلاف بينهم فى المصحف لا فى القرآن ولو أثناء التفسير كما فعلنا.

خدمتى للغة العربية والكتاب الكريم

خدمتى للغة العربية والكتاب الكريم لقد سعدت بخدمتي للغة العربية نحو نصف قرن درسا وتدريسا، وتأليفا وتصنيفا، أتتبع أساليبها فى آي القرآن الحكيم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشعر والنثر، حتى وجدتني كلفا، بأن أتوّج خدمتى لهذه اللغة بتفسير آي الذكر الحكيم مع تسميته «تفسير المراغي» . وقصاراى أن أسير فى قافلة الحاملين لمشعل المعرفة الإسلامية، مؤديا بعض ما يجب علىّ نحو الكتاب الكريم من الكشف عن بعض أسراره ومغازيه. نهجنا الذي سلكناه فى هذا التفسير رأينا أن ندلى إليك أيها القارئ الكريم، بالنهج الذي اتبعناه فى التأليف، لتكون على بينة من أمره: (1) ذكر الآيات فى صدر البحث: صدّرنا كل بحث بآية أو آيتين أو آيات من الكتاب الكريم، سيقت لتؤدى غرضا واحدا. (2) شرح المفردات: أردفنا ذلك تفسير مفرداتها اللغوية، إن كان فيها بعض الخفاء على كثير من القارئين. (3) المعنى الجملي للآيات: أتبعنا ذلك بذكر المعنى الجملي لهذه الآية أو الآيات ليتجلّى للقارئ منها صورة مجملة حتى إذا جاء التفسير وضح ذاك المجمل.

(4) أسباب النزول: أعقبنا ذلك بما ورد من أسباب النزول لهذه الآيات، إن صح شىء من ذلك لدى المفسرين بالمأثور. (5) الإعراض عن ذكر مصطلحات العلوم: ضربنا صفحا عن ذكر مصطلحات العلوم: من نحو وصرف وبلاغة إلى أشباه ذلك، مما أدخله المفسرون فى تفاسيرهم، فكان من العوائق التي حالت بين جمهرة الناس وقراءة كتب التفسير، فقد وجدوا طلّسمات وألغازا يصعب عليهم فهمها والسير قدما فى استيعاب قراءة التفسير، لأنها من ألوان الصناعات التي يخصّ بها قوم من الناس، وتكون عونا لهم على فهم الأساليب العربية فهم دراسة وتعمق، كما يخصّ قوم من الأمة بالحياكة والنجارة والحدادة إلى أشباه ذلك. (6) أسلوب المفسرين: رأينا أن الأساليب التي كتبت بها كتب التفسير وضعت فى عهود سحيقة بأساليب تناسب أهل العصور التي ألفت فيها ويسهل عليهم فهمها، وأن جمهرتهم أوجزوا فى القول وعدّوا ذلك مفخرة لهم. ولما كان لكل عصر طابع خاص يمتاز به عن غيره فى آداب أهله وأخلاقهم وعاداتهم وطرائق تفكيرهم- وجب على الباحثين فى هذا العصر مجاراة أهله فى كل ما نقدّم، فكان لزاما علينا أن نتلمس لونا من التفسير لكتاب الله بأسلوب عصرنا موافقا لأمزجة أهله، فأساس التخاطب أن لكل مقام مقالا، وأن الناس يخاطبون على قدر عقولهم، وقد رأينا أن نشيد فيه بجهود السابقين معترفين بفضلهم، مستندين إلى آرائهم.

وقد سلكنا فى الوصول إلى فهم الآيات التي أشارت إلى بعض نظريات فى مختلف الفنون استطلاع آراء العارفين بها، فاستطلعنا آراء الطبيب النطاسي، والفلكي العارف والمؤرخ الثّبت، والحكيم البصير ليدلى كل برأيه فيما تمهّر فيه، لنعلم ما أثبته العلم وأنتجه الفكر، فيكون كلامنا معتزا بكرامة المعرفة التي تشرف بتفهم كتاب الله، فرجل الدين حامل لوائها، عليه أن يسأل العلم دائما ليستبصر بما ثبت لديه، ويساير عصره ما وجد إلى ذلك سبيلا، فإن قعدت به همته إلى الموروث من قضاياه لدى الماضين ركب شططا وازداد بعدا عن الحقيقة، وتضاءل أمام نفسه وأمام قارئي بحوثه ومؤلفاته. (7) ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم: يمتاز هذا العصر بميل أهله لسهولة الكلام ليفهم الغرض المراد منه حين التخاطب، دون احتياج إلى النقاش وصنوف التأويل، ومن ثم كان أهم ما عنيت به أن أقرأ فى الموضوع الواحد ما كتبه أعلام المفسرين على اختلاف نزعاتهم وتباين أزمنتهم حتى إذا اطمأننت إلى فهم ما قرأت وتمثلته وهضمته، كتبته بأسلوب العصر الحاضر، وهذا هو نهجى فى تأليف هذا التفسير. وما حملنى على ركوب هذا المركب الخشن، واقتحام هذه العقبات إلا انصراف القارئين عن قراءة كتب التفسير التي بين أيدينا، بدعوى أنها صعبة المدخل مفعمة بكثير من المصطلحات التي لا يعلمها إلا من أتقن هذه الفنون، واستبدلت بأساليب المؤلفين أسلوبا سهل المأخذ قليل الكلفة فى الفهم، حتى يستطيع القارئ أن يلمّ بأسرار كتاب الله دون كدّ ولا نصب.

(8) تمحيص روايات كتب التفسير: أشار الكتاب الكريم إلى كثير من تاريخ الأمم الغابرة التي حلّ بها العذاب على ما اجترحت من الآثام، وإلى بدء الخلق وتكوين الأرض والسموات، ولم يكن لدى العرب من المعرفة ما يستطيعون به شرح هذه المجملات التي أشار إليها الكتاب، إذ كانوا أمة أمية في صحراء نائية عن مناهل العلم والمعرفة، والإنسان بطبعه حريص على استكناه المجهول، واستيضاح ما عزّت عليه معرفته، فألجأتهم الحاجة إلى الاستفسار من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا سيما مسلمتهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، ووهب بن منبّه، فقصّوا عليهم من القصص ما ظنوه تفسيرا لما خفى عليهم فهمه من كتابهم، ولكنهم كانوا فى ذلك كحاطب ليل، يجمع بين الشذرة والبعرة، والذهب والشبه، إذ لم تكن علوم القصّاص ممحّصة ولا مهذبة، بل كان ينقصها الميزان العلمي الذي به يتعرّف جيّد الرأى من بهرجه، وصحيحه من سقيمه، فساقوا إلى المسلمين من الآراء فى تفسير كتابهم ما ينبذه العقل، وينافيه الدين، وتكذبه المشاهدة، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم فى العصور اللاحقة. وما كان مثلهم ومثل العرب الذين استوضحوهم بعض ما استعصى عليهم فهمه، إلا مثل السائح الأوربى إذا جاء إلى سفح الأهرام بمصر، وسأل العرب الضاربين خيامهم حولها. لم بنيت الأهرام؟ ومن بناها؟ ومتى بنيت؟ وكيف بنيت؟ فيجيبونه إجابات بعيدة عن الحقيقة ومجانفة وجه الصواب. ومن ثمّ رأينا ألا نذكر رواية مأثورة إلا إذا تلقاها العلم بالقبول، ولم نر فيها ما يتنافر مع قضايا الدين التي لا خلاف فيها بين أهله، وقد وجدنا أن ذلك أسلم لصادق المعرفة، وأشرف لتفسير كتاب الله، وأجذب لقلوب المثقفين ثقافة علمية، لا يقنعها إلا الدليل والبرهان ونور المعرفة الصادقة.

(9) عدد أجزاء هذا التفسير: جعلت تفسيرى ثلاثين جزءا، لكل جزء من القرآن الكريم جزء خاص من التفسير، ليسهل على القارئ حمل هذا الجزء واستصحابه معه فى حله وترحاله، فى قطر السكك الحديدية، وفى الترام، وفى كل مكان ينتقل إليه. وكان من فأل الطالع أن بدئ بطبع هذا التفسير فى أول العام الهجري الجديد عام 1365 هـ. والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يوفقنا لخدمة دينه ولغة كتابه الكريم؟ أحمد مصطفى المراغي

مراجع التفسير

مراجع التفسير (1) تفسير أبى جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ. (2) تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل لأبي القاسم جار الله الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ. (3) حاشية شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي المتوفى سنة 713 هـ على الكشاف. (4) أنوار التنزيل للقاضى ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة 692 هـ. (5) تفسير أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفي فى رأس المائة الخامسة. (6) تفسير البسيط للإمام أبى الحسن الواحدي النيسابورى المتوفى سنة 468 هـ. (7) التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازي، المتوفي سنة 610 هـ. (8) تفسير الحسين بن مسعود البغوي المتوفى سنة 516 هـ. (9) غرائب القرآن لنظام الدين الحسن بن محمد القمّى. (10) تفسير الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 هـ. (11) البحر المحيط لأثير الدين أبى حيان محمد بن يوسف الأندلسى المتوفى سنة 745 هـ. (12) نظم الدرر فى تناسب الآي والسور لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي المتوفى سنة 885 هـ. (13) تفسير أبي مسلم الأصفهانى المتوفى سنة 459 هـ. (14) تفسير القاضي أبي بكر الباقلاني. (15) تفسير الخطيب الشربينى المسمى بالسراج المنير.

(16) روح المعاني للعلامة الآلوسى. (17) تفسير المنار للسيد محمد رشيد رضا وهو تفسير مقتبس من دروس الأستاذ الإمام محمد عبده، وقد كان له فضل كبير فيما اقتبسناه أثناء تفسير الأجزاء التي فسرها. (18) تفسير الجواهر للأستاذ طنطاوى جوهرى. (19) سيرة ابن هشام. (20) شرح العلامة ابن حجر للبخارى (21) شرح العلامة العيني للبخارى. (22) لسان العرب لابن منظور الإفريقى المتوفى سنة 711 هـ. (23) شرح القاموس للفيروزبادى المتوفى سنة 816 هـ. (24) أساس البلاغة للزمخشرى المتوفى سنة 548 هـ. (25) الأحاديث المختارة للضياء المقدسي. (26) طبقات الشافعية لابن السبكى. (27) الزواجر لابن حجر. (28) أعلام الموقعين لابن تيمية. (29) الإتقان فى علوم القرآن للعلامة السيوطي. (30) مقدمة ابن خلدون.

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة [سورة الفاتحة (1) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) السورة طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر لها اسم يعرف بطريق الرواية، وقد روى لهذه السورة عدة أسماء اشتهر منها: أم الكتاب، أم القرآن. (لاشتمالها على مقاصد القرآن من الثناء على الله والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده) ، والسبع المثاني لأنها تثنى فى الصلاة) ، والأساس (لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه) ، والفاتحة (لأنها أول القرآن فى هذا الترتيب أو أول سورة نزلت) فقد أخرج البيهقي فى كتابه الدلائل عن أبى ميسرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: إنى إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا. فقالت معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فو الله إنك لتؤدى الأمانة وتصل الرّحم. وتصدق. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أخبر ورقة بذلك، وإن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء، وإنه صلى الله عليه وسلم لما خلا ناداه الملك يا محمد قل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين- حتى بلغ ولا الضالين» . وقد رجح هذا بأنها مشتملة على مقاصد القرآن على سبيل الإجمال، ثم فصل ما أجملته بعد. بيان هذا أن القرآن الكريم اشتمل على التوحيد، وعلى وعد من أخذ به بحسن المثوبة ووعيد من تجافى عنه وتركه بسىء العقوبة، وعلى العبادة التي تحيى التوحيد فى القلوب وتثبته فى النفوس، وعلى بيان سبيل السعادة الموصل إلى نعيم الدنيا والآخرة، وعلى القصص الحاوي أخبار المهتدين الذين وقفوا عند الحدود التي سنها الله لعباده، وفيها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم، والضالين الذين تعدّوا الحدود، ونبذوا أحكام الشرائع وراءهم ظهريا. وقد حوت الفاتحة هذه المعاني جملة، فالتوحيد يرشد إليه قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

الْعالَمِينَ) لأنه يدل على أن كل ثناء وحمد يصدر عن نعمة فهو له، ولن يكون هذا إلا إذا كان عز اسمه مصدر النعم التي تستوجب الحمد، وأهمها نعمة الإيجاد والتربية وذلك صريح قوله: (رَبِّ الْعالَمِينَ) وقد استكمله بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وبذلك اجتثّ جذور الشرك التي كانت فاشية فى جميع الأمم، وهى اتخاذ أولياء من دون الله يستعان بهم على قضاء الحاجات ويتقرب بهم إلى الله زلفى. والوعد والوعيد يتضمنهما قوله: (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إذ الدين هو الجزاء وهو إما ثواب للمحسن وإما عقاب للمسىء. والعبادة تؤخذ من قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . وطريق السعادة يدل عليه قوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذ معناه أنه لا تتم السعادة إلا بالسير على ذلك الصراط القويم، فمن خالفه وانحرف عنه كان فى شقاء مقيم. والقصص والأخبار يهدى إليها قوله: (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فهو يرشد إلى أن هناك أمما قد مضت وشرع الله شرائع لهديها فاتبعتها وسارت على نهجها، فعلينا أن نحذو حذوها ونسير على سننها. وقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يدل على أن غير المنعم عليهم صنفان: صنف خرج عن الحق بعد علمه به، وأعرض عنه بعد أن استبان له، ورضى بما ورثه عن الآباء والأجداد وهؤلاء هم المغضوب عليهم، وصنف لم يعرف الحق أبدا أو عرفه على وجه مضطرب مهوش، فهو فى عماية تلبس الحق بالباطل وتبعد عن الجادة الموصلة إلى الصراط السوي، وهؤلاء هم الضالون. وهذه السورة إحدى السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعدة آيها سبع. وقد نزل القرآن الكريم منجّما أي مفرقا فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث

ميزات المكي:

التي دعت إلى نزوله، وقد نزل بعضه بمكة قبل الهجرة وبعضه بالمدينة بعدها، ولكل من المكي والمدني ميزات يعرف بها. ميزات المكي: فمن ميزات المكي أنه نزل لبيان أسس الدين من الإيمان بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين، وفعل الخيرات وترك المنكرات، مع إيجاز فى التعبير، واختصار فى الأسلوب، ويتضح ذلك جليا فى قصار المفصّل كالحاقة والواقعة والمرسلات. ميزات المدني: ومن ميزات المدني أنه جاء بأحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية فى السلم والحرب، وأصول التشريع للحكومات الإسلامية، إلى إسهاب فى الأسلوب وبسطة فى القول، ولا سيما عند محاجة أهل الكتاب، والنعي عليهم بتحريف ما أنزل إليهم ودعوتهم إلى التوحيد الخالص، وبيان أن الإسلام الذي جاء به القرآن هو دين الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا.

تمهيد

بسم الله الرّحمن الرّحيم تمهيد يرى بعض الصحابة كأبى هريرة وعلىّ وابن عباس وابن عمر، وبعض التابعين كسعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك وبعض فقهاء مكة وقرائها ومنهم ابن كثير، وبعض قراء الكوفة وفقهائها ومنهم عاصم والكسائي والشافعي وأحمد، أن البسملة آية من كل سورة من سورة القرآن الكريم. ومن أدلتهم على ذلك: (1) إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها فى المصحف أول كل سورة عدا سورة براءة، مع الأمر بتجريد القرآن من كل ما ليس منه، ومن ثم لم يكتبوا (آمين) فى آخر الفاتحة. (2) ما ورد في ذلك من الأحاديث، فقد أخرج مسلم فى صحيحه عن أنس رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت علىّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» ، وروى أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف انقضاء السورة، حتى ينزل عليه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وروى الدار قطنى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرّحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرّحمن الرحيم إحدى آياتها» . (3) أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، والبسملة بينهما فوجب جعلها منه. ويرى مالك وغيره من علماء المدينة، والأوزاعى وجماعة من علماء الشام، وأبو عمرو

الإيضاح

يعقوب من قراء البصرة وهو الصحيح من مذهب أبى حنيفة- أنها آية مفردة من القرآن أنزلت لبيان رءوس السور والفصل بينها. ويرى عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا وهو رأى بعض الحنفية. ومن أدلتهم على ذلك حديث أنس قال: صليت خلف النبي صلّى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان، وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول قراءة ولا آخرها. الإيضاح (بسم) الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات كمحمد وإنسان، أو معنى كعلم وأدب. وقد أمرنا الله بذكره وتسبيحه فى آيات فقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) وقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) وقال: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) . وأمرنا بذكر اسمه وتسبيحه فى آيات أخرى فقال: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) وقال: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وقال: (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) . ومن ذلك يعلم أن ذكر المسمى مطلوب بتذكر القلب إياه ونطق اللسان به لتذكر عظمته وجلاله ونعمه المتظاهرة على عباده، وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر إليه وطلب المعونة منه على إيجاد الأفعال وإحداثها. وذكر الاسم مشروع ومطلوب كذلك، فيعظم الاسم مقرونا بالحمد والشكر وطلب المعونة فى كون الفعل معتدا به شرعا، فإنه ما لم يصدّر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم. (اللَّهِ) علم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره تعالى، وكان العربي فى الجاهلية إذا سئل من خلق السموات والأرض؟ يقول الله: وإذا سئل هل خلقت اللات والعزّى شيئا من ذلك؟ يجيب (لا) .

والإله اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحق. (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) كلاهما مشتق من الرحمة وهى معنى يقوم بالقلب يبعث صاحبه على الإحسان إلى سواه، ويراد منها فى جانب المولى عزّ اسمه أثرها وهو الإحسان. إلا أن لفظ (الرَّحْمنِ) يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة وهى إسباغ النعم والإحسان، ولفظ (الرَّحِيمِ) يدل على منشأ هذه الرحمة، وأنها من الصفات الثابتة اللازمة له، فإذا وصف الله جل ثناؤه بالرحمن استفيد منه لغة أنه المفيض للنعم، ولكن لا يفهم منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما. وإذا وصف بعد ذلك بالرحيم علم أن لله صفة ثابتة دائمة هى الرحمة التي يكون أثرها الإحسان الدائم وتلك الصفة على غير صفات المخلوقين، وإذا يكون ذكر الرحيم بعد الرحمن كالبرهان على أنه يفيض الرحمة على عباده دائما لثبوت تلك الصفة له على طريق الدوام والاستمرار. افتتح عزّ اسمه كتابه الكريم بالبسملة إرشادا لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها، وقد ورد في الحديث «كل أمر ذى بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» (أي مقطوع الذنب ناقص) . وقد كان العرب قبل الإسلام يبدءون أعمالهم بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات أو باسم العزى، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا مرضاة لملك أو أمير يقول أعمله باسم فلان، أي إن ذلك العمل لا وجود له لولا ذلك الملك أو الأمير. وإذا فمعنى أبتدئ عملى باسم الله الرحمن الرحيم أننى أعمله بأمر الله ولله لا لحظ نفسى وشهواتها. ويمكن أن يكون المراد- أن القدرة التي أنشأت بها العمل هى من الله ولولا ما أعطانى من القدرة لم أفعل شيئا، فأنا أبرأ من أن يكون عملى باسمي، بل هو باسمه تعالى، لأننى أستمد القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على عمله، وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم، أن جميع ما جاء فى القرآن من الأحكام والشرائع

[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 إلى 7]

والأخلاق والآداب والمواعظ- هو لله ومن الله ليس لأحد غيره فيه شىء، وكأنه قال اقرأ يا محمد هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم، أي اقرأها على أنها من الله لا منك، فإنه أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم فى الدنيا والآخرة، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد من تلاوتها على أمته أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم الله لا باسمه أي أنها من الله لا منه، فإنما هو مبلّغ عنه تبارك وتعالى كما جاء فى قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) . [سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 الى 7] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) الإيضاح (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الحمد لغة هو المدح على فعل حسن صدر عن فاعله باختياره سواء أسداه إلى الحامد أو إلى غيره. والمدح يعم هذا وغيره فيقال مدح المال، ومدح الجمال، ومدح الرياض. والثناء يستعمل فى المدح والذم على السواء، فيقال أثنى عليه شرا، كما يقال أثنى عليه خيرا. والشكر هو الاعتراف بالفضل إزاء نعمة صدرت من المشكور بالقلب أو باللسان أو باليد أو غيرها من الأعضاء كما قال شاعرهم: أفادتكم النعماء منّى ثلاثة ... يدى ولساني والضّمير المحجّبا يريد أن يدى ولسانى وقلبى لكم، فليس فى القلب إلا نصحكم ومحبتكم، ولا فى اللسان لا الثناء عليكم ومدحكم، ولا فى اليد وسائر الجوارح والأعضاء إلا مكافأتكم وخدمتكم.

وورد فى الأثر- الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لم يحمده. وقد جعله رأس الشكر، لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على من أسداها، يشهرها بين الناس ويجعل صاحبها القدوة المؤتسى به، أما الشكر بالقلب فهو خفى قلّ من يعرفه، وكذلك الشكر بالجوارح منهم لا يستبين لكثير من الناس. (لله) هو المعبود بحق لم يطلق على غيره تعالى. (رب) هو السيد المربّى الذي يسوس من يربّيه ويدبّر شئونه. وتربية الله للناس نوعان، تربية خلقية تكون بتنمية أجسامهم حتى تبلغ الأشد وتنمية قواهم النفسية والعقلية- وتربية دينية تهذيبية تكون بما يوحيه إلى أفراد منهم ليبلّغوا للناس ما به تكمل عقولهم وتصفو نفوسهم- وليس لغيره أن يشرع للناس عبادة ولا أن يحلّ شيئا ويحرم آخر إلا بإذن منه. ويطلق الرب على الناس فيقال رب الدار، ورب هذه الأنعام كما قال تعالى حكاية عن يوسف صلوات الله عليه فى مولاه عزيز مصر (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) وقال عبد المطلب يوم الفيل لأبرهة قائد النجاشي: أما الإبل فأنا ربّها، وأما البيت فإن له ربّا يحميه. (العالمين) واحدهم عالم (بفتح اللام) ويراد به جميع الموجودات، وقد جرت عادتهم ألا يطلقوا هذا اللفظ إلا على كل جماعة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العقلاء إن لم تكن منهم، فيقولون عالم الإنسان، وعالم الحيوان وعالم النبات، ولا يقولون عالم الحجر، ولا عالم التراب، ذاك أن هذه العوالم هى التي يظهر فيها معنى التربية الذي يفيده لفظ (رب) إذ يظهر فيها الحياة والتغذية والتوالد. والخلاصة- إن كل ثناء جميل فهو لله تعالى إذ هو مصدر جميع الكائنات. وهو الذي يسوس العالمين ويربيهم من مبدئهم إلى نهايتهم ويلهمهم ما فيه خيرهم وصلاحهم، فله الحمد على ما أسدى، والشكر على ما أولى: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قد سبق أن قلنا: إن معنى الرّحمن المفيض للنعم المحسن على عباده

بلا حصر ولا نهاية، وهذا اللفظ خاص بالله تعالى ولم يسمع عن العرب إطلاقه على غيره تعالى إلا فى شعر لبعض من فتن بمسيلمة الكذاب: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... وأنت غيث الورى لازلت رحمانا والرّحيم هو الثابت له صفة الرحمة التي عنها يكون الإحسان. وقد ذكر سبحانه هذين الوصفين ليبين لعباده أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان، ليقبلوا على عمل ما يرضيه وهم مطمئنو النفوس منشر حو الصدور، لا ربوبية جبروت وقهر لهم. والعقوبات التي شرعها الله لعباده فى الدنيا والعذاب الأليم فى الآخرة لمن تعدّى حدوده وانتهك حرماته- هى قهر فى الظاهر ورحمة فى الحقيقة، لأنها تربية للناس وزجر لهم حتى لا ينحرفوا عن الجادة التي شرعها لهم إذ في اتباعها سعادتهم ونعيمهم، وفى تجاوزها شقاؤهم وبلاؤهم، ألا ترى إلى الوالد الرءوف كيف يربّى أولاده بالترغيب في عمل ما ينفع والإحسان إليهم إذا لزموا الجادّة، فإذا هم حادوا عن الصراط السوي لجأ إلى الترهيب بالعقوبة حين لا يجد منها محيصا، قال أبو تمام: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قرأ بعض القرّاء مالك، وبعض آخر ملك، والفارق بينهما أن المالك هو ذو الملك (بكسر الميم) والملك هو ذو الملك (بضم الميم) وقد جاء فى الكتاب الكريم ما يعاضد كلّا من القراءتين، فيعاضد الأولى قوله: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) ويعاضد الثانية قوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) . قال الراغب: والقراءتان وإن رويتا عن جمع كثير من الصحابة، فالثانية يكنفها من الجلال والرّوعة وإثارة الخشية ما لا يوجد مثله فى القراءة الأولى، فهى تدلّ على أنه سبحانه هو المتصرف فى شئون العقلاء بالأمر والنهى والجزاء، ومن ثمّ يقال ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء: والدين يطلق لغة على الحساب، وعلى المكافأة، وعلى الجزاء، وهو المناسب هنا،

وإنما قال مالك يوم الدين، ولم يقل مالك الدين ليعلم أن للدين يوما معينا يلقى فيه كل عامل جزاء عمله. والناس وإن كانوا يلاقون جزاء أعمالهم فى الدنيا باعتبارهم أفرادا من بؤس وشقاء جزاء تفريطهم فى أداء الحقوق والواجبات التي عليهم- فربما يظهر ذلك فى بعض دون بعض، فإنا نرى كثيرا من المنغمسين فى شهواتهم يقضون أعمارهم وهم متمتعون بلذاتهم، نعم إنهم لا يسلمون من المنغّصات، وربما أتتهم الجوائح فى أموالهم، واعتلّت أجسامهم، وضعفت عقولهم، ولكن هذا لا يكون جزاء كاملا لما اقترفوه من عظيم الموبقات، وكبير المنكرات، كذلك نرى كثيرا من المحسنين يبتلون بهضم حقوقهم ولا ينالون ما يستحقون من حسن الجزاء، نعم إنهم ينالون بعض الجزاء بإراحة ضمائرهم وسلامة أجسامهم وصفاء ملكاتهم وتهذيب أخلاقهم، ولكن ليس هذا كلّ ما يستحقون من الجزاء، فإذا جاء ذلك اليوم استوفى كل عامل جزاء عمله كاملا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، جزاء وفاقا لما عمل (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) . أما الناس باعتبارهم أمما وجماعات فيظهر جزاؤهم فى الدنيا ظهورا تاما، فما من أمّة انحرفت عن الصراط السوي، ولم تراع سنة الله في الخليقة إلا حلّ بها ما تستحق من الجزاء من فقر بعد غنى، وذلّ بعد عزة، ومهانة بعد جلال وهيبة. وقد جاء قوله: (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إثر قوله: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليكون كترهيب بعد ترغيب، وليعلمنا أنه تعالى ربّى عباده بكلا النوعين من التربية، فهو رحيم بهم، ومجاز لهم على أعمالهم كما قال: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) . (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) العبادة خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأن له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته لأنه أعلى من أن يحيط به فكره، أو يرقى إليه إدراكه.

فمن يتذلل لملك لا يقال إنه عبده، لأن سبب التذلل معروف، وهو إما الخوف من جوره وظلمه، وإما رجاء كرمه وجوده. وللعبادة صور وأشكال تختلف باختلاف الأديان والأزمان، وكلها شرعت لتنبيه الإنسان إلى ذلك السلطان الأعلى، والملكوت الأسمى، ولتقويم المعوجّ من الأخلاق وتهذيب النفوس، فإن لم تحدث هذا الأثر لم تكن هى العبادة التي شرعها الدين. هاك الصلاة تجد أن الله أمرنا بإقامتها والإتيان بها كاملة وجعل من آثارها أنها تنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما قال: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فإن لم يكن لها هذا الأثر فى النفوس كانت صورا من الحركات والعبارات خالية من روح العبادة وسرها، فاقدة جلالها وكمالها، وقد توعد الله فاعلها بالويل والثبور ذفقال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) فهم وإن سماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة، وصفهم بالسهو عن حقيقتها ولبّها، وهو توجه القلب إلى الله والإخبات إليه وهو المشعر بعظمته، وقد جاء فى الحديث: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا. وأنها تلفّ كما يلفّ الثوب البالي ويضرب بها وجهه. والاستعانة طلب المعونة والمساعدة على إتمام عمل لا يستطيع المستعين الاستقلال بعمله وحده. وقد أمرنا الله فى هذه الآية ألا نعبد أحدا سواه، لأنه المنفرد بالسلطان، فلا ينبغى أن يشاركه فى العبادة سواه، ولا أن يعظم تعظيم المعبود غيره، كما أمرنا ألا نستعين بمن دونه، ولا نطلب المعونة المتممة للعمل والموصلة إلى الثمرة المرجوة إلا منه، فيما وراء الأسباب التي يمكننا كسبها وتحصيلها. بيان هذا أن الأعمال يتوقف نجاحها على أسباب ربطتها الحكمة الإلهية بمسبباتها، وجعلتها موصلة إليها، وعلى انتفاء موانع من شأنها أن تحول دونها، وقد أوتى الإنسان بما فطره الله عليه من العلم والمعرفة كسب بعض الأسباب، ودفع بعض الموانع بقدر

استعداده الذي أوتيه، وفى هذا القدر أمرنا أن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا كما قال تعالى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فنحن نحضر الدواء مثلا لشفاء المرضى، ونجلب السلاح والكراع ونكثر الجند لغلب العدو، ونضع فى الأرض السّماد ونرويها ونقتلع منها الحشائش الضارة للخصب وتكثير الغلة. وفيما وراء ذلك مما حجب عنا من الأسباب يجب أن نفوض أمره إلى الله تعالى. فنستعين به وحده، ونفزع إليه في شفاء مريضنا، ونصرنا على عدونا، ورفع الجوائح السماوية والأرضية عن مزارعنا، إذ لا يقدر على دفع ذلك سواه، وهو قد وعدنا إذا نحن لجأنا إليه بإجابة سؤلنا كما قال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وأرشد إلى أنه قريب منا يسمع دعاءنا كما قال: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) . فمن يستعين بقبر ناسك، أو ضريح عابد لقضاء حاجة له، أو تيسير أمر تعسّر عليه، أو شفاء مريض أو هلاك عدو فقد ضل سواء السبيل، وأعرض عما شرعه الله، وارتكب ضربا من ضروب الوثنية التي كانت فاشية قبل الإسلام وبعده ولا تزال إلى الآن كذلك، وقد نهى عن مثلها الشارع الحكيم، إذ حصر طلب المعونة فيه دون سواه، وجعلها مقصد كل مخبت أوّاه. وفى ذكر الاستعانة بالله إرشاد للإنسان إلى أنه يجب عليه أن يطلب المعونة منه على عمل له فيه كسب، فمن ترك الكسب فقد جانب الفطرة، ونبذ هدى الشريعة، وأصبح مذموما مدحورا، لا متوكّلا محمودا، وكذلك فيها إيماء إلى أن الإنسان مهما أوتى من حصافة الرأى، وحسن التدبير، وتقليب الأمور على وجوهها- لا يستغنى عن العون الإلهى، واللطف الخفىّ. والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله، وهى من كمال التوحيد والعبادة الخالصة له تعالى، وبها يكون المرء مع الله عبدا خاضعا مخبتا، ومع الناس حرا كريما لا سلطان لأحد عليه، لا حىّ ولا ميت، وفى هذا فكّ للإرادة من أسر الرؤساء والدجالين، وإطلاق العزائم من قيود الأفّاكين الكاذبين.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الهداية هى الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، والصراط هو الطريق، والمستقيم ضد المعوجّ، وهو ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب على سالكها أن ينتهى إليها. وهداية الله للإنسان على ضروب: (1) هداية الإلهام، وتكون للطفل منذ ولادته، فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء ويصرخ طالبا له. (2) هداية الحواس، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان الأعجم، بل هما فى الحيوان أتمّ منهما فى الإنسان، إذ إلهامه وحواسه يكملان بعد ولادته بقليل، ويحصلان في الإنسان تدريجا. (3) هداية العقل، وهى هداية أعلى من هداية الحس والإلهام، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعا مع غيره، وحواسّه وإلهامه لا يكفيان لهذه الحياة، فلا بد له من العقل الذي يصحح له أغلاط الحواس، ألا ترى الصفراوي يذوق الحلو مرّا، والرائي يبصر العود المستقيم فى الماء معوجّا. (4) هداية الأديان والشرائع، وهى هداية لا بد منها لمن استرقّت الأهواء عقله، وسخّر نفسه للذاته وشهواته، وسلك مسالك الشرور والآثام، وعدا على بنى جنسه، وحدث بينه وبينهم التجاذب والتدافع- فبها يحصل الرشاد إذا غلبت الأهواء العقول، وتتبين للناس الحدود والشرائع، ليقفوا عندها ويكفّوا أيديهم عما وراءها- إلى أن فى غرائز الإنسان الشعور- بسلطان غيبى متسلّط على الأكوان، إليه ينسب كل ما لا يعرف له سببا، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة، وهو بعقله لا يدرك ما يجب لصاحب هذا السلطان، ولا يصل فكره إلى ما فيه سعادته فى هذه الحياة فاحتاج إلى هداية الدين التي تفضل الله بها عليه ووهبه إياها. وإلى تلك الهدايات أشار الكتاب الكريم فى آيات كثيرات كقوله: (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي طريقى الخير والشر والسعادة والشقاء. وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ

فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر فاختاروا الثاني الذي عبر عنه بالعمى. وهناك نوع آخر من الهداية وهو المعونة والتوفيق للسير فى طريق الخير، وهى التي أمرنا الله بطلبها فى قوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذ المراد- دلّنا دلالة تصحبها من لدنك معونة غيبية تحفظنا بها من الوقوع فى الخطأ والضلال. وهذه الهداية خاصة به سبحانه لم يمنحها أحدا من خلقه، ومن ثمّ نفاها عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وأثبتها لنفسه فى قوله: (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) . أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق، مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة والفوز والفلاح، فهى مما تفضل الله بها على خلقه ومنحهموها، ومن ثم أثبتها للنبى صلى الله عليه وسلم فى قوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) . هذا- والصراط المستقيم هو جملة ما يوصل إلى السعادة فى الدنيا والآخرة من عقائد وأحكام وآداب وتشريع دينى كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الكون وأحوال الاجتماع- وقد سمّى هذا صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الحسى، إذ كل منهما موصل إلى غاية، فهذا سير معنوى يوصل إلى غاية يقصدها الإنسان، وذاك سير حسىّ يصل به إلى غاية أخرى. وقد أرشدنا الله إلى طلب الهداية منه، ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا بعد أن نبذل ما نستطيع من الجهد فى معرفة أحكام الشريعة، ونكلف أنفسنا الجري على سننها، لنحصل على خيرى الدنيا والآخرة. (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصدّيقون والصالحون من الأمم السالفة، وقد أجملهم هنا وفصلهم فى مواضع عدة من

الكتاب الكريم بذكر قصصهم للاعتبار بالنظر فى أحوالهم، فيحملنا ذلك على حسن الأسوة فيما تكون به السعادة، واجتناب ما يكون طريقا إلى الشقاء والدمار. وقد أمرنا باتباع صراط من تقدّمنا، لأن دين الله واحد فى جميع الأزمان: فهو إيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وتخلّق بفاضل الأخلاق وعمل الخير وترك الشر، وما عدا ذلك فهو فروع وأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى آخر الآية. والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريّا، وانصرفوا عن النظر فى الأدلة تقليدا لما ورثوه عن الآباء والأجداد- وهؤلاء عاقبتهم النكال والوبال فى جهنم وبئس القرار. والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة، أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق، فهم تائهون فى عماية لا يهتدون معها إلى مطلوب، تعترضهم الشبهات التي تلبس الحق بالباطل، والصواب بالخطأ إن لم يضلّوا فى شئون الدنيا ضلوا فى شئون الحياة الأخرى، فمن حرم هدى الدين ظهر أثر الاضطراب فى أحواله المعيشية وحلت به الرزايا، والذين جاءوا على فترة من الرسل لا يكلّفون بشريعة، ولا يعذبون فى الآخرة لقوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) . وهذا رأى جمهرة العلماء، وترى فئة منهم أن العقل وحده كاف فى التكليف، فمتى أوتيه الإنسان وجب عليه النظر فى ملكوت السموات والأرض والتدبر والتفكر فى خالق الكون، وما يجب له من عبادة وإجلال، بقدر ما يهديه عقله ويصل إليه اجتهاده، وبذلك ينجو من عذاب النار يوم القيامة، فإن لم يفعل ذلك كان من الهالكين. (آمين) اسم بمعنى استجب، وفيه لغتان: المد كما قال شاعرهم: يا رب لا تسلبنّى حبها أبدا ... ويرحم الله عبدا قال آمينا والقصر كما قال الآخر: ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

وروى فى الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقننى جبريل آمين عند فراغى من قراءة الفاتحة، وقال إنه كالختم على الكتاب، وأوضح ذلك علىّ كرّم الله وجهه فقال: آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده- يريد أنّه كما يمنع الخاتم الاطلاع على المختوم والتصرف فيه، يمنع آمين الخيبة عن دعاء العبد. وهذا اللفظ ليس من القرآن إذ لم يثبت فى المصاحف، ولا يقوله الإمام فى الصلاة، لأنه الداعي كما قال الحسن البصري، والمشهور عن أبي حنيفة أنه يقوله ويخفيه وفاقا لرواية أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعند الشافعية يجهر به، كما رواه وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا قرأ ولا الضالين، قال: آمين ورفع صوته. ويرى بعض علماء الآثار المصرية فى العصر الحاضر أن كلمة (آمين) معناها الله، فكأنها ذكرت فى آخر الفاتحة للختم باسمه تعالى إشارة إلى أن المرجع كله إليه، ويعقدون موازنة بين (مينو) و (آمون) و (آمين) . ويرى الثقات من علماء اللغات السامية رأيهم، ويقولون: إنها ذكرت آخر الفاتحة للترنم بها بعد قراءة السورة التي تضمنت الإشارة إلى أغراض الكتاب الكريم. ويؤيدون رأيهم بأن المزامير ختمت بكلمة (سلاه) للترنم بها على هذا النحو- ويكون المعنى العام- إنا نتوجه إليك يا إلهنا فإليك المرجع والمصير.

سورة البقرة

سورة البقرة مدنية إلا آية إحدى وثمانين ومائتين، فقد نزلت بمعنى فى حجة الوداع، وهى آخر القرآن نزولا على ما قيل: وغالب السورة نزل أول الهجرة، وهى أطول سور القرآن، كما أن أقصرها سورة الكوثر، وأطول آية فى القرآن هى آية الدّين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) إلخ، وأقصرها قوله والضحى، وقوله والفجر. [سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الإيضاح (الم) هى وأمثالها من الحروف المقطعة نحو (المص والمر) حروف للتنبيه كألا ويا ونحوهما مما وضع لإيقاظ السامع إلى ما يلقى بعدها، فهنا جاءت للفت نظر المخاطب إلى وصف القرآن الكريم والإشارة إلى إعجازه وإقامة الحجة على أهل الكتاب إلى نحو ذلك مما جاء فى أثناء السورة. وتقرأ مقطّعة بذكر أسمائها ساكنة الأواخر فيقال: ألف. لام. ميم، كما يقال في أسماء الأعداد. واحد. اثنان. ثلاثة. (ذلِكَ الْكِتابُ) الكتاب اسم بمعنى المكتوب وهو النقوش والرقوم الدالة على المعاني، والمراد به الكتاب المعروف المعهود للنبى صلى الله عليه وسلم الذي وعده الله به لتأييد رسالته وكفل به هداية طلاب الحق وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم فى معاشهم ومعادهم. وفى التعبير به إيماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمز بكتابة شىء سواه. وعدم كتابة القرآن كله بالفعل حين الإشارة إليه لا يمنع الإشارة، ألا ترى أن من المستفيض الشائع فى التخاطب أن يقول إنسان لآخر: هلمّ أملل عليك كتابا، والكتاب لم يوجد بعد.

(لا رَيْبَ فِيهِ) الرّيب والريبة: الشك، وحقيقته قلق النفس واضطرابها، سمى به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل منها الطمأنينة، وقد جاء في الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة» . والمعنى- إن هذا الكتاب لا يعتريه ريب فى كونه من عند الله، ولا فى هدايته وإرشاده، ولا فى أسلوبه وبلاغته، فلا يستطيع أحد أن يأتى بكلام يقرب منه بلاغة وفصاحة- وإلى هذا أشار بقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) . وارتياب كثير من الناس فيه، إنما نشأ عن جهل بحقيقته، أو عن عمى بصيرتهم، أو عن التعنت عنادا واستكبارا واتباعا للهوى أو تقليدا لسواهم. (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) الهدى بالنظر إلى المتقين: هو الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة والتوفيق للعمل بأحكامه، إذ هم قد اقتبسوا من أنواره وجنوا من ثماره، وهو لغيرهم هدى ودلالة على الخير وإن لم يأخذوا بهديه وينتفعوا بإرشاده. وكون بعض الناس لم يهتدوا بهديه لا يخرجه عن كونه هدى، فالشمس شمس وإن لم يرها الأعمى، والعسل عسل وإن لم يجد طعمه ذو المرّة. والمتقين: واحدهم متق، من الاتقاء وهو الحجز بين الشيئين، ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزا بين نفسه ومن يقصده، فكأن المتقى يجعل امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه- حاجزا بينه وبين العقاب الإلهى. والعقاب الذي يتّقى ضربان: دنيوى وأخروى وكل منهما يتّقى باتقاء أسبابه. فعقاب الدنيا يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله فى الخليقة، وعدم مخالفة النظم التي وضعها فى الكون، فاتقاء الفشل والخذلان فى القتال مثلا يتوقف على معرفة نظم الحرب وفنونها وآلاتها كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) كما يتوقف على القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة، والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده.

[سورة البقرة (2) : آية 3]

وعقاب الآخرة يتّقى بالإيمان الخالص والتوحيد والعمل الصالح واجتناب ما يضاد ذلك من الشرك واجتناب المعاصي والآثام التي تضر المرء أو تضر المجتمع. والمتقون فى هذه الآية هم الذين سمت نفوسهم، فأصابت ضربا من الهداية واستعدادا لتلقى نور الحق، والسعى فى مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم ويبلغ إليه اجتهادهم. وقد كان من هؤلاء ناس فى الجاهلية، كرهوا عبادة الأصنام، وأدركوا أن خالق الكون لا يرضى بعبادتها، كذلك كان من أهل الكتاب ناس يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى الخيرات وأولئك من الصالحين. [سورة البقرة (2) : آية 3] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) الإيضاح (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) الإيمان تصديق جازم يقترن بإذعان النفس واستسلامها. وأمارته العمل بما يقتضيه الإيمان، وهو يختلف باختلاف مراتب المؤمنين فى اليقين. والغيب ما غاب عنهم علمه كذات الله وملائكته والدار الآخرة وما فيها من البعث والنشور والحساب. والإيمان بالغيب هو اعتقاد بموجود وراء المحسّات متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم، ومن يعتقد بهذا يسهل عليه التصديق بوجود خالق للسموات والأرض منزه عن المادة وتوابعها، وإذا وصف له الرسول العوالم التي استأثر الله بعلمها كعالم الملائكة، أو وصف له اليوم الآخر لم يصعب عليه التصديق به بعد أن يستيقن صدق النبي الذي جاء به. أما من لا يعرف إلا ما يدركه الحس فإنه يصعب إقناعه، وقلما تجد الدعوة إلى الحق من نفسه سبيلا.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الصلاة فى اللغة الدعاء كما قال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) ودعاء المعبود بالقول أو بالفعل أو بكليهما يشعر العابد بالحاجة إليه استدرارا للنعمة أو دفعا للنقمة. والصلاة على النحو الذي شرعه الإسلام من أفضل ما يعبّر عن الشعور بعظمة المعبود وشديد الحاجة إليه لو أقيمت على وجهها. أما إذا خلت من الخشوع والخضوع فإنها تكون صلاة لا روح فيها، وإن كانت قد وجدت صورتها وهى الكيفيات المخصوصة ولا يقال للمصلى حينئذ إنه امتثل أمر ربه فأقام الصلاة، لأن الإقامة مأخوذة من أقام العود إذا سواه وأزال اعوجاجه، فلا بد فيها من حضور القلب فى جميع أجزائها واستشعار الخشية ومراقبة الخالق كأنك تنظر إليه كما ورد فى الحديث «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . ولما للصلاة من خطر فى تهذيب النفوس والسموّ بها إلى الملكوت الأعلى أبان الله تعالى عظيم آثارها بقوله: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماد الدين فقال: «الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام» . وقد أمر الله بإقامتها بقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) وبالمحافظة عليها وإدامتها بقوله: (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وبأدائها فى أوقاتها بقوله: (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) وبأدائها فى جماعة بقوله: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وبالخشوع فيها بقوله: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) . (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الرزق فى اللغة العطاء، ثم شاع استعماله فيما ينتفع به الحيوان وجمهرة المسلمين على أن كل ما ينتفع به حلالا كان أو حراما فهو رزق، وخصه جماعة بالحلال فقط. والإنفاق والإنفاد أخوان، خلا أن فى الثاني معنى الإذهاب التام دون الأول، والمراد بالإنفاق هنا ما يشمل النقمة الواجبة على الأهل والولد وذوى القربى، وصدقة التطوع. وفى قوله: مما رزقناهم إيماء إلى أن النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان،

[سورة البقرة (2) : آية 4]

لا كل ما يملك، وإلى تعليم الإنسان مبادئ الاقتصاد وحبّ ادّخار المال. وإن من يجد فى نفسه ميلا إلى بذل أحب الأشياء إليه، وهو ماله ابتغاء رضوان الله، وقياما بشكره على أنعمه، رحمة لأهل البؤس والعوز- كان من المتقين المستعدين لهدى القرآن، وكثير من الناس يصلون ويصومون، ولكن إذا عرض لهم ما يدعو إلى إنفاق شىء من المال فى سبيل الله، كأن تدعو الحاجة إلى إنفاقه في مصلحة من مصالح المسلمين أو منفعة عامة لا تقوم إلا بالبذل- أعرضوا ونأوا ولم تطاوعهم أنفسهم على بذل شىء منه. وإنما كان القرآن هدى للمتقين الذين هذه أوصافهم، لأن الإيمان بالله والإيمان بحياة أخرى بعد هذه الحياة يوفّى فيها كل عامل جزاء عمله- يهيّئ النفوس لقبول هديه والاقتباس من أنواره. وبين ذلك بعضهم بقوله: لأن فى الإيمان النجاة، وفى الصلاة المناجاة، وفى لإنفاق زيادة الدرجات، وبعضهم بقوله: لأن فى الإيمان البشارة، وفى الصلاة الكفارة، وفى الإنفاق الطهارة. [سورة البقرة (2) : آية 4] وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) الإيضاح (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) روى ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمنون بالنبي والقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمنون من مشركى العرب. (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) هو القرآن الذي يتلى، والوحى الذي لا يتلى، وهو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أعداد الركعات فى الصلاة، ومقادير الزكاة، وحدود الجنايات،

قال تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وقال: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) . ولا بد من معرفة ذلك تفصيلا، فلا يسع المؤمن جهل ما علم من الدين بالضرورة. والإنزال هنا بمعنى الوحى، وسمى إنزالا لما فى جانب الألوهية من علو الخالق على المخلوق، أو لإنزال جبريل له على النبي صلى الله عليه وسلم لتبليغه للخلق كما قال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) . (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) هو التوراة والإنجيل وسائر الكتب السالفة، فيؤمنون بها إيمانا إجماليا لا تفصيليا. (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الدار الآخرة هى دار الجزاء على الأعمال- والإيمان بها يتضمن الإيمان بكل ما ورد فبها بالنصوص المتواترة كالحساب والميزان والصراط، والجنة والنار. واليقين: هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره فى الأعمال، فمن يشهد الزور أو يشرب الخمر أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح فى الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين، إذ لم تظهر آثاره فى الجوارح واللسان، وهو لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان مالكا لزمام النفس مصرفا لها فى أعمالها. والإيمان على الوجه الصحيح يحصل من أحد طريقين: (1) البحث والتأمل فيما يحتاج إلى ذلك كالعلم بوجود الله ورسالة الرسل. (2) خبر الرسول بعد أن تقوم الدلائل على صدقه فيما يبلغ عن ربه، أو خبر من سمع منه بطريق لا تحتمل ريبا ولا شكا وهى طريق التواتر، كالعلم بأخبار الآخرة وأحوالها، والعالم العلوي وأوصافه، وعلينا أن نقف عند ذلك فلا نزيد فيه شيئا ولا نخلطه بغيره مما جاء عن طريق أهل الكتاب، أو عن بعض السلف بدون تمحيص

[سورة البقرة (2) : آية 5]

ولا تثبت من صحته، وقد دوّنه المفسرون فى كتبهم وجعلوه من صلب الدين، وهو ليس منه فى شىء. [سورة البقرة (2) : آية 5] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) الإيضاح الفلح: الشق والقطع، ومنه سمى الزارع فلّاحا لأنه يشق الأرض، والمفلح: الفائز بالبغية بعد سعى فى الحصول عليها، واجتهاد فى إدراكها، كأنه انفتحت له وجوه النظر ولم تستغلق عليه. والمشار إليه بأولئك فى الموضعين واحد وهم المؤمنون من غير أهل الكتاب والمؤمنون منهم، وكرر الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضى نيل كل واحدة من هاتين الفضيلتين الهدى والفلاح، وأن كلا منهما كاف فى تميزهم به عن سواهم، فكيف بهما إذا اجتمعتا. والتعبير بقوله (على هدى) يفيد التمكن من الهدى وكمال الرسوخ فيه، كما يتمكن الراكب على الدابة ويستقر عليها، وقد جاء فى كلامهم: ركب هواه، وجعل الغواية مركبا. [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) تفسير المفردات الكفر: ستر الشيء وتغطيته، وقد وصف به الليل كقوله «فى ليلة كفر النجوم غمامها»

المعنى الجملي

والزراع كقوله تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) من قبل أنهم يغطون الحب بالتراب، ثم استعمل فى كفر النعم بعدم شكرها، وفى الكفر بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله. الختم والطبع والرّين بمعنى واحد: وهو تغطية الشيء، مع إبعاد ما من شأنه أن يدخله ويمسه، والمراد بالقلوب العقول، وبالسمع الأسماع، وبالأبصار العيون التي تدرك المبصرات من أشكال وألوان، والغشاوة: الغطاء. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه حال المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله، وبين ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية وهم الكفرة الفجرة، وأبان أنه قد بلغ من أمرهم فى الغواية والضلال ألا يجدى فيهم الإنذار والتبشير، وألا تؤثّر فيهم العظة والتذكير، فهم عن الصراط السوىّ ناكبون، وعن الحق معرضون، فالإنذار وعدمه سيان، فماذا ينفع النور مهما سطع، والضوء مهما ارتفع، مع من أغمض عينيه حتى لا يراه بغضا له، وعداوة لمن دعا إليه، لأن الجهل أفسد وجدانه، فأصبح لا يميز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضارّ. وقد جرت سنة الله فى مثل هؤلاء الذين مرنوا على الكفر أن يختم على قلوبهم فلا يبقى فيها استعدادا لغير الكفر، ويختم على سمعهم فلا يسمعون إلا أصواتا لا ينفذ منها إلى القلب شىء ينتفع به، ويجعل على أبصارهم غشاوة، إذ هم لما لم ينظروا إلى ما فى الكون من آيات وعبر، ولم يبصروا ما به يتقون الخطر، فكأنهم لا يبصرون شيئا، وكأنه قد ضرب على أبصارهم بغشاوة. وقد حكم الله عليهم بالعذاب الأليم فى العقبى، وفقد العز والسلطان والخزي في الدنيا كما قال: (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) .

الإيضاح

الإيضاح المراد بالذين كفروا هنا: من علم الله أن الكفر قد رسخ في قلوبهم حتى أصبحوا غير مستعدين للإيمان، بجحودهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به بعد أن بلغتهم رسالته بلاغا صحيحا وعرضت عليهم الدلائل على صحتها للنظر والبحث، فأعرضوا عنها عنادا واستهزاء. وسبب كفرهم: (1) إما عناد للحق بعد معرفته وقد كان من هذا الصنف جماعة من المشركين واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كأبى لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود. (2) وإما إعراض عن معرفته واستكبار عن النظر فيه. والمعرضون عن الحق يوجدون في كل زمان ومكان، وهؤلاء إذا طاف بهم طائفه الحق لوّوا رءوسهم واستكبروا وهم معرضون، وفيهم يقول تبارك وتعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) . (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ؟) سواء اسم بمعنى مستو كما قال تعالى: (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) والإنذار إخبار بشىء مع التخويف بما يترتب على فعله إن كان مذموما أو تركه إن كان محمودا، ويراد به هنا التخويف من عذاب الله وعقابه على فعل المعاصي. (لا يؤمنون) جملة موضحة لتساوى الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه صلى الله عليه وسلم، ولا في حق الدعاة إلى دينه، إذ هم يدعون كل كافر إلى الدين الحق، لا فرق بين المستعد للإيمان وغير المستعد.

[سورة البقرة (2) : الآيات 8 إلى 10]

(خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ضرب الله مثلا لحال قلوب أولئك القوم، وقد تمكن الكفر فيها حتى امتنع أن يصل إليها شىء من الأمور الدينية النافعة لها في معاشها ومعادها، وحيل بينها وبينه- بحال بيوت معدة لحلول ما يأتي إليها مما فيه مصالح مهمة للناس، لكنه منع ذلك بالختم عليها، وحيل بينها وبين ما أعدّت لأجله- فقد حدث في كل منهما امتناع دخول شىء بسبب مانع قوى وكذلك حدث مثل هذا في الأسماع فلا تسمع آيات الله المنزلة سماع تأمل وتدبر، وجعل على الأبصار غشاوة، فلا تدرك آيات الله المبصرة في الآفاق والأنفس الدالة على الإيمان ومن ثم لا يرجى تغيير حالهم ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) المعنى الجملي ذكر سبحانه أوّلا من أخلص دينه لله ووافق سرّه علنه وفعله قوله، ثم ثنى بذكر من محّضوا الكفر ظاهرا وباطنا. وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعا وتمويها وتدليسا وفيهم نزل قوله: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وقوله: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) . وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم صما بكما عميا، وضرب لهم شنيع الأمثال.

الإيضاح

فنعى عليهم خبثهم في قوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر، ونفى عليهم مكرهم في قوله: يخادعون الله والذين آمنوا: وفضجهم في قوله: وما هم بمؤمنين، وفي قوله. وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي قوله: في قلوبهم مرض، واستجهلهم في قوله: وما يشعرون، وفي قوله: ولكن لا يشعرون، وفي قوله: ولكن لا يعلمون، وتهكّم بفعلهم فى قوله: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، ودعاهم صما بكما عميا في قوله: صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا إلخ وفي قوله: أو كصيب من السماء إلخ. الإيضاح (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أصل ناس أناس ويشهد له إنسان وإنسى، وسموا بذلك لظهورهم وتعلق الإيناس بهم، كما سمى الجن جنّا لاجتنانهم واختفائهم. من يقول إلخ هم أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل كعبد الله ابن أبيّ بن سلول وأصحابه وأكثرهم من اليهود، ولهم نظراء في كل عصر ومصر. واليوم الآخر- هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وخصّوا بالذكر الإيمان بهما، إشارة إلى أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهم لم يكونوا كذلك، إذا كانوا مشركين بالله لأنهم يقولون عزير ابن الله، وجاحدين باليوم الآخر، إذ قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، وقد حكى الله عبارتهم ليبين كمال خبثهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق مع ما هم عليه لم يكن ذلك إيمانا لاتخاذهم الولد واعتقادهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم، فما بالك بهم وهم قالوه تمويها على المؤمنين واستهزاء بهم. (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أي وما هم بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين الذين يشعرون

تعظيم سلطان الله، ويعلمون أنه مطّلع على سرهم ونجواهم، إذ هم كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات، ظنا منهم أن ذلك يرضى ربهم، ثم هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآثم من كذب وغشّ، وخيانة وطمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم ونقله الرواة أجمعون. (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخدع: أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه لتحول بينه وبين ما يريد، وأصله من قولهم: خدع الضبّ إذا توارى في جحره، وضب خادع إذا أوهم حارسه الإقبال عليه ثم خرج من باب آخر. والخدع هنا من جانب المنافقين لله وللمؤمنين، والتعبير بصيغة المخادعة للدلالة على المبالغة في حصول الفعل وهو الخدع، أو للدلالة على حصوله مرّة بعد أخرى، كما يقال مارست الشيء وزاولته، إذ هم كانوا مداومين على الخدع، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدقها بواطنهم، وهذا لا يكون إلا من مخادع، لا من تائب خاشع. وخداعهم للمؤمنين بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، للاطلاع على أسرارهم وإذاعتها إلى أعدائهم من المشركين واليهود، ودفع الأذى عن أنفسهم. (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ ضرر عملهم لا حقّ بهم، فهم يغرّون أنفسهم بالأكاذيب ويلقونها في مهاوى الهلاك والردى. (وَما يَشْعُرُونَ) يقال شعر به يشعر شعورا: علم به وفطن، والفطنة إنما تتعلق بخفايا الأمور، فالشعور لا يكون إلا في إدراك ما دقّ وخفى من شىء حسى أو عقلى. وقد نفى الشعور عنهم في مخادعتهم لله، لأنهم لم يحاسبوا أنفسهم على أقوالهم ولم يراقبوه في أفعالهم، ولم يفكروا فيما يرضيه، بل جروا في ريائهم على ما ألفوا وتعوّدوا فهم يعملون عمل المخادعين وما يشعرون، فإذا عرض لهم زاجر من الدين يحول بينهم وبين ما يشتهون- وجدوا لهم من المعاذير ما يسهل أمره، إما بأمل في المغفرة، أو تحريف في أوامر الكتاب، لما رسخ في نفوسهم من عقائد الزيغ التي يسمونها إيمانا، وهم في الحقيقة مخدوعون، وعن الصراط السوىّ ناكبون.

والمشاهد أن الإنسان إذا همّ بعمل وناجى نفسه، وجد كأن في قلبه خصمين مختصمين، أحدهما يميل به إلى اللذة ويسير به في طريق الضلال والغواية، وثانيهما يأمره بالسير في الطريق القويم وينهاه عن اتباع النفس والهوى، ولقد جاء في كلامهم عن المتردد «فلان يشاور نفسيه» . ولا يترجح عنده جانب الشر إلا إذا خدع نفسه وصرفها عن الحق، وزين لها اتباع الباطل، وإنما يكون ذلك بعد مشاورة ومذاكرة تجول في الخاطر وتهجس فى النفس، ربما لا يلتفت إليها الإنسان ولا يشعر بما يجول بين جنبيه. (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) القلوب هنا العقول، وهو تعبير معروف عند العرب، كأنهم لاحظوا أن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال كاضطرا به حين الخوف أو اشتداد الفرح. ومرضها ما يطرأ عليها مما يضعف إدراكها وتعقلها لفهم الدين ومعرفة أسراره وحكمه، وفقدان هذا الإدراك هو الذي عبّر عنه القرآن بقوله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) . ومن أسباب ذلك الجهل والنفاق والشك والارتياب والحسد والضغينة إلى غير ذلك مما يفسد الاعتقاد والأخلاق ويجعل أحكام العقل في اضطراب. وقد وجد هذا المرض عند هؤلاء المنافقين حين كانوا في فترة من الرسل فلم يكن لهم حظ من قراءة كتب الدين إلا تلاوتها، ولا من أعماله إلا إقامة صورها دون أن تنفذ أسرارها إلى القلوب، فتهذب النفوس وتسمو بها إلى فضائل الأخلاق والتفقه فى الدين. (فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) بعد أن جاء النذير البشير ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع، وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم، ومرضا في قلوبهم، وتحرّقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول وعلوّ شأنه يوما بعد يوم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 11 إلى 13]

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أليم، من ألم يألم فهو أليم بمعنى مؤلم (بفتح اللام) إذ يصل ألمه إلى القلوب، وصف به العذاب نفسه لبيان أن الألم بلغ الغاية حتى سرى من المعذّب (بفتح اللام) إلى العذاب المتعلق به. (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فهم لم يصدّقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم، وقد جعل العذاب جزاء الكذب دون سائر موجباته الأخرى كالكفر وغيره من أعمال السوء، للتحذير منه وبيان فظاعته وعظم جرمه، وللإشعار بأن الكفر من محتوياته، وإليه ينتهى في حدوده وغاياته، ومن ثمّ حذّر منه القرآن أتمّ التحذير، فما فشا في أمة إلا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل، فهو مصدر كل رذيلة، ومنشأ كل كبيرة، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان» . [سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) تفسير المفردات الفساد: خروج الشيء عن حد الاعتدال، والصلاح ضده، والفساد في الأرض: هيج الحروب والفتن التي تؤدى إلى اختلال أمر المعاش والمعاد، والسفه: خفة في العقل وفساد في الرأى، ومنه قيل ثوب سفيه: أي ردىء النسج.

المعنى الجملي

المعنى الجملي عدد الله في هذه الآيات الثلاث بعض شناعاتهم المترتبة على كفرهم ونفاقهم، ففصل بعض خبائثهم وجناياتهم، وذكر بعض هفواتهم، ثم أظهر فسادها وأبان بطلانها، فحكى ما أسداه المؤمنون إليهم من النصائح حين طلبوا منهم ترك الرذائل التي تؤدى إلى الفتنة والفساد، والتمسك بأهداب الفضائل واتباع ذوى الأحلام الراجحة، والعقول الناضجة، ثم ما أجابوا به مما دل على عظيم جهلهم وتماديهم في سفههم وغفلتهم. الإيضاح (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) المنهي عنه هنا الأسباب المؤدية إلى الفساد من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائهم بالمؤمنين، وتنفيرهم من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به من الإصلاح، إلى نحو أولئك من فنون الشر وصنوف الفتن، كما يقول إنسان لآخر: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق بيديك إلى التهلكة، إذا أقدم على ما هذه عاقبته. (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي لا شأن لنا إلا الإصلاح، فنحن بعيدون عن شوائب الإفساد باتباعنا رؤساءنا الذين استنبطوا تعاليمهم من الأنبياء، فكيف ندع ما تلقيناه منهم ونعتنق دينا جديدا لا عهد لنا به من قبل؟ وهكذا شأن المفسدين في كل زمان يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه، فإن كانوا على بينة من إفسادهم وضلالهم، فهم يدّعون ذلك ليبرئوا أنفسهم من وصمة الإفساد بالتمويه والخداع، وإن كانوا مسوقين إليه تقليدا للرؤساء، فهم يدّعونه عن اعتقاد، وإن كان السير على منهاجه مفسدا للأمة في الحقيقة والواقع، إذ هم عطّلوا وسائل البحث التي تميز الإصلاح من الإفساد، فهم بصدهم عن سبيل الإسلام الداعي

إلى الوحدة والالتئام، يدعون إلى الفرقة والانفصام، وأىّ إفساد في الأرض أعظم من التنفير من اتباع الحق، والسير على منهاج الباطل ومؤازرة أهله (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) أي هم وحدهم هم المفسدون دون من أو مأوا إليهم، لأن لهم سلفا صالحا تركوا الاقتداء بهم، وفي هذا الأسلوب مبالغة في الرد عليهم. ودلالة على السخط العظيم. (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) بهذا الإفساد لأنه أصبح غريزة في طباعهم بما تمكن فيها من الشبه بتقليدهم أحبارهم الذين أشربت قلوبهم تعظيمهم والثقة بآرائهم. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) الذين اتبعوا قضية العقل وسلكوا سبيل الرشاد، وكان للإيمان سلطان على نفوسهم، وعليه بنوا تصاريف أعمالهم كعبد الله ابن سلام وأشباهه من أحبارهم. (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟) أرادوا بالسفهاء أتباع النبي صلى الله عليه وسلم. أما المهاجرون منهم فلأنهم عادوا قومهم وأقاربهم وهجروا أوطانهم وتركوا ديارهم، ليتّبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ويسيروا على هديه. وأما الأنصار فلأنهم شاركوا المهاجرين فى ديارهم وأموالهم. ولا يستبعد ممن انهمك في السفاهة وتمادى في الغواية، وممن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا وظن الضلال هدى أن يسمى الهدى سفها وضلالا. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) وحدهم دون من عرّضوا بهم ونسبوهم إلى السفه، إذ هم لهم سلف صالح تركوا الاقتداء بهم واكتفوا بانتظار شفاعتهم، وإن لم يجروا على هديهم وسنتهم، بخلاف أولئك الذين لا سلف لهم إلا عابدو أصنام، وقد هداهم الله وصارت قلوبهم مطمئنة بالإيمان. (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) ما الإيمان وما حقيقته؟ حتى يعلموا أن المؤمنين سفهاء أو عقلاء.

[سورة البقرة (2) : الآيات 14 إلى 16]

وقد ختمت هذه الآية بلا يعلمون، وسابقتها بلا يشعرون، لأن الإيمان لا يتم إلا بالعلم اليقيني، والفائدة المرجوّة منه وهى السعادة في المعاش والمعاد لا يدركها إلا من يعلم حقيقته ويدرك كنهه، فهم قد أخطأوا في إدراك مصلحتهم ومصلحة غيرهم. أما نفاقهم وإفسادهم في الأرض فقد بلغ من الوضوح مبلغ الأمور المحسوسة، التي تصل إلى الحواس والمشاعر، ولكن لا حس لهم حتى يدركوه. [سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 16] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) تفسير المفردات اللقاء المصادفة تقول: لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته، خلوا إما من خلوت بفلان وإلى فلان إذا انفردت به، وإما من خلا بمعنى مضى، ومنه القرون الخالية، واطلب الأمر وخلاك ذم: أي جاوزك ومضى عنك. والشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن كما قال: (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) والاستهزاء: السخرية، تقول هزأت به واستهزأت كأجبت واستجبت وأصل المادة تفيد الخفة يقال ناقة تهزأ به: أي تسرع. يمدهم: أي يزيدهم من مدّ الجيش وأمده إذا زاد عدده وقواه. والطغيان: (بضم الطاء وكسرها) مجاوزة الحدّ فى كل شىء. والعمه: ظلمة البصيرة كالعمى في البصر وأثره الحيرة والاضطراب بحيث لا يدرى الإنسان أين يتوجه، يقال عمه فهو عمه وعامه وجماعة عمّه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي وصف الله في هذه الآيات حال جماعة من المنافقين كانوا في عصر التنزيل قد بلغ من دعارتهم وتمرّدهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين، ويتكلمون بلسانين، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون، وإذا خلوا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدون عن سبيل الحق قالوا لهم إنما نقول ذلك لهم استهزاء بهم، وقد فضح الله بهتانهم وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم وزادهم حيرة في أمورهم ثم ذكر أنهم قد اختاروا الضلالة على الهدى، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات، وتحكمت فيهم البدع، فخسروا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين فيها، لأنهم باعوا ما وهبهم الله من النور والهدى، بضلالات البدع والأهواء. الإيضاح (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) أي وإذا رأى المنافقون. المؤمنين واجتمعوا بهم قالوا كذبا وبهتانا: آمنا كإيمانكم وصدقنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم: إنا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم، لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالنا وأولادنا ونساءنا من أيديهم ونطلع على أسرارهم. (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم (وسمى هذا الجزاء استهزاء للمشاكلة في اللفظ كما سمى جزاء السيئة سيئة) ويزيدهم في عتوهم وكفرهم، ويجعلهم حائرين مترددين في الضلال عقوبة لهم على استهزائهم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 17 إلى 18]

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي هؤلاء قد رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة، إذ هم أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال، فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح. وإن من كانت هذه حالهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإن التاجر إن فاته الربح في صفقة فربما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال. [سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) تفسير المفردات المثل والمثل والمثيل كالشّبه والشّبه والشبيه وزنا ومعنى، ثم استعمل في بيان حال الشيء وصفته التي توضحه وتبين حاله كقوله: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) إلخ. وقوله: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) واستوقد النار: طلب وقودها، أي سطوعها وارتفاع لهبها بفعله أو فعل غيره، ويقال ضاءت النار وأضاءت وأضاءته النار، أي أظهرته بضوئها. وترك: أي صير. والصمم آفة تمنع السماع. والبكم: الخرس. والعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يبصر. المعنى الجملي نهج القرآن الكريم نهج العرب في أساليبها، فضرب الأمثال التي تجلى المعاني

الإيضاح

أتم جلاء، وتحدث في النفوس من الأثر ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره، لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجليّة، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر، وعلى هذا السنن ضرب الله مثل المنافقين، فصوّر حالهم حينما أسلموا أوّلا ودخل نور الإيمان في قلوبهم، ثم داخلهم الشكّ فيه فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله ولم يفقهوا محاسنه، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين- بحال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها في جلب خير أو دفع ضر، فلما أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن، جاءها عارض خفىّ أو أمر سماوىّ كمطر شديد، أو ريح عاصف جرفها وبدّدها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنى لهم الإبصار بحال. ثم جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمى الذين فقدوا هذه المشاعر والحواس، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنهم فقدوها، فما فائدة السمع إلا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدى الواعظ، وما منفعة اللسان إلا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان، لتتجلى المعقولات، وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلا النظر والاعتبار، لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شىء من ذلك فكأنه فقدها، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة، أو يرجع إلى هدى؟ الإيضاح (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) أي مثل المنافقين وحالهم كحال الذين استوقدوا نارا، فلما أضاءت ما حولهم من الأمكنة والأشياء، أطفأ الله نارهم التي منها استمدوا نورهم بنحو مطر شديد أو ريح عاصف فصيرهم لا يبصرون شيئا، لأن النور قد زال ولم يبق منه أثر ولا عين.

[سورة البقرة (2) : الآيات 19 إلى 20]

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وصفهم الله بهذه الصفات مع سلامة مشاعرهم، من قبل أنهم فقدوا منفعة السمع، فلا يصغون لعظة واعظ ولا إرشاد مرشد، بل هم لا يفقهون إن سمعوا فكأنهم صمّ لا يسمعون، كما فقدوا منفعة الاسترشاد وطلب الحكمة، فلا يطلبون برهانا على قضية، ولا بيانا عن مسألة تخفى عليهم، فكأنهم بكم لا يتكلمون وفقدوا منافع الإبصار من النظر والاعتبار، فلا يرون ما يحلّ بهم من الفتن فينزجروا، ولا يبصرون ما تتقلّب به أحوال الأمم فيعتبروا. (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي فهم لا يعودون من الضلالة إلى الهدى الذي تركوه وأضاعوه، إذ من فقد حواسه لا يسمع صوتا يهتدى به، ولا يصيح لينقذ نفسه، ولا يرى بارقا من النور يتجه إليه ويقصده، ولا تزال هذه حاله، ظلمات بعضها فوق بعض حتى يتردّى فى مهاوى الهلاك. [سورة البقرة (2) : الآيات 19 الى 20] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) تفسير المفردات الصيّب: المطر يصوب وينزل، من الصوب وهو النزول. والرعد: هو الصوت الذي يسمع في السحاب أحيانا عند تجمعه. والبرق: هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالبا، وربما لمع في الأفق حيث لاسحاب، وأسباب هذه الظواهر اتحاد كهربيّة السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات. والصاعقة: نار عظيمة تنزل أحيانا

المعنى الجملي

أثناء المطر والبرق، وسببها تفريغ الكهربيّة التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض والإحاطة بالشيء: الإحداق به من جميع جهاته، والخطف: الأخذ بسرعة. قاموا: أي وقفوا في أماكنهم منتظرين تغير الحال ليصلوا إلى المقصد، أو يلجأوا إلى ملجأ يعصمهم من الخطر. المعنى الجملي ضرب الله مثلا آخر يشرح به حال المنافقين ويبين فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم، زيادة في التنكيل بهم، وهتكا لأستارهم، إذ كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، فجعل حالهم وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء فأصابهم القلق والاضطراب، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثم استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، وتلوح لهم الآيات البينة، والحجج القيمة، فيعزمون على اتباع الحق، وتسير أفكارهم فى نوره بعض الخطى، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد، وظلمة الشّبهات، فتقيّد الفكر وإن لم تقف سيره، بل تعود به إلى الحيرة- كحال قوم في إحدى الفلوات نزل بهم بعد ظلام الليل صيّب من السماء، فيه رعود قاصفة، وبروق لامعة، وصواعق متساقطة، فتولاهم الدهش والرّعب، فهووا بأصابعهم إلى آذانهم كلما قصف هزيم الرعد ليسدّوا منافذ السمع، لما يحذرونه من الموت الزوام، ويخافونه من نزول الحمام، ولكن هل ينجى حذر من قدر؟ «تعددت الأسباب والموت واحد» بلى إن الله قدير أن يذهب الأسماع والأبصار التي كانت وسيلة الدهش والخوف، ولكن لحكمة غاب عنا سرها، ومصلحة لا نعرف كنهها، لم يشأ ذلك وهو الحكيم الخبير.

الإيضاح

الإيضاح (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) أي كقوم نزل بهم صيب من السماء، وفي قوله من السماء إيماء إلى أنه شىء لا يمكن دفعه. (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) أي فيه ظلمة الليل، وظلمة السحب، وظلمة الصيب نفسه، وفيه رعد وبرق. (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) أي يجعلون أنامل أصابعهم في آذانهم كلما حدث قاصف من الرعد ليدفعوا شدة وقعه بسد منافذ السمع، خوفا على أنفسهم من الموت، مع أن سد الآذان ليس من أسباب الوقاية من الصاعقة حتى يدفع عنهم الموت. (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أي والله مطلع على أسرارهم، عالم بما في ضمائرهم، قادر على أخذهم أينما كانوا، فما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغنى عنهم من الله شيئا إذ لا يغنى حذر من قدر، فمن لم يمت بالصاعقة مات بغيرها. (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أي يكاد البرق يختلس أبصارهم، ويستلبها بسرعة من شدة الضوء المفاجئ. (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي كلما أنار البرق الطريق في الليلة المظلمة، مشوا فى مطّرح نوره خطوات يسيرة. (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي وإذا خفى البرق واستتر وأظلم الطريق، وقفوا فى أماكنهم متحيّرين منتظرين فرصة أخرى عسى أن يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم من الهلاك. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) أي ولو شاء أن يذهب الأسماع والأبصار بصوت الرعد ونور البرق لفعل، لكنه لم يشأ لحكم ومصالح هو بها عليم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 21 إلى 22]

(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إنه ما شاء كان، إذ لا يعجزه شىء في الأرض ولا في السماء. [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) تفسير المفردات العبادة: خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود، والرب: هو الذي يسوس من يربيه ويدبر شئونه، والفراش: واحد الفرش، وفرش الشيء يفرشه بالضم فراشا: بسطه، والبناء: وضع شىء على شىء آخر بحيث يتكوّن من ذلك شىء بصورة خاصة. والندّ: الشريك والكفء، يقال فلان ند فلان إذا كان مماثلا له في بعض الشئون المعنى الجملي بعد أن ذكر أصناف الخلق وبيّن أن منهم المهتدين، والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك- دعا الناس إلى دين التوحيد الحق وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنهم ينظرون إليه ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فإن فعلوا ذلك أعدّوا أنفسهم للتقوى، وبلغو الغاية القصوى. ثم عدد بعض نعمه المتظهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب، ثم خلق الأرض مستقرا ومهادا لينتفعوا بخيراتها

الإيضاح

ويستخرجوا معادنها ونباتها، ثم بنى لهم السماء التي زينها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدى بها الساري في الليل المظلم، وأنزل منها الماء فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها. أفليس في كل هذا ما يطوّح بالنظر، ويهدى الفكر إلى أن خالق هذا الكون البديع المثال لا ندّ له ولا نظير، وأن ما جعلوه أندادا له لا يقدرون على إيجاد شىء مما خلق وأنهم يعلمون ذلك حق العلم، فكيف يستغيثون بغير الله، ويدعون غير الله، ويستشفعون به، ويتوسلون إليه، مع أنه لا خالق ولا رازق إلا الله؟ الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته بعبادة الله وحده، وقد كان هذا صنيع كل نبى كما قال: (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) . والمخاطبون بهذه الدعوة أوّلا هم العرب واليهود في المدينة وما حولها، وكانوا يؤمنون بالله ويعبدون غيره إما بدعائه مع الله» أو من دون الله. (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي إن هذا الرب العظيم المتصف بتلك الصفات التي تعلمونها- هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم، ورباكم وربّى أسلافكم، ودبّر شئونكم، ووهبكم من طرق الهداية ووسائل المعرفة مثل ما وهبهم، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي فاعبدوه على تلك الشاكلة، فإن العبادة على هذا السنن هى التي تعدّكم للتقوى، ويرجى بها بلوغ درجة الكمال القصوى. ثم ذكر بعض خصائص الربوبية التي تقتضى الاختصاص به تعالى فقال: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) أي هو الذي مهدّ لكم الأرض وجعلها صالحة للافتراش والإقامة فيها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 23 إلى 24]

(وَالسَّماءَ بِناءً) أي وهو الذي كوّن السماء بنظام متماسك كنظام البناء، وسوّى أجرامها على ما نشاهد وأمسكها لسنة الجاذبية، حتى لا تقع على الأرض ولا يصطدم بعضها ببعض، حتى يأتي اليوم الموعود. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي وهو الذي أنزل من السماء مطرا يسقى به الزرع، ويغذّى به النبات، فأخرج به ثمرا نأكل منه وننتفع به. (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) الأنداد هم الذين خضع الناس لهم وقصدوهم في قضاء حاجاتهم، وكان مشركو العرب يسمون ذلك الخضوع عبادة، إذ لم يكن عندهم شرع ينهاهم عن عبادة غير الله، وأهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا كانوا يتحاشون هذا اللفظ، فلا يسمون ذلك الاتخاذ عبادة ولا أولئك المعظمين آلهة وأندادا، بل يسمون دعاءهم غير الله والتقرب إليه توسلا واستشفاعا، ويسمون تشريعهم لهم بعض العبادات، وتحليل المنكرات، وتحريم بعض الطيبات، فقها واستنباطا من التوراة، والكل متفقون على أنه لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وإنكم لتعلمون بطلان ذلك، وإنكم إذا سئلتم من رزقكم من السموات والأرض ومن يدبر الأمر؟ تقولون: الله، فلم إذا تدعون غيره، وتستشفعون به؟ ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع؟ ومن أين جاءكم أن التقرب إلى الله يكون بغير ما شرعه الله حتى قلتم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) [سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة: متقون يهتدون بهديه، وجاحدون معاندون عن سماع حججه وبراهينه، ومذبذبون بين ذلك- طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أن القرآن معجزته- أن يتعرفوا إن كان هو من عند الله كما يدّعى، أو هو من عند نفسه كما يدّعون، فيروزوا أنفسهم ويحاكوه، لعلهم يأتون بمثل سورة من أقصر سوره، وهم فرسان البلاغة، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة، والكلام ديدنهم، وبه تفاخرهم، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا المضمار، ولم يكن محمد من بينهم فهو لم يمرن عليه، ولم ببار أهله ولم ينافسهم فيه. فإن عجزوا ولم يستطيعوا ذلك، وهم لا يستطيعون وإن تظاهر أنصارهم، وكثر أشياعهم، بل لو اجتمعت الإنس والجن جميعا، فليعلموا أن ما جاءهم به فأعجزهم لم يكن إلا بوحي سماوىّ وإمداد إلهىّ لا يسمو إليه محمد بعقله، ولا يصل بيانه إلى مثل أسلوبه ونظمه، وإذا استبان عجزهم ولزمتهم الحجة، فقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما ادّعى وكان من ارتاب في صدقه معاندا مكابرا، واستحق العقاب وكان جزاؤه النار التي وقودها العصاة الجاحدون وما عبدوه من أحجار وأصنام، أعدت لكل من جحد الرسل أو استحدث في الدين ما هو منه براء. الإيضاح (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي وإن ارتبتم فى أمر هذا القرآن، وزعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بمثله، لأنكم تقدرون على ما يقدر عليه سائر البشر.

(وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي وادعوا الحاضرين في مشاهدكم من رؤسائكم وأشرافكم، الذين تفزعون إليهم في الملمات، وتعوّلون عليهم في المهمات. وقد يكون المراد بالشهداء الأصنام أي وادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، وابتعدوا عن الله ناصر محمد صلى الله عليه وسلم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن فيه مجالا للريب والشك، وأن محمدا تقوّله من تلقاء نفسه، فلديكم ما يهدى إلى الحق ويجلّى الأمر، فها هو القرآن أمامكم فأتوا بسورة من مثله. وقد نزل في هذا المعنى آيات كثيرة بمكة، أولها ما في سورة الإسراء: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ثم ما في سورة هود: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم ما في سورة يونس: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) وما جاء في هذه السورة المدنية (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) النار موطن العذاب، ونحن نؤمن بها كما أخبر القرآن، ولا نبحث عن حقيقتها، والوقود (بفتح الواو) ما توقد به النار، والمراد بالناس العصاة، والمراد بالحجارة هنا الأصنام كما قال: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقوله: أعدّت للكافرين أي هيئت للذين لا يستجيبون دعوة الرسل أو ينحرفون عنها لمخالفتهم هدى الدين، وعمل ما تنكره شرائع الأنبياء والمرسلين. والخلاصة- فإن لم تفعلوا ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد أن بذلتم المجهود،

[سورة البقرة (2) : آية 25]

(ولن تفعلوه فليس في استطاعتكم) فاحذروا من العناد واعترفوا بكونه منزلا من عند الله، لئلا تكونوا أنتم وأصنامكم وقودا للنار التي أعدت لأمثالكم من الكافرين. [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) المعنى الجملي بعد أن ذكر الكافرين وما أعدّ لهم من العقاب. قفّى على ذلك ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما أعدّ لهم من نعيم مقيم في الدار الآخرة، وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الترهيب بالترغيب تنشيطا لاكتساب ما يوجب الزلفى عند الله، وتثبيطا عن اقتراف ما يوجب البعد من رضوانه تعالى. والمأمور بهذا التبشير كل من يسمع الأمر من أهله، وقد وعد الله الذين آمنوا بهذه الجنات، وما فيها من لذات وإنا لنفوض علم ذلك إلى الله تعالى ونكتفى بما ورد من أن لذات الآخرة أعلى من لذات الدنيا، فقد روى عن ابن عباس: أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامى، وجاء في الصحيحين مرفوعا عن الله عزّ وجل «أعددت لعبادى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وهو فى المعنى مفسر لقوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) . الإيضاح (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) البشارة الإخبار بما يسرّ، وآمنوا: أي بالله وصفاته التي جاء بها النقل وأيدها العقل، وبالنبي وبما جاء به، وبالبعث والجزاء، ولا يتحقق

الإيمان إلا باطمئنان القلب وقيام البرهان الذي لا يقبل الشك والارتياب، وأفضل البراهين ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله في الآفاق والأنفس، فقد يبلغ الإنسان علم اليقين بنظرة صادقة في هذا الكون الذي بين يديه، أو في نفسه إذا تجلت له بغرائب خلقها وبدائع صنعها. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) العمل الصالح معروف عند الناس، فقد أودع في فطرتهم ما يميزون به بين الخير والشر، ولكن بعضهم يضلّ بما يطرأ على نفسه من زيغ يحيد به عن الهدى، ويتبعه آخرون في ضلاله فتتولد التقاليد الضارة، وتكون هى ميزان الخير والصلاح لدى الضالين، وإن كانت مخالفة لأصل الفطرة كما ورد في الحديث: «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» . وقد بين الكتاب الأعمال الصالحة في آي كثيرة كقوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) . (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قال الفرّاء: الجنة البستان فيه النخيل، والفردوس البستان فيه الكرم، والمراد بها هنا دار الخلود في الحياة الآخرة أعدها الله للمتقين كما أعدّ النار للكافرين، ونحن نؤمن بهما ولا نبحث عن حقيقتهما. والأنهار واحدها نهر (بفتح الهاء وسكونها) وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كنيل مصر، وجرى الأنهار من تحتها هو كما نشاهد في الأشجار التي على شواطئ الأنهار الجارية.

(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أي كلما رزقوا من الجنة رزقا من بعض ثمارها قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان وصالح العمل، فهو من وادي قوله تعالى: (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) . (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) أي إن رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته ويختلف فى طعمه ولذته. (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي ولهم في الجنات أزواج تطهرن غاية التطهر، فليس فيهنّ ما يعبن عليه من خبث جسدى مما عليه النساء في الدنيا كالحيض والنفاس، أو نفسىّ كالكيد والمكر وسائر مساوى الأخلاق. وصحبة الأزواج في الآخرة من الأمور الغيبية التي نؤمن بها كما أخبر الله، ولا نبحث فيما وراء ذلك، فأطوار الآخرة أعلى مما في حياتنا الدنيا، فهى سالمة من المنغّصات فى الطعام والشراب والمباشرة الزوجية، روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون، قالوا فما بال الطعام، قال جشاء ورشح كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النّفس» . (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) الخلود لغة: المكث الطويل، قال في الأساس: ومن كلامهم خلد فلان في السجن، أي أقام طويلا، ويراد به في لسان الشرع الدوام الأبدى أي وهم لا يخرجون منها ولا هى تفنى وتزول، بل هى حياة أبدية لا تنتهى.

[سورة البقرة (2) : الآيات 26 إلى 27]

[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) تفسير المفردات الحياء تغيّر وانكسار يعترى الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ، يقال فلان يستحى أن يفعل كذا، أي إن نفسه تنقبض عن فعله، وكأن الحياء ضعف في الحياة، لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهى قوة الحس والحركة، وفعله استحى واستحيا، ويقال استحييته واستحييت منه، والمثل في اللغة: الشبيه والنظير، وضرب المثل فى الكلام أن بذكر لحال ما يناسبها فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم، وهو إحداث أثر خاصّ فيها، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعا ينفذ أثره إلى قلبه، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شىء وتقبيحه إلا بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه. والمراد بما فوق البعوضة ما زاد عليها وفاقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلا بالمنظار المكبر، وكانوا قديما يضربون المثل في الصّغر بمخّ النملة والبعوضة، فقد قالوا: أعز من مخ البعوضة، وجاء فى الحديث: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء» . والحق: هو الشيء الذي يحقّ ويجب ثبوته، ولا يجد العقل سبيلا إلى إنكاره، والفسق لغة: الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت، والنقض: فكّ الحبل والغزل ونحوهما، والميثاق ما يوثق به الشيء ويكون محكما يعسر نقضه، وعهد الله ما أخذه على عباده من فهم السنن الكونية بالنظر والاعتبار بما أوتوه من نعمة العقل والحواس المرشدة إلى الفهم، ونقضه عدم استعمال تلك المواهب فيما خلقت له حتى كأنهم فقدوها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي روى عن ابن عباس أن هذه الآيات جاءت لتنزيه القرآن الكريم من ريب خاص اعترى اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقّرات كالذباب والعنكبوت لما نزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) وقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) إثر تنزيهه من مطلق الريب بما تحداهم به في الآيات السابقة، إذ طلب إليهم أن يأتوا بسورة مثله، وبه أبان لهم أن ذلك ليس بمطعن في القرآن، بل هو أنصع برهان على أنه من عند خالق القوى والقدر، فإن سنة البلغاء جرت بوجوب التماثل بين المثل وما مثّل له، فالعظيم يمثّل له بالعظيم، والحقير يمثل له بالحقير، ألا ترى إلى الإنجيل، وقد مثّل غلّ الصدر بالنّخالة، ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير، وجاء في عباراتهم (أجمع من ذرة، وأجرأ من الذباب، وأضعف من بعوضة) . وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء المحسوسة لتأنس بها النفس وتستنزل الوهم عن معارضة العقل، والحكيم علام الغيوب يعلم حكمة هذا، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك. والناس إزاء هذا فريقان: مؤمنون يقولون إن الله خالق الأشياء حقيرها وعظيمها فالكل لديه سواء، وكافرون يستهزئون بالأمثال احتقارا لها، فحقت عليهم كلمة ربهم فأصبحوا من الخاسرين.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) أي إن الله جلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنه هو الخالق لكل شىء جليلا كان أو حقيرا. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي فالمؤمنون يقولون ما ضرب الله هذا المثل إلا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهى تقرير الحق والأخذ به، فهو إنما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) الذين كفروا هم اليهود والمشركون وكانوا يجادلون بعد أن استبانت لهم الحجة وحصحص الحق، ويقولون ماذا أراد الله بهذه المثل الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك وما أعرضوا وانصرفوا (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) . ثم أجاب عن سؤالهم بقوله: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أي إن من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به، لأنهم يقدرون الأشياء بحسب فائدتها. ومن المعلوم أن أنفع الكلام ما تجلّت به الحقائق، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل، وأجلّه في ذلك الأمثال كما قال: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) والعالمون هم المؤمنون المهتدون بهدى الحق. وقد جعل الله المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر كما قال:

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) إشارة إلى أن المؤمنين المهتدين على قلتهم أكثر نفعا وأجلّ فائدة من أولئك الكفرة الفاسقين. إن الكرام كثير في البلاد وإن ... قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا ثم أكمل الجواب وزاد في البيان فقال: (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي وما يضلّ بضرب المثل إلا الذين خرجوا عن سنة الله في خلقه وعما هداهم إليه بالعقل والمشاعر والكتب المنزلة على من أوتوها. وفي هذا إيماء إلى أن علّة إضلالهم ما كانوا عليه من الخروج عن السنن الكونية التي جعلها عبرة لمن تذكر، فقد انصرفت أنظارهم عن التدبر في حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه. ثم زاد في ذم الفاسقين بذكر أوصاف مستقبحة لهم فقال: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي الذين يستعملون المواهب التي خلقها الله لعباده من عقل ومشاعر وحواسّ ترشدهم إلى النظر والاعتبار في غير ما خلقت له حتى كأنهم فقدوها كما قال: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) . وهذا العهد الذي نقضوه هو العهد الفطري، وهناك عهد آخر جاءت به الشرائع وهو العهد الديني، وقد وثق الله الأول بجعل العقول قابلة لإدراك السنن الإلهية التي فى الكون، كما وثق الثاني بما أيّد به الأنبياء من الحجج والبراهين الدالة على صدقهم، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم فهو ناقض لعهد الله، فاسق عن سننه في إبلاغ القوى البشرية والنفسية حد الكمال الإنسانى الممكن لها. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أمر الله ضربان، أمر تكوين وهو ما عليه الكون من بديع الصنع ودقيق النظام كإفضاء الأسباب إلى مسبباتها والمقدمات إلى

[سورة البقرة (2) : الآيات 28 إلى 29]

نتائجها، ومعرفة المنافع والمضار بغاياتها، وأمر تشريع وهو ما جاء به الأنبياء من الشرائع لتبليغه للناس ليعملوا به. فمن أنكر الإله وصفاته بعد أن شهدت بوجوده الآثار المنبثّة في الكون، أو أنكر نبوة نبىّ بعد أن أقام الدليل على صدقه فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى العهد الفطري، لأنه قطع الصلة بين الدليل والمدلول. ومن أنكر شيئا مما علم أن الرسول قد جاء به من الأوامر والنواهي، فقد قطع ما أمر الله به في كتبه أمر تشريع وتكليف، وهو لا يأمر إلا بما أثبتت التجربة منفعته، ولا ينهى إلا عما ثبتت مضرته. ومشركو العرب بتكذيبهم النبىّ صلى الله عليه وسلم نقضوا عهد الفطرة، وأهل الكتاب نقضوا العهدين معا، فإن الله بشرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بذكر صفاته، فحرّفوا وأوّلوا متعمدين كما قال تعالى: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) . (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بصدهم عن سبيل الله يبغونها عوجا، وبالاستهزاء بالحق بعد ما تبين، وبإهمالهم هداية العقل وهداية الدين، فوجودهم في الأرض مفسدة لأنفسهم ومفسدة لأهلها. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأن إفسادهم لما عمّ العقائد والأخلاق بفقد هداية الفطرة وهداية الدين، استحقوا الخزي في الدنيا بحرمان السعادة الجسمية والعقلية والخلقية، والعذاب الأليم في الآخرة، ومن خسر السعادتين كان في خسران مبين. [سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

المعنى الجملي

المعنى الجملي وجه سبحانه الخطاب في هاتين الآيتين إلى أولئك الفاسقين الذين ضلوا بالمثل بعد أن وصفهم بالصفات الشنيعة من نقض العهد الموثّق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وجاء به على طريق التوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادّة عن الكفر، وهى النعم المتظاهرة الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة، وخلق لهم ما في الأرض جميعا ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتى وطرق مختلفة، وخلق سبع سموات مزينة بمصابيح ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر. أفبعد هذا كله يكفرون به وينكرون عليه أن يبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويضرب لهم الأمثال ليهتدوا بها في إيضاح ما أشكل عليهم مما فيه أمر سعادتهم فى دينهم ودنياهم؟ الإيضاح (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) أي على أي حال تكفرون بالله، وعلى أي شبهة تعتمدون وحالكم في موتتيكم وحياتيكم لا تدع لكم عذرا في الكفران به، والاستهزاء بما ضربه من المثل وإنكار نبوة نبيه. (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) أي والحال أنكم كنتم قبل هذه النشأة في الحياة الدنيا أمواتا، أجزاؤكم متفرقة في الأرض، بعض منها في الطبقات الجامدة، وأخرى

فى الطبقات السائلة، وقسم في الطبقات الغازية، تشركون سائر أجزاء الحيوان والنبات فى ذلك، ثم خلقكم في أحسن تقويم وفضلكم على غيركم بنعمة العقل والإدراك والفهم، وتسخير جميع الكائنات الأرضية لكم. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) حين انقضاء آجالكم بقبض الأرواح التي بها نظام حياتكم، وحينئذ تنحل أبدانكم وتعود سيرتها الأولى، وتنبثّ في طبقات الأرض وينعدم هذا الوجود الخاص الذي لها. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) حياة أخرى أرقى من هذه الحياة، وأكمل لمن زكىّ نفسه وعمل صالحا، ودونها لمن أفسد فطرته، وأهمل التدبر في سنن الكون، وأنكر الإله والرسل وفسق عن أمر ربه. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء على ما قدمتم من عمل، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر. وبعد أن عدد سبحانه آياته في الأنفس بذكر المبدأ والمنتهى- ذكر آياته في الآفاق الدالة على قدرته المحيطة بكل شىء، وعلى نعمه المتظاهرة على عباده بجعل ما في الأرض مهيأ لهم ومعدّا لمنافعهم فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وهذا الانتفاع يكون بإحدى وسيلتين: (1) إما بالانتفاع بأعيانه في الحياة الجسدية ليكون غذاء للأجسام أو متعة لها فى الحياة المعيشية. (2) وإما بالنظر والاعتبار فيما لا تصل إليه الأيدى فيستدل به على قدرة مبدعه ويكون غذاء للأرواح. وبهذا نعلم أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما خلق في الأرض، فليس لمخلوق حق فى تحريم شىء أباحه الله إلا بإذنه كما قال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) .

[سورة البقرة (2) : آية 30]

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) السماء كل ما في الجهة العليا فوق رءوسنا، واستوى إليها أي قصدها قصدا مستويا بلا عاطف يثنيه من إرادة خلق شىء آخر في أثناء خلقها. (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي أتمّ خلقهنّ فجعلهنّ سبع سموات تامات الخلق والتكوين. وفي الآية إيماء إلى أن خلق الأرض وما فيها كان سابقا على تسوية السموات سبعا، وهذا لا يخالف قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ؟ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) لأن كلمة (بعد) فيها بعدية في الذكر لا في الزمان، فمن استعمالاتهم أن يقولوا: أحسنت إلى فلان بكذا، وقدمت إليه المعونة وبعد ذلك ساعدته في عمله، على معنى وزيادة على ذلك ساعدته، أو أن الذي كان بعد خلق السماء هو دحو الأرض: أي تمهيدها للسكنى والاستعمار، لا مجرد خلقها وتقدير الأقوات فيها. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إن هذا النظام المحكم لا يكون إلا من لدن حكيم عليم بما خلق، فلا عجب أن يرسل رسولا يوحى إليه بكتاب لهداية من يشاء من عباده يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته، جل أو حقر، عظم أو صغر. [سورة البقرة (2) : آية 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) تفسير المفردات خليفة: أي عن نوع آخر، أو خليفة عن الله في تنفيذ أوامره بين الناس، السفك والسفح والسكب: الصبّ، والتسبيح: تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس: إثبات ما يليق من صفات الكمال.

المعنى الجملي

المعنى الجملي هذه الآية كالتى قبلها تعداد للنعم الصارفة عن العصيان والكفر، الداعية إلى الإيمان والطاعة، فإن خلق آدم على تلك الصورة، وما أوتيه من نعمة العلم وحسن التصرف في الكون، وجعله خليفة الله في أرضه- لمن أجل النعم التي يجب على ذريته أن يشكروه عليها بحسن طاعته، والبعد عن كفرانه ومعصيته. وفيها وفيما بعدها قصص لأخبار النشأة الإنسانية أبرز فيه حكما وأسرارا جاءت فى صورة مناظرة وحوار- وهو من المتشابه الذي لا يمكن حمله على المعنى الظاهر منه، لأنه إما استشارة من الله لعباده، وذلك محال، وإما إخبار منه للملائكة فاعتراض منهم ومحاجّة، وذلك لا يليق بالله ولا بملائكته بحسب ما جاء في وصفهم في قوله: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ومن ثم كان للعلماء في هذا وأمثاله رأيان: (ا) رأى المتقدمين منهم، وهو تفويض الأمر إلى الله في بيان المراد من كلامه، مع العلم بأنه لا يخبرنا بشىء إلا لنستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا، بذكر ما يقرّب المعاني إلى عقولنا. فهذا الحوار المصوّر بصورة القول والمراجعة والسؤال والجواب لا ندرك حقيقة المراد منه، وان كنا نجزم بأن هناك مقاصد أريد إفادتها بهذه العبارات، وأن الله كان يعدّ لآدم هذا الكون، وأن لذلك المحلوق كرامة لديه بما أودعه فيه من فضائل ومزايا، وفائدة ذكر ذلك لنا من نواح عدة: (1) بيان أن لا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، فالملائكة وهم أولى منا بعلمها عجزوا عن معرفتها. (2) أن الله قد هدى الملائكة بعد حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم، بأن أرشدهم

إلى الخضوع والتسليم أوّلا بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ثم بالدليل ثانيا بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة. (3) أن الله جلّت قدرته رضى لخلقه أن يسألوه عما خفى عليهم من أسراره فى الخليقة، والسؤال كما يكون بالمقال يكون بالحال بالتوجه إلى الله أن يفيض عليهم العلم بمعرفة ما أشكل عليهم. (4) تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين له ومحاجتهم بلا برهان يستندون إليه- بأنه لا بدع في ذلك، فالملائكة طلبوا الدليل والبرهان من ربهم فيما لا يعلمون، فالأنبياء يجدر بهم أن يصبروا على المكذبين ويعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، ويأتوهم بالبراهين الساطعة، والحجج الدامغة. (ب) رأى المتأخرين منهم- وهو تأويل ما اشتبه علينا من قواعد الدين، لأنها إنما وضعت على أساس العقل، فإذا ورد في النقل شىء يخالف حكم العقل، حمل النقل على غير الظاهر منه بتأويله حتى يتفق مع حكم العقل. وعلى هذا- فالقصة وردت مورد التمثيل ليقرّبها سبحانه من أذهان خلقه بإفهامهم حال النشأة الآدمية وما لها من ميزة خاصة- بأن أخبر ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة- فعجبوا وسألوه بلسان المقال إن كانوا ينطقون، أو بلسان الحال بالتوجه إليه تعالى أن يفيض عليهم المعرفة- كيف تخلق هذا النوع ذا الإرادة المطلقة والاختيار الذي لا حد له، وربما اتجه بإرادته إلى خلاف المصلحة والحكمة، وذلك هو الفساد، فألقى عليهم بطريق الإلهام وجوب الخضوع والتسليم لمن هو بكل شىء عليم، فما يضيق عنه علم أحد يتسع له علم من هو أعلم منه، وهذا جواب ربما لا يذهب بالحيرة، ومن ثمّ تفضل على الملائكة وأبان لهم الحكمة في خلق هذا النوع، فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فعلموا أن في فطرة هذا النوع استعدادا لعلم ما لم يعلموا، وأنه أهل للخلافة في الأرض، وأن سفك الدماء لا يذهب بحكمة الاستخلاف وفائدته.

الإيضاح

وخلاصة هذا- إن الملائكة تشوّفوا لمعرفة الحكمة في استخلاف ذلك المخلوق الذي من شأنه ما قالوا، ومعرفة السر في تركهم وهم المجبولون على تسبيحه وتقديسه- فأعلمهم أنه أودع فيه من السر ما لم يودعه فيهم، هذا مجمل ما جلى به الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله هذا البحث حين تفسيره للآية ونقله عنه صاحب المنار في تفسيره. الإيضاح (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي واذكر لقومك مقال ربك للملائكة: إنى جاعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض، وانقرض بعد أن أفسد في الأرض وسفك الدماء وسيحل هو محله، يرشد إلى ذلك قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) ومن ثمّ استنبط الملائكة سؤالهم بالقياس عليه، وعلى هذا فليس آدم أوّل أصناف العقلاء من الحيوان في الأرض. ويرى جمع من المفسرين أن المراد بالخلافة الخلافة عن الله في تنفيذ أوامره بين الناس، ومن ثم اشتهر «الإنسان خليفة الله في الأرض» ويشهد له قوله تعالى: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) . وهذا الاستخلاف يشمل استخلاف بعض أفراد الإنسان على بعض، بأن يوحى بشرائعه على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه، واستخلاف هذا النوع على غيره من المخلوقات بما ميزه به من قوة العقل، وإن كنا لا نعرف سرها ولا ندرك كنهها، وهو بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود العلم، يتصرف في الكون تصرفا لا حدّ له، فهو يبتدع ويفتنّ في المعدن والنبات، وفي البرّ والبحر والهواء، ويغيّر شكل الأرض فيجعل الماحل خصبا، والحزن سهلا، ويولّد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن، ويتصرّف في أنواع الحيوان كما شاء بضروب التوليد، ويسخر كل ذلك لخدمته.

[سورة البقرة (2) : الآيات 31 إلى 33]

ولا أدلّ على حكمة الله من جعل الإنسان الذي اختصّ بهذه المواهب خليفة فى الأرض يظهر عجائب صنعه وأسرار خليقته. (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي أتجعل من يقتل النفوس المحرمة بغير حق خليفة في الأرض؟ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي أتستخلف من هذه صفته ونحن المعصومون؟ (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي قال لهم ربهم: إنى أعلم من المصلحة في استخلافه ما هو خفىّ عليكم، وفي هذا إرشاد للملائكة أن يعلموا أن أفعاله تعالى كلها بالغة غاية الحكمة والكمال وإن عمّى ذلك عليهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 31 الى 33] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) تفسير المفردات الأسماء: واحدها اسم، وهو في اللغة ما به يعلم الشيء، والإنباء: الإخبار، وقد يستعمل فى الإخبار بما فيه فائدة عظيمة وهو المراد هنا، إيذانا برفعة شأن الأسماء وعظيم خطرها، سبحانك: أي تقديسا وتنزيها لك، والعليم: هو الذي لا تخفى عليه خافية، والحكيم: هو المحكم لمبتدعاته، الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة البالغة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي قد علمت مما سبق أن هذه المراجعات والمناظرات إما أن نفوّض أمر معرفتها إلى الله كما هو رأى السلف، وإما أن نلجأ فيها إلى التأويل، وأحسن طرقه أن يكون الكلام ضربا من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة تقريبا للأفهام. وبهذا القصص نعرف ما امتاز به النوع الإنسانى عن غيره من المخلوقات، وأنه مستعدّ لبلوغ الكمال العلمي إلى أقصى الغايات، دون الملائكة، ومن ثمّ كان أجدر بالخلافة منهم. الإيضاح (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) اسم الله هو ما به عرفناه في أذهاننا بحيث يقال إنا نؤمن بوجوده، وهو بهذا الإطلاق هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى كما جاء في قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) - (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) . أو يقال المراد من الأسماء المسميات، وعبر بها عنها للصلة الوثيقة بين الدالّ والمدلول وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر، وأيّا كان فإن العلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات، أما الألفاظ الدالة عليها فهى تختلف باختلاف اللغات التي تجرى بالمواضعة والاصطلاح. والله تعالى علم آدم الأجناس التي خلقها، وألهمه معرفة ذواتها وخواصها وصفاتها وأسمائها، ولا فارق بين أن يكون هذا العلم في آن واحد أو آنات متعددة، فالله قادر على كل شىء، وإن كان لفظ (علّم) يشعر بالتدريج كما يشهد له نظائره من نحو: (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) - (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) إلى نحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ التعليم، لكن المتبادر هنا أنه كان دفعة واحدة.

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) أي ثم أطلعهم على مجموعة تلك الأشياء إطلاعا إجماليا بالإلهام أو غيره مما يليق بحالهم، وربما كان بعرض نماذج من كل نوع يتعرف منها أحوال البقية وأحكامها. والحكمة في التعليم والعرض تشريف آدم واصطفاؤه، كى لا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم، وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده. (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) أمر الملائكة بهذا الإنباء إظهارا لعجزهم عن معرفتها، وإشارة إلى أن الخلافة في الكون والتصرف فيه وتدبير شؤونه وإقامة العدل فيه تكون بعد الوقوف على مراتب الاستعداد ومعرفة من يكون أهلا للخلافة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان هناك مجال للدهشة في كون الخليفة من البشر، وفي أن ما اختلج في خواطركم من الشبهة أصاب الصواب، وحلّ محله من القبول، فأنبئونى بأسماء ما عرضته عليكم. وإنا لنسترشد بهذه الآية إلى أن المدّعى لشىء يطالب بالحجة والبرهان تأييدا لما ادّعى، فالملائكة قد بحثوا عن سرّ الغيب فقرعوا بالعيان، فكأنه قيل لهم: أنتم لا تعلمون أسرار ما تعاينون، فكيف تتكلمون في أسرار ما لا تعاينون؟. وفي قوله (هؤلاء) إشارة إلى أنه سمى الأشياء التي وقع عليها حسه كالطيور والبهائم وأنواع الحيوان التي أمامه. (قالُوا سُبْحانَكَ) أي نقدسك عما لا يليق بك من قصور العلم فتخلق الخليفة عبثا خاليا من الحكمة والفائدة، أو تسألنا عن شىء نفيده، وأنت تعلم أن علمنا لا يحيط به ولا نقدر على الإنباء به. وكلمة (سبحانك) تقدّم في معرض التوبة كما قال موسى عليه السلام: (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) وقال يونس: (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) .

(لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) وهو علم محدود لا يتناول جميع الأشياء، ولا يحيط بكل المسميات، وهذا منهم اعتراف بالعجز عما كلّفوه، وإشعار بأن سؤالهم كان سؤال مستفسر لا سؤال معترض، وفيه ثناء على الله بما أفاض عليهم من العلم مع تواضع وأدب، فكأنهم قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا بحسب استعدادنا، ولو كنا مستعدين لأكثر من ذلك لأفضت علينا. ثم أكدوا ما تقدم بقولهم: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وفي هذا الجواب منهم إيذان بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب عليهم ألا يغفلوا عن مثله، من التفويض لواسع علم الله وعظيم حكمته، بعد أن تبين لهم ما تبين، وإيماء إلى أن الإنسان ينبغى له ألا يغفل عن نقصانه، وعن فضل الله عليه وإحسانه، ولا يأنف أن يقول لا أعلم إذا لم يكن يعلم، ولا يكتم الشيء الذي يعلم. (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أي أعلمهم بأسمائهم التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها. وقال «أنبئهم» دون أنبئنى، للإشارة إلى أن علمه عليه السلام بها ظاهر لا يحتاج إلى ما يجرى مجرى الامتحان، وإلى أنه جدير أن يعلّم غيره، فتكون له منّة المعلم المفيد، ولهم مقام المتعلم المستفيد، ولئلا تستولى عليه الهيبة، فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره. (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي فلما أنبأهم بأسمائهم وبين لهم أحوال كل منهم وخواصه وأحكامه، قال تعالى للملائكة: قد قلت لكم إنى أعلم ما غاب في السموات والأرض فلا أخلق شيئا سدى، ولا أجعل الخليفة في الأرض عبثا وأعلم ما تظهرون من نحو قولكم: (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وما كنتم تكتمون من نحو قولكم: لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا، فنحن أحقاء بالخلافة في الأرض.

[سورة البقرة (2) : آية 34]

وفي هذه الآيات دلالة على شرف الإنسان على غيره من المخلوقات، وعلى فضل العلم على العبادة، فإن الملائكة أكثر عبادة من آدم ولم يكونوا أهلا لاستحقاق الخلافة، وعلى أن شرط الخلافة العلم بل هو العمدة فيها، وعلى أن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم، والأفضل هو الأعلم بدليل قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) . وفي استخلاف آدم في الأرض معنى سام من الحكمة الإلهية خفى على الملائكة، فإنه لو استخلفهم فيها لما عرفوا أسرار هذا الكون وما أودع فيه من الخواص، فإنهم ليسوا بحاجة إلى شىء مما في الأرض، إذ هم على حال يخالف حال الإنسان، فما كانت الأرض لتزرع بمختلف الزروع، ولا تستخرج المعادن من باطنها، ولا تعرف خواصها الكيمائية والطبيعية، ولا تعرف الأجرام الفلكية ولا المستحدثات الطبية، ولا شىء من العلوم التي تفنى السنون ولا يدرك الإنسان لها غاية. [سورة البقرة (2) : آية 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) المعنى الجملي بعد أن أعلم الله تعالى الملائكة مكانة آدم وأنه جعله خليفة في الأرض، أمرهم بالسجود له سجود خضوع لا سجود عبادة اعترافا بفضله، واعتذارا عما قالوه في شأنه، من قولهم: «أتجعل فيها من يفسد فيها» . الإيضاح (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) السجود لغة الخضوع والانقياد، ومن أعظم مظاهره وضع الجبهة على التراب، وكان تحية للملوك عند بعض القدماء كما ورد من سجود يعقوب وأولاده ليوسف.

والسجود لله قسمان: سجود العقلاء تعبدا على الوجه المعروف شرعا، وسجود المخلوقات كلها بانقيادها وخضوعها لمقتضى إرادته كما قال: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) وقال: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) . والملائكة من عالم الغيب لا نعرف حقيقتهم، والكتاب الكريم يرشد إلى أنهم أصناف، لكل صنف عمل، وقد جاء في لسان الشرع إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة كما يستفاد من خطابهم لمريم عليها السلام، وإسناد الوسوسة إلى الشياطين وهو مشهور في الكتاب والسنة، فقد روى الترمذي «إن للشيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) » واللمة: الإلمام والإصابة. فالملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس لا نعرف حقيقته، بل نؤمن بما ورد فيه ولا نزيد عليه شيئا آخر. ويرى بعض المفسرين أن ما ورد من أن الملائكة موكلون بالأعمال من إنماء نبات وخلق حيوان وحفظ إنسان، فمعناه أن هذا النموّ في النبات إنما هو بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان. فكل شىء قائم بنظام خاص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهى سمى في لسان الشرع ملكا، ومن لا يعترف بالغيب يسميه قوة طبيعية أو ناموسا طبيعيا فالمؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن به يقول أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، وإذا فلا خلاف بين الناس في وجود شىء غير ما يرى ويحسّ، لا يفهم حق الفهم ولا يصل العقل إلى إدراك كنهه.

وكلنا نشعر إذا هممنا بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن فى نفوسنا تنازعا وكأنّ الأمر قد عرض على مجلس للشّورى، فواحد يقول افعل وآخر يقول لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين على الآخر، فهذا الذي أودع في نفوسنا ونسميه قوة وفكرا هو في الحقيقة معنى لا ندرك كنهه، ولا يبعد أن نسميه أو نسمى سببه ملكا، انتهى كلامه ملخصا. قال الأستاذ الإمام محمد عبده: فإذا جرينا على هذا التفسير فليس ببعيد أن تكون فى الآية إشارة إلى أن الله لما خلق الأرض ودبّرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصا بنوع من المخلوقات لا يتعداه، خلق الإنسان وأعطاه قوة بها يتصرف في جميع القوى ويسخّرها في عمارة الأرض، وهذا التسخير هو المعبر عنه بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع، وبهذه القوة التي لاحد لها جعله الله خليفة في أرضه، لأنه أكمل الموجودات، واستثنى من هذه القوى قوّة واحدة تميل بالكامل إلى النقص، وتصده عن عمل الخير، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته، تلك القوة ضلّلت آثارها قوما فزعموا أن فى العالم إلها يسمى إله الشر، وما هى بإله ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو، تلك القوة هى المعبر عنها بإبليس. ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق، انتهى كلامه رحمه الله (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) أي سجد الملائكة جميعا إلا إبليس. وللعلماء في حقيقة إبليس رأيان: أحدهما أنه كان جنيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم متصفا بصفاتهم، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا

[سورة البقرة (2) : الآيات 35 إلى 37]

إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ولأن الملائكة لا يستكبرون، وهو قد استكبر، وهو قد خلق مما خلق منه الجن، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) . ثانيهما: أنه كان من الملائكة، لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، ولأن الظاهر من هذه الآية وأمثالها أنه منهم، قال البغوي وهو الأصح، وقال في التيسير: إن وصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم دليل على تصور العصيان منهم، ولولا ذلك ما مدحوا به، لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف، وطاعة البشر تكلف ومتابعة الهوى منهم طبع، ولا يستنكر من الملائكة تصوّر العصيان، فقد ذكر عن هاروت وماروت ما ذكر، وليس هناك دليل على أن بين الملائكة والجن فروقا جوهرية بها يمتاز أحدهما من الآخر، بل هى فروق في الأوصاف فقط، والجميع من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نضيف إليها شيئا إلا إذا ورد به نص عن المعصوم. (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) أي امتنع عما أمر به من السجود، وأظهر كبره وترفع عن الحق زعما منه أنه خير من الخليفة عنصرا، وأزكى جوهرا كما قص ذلك عنه (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فهو الأحق بالرياسة. (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وصار من الكافرين برفض الإذعان لأمر الله لزعمه أنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يخضع لمن دونه. [سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 37] وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الرغد: الهنيء الذي لاعناء فيه، أو الواسع يقال رغد عيش القوم إذا كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش، والزلل: السقوط يقال زلّ في طين أو منطق يزل بالكسر زليلا، وقال الفراء: زلّ يزلّ بالفتح زللا، والهبوط كما قال الراغب الانحدار على سبيل القهر، ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة فسمى الخروج منها هبوطا أو سمى بذلك لأن ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه، أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد كقوله لبنى إسرائيل (اهْبِطُوا مِصْراً) والعدو: هو المجاوز حده في مكروه صاحبه وهو يصلح للواحد والجمع، ومن ثم لم يقل أعداء، والمستقر: الاستقرار والبقاء، والمتاع: الانتفاع الذي يمتد وقته، والحين: مقدار من الزمن قصيرا كان أو طويلا، وتلقى الكلمات: هو أخذها بالقبول والعمل بها حين علمها. المعنى الجملي علمت مما سلف أن الحكمة الإلهية اقتضت إيجاد النوع الإنساني في الأرض واستخلافه فيها، وأن الملائكة فهموا أنه يفسد نظامها ويسفك الدماء، فأعلمهم المولى بأن علمهم لا يرقى إلى الإحاطة بمعرفة حكمته، وأن الله أوجد آدم وفضله بتعليم الأسماء كلها، وأنه تعالى أخضع له الملائكة إلا إبليس فقد أبي واستكبر عن السجود، لما فى طبيعته من الاستعداد للعصيان، وهنا ذكر أنه تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها ونهاهما أن يأكلا من شجرة معينة، وأعلمهما أن القرب منها ظلم لأنفسهما وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما من ذلك النعيم، وأن آدم أناب إلى الله من معصيته فقبل توبته، وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عما يلاقى من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، فالضعف غريزة فيهم ينتهى إلى أول سلف

الإيضاح

منهم وهو أبوهم آدم عليه السلام، فقد تغلبت عليه الوساوس، فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات. الإيضاح (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي وقلنا له: اتخذ الجنة مسكنا لك ولزوجك. واختلفت آراء العلماء في الجنة المرادة هنا، فمن قائل إنها دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في هذه السورة، وفي ظواهر السنة ما يدلّ عليه، فهي إذا في السماء حيث شاء الله منها. ومن قائل إنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، وكانت بستانا فى الأرض بين فارس وكرمان، وقيل بفلسطين وليست هى الجنة المعروفة، وعلى هذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدى في تفسيره المسمى بالتأويلات، فقال: نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين، أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم اهـ. قال الآلوسى في تفسيره روح المعاني: ومما يؤيد هذا الرأى: (1) أن الله خلق آدم في الأرض ليكون خليفة فيها هو وذريته، فالخلافة منهم مقصودة بالذات، فلا يصح أن يكون وجودهم فيها عقوبة عارضة. (2) أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلق آدم في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم (3) أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المتقون المؤمنون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة. (4) أنها دار للنعيم والراحة، لا دار للتكليف، وقد كلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة.

(5) أنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها. (6) أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر، لا دار رجس. وعلى الجملة فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها، ومنها أن عطاءها غير مجذوذ ولا مقطوع لا تنطبق على جنة آدم اهـ. (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) أي كلا منها أكلا هنيئا من أي مكان شئتما. وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا حصر لها. (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لم يبين لنا ربنا هذه الشجرة، فلا نستطيع أن نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع، ولأن المقصود يحصل بدون التعيين، ولكنا نقول إن النهى كان لحكمة كأن يكون في أكلها ضرر أو يكون ذلك ابتلاء من الله لآدم واختبارا له، ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى معرفة الأشياء واختبارها، ولو كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر وقوله: من الظالمين، أي لأنفسكما بالوقوع فيما يترتب على الأكل منها من المعصية، أو بنقصان حظوظكما بفعل ما يمنع الكرامة والنعيم، أو بتعدي حدود الله. وقد علق النهى بالقرب منها وهو مقدمة الأكل، تنبيها إلى أن القرب من الشيء يورث ميلا إليه يلهى القلب عما يوجبه العقل والشرع. (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أي حملهما على الزلة بسبب الشجرة، وقد وسوس لهما بقوله: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) وقوله: (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) وقسمه لهما: (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) . (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي من الجنة أو من النعيم الذي كانا فيه، فاتصلت العقوبة بالذنب اتصال المسبّب بسببه المباشر.

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا) المأمور بالهبوط آدم وزوجه وإبليس، وهو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وكثير من السلف، ويشهد له قوله «بعضكم لبعض عدو» إذ العداوة بين الشيطان والإنسان. (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي اهبطوا متعادين يبغى بعضكم على بعض بتضليله. (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى وقت محدود وليسا بدائمين كما زعم إبليس حين وسوس لآدم، وسمى الشجرة المنهىّ عنها شجرة الخلد. وفي هذا إشارة إلى أن الإخراج من جنة الراحة إلى الأرض للعمل فيها لا للفناء ولا للمعاقبة بالحرمان من التمتع بخيراتها ولا للخلود فيها. (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أي إن الله تعالى ألهمه كلمات فعمل بها فأناب إليه- وهى كما روى عن ابن عباس: (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وروى عن ابن مسعود أنها: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله إلا أنت، ظلمت نفسى، فاغفرلى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. (فَتابَ عَلَيْهِ) التوب الرجوع، فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية إلى الطاعة، وإذا وصف به الباري تعالى أريد به الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة. ولا تكون التوبة مقبولة من العبد إلا بالندم على ما كان، وبترك الذنب الآن وبالعزم على ألا يعود إليه في مستأنف الزمان، وبردّ مظالم العباد، وبإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه والاعتذار له باللسان. والخلاصة- إنه تعالى قبل توبته وعاد إليه بفضله ورحمته. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التواب هو الذي يقبل التوبة عن عباده كثيرا، فمهما اقترف العبد من الذنوب وندم على ما فرط منه وتاب تاب الله عليه، والرّحيم هو الذي يحفّ عباده برحمته إذا هم أساءوا ورجعوا إليه تائبين

وقد جمع بين الوصفين (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) للإشارة إلى عدة الله تعالى للعبد التائب بالإحسان إليه مع العفو عنه والمغفرة له. وهاهنا مسائل ثلاث أطال المفسرون الكلام فيها، ونحن نوجز القول فيها. (ا) ما أوردوه في هبوط آدم وحواء من الجنة ووصف ذلك، وقد نقلوا أكثره من الإسرائيليات التي لا يصح شىء منها عند النقدة من أهل العلم ورجال الدين. (ب) خلق حوّاء من ضلع آدم أخذا بظاهر قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ومن حديث أبى هريرة في الصحيحين من قوله. صلى الله عليه وسلم: «واستوصوا بالنساء خيرا فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج» ومما ورد في سفر التكوين في التوراة مبينا خلق آدم وحوّاء. وجوابنا عن ذلك: (1) أن كثيرا من المفسرين قالوا إن المراد في الآيتين بقوله «منها» أي من جنسها ليوافق قوله في سورة الروم: (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) إذ المراد دون شك أنه خلق أزواجا من جنسكم، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها. (2) أن الحديث قد جاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها، باعوجاج الضلوع، ويؤيد هذا قوله آخر الحديث: «وإن أعوج شىء في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا» فهو على حدّ قوله تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) . (ح) عصيان آدم ثم توبته، مع أن الأنبياء معصومون من ارتكاب الذنوب، ولنا في الجواب عن هذه المسألة ثلاث طرق:

(1) أن المخالفة التي صدرت منه كانت قبل النبوة، والعصمة إنما تكون عن مخالفة الأوامر بعدها. (2) أن الذي وقع منه كان نسيانا، فسمى عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة. (3) أن ذلك من المتشابه كسائر ما جاء في القصة، مما لا يمكن حمله على ظاهره، ويجب تفويض أمره إلى الله كما هو رأى سلف الأمة، أو هو من باب التمثيل كما هو رأى الخلف. وقد أجاد الأستاذ الإمام محمد عبده بيانه قال: إن إخباز الله تعالى الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حدّ لهما، تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك، وتمهيد لبيان أنه لا ينافى خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شىء في الأرض وانتفاعه به فى استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبّرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها فى ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك، وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هى مثار التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون أفراده فيه كالملائكة، بل أعظم أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشرى، ويراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هى الحديقة ما يلذ له

من مأكول ومشروب، ومشموم ومسموع في ظل ظليل، وهواء عليل. وماء سلسبيل ويراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة فيقال: كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، ويراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى فى مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة وفسرت بكلمة الكفر. والمعنى على هذا- إن الله تعالى كوّن النوع البشرى في أطوار ثلاثة: (1) طور الطفولة وهو طور لا همّ فيه ولا كدر، بل هو لهو ولعب كأنه في جنة ملتفة الأشجار يانعة الثمار. (2) طور التمييز الناقص، وفيه يكون الإنسان عرضة لاتباع الهوى بوسوسة الشيطان. (3) طور الرشد، وهو الذي يعتبر فيه المرء بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه حين الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شىء وإليها يرجع الأمر كله. والإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه، فقد كان الإنسان في ابتداء حياته الاجتماعية ابتداء ساذجا سليم الفطرة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالعصر الذهبي. ولكن لم يكفه هذا النعيم العظيم، فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم طاعة للشهوة وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم، فثار النزاع وعظم الخلاف، وهذا هو الطور الثاني المعروف في تاريخ الأمم. ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر، ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر، وتحديد حدود للأعمال تنتهى إليها نزعات الشهوات، ويقف عندها سير الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله.

[سورة البقرة (2) : الآيات 38 إلى 39]

وبقي طور آخر أعلى من هذه الأطوار، وهو منتهى الكمال، وهو طور الدين الإلهىّ والوحى السماوىّ الذي به كمال الهداية الإنسانية. انتهي كلامه ملخصا. [سورة البقرة (2) : الآيات 38 الى 39] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) تفسير المفردات الهدى: الرشد بإرسال رسول بشريعة يأتي بها، وكتاب ينزله ويبلغه لكم، الخوف: ألم الإنسان مما قد يصيبه من مكروه، أو حرمانه من محبوب يتمتع به أو يطلبه، والحزن: ألم يلمّ به إذا فقد ما يحب، والآيات: واحدتها آية وهى العلامة الظاهرة، والمراد بها كل ما يدل على وجود الخالق ووحدانيته مما أودعه في الكون ونشاهده في الأنفس، وتطلق على كل قسم من أقسام القرآن التي تتألف منها سور القرآن، ويقف القارئ عندها في تلاوته، والعمدة في معرفة ذلك على التوقيف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت بذلك لأنها دلائل لفظية على الأحكام والآداب التي شرعها الله لعباده، وأصحاب النار: ملازموها فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها، والخلود: الدوام. المعنى الجملي أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرتين، الأولى للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، وتعاد واستقرار في الأرض إلى حين للتمتع بخيراتها، والثانية لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وأنهم ينقسمون فريقين: فريق يهتدى بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسله، وأولئك هم الفائزون

الإيضاح

ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وفريق سار في طريق الضلال وكذّب بالآيات، وأولئك جزاؤهم جهنم خالدين فيها أبدا. الإيضاح (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) هذا الأمر لبيان أن طور النعيم والراحة قد انتهى وجاء طور العمل، وفيه طريقان: هدى وإيمان، وكفر وخسران. (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) الخطاب لآدم وزوجه وإبليس، والمراد ذريته. (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) أي فمن استمسكوا بالشرائع التي أتى بها الرسل، وراعوا ما يحكم العقل بصحته بعد النظر في الأدلة التي في الآفاق والأنفس. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن المهتدين بهدى الله لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، فإن من سلك سبيل الهدى سهل عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الصبر والتسليم مما يرضى ربه، ويوجب مثوبته، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأحسن عزاء عما فقده، فمثله مثل التاجر الذي يكدّ ويسعى وتنسيه لذة الربح آلام التعب. والأديان قد حرّمت بعض اللذات التي كان في استطاعة الإنسان أن يتمتع بها، لضررها إما بالشخص أو بالمجتمع، فمن تمثلت له المضارّ التي تعقب اللذة المحرّمة وتصور ما لها من تأثير في نفسه أو في الأمة فرّ منها فرار السليم من الأجرب، إلى أن المؤمن بالله واليوم الآخر، يرى في انتهاك حرمات الدين ما يدنّس النفس ويبعدها عن الكرامة، يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه. والخلاصة- إن من جاءه الهدى على لسان رسول بلغه إياه واتبعه، فقد فاز بالنجاة وبعد عنه الحزن والخوف يوم الحساب والجزاء والعرض على الملك الديان، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

[سورة البقرة (2) : الآيات 40 إلى 43]

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين لم يتبعوا هداى وهم الذين كفروا بآياتنا اعتقادا وكذّبوا بها لسانا، فجزاؤهم الخلود فى النار بسبب جحودهم بها وإنكارهم إياها اتباعا لوسوسة الشيطان، وهذا مقابل قوله قبل «فمن تبع هداى» إلخ. والتكذيب كفر سواء كان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول، أو مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد، وفي مثلهم يقول الله تعالى لنبيه: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) وقد يوجد الكفر بالقلب مع تصديق اللسان كما هى حال المنافقين. [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) تفسير المفردات إسرائيل: لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعناه صفىّ الله، وقيل الأمير المجاهد، وبنوه: ذريته وهم الأسباط الاثنا عشر، والذكر (بالضم) بمعنى الحفظ الذي هو ضد النسيان ويكون القلب خاصة، و (بالكسر) يقع على الذكر باللسان وبالقلب. وعهد الله نوعان: عهد نظرى، وهو الذي أخذه على جميع البشر، وهو وزن الأمور بميزان

المعنى الجملي

العقل والتدبر، والنظر المؤدى إلى جلاء الحقائق توصلا إلى معرفة الخالق، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) . وعهد دينىّ وهو أن يعبدوا الله وحده لا شريك له وأن يعملوا بشرائعه وأحكامه، وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم، والرهبة: خوف مع التحرز من الفعل، والآيات: هى الأدلة التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعظمها القرآن الكريم، واللبس بالفتح: الخلط، والزكاة لغة: الطهارة، إذ فيها تطهير المال من الخبث والنفس من الشح والبخل. المعنى الجملي بدأ سبحانه هذه السورة بذكر الكتاب وأنه لا ريب فيه، ثم ثنى بذكر اختلاف الناس فيه: من مؤمن به، وكافر بهديه، ومنافق مذبذب بين ذلك، ثم طالب الناس بعبادته، ثم أقام الدليل على أن الكتاب منزل من عند الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدّى المرتابين بما أعجزهم وحذرهم وأنذرهم، ثم حاجّ الكافرين وجاءهم بأوضح البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، ثم ذكر خلق السموات والأرض لمنافعهم وخلق الإنسان في أطواره المختلفة، وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذكر اليهود لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس ضغنا للمؤمنين، ولأن دخولهم في الإسلام حجة قوية على النصارى وغيرهم، لأنهم أقدم منهم عهدا. الإيضاح (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي احفظوا بقلوبكم نعمى بالتفكر في شكرها باللسان. وفي هذا إشارة إلى أنهم نسوها ولم يخطروها ببالهم، ولم تعين الآية هذه النعمة أراد بها نعمة النبوة التي اصطفاهم بها زمانا طويلا، حتى كانوا يسمّون شعب الله.

وهذه المكرمة التي أوتوها، والنعمة التي اختصّوا بها وكانوا مفضلين على الأمم والشعوب تقتضى ذكرها وشكرها، ومن شكرها الإيمان بكل نبىّ يرسله الله لهداية البشر، لكنهم جعلوا هذه النعمة حجة للإعراض عن النبي صلى الله عليه وسلم والازدراء به، زعما منهم أن فضل الله محصور فيهم، فلا يبعث الله نبيا إلا منهم. (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) لو نظر بنو إسرائيل إلى العهد العام أو إلى العهود الخاصة المعروفة في كتابهم الذي أنزل إليهم، ومنها أنه سيرسل إليهم نبيا من بنى إخوتهم «إسماعيل» يقيم شعبا جديدا لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا النور الذي أنزل معه وكانوا من الفائزين. أما عهد الله لهم فأن يمكّن لهم في الأرض المقدسة، ويرفع من شأنهم، ويخفض لهم العيش فيها، وينصرهم على أعدائهم الكفرة، ويكتب لهم السعادة في الآخرة. ولما كان من موانع الوفاء بالعهد خوف بعضهم من بعض، ذكر هنا أن الخوف يجب أن يكون من الله وحده فقال: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي لا ترهبوا ولا تخافوا إلا من بيده مقاليد الأمور كلها وهو الله الذي أنعم عليكم بتلك النعمة الكبرى، وهو القادر على سلبها منكم، وعلى عقوبتكم على ترك الشكر عليها، ولا يرهب بعضكم بعضا خوف فوت بعض المنافع ونزول بعض الأضرار إذا أنتم اتبعتم الحق، وخالفتم غيركم من الرؤساء. وبعد أن ذكر الوفاء بالعهد العام انتقل إلى العهد الخاص المقصود من السياق فقال: (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أمرهم بالإيمان بالقرآن مع دخوله في قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) إشارة إلى أن الوفاء به أهمّ إذ هو العمدة القصوى والمقصد الأول، وهو قد نزل مصدقا لما جاء في التوراة وما قبلها من كتب الأنبياء فالأوامر التي جاء بها: من الدعوة إلى التوحيد وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إلى نحو ذلك مما يوصّل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، هى مثل ما دعاكم

إليه موسى والأنبياء قبله، إذ مقصد الجميع واحد، وهو تقرير الحق، وهداية الخلق، وإزالة ما طرأ على العقائد من الضلال. (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي ولا تسارعوا إلى الكفر به، مع أن الأجدر بكم أن تكونوا أوّل من يؤمن به، إذ أنتم تعرفون حقيقته مما معكم من الكتب الإلهية وقد كنتم تبشرون بزمانه، وقد جاء في كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فكذبه يهودها، ثم بنو قريظة، وبنو النّضير، ثم خيبر، ثم تتابعت على ذلك سائر اليهود. (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا) أي ولا تعرضوا عن التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل الذي يستفيده الرؤساء من مرءوسيهم من مال وجاه، ويرجوه المرءوسون من الحظوة باتباع الرؤساء ويخشونه من سطوتهم إذا هم خالفوهم. وسمى هذا البدل قليلا لأن صاحبه يخسر رضوان الله وتحل به عقوبته في الدنيا والآخرة، ويخسر عزّ الحق، ويخسر عقله لإعراضه عن واضح البراهين وبيّن الآيات. (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة. وليس في هذا تكرار مع قوله: وإياى فارهبون، لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان لاتقاء الرئيس خوف منفعة تفوته من المرءوس، واتقاء المرءوس خوف غضب الرئيس، فطلب إليهم أن يتقوا الله وحده، إذ بيده الخير كله وهو على كل شىء قدير، وإليه المصير. (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ولا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يتميزا، ولا تكتموا الحق الذي

تعرفونه، فالنهى الأوّل عن التغيير، والنهى الثاني عن الكتمان وقد أبانت الآية طريقهم في الغواية والإغواء، فقد جاء في كتبهم: (1) التحذير من أنبياء كذبة يبعثون فيهم، وتكون لهم عجائب وأفاعيل تدهش الألباب. (2) أن الله يبعث فيهم نبيا من ولد إسماعيل يقيم به أمة، وأنه يكون من ولد الجارية (هاجر) وبين علامات واضحة له لا لبس فيها ولا اشتباه. فأخذ الأحبار والرهبان يلبسون على العامة الحق بالباطل، ويوهمونهم أن النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك الأنبياء الذين وصفوا في التوراة بالكذب، ويكتمون ما يعرفونه من أوصاف لا تنطبق إلا عليه، وما يعرفونه من نعوت الأنبياء الصادقين وسبيل دعوتهم إلى الله، إلى أنهم كانوا يصدونهم عن السبيل القويم بعدم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم بزيادات يستحدثونها، وتقاليد يبتدعونها بضروب من التأويل والاستنباط من كلام بعض سلفهم وأفعالهم ويحكّمونها في الدين ويحتجون بأن الأقدمين كانوا أعلم بكلام الأنبياء وأشد اتباعا لهم، فعلى من بعدهم أن يأخذ بكلامهم دون كلام الأنبياء الذي يصعب علينا فهمه بزعمهم. لكن هذه المعذرة لم يتقبلها الله منهم، ونسب إليهم اللبس والكتمان للحق الذي في التوراة إلى يومنا هذا، كما لم يتقبل ممن بعدهم من العلماء في أي شريعة ودين أن يتركوا كتابه ويتبعوا كلام العلماء بتلك الحجة عينها، فكل ما يعلم من كتاب الله يجب علينا أن نعمل به، وما لا يعلم يسأل عنه أهل الذكر، ومتى فهمناه وعلمناه عملنا به. قال في التيسير: ويجوز صرف الخطاب إلى المسلمين وإلى كل صنف منهم، وبيانه أن يقال: أيها السلاطين لا تخلطوا العدل بالجوز، ويا أيها القضاة لا تخلطوا الحكم بالرشوة، وهكذا كل فريق. فهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل

فهى تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير حق وإبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعين عليه أداؤه حتى يأخذ عليه أجرا، فقد دخل في حكم الآية اهـ. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) تقدم أن قلنا إن في الصلاة إظهار الحاجة إلى المعبود، والافتقار إليه بالقول أو بالفعل أو بكليهما، وإقامتها هى التوجه إلى الله بقلب خاشع والإخلاص له في الدعاء، وهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله، أما الصورة فليست مقصودة لذاتها، ومن ثم اختلفت في الشرائع بحسب الأديان والأزمان، ولكن الروح لا تغيير فيه ولا تبديل باختلاف الأنبياء. والخلاصة- إنه بعد أن دعا بنى إسرائيل إلى الإيمان أمرهم بصالح العمل على الوجه المقبول عند الله، فطلب إليهم إقامة الصلاة لتطهر نفوسهم كما طلب إليهم إيتاء الزكاة التي هى مظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس، لما فيها من بذل المال لمواساة عيال الله وهم الفقراء، ولما بين الناس من تكافل عام في هذه الحياة، فالغنى في حاجة إلى الفقير، والفقير في حاجة إلى الغنى كما ورد في الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» . وبعدئذ أمرهم بالركوع مع الراكعين، أي أن يكونوا في جماعة المسلمين ويصلوا صلاتهم، وقد حثّ على صلاة الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس عند مناجاة الله، وإيجاد الألفة بين المؤمنين، ولأنه عند اجتماعهم يتشاورون في دفع ما ينزل بهم من البأساء أو يجلب لهم السراء، ومن ثم جاء في الخبر: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة» . وعبر عن الصلاة بالركوع ليبعدهم عن الصلاة التي كانوا يصلونها قبلا، إذ لا ركوع فيها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 44 إلى 46]

[سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) تفسير المفردات البرّ: سعة الخير، ومنه البرّ والبرّيّة للفضاء الواسع، والصبر: حبس النفس على ما تكره، أو هو احتمال المكروه بنوع من الرضى والاختيار والتسليم، كبيرة: أي ثقيلة شديدة الوقع، والخاشعين: هم المخبتون الخائفون المتطامنة جوارحهم وقلوبهم لله تعالى، يظنون: أي يستيقنون، ولقاء الله: هو الحشر إليه، والرجوع إليه: هو المجازاة ثوابا أو عقابا. المعنى الجملي الخطاب هنا لبنى إسرائيل كما كان فيما قبله، وقد وبّخهم على اعوجاج سيرتهم وفساد أعمالهم، وهداهم إلى المخرج من هذه الضلالات، ذاك أن اليهود كانوا يدّعون الإيمان بكتابهم والعمل به والمحافظة عليه وتلاوته، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، إذ حق تلاوته هو الإيمان به على الوجه الذي يرضاه الله تعالى، ولكن الأحبار والرهبان وكانوا الآمرين الناهين لا يذكرون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إذا عارض شهواتهم. فقد جاء في التوراة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه يقيم من إخوتهم نبيّا يقيم الحق» وجاء في سفر تثنية الاشتراع (17) قال لى الرب: أحسنوا فيما تكلموا. (18) سوف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامى في فمه فيكلمهم

الإيضاح

بكل ما أوصيه به (19) ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامى الذي يتكلم به باسمي، أنا أكون المنتقم منه. فحرفوا هذه البشارة به وأولوها بما يوافق أهواءهم. وكانت لهم مواسم دينية تذكرهم بنعم الله عليهم، وتكون باعثا على إقامة الدين والعمل به، لكن طول العهد جعل القلوب قاسية فخرجت عن تعاليم الدين، واتباع الخير وسلوك طريق الرشاد، واستمسك الأحبار بالظواهر وقلدهم في ذلك العامة، فما كانوا يعرفون من الدين إلا العبادات العامة، والمراسم الدينية، وما عدا ذلك مما لا فائدة لهم فيه ولا هوى، يلجئون فيه إلى التأويل والتحريف حتى لا يصادم أهواءهم وشهواتهم. الإيضاح (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) الخطاب موجه إلى حملة الكتاب من الأحبار والرهبان، فقد روى عن ابن عباس أن الآية نزلت في أحبار المدينة، كانوا يأمرون من نصحوه سرّا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون به، وقال السّدى: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم يفعلون ما ينهون عنه. والمراد من النسيان هنا الترك، لأن من شأن الإنسان ألا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، وعبر به عنه للمبالغة في عدم المبالاة والغفلة عما ينبغى أن يفعله، أي إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البرّ ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم؟ ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التوبيخ والتأنيب الذي ليس بعده زيادة لمستزيد، فإن الآمر بما لا يأتمر به تكون الحجة عليه قائمة بلسانه.

(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فتعرفون منه ما لا يعرفه من تأمرونهم باتباعه، والفرق عظيم بين من يفعل وينقصه العلم بفوائد ما يفعل، ومن يترك وهو عليم بمزايا ما يترك. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه، ويحذركم وخامة عاقبته، فإن من عنده أدنى مسكة من العقل لا يدّعى كمال العلم بالكتاب، ويقوم بالإرشاد إلى هديه، ويبين للناس سبيل السعادة باتباعه، ثم هو بعد لا يعمل به ولا يستمسك بأوامره ونواهيه. وهذا الخطاب وإن كان موجها إلى اليهود فهو عبرة لغيرهم، فلتنظر كل أمة أفرادا وجماعات في أحوالها، ثم لتحذر أن يكون حالها كحال أولئك القوم فيكون حكمها عند الله حكمهم، فالجزاء إنما هو على أعمال القلوب والجوارح لا على صنف خاص من الشعوب والأفراد. وبعد أن بين سبحانه سوء حالهم وذكر أن العقل لم ينفعهم والكتاب لم يذكّرهم، أرشدهم إلى الطريق المثلى، وهى الاستعانة بالصبر والصلاة فقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الصبر الحقيقي إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة التي تميل إليها النفس، وعمل أنواع الطاعات التي تشقّ عليها، والتفكر في أن المصايب بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع له والتسليم لأمره، والاستعانة به تكون باتباع الأوامر واجتناب النواهي بقمع النفس عن شهواتها وحرمانها لذاتها، وتكون بالصلاة لما فيها من النهى عن الفحشاء والمنكر، ولما فيها من مراقبة الله في السر والنجوى، وناهيك بعبادة يناجى فيها العبد ربه في اليوم خمس مرات، وقد روى أحمد رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وروى أن ابن عباس نعيت له بنت وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق وصلّى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: «واستعينوا بالصبر والصلاة» . (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي وإن الصلاة لشاقة صعبة الاحتمال إلا على

[سورة البقرة (2) : الآيات 47 إلى 48]

المخبتين لله الخائفين من شديد عقابه، وإنما لم تثقل على هؤلاء، لأنهم مستغرقون فى مناجاة ربهم فلا يشعرون بشىء من المتاعب والمشاق، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وقرّة عينى في الصلاة» لأن اشتغاله بها كان راحة له، وكان غيرها من أعمال الدنيا تعبا له ولأنهم مترقبون ما ادّخروا من الثواب فتهون عليهم المشاقّ، ومن ثم قيل للربيع ابن خيثم وقد أطال صلاته: أتعبت نفسك، قال راحتها أطلب وقيل: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية. ثم وصف الخاشعين بأوصاف تقربهم إلى ربهم وتدعوهم للإخبات إليه. فقال: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي لا تثقل الصلاة على الخاشعين الذين يتوقعون لقاء ربهم يوم الحساب والجزاء، وأنهم راجعون إليه بعد البعث فيجازيهم بما قدموا من صالح العمل. وعبر بالظن للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا تشق عليه الصلاة، فما ظنك بمن يتيقنه، ومن ثم كان الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ، فكأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم لم يصل إيمانهم بكتابهم إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالأحوط في أعماله. [سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) تفسير المفردات الشفاعة: من الشفع ضد الوتر، لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب فيصير معه شفعا بعد أن كان وترا، والعدل الفدية، وأصل العدل (بالفتح) ما يساوى

المعنى الجملي

الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، (وبالكسر) المساوى في الجنس والحجم، والنصرة: أخصّ من المعونة لأنها مختصة بدفع الضرر. المعنى الجملي كرر تذكيرهم بالنعم لكمال غفلتهم عما يجب عليهم من شكرها، وقد ذكرت فيما سبق مقترنة بوعد الله لهم بالنصر على الأعداء وسكنى الأرض المقدسة، واقترنت هنا بالوعيد، واتقاء عقاب الله في ذلك اليوم الشديد الهول الذي لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا، فكأنه قد قيل لهم إن لم تطيعوا الله لنعمه السالفة فأطيعوه للخوف من عقابه اللاحق. وفي هذا التقريع والتوبيخ ما يدل على قساوة قلوبهم، فإن من شعر بقدر نفسه إذا خلا ونفسه وتذكر أنه ألمّ بنقيصة يتألم، ولم ير من اللائق به أن يدنسها مرّة أخرى برذيلة. الإيضاح (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) هذا تأكيد لما تقدم وتمهيد لما عطفه عليه من التذكير بالتفضيل الذي هو من أجلّ النعم. (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي وأعطيتكم الفضل والزيادة على غيركم من الشعوب حتى الأمم ذات الحضارة والمدنية كالمصريين وسكان الأراضى المقدسة. وقد ناداهم باسم أبيهم لأنه منشأ فخارهم وأصل عزهم، وأسند النعمة والفضل إليهم جميعا لشمولهما إياهم، والتفضيل إنما أتاهم لتمسكهم بالفضائل وتركهم للرذائل، إذ من يرى نفسه مفضلا شريفا يترفع عن الدنايا. وذكّرهم بهذا الفضل لينبههم إلى أن الذي فضلهم على غيرهم له أن يفضل غيرهم كمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وإلى أنهم أجدر من جميع الشعوب بالتأمل فيما

أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات، فإن المفضّل أولى بالسبق إلى الفضائل ممن فضّل عليه وهذا الفضل إن كان بكثرة الأنبياء فلا مزاحم لهم فيه، ولا تقتضى هذه الفضيلة أن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، ولا تمنع أن يفضلهم أخسّ الشعوب إذا انحرفوا عن جادّة الحق وتركوا سنة أنبيائهم واهتدى بهديها غيرهم، وإن كان بالقرب من الله باتباع شرائعه، فذلك إنما يتحقق في أولئك الأنبياء والمهتدين من أهل زمانهم ومن تبعهم بإحسان ماداموا على الاستقامة وسلكوا الطريق الذي استحقوا به التفضيل. (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي واخشوا يوما يقع فيه من الأهوال ما لا قدرة لكم على دفعه، ولا منجاة لكم منه إلا بتقوى الله في السر والعلن، يوم لا تحمل نفس أوزار نفس أخرى كما قال تعالى: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وقال: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) وقال: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) وقال: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) . (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) أي إنها إذا جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها. (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي ولا يؤخذ منها فداء إن هى استطاعت أن تأتى بذلك. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي يمنعون من العذاب. والخلاصة- إن ذلك يوم تتقطع فيه الأسباب، وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة الحياة الدنيا من دفع المكروه عن النفس بالفداء أو بشفاعة الشافعين، عند الأمراء والسلاطين، أو بأنصار ينصرونها بالحق والباطل على سواها، وتضمحلّ فيه

جميع الوسائل إلا ما كان من إخلاص في العمل قبل حلول الأجل، ولا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله. وقد كان اليهود كغيرهم من الأمم الوثنية يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا، فيتوهمون أنه يمكن تخليص المجرمين من العذاب بفداء يدفع، أو بشفاعة بعض المقربين إلى الحاكم فيغير رأيه وينقض ما عزم عليه. فجاء الإسلام ومحا هذه العقيدة ليعلم المؤمنون أنه لا ينفع في ذلك اليوم إلا مرضاة الله بالعمل الصالح والإيمان الذي يبلغ قرارة النفس ويتجلى في أعمال الجوارح. [تنبيه] : هناك مسألة كثر خوض الناس فيها وأطالوا الجدل والأخذ والرد، وهى مسألة الشفاعة العظمى، شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة وهاك بيانها: جاء في القرآن الكريم آيات تفيد نفيها مطلقا، ومن ذلك قوله تعالى في وصف يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) وآيات تفيد ثبوتها متى أذن الله، ومن ذلك قوله: (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقوله: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) . من أجل هذا افترق العلماء فرقتين: أولاهما تثبت الشفاعة وتحمل ما جاء من الآيات فى نفيها مطلقا على ما جاء منها مقيدا فلا تكون شفاعة إلا إذا أذن الله. وثانيتهما تنفيها مطلقا وتقول إن معنى (إلا بإذنه) هنا النفي، وهذا أسلوب معروف لدى العرب في النفي القطعي كقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) وقوله: (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) . وإذا فليس في القرآن الكريم نصّ قاطع في ثبوتها، ولكن جاء في السنة الصحيحة ما يؤيد وقوعها كقوله صلى الله عليه وسلم: «شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى، فمن كذب بها لم ينلها» .

فيجب علينا أن نحدد معناها والمراد منها، وهل تكون في الآخرة كما هى فى الدنيا. الشفاعة المعروفة في دنيانا أن يحمل الشفيع من يشفع عنده على فعل أو ترك كان يريد غيره، فلا تتحقق فائدة الشفاعة إلا بترك ما أراده المشفوع لديه، وفسخ ما عزم عليه لأجل الشفيع، والحاكم العادل لا يقبل الشفاعة بهذا المعنى، ولكن يقبلها الحاكم الظالم المستبد فيقضى بما يعلم أنه ظلم وأن العدل خلافه، ويفضل ارتباطه بأواصر القربى أو الصداقة للشافع على العدالة، ومثل هذا محال في الآخرة على المولى جلّ وعلا، لأن إرادته بحسب علمه الأزلى الذي لا تغيير فيه ولا تبديل، وإذا فما ورد من الأحاديث يكون من المتشابه الذي يرى السلف تفويض الأمر فيه إلى الله دون أن نحيط بحقيقته ونكشف المراد منه وننزه الله عن الشفاعة التي نشاهد مثالها في الحياة الدنيا، وغاية ما نستطيع أن نقول: إنها مزية يختص الله بها من يشاء من عباده عبر عنها بلفظ (الشفاعة) ولا ندرك حقيقتها. ويرى المتأخرون ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، أنها دعاء يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم فيستجيبه المولى جلّ وعلا كما يفهم من رواية الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم يسجد يوم القيامة ويثنى على الله بثناء يلهمه يومئذ، فيقال له ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفّع، وليس في الشفاعة بهذا المعنى رجوع المولى عن إرادته لأجل الشافع، وإنما هى إظهار كرامة للشافع بتنفيذ ما أراده الله أزلا عقب دعائه، فليس فيها ما يسدّ نهم المغرورين الذين يتهاونون في أوامر الدين ونواهيه اعتمادا منهم على الشفاعة كما قال: (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) .

[سورة البقرة (2) : آية 49]

[سورة البقرة (2) : آية 49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) تفسير المفردات النجو: المكان العالي من الأرض، لأن من صار إليه يخلص وينجو، ثم سمى كل فائز ناجيا لخروجه من الضيق إلى السعة، والآل: من آل يئول بمعنى رجع، لأنه يرجع إليك في قرابة أو رأى أو مذهب، ولا يضاف إلا لذوى القدر والخطر، وفرعون: لقب لمن ملك مصر قبل البطالسة ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة، وسامه: كلفه، والسوء: السيء القبيح، وسوء العذاب: أشده وأفظعه، والبلاء: الاختبار والامتحان وهو تارة يكون بما يسّر ليشكر العبد ربه، وتارة بما يضر ليصبر، وتارة بهما ليرغب ويرهب. المعنى الجملي فصل في هذه الآية نعمة مما أنعم به على هذا الشعب العظيم، ذكر فيها ما حلّ بهم من العذاب والبلاء جزاء ما صنعوا من جرائم وارتكبوا من آثام. ثم ما كان من لطف الله بهم، إذ رفع عنهم البلاء ليتوبوا ويعرفوا قدر نعمته عليهم كما قال: (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) . وقد امتنّ على اليهود الذين كانوا عصر التنزيل بنعمة كانت لآبائهم، لأن الإنعام على أمة إنعام شامل لأفرادها سواء منهم من أصابه ذلك ومن لم يصبه، لما يكون له من الأثر في مجموع الأفراد يرثه الخلف عن السلف، فصنوف البلاء التي ذكّر بها اليهود فى القرآن كانت للشعب من جراء جرائم وقعت من مجموعه.

وقد روى المؤرخون أن أول من دخل مصر من بنى إسرائيل يوسف عليه السلام وانضم إليه إخوته بعد، وتكاثر نسلهم حتى بلغوا في مدى أربعمائة سنة نحو ستمائة ألف حين خرجوا من مصر باضطهاد فرعون وقومه لهم، إذ قد رأى تبسط اليهود في البلاد ومزاحمتهم للمصريين، فراح يستذلهم ويكلفهم شاقّ الأعمال في مختلف المهن والصناعات، وهم مع ذلك يزدادون نسلا، ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم لا يشركون المصريين في شىء ولا يندمجون في غمارهم، إلى مالهم من أنانية وإباء وترفع على سواهم، اعتقادا منهم بأنهم شعب الله وأفضل خلقه، فهال المصريين ما رأوا وخافوا إذا هم كثروا أن يغلبوهم على بلادهم، ويستأثروا بخيراتها وينتزعوها من بين أيديهم، وهمّ ذلك الشعب النشيط المجدّ العامل المفكر، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء بناتهم، فأمر فرعون القوابل أن يقتلن كل ذكر إسرائيلى حين ولادته. والعبرة من هذا القصص أنه كما أنعم على اليهود، ثم اجترحوا الآثام فعاقبهم بصنوف البلاء، ثم تاب عليهم وأنجاهم، أنعم على الأمة الإسلامية بضروب من النعم، فقد كانوا أعداء فألّف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا، وكانوا مستضعفين فى الأرض، فمكّن لهم وأورثهم أرض الشعوب القوية، وجعل لهم فيها السلطان والقوة، وجعلهم أمة وسطا لا تفريط لديها ولا إفراط، ليكونوا شهداء على من أفرطوا أو قصروا. ثم لما كفروا بهذه النعم أذاقهم الله ألوانا من العذاب على يد التتار في بغداد، وفي الحروب الصليبية إذ جاس الغربيون خلال الديار الإسلامية، ولا يزالون يتنقصون بلادهم من أطرافها ويصبّون عليهم العذاب وهم لاهون ساهون، وكلما حلّت بهم كارثة أو أصابتهم جائحة أحالوا الأمر فيها على القضاء والقدر دون أن يتعرفوا أسبابها ويبادروا إلى علاجها، ويكونوا يدا واحدة على رفع ما يحلّ بهم من النكبات وبدهمهم من الويلات.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي واذكروا وقت تنجيتنا إياكم أي تنجية آبائكم، وتنجيتهم تنجية لأعقابهم، وهو استعمال تعهده العرب في كلامها، يقولون قتلناكم يوم عكاظ أي قتل آباؤنا آباءكم. (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي يكلفونكم ما يسوءكم ويذلكم من العذاب. ثم فصل هذا العذاب بقوله: (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يقتلون الذكور ويستبقون البنات إذلالا لكم حتى ينقرض شعبكم من البلاد. (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي وفي ذلكم العذاب والتنجية منه امتحان عظيم من ربكم كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) وقوله: من ربكم: أي من جهته تعالى بتسليطهم عليكم، وبعث موسى وتوفيقه لخلاصكم. [سورة البقرة (2) : الآيات 50 الى 53] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) تفسير المفردات الفرق: الفصل بين الشيئين، والبحر: هو بحر القلزم فرقه الله اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباط بنى إسرائيل، والسبط: ولد الولد، وهو من بنى إسرائيل كالقبائل

المعنى الجملي

من العرب، والعفو: محو الجريمة بالتوبة، والكتاب: التوراة، والفرقان: الآيات التي أيّد الله بها موسى ودلت على صدق نبوته، وبها يفرق بين الحق والباطل، والشكر يكون لمن فوقك بطاعته، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان إليه. المعنى الجملي فى الآية الأولى تفصيل لمجمل ما ذكر في الآية السالفة من الإنجاء، وتصوير لحصوله وعظيم هوله، وكونه من خوارق العادات، وفي تضاعيف ذلك ذكر لهم نعمة أخرى وهى هلاك عدوهم فرعون وقومه وهم ينظرون، ثم ذكر النعمة التي تلتها وهى العدة بإعطاء التوراة وكفرهم بها باتخاذهم عجلا من ذهب وعبادتهم إياه، ثم عفوه عنهم بعد ذلك، ثم قفّى على ذلك بذكر إيتائهم الكتاب وهى المنة الكبرى مع الآيات التي أيّد بها موسى لتصديق نبوّته. روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلى، وترك تعذيبه والعسف به، زاد فرعون فى تعذيبهم وسامهم الخسف، وشدّد عليهم النكال والتعذيب. ويؤيد هذا ما جاء في سفر الخروج من التوراة: إن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بنى إسرائيل، ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته. فبعد أن دعاه موسى إلى الإيمان زاد ظلما وعتوّا، فأمر الذين كانوا يسخّرون بنى إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن (الطوب) ويكلفوهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شىء. فأعطى الله موسى وأخاه هارون الآيات، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة،

فلما آمن السحرة بربّ العالمين ربّ موسى وهارون، ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بنى إسرائيل بل طردهم طردا وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم وأنجى الله بنى إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه. وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها ومدبرها، بل هو الحاكم المتصرف فيها، وهى أيضا سنة أخرى فى الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده. وزعم بعض الناس أن عبور بنى إسرائيل البحر كان وقت الجزر، وفي بحر القلزم (البحر الأحمر) رقارق يتيسر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا، وكانوا لاستعحالهم واتصال بعضهم ببعض، قد جعلوا الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدين كالطود العظيم، يرشد إلى ذلك قوله: (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) ولم يقل فرقنا لكم البحر. وقوله: (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) تشبيه معروف معهود مثله فى مقام المبالغة كقوله: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) وقوله: (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) ألا ترى أن الأمواج والسفن الجواري لا تكون كشواهق الجبال، لكنه يراد بمثل هذا التعبير زيادة البيان، وإرادة التأثير فى نفس السامع. ولما أتبعهم فرعون وجنوده ورآهم قد عبروا البحر مشى إثرهم، وكان المد قد بدأ، ولم يتم خروج بنى إسرائيل إلا وقد علا المدّ، وطغى حتى أغرق المصريين جميعا، وتحققت نعمة الله على بنى إسرائيل، وتمّ لهم التوفيق ولعدوهم الخذلان، ونعم الله

الإيضاح

بغير طريق المعجزات أتمّ وأكثر، فليس بلازم أن نجعل الامتنان في كونه معجزة لموسى عليه السلام اهـ. ومثل هذا التأويل ليس بضائر إذا كان أربابه يثبتون صدور خوارق العادات على يد الأنبياء تأييدا من الله لهم، أما إذا أنكروها فلا حاجة إلى الكلام معهم، إذ لا بد أن نثبت لهم قدرة الله وإرادته، ثم نثبت لهم إمكان الوحى وإرسال الرسل وتأييدهم بالمعجزات. الإيضاح (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي واذكروا من نعمتنا عليكم نعمة فرق البحر بكم وجعلنا لكم فيه طرقا تسلكونها حين هربكم من فرعون. (فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فأنجيناكم من الغرق وأخرجناكم إلى الشاطئ الآخر، وأغرقنا فرعون ومن معه حين عبروا وراءكم، وأنتم تشاهدون ذلك بأبصاركم ولا تشكّون في حصوله، ولولا ذلك لكان لكم وجه للريبة والشك في وقوعه، والفائدة من قوله: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) بيان تمام النعمة، فإن هلاك العدوّ نعمة، ومشاهدة هلاكه نعمة أخرى فيها سرور لا يقدر قدره. (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي واذكروا نعمة أخرى كفرتم بها وظلمتم أنفسكم، ذاك أنهم بعد أن اجتازوا البحر سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم، فواعده ربه أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتا لذلك، يقولون إنه ذو القعدة وعشر ذى الحجة، فاستبطئوه واتخذوا عجلا من ذهب، له خوار فعبدوه وظلموا أنفسهم بإشراكهم ووضعهم للشىء في غير موضعه بعبادة العجل بدل عبادة خالقهم وخالقه. وفي ذكر هذا تعجيب من حالهم، فإن مواعدة الله موسى بإنزال التوراة إليه نعمة وفضيلة لبنى إسرائيل قابلوها بأقبح أنواع الكفر والجهل.

[سورة البقرة (2) : الآيات 54 إلى 57]

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ثم محونا تلك الجريمة بقبول التوبة ولم نعاجلكم بالإهلاك، بل أمهلناكم حتى جاءكم موسى وأخبركم بكفارة ذنوبكم، ليعدّكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر، فإن الإنعام يوجب الشكر على النعم. (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيدنا بها موسى، لتهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بما تحويه من الشرائع ليعدّكم للاسترشاد بها حتى لا تقعوا في وثنية أخرى. وإن من كمال الاستعداد لفهم الكتاب أن تعرفوا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم دليل على صحة نبوته، فتؤمنوا به وتهتدوا بهديه وتتبعوا سبيل الرشاد الذي سلكه. [سورة البقرة (2) : الآيات 54 الى 57] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) تفسير المفردات برأه: ذرأه وأوجده، والصاعقة نار محرقة تنزل من السماء، وسببها اتحاد كهربية

المعنى الجملي

السحاب المختلفة النوع سالبها بموجبها، أو اتحادها مع كهربية الأرض السالبة، بعثناكم: أي أكثرنا نسلكم، والمنّ: مادة حلوة لزجة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر وتنزل سائلة كالندى، ثم تجمد وتجفّ فيجمعها الناس، والسلوى: السّمانى (السمان) الطائر المعروف. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بنى إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبيّن في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهى اتخاذهم العجل إلها، ثم ختمها بذكر العفو عنهم، ثم قفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرا وطغيانا، وهى طلبهم من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به، فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأى العين، ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما. أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المنّ والسلوى عليهم مدة أربعين سنة. وفي ذكر النعمة يتخللها سوق ما يفرط من أصحابها من السيئات ما يجعل النفوس قلقة مضطربة يتجاذبها عاملان: عامل الاعتراف لها بالشرف، وعامل رميها بالظلم والسّرف، وهذا مما يورث في النفوس المخاوف، وتتملكها منه الوساوس. الإيضاح (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) أي واذكر أيها الرسول الكريم فيما تلقيه على بنى إسرائيل وغيرهم من العظات قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجى ربه: يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها قد أضررتم

بأنفسكم وأنقصتم مالها من الأجر والثواب عند ربكم لو أنكم أقمتم على عهدى واتبعتم شريعتى، وقد فصّلت هذه القصة في سورتي الأعراف وطه. (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي فاعزموا على التوبة إلى من خلقكم وميّز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة، وفي قوله إلى بارئكم إيماء إلى أنهم بلغوا غاية الجهل، إذ تركوا عبادة البارئ وعبدوا أغبى الحيوان وهو البقر، وليقتل البريء منكم المجرم، وإنما جعلهم أنفسهم للإشارة إلى أن المؤمنين إخوة، فأخو الرجل كأنه نفسه كما قال تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تغتابوا إخوانكم من المسلمين. وقصة القتل مذكورة في التوراة التي يتدارسونها إلى اليوم، ففيها دعا موسى: من للرّبّ فإلىّ، فأجابه بنو لاوى، فأمرهم أن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا ففعلوا، فقتل في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل، والعبرة من القصة لا تتوقف على عدد معين فلنمسك عنه ما دام القرآن لم يتعرض له. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) أي ما ذكر من التوبة والقتل أنفع لكم عند الله من العصيان والإصرار على الذنوب لما فيه من العذاب، إذ أن القتل يطهركم من الرجس الذي دنّستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا للثواب. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي ففعلتم ما أمركم به موسى فقبل توبتكم وتجاوز عن سيئاتكم. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه هو الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويقبلها منهم، وهو الرّحيم بمن ينيب إليه ويرجع، ولولا ذلك لعجل بإهلاككم على ما اجترحتم من عظيم الآثام. (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) أي واذكروا قول السبعين من أسلافكم الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور، للاعتذار عن عبادة

العجل: لن نصدّقك في قولك إن هذا كتاب الله، وإنك سمعت كلامه، وإن الله أمر بقبوله والعمل به حتى نرى الله عيانا لا ساتر بيننا وبينه، فيكون كالجهر في الوضوح «والجهر في المسموعات كالمعاينة في المبصرات» . (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي فأخذت الصاعقة من قال ذلك، والباقون ينظرون بأعينهم، وقد فصل ذلك في سورة الأعراف وفي التوراة: إن طائفة منهم قالوا لماذا اختص موسى وهارون بكلام الله من دوننا، وشاع ذلك في بنى إسرائيل وقالوا لموسى بعد موت هارون: إن نعمة الله على شعب إسرائيل لأجل إبراهيم وإسحاق فتعمّ الشعب جميعه، وأنت لست أفضل منه، فلا يحق لك أن تسودنا بلا مزية، وإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذهم إلى خيمة العهد فانشقت الأرض وابتلعت طائفة منهم وجاءت نار من الجانب الآخر فأخذت الباقين. وهكذا كان حال بنى إسرائيل مع موسى يتمردون ويعاندون، وسوط العذاب يصبّ عليهم صبّا، فأصيبوا بالأوبئة وأنواع الأمراض وسلطت عليهم هوامّ الأرض وحشراتها حتى فتكت بالعدد العديد والخلق الكثير، فليس ببدع منهم أن يجحدوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ويعاندوها. (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يرى بعض المفسرين أن الله أحياهم بعد أن وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة القلبية لغيرهم. ويرى آخرون أن المراد بالبعث كثرة النسل، أي إنه بعد أن وقع فيهم الموت بشتى الأسباب وظنّ أنهم سينقرضون، بارك الله في نسلهم ليعدّ الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها. وإنما قص الله علينا هذا القصص ووجهه إلى من كان من اليهود في عصر التنزيل لبيان وحدة الأمة، وأن ما يبلوها به من الحسنات والسيئات وما يجازيها به من النعم

والنقم إنما هو لمعنى فيها يسوغ أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق كأنه وقع منه، ليعلم الناس أن الأمم متكافلة، سعادة الفرد منها مرتبطة بسعادة سائر الأفراد، وشقاؤه بشقائهم، ويتوقع نزول العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة وإن لم يفعلها هو كما قال: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) . وفي هذا التكافل رقىّ الأمة وتقدمها في المدنية والحضارة، إذ يحملها على التعاون البأساء والضراء فتحوز قصب السبق بين الأمم. (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) ذاك أنهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر، وقعوا فى صحراء فأصابهم حر شديد، فشكوا إلى موسى فأرسل الله إليهم الغمام يظللهم حتى دخلوا أرض الميعاد. (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) ما منحه الله لعباده يسمى إيجاده إنزالا كما جاء فى قوله: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) وقد قالوا إن المنّ كان ينزل عليهم نزول الضباب من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتأتيهم السّمانى فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه إلى الغد. (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي وقلنا لهم كلوا من ذلك الرزق الطيب، وفي سفر الخروج- أنهم أكلوا المنّ أربعين سنة وأن طعمه كالرّقاق بالعسل، وكان لهم بدل الخبز إذ كانوا محرومين من البقول والخضر. (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي فكفروا تلك النعم الجزيلة، وما عاد ضرر ذلك إلا عليهم باستيجابهم عذابى وانقطاع ذلك الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة ولا مشقة. وفي هذا إيماء إلى أن كل ما يطلبه الله من عباده فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع عليهم، وقد جاء في الحديث القدسي: «فكل عمل ابن آدم له

[سورة البقرة (2) : الآيات 58 إلى 59]

أو عليه» وهو بمعنى قوله: «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» وقوله: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» . [سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) تفسير المفردات القرية لغة: مجتمع الناس ومسكن النمل، ثم غلب استعمالها في البلاد الصغيرة، وليس ذلك بالمراد هنا بل المراد المدينة الكبيرة، لأن الرغد لا يتسنى إلا فيها، والرغد: الهنيء ذو السعة، والباب هو أحد أبواب بيت المقدس ويدعى الآن (باب حطّة) ، وسجدا: أي ناكسى الرءوس، والمحسن: من فعل ما يجمل في نظر العقل ويحمد في لسان الشرع، وتقول بدّلت قولا غير الذي قيل: أي جئت بذلك القول مكان القول الأول، والرجز: العذاب. المعنى الجملي ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض ما اجترحوه من السيئات، فقد أمرهم أن يدخلوا قرية من القرى خاشعين لله، فعصى بعضهم وخالف أمر ربه، فأنزل عليهم عذابا من السماء جزاء ما ارتكبوه من المعاصي واقترفوه من الآثام.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) لم يعين الكتاب الكريم هذه القرية فلا حاجة إلى تعيينها، وهم قد دخلوا بلادا كثيرة، وإن كان المروي عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم أنها بيت المقدس. (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) أي فكلوا منها أكلا هنيئا ذا سعة في أي مكان شئتم. (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي وادخلوا باب حطة خشّعا ناكسى الرءوس تواضعا لله، وقد يكون المعنى: إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله شكرا على ما أنعم عليكم، إذ أخرجكم من التيه، ونصركم على عدوكم، وأعادكم إلى ما تحبون، وقولوا نسألك ربنا أن تحط عنا ذنوبنا وخطايانا التي من أهمها كفران النعم. (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) أي إذا فعلتم ما ذكر استجبنا دعاءكم وكفّرنا خطاياكم. (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي وسنزيد المحسنين ثوابا من فضلنا، وقد أمرهم بشيئين: عمل يسير، وقول صغير، ووعدهم بغفران السيئات، وزيادة الحسنات. (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي فخالفوا الأمر ولم يتبعوه، وجعل المخالفة تبديلا إشارة إلى أن الذي يؤمر بالشيء فيخالفه كأنه أنكر أنه أمر به وادعى أنه أمر بغيره، وليس المراد أنهم أمروا بحركة يأتونها وكلمة يقولونها على سبيل التعبد، وجعل ذلك سببا لغفران الذنوب عنهم، فقالوا غيرها وخالفوا الأمر وكانوا من الفاسقين، فما أسهل الكلام على الناس يحركون به ألسنتهم، وإنما يعصى العاصي ربه إذا كلّف ما يثقل عليه، وحمّل غير ما اعتاد، لما في ذلك من ترك النفس ما ألفت، واستيحاشها من غير ما عرفت. (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) لم يعين الكتاب

[سورة البقرة (2) : آية 60]

هذا الرجز فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين قالوا إنه الطاعون، وقد ابتلى الله بنى إسرائيل بضروب من النقم عقب كل نوع من أنواع الفسوق والظلم، فأصيبوا بالطاعون كثيرا، وسلّط عليهم أعداؤهم، وقوله بما كانوا يفسقون: أي بسبب تكرار فسقهم وعصيانهم ومخالفتهم أوامر دينهم. [سورة البقرة (2) : آية 60] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) تفسير المفردات استسقى: طلب السّقيا عند عدم الماء أو قلّته، قال أبو طالب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم. وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل والانفجار، والانبجاس، والسكب بمعنى، والمشرب مكان الشرب، والعثى: مجاوزة الحد في كل شىء ثم غلب استعماله في الفساد. المعنى الجملي ذكر سبحانه في هذه الآية نعمة أخرى آتاها بنى إسرائيل فكفروا بها، ذاك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه أصابهم ظمأ من لفح الشمس، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه أن يسقيهم فأجاب دعوته. وقد كان من دأب بنى إسرائيل أن يعودوا باللوم على موسى إذا أصابهم الضيق، ويمنّون عليه بالخروج معه من مصر، ويصارحونه بالندم على ما فعلوا، فقد روى أنهم

الإيضاح

قالوا من لنا بحرّ الشمس؟ فظلّل عليهم الغمام، وقالوا من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسّلوى، وقالوا من لنا بالماء؟ فأمر موسى بضرب الحجر. الإيضاح (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) أي طلب لهم السّقيا من الله تعالى بأن يسعفهم بماء يكفيهم حاجاتهم في هذه الصحراء المحرقة. (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) أي فأجبناه إلى ما طلب، وأوحينا إليه أن اضرب الحجر بعصاك، وقد أمره أن يضرب بعصاه التي ضرب بها البحر حجرا من أحجار الصحراء، قال الحسن لم يكن حجرا معينا، بل أىّ حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أظهر في حجة موسى عليه السلام، وأدلّ على قدرة الله تعالى وقد سماه في سفر الخروج الصخرة. (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) أي فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بقدر عدد الأسباط، فاختصّ كل منهم بعين حتى لا تقع بينهم الشحناء، كما يرشد إلى ذلك قوله. (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أي قد صار لكل سبط منهم مشرب يعرفه، لا يتعداه إلى مشرب غيره. قال النّطاسى البارع المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه: (الإسلام والطب الحديث) ما خلاصته: إن الله تعالى كان قادرا على تفجير الماء وفلق البحر بلا ضرب عصا، ولكنه جلّت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها ليسعوا في الحصول على تلك الأسباب بقدر الطاقة. إلى أنه تعالى خلق الإنسان محدود الإدراك والحواس، لا يفهم إلا ما كان في متناول يده ويقع تحت إدراكه وحسه، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في رده إلى ما يعرف،

فإذا لم يستقم له ذلك وقف حائرا مدهوشا، ولا سيما إذا تكرر ذلك أمامه، فكان من لطف الله بعباده أن تظهر المعجزات على يد الأنبياء على طريق التدرّج حتى لا تصطدم بها عقول معاصريها دفعة واحدة. حكى القرآن في معجزات عيسى عليه السلام قوله: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ) . كان الله قديرا على أن يخلق الطير من الطين ومن غير الطين سواء كان في شكل الطير أم لم يكن، وكذلك لم يكن هناك من داع للنفخ، لأن طريق القدرة (كُنْ فَيَكُونُ) . ولكن شاء الله أن تظهر قدرته بطريق التدرج، لأن الطين إذا كان على شكل الطير يشتبه بالطير الحقيقي ولا يكون بينهما فارق إلا بالحياة، وعملية النفخ تجعل الرائي ينتظر تغييرا في الجسم كما يحدث ذلك في الكرة ونحوها إذا نفخ فيها، فإذا وجدت الروح في هذا الهيكل الطيني تكون حدّة الصدمة قد خفّت، لأن النفس كانت ترقب ما حدث، وجميع المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح. وكذلك خلق عيسى من نطفة الأم فقط، مع أن الحيوان في عالمنا لا يخلق إلا من نطفتى الأب والأم، ونظام الكائنات يجرى على سنن واحد إلا حيث يريد الله. وقد لطف الله بمريم فأراها ملكا في صورة بشر، وقال لها سأهب لك غلاما زكيا، فأجابته: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فرؤية الملك والأحوال التي أحاطت به أوجدت عندها بعض الشك في أنها ربما حملت بطريق غير عادى، وبهذا تهيأ احتمالها صدمة الحمل عند ما حصل.

وكان الله تعالى جعل النفخ يأخذ مكان نطفة الرجل، وكان تمثل الملك بصورة البشر كتمثل الطين بصورة الطير، والنفخ في مريم كالنفخ في الطين، وكل ذلك تقريب لفهم المعجزة، وإلا فعيسى خلق من نطفة مريم، والجزء الآخر بإذن الله وقدرته (كُنْ فَيَكُونُ) وسنن الله التي أوجدها في الكون وكفل لها الاستمرار وعدم التبدل والتي قام عليها نظام العالم (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) قد بدّلت في المعجزات بالقدرة الإلهية التي تضع جميع السنن، وكأنّ المعجزة سنة جديدة. والخلاصة- إن المعجزات كلها من صنع الله، وهى سنة جديدة غير ما نشاهد كل يوم، فحركة الشمس وطلوعها من المشرق مع عظمها لا تحدث دهشة لتعوّدنا إياها، ولكن إن طلعت من المغرب دون المشرق كان معجزة وأحدث غرابة ودهشة مع أن الحركتين من صنع الله لا فارق بينهما، ولكى لا تحدث الصدمة حين حصول المعجزة يهيئ الله الظروف لتحمّلها، ويهيئ النبي لقبولها، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها وقبولها، فأمر الله موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها بيضاء تهيئة لمعجزاته الأخرى، وليس للعقل أن يحكم أن أىّ المعجزات أعظم من الأخرى، لأنه يتكلم عن مجهول هو من صنع الله لا يعرفه، فلا يمكن الإنسان مهما ارتقى عقله أن يصل إلى صنعها، بل هى فوق قدرته. أما المخترعات العلمية فهى مبنية على السنن العلمية، مهما ظهرت مدهشة كالكهرباء والمسرّة (التليفون) وغاية ما هناك أن العلماء سخروها لأغراضهم، فالذى يتكلم فى أوربا ويسمع صوته في مصر بوساطة (الراديو) إنما استطاع ذلك، لأنه قد استخدم الهواء الذي يحمل أمواج الصوت إلى العالم كله، وهكذا حال سائر المخترعات، إنما هى كشف لناموس إلهى يتكرر دائما على يد كل إنسان، لكن المعجزات تجرى على طراز آخر، فهى خلق سنة جديدة في الكون، ولا تتكرر إلا بإذن الله، ولا يعرف الإنسان لها قاعدة ولا يدرك طريقا لصنعها اهـ كلامه رحمه الله.

(كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) أي وقلنا لهم كلوا مما رزقناكم من المنّ والسلوى واشربوا مما فجرنا لكم من الماء من الحجر الصّلد، وقد عبر عن الحال الماضية بالأمر ليستحضر السامع صورة أولئك القوم في ذهنه مرة أخرى حتى كأنهم حاضرون الآن والخطاب موجه إليهم. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا قدوة لغيركم فيه، وقد جاء هذا النهى عقب الإنعام عليهم بطيّب المأكل والمشرب خيفة أن ينشأ الفساد بزيادة التبسط فيهما، ولئلا يقابلوا النعم بالكفران. وقد أراد موسى أن يجتثّ أصول الشرك التي تغلغلت جذورها في نفوس قومه، ويربأبهم عن الذل الذي ألفته نفوسهم بتقادم العهد واستعباد المصريين إياهم، ويعوّدهم العزة والشمم والإباء بعبادة الله وحده. وكانوا لا يخطون خطوة إلا اجترحوا خطيئة، وكلما عرض لهم شىء من مشاقّ السفر برموا بموسى وتحسروا على فراق مصر وتمنّوا الرجوع إليها، واستبطئوا وعد الله فطلبوا منه أن يجعل لهم إلها غير الله، وصنعوا عجلا وعبدوه. وحينما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي وعدوا بها، اعتذروا بالخوف من أهلها الجبارين، كما قصه الله علينا: (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) فضرب الله عليهم التيه أربعين سنة حتى ينقرض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية، ويخرج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق، فتاهوا هذه المدة، وقضى الله أمرا كان مفعولا.

[سورة البقرة (2) : آية 61]

[سورة البقرة (2) : آية 61] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) تفسير المفردات الصبر: حبس النفس وكفها عن الشيء، والطعام: هو المنّ والسلوى وجعلوهما طعاما واحدا، لأنهما طعام كل يوم، والعرب تقول لمن يجعل على مائدته كل يوم ألوانا من الطعام لا تتغير: إنه يأكل من طعام واحد، والبقل: النبات الرّطب مما يأكله الناس والأنعام، والمراد به هنا ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر كالكرفس والنّعناع ونحوهما، والقثّاء: ما تسميه العامة (القتّة) والفوم: الحنطة، وقال جماعة منهم الكسائي إنه الثّوم ويرجّح هذا ذكر العدس والبصل. والاستبدال: طلب شىء بدلا من آخر، وأصل الأدنى الأقرب ثم استعمل للأخس الدّون، والهبوط: الانحدار والنزول، والمصر: البلد العظيم، وضربت: أي أحاطت بهم كما تحيط القبّة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم كما تطبع الطّغرى على السّكّة، والذلة: الذل والهوان، والمسكنة: الفقر، وسمى الفقير مسكينا لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، والمراد بها هنا فقر النفس وشحها، وباءوا بغضب: أي استحقوا الغضب، يعتدون: أي يتعدّون حدود الله. المعنى الجملي ذكر هنا جرما آخر من جرائم أسلافهم التي تدل على كفرانهم بأنعم الله، وترشد إلى أنهم دأبوا على إعنات موسى، وأنهم أكثروا من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم ويرتدّ بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة، ومع صادق وعده لهم بأن يمكّن لهم الدخول في الأرض الموعودة، ويرفع عنهم الخسف الذي كانوا فيه، ومع

الإيضاح

كثرة ما شاهدوا من الآيات الدالة على صدقه، كانوا في ريب من تحقيق ما قال لهم، ويظنون أنه خدعهم حين أخرجهم من مصر وجاء بهم إلى البريّة. وقد بلغ من إعناتهم له أن قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) وأن قالوا: (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) وهم يريدون بذلك أنه لا أمل لك في بقائنا معك على هذه الحال من التزام طعام واحد، وربما لم يكن صدر منهم هذا القول عن سأم وكراهية لوحدة الطعام، بل صدر عن بطر وطلب للخلاص مما يخشون. الإيضاح (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي وإذ قال أسلافكم من قبل إعناتا لموسى وبطرا بما هم فيه، لن نصبر على أن يكون طعامنا الذي لا يتغير أبدا هو المنّ والسلوى. (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) أي سل ربك لأجلنا بدعائك إياه أن يخرج لنا كذا وكذا، وإنما سألوه أن يدعولهم، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم، وقالوا ربك ولم يقولوا ربنا لأنه اختصه بما لم يعط مثله لهم، من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة، فكأنهم قالوا ادع لنا من أحسن إليك بما لم يحسن به إلينا، فكما أحسن إليك من قبل، نرجو أن يحسن إليك بإجابة هذا الدعاء. (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟) أي قال لهم موسى على سبيل التوبيخ والاستهجان: أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المنّ الذي فيه حلاوة تألفها الطباع، والسلوى الذي هو أطيب لحوم الطير، وهما غذاء كامل لذيذ وليس فيما طلبوا ما يساويهما؟ (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) أمرهم موسى أن ينزلوا من التيه ويسكنوا

مصرا من الأمصار إن كانوا يريدون ما سألوه، لأن هذه الأرض التي كتب الله عليهم أن يقيموا فيها إلى أجل محدود ليس من شأنها أن تنبت هذه البقول، والله تعالى لم يقض عليهم بالبقاء فيها إلا لضعف عزائمهم وخور هممهم عن أن يغالبوا من سواهم من أهل الأمصار، فهم الذين قضوا على أنفسهم بأكل هذا الطعام الواحد، ولا سبيل للخلاص مما كرهوا إلا بالإقدام على محاربة من يليهم من سكان الأرض الموعودة، والله كفيل بنصرهم، فليطلبوا ما فيه الفوز والفلاح لهم. (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي إن الله عاقبهم على كفران تلك النعم بالذل الذي يهوّن على النفس قبول الضيم والاستكانة والخضوع في القول والعمل، وتظهر آثار ذلك في البدن، فالذليل يستخذى ويسكن إذا طاف بخياله يد تمتد إليه، أو قوة قاهرة تريد أن تستذلّه وتقهره، وترى الذل والصغار يبدو في أوضاع أعضائه وعلى ظاهر وجهه. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي واستحقوا غضب الله بما حلّ بهم من البلاء والنقم فى الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي إن ما حلّ بهم من ضروب الذلة والمسكنة واستحقاق الغضب الإلهى، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى وهى معجزاته الباهرة التي شاهدوها، فإن إعناتهم له، وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم لها جاحدون منكرون. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فهم قتلوا أشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق: أي بغير شبهة عندهم تسوّغ هذا القتل، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق لشبهة تعنّ له، وكتابهم يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك. وفي قوله: بغير الحق مع أن قتل النبيين لا يكون إلا كذلك، مزيد تشنيع بهم،

[سورة البقرة (2) : آية 62]

وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم ولا متأولين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم. (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي إن كفرهم بآيات الله وجرأتهم على النبيين بالقتل، إنما كانا بسبب عصيانهم وتعديهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدى حدوده مرّة ضعف ذلك السلطان الديني في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد، إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه. [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) المعنى الجملي بعد أن أنحى باللائمة على اليهود في الآيات السالفة، وبيّن ما حاق بهم من الذل والمسكنة، وما نالهم من غضب الله جزاء ما اجترحوه من السيئات من كفر بآيات الله، وقتل للنبيين، وعصيان لأوامر الدين، وترك لحدوده، ومخالفة لشرائعه، ذكر هنا حال المستمسكين بحبل الدين المتين من كل أمة وكل شعب ممن اهتدى بهدى نبى سابق، وانتسب إلى شريعة من الشرائع الماضية، وصدق في الإيمان بالله واليوم الآخر، وسطع على قلبه نور اليقين، وأرشد إلى أنهم الفائزون بخيرى الدنيا والآخرة.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن المصدقين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من الحق من عند الله. (وَالَّذِينَ هادُوا) أي والذين دخلوا في اليهودية، يقال هاد القوم يهودون هودا وهادة: صاروا يهودا. (وَالنَّصارى) واحدهم نصران، وسموا بذلك من أجل أن مريم نزلت بعيسى في قرية يقال لها الناصرة. (وَالصَّابِئِينَ) هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء. (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) أي من تحلى منهم بالإيمان الخالص بالله والبعث والنشور وعمل صالح الأعمال. (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا وزينتها إذا عاينوا ما أعد الله لهم من نعيم مقيم عنده. والخلاصة- إن المؤمن إذا ثبت على إيمانه ولم يبدله، واليهودي والنصراني والصائبى إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وباليوم الآخر وعملوا صالحا ولم يغيروا حتى ماتوا على ذلك، فلهم ثواب عملهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا يعتريهم حزن، فمدار الفلاح هو الإيمان الصحيح الذي له سلطان على النفوس والعمل الصالح الذي به تتم سعادتها ويكتب لها به الفوز في الدنيا والآخرة. قال الإمام الغزالي: إن الناس في شأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أصناف ثلاثة: (1) من لم يعلم بها بالمرة، وهذا ناج حتما.

[سورة البقرة (2) : الآيات 63 إلى 64]

(2) من بلغته الدعوة على وجهها ولم ينظر في أدلتها إهمالا أو عنادا واستكبارا، وهذا مؤاخذ حتما. (3) صنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته ووصفه، بل سمعوا منذ الصبا أن كذابا مدلّسا اسمه محمد ادعى النبوة كما سمع صبياننا أن كذّابا يقال له المقفّع تحدّى بالنبوة كاذبا، فهؤلاء عندى في معنى الصنف الأول، فإن أولئك مع أنهم لم يسمعوا اسمه لم يسمعوا ضد أوصافه، وهؤلاء سمعوا ضد أوصافه وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب اهـ. [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) تفسير المفردات الطور: هو الجبل المعروف الذي ناجى فيه الله موسى عليه السلام، ورفعه قد فسره فى سورة الأعراف فقال: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) والنتق: الهزّ والزعزعة والجذب، فالنتق: فى الجبل كان بما يشبه الزلزال فيه، والخسران: ذهاب رأس المال أو نقصه. المعنى الجملي ذكر سبحانه في هاتين الآيتين جناية أخرى حدثت من أسلاف المخاطبين وقت التنزيل، ذاك أنه بعد أن أخذ الله عليهم المواثيق التي ذكرها بقوله: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) إلخ فقبلوها وأراهم من

الإيضاح

الآيات ما فيه مقنع لهم، رفع الجبل فوقهم كالظلة حتي ظنوا أنه واقع بهم، وطلب إليهم التمسك بالكتاب والعمل بما فيه بالجدّ والنشاط، كى يعدّوا أنفسهم لتقوى الله ورضوانه، ثم كان منهم أن أعرضوا عن ذلك وانصرفوا عن طاعته، ولولا لطف الله بهم لاستحقوا العقاب في الدنيا وخسروا سعادة الآخرة وهى خير ثوابا وخير أملا، لكن وفّقهم الله بعد ذلك فتابوا ورحمهم فقبل توبتهم. الإيضاح (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أي واذكروا يا بنى إسرائيل رفت أخذنا العهد على أسلافكم بالعمل بما في التوراة وقبولهم ذلك. (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) وكانت هذه الآية بعد أخذ الميثاق لكى يأخذوا ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد، لأن رؤية ذلك مما يقوّى الإيمان ويحرّك الشعور والوجدان ثمّ بين الميثاق فقال: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي وقلنا لهم خذوا الكتاب وهو التوراة بجدّ وعزيمة، ومواظبة على العمل بما فيه. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي وادّارسوه ولا تنسوا تدبر معانيه واعملوا بما فيه من الأحكام فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، كما أثر عن على أنه قال: يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. فحال التارك للشريعة المضيع لأحكامها أشبه بحال الجاحد المعاند لها، وهو جدير بأن يحشره الله يوم القيامة أعمى عن طريق الفلاح والسعادة حتى إذا لقى ربه (قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) فالجاحد للشريعة والناسي لها المضيع لأحكامها، لا يكون لها أثر في نفوسهما لا ظاهرا ولا باطنا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 65 إلى 66]

ومن ذلك تعلم أن الحجة قائمة على من ليس لهم حظ من القرآن إلا التغنّى بألفاظه وأفئدتهم هواء من عظاته، وأعمالهم لا تنطبق على ما جاء به، فما المقصد من الكتب الإلهية إلا العمل بما فيها لا تلاوتها باللسان وترتيلها بالأنغام، فإن ذلك نبذلها، قال الغزالي: وما مثل ذلك إلا مثل ملك أرسل كتابا إلى أحد أمرائه، وأمره أن يبنى له قصرا في ناحبة من مملكته، فلم يكن حظ الكتاب منه إلا أن يقرأه كل يوم دون أن يبنى القصر، أفلا يستحق هذا الأمير بعدئذ العقاب من الملك الذي أرسل به إليه؟. ثم ذكر لهم فائدة ذكره فقال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي ليعدّ نفوسكم لتقوى الله عزّ وجل: ذاك أن المواظبة على العمل تطبع في النفس سجيّة المراقبة لله، وبها تصير تقية نقية من أدران الرذائل راضية مرضية عند ربها (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) . (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة بعد أن أخذ عليكم الميثاق وأراكم من الآيات ما فيه عبرة لمن ادّكر. (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي فلولا لطف الله بكم وإمهاله إياكم إذ لم يعاملكم بما تستحقون، لكنتم من الهالكين بالانهماك فى المعاصي. والخلاصة- إنكم بتوليكم استحققتم العقاب، ولكن فضل الله عليكم ورحمته أبعده عنكم، ولولا ذلك لخسرتم سعادتى الدنيا والآخرة. [سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 66] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الاعتداء: تجاوز الحد في كل شىء، وواحد القردة قرد، وواحد الخاسئين خاسى وهو المبعد المطرود من رحمة الله، والنكال ما يفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر غيره، والموعظة: ما يلقى من الكلام لاستشعار الخوف من الله بذكر ثوابه وعقابه. المعنى الجملي فى هاتين الآيتين وما يتلوهما بعد- تعداد لنكث العهود والمواثيق التي أخذت على بنى إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام، وحلّ بهم جزاء ما عملوا من مسخهم قردة وخنازير، فأجدر بسلائلهم الذين كانوا في عصر التنزيل تتخلل دورهم دور الأنصار ألا يجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وألا يصرّوا على كفرهم وعدم التصديق بما جاء به، خوفا من أن يحلّ بهم ما حلّ بأسلافهم مما لا قبل لهم به من غضب الله. فمن عهودهم التي نكثوها أنهم اعتدوا يوم السبت، ذاك أن موسى عليه السلام حظر عليهم العمل في هذا اليوم، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم والاجتهاد في الأعمال الدينية، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم، وإضعافا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادّخاره، وأباح لهم العمل في ستة الأيام الأخرى. لكنهم عصوا أمره، وتجاوزوا حدود الدين، واعتدوا في السبت، فجازاهم الله بأشد أنواع الجزاء، فخرج بهم من محيط النوع الإنساني وأنزلهم أسفل الدركات، فجعلهم يرتعون في مراتع البهائم، وليتهم كانوا في خيارها، بل جعلهم في أخس أنواعها، فهم كالقردة في نزواتها، والخنازير في شهواتها، مبعدين من الفضائل الإنسانية، يأتون

الإيضاح

المنكرات جهارا عيانا بلا خجل ولا حياء، حتى احتقرهم كرام الناس، ولم يروهم أهلا لمعاشرة ولا معاملة. الإيضاح (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أي ولقد عرفتم نبأ الذين تجاوزوا منكم الحدّ الذي رسمه لهم الكتاب، وركبوا ما نهاهم عنه من ترك العمل الدنيوي، والتفرغ للعمل الأخروى يوم السبت، وسيأتى إيضاح هذا في سورة الأعراف. (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي فصيرناهم مبعدين عن الخير أذلاء صاغرين، روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، فلا تقبل وعظا، ولا تغى زجرا. وقد مثّل الله حالهم بحال القردة كما مثّلوا بالحمار في قوله: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها (لم يعملوا بما فيها) كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» . وذهب جمهور العلماء إلى أنهم مسخت صورهم فصارت صور القردة، وروى أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. ونظير الآية قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) الطاغوت: الشيطان. قال الأستاذ الإمام: والآية ليست نصا في رأى الجمهور ولم يبق إلا النقل، ولو صح ما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة، لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سنته في خلقه، وإنما العبرة الكبرى فى العلم بأن من سنن الله في الذين خلوا من قبل- أن من يفسق عن أمره ويتنكّب الصراط الذي شرعه له ينزله عن مرتبة الإنسان ويلحقه بعجماوات الحيوان، وسنة الله واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية اهـ.

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 إلى 73]

وفي هذا تأييد لرأى مجاهد وتفضيل له على رأى الجمهور. قال ابن كثير: والصحيح أن المسخ معنوى كما قال مجاهد لا صورى كما قال غيره. (فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي فجعلنا هذه العقوبة عبرة ينكل من يعلم بها أي يمتنع من الاعتداء على حدود الله، سواء منهم من وقعت فى زمانه أو من بعدهم إلى يوم القيامة. وهى أيضا موعظة للمتقين، لأن المتقى يتّعظ بها ويتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداءها كما قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها) فيتعظ بها غيره أيضا، ولن يتم الاتعاظ بها وتكون عقوبة للمتقدم والمتأخر إلا إذا جرت على سنن الله المطردة في تهذيب النفوس وتربية الشعوب، فرأى مجاهد أحرى بالقبول ولا سيما أنه ليس في الآية نصّ على كون المسخ في الصور والأجساد. [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 73] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

تفسير المفردات

تفسير المفردات البقرة: اسم الأنثى، والثور: اسم الذكر، والهزؤ: السخرية، والجهل: هنا فعل ما لا ينبغى أن يفعل، وقد يطلق على اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، والفارض: المسنّة التي انقطعت ولادتها، والبكر: الصغيرة التي لم تحمل بعد، والعوان: النصف فى السن من النساء والبهائم، والذلول: الريّض الذي زالت صعوبته، يقال دابة ذلول: بيّنة الذّل (بالكسر) ورجل ذلول بين الذل (بالضم) والإثارة: قلب الأرض للزراعة، والحرث: الأرض المهيأة للزرع، والمسلّمة: التي سلمت من العيوب، والشّية: العلامة أي لا لون فيها يخالف لونها، من وشى الثوب يشيه إذا زيّنه بخطوط مختلفة الألوان، والآيات: هى الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور الغريبة، وادّارأتم: أي تدارأتم من الدرء وهو الدفع، ويقال عقلت نفسي عن كذا: أي منعتها منه. المعنى الجملي في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ، وفيه من وجوه العبرة: (1) أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضى التشديد في الأحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وبما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: «وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال» . (2) أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه

الإيضاح

وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حبّ عبادته. (3) استهزاؤهم بأوامر الأنبياء. (4) أن يحيا القتيل بقتل حىّ فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها. وأول القصة معنى قوله: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) إلخ إذ هى المخالفة التي صدرت منهم ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) إلخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهى ذبح البقرة. وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب فى ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه، فإن الحكمة فى أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها والكتاب الكريم لا يراعى ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللبّ، ويأخذ بمجامع القلب، ويستوحى شغف السامع بما يدور حوله الحديث. الإيضاح (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) روى في سبب الذبح أنه كان في بنى إسرائيل شيخ موسر قتله بنو عمه طمعا في ميراثه، وحملوه إلى قرية أخرى وألقوه بفنائها، ثم جاءوا يطالبون بديته وادعوا على ناس منهم أنهم قتلوه، فسألهم موسى فجحدوا فاشتبه الأمر، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ما خفى من أمر القاتل، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها فيحيا ويخبر بقاتله (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟) أي قالوا: أتجعلنا موضع سخرية وتهزأ بنا؟ نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة وهذا غاية في الغرابة، وبعيد كل البعد عما نريد،

وقد كان الواجب عليهم أن يتمثلوا أمره ويقابلوه بالتجلة والاحترام، ثم ينظروا ما يحدث بعد، فهذا القول منهم دليل على السفه وخفّة الأحلام، وجفاء الطبع والجهل بقدرة الله تعالى. (قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي ألتجئ إلى الله من الهزؤ والسخرية بالناس، إذ هو في مقام تبليغ أحكام الله دليل السفه والجهل. (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي سله لأجلنا أن يكشف لنا عن الصفات المميزة لها، وقد سألوا عن صفتها لما قرع أسماعهم بما لم يعهدوه، فإن بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا موضع العجب والغرابة والحيرة والدهشة، ومن ثم أكثروا من الأسئلة فأجيبوا بأجوبة فيها تغليظ عليهم. (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة، بل هى وسط بينهما. (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه، ولا يخفى ما في هذا من التحذير والتنبيه على ترك التعنت، وكان يجب عليهم الاكتفاء به والمبادرة إلى الامتثال، لكنهم أبوا إلا تنطّعا واستقصاء فأعادوا الطلب. (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها، قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) سألوا عن لونها فأجيبوا بما فيه الكفاية في بيان مميزاتها، لكنهم ما قنعوا بهذا، بل زادوا في الإلحاف وإعادة السؤال مرة أخرى. (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) هذا سؤال لطلب إيضاح زيادة على ما تقدم ككونها عاملة أو سائمة، وإظهار، لأنه لم يحصل لهم تمام البيان. ثم ذكروا السبب في إعادة السؤال. (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي لأن وجوه البقر تتشابه، وفي الحديث إنه ذكر فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر- أي يشبه بعضها بعضا.

(وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى البقرة المأمور بذبحها، أو لما خفى من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لو لم يستثنوا ويقولوا إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد» . (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) أي إنها بقرة لم تذلّل بالعمل في الحراثة والسقي، وهى سالمة من العيوب، ولا لون فيها غير الصفرة الفاقعة. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي إنك الآن أظهرت حقيقة ما أمرنا به بعد ذكر هذه المميزات التي ذكرتها لنا. (فَذَبَحُوها) أي فطلبوا البقرة الحاوية لكل الأوصاف السالفة، حتى وجدوها فذبحوها. (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وما قاربوا أن يذبحوها إلا بعد أن انتهت أسئلتهم، وانقطع ما كان من تنطعهم وتعنتهم. والخلاصة- فذبحوها بعد توقف وبطء، روى ابن جرير عن ابن عباس: «لو ذبحوا أىّ بقرة أرادوا لأجزأتهم، ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم» . (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) هذا مؤخر لفظا مقدم معنى، لأنه أول القصة- أي وإذ قتلتم نفسا وأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى، فقال موسى إن الله يأمركم إلى آخر الآيات ولم يقدم لفظا، لأن الغرض إنما هو ذبح البقرة للكشف عن القاتل، وأسند القتل إلى اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم لأنهم سلائل أولئك، وهم راضون بفعلهم، كما أسنده إلى الأمة والقاتل واحد، لأن الأمة في مجموعها كالشخص الواحد، فيؤخذ المجموع بجريرة الواحد كما قال أبو الطيب: وجرم جرّه سفهاء قوم ... فحلّ بغير جارمه العقاب

[سورة البقرة (2) : آية 74]

(فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي تدافعتم وتخاصمتم في شأنها، وكل واحد يدرأ عن نفسه ويدّعى البراءة ويتهم سواه. (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي والله مظهر لا محالة ما كتمتم وسترتم من أمر القتل، فمن كان يعرف أمره يكتمه لهوى في نفسه وأغراض تبعد عنه الضغن والعداوة. (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) أي اضربوا المقتول ببعض البقرة، أىّ بعض كان، وقيل بلسانها، وقيل بفخذها. (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى) أي فضربوه فحيى، وقلنا: كذلك يحيى الله الموتى، أي مثل ذلك الإحياء العجيب يحيى الله الموتى يوم القيامة، وقد روى أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما، وقال قتلنى فلان وفلان وهما ابنا عمه، ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا. وإنما أمرهم بالضرب ولم يضرب بنفسه نفيا للتهمة، كيلا ينسب إلى السحر والشعوذة. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) وهى الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور البديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبار الميت بقاتله، مما ترتب عليه الفصل في الخصومة وإزالة أسباب الفتن والعداوة. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها، وتطيعون الله فيما يأمركم به. [سورة البقرة (2) : آية 74] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

تفسير المفردات

تفسير المفردات القسوة: اليبس والصلابة، يتفجر: يتفتح ويتشقق بكثرة وسعة، ويهبط: يتردّى وينزل، والخشية: الخوف. المعنى الجملي وصف الله حال بنى إسرائيل بعد أن رأوا من آياته التي آتاها موسى عليه السلام ما رأوا، كانفجار الماء ورفع الجبل، ومسخهم قردة وخنازير، وإحياء القتيل إلى نحو ذلك- وصفهم بقساوة القلوب، وضعف الوازع الديني فيها، حتى أصبحت كالصمّ الصلاد، بل أشدّ منها قسوة، فلا أثر فيها لعاطفة عبرة، ولا شعور لها بعظة، فقد فقدت التأثر والانفعال، وكأنّ أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى دركات الجماد كالحجارة، بل نزلوا إلى ما دونها فإن من الحجارة ما يتأثر فيشقّه الماء العذب الزّلال الذي يسيل أنهارا وجداول وعيونا يستقى منها الإنسان والحيوان، ويحيى الأرض، وينفع النبات ومنها ما ينحطّ من أعلى الجبل، أو من أثنائه بحادث من حوادث الكون الهائلة كالبرا كين والزلازل والصواعق التي تدكّ الصخور وتدمّر الحصون. أما هذه القلوب فلم تتأثر بالعظات والعبر، ولم تستطع تلك النذر أن تشقها وتنفذ إلى أعماق الوجدان فيها، وصارت لا تهزّها الآيات الكونية الرهيبة التي أظهرها الله على يد نبيه، فقد كانوا مع كل ما يرونه لا يزدادون إلا عنادا، وعتوّا في الأرض وفسادا. الإيضاح (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أي إن قلوبكم صلبت بعد إذ رأيتم الحق وعرفتموه، واستكبرت عن الخضوع والإذعان لأمر الدين، فهى كالحجارة صلابة ويبسا، بل أشد منها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 75 إلى 79]

والسر في تشبيه القلوب بالحجارة دون غيرها من نحو الحديد والصّفر، أن كلا منهما يسيل بالإحماء بالنار بخلاف الحجر. (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) أي إن هذه الحجارة تارة تتأثر تأثرا يعود بمنفعة عظيمة على الناس والحيوان والزرع بخروج الأنهار منها، وأخرى تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعه قليلة فتنبع منه العيون والآبار، وحينا تتأثر بالتردي والسقوط بلا منفعة للناس وقلوب هؤلاء لا تتأثر بحال، فلا تجدى فيها الحكم والمواعظ التي من شأنها أن تنفذ في الوجدان وتصل إلى الجنان. (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي إن الله لكم بالمرصاد، فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم ثم يجازيكم بها، وهو يربّيكم بصنوف النقم إذا لم تجد فيكم ضروب النعم، ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد. [سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 79] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

المعنى الجملي

المعنى الجملي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شديدى الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم فى تعاليمه ومبادئه وأغراضه، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدّق لما معهم. فقصّ الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تلو الآية، ويحلّ بهم من العقاب ما هم له أهل، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب، ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له: لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك، حتى نسمع كلام الله ومناجاته إياك، فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحى، ومصاحبته إلى حيث يناجى ربه، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه- ثم كان منهم أن حرّفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبت عندهم في التوراة، وهى كتابهم المقدس. فلا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرّفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدى موسي عليه السلام، فأحر بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية، وهى القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته، لجأوا إلى

الإيضاح

السيف والسّنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان ثم ذكر حالا أخرى لهم هى أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيء الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقلّ أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب نخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين اتجاه ربح السفينة. أما عامتهم فلا علم لهم بشىء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان. الإيضاح (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الطمع تعلق النفس بإدراك ما تحب تعلقا قويا، وهو أشد من الرجاء، أن يؤمنوا لكم، أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم إياهم، والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه، من بعد ما عقلوه: أي ضبطوه وفهموه ولم تشتبه عليهم صحته، وفي ذلك إيماء إلى تعمدهم وسوء قصدهم، وإبطال لما عساه أن يعتذر لهم به من سوء الفهم، وقوله: وهم يعلمون، أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين، وفي هذين الوصفين نعى عليهم وتسجيل لتعمق الفسوق والعصيان فيهم. وخلاصة المعنى- استبعاد الطمع في إيمان هؤلاء، فقد كان لهم سلف من الأحبار والرؤساء على تلك الحال الشنيعة من تحريف لكلام الله بعد سماعه وتأويله بحسب ما يشاءون، وليس هؤلاء بأحسن حالا من أولئك. (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي وإذا لقى اليهود أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال المنافقون منهم: إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به.

(وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟) قوله: فتح الله عليكم، أي بيّنه لكم خاصة في التوراة من الأحكام والبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنه بالفتح للإشارة إلى أنه سر مكتوم وباب مغلق لا يقف عليه أحد، وقوله: (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) أي ليحتجوا عليكم به فيقطعوكم بالحجة ويبكتوكم وقوله: (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي في حكمه وكتابه، وقوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش وأن ذلك يكون حجة عليكم. أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين وعاذلين لهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي الذي يجىء مصدقا لما معهم كى يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم، من قبل أن ما حدّثوا به موافق لما في القرآن، ولولا أن محمدا نبىّ لما علم بهذا الذي حكاه عنهم. (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي أيقول اللائمون ما قالوا، ويكتمون من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما كتموا. ويحرّفون من كتابهم ما حرّفوا؟ ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد، وما يعلنون من إظهار إيمان وودّ، فإن كانوا يؤمنون بأن الله محيط بكل شىء علما، فلم لا يخشون بأسه، وهو المطّلع على الظاهر، والعالم بما يجول في الضمائر، والمجازى على ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب المهين فى الآخرة؟ (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الأميون واحدهم أمي، وهو من لا يقرأ ولا يكتب، أي إنه يكون كما ولدته أمه، ومنه الحديث: «إنّا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب» ، والأمانى: واحدها أمنية وهى التلاوة كما قال كعب ابن زهير: تمنّى كتاب الله أوّل ليلة ... وآخره لاقى حمام المقادر

أي إنه لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الألفاظ من غير فهم للمعنى ولا تدبر له بحيث يظهر أثرهما في العمل، وهذا على حدّ قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) . (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظنّ من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم المبنى على البرهان القاطع الذي لا شكّ فيه. وقد كانوا أكثر الناس جدلا ومراء في الحق وإن كان بيّنا ظاهرا، وأشدّهم كذبا وغرورا وأكلا لأموال غيرهم بالباطل من ربا فاحش وغشّ وتدليس، وهم مع ذلك يعتقدون أنهم أفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الويل كلمة يقولها من يقع في هلكة، وهى دعاء على النفس بالعذاب كما جاء في قوله تعالى حكاية عن الكافرين (يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ) . أي هلاك عظيم لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون لعوامّهم. هذا المحرّف من عند الله في التوراة. (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أي ليأخذوا لأنفسهم في مقابلة هذا المحرّف ثمنا وهى الرّشى التي كانوا يأخذونها جزاء ما صنعوا، ووصف الثمن بالقلة وقد يكون كثيرا، لأن كل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل، لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها. وقد روى أن الآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي في التوراة فغيّروها. ثم كرر الوعيد فقال: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرّف، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي.

[سورة البقرة (2) : الآيات 80 إلى 82]

وقد جنى اليهود الكاتبون ثلاث جنايات: تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهدّدوا على كل جناية بالويل والثبور. قال الأستاذ الإمام محمد عبده: من شاء أن يرى نسخة مما كان عليه اليهود من قبل فلينظر فيما بين يديه فانه يراها واضحة جلية، يرى كتبا ألّفت في عقائد الدين وأحكامه، حرّفت فيها مقاصده وحوّلت إلى ما يغرّ الناس ويمنيهم ويفسد عليهم دينهم ويقولون هى من عند الله وما هى من عند الله، وإنما هى صادّة عن النظر في كتاب الله والاهتداء به- ولا يعمل هذا إلا أحد رجلين: رجل مارق من الدين يتعمد إفساده، ويتوخى إضلال أهله، فيلبس لباس الدين ويظهر بمظهر أهل الصلاح، يخادع الناس بذلك ليقبلوا ما يكتب ويقول، ورجل يتحرى التأويل ويستنبط الحيل، ليسهل على الناس مخالفة الشريعة ابتغاء المال والجاه اهـ. [سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) تفسير المفردات المسّ واللمس بمعنى، والمراد بالنار نار الآخرة، والمعدودة: المحصورة القليلة، والعرب تقول: شىء معدود، أي قليل، وغير معدود: أي كثير، والعهد: الوحى وخبر الله الصادق، بلى: لفظ يجاب به بعد كلام منفى سابق ومعناه إبطاله وإنكاره، والكسب: جلب النفع، فاستعماله في السيئة من باب التهكم، والسيئة: الفاحشة الموجبة للنار، والإحاطة الشمول كأن السيئة تحصر صاحبها وتأخذ جوانب قلبه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهؤلاء يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم. الإيضاح (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام، لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة، فمن لم تدركه النجاة ويلحقه الفوز والسعادة يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم، وقيل إنها تمسهم أربعين يوما، وهى المدة التي عبدوا فيها العجل. (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) أي أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقّا؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله وعده. (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلّغه الرسل عنه، وبدون هذا يكون افتياتا على الله وجراءة عليه، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح. وخلاصة هذا- إن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن أحد أمرين: إما اتخاذ عهد من الله، وإما افتراء وتقوّل عليه، وإذ كان اتخاذ العهد لم يحصل فأنتم كاذبون فى دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدّعون أنكم أبناء الله وأحباؤه. (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ليس الأمر كما ذكرتم، بل تمسّكم النار وتمسّ غيركم دهرا طويلا، فكل من أحاطت به خطيئاته وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه واسترسل في شهواته، وأصبح

سجين آثامه، فجزاؤه النار خالدا فيها أبدا لما اقترف من أسبابها بانغماسه في الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب. والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله، وصاحبه مخلد في النار، وبعض العلماء حمل السيئة على معناها العام، وقال إن الخلود هنا المكث الطويل بمقدار ما يشاء الله، فالعاصى مرتكب الكبائر يمكث فيها ردحا من الزمان ثم يخرج منها متى أراد الله تعالى، وإذا أحدث المرء لكل سيئة توبة نصوحا، وإقلاعا صحيحا عن الذنب فلا تحيط به الخطايا، ولا ترين على قلبه السيئات، روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن: (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) » . (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين صدّقوا الله ورسله، وآمنوا باليوم الآخر وعملوا صالح الأعمال فأدّوا الواجبات، وانتهوا عن المعاصي فأولئك جديرون بدخول الجنة جزاء وفاقا على إخباتهم لربهم وإنابتهم إليه وإخلاصهم له في السرّ والعلن. وفي هذا دليل على أن دخول الجنة منوط بالإيمان الصحيح والعمل الصالح معا، كما روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسفيان بن عبد الله الثقفي، وقد قال له يا رسول الله. قل لى في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله، ثم استقم» رواه مسلم. وقد جرت سنة الله في القرآن أن يشفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة، وإرشاد العباد من الترغيب مرة والترهيب أخرى، والتبشير طورا والإنذار طورا آخر، إذ باللطف والقهر يرقى الإنسان إلى درجة الكمال، ويفوز برضوان الله وحسن توفيقه (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) .

[سورة البقرة (2) : آية 83]

[سورة البقرة (2) : آية 83] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) تفسير المفردات الميثاق: العهد الشديد المؤكد، وهو قسمان: عهد خلقة وفطرة، وعهد نبوة ورسالة وهو المراد هنا، وهذا العهد أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم، واليتيم: من الحيوان ما لا أمّ له، ومن الإنسان من لا أب له، وأصل المادة يفيد الانفراد، ومنه الدرّة اليتيمة لانفرادها في العقد، والمسكين: هو العاجز عن الكسب. المعنى الجملي ذكّر سبحانه في الآيات السابقة بنى إسرائيل الذين كانوا في عصر التنزيل بما أنعم الله به على آبائهم من النعم كتفضيلهم على العالمين، وإنجائهم من الغرق وإنزال المنّ والسلوى عليهم، ثم ما كان يحصل إثر كل نعمة من مخالفة، فحلول عقوبة، فتوبة من الذنب بعد ذلك. وفي هذه الآية ذكّرهم بأهمّ ما أمر به أسلافهم من عبادات ومعاملات، ثم ما كان منهم من إهمالها وترك اتباعها، وسيعاد الكلام فيها أيضا بعد، لأن المقام يحتاج إلى الإطناب والبسط، ولأن القلوب مستحجرة لا ينفذ شعاع الحق في أكنافها، وأذهانهم كليلة فهى في حاجة إلى التكرار بين آن وآخر، لعلها ترجع إلى رشدها. وقد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا ليؤديهم التأمل في أحوالهم، إلى قطع الطمع في إيمانهم، لأن قبائح أسلافهم تمنعهم من الهدى والرشاد كما قال: إذا طاب أصل المرء طابت فروعه

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي واذكر أيها الرسول حين أخذنا عليهم الميثاق. ثم بين هذا الميثاق فقال: (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) يقال أخذت عليك عهدا تفعل كذا، وأن تفعل كذا، ويرد مثل هذا الخبر في كلامهم متضمنا معنى النهى أو الأمر كما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت، على معنى اذهب وقل له، وفيه مبالغة وتوكيد كأن المخاطب سيمتثل النهى حتما ويسارع إلى الترك فيخبر به الناهي، أي لا تعبدوا إلا الله. وقد نهوا عن عبادتهم غير الله مع أنهم كانوا يعبدون الله خوفا من أن يشركوا به سواه من ملك أو بشر أو صنم بدعاء أو غيره من أنواع العبادات. ودين الله على ألسنة الرسل جميعا فيه الحث على عبادة الله وعدم الشرك بعبادة أحد سواه (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فالتوحيد عماده الأمران معا. (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أحسنوا إليهما، بأن تعطفوا عليهما وترعوهما حق الرعاية، وتنزلوا عند أمرهما فيما لا يخالف أوامر الله، وقد جاء في التوراة أن من يسبّ والديه يقتل. والحكمة في البرّ بهما أنهما قد بذلا للولد وهو صغير كل عناية وعطف بتربيته والقيام بشئونه، حين كان عاجزا ضعيفا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا، مع الشفقة التي لا مزيد عليها، أفلا يجب عليه بعدئذ مكافأتهما جزاء وفاقا لما صنعا؟ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) . ولحب الوالدين لولدهما أسباب: (1) الحنان الفطري الذي أودعه الله فيهما إتماما لحكمته في بقاء الأنواع إلى الأمد الذي قدره في سابق علمه.

(2) التفاخر بالأبناء كما قال ابن الرومي: وكم أب قد علا بابن ذرا شرف ... كما علت برسول الله عدنان (3) الأمل في الاستفادة منهما مالا وعونا على المعيشة. وهذا الحب لا يحتاج إلى ما يقوّيه ويوثّق صلته، ومن ثم ترك القرآن النص عليه. (وَذِي الْقُرْبى) لأن الإحسان إليهم مما يقوّى الروابط بينهم. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان فما الأمة إلا مجموعة الأسر والبيوت، فصلاحها بصلاحها وفسادها بفسادها، ومن لا بيت له لا أمّة له، ومن قطع لحمة النسب فكيف يصل ما دونها، وكيف يكون جزاء من الأمة، يسره ما يسرها ويؤلمه ما يؤلمها، ويرى في منفعتها منفعته، وفي مضرتها مضرته. ونظام الفطرة قاض بأن صلة القرابة أمتن الصلات، وجاء الدين حاثا عليها مؤكدا لأواصرها، مقويا لأركانها، مقدما لحقوقها على سائر الحقوق بحسب درجات القرابة. (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) فالإحسان إلى اليتيم بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع، والكتاب والسنة مليئان بالوصية به، وحسبك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وأشار بالسبّابة الوسطى. والسر في هذا أن اليتيم لا يجد في الغالب من تبعثه العاطفة على تربيته والقيام بشئونه وحفظ أمواله، والأم وإن وجدت تكون في الغالب عاجزة عن تنشئته وتربيته التربية المثلى، إلى أن الأيتام أعضاء في جسم الأمة، فإذا فسددت أخلاقهم وساءت أحوالهم، تسرّب الفساد إلى الأمة جمعاء، إذ يصبحون قدوة سيئة بين نشئها، فيدبّ فيها الفساد ويتطرّق إليها الانحلال، وتأخذ في الفناء. والإحسان إلى المساكين يكون بالصدقة عليهم ومواساتهم حين البأساء والضراء، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الساعي على الأرملة

والمسكين كالمجاهد في سبيل الله (وأحسبه قال) وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر» . وقد اليتيم على المسكين، لأن هذا يمكنه أن يسعي بنفسه للحصول على قوته، بخلاف الأول فإن الصغر مانع له من ذلك. (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أمر الله أولا بالإحسان بالمال لأقوام مخصوصين، وهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين، إذ لا يمكن الشخص أن يحسن به إلى الناس جميعا، لأنه لا يسع كل الأمة، ومن ثم اكتفى في حقوق سائر أفرادها بحسن العشرة والقول الجميل، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع لهم فى الدين والدنيا. وفي القيام بهذه الفرائض إصلاح لحال المجتمع وسعى في رقيه وتقدمه حتى يبلغ ذروة المجد والشرف. وبعد أن أمرهم سبحانه بعبادته وحده على سبيل الإجمال، فصّل بعضا من ذلك مما لا يهتدى إليه إلا بهدى إلهى ووحي سماوى فقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) لأن الصلاة هى التي تصلح النفوس وتنقيها من أدران الرذائل، وتحليها بأنواع الفضائل، وروحها هو الإخلاص لله والخشوع لعظمته وسلطانه، فإن فقدته كانت صورا ورسوما لا تغنى فتيلا، وهم ما تولّوا ولا أعرضوا عن تلك الصور والرسوم إلى عصر التنزيل، بل إلى يومنا هذا. ثم الزكاة لما فيها من إصلاح شئون المجتمع، وقد كان لهم ضروب من الزكاة منها مال خاص يؤدى لآل هارون، وهو إلى الآن في اللاويين (سبط من أسباطهم) ومنها مال للمساكين، ومنها ما يؤخذ من ثمرات الأرض، ومنها سبت الأرض وهو تركها في كل سبع سنين مرة بلا حرث ولا زرع، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقة. (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) أي ثم كان من أمركم أن توليتم عن العمل بالميثاق ورفضتموه وأنتم في حال الإعراض عنه وعدم الاهتمام بشأنه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 84 إلى 86]

وفي قوله: (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) مبالغة في الترك المستفاد من التولي، لأن الإنسان قد يتولى عن شىء وهو عازم على أن يعود إليه ويؤدى ما يجب له، فليس كل من تولّى عن شىء يكون معرضا عنه. وقد كان من توليهم وإعراضهم أن اتخذوا الأحبار والرهبان أربابا مشرّعين يحلّون ويحرّمون، ويبيحون ويحظرون، ويزيدون ما شاءوا من الشعائر والمناسك الدينية، فكأنهم شركاء لله يشرّعون لهم ما لم يأذن به الله، كما كان من توليهم أن بخلوا بالمال في الواجبات الدينية كالنفقة على ذوى القربي وأداء الزكاة، وتركوا النهى عن المنكر إلى نحو ذلك مما يدل على الاستهتار بأمور الدين، وقوله: (إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ) أخرج بعض من كانوا في عهد موسى عليه السلام ممن أقام اليهودية على وجهها، ومن كان في عصر التنزيل أو بعده وأسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه من المخلصين المحافظين على الحق بقدر الطاقة، وفائدة ذكره عدم بخس العاملين حقهم، والإشادة بذكرهم، والإشارة إلى أن وجود القليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعمّ البلاء، وقد جرت سنة الله بأن بقاء الأمة عزيزة مرهوبة الجانب ذات سطوة وبأس، إنما يكون بمحافظة السواد الأعظم فيها على الأخلاق الفاضلة والدأب على العمل الذي به تستحق العزّ والشرف. بعد هذا لا عجب فيما ترى من حلول الكرب والبلاء بالمسلمين الذين فتنوا في دينهم ودنياهم وهم غافلون لا هون، لا يعتبرون ولا يذّكرون. [سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

تفسير المفردات

تفسير المفردات السفك: الصبّ والإراقة، والتظاهر: التعاون، والإثم: هو الفعل الذي يستحق فاعله الذمّ واللوم، والعدوان: تجاوز الحد في الظلم. المعنى الجملي ذكّر الله بنى إسرائيل في الآية السابقة بأهمّ ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوى القربى، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك. وفي هذه الآيات ذكّرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل، إرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر ما داموا على سنتهم، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم، كما أن ما يفعله الشخص حين الصغر يؤثر في قواه العقلية وأخلاقه النفسية حين الكبر، والمشاهدة أكبر برهان على ذلك. الإيضاح (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي وإذ أخذنا عليكم العهد: لا يريق بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم

وأوطانهم، وقد جعل غير الرجل كأنه نفسه، ودمه كأنه دمه إذا اتصل به دينا أو نسبا، إشارة إلى وحدة الأمة وتضامنها، وأن ما يصيب واحدا منها فكأنما يصيب الأمة جمعاء، فيجب أن يشعر كل فرد منها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم، فالروح الذي يحيا به والدم الذي ينبض في عرقه هو كدم الآخرين وأرواحهم، لا فرق بينهم فى الشريعة التي وحّدت بينهما في المصالح العامة، وهذا ما يومئ إليه الحديث: «إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» . وقد يجوز أن يكون المعنى لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل قصاصا، أو بالإخراج من الديار فتكونون كأنكم قد قتلتم أنفسكم، لأنكم فعلتم ما تستحقون به القتل، كما يقول الرجل لآخر قد فعل ما يستحق به العقوبة: أنت الذي جنى على نفسه. (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي ثم أقررتم بهذا الميثاق أيها الحاضرون المخاطبون واعترفتم به ولم تنكروه بألسنتكم، بل شهدتم به وأعلنتموه، فالحجة عليكم قائمة- وقد يراد- وأنتم أيها الحاضرون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق وقبوله، وشهودهم الوحى الذي نزل به على موسى عليه السلام. (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق تنقضون العهد فتقتلون أنفسكم: أي يقتل بعضكم بعضا كما كان يفعل من قبلكم، مع أنكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم. ومن حديث ذلك أن بنى قينقاع من اليهود كانوا حلفاء الأوس وأعداء لإخوانهم فى الدين بنى قريظة، كما كان بنو النضير حلفاء الخزرج، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء يقتتلون، ومع كل حلفاؤه، وهذا مانعاه الله على اليهود بقوله: (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) .

(وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) كان كل من اليهود يظاهر حلفاءه من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب، والعدوان كالإخراج من الديار. (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) أي وكانوا إذا أسر بعض العرب وحلفاؤهم من اليهود بعضا من اليهود أعدائهم واتفقوا على فداء الأسرى، يفدى كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه، ثم يعتذرون عن هذا بأن الكتاب أمرهم بفداء أسرى ذلك الشعب المقدس، فإن كانوا مؤمنين حقّا بما يقولون، فلم قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم والكتاب ينهاهم عن ذلك؟ أفليس هذا إلا لعبا واستهزاء بالدين؟ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟) أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون إلخ وذلك أن الله أخذ على بنى إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وقال: أيّما عبد أو أمة وجدتموه من بنى إسرائيل فاشتروه وأعتقوه- لكنهم قتلوا وأخرجوا من الديار مخالفين العهد، وافتدوا الأسرى على مقتضى العهد، أفليس هذا إلا إيمانا ببعض الكتاب، وكفرا ببعضه الآخر؟ وذلك منتهى ما يكون من الجماقة، فإن الإيمان لا يتجزأ، فالكفر ببعضه كالكفر بكله. قال الأستاذ الإمام: فى التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب لا يتألم ولا يندم بعد وقوعه، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله عنه وتحريمه له فهو كافر به، وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة، نحو: «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن» اهـ. ثم توعدهم على نقضهم الميثاق الذي جعلهم أمة واحدة، ذات شريعة هى رباط وحدتهم بخزي عاجل في هذه الحياة، وعذاب آجل في الآخرة فقال:

(فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) فقد دلت المشاهدة على أن كل أمة تفسق عن أمر ربها وتطرح أوامر دينها وراءها ظهريّا يتفرق شملها، وينزل بها عذاب الهون جزاء فساد أخلاقها وكثرة شرورها. أما من استقاموا على الطريقة، وزكت نفوسهم وصلحت أحوالهم فلهم عند ربهم نعيم مقيم، يرشد إلى ذلك قوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» . ثم زاد في الوعيد والتهديد والزجر الشديد فقال: (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهو مجازيكم على ما اجترحتم من السيئات. ثم أكد عظيم حماقتهم وسيىء إجرامهم، ثم شديد نكالهم على ما اجترحوا فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة، فقدّموا حظوظهم في هذه الحياة على حظوظهم في الحياة الأخرى، بما أهملوا من الشرائع، وتركوا من أوامرها التي يعرفونها كما يعرفون أبناءهم كالانتصار للحليف المشرك، ومظاهرته على قومه الذين تجمعهم وإياه رابطة الدين والنسب، وإخراج أهله من دياره ابتغاء مرضاته. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) يوم القيامة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لأن أعمالهم قد سجلت عليهم الشقاء، وأحاطت بهم الخطايا من كل جانب، فسدّت عليهم باب الرحمة، وقطعت عنهم الفيض الإلهي، فلا يجدون شافعا ينصرهم، ولا وليّا يدفع عنهم ما حلّ بهم من النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.

[سورة البقرة (2) : الآيات 87 إلى 88]

[سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 88] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) تفسير المفردات قفاه به: إذا أتبعه إياه، وعيسى بالسريانية: يسوع ومعناه السيد أو المبارك، ومريم بالعبرية: الخادم لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس، والبينات: الحجج الواضحة التي أوتيها عليه السلام من المعجزات، وأيدناه: أي قويناه، وروح القدس: أي الروح المقدس المطهر، وهو جبريل عليه السلام الذي ينزل على الأنبياء ويقدّس نفوسهم ويزكّيها، ويطلق عليه الروح الأمين كما قال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) والغلف: واحدها أغلف وهو الذي لا يفقه ما يقال له. المعنى الجملي جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن تأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، ويفسقون عن أمر ربهم، ويحرفون ما جاءهم من الشرائع بضروب من التأويل، وينسون ما أنذروا به من قبل، يرشد إلى هذا قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) . من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسو القلوب، وقد كان الشعب الإسرائيلى أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، فليس لهم من العذر ما يسوّغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها،

الإيضاح

ولكن كانوا يطيعون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم، ويعصون رسلهم، فمنهم من كذّبوه، ومنهم من قتلوه. الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي ولقد أعطينا موسى الكتاب المقدس وهى التوراة، ثم أتبعنا من بعده رسولا بعد رسول مقتفين أثره، فلم يمض زمن إلا كان فيه نبىّ أو أنبياء يأمرون وينهون، فلا عذر لهم في نسيان الشرائع أو تحريفها وتغيير أوضاعها. ثم خصّ من أولئك الرسل عيسى عليه السلام فقال: (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي وأعطينا عيسى المعجزات الباهرة التي تدل على صدق نبوته وأنه موحى إليه من ربه، وأيدناه بروح الوحى الذي يؤيد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم كما قال: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) الآية، وأرسلناه بعد ظهور كثير من الرسل ولم يكن حظه بينهم أحسن من حظ سابقيه. ثم بيّن ماذا كان حظ الرسل من بنى إسرائيل فقال: (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ؟) أي أبلغ الأمر بكم أنكم كلما جاءكم رسول من رسلى بغير الذي تهوى نفوسكم استكبرتم عليه تجبرا وبغيا فى الأرض؟ (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) أي فبعضا منهم تكذبون كعيسى ومحمد عليهما السلام، وبعضا تقتلون كزكريا ويحيى عليهما السلام، فلا عجب بعد هذا إن لم تؤمنوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن العناد والجحود من طبعكم، وسجية عرفت عنكم، ولا غرابة في صدور ما صدر منكم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 89 إلى 91]

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي وقالوا قلوبنا مغطاة بأغشية خلقية مانعة من تفهم ما جئت به، ونحو هذا قولهم: (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) القائلون هم الذين كانوا منهم عصر التنزيل. ثم رد عليهم وكذبهم فيما زعموا فقال: (بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ليس الأمر كما يدّعون، بل قلوبهم خلقت مستعدة بحسب الفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق، لكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه اتباعا لأهوائهم. وقد ذكر اللعن وعلته جريا على سنة الله في ربط المسببات بأسبابها، وبيان أن الله لم يظلمهم بهذا، بل هم ظلموا أنفسهم بالتمادى في الكفر والعصيان. ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سبق فقال: (فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ) أي فهم يؤمنون إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب وتحريف بعضه الآخر أو ترك العمل به، والذي آمنوا به كان قولا باللسان تكذبه الأعمال إذ لم يكن للإيمان سلطان على قلوبهم، فيكون هو المحرّك لإرادتهم، وإنما يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة. وقد يكون المعنى كما قال ابن جرير: إنه لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به إلا القليل منهم، فالمخالفة لم تغمر كل الشعب، بل غمرت الأكثر منهم ونجا نفر قليل. [سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 91] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يستفتحون: أي يستنصرون، وشرى واشترى يستعملان حينا بمعنى باع، وأخرى منى ابتاع وأخذ، والمراد هنا المعنى الأول، والبغي في الأصل: الفساد من قولهم بغى الجرح إذا فسد، ثم أطلق على مجاوزة الحد في كل شىء، وباء: رجع، ومهين: أي فيه إهانة وإذلال، ووراء بمعنى سوى كما يقول الرجل لمن يتكلم بجيد الكلام: ما وراء هذا الكلام شىء. الإيضاح (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ) هذا مرتبط معنى بقوله: (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي وقالوا قلوبنا غلف وكذبوا لما جاءهم كتاب إلخ وقوله: (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي موافق له في التوحيد وأصول الدين ومقاصده، وقوله: (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وكانوا يستنصرون به على مشركى العرب وكفار مكة ويقولون إن كتابه سينصر التوحيد الذي جاء به موسى، ويخذل الوثنية التي تنتحلونها. روى ابن جرير عن قتادة الأنصاري عن شيوخ منهم أنهم قالوا فينا وفيهم (فى الأنصار واليهود) نزلت هذه القصة، كنا علوناهم دهرا في الجاهلية ونحن أهل

الشرك وهم أهل الكتاب، وكانوا يقولون إن نبيّا الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قتل عاد وإرم، فلما بعث رسول الله اتبعناه وكفروا به. وسبب هذا أنهم حسدوا العرب على أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم فحملهم ذلك على الكفر به جحودا وعنادا، فسجّل الله عليهم الطرد والإبعاد من رحمته، لجحودهم بالحق بعد أن تبين لهم. (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) أي بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم وبذلوها- الكفر بما أنزل الله، وهو الكتاب المصدّق لما معهم، أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه، وكأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع. ثم بين علة ذلك فقال: (بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي إنهم كفروا لمحض العناد الذي هو نتيجة الحسد، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يختاره من عباده، ولا بغى أقبح من بغى من يريد الحجر على الله، فلا يرضى أن يجعل الوحى في آل إسماعيل كما جعله من قبل في آل إسحاق. ثم ذكر مقدار ما نالهم من غضبه فقال: (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أي فرجعوا وهم مستوجبون لغضبين: غضب الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فوق الغضب الذي استحقوه من قبل بإعنات موسى عليه السلام والكفر به. ثم بين عاقبة أمرهم فقال: (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال فى الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فما يصيبهم من الخزي والنكال وسوء الحال، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم، وأما في الآخرة فبخلودهم في جهنم وبئس المصير.

[سورة البقرة (2) : الآيات 92 إلى 96]

ثم ذكر ما يكون منهم لدى الحوار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليهود المدينة وما حولها: آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله قالوا نحن دائبون على الإيمان بما أنزل على أنبياء بنى إسرائيل كالتوراة وغيرها. (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) أي وهم يكفرون بما سوى التوراة وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها، وهو الحق الذي لا شكّ فيه، وكيف يكفرون به وهو مؤيد عندهم بالعقل والنقل؟ (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟) أي قل لهم إلزاما للحجة بعد ما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل إليهم والفسوق عنه: إن كنتم صادقين حقا فى اتباعكم ما أنزل الله على أنبيائكم، فلم قتلتموهم؟ وليس في دينكم الأمر بالقتل، بل فيه شديد العقاب على القتل مطلقا، فضلا عن قتل الأنبياء، فما هذا منكم إلا تناقض بين الأقوال والأفعال. وقد نسب القتل إليهم والقاتل أسلافهم لما تقدم غير مرة من أن مثل هذا يقصد به بيان وحدة الأمة وتكافلها، وأنها في الطبائع والأخلاق المشتركة كالشخص الواحد، فما يصيبها من حسنة أو سيئة، فإنما مصدره الأخلاق الغالبة عليها، فما حدث منهم كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع فيها الآخرون الأولين: إما بالعمل بها، وإما بترك الإنكار لها فالحجة تقوم على الحاضرين بأن أسلافهم الغائرين قتلوا الأنبياء فأقروهم على ذلك ولم يعدوه خروجا من الدين، ولا رفضا للشريعة، وفاعل الكفر ومجيزه سواء. [سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 96] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)

تفسير المفردات

تفسير المفردات البينات: هى الآيات والدلائل التي تدل على صدق النبي والمعجزات التي تؤيد نبوّته كالعصا واليد، العجل: هو الذي صنعه لهم السامرىّ من حليّهم وجعلوه إلها وعبدوه، وأشرب قلبه كذا: أي حلّ محل الشراب كأن الشيء المحبوب شراب يساغ فهو يسرى فى قلب المحبّ ويمازجه كما يسرى الشراب العذب البارد في اللهات، وحقيقة أشربه كذا: جعله شاربا له، والمراد من الدار الآخرة ثوابها ونعيمها، خالصة: أي خاصة بكم، تمنوا الموت: أي تشوفوا له واجعلوا نفوسكم ترتاح إليه وتود المصير إليه، بمزحزحه أي بمنجيه من العذاب، والبصير العالم بكنه الشيء الخبير به. المعنى الجملي عدد سبحانه في الآيات السالفة ما أنعم به على بنى إسرائيل من النعم، وذكر ما قابلوها به من الكفران، وهنا ذكر أن الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى

الإيضاح

ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم؟. وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختلّ الوجدان، وضعف الجنان. وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان فى أرض الميعاد. الإيضاح (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي ومن عظيم كفرانكم للنعم أن موسى قد جاء بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته، فخالفتم ذلك وعصيتم أمره وعبدتم عجل السامري من بعد ذلك، فهذا ظلم ووضع للشىء في غير موضعه اللائق به، وأىّ ظلم أعظم من الإشراك بالله بعبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا؟. (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) قد سبق شرح مثل هذا من قبل سوى أنه قال هناك: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) وهنا قال: (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) فأمرهم هناك بالحفظ، وأمرهم هنا بالفهم والطاعة، والعبارتان متقاربتان في المراد. (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه، لكنهم لم يعملوا به وخالفوه، وليس المراد أنهم نطقوا بقولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) بل كانوا بمثابة من قال ذلك، والعرب تعبّر عن حال الإنسان وغيره من الحيوان والجماد بقول تحكيه عنه يومئ إلى ما يجول فى قرارة نفسه ويدور يخلده فيكون هذا القول ترجمانا عنه.

(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) أي صار حبّ العجل نافذا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه، وقوله: بكفرهم أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف. (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قل توبيخا لليهود الحاضرين، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين الذين يقتدون بهم، ويحتذون حذوهم في كل ما يأتون وما يذرون: إن كنتم مؤمنين بالتوراة حقا، فبئس هذا الإيمان الذي يأمر بهذه الأعمال التي أنتم تفعلونها كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، فهذه دعوى لا تقبل منكم، بل يجب القطع بعدم وجودها، بدليل ما يصدر عنكم من الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا للإيمان. وقد سيقت هاتان الآيتان ردّا على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها، فهى حجة عليهم تشرح طبيعة الإيمان وأثره في المؤمن. ثم أمر رسوله أن يتحداهم في ادعائهم صادق الإيمان وكامل اليقين فقال: (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن صدق قولكم، وصحت دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وفي أنكم شعب الله المختار، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودات، فتمنوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. وقد روى عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم تمنى الموت عند القتال معبّرين بألسنتهم عما يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الاخرة، فقد جاء في الأخبار أن عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم: يا حبّذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها

وأن عمّار بن ياسر في حرب صفّين قال: غدا نلقى الأحبّه ... محمدا وصحبه فإن لم تتمنوه، بل كنتم شديدى الحرص على هذه الحياة، فما أنتم بصادقى الإيمان. وهذه حجة تنطبق على الناس عامة، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانا يزنون به دعواهم اليقين بالإيمان والقيام بحقوق الله، فإن ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم فى سبيل الله والذّود عن الدين كانوا مؤمنين حقا، وإن ضنّوا بها وكانوا شديدى الحرص على الحياة إذا جدّ الحدّ ودعا الداعي كانوا بعكس ما يدّعون. (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ولن يقع منهم هذا التمني بحال، لأنهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي والذنوب التي يستحقون بها العقوبة كتحريف التوراة، والكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع البشارة به في كتابهم. والعرب تسند الفعل إلى الأيدى لأن أكثر الأعمال تزاول بها، ويجعلون المراد بها الشخص. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها. ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد. (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) أي إنهم يحبون الإخلاد إلى الأرض، ويعملون كل ما يوصلهم إلى البقاء فيها. فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، وتلك سيرتهم فى كل زمان وإن كان الكلام مع من كان في عصر التنزيل. وهكذا القرآن يرسل عليهم سيلا من الحجاج، فيشاغبون ويعاندون، اعتزازا بشعبهم، واغترارا بكتابهم. (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي إنهم أحرص من جميع الناس حتى من الذين أشركوا، وفي هذا توبيخ وإيلام عظيم لهم، إذ أن المشركين لا يؤمنون ببعث ولا يعرفون إلا هذه

[سورة البقرة (2) : الآيات 97 إلى 100]

الحياة، فحرصهم عليها ليس بالغريب، أما من يؤمن بكتاب ويقرّ بالجزاء فمن حقه ألا يكون شديد الحرص عليها. (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أي يتمنى كل منهم أن يبقى على قيد الحياة ألف سنة أو أكثر، لأنه يتوقع سخط الله وعقابه، فيرى أن الدنيا على ما فيها من الآلام والأكدار خير له مما يستيقن وقوعه في الآخرة، والعرب تضرب الألف مثلا للمبالغة في الكثرة. (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) أي وما بقاؤه فيها بمنجيه ولا بمبعده من العذاب المعدّ له، فإن العمر مهما طال فهو منته لا محالة. (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي والله عليم بخفيات أعمالهم، وبجميع ما يصدر منهم وهو مجازيهم به، فطول العمر لا يخرجهم من قبضته، ولا ينجيهم من عقابه، فالمرجع إليه، والأمر كله بيديه. [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 100] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) تفسير المفردات العدوّ: صد الصديق يستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع، والنبذ: طرح الشيء وإلقاؤه، والفريق: العدد القليل.

المعنى الجملي

المعنى الجملي ذكر قبل هذه الآيات معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الآيات البينات، كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم، فلا حاجة لهم بهداية غيره، فنقض دعواهم وألزمهم الحجة، وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة، لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل مزاعمهم ودحض حججهم. وهنا ذكر تعلّة أخرى هى أعجب من كل ما تقدم وفنّدها كما فنّد ما قبلها، تلك هى قولهم: إن جبريل الذي ينزل على محمد بالوحى عدوهم، فلا يؤمنون بما يجىء به منه، وقد أثر عنهم عدة روايات تشرح هذه المقالة. منها أن أحد علمائهم وهو عبد الله بن صوريا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحى، فقال: هو جبريل، فقال ابن صوريا: هو عدو اليهود لأنه أنذرهم بخراب بيت المقدس فكان ما أنذر به. ومنها أن عمر بن الخطاب دخل مدراسهم فذكر جبريل فقالوا ذاك عدوّنا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء. ولا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأى وعدم التدبر، وإنما ذكره الكتاب الكريم ليستبين للناس حجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مرائهم وسخفهم في جدلهم وأنهم ضعاف الأحلام قليلو التبصر في عواقب ما يقولون. الإيضاح (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي قل لهم أيها النبي حاكيا لهم عن الله: من كان عدوّا لجبريل، فإن من أحوال جبريل أنه نزّل القرآن على قلبك، أي فهو عدو لوحى الله الذي يشمل التوراة وغيرها، ولهدى الله لخلقه،

ولبشراه للمؤمنين، وقوله: بإذن الله يرشد إلى أن مناجاته لروحك ومخاطبته قلبك، إنما كان بأمر الله لا افتياتا منه، فعداوته لا تمنع من الإيمان بك، ولا تصلح أن تكون عذرا لهم، إذ القرآن من عند الله لا من عنده. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي هو موافق للكتب التي تقدمته فيما يدعو إليه من توحيد الله والسير على السنن القويم. (وَهُدىً) أي أنزله الله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان. (وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إنه بشرى لمن آمن به، فليس لكم أن تتركوها لأجل أن جبريل جاء منذرا بخراب بيت المقدس، لأنه إنما أنذر المفسدين. وكل هذه حجج أقامها لبيان سخفهم وكمال حمقهم، وللإرشاد إلى أنها لا تصلح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله جامع لكل هذه الصفات الشريفة. (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) عداوة لله مخالفة أوامره وعدم القيام بطاعته، والكفر بما ينزله لهداية الناس على لسان رسله (وَمَلائِكَتِهِ) بكراهة العمل بما يعهد به إليهم ربهم من رسالات يبلغونها للناس. (وَرُسُلِهِ) بتكذيبهم في دعوى الرسالة مع قيام الأدلة على صدقها، أو بقتل بعضهم كما فعلوا مع زكريا ويحيى. (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) بادّعاء أن الأول يأتي بالآيات والنذر، ومن عاداه فقد عادى ميكائيل، لأن الداعي إلى محبتهم وعداوتهم واحد. (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أي من عادى الله وعادى هؤلاء المقربين عنده، فالله عدوّ له، لأنه كافر به ومعاد له، وهو الظالم لنفسه حين دعاه فلم يجب. وفي هذا من شديد الوعيد ما لا يخفى، إذ فيه تصريح بأنهم أعداء الحق وأعداء كل من يدعو إليه، ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب السماوية، لأن المقصد من الجميع واحد وهو هداية الناس وإرشادهم إلى سبل الخير، ومعاداة محمد صلى الله عليه وسلم كمعاداة سائر الأنبياء، لأن رسالتهم واحدة والمقصد منها متحد.

[سورة البقرة (2) : الآيات 101 إلى 103]

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) لاقتران نظرياتها الاعتقادية بأدلتها، وأحكامها العملية بوجوه منافعها، فلا تحتاج إلى دليل آخر يوضحها، فهى كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى ما يظهره. (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه، وعنادا ومكابرة منهم. (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟) العهود هنا هى عهودهم للنبى صلى الله عليه وسلم، ولما كان لفظ الفريق يوهم قلة العدد مع أن الناقضين للعهدهم الأكثر أضرب عنه وقال: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لأنهم لا عهود لهم، وهذا من أخبار الغيب، إذ أن أكثر اليهود ما آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولن يؤمنوا به، فمثل هذا الحكم لا يصدر إلا ممن يعلم خفيّات الأمور. والخلاصة- إن الله سبحانه بين في هذه الآية حالين لأهل الكتاب: أولاهما أنه لا يوثق بهم في شىء، لما عرف عن كثير منهم من نقض العهود في كل زمان، ثانيتهما أنه لا يرجى إيمان أكثرهم، لأن الضلال قد استحوذ عليهم وجعلهم فى طغيانهم يعمهون. [سورة البقرة (2) : الآيات 101 الى 103] وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

تفسير المفردات

تفسير المفردات كفر: أي سحر، والسحر: لغة كل ما لطف مأخذه وخفى سببه، وسحره: خدعه، وجاء في كلامهم: عين ساحرة وعيون سواحر، وفي الحديث: «إن من البيان لسحرا» والإنزال: الإلهام، وسمى بذلك لأنهما ألهماه واهتديا إليه من غير معلم، والملكان: رجلان صاحبا هيبة ووقار يجلهما الناس ويحترمونهما، وبابل: بلد بالعراق لها شهرة تاريخية قديمة، والخلاق: النصيب والحظ، وشروا: أي باعوا. المعنى الجملي بين سبحانه في هذه الآيات حالا من أحوالهم هى علة ما يصدر عنهم من جحود وعناد ومعاداة للنبى صلى الله عليه وسلم، هى أن فريقا منهم نبذوا كتاب الله الذي به يفخرون، حين جاء الرسول بكتاب مصدق لما بين أيديهم، فإن ما في كتابهم من البشارة بنبي يجىء من ولد إسماعيل لا ينطبق إلا على هذا النبي الكريم. وليس المراد أنهم نبذوا الكتاب جملة وتفصيلا، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به واتباعه، ولا شك أن ترك بعضه كترك كله، إذ أنه يذهب باحترام الوحى ويفتح الباب لترك الباقي.

الإيضاح

وهذا الجحود لم يكن بضائر للنبى صلى الله عليه وسلم ولا لدعوته فقد قبلها واهتدى بها كثير من اليهود ومن غيرهم. وحين نبذوه اشتغلوا بصناعات وأعمال صادّة عن الأديان من صنع شياطين الإنس والجن، فاشتغلوا بالسحر والشعوذة والطّلّسمات التي نسبوها إلى سليمان وزعموا أن ملكه كان قائما عليها. وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين فصدقوهم فيما زعموا منها، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، ولا يزال حال الدجالين من المسلمين إلى اليوم يتلون العزائم ويخطون خطوطا ويعملون طلسمات يسمونها خاتم سليمان، وعهودا يزعمون أنها تحفظ من يحملها من اعتداء الجن ومسّ العفاريت. وإنما قصّ القرآن علينا هذا القصص للذكرى، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر فكان صادا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود، ومن ثم لم يهتدوا بالنبي الذي بشر به كتابهم. الإيضاح (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إنه حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب مصدّق للتوراة التي بين أيديهم بما فيه من أصول التوحيد، وقواعد التشريع، وروائع الحكم والمواعظ، وأخبار الأمم الغابرة- نبذ فريق من اليهود كتابهم وهو التوراة، لأنهم حين كفروا بالرسول المصدّق لما معهم فقد نبذوا التوراة التي فيها أن محمدا رسول الله، وأهملوها إهمالا تاما كأنهم لا يعلمون أنها من عند الله. وقد جعل تركهم إياها وإنكارهم لها إلقاء لها وراء الظهر، لأن من يلقى الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكره. (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي واتبع فريق من أحبار اليهود

وعلمائهم الذين نبذوا التوراة تجاهلا منهم بما هم به عالمون- اتبعوا السحر الذي تلته الشياطين في عهد سليمان بن داود وعملوا به، وذلك هو الخسران المبين. وقد زعموا أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ثم استخرجها الناس وتناقلوها، وهذا من مفتريات أهل الأهواء نسبوها إليه كذبا وبهتانا. (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أي وما سحر، لأنه لو فعل ذلك فقد كفر، إذ كونه نبيّا ينافى كونه ساحرا، فالسحر خداع وتمويه، والأنبياء مبرءون من ذلك. (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إليه ما انتحلوه من السحر ودوّنوه وعلموه الناس هم الذين كفروا. (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) قد جاء ذكر السحر في القرآن في مواضع كثيرة ولا سيما فى قصص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداع وتخييل للأعين حتى ترى ما ليس بكائن كائنا كما قال: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) وقال في آية أخرى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) . والآية نص صريح على أن السحر كان يعلّم ويلقّن، والتاريخ يؤيد هذا. والسحر إما حيلة وشعوذة، وإما صناعة وعلم خفىّ يعرفه بعض الناس ويجهله الكثير منهم، ومن ثم يسمون العمل به سحرا لخفاء سببه عليهم. وقد روى المؤرخون أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصىّ بصور الحيات والثعابين حتى خيّل إلى الناس أنها تسعى. وقد اعتاد الذين اتخذوه صناعة للمعاش أن يتكلموا بأسماء غريبة وألفاظ مبهمة، اشتهر بين الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجن، ليوهموهم أن الجنّ يستجيبون دعاءهم ويسخّرون لهم، وهذا هو منشأ اعتقاد العامة أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب.

ولمثل هذا تأثير في إثارة الوهم دلت التجربة على وجوده، وهو يغنى منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته فيمن يعمل له السحر. (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) فى الملكين قراءتان فتح اللام وكسرها، وهما رجلان شبها إما بالملائكة لانفرادهما بصفات محمودة، وقد جرت العادة أن يقولوا هذا ملك وليس بإنسان، وإما بالملوك كما يقال لمن كان سيدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس: هذا من الملوك، وكان الناس في عهد هاروت وماروت كحالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شئونهم الروحية إلا أهل السمت والوقار الذين يلبسون لباس أهل الصلاح والتقوى. وظاهر الآية يدل على أن ما أنزل على الملكين غير السحر لكنه من جنسه، وقد ألهماه واهتديا إليه بلا أستاذ ولا معلم، وقد يسمى مثل هذا وحيا كما في قوله: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وقوله: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) . (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) أي وما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له: إنما نحن ابتلاء من الله عزّ اسمه، فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم ولم يعمل به ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاده وجواز العمل به. وفي هذا إيماء إلى أن تعلم السحر وكل ما لا يجوز اتباعه والعمل به ليس محظورا، وإنما الذي يحظر ويمنع هو العمل به فحسب. وإنما كانا يقولان ذلك إبقاء على حسن اعتقاد الناس فيهما، إذ كانا يقولان إنهما ملكان، كما نسمع الآن من الدجالين الذين يحترفون مثل ذلك لمن يعلمونهم الكتابة للحب والبغض. نوصيك بألا تكتب هذا لجلب امرأة إلى حبّ غير زوجها ولا تكتب لأحد الزوجين أن يبغض الآخر، بل تجعل ذلك للمصلحة العامة كالحبّ بين الزوجين، والتفريق بين عاشقين فاسقين، وهذا منهم إيهام بأن علومهم إلهية وصناعتهم روحية.

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي كانوا يتعلمون منهما ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين، مما يسمى الآن (كتاب البغضة) . والآية لا ترشد إلى حقيقة ما يتعلمونه من السحر- أمؤثر بطبعه أو بسبب خفىّ أو بخارق من خوارق العادات، أم غير مؤثّر؟ كما أنها لم تبين نوع ما يتعلمونه، أتمائم وكتابة هو، أم تلاوة رقى وعزائم، أم أساليب سعاية، أم دسائس تنفير ونكاية، أم تأثير نفسانى، أم وسواس شيطانى؟ فأى ذلك أثبته العلم كان تفصيلا لما أجمله القرآن ولا نتحكم في حمله على نوع منها، ولو علم الله الخير في بيانه لبينه، ولكنه وكل ذلك إلى بحوث الناس وارتقائهم في العلم، فهو الذي يجلّى الغامض، ويكشف الحقائق. (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي إن هذين لم يعطيا شيئا من القوى الغيبية فوق ما أعطى سائر الناس، بل هى أسباب ربط الله بها مسبباتها، فإذا أصيب أحد بضرر بعمل من أعمالهم، فإنما ذلك بإذنه تعالى، فهو الذي يوجد المسببات حين حصول الأسباب: (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) من قبل أنه سبب في إضرار الناس، وهذا مما يعاقب الله عليه، ومن عرف بإيذاء الناس أبغضوه واجتنبوه ولا نفع لهم فيه، فإنا نرى منتحلى هذه المهن من أفقر الناس وأحقرهم، وذلك حالهم في الدنيا، فما بالك بهم فى الآخرة يوم يجزى كل عامل بما عمل. (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي إنهم عالمون بأن من اختار هذا وقدّمه على العلم بأصول الدين وأحكام الشريعة التي توصل إلى السعادة فى الدارين فليس له حظ في الآخرة، لأنه قد خالف حكم التوراة التي حظرت تعلم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجنّ والشياطين والكهان، كعقوبة عابدى الأصنام والأوثان. (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي ولبئس ما باعوا به أنفسهم

[سورة البقرة (2) : الآيات 104 إلى 105]

السحر، وعبر عن بيع الإيمان ببيع النفس، لأنها إنما خلقت لمعرفة الدين والعمل به، أي أنهم لو كانوا يعلمون حرمة السحر علما يصدر عن اعتقاد له أثر في النفس ويصدقون بما توعد به مرتكبه من العقوبة- لما ارتكبوه ولا أصرّوا عليه، لكنهم خانهم هذا النوع من العلم واكتفوا بعلم مبهم لا أثر له في النفس، فتسرب إليهم كثير من التأويل والتحريف لنصوص التوراة. وهذا هو ما يفعل مثله بعض المسلمين اليوم، إذ ينتهكون بعض حرمات الدين بمثل تلك التأويلات، فيمنعون الزكاة بحيلة، ويأكلون أموال الناس بحيلة أخرى، ويشهدون الزور بحيلة ثالثة وهكذا. (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ) أي ولو أنهم آمنوا الإيمان الحق بكتابهم، وفيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه- لكان هذا الثواب العظيم الذي ينتظرونه من الله جزاء على أعمالهم الصالحة خيرا لهم من كل ما يتوقعون من المنافع والمصالح الدنيوية. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إنهم ليسوا على شىء من العلم الصحيح، إذ لو كان كذلك لظهرت نتائجه في أعمالهم، ولآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوه وصاروا من المفلحين لكنهم يتبعون الظن ويعتمدون على التقليد، ومن جرّاء هذا خالفوا الكتاب وساروا وراء أهوائهم وشهواتهم فوقعوا في الضلال البعيد. [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

تفسير المفردات

تفسير المفردات راعنا: أي راعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه، وانظرنا: أي وأمهلنا وانتظر ما يكون من شأننا، والمودّة: محبة الشيء وتمنى حصوله. المعنى الجملي هذا خطاب وجه إلى المؤمنين في شأن له اتصال باليهود، وبه انتقل من الأحاديث الخاصة بهم إلى حديث مشترك بينهم وبين المؤمنين والنصارى في أمر من أمور الدين. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا، وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا) نهى سبحانه الصحابة عن كلمة كانت تدور على ألسنتهم، حين خطابهم النبي صلى الله عليه وسلم وهى كلمة (راعِنا) ومعناها راعنا سمعك: أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ونراجعك القول لنفهمه عنك، وانظرنا: أي راقبنا وانتظر ما يكون من شأننا في حفظ ما تلقيه علينا وفهمه. وسبب نهيهم عنها أن اليهود لما سمعوها افترصوها وصاروا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم لاوين بها ألسنتهم لموافقة جرسها العربي لكلمة (راعينو) العبرية التي معناها (شرير) فأرشد الله نبيه الكريم لذلك، وأمر أصحابه أن يقولوا (انْظُرْنا) وهى خير منها وأخفّ لفظا، وتفيد معنى الإنظار والإمهال، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين، إذ تقول: نظرت الشيء ونظرت إليه إذا وجهت إليه بصرك ورأيته. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) الكافرون هنا هم اليهود، وفي التعبير به إيماء إلى

أن ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه صلى الله عليه وسلم كفر لا شكّ فيه، لأن من يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرّير، فقد أنكر نبوّته وأنه موحى إليه من قبل ربه، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحق العذاب الأليم. قال الأستاذ الإمام: إن هذا التأديب ليس خاصا بمن كان في عصره من المؤمنين بل يعم من جاء بعدهم أيضا، فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم وكان يجب عليهم الاستماع له والإنصات لتدبره- هو الذي يتلى علينا بعينه لم يذهب منه شىء، وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولا تجب طاعته والاهتداء بهديه- فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون؟ إنهم يلغطون في مجلس القرآن فلا يستمعون ولا ينصتون ومن أنصت واستمع فإنما ينصت طربا بالصوت واستلذاذا بتوقيع نغمات القارئ، وإنهم ليقولون في استحسان ذلك واستجادته ما يقولون في مجالس الغناء، ويهتزون للتلاوة ويصوّتون بأصوات مخصوصة كما يفعلون عند سماع الغناء لا فرق، ولا يلتفتون إلى شىء من معانيه إلا ما يرونه مدعاة لسرورهم في مثل قصة يوسف عليه السلام، مع الغفلة عما فيها من العبرة وإعلاء شأن الفضيلة، ولا سيما العفة والأمانة، أليس هذا أقرب إلى الاستهانة بالقرآن منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة وأمثالها؟ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) اهـ. (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي إن الذين عرفتم شأنهم مع أنبيائهم من أهل الكتاب حسدة لكم لا يودون أن ينزل عليكم خير من ربكم، والكتاب الكريم أعظم الخيرات فهو الهداية العظمى، به جمع الله شملكم ووحّد شعوبكم وقبائلكم، وطهّر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وكذلك المشركون إذ يرون في نزول القرآن على طريق التتابع الوقت بعد الوقت قوة للإسلام ورسوخا لقواعده، وتثبيتا لأركانه

[سورة البقرة (2) : الآيات 106 إلى 108]

وانتشارا لهديه، وهم يودون أن تدور عليكم الدوائر، وينتهى أمركم ويزول دينكم من صفحة الوجود. (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إن حسد الحاسد يدل على أنه ساخط على ربه معترض عليه، لأنه أنعم على المحسود بما أنعم، والله لا يصيره سخط الساخطين، ولا يحوّل مجارى نعمته حسد الحاسدين، فهو يختصّ من يشاء برحمته متى شاء، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة، وهو صاحب الإحسان والمنّة وكل عباده غارق في بحار نعمته، فلا ينبغى لأحد أن يحسد أحدا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربه. [سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 108] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) تفسير المفردات النسخ في اللغة الإزالة، يقال نسخت الشمس الظل: أي أزالته، والإنساء: إذهاب الآية من ذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد تبليغها إياه، والولي: القريب والصديق، والنصير: المعين، والفارق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير: قد يكون أجنبيا عمن ينصره، والسؤال: الاقتراح المقصود به التعنت، وبدل وتبدل واستبدل جعل شيئا موضع آخر، وضلّ: عدل وجار، والسواء: من كل شىء الوسط، ومنه قوله: (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) والسبيل: الطريق

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه حقيقة الوحى ورد كلام الكارهين له جملة- بين سر نسخه وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يعلم فيه من المصلحة، ثم ينهى عنه لما يرى فى ذلك من الخير حينئذ، فأطيعوا أمره واتبعوا رسله في تصديق ما به أخبروا، وترك ما عنه زجروا. روى أن هذه الآيات نزلت حين قال المشركون أو اليهود، ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فقد أمر فى حد الزاني بإيذاء الزانيين باللسان حيث قال: (فَآذُوهُما) ثم غيّره وأمر بإمساكهنّ في البيوت حيث قال: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) ثم غيّره بقوله: (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) . فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضا ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين ليضعفوا عزيمة من يريد الدخول فيه وينضوى تحت لوائه. الإيضاح (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) النسخ في لسان الشرع: بيان انتهاء الحكم المستفاد من الآية المتلوة، وحكمته أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهى تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شرع حكم في وقت كانت الحاجة إليه ماسة، ثم زالت الحاجة فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته للعباد، وما مثل ذلك إلا مثل الطبيب الذي يغير الأغذية والأدوية باختلاف الأزمنة والأمزجة، والأنبياء صلوات الله عليهم هم مصلحو النفوس، يغيرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقية، التي هى للنفوس بمثابة العقاقير والأدوية للأبدان، فما يكون منها مصلحة في وقت قد يكون مفسدة في وقت آخر.

وخلاصة المعنى- ما نغيّر حكم آية أو ننسيكه إلا أتينا بما هو خير منه لمصلحة العباد بكثرة الثواب أو مثله فيه. قال الأستاذ الإمام: والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق أن الآية هنا ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم، أي ما ننسخ من آية نقيمها دليلا على نبوّة نبى من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبى آخر بها، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها، فإنا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوّة الإقناع وإثبات النبوّة أو مثلها في ذلك، ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه اهـ وقد سبقه إلى مثله محيى الدين بن العربي فى تفسيره. ونسخ الحكم إما أن يكون بأيسر منه في العمل، كما نسخت عدة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، وإما بمساوله كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة، وإما بأشقّ منه ويكون ثوابه أكثر، كما نسخ ترك القتال بإيجابه على المسلمين. ثم أقام الدليل على إمكان النسخ فقال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره من المؤمنين الذين ربما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود وغيرهم على النسخ، وضعيف الإيمان يؤثر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به، فيخشى عليه من الركون إلى الشبهة أو تدخل في قلبه الحيرة، فجاء ذلك تثبيتا لهم وتقوية لإيمانهم، ببيان أن القادر على كل شىء لا يستنكر عليه نسخ الأحكام، لأنها مما تتناولها قدرته، ثم أقام دليلا آخر فقال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن الله تعالى له ملك السموات والأرض وهما تحت قبضته والعباد أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره

[سورة البقرة (2) : الآيات 109 إلى 110]

ونهيه، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام، ويقرر ما شاء منها بحسب ما يرى من الفائدة. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ناصركم ومعينكم هو الله وحده فلا تبالوا بمن ينكر النسخ أو يعيبكم به، وليس في استطاعته أن يلحق بكم أذى. (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي أتريدون أن تسألوا رسولكم أن يجيئكم بآيات بينات فوق ما جاءكم به، فيكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا موسى ما لا يجوز سؤاله تبرما وتعنتا كقولهم: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) . وفي هذا نصح للمسلمين أن يعملوا بما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وينتهوا عما نهاهم عنه ولا يطلبوا منه غير ما جاءهم به. ثم أتبع التحذير بالوعيد فقال: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزّلة بحسب المصالح ويطلب غيرها تعنتا وعنادا للنبى صلى الله عليه وسلم، فقد اختار الكفر على الإيمان، واستحبّ العمى على الهدى، وبعد عن الحق والخير، ومن حاد عن الحق وقع في الضلال (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) . وسبب نزول هذه الآية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبى صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه، وفجّر الأنهار نتبعك. [سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

تفسير المفردات

تفسير المفردات العفو: ترك العقاب على الذنب كما قال: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) والصفح: الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب، وأمر الله: نصره ومعونته. المعنى الجملي بعد أن نهى عز اسمه المؤمنين في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود وعدم قبول آرائهم في شىء من أمور دينهم- ذكر هنا وجه العلة في ذلك، وهى أن كثيرا منهم يودون لو ترجعون كفارا حسدا لكم ولنبيّكم، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والكيد له بنقض ما عاهدهم عليه، بل يحسدونكم على نعمة الإسلام ويتمنون أن تحرموا منها. وقد كان لأهل الكتاب حيل في تشكيك المسلمين في دينهم، فقد طلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوّل النهار ويكفروا آخره كى يتأسى بهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين، وكانوا يلقون بعض الشبه على المؤمنين ليشكّكوهم في دينهم. الإيضاح (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوكم عن توحيد الله والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجعوكم كفارا كما كنتم، حسدا لكم. وفي هذا إشارة إلى أن النصح الذي يشيرون به منشؤه الحسد وخبث النفوس وسوء الطويّة والجمود على الباطل- لا الغيرة على الحق وصرف الهمة في الدفاع عنه. (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أي من بعد أن ظهر لهم بساطع الأدلة أن محمدا

على الحق بما جاء به من الآيات التي تنطبق على ما يحفظونه من بشارات كتبهم بنبي يأتي آخر الزمان. (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أي فعاملوهم بأحاسن الأخلاق من العفو عن مذنبهم بترك عقابه، والصفح عنه بترك لومه وتعنيفه حتى يأتى نصر الله لكم بمعونته وتأييده. وقد يكون المعنى- حتى يأتى أمر الله ونصره، وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير من المدينة بعد أن غدروا ونقضوا العهد بموالاة المشركين بعد أن عفا عنهم وصفح مرات كثيرات. وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر، فكأنه يقول لهم: لا تغرّنّكم كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فأنتم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، وأهل الحق مؤيدون بعناية الله، ولهم العزة ما ثبتوا عليه. ثم أكد الوعد السابق بالنصرة بقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، ويثبتكم بما أنتم عليه من الحق فتتغلبوا على من يناوئكم ويظهر لكم العدوان اغترارا بكثرته، واعتزازا بقوته: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) . ثم ذكر سبحانه بعض الوسائل التي تحقق النصر الذي وعدوا به فقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) لما في الصلاة من توثيق عرا الإيمان، وإعلاء الهمة، ورفعة النفس بمناجاة الله، وتأليف قلوب المؤمنين حين الاجتماع لأدائها، وتعارفهم فى المساجد، وبهذا ينمو الإيمان، وتقوى الثقة بالله، وتتنزه النفس أن تأتى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتكون أقوى نفاذا في الحق، فتكون جديرة بالنصر

ولما في الزكاة من توكيد الصلة بين الأغنياء والفقراء، فتتحقق وحدة الأمة وتكون كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تألم باقى الأعضاء بالحمى والسهر. وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع، إلى أن المال شقيق الروح، فمن جاد به ابتغاء مرضاة الله سهل عليه بذل نفسه في سبيل الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته. وبعد أن أبان أن الصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا أردف هذا ببيان أنهما من أسباب السعادة في الآخرة أيضا فقال: (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) أي وما تعملوا من خير تجدوا جزاءه عند ربكم يوم توفى كل نفس جزاء عملها بالقسطاس المستقيم. ونحو الآية قوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) . ونسب الوجود إلى العمل والذي يوجد هو جزاؤه، لما للعمل من أثر في نفس العامل، فكأن الجزاء بمثابة العمل نفسه. ثم ختم الآية بما يحثّ المرء على الإحسان في العمل فقال: (إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو عالم بجميع أعمالكم كثيرها وقليلها، لا تخفى عليه خافية من أمركم، خيرا كانت أو شرّا وهو مجازيكم عليها. ولا يخفى ما في هذا من الترغيب والترهيب. ومن مواعظ على كرم الله وجهه أنه كان إذا دخل المقبرة قال: السلام عليكم أهل هذه الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات- ثم قال: أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فليت شعرى ما عندكم؟ والذي نفسى بيده لو أن لهم في الكلام لقالوا: إن خير الزاد التقوى. وفي الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 إلى 113]

جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوله) والأول يشمل بناء المساجد ومعاهد العلم والمستشفيات والملاجئ، والأحباس على المعوزين والمحتاجين، والثاني: ينضوى تحته ما يخلفه الإنسان من تصنيف نافع، أو تعليم للعلوم الدينية. وقيد الولد بكونه صالحا، لأن الأجر لا يحصل من غيره، أما الوزر فلا يلحق الأب سيئة ابنه. [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) تفسير المفردات الأمانىّ: واحدها أمنية وهى ما يتمناه المرء ولا يدركه، والعرب تسمى كل ما لا حجة عليه ولا برهان له تمنيا وغرورا، وضلالا وأحلاما وإسلام الوجه لله هو الانقياد والإخلاص له في العمل بحيث لا يجعل العبد بينه وبين ربه وسطاء يقربونه إليه زلفى، ويقال فلان ليس على شىء من كذا: أي ليس على شىء منه يعتدّ به ويؤبه به. المعنى الجملي ذكر عزّ اسمه في هذه الآية حالين من أحوال اليهود، أولاهما: تضليل من عداهم وادعاؤهم أن الحق لا يعدوهم، وأن النبوة مقصورة عليهم، وثانيتهما: تضليل اليهود

الإيضاح

للنصارى وتضليل النصارى لهم كذلك، مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود. والعبرة من هذا القصص- أنهم قد صاروا إلى حال من اتباع الأهواء لا يعتدّ معها بقول أحد منهم لا في نفسه ولا في غيره، فطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن الإيمان به لا يثبت دعواهم في أنه مخالف للحق، فاليهود قد كفروا بعيسى وقد كانوا ينتظرونه، والنصارى كفروا بموسى ورفضوا التوراة وهى حجتهم على دينهم، فكيف بعدئذ يعتدّ برأيهم في محمد صلى الله عليه وسلم وهو من غير شعبهم، وجاء بشريعة نسخت شرائعهم. وسبب نزول الآيات أن يهود المدينة تماروا مع وفد نصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم وكذب بعضهم بعضا، فقال اليهود لبنى نجران: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت بنو نجران لليهود: لن يدخل الجنة إلا النصارى- وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح- فعقيدة كل من الفريقين في الآخر كذلك. الإيضاح (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى كذلك، وهذه آراء الفريقين إلى يومنا هذا. (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) أي هذه الأمنية السالفة التي تشمل أمانىّ كثيرة، كنجاتهم من العذاب ووقوع أعدائهم فيه، وحرمانهم من النعيم. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لكلا الفريقين هاتوا البرهان على ما تزعمون، وهذا وإن كان ظاهره طلب الدليل على صدق المدّعى، فهو في عرف التخاطب تكذيب له، لأنه لا برهان لهم عليه.

وفي هذا إيماء إلى أنه لا يقبل من أحد قول لا برهان عليه، والقرآن ملىء بالاستدلال على القدرة والإرادة والوحدانية بالآيات الكونية والأدلة العقلية، كقوله: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) (بلى) كلمة تذكر جوابا لإثبات نفى سابق، وردّا لما زعموه فهى مبطلة لقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) أي بلى إنه يدخلها من لم يكن هودا ولا نصارى، إذ رحمة الله لا تختصّ بشعب دون شعب، بل كل من عمل لها وأخلص فى عمله، فهو من أهلها. (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي كل من انقاد لله وأخلص فى عمله، فله الجزاء على ذلك عند ربه الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا. والآية ترشد إلى أن الإيمان الخالص لا يكفى وحده للنجاة، بل لا بد أن يقرن بإحسان العمل، وقد جرت سنة القرآن إذا ذكر الإيمان أردفه عمل الصالحات كقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) . (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين أسلموا وجوههم لله وأحسنوا العمل لا تساور نفوسهم مخاوف ولا أحزان، كما تختلج صدور الذين أشرب قلوبهم حبّ الوثنية، وأعرضوا عن الهداية، إذ من طبيعة المؤمن أنه إذا أصابه مكروه بحث عن سببه واجتهد في تلافيه، فإن لم يمكنه دفعه فوّض أمره إلى ربه، ولم يضطرب ولم تهن له عزيمة، علما منه بأنه قد ركن إلى القوة القادرة على دفع كل مكروه، وتوكل على من بيده دفع كل محظور. أما عابدو الأوثان والأصنام فهم في خوف مما يستقبلهم، وحزن مما ينزل بهم، فإذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم داخلهم الهلع ولم يستطيعوا صبرا على البأساء،

وهم يستخذون للدجّالين والمشعوزين، ويعتقدون بسلطة غيبية لكل من يعمل عملا لا يهتدون إلى معرفة سببه. ثم ذكر مقال كل من الفريقين في الآخر: (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) أي ليسوا على شىء من الدين يعتدّ به، فهم قد كفروا بالمسيح مع أنهم يتلون التوراة التي تبشر به وتذكر من الأوصاف ما لا ينطبق إلا عليه، ولا يزالون إلى اليوم يدّعون أن المسيح المبشر به فيها لمّا يأت بعد، وينتظرون ظهوره وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل. (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) أي ليسوا على شىء من الدين الصحيح، ومن ثم أنكروا نبوّة المسيح المتمم لشريعتهم. (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي قالوا ذلك وكتاب كل من الفريقين ينطق بغير ما يعتقدون، فالتوراة تبشر برسول منهم يأتى بعد موسى، لكنهم خالفوها ولم يؤمنوا به، والإنجيل يقول: إنه (المسيح) جاء متمما لناموس موسى لا ناقضا له، وهم قد نقضوه. والخلاصة- إن دينهم واحد ترك بعضهم أوّله، وبعضهم آخره ولم يؤمن به كله أحد منهم، والكتاب الذي يتلونه حجة عليهم شاهد على كذبهم. ثم بين أنهم ليسوا ببدع فيما يقولون، بل قبلهم أمم قالت مثل مقالتهم. (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي مثل هذا القول الذي لم يبن على برهان، قال الجهلة من عبدة الأوثان لأهل كل دين: لستم على شىء والحق وراء هذه المزاعم، فهو إيمان خالص وعمل صالح لو عرفه الناس حقّ المعرفة لما تفرقوا ولا اختلفوا فى أصوله، لكنهم تعصبوا لأهوائهم فاختلفوا فيه وتفرّقوا طرائق قددا. (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فهو العليم بما عليه كل فريق

[سورة البقرة (2) : الآيات 114 إلى 117]

من حقّ أو باطل، فيحقّ الحق ويجعل أهله في النعيم ويبطل الباطل، ويلقى أهله فى سواء الجحيم. [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 117] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) تفسير المفردات الاستفهام هنا للإنكار ويفيد النفي، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه كما تقدم، والمسجد: موضع العبادة لله تعالى، والمراد بخزي الدنيا الهوان والذلّ فيها، والوجه: الجهة، فثمّ: أي هناك، واسع: أي لا يحصر ولا يتحدّد، سبحان: كلمة تفيد التنزيه والتعجب مما يقوله أولئك الجاهلون، والقنوت: الخضوع والانقياد، والبديع: بمعنى المبدع، والإبداع: هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق. المعنى الجملي يشير سبحانه في هذه الآيات إلى ما وقع من تيطس الرومانى إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة وخربها حتى لم يبق منها حجرا على حجر، وهدم هيكل سليمان عليه السلام حتى لم يترك إلا بعض جدران مبعثرة وأحرق بعض نسخ

الإيضاح

التوراة، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك، وكان هذا بإيعاز وتحريض من المسيحيين انتقاما منهم إذ أخرجوهم من ديارهم، وتحقيقا لوعيد المسيح، فتسللوا لواذا على قلتهم حتى وصلوا إلى رومية، فحرّضوا تيطس على غزوهم في بلادهم وكان له هوى في ذلك، فأجابهم إلى ما طلبوا وكان منه ما علمت. الإيضاح (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) أي وأىّ امرئ أشدّ تعديا وجراءة على الله ومخالفة لأمره، من امرئ منع من العبادة في المساجد، وسعى في خرابها بهدمها أو تعطيل شعائر الدين فيها، لما في ذلك من انتهاك حرمة الأديان المؤدّى إلى نسيان الخالق، وفشوّ المنكرات بين الناس، ونشر الفساد فى الأرض. (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أي أولئك المانعون ما كان ينبغى لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع، فكيف بهم دخلوها مفسدين ومخرّبين، فما كانت عبادة الله إلا نافعة للبشر، وما كان تركها إلا ضارّا لهم. وقد توعدهم الله على ظلمهم بقوله: (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فخزى الدنيا بما يعقبه الظلم من الفساد المؤدّى إلى الذل والهوان، ولا ظلم أكبر من إبطال العبادة من المساجد والسعى فى خرابها، وقد تحقق ما أوعد به الله فحلّ بالرومانيين الخزي في الدنيا فتقسمت دولتهم، وتشتت ملكهم، ولحقهم الذلّ والهوان على يد غيرهم من الأمم القوية الفاتحة وعذاب الآخرة هو ما أعدّه الله للفجار في جهنم وبئس القرار. (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي له هاتان الجهتان المعلومتان لكل أحد، والمراد ربّ الأرض كلها، فهو كقوله: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) .

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أي أىّ مكان تستقبلونه في صلاتكم، فهناك القبلة التي يرضاها الله لكم ويأمركم بالتوجه إليها، فأينما توجه المصلى في صلاته فهو متوجه إلى الله لا يقصد بصلاته غيره، والله تعالى راض عنه مقبل عليه. والحكمة في استقبال القبلة- أنه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود، وهو بهذه الطريقة محال على الله- شرع للناس مكانا مخصوصا يستقبلونه في عبادتهم إياه، وجعل استقباله كاستقبال وجهه تعالى. (إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى لا يحصر ولا يتحدد، فيصح ان يتوجه إليه فى كل مكان، وهو عليم بالمتوجه إليه أينما كان، فاعبدوه حيثما كنتم، وتوجهوا إليه أينما حللتم، ولا تتقيدوا بالأمكنة، والمعبود غير مقيد. وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالتوجه إلى استقبال الكعبة في الصلاة، وفيها إبطال لما كان يعتقده أرباب الملل السابقة من أن العبادة لا تصح إلا في الهياكل والمعابد، وإزالة لما قد يتوهم من أن الوعيد إنما كان على إبطالها في الأماكن المخصوصة، فأبان بها أن الوعيد إنما كان لإبطالها مطلقا، لأن الله لا تحدده الجهات، ولا تحصره الأمكنة. (وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، ولا فارق بين أن يكون هذا القول قد صدر من جميع أفراد الأمة أو من بعضها، فإن أفرادها متكافلون في كل ما يعملون وما يقولون، مما يعود أثره من خير أو شر إلى الجميع. (سبحانه) تنزيها له تعالى أن يكون له ولد، إذ هذا الولد إما من العالم العلوي وهو السماء أو من العالم السفلى وهو الأرض، وليس شىء منهما بمجانس له عز اسمه إلى أن السبب المقتضى للولد هو الاحتياج إلى المعونة في الحياة والقيام مقامه بعد الموت والله منزه عن ذلك.

[سورة البقرة (2) : الآيات 118 إلى 120]

(بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي ليس الأمر كما زعموا، بل جميع ما في السموات والأرض ملك له قانت لعزته، خاضع لسلطانه، منقاد لإرادته، فما وجه مخصيص واحد منهم بالانتساب إليه وجعله ولدا مجانسا له: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) . نعم إن الله يختص من يشاء من عباده بما شاء من الفضل كالأنبياء صلوات الله عليهم ولكن هذا لا يرتقى بالمخلوق إلى أن يصل إلى مرتبة الخالق. (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي موجدهما اختراعا وابتكارا لا على مثال سابق، وإذا كان هو المبدع لهما والموجد لجميع من فيهما فكيف يصح أن ينسب إليه شىء منهما على أنه مجانس له، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي وإذا أراد إحداث أمر وإيجاده فإنما يأمره أن يكون موجودا فيكون، والكلام تمثيل وتشبيه لتعلق إرادته بإيجاد الشيء فيعقبه وجوده، بأمر يصدر فيعقبه الامتثال. والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية عبر عنهما بما يقربهما من الفهم وهو أن يقول للشىء كن فيكون. [سورة البقرة (2) : الآيات 118 الى 120] وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لولا: كلمة لحضّ الفاعل على الفعل وطلبه منه، والآية: الحجة والبرهان، والتشابه: التماثل، واليقين: هو العلم بالدليل والبرهان، والحق: هو الشيء الثابت المتحقق الذي لا شكّ فيه. المعنى الجملي كان الكلام فيما سلف في الردّ على من أنكر الوحدانية واتخذ لله شريكا- والكلام هنا فيمن أنكر نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وطعن في الآيات التي جاء بها وتجنّى بطلب آيات أخرى تعنتا وعنادا كما جاء في نحو قوله حكاية عنهم (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) وقوله: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) . الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من المشركين، لأنه لا كتاب لهم ولا هم أتباع نبىّ من الأنبياء حتى يتجلى لهم ما يليق بمقام الألوهية، وما يصح أن يعطاه الأنبياء من الآيات. (لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) أي هلا يكلمنا الله بأنك رسوله حقا كما يكلم الملائكة، أو يرسل إلينا ملكا فيخبرنا بذلك، كما كلمك على هذا الوجه مع أنك بشر مثلنا. وما مقصدهم من هذا إلا العناد والاستكبار وبيان أنه ليس بأحسن منهم حالا، فلم اختصّ بهذا الفضل من بيننا؟ (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) أي أو تأتينا ببرهان على صدقك في دعواك النبوة، ومرادهم بذلك ما حكاه الله عنهم بنحو قوله: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) الآية.

وهذا منهم جحود لأن يكون ما أوتيه من القرآن وغيره من المعجزات آيات كافيات فى إثبات ما ادّعى من النبوة. (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي ومثل هذه الأسئلة التي يراد بها التعنت لإجلاء الحقيقة، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية، فقد قال اليهود لموسى: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) ، و (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) إلى نحو ذلك، وقالت النصارى: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) فهذه أقوال صدرت عنهم للتشهى واتباع الهوى تعنّتا وعنادا لا للوصول إلى كشف غامص وجلاء حقيقة كما قال تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) . ثم ذكر السبب في اتحاد مقالهم ومقال من سبقهم فقال: (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي تماثلت قلوب هؤلاء وقلوب من قبلهم في العمى والقسوة والعناد، والألسنة ترجمان القلوب، والقلب إذا استحكم فيه الكفر والعمى لا يجرى على لسان صاحبه إلا ما ينبئ بالتباعد عن الإيمان من معاذير لا تجدى، وتعلّات لا تفيد. فالحق واحد، ومخالفته هى الضلال وهو واحد وإن تعددت طرقه واختلفت وجوهه، وآثاره تتشابه حين تصدر عن الضالين حتى كأنهم متواصون به فيما بينهم كما قال تعالى: (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) . (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي إننا لم نتركك بلا آية، بل بينا للناس الآيات على يديك بما لا يدع مجالا للريب لدى طالبى الحق بالدليل والبرهان، ولديهم الاستعداد للعلم واليقين، ولن يكون هذا إلا لمن صفت نفوسهم، وسلموا من العناد والمكابرة اللّذين يمنعان من وصول نور الحق إلى القلوب، وقد كان كبار الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يظهر لهم دليله، لأنهم طبعوا على معرفة الحق بالبينة.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ) أي إنا أرسلناك بالشيء الثابت الذي لا تضلّ فيه الأوهام، بسعد من أخذ به، ويثلج قلبه بروح اليقين، وهذا شامل للعقائد المطابقة للواقع، وللشرائع التي توصل صاحبها إلى سعادة المعاش والمعاد. (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي لتبشر من أطاع، وتنذر من عصى، لا لتجبر على الإيمان، فلا عليك إن أصروا على الكفر والعناد (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) . (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي فلا يضرنّك تكذيب المكذبين الذين يساقون بجحودهم إلى الجحيم، فأنت لم تبعث ملزما ولا جبارا، فتكون مقصرا إن لم يؤمنوا، بل بعثت معلما وهاديا بالدعوة وحسن الأسوة، كما قال: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) . وفي هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم لئلا يضيق صدره كما قال تعالى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) . (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) الطريقة المشروعة للعباد تسمي ملة، لأن الأنبياء أملّوها وكتبوها لأمتهم، وتسمى دينا، لأن العباد انقادوا لمن سنها، وتسمى شريعة لأنها مورد للمتعطشين إلى ثواب الله ورحمته. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يبادر أهل الكتاب إلى الإيمان به، ومن ثم كبر عليه إعراضهم عن إجابة دعوته، وإلحافهم في مجاحدته، مع موافقتهم له فى أصل دينهم، من توحيد الله وتقويم ما اعوجّ من الفطرة الإنسانية، بما طرأ عليها من التقاليد الفاسدة بالمعارف الدينية الصالحة إلى أقصى حد مستطاع. وفي الآية تيئيس له عليه السلام من طمعه في إسلامهم، إذ علق رصاهم عنه بما هو مستحيل أن يكون، وهو اتباع ملتهم والدخول في دينهم، لأنهم اتخذوا الدين جنسية لا يرضون عن أحد إلا إذا دخل في حظيرتها، وانضوى تحت لوائها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 121 إلى 123]

وكلامهم هذا يتضمن أن ملتهم هى الهدى لا ما سواها، ومن ثم ردّ الله عليهم بقوله آمرا نبيّه. (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى) أي إن الهدى هو ما أنزله الله على أنبيائه، لا ما أضافه إليه اليهود والنصارى بالهوى والتشهي، ففرقوا دينهم وكانوا شيعا، كلّ شيعة تكفر الأخرى وتقول إنها ليست على شىء. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي ولئن اتبعت ما أضافوه إلى- دينهم وجعلوه أصلا من أصول شريعتهم بعد ما حصل لك من اليقين والطمأنينة بالوحى الإلهى الذي نزل عليك، ومنه علمت أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويل، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به. (ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي فالله لا ينصرك ولا يساعدك على ذلك، إذ أن اتباع الهوى لا يكون طريقا موصلا إلى الهدى، وإذا لم ينصرك الله ويتولّ شئونك فمن ذا الذي ينصرك من بعده؟ وهذا الإنذار الشديد والوعيد والتهديد وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي عصمه الله من الزيغ والزلل وأيده بالكرامة، هو في الحقيقة خطاب للناس كافة فى شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جرى العرف في خطاب الملوك أن يقال للملك: إذا فعلت كذا كانت العاقبة كذا، ويراد إذا فعلته دولتك أو أمتك. والكلام هنا جاء على هذا الأسلوب ليرشد من يأتي بعده أن يصدع بالحق، وينتصر له ولا يبالى بمن خالفه مهما قوى حزبه واشتدّ أمره، فمن عرف الحقّ وعرف أن الله ولىّ أمره وناصره لا يخاف في تأييده لوم اللائمين، ولا إنكار المعاندين. [سورة البقرة (2) : الآيات 121 الى 123] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

المعنى الجملي

المعنى الجملي هذه الآيات سيقت استدراكا على ما قبلها، فإن ما تقدم كان تيئيسا للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من إيمان أهل الكتاب وسلب ما كان يخالج نفوسهم من الرجاء، وهنا أرشد إلى أن فريقا منهم يرجى إيمانهم وهم الذين يتدبرون كتابهم ويميزون بين الحق والباطل ويفهمون أسرار الدين ويعلمون أن ما جئت به هو الحق الذي يتفق مع مصالح البشر، فهو الذي يهذب نفوسهم، ويصفى أرواحهم، وينظم معايشهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة. وبعد أن أقام عليهم الحجة دعاهم وناداهم وطلب إليهم أن يتركوا الغرور المانع لهم من الإيمان، إذ لا ينبغى لمن كرمه الله وفضله على غيره من الشعوب أن يكون حظه من كتابه كحظ الحمار يحمل أسفارا. الإيضاح (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي ومن أهل الكتاب طائفة تقرأ التوراة قراءة تأخذ بمجامع قلوبهم، وتدخل في شغاف أفئدتهم، فيراعون ضبط لفظها ويتدبرون معناها، ويفقهون أسرارها وحكمها، أولئك هم الذين يعقلون أن ما جئت به هو الحق، فيؤمنون به ويهتدون بهديه إلى سواء السبيل كعبد الله ابن سلام وأضرابه ممن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يكفر بما أنزل إليك بعد أن تبين

له أنه الحق من الرؤساء المعاندين، والجهال المقلدين (وكثير ما هم) فأولئك هم الذين خسروا سعادة الدنيا والمجد والسيادة التي يعطيها الله من ينصر دينه، كما قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) وخسروا نعيم الآخرة، وحقّ عليهم العذاب الذي أعدّه الله للكافرين. وكفرانهم به آت إما بتحريف كتابهم المبشر به حتى لا تنطبق البشارة عليه، ليوافق أهواءهم، وإما بإهماله اكتفاء بقول علمائهم الذين أضافوا إلى التوراة ما شاءوا ليشتروا به ثمنا قليلا. وفي الآية إيماء إلى أن الذين يتلون الكتاب دون أن يتدبروا معانيه، لا حظ لهم من الإيمان، لأنهم لا يفقهون هداية الله فيه، ولا تصل العظة إلى أفئدتهم بتلاوته. وفي هذا عبرة لنا كما قال: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) فينبغى أن يكون ذلك حافزا لنا في تدبر القرآن وفهمه، لا قراءته لمجرد التلاوة كما قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وقال: (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) . ولكن وا أسفا إن كل هذه الآيات والعبر لم تحل بين هذه الأمة وتقليدها من قبلها وحذوها حذوهم شبرا فشبرا وباعا فباعا، والقرآن حجة عليها كما جاء في الحديث (والقرآن حجة لك أو عليك) . ومن يتله وهو معرض عن تدبره والتأمل في العبرة منه يكن كالمستهزئ بربه، وما مثله إلا مثل من يرسل كتابا إلى آخر لغرض خاص فيقرؤه المرسل إليه مثنى وثلاث ورباع، ويترنم به ولا يلتفت إلى معناه، ولا يكلف نفسه إجابة ما طلب فيه، أيرضى المرسل بمثل هذا ويكتفى به عن إجابة طلبه أم يعدّه استهزاء به؟ فعلى المؤمن في كل زمان ومكان أن يتلوا القرآن بالتدبر والفهم والعمل بما فيه، فإن كان أمّيّا أو أعجميّا فإنه ينبغى أن يطلب من أهل الذكر أن يفهموه معناه ويشرحوا له مغزاه.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) هذا عظة لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل، وتذكير لهم بما سلف من نعمة الله على آبائهم بإنقاذهم من أيدى عدوهم وإنزاله المنّ والسلوى عليهم، وتمكينه لهم في البلاد بعد أن كانوا أذلاء مقهورين، وإرساله الرسل منهم وتفضيلهم على غيرهم ممن كانوا بين ظهرانيهم حين كانوا مطيعين للرسل مصدّقين لما جاءهم من عند ربهم- حتى يتركوا التمادي فى الغى والضلال ويثوبوا إلى رشدهم. ومن أجلّ ما أنعم به عليهم التوراة التي أنزلت عليهم، وذكرها يكون بشكرها، وشكرها يكون بالإيمان بجميع ما جاء فيها، ومن جملته وصف النبي صلى الله عليه وسلم فهو المبشّر به فيها. (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) تقول جزى عنى هذا الأمر يجزى كما تقول قضى يقضى، زنة ومعنى، أي واتقوا يا معشر بنى إسرائيل المبدّلين كتابى، المحرفين له عن وجهه، المكذبين برسولى محمد صلى الله عليه وسلم- عذاب يوم لا تقضى فيه نفس عن نفس شيئا من الحقوق التي لزمتها، فلا تؤخذ نفس بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئا كما ورد في الصحيحين «يا فاطمة بنت محمد سلينى من مالى ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئا» . (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) العدل الفدية: أي لا يؤخذ من نفس فدية تنجو بها من النار، إذ هى لا تجد ذلك لتفتدى به، ولا يشفع فيما وجب عليها من حقّ شافع، وقد كانوا يعتقدون بالمكفّرات تؤخذ فدية عما فرطوا فيه، وبشفاعة أنبيائهم لهم، فأخبرهم الله أنه لا يقوم مقام الاهتداء به شىء آخر. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي إنه لا يأتيهم ناصر ينصرهم فيمنع عذاب الله عنهم إذا نزل بهم. وهذا ترهيب لمن سلفت عظتهم في الآية قبلها.

[سورة البقرة (2) : آية 124]

[سورة البقرة (2) : آية 124] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) تفسير المفردات الابتلاء: الاختبار، أي معرفة حال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه فعله أو تركه، والكلمات: واحدها كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وعلى الكلام المفيد، والمراد هنا معناها من أمر ونهى، وأتمهنّ: أي قام بهنّ خير قيام وأدّاهنّ أحسن التأدية بلا تفريط ولا توان، وإماما: أي رسولا. المعنى الجملي بعد أن حاجّ سبحانه أهل الكتاب وبيّن كفرهم بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة كتبهم به، ذكر هنا الأساس الذي بنى عليه الإسلام والنسب الذي يمتّ به ويحترمه أهل الكتاب ومشركو العرب، وهو ملة إبراهيم ونسبه، فلا فضل إذا لليهود على العرب بأنهم يمتون بالنسب إلى إبراهيم ودين إبراهيم، إذ النسب واحد والملة واحدة. فالقرآن حاج أهل الكتاب الذين جاء لإصلاح دينهم بما أدخلوه عليه من تحريف لبعضه ونسيل لبعضه الآخر، وأثبت التوحيد والتنزيه لله تعالى، وحاج أهل الشرك والوثنية التي جاء لمحوها، تارة بالبراهين العقلية وتارة بالأدلة الكونية في كثير من السور ولا سيما السور المكية. الإيضاح (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) أي واذكر لقومك المشركين وغيرهم

حين اختبر إبراهيم ربّه ببعض الأوامر والنواهي، فأدّاها خير الأداء، وأتي بها على وجه الكمال كما قال: (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) . والمراد من ذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من الحوادث، لأن الوقت محتو عليها، فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا. والقرآن الكريم لم يعين الكلمات، ومن ثم اختلفوا فيها فقيل هى مناسك الحج، وقيل إنها الكواكب والشمس والقمر التي رآها واستدلّ بأفولها على وحدانية الله تعالى والعرب التي خوطبت به كانت تعرف المراد منها. (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) أي قال إنى جاعلك للناس رسولا يؤتمّ بك، ويقتدى بهداك إلى يوم القيامة، فدعا الناس إلى الحنيفية السمحة وهى الإيمان بالله وتوحيده والبراءة من الشرك، وما زال هذا جاريا في ذريته، فلم ينقطع منها دين التوحيد، ولأجل هذا وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم. (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي قال واجعل من ذريتى أئمة يقتدى بهم، وقد جرى إبراهيم على سنة الفطرة، فتمنى لذريته الخير في أجسامهم وعقولهم وأخلاقهم، ولا غرو فالإنسان يرجو أن يكون ابنه أحسن منه في جميع ذلك. (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي قال أجبتك إلى ما طلبت، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن عهدى بالإمامة لا يناله الظالمون، إذ هم لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس. وفي ذكر الظلم مانعا من الإمامة تنفير لذرية إبراهيم منه وتبغيض لهم فيه، ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهته، كيلا يقعوا فيه ويحرموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها، كما هو تنفير من الظالمين وعدم مخالطتهم. فالإمامة الصالحة لا تكون إلا لذوى النفوس الفاضلة التي تسوق صاحبها إلى خير العمل، وتزعه عن الشرور والآثام، ولا حظّ للظالمين في شىء من هذا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 125 إلى 126]

والخلاصة- إن الإمامة والنبوة لا ينالها من دنّس نفسه ودسّاها بالظلم وقبيح الخلال، وإنما ينالها من شرفت خلاله، وكملت أخلاقه، وصفت نفسه، لأن أهم أعمال الإمام رفع الظلم والفساد حتى ينتظم العمران، وتسود السكينة بين الناس. [سورة البقرة (2) : الآيات 125 الى 126] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) تفسير المفردات البيت: غلب استعماله في بيت الله الحرام بمكة، مثابة: أي مرجعا يثوب إليه هؤلاء الزوار وأمثالهم، وأمنا: أي موضع أمن، ومقام إبراهيم: هو الحجر الذي كان يقوم عليه حين بناء الكعبة، والمصلى: موضع الصلاة أي الدعاء والثناء على الله تعالى وعهد إليه بكذا إذا وصاه به، والثمرات: المأكولات مما يخرج من الأرض والشجر، والاضطرار: الإكراه، يقال اضطررت فلانا إلى كذا: أي ألجأته إليه وحملته عليه. المعنى الجملي ذكّر سبحانه العرب في هذه الآيات بنعم أسبغها عليهم ومنن قلّدها جيدهم، وهى جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه، وجعله مأمنا لهم في هذه البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب، ودعوة إبراهيم للبيت وأهله

الإيضاح

المؤمنين، وفي التذكير بهذا فائدة في تقرير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأنها مبنية على أصول ملة إبراهيم الذي يحترمه العرب جميعا. الإيضاح (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) أي واذكروا حين أن جعلنا البيت الحرام مرجعا للناس يثوبون إليه للعبادة، ويقصدونه لأداء المناسك فيه، وجعلناه أمنا لاحترام الناس له وتعظيمهم إياه بعدم سفك دم فيه، حتى كان يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له بسوء ونحو الآية قوله في سورة العنكبوت: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟) . (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) أي وقلنا لهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وفائدة ذكر هذا الأمر أن يستحضر السامع أو التالي المأمورين، وكأن الأمر يوجه إليهم، ليقع في نفوس المخاطبين به أن الأمر يتناولهم وأنه موجه إليهم كما وجه إلى سلفهم فى عهد أبيهم إبراهيم، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ له، فنحن مأمورون بالدعاء في مقام إبراهيم، كما أمر به من كان في عصره من المؤمنين. (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي ووصينا إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت من كل رجس معنوى كالشرك بالله وعبادة الأصنام، أو رجس حسى كاللغو والرفث والتنازع فيه، حين أداء العبادات كالطواف به والسعى بين الصفا والمروة والعكوف فيه والركوع والسجود. وفي الآية إيماء إلى أن إبراهيم كان مأمورا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل على معرفة الطريق التي كانوا يؤدونها بها، وسماه الله بيته لأنه جعله معبدا للعبادة الصحيحة، وأمر المصلين بأن يتوجهوا في عبادتهم إليه.

والحكمة في ذلك أن الخلق في حاجة إلى التوجه إلى خالقهم لشكره والثناء عليه والتوسل إليه لاستمداد رحمته ومعونته، وهم يعجزون عن التوجه إلى موجود غيبىّ لا يتقيد بمكان ولا ينحصر في جهة، فعيّن لهم مكانا نسبه إليه رمزا إلى أن ذاته المقدسة تحضره، والحضور الحقيقي محال عليه، فالمراد أن رحمته الإلهية تحضره، ومن ثمّ كان التوجه إلى هذا المكان كالتوجه إلى تلك الذات العلية لو وجد العبد إلى ذلك سبيلا. (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) أي قال: رب اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة، وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلّطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك مما ينبئ عن سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد. وقد استجاب الله دعاءه فلم يقصده أحد بسوء إلا قصم ظهره، ومن تعدى عليه لم يطل زمن تعديه، بل يكون تعديا عارضا ثم يزول. (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي وارزق أهله من أنواع الثمار إما بزرعها بالقرب منه، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابة لدعوة إبراهيم كما هو مشاهد، وقد جاء في سورة القصص: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) . وخص إبراهيم بدعائه المؤمنين، وإن كان سبحانه لواسع رحمته جعل رزق الدنيا عاما للمؤمنين والكافرين (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) لأن تمتيع الكافرين قصير محدود بذلك العمر القصير، ثم إلى النار وبئس المصير، وهذا ما بينه عزّ اسمه بقوله: (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي قال يا إبراهيم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمنى أهل هذا البلد من الثمرات، ورزقت

[سورة البقرة (2) : الآيات 127 إلى 129]

كفارهم أيضا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدا قليلا وهو مدة وجودهم في الدنيا، ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا اختيار لهم فيه، ولا يعلمون أن عملهم ينتهى بهم إليه. ذاك أن أعمال البشر التي تقع باختيارهم، لها آثار وغايات اضطرارية تنتهي بهم إليها وتكون نتيجة لها بحسب ما وضعه الله في نظام الكون من وجود المسبّبات عقب وجود أسبابها، فالإسراف في الشهوات يفضى إلى بعض الأمراض في الدنيا، كذلك الكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسوقهم، وستكون نتيجة ذلك سوقهم إلى عذاب النار بمقتضى السنن الموضوعة. وكل أعمال الإنسان النفسية والبدنية لها الأثر الذي يفضى بصاحبها إلى السعادة أو الشقاء، وهى أعمال كسبية اختيارية فالإنسان متمكن من اختيار الحق وترك الباطل وترك الخبيث وفعل الطيب بما أعطاه الله من العقل وبما نزل عليه من الوحى، فإذا حاد عن ذلك يكون قد ظلم نفسه وعرّضها للعذاب والشقاء بأعماله التي مبدؤها كسبىّ وأثرها اضطراري. وهذه السنن بقضاء الله وتقديره، ومن ثم يصح أن يقال إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه، وجعل الأرواح المدنّسة بالأخلاق الذميمة أو بالعقائد الفاسدة محل سخطه وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأمراض القذرة عرضة للأمراض في الدنيا. [سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

تفسير المفردات

تفسير المفردات القواعد: واحدها قاعدة، وهى ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من السافات (طاقات البناء) ورفعها إعلاء البناء عليها، وتقبل الله العمل: قبله ورضى به، مسلمين أي منقادين لك، يقال أسلم واستسلم إذا خضع وانقاد، والأمة الجماعة، والمناسك: واحدها منسك (بفتح السين) من النسك وهو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله فى عبادة الحج خاصة، كما شاع استعمال المناسك في معالم الحج وأعماله، وتاب العبد إلى ربه إذا رجع إليه، لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله وعن موجبات رضوانه، وتاب الله على العبد: رحمه وعطف عليه، والكتاب القرآن، والحكمة أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة، قال ابن دريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة. أو نهتك عن قبيح فهي حكمة، ويزكيهم: أي يطهر نفوسهم من دنس الشرك وضروب المعاصي، العزيز: أي القوى الغالب، الحكيم: أي الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. المعنى الجملي بعد أن ذكّر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطنى هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءه، إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار ليتمتع بها أهله، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركّع السجود، تنبيها لهم إلى أنه لا ينبغى أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة.

الإيضاح

انتقل بهم إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدّعى أنها على ملة إبراهيم، وسائر العرب فى ذلك تبع لقريش. الإيضاح (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) أي واذكروا إذ يرفع إبراهيم قواعد البيت وأساسه، وهذا نصّ في أنهما هما اللذان بنياه لعبادة الله في تلك البلاد الوثنية، وجعلاه موضعا لضروب من العبادة التي لا تكون في غيره، وذلك هو مصدر شرفه لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بأنه نزل من السماء، فكل ما روى بصدد هذا فهو من الإسرائيليات التي لا يعول عليها ولا ينبغى تصديقها، ولا يقبلها العلماء الذين يفقهون أسرار الدين ويفهمون مراميه، ومن ثم قال عمر بن الخطاب عند استلام الحجر الأسود: «أما والله إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك، ثم دنا فقبّله» رواه أحمد والبخاري ومسلم. وفي هذا الأثر إيماء إلى أن الحجر لا مزية له في ذاته، بل هو كسائر الأحجار، وإنما استلامه امر تعبدى كاستقبال الكعبة في الصلاة، وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدّه مكان، ولا تحصره جهة. (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي إن إبراهيم وإسماعيل كانا يقولان في دعائهما وهما يرفعان قواعد البيت: (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) . (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي ربنا أنت السميع لدعائنا، العليم بنياتنا في جميع أعمالنا

وفي الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأدّاها كما أمر وبذل أقصى الوسع في ذلك- فعليه أن يتضرّع إلى الله ويبتهل، ليتقبل منه ما عمل ولا يرده خائبا ولا يضيع سعيه سدى، كما أنه لا ينبغى أن يجزم بأن عبادته متقبّلة، ولولا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة. (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي ربنا واجعلنا مخلصين لك في الاعتقاد بألا نتوجه بقلبنا إلا إليك، ولا نستعين بأحد إلا بك، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك لا اتباع الهوى ولا إرضاء الشهوة. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة، وقد أجاب الله دعاءهما وجعل في ذريتهما الأمة الإسلامية وبعث فيها خاتم النبيين. ومما سلف تعلم أن المراد بالإسلام الانقياد والخضوع لخالق السموات والأرض، وليس المراد منه الأمة الإسلامية خاصة حتى يكون كل من يولد فيها ويلقب بهذا اللقب ينطبق عليه اسم الإسلام الذي نطق به القرآن ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم صلوات الله عليه. (وَأَرِنا مَناسِكَنا) أي عرّفنا مواضع نسكنا أي أفعال الحج كالمواقيت التي يكون منها الإحرام، وموضع الوقوف بعرفة، وموضع الطواف إلى نحو ذلك من أفعاله وأقواله. (وَتُبْ عَلَيْنا) أي ووفقنا للتوبة، لنتوب ويرجع إليك من كل عمل يشغلنا عنك، وهذا نظير قوله تعالى: (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) . وهذا منهما إرشاد لذريتهم، وتعليم منهما لهم بأن البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله. (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنك أنت وحدك كثير التوبة على عبادك بتوفيقهم

لحسن العمل وقبول ذلك منهم، الرّحيم بالتائبين المنجّى لهم من عذابك وسخطك. (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) أي ربنا وأرسل في الأمة المسلمة لك رسولا من أنفسهم ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعزّ به، وأقرب لإجابة دعوته، إذ أنهم يكونون قد خبروه وعرفوا منشأه ودرسوا فاضل أخلاقه من صدق وأمانه وعفة ونحو ذلك مما هو شرط في صحة نبوّة النبي. وقد أجاب الله دعوته، وأرسل خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا منهم، ومن ثمّ روى الإمام أحمد قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى» . (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) أي يقرأ عليهم ما توحى إليه من الآيات التي تنزلها عليه، متضمنة تفصيل الآيات الكونية الدالة على وحدانيتك، ومشتملة على إمكان البعث والجزاء، بالثواب على صالح الأعمال والعقاب على سيئها، فيكون في ذلك عبرة لمن هداه الله ووفقه للخير والسعادة. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي ويعلمهم القرآن وأسرار الشريعة ومقاصدها بسيرته بين المسلمين فيكون قدوة لهم في أقواله وأفعاله. (وَيُزَكِّيهِمْ) أي ويطهر نفوسهم من الشرك وضروب المعاصي التي تدسّيها وتفسد الأخلاق وتقوّض نظم المجتمع، ويعوّدها الأعمال الحسنة التي تطبع فيها ملكات الخير التي ترضى المولى جلّ وعلا. (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إنك أنت القوى الذي لا يغلب ولا ينال بضيم من توكل عليك، الحكيم في أفعالك في عبادك، فلا تفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. وقد ختم إبراهيم دعواته بالثناء على ربه، وذكر له من الأوصاف ما يشاكل مطالبه، فوصفه بأنه العزيز الذي لا يردّ له أمر، وأنه الحكيم الذي لا معقّب لحكمه،

[سورة البقرة (2) : الآيات 130 إلى 134]

فمن الهيّن عليه أن يجيبه إلى ما طلب، مما هو متنافر مع طباع العرب، بعيد من معايشهم وأحوالهم، فهم بعيدون عن ورود مناهل العلم، وفيهم خشونة في الطباع، وغلظ في الأكباد، ليس لديهم استعداد لحضارة ولا مدنية، وقد أجاب الله دعاءه وكوّن منهم أمة كانت خير الأمم، سادت العالم وملكت المشارق والمغارب ردحا من الزمان، وكان فيها رجال حفظ لهم التاريخ صادق بلائهم، وعظيم سياستهم للشعوب التي انضوت تحت لوائهم، بما لم تجارهم فيه أرقى الأمم مدنية في عصرنا، عصر الرقى والحضارة. [سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 134] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) تفسير المفردات رغب في الشيء: أحبه، ورغب عنه كرهه، وسفه نفسه: أذلّها واحتقرها، واصطفيناه: أي اخترناه وأصل الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وهى خالصه، أسلم: أي

المعنى الجملي

أخلص لى العبادة، والتوصية: إرشاد غيرك إلى ما فيه خير وصلاح له من قول أو فعل على جهة التفضل والإحسان في أمر دينى أو دنيوى، مسلمون: أي مخلصون بالتوحيد، والشهداء: واحدهم شهيد، أي حاضر، وحضور الموت: حضور أماراته وأسبابه وقرب الخروج من الدنيا، والأمة: الجماعة، وخلت: مضت وذهبت، لها ما كسبت: أي ما عملت، ولكم ما كسبتم: أي أنتم مجزيون بأعمالكم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهنّ، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة، فصدع بما أمر، أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهى التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغى التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذلّ نفسه واحتقرها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم بنيه، ثم ردّ على شبهة لليهود إذ قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم إن يعقوب كان يهوديا، وكذبهم بمقال لبنيه له حين موته: نعبد إلهك وإله آبائك الإله الواحد. وقد روى في سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، قال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبي مهاجر. الإيضاح (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي إن ملّتكم هى ملّة أبيكم إبراهيم الذي إليه تنتسبون، وبه تفخرون، فكيف ترغبون عنها وتحتقرون عقولكم وتدعون أولياء من دون الله لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا.

(وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولقد اجتبيناه من بين خلقنا، وجعلنا في ذريته أئمة يهدون بأمرنا، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير والصلاح وإرشاد الناس للعمل بهذه الملة. ولا شكّ أن ملة هذا شأنها، وبها كانت له المكانة عند ربه، لا يرغب عنها إلا سفيه يعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته. وفي الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة وعدة له بذلك. (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الآيات ونصب له من الأدلة على وحدانيته، فلبّى الدعوة. (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي قال أخلصت دينى لله الذي فطر الخلق جميعا، ونحو هذا قوله: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) . وقد نشأ إبراهيم في قوم عبدة أصنام وكواكب، فأنار الله بصيرته، وألهمه الحق والصواب، فأدرك أن للعالم ربّا واحدا يدبره ويتصرف في شئونه وإليه مصيره، وحاجّ قومه في ذلك وبهرهم بحجته فقال: (أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) إلى آخر الآيات التي جاءت في سورة الأنعام. (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي ووصّى بهذه الملة التي ذكرت في قوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) إبراهيم أولاده ووصّى بها يعقوب من بعده أولاده أيضا، قائلين لهم: إن الله اصطفى لكم دين الإسلام الذي لا يتقبل الله سواه. (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي فحافظوا على الإسلام لله ولا تفارقوه برهة واحدة، فربما تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم.

وفي هذا النهى إيماء إلى أنّ من كان منحرفا عن الجادّة لا ييأس، بل عليه أن يبادر بالرجوع إلى الله ويعتصم بحبل الدين، خيفة أن يموت وهو على غير هدى، فالمرء مهدّد في كل آن بالموت. دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثوانى ثم أكد أمر الوصية وزاده تقريرا، وأقام الحجة على أهل الكتاب فوجه إليهم الخطاب وقال: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أي أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين محمدا الجاحدين نبوّته- شهودا حين حضر يعقوب الموت، فتدّعون أنه كان يهوديّا أو نصرانيّا، فقد روى أن اليهود قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية؟ وخلاصة ذلك- أنتم لم تحضروا ذلك فلا تدّعوا عليه الأباطيل وتنسبوه إلى اليهودية أو النصرانية، فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية المسلمة، وبها وصّوا بنيهم وعهدوا إلى أولادهم من بعدهم. (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي أكنتم شهداء حين قال لبنيه: أىّ معبود تعبدون من بعدي؟ ومراده من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بثباتهم على الإسلام والتوحيد، وأن يكون مقصدهم في جميع أعمالهم وجه الله ومرضاته، وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان، كما قال في دعائه: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) . (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي قالوا: نعبد الإله الذي قامت الأدلة العقلية والحسية على وجوده ووجوب عبادته لا نشرك به سواه، ونحن له منقادون خاضعون معترفون له بالعبودية متوجهون إليه عند الملمّات، وقد كانوا في عصر فشت فيه عبادة الأصنام والكواكب، والحيوان وغيرها.

وجعلوا إسماعيل (وهو عمه) أبا تشبيها له بالأب، وقد روى الشيخان قوله عليه السلام «عم الرجل صنو أبيه» . وقد أرشدت الآية الكريمة إلى أن دين الله واحد في كل أمة، وعلى لسان كلّ نبىّ، وروحه التوحيد والاستسلام لله، والإذعان لهدى الأنبياء، وبهذا كان يوصى النبيون أممهم كما قال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) . فالقرآن يحثّ الناس على الاتفاق في الدين الذي أساسه أمران: أولهما التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه، وثانيهما الاستسلام لله والخضوع له في جميع الأعمال، فمن لم يتصف بذلك فليس بالمسلم أي ليس على الدين القيم الذي كان عليه الأنبياء. والناس يطلقون الإسلام اليوم لقبا على طوائف من الناس لهم ميزات دينية، وعادات تميزهم من سائر الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى، وقد يكون من بعض أهله من لم يكن مستسلما مخلصا لله في أعماله، بل قد يكون مبتدعا ما ليس منه، أو فاسقا عنه قد اتخذ إلهه هواه. والإسلام الذي دعا إليه القرآن هو الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدع إلى الإسلام بمعنى ذلك اللقب المعروف اليوم. (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن سنة الله في عباده ألا يجزى أحد إلا بكسبه وعمله، ولا يسأل إلا عن كسبه وعمله كما جاء في قوله: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وجاء في الحديث: «يا بنى هاشم، لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم» . وقال الغزالي: إذا كان الجائع يشبع إذا أكل والده دونه، والظمآن يروى بشرب والده وإن لم يشرب، فالعاصى ينجو بصلاح والده.

[سورة البقرة (2) : الآيات 135 إلى 138]

ومن هذا تعلم أن من يخاطب أصحاب القبور حين الاستغاثة بهم بنحو قوله: (المحسوب منسوب) فقد ضلّ ضلالا بعيدا، وخالف ما تظاهر من نصوص الدين التي تدلّ على خلاف ما يقول: [سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 138] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) تفسير المفردات الحنيف: المائل، وأطلق على إبراهيم لأنه خالف الناس جميعا، ومال عن الكفر إلى الإيمان، والأسباط: واحدهم سبط، وسبط الرجل ولد ولده، والأسباط: من بنى إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم، وما أوتى موسى: هو التوراة، وما أوتى عيسى: هو الإنجيل، والشقاق: مأخوذ من الشّق وهو الجانب، فكأن كل واحد في شقّ غير شق صاحبه لما بينهما من عداوة، والصبغة: فى اللغة اسم لهيئة صبغ الثوب وجعله بلون خاص.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن دعا سبحانه العرب إلى الإسلام وأشرك معهم أهل الكتاب، لأنهم أجدر بإجلال إبراهيم واتباعه، وفي أثناء ذلك بين حقيقة ملة إبراهيم على الوجه الحقّ لا كما يعتقده اليهود والنصارى، ثم بيّن أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا، والفوارق فى الجزئيات والتفاصيل لا تغيّر من جوهر الدين في شىء، وقد جهل أهل الكتاب هذه الحقيقة، فقصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين من التفاصيل والتقاليد التي أضافوها إلى التوراة والإنجيل، فبعد كل من الفريقين من الآخر أشدّ البعد، وصار كل منهما يحتكر الإيمان لنفسه، ويرمى الآخر بالكفر والإلحاد. الإيضاح (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) أي وقالت اليهود: لا دين إلا اليهودية ولا يتقبل الله سواها، لأن نبيهم موسى أفضل الأنبياء، وكتابهم أفضل الكتب، ودينهم خير الأديان، ويكفرون بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: لا يتقبل الله إلا النصرانية لأن الهداية خاصة بها، إذ عيسى أفضل الأنبياء وكتابهم أجلّ الكتب، ودينهم خير الأديان، وقد كفروا بموسى والتوراة ومحمد والقرآن، ولو صحّ ما تقولون: لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وأنتم جميعا متفقون على أنه سيد المهتدين وإمامهم، ومن ثمّ ردّ الله عليهم بقوله: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم الذي لا تنازعون فى هداه، فهى الملة التي لا انحراف فيها ولا زيغ. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم.

وفي هذا تعريض بأهل الكتاب وبيان بطلان دعواهم اتباع إبراهيم مع إشراكهم لقولهم عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. ودين إبراهيم الحنيف هو الدين الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنون به. وبعد أن أمر الله نبيّه أن يدعو الناس إلى اتباع ملة إبراهيم، أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أي قولوا آمنا بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة لرب العالمين، فلا نكذّب أحدا منهم فيما ادّعاه ودعا إليه في عصره، بل نصدق بذلك تصديقا جمليا ولا يضيرنا تحريف بعض وضياع بعض، فإن التصديق التفصيلي إنما يكون لما أنزل إلينا فحسب. روى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله. الآية. وروى ابن أبي حاتم عن معقل مرفوعا «آمنوا بالتوراة والإنجيل وليسعكم القرآن» . (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء، وتبرّأت النصارى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرّت بغيره، بل نشهد أن الجميع رسل الله بعثوا بالحقّ والهدى (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي ونحن خاضعون له بالطاعة مذعنون له بالعبودية، وذلك هو الإيمان الصحيح، وأنتم لستم كذلك، بل أنتم متبعون أهواءكم لا تحولون عنها.

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي فإن آمنوا الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين، كما نؤمن به نحن وتركوا ما هم عليه من ادّعاء حلول الله فى بعض البشر وكون رسولهم إلها أو ابن إله، فقد اهتدوا إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم. ذاك أنه قد طرأ على إيمانهم بالله نزعات الوثنية وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس، وتمسكوا برسوم العبادات ونقصوا منها وزادوا عليها مما بعدوا به عن مقاصد الأديان من حيث يدعون العمل بها كاملة غير منقوصة. (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي وإن أعرضوا عما تدعوهم إليه من الرجوع إلى أصل الدين ولبّه، وفرّقوا بين رسل الله فصدّقوا ببعض وكفروا ببعض، فإن أمرهم يكون محصورا في المشاقّة والعداوة وكل ما يوسع مسافة الخلف بينكم وبينهم. (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي فسيكفيك الله إيذاءهم وسيّئ مكرهم ويؤيد دعوتك وينصرك عليهم نصرا مؤزرا. وقد أنجز الله وعده للنبى والمؤمنين، فقتل وسبى بنى قريظة، ونفى بنى النّضير إلى الشام، وضرب الجزية على نصارى نجران، وهو سميع لما يقولون بألسنتهم ويبدو بأفواههم من الدعوة إلى الكفر والضلال، عليم بما يبطنون لك ولأصحابك المؤمنين من الحسد والبغضاء. (صِبْغَةَ اللَّهِ) أي صبغنا الله وفطرنا على الاستعداد للحق والإيمان بما جاء به الأنبياء والمرسلون، ولا نتبع آراء الرؤساء وأهواء الزعماء وتقاليدهم الوضعية، وهو زينتنا التي بها نتحلى كما يتحلى الثوب بالصبغ. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) أي لا أحد تكون صبغته أحسن من صبغة الله، فإنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أدران الكفر، وينجيهم من

[سورة البقرة (2) : الآيات 139 إلى 141]

الشرك، فهى جماع كل خير وبها تتآلف القلوب والشعوب، وتزكو النفوس أما ما أضافه الأحبار والرهبان من أهل الكتاب إلى الدين، فهو من الصبغة البشرية، والصبغة الإنسانية، التي تجعل الدين الواحد مذاهب متفرّقة، والأمة شيعا متنافرة. (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) ولا نعبد سواه، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون فى ديننا وينقصون، ويحلون ويحرّمون، ويمحون من نفوسنا صبغة التوحيد ويثبتون مكانها صبغة البشر التي تفضى إلى الإشراك بالله واتخاذ الأنداد له. وفي الآية إيماء إلى أن الإسلام لم يشرع أعمالا خاصة يتميز بها المسلم من سواه، كما شرع النصارى المعمودية، بل المعوّل عليه ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحبّ الخير والاعتدال كما قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) . [سورة البقرة (2) : الآيات 139 الى 141] قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) تفسير المفردات المحاجة: المجادلة بدعوى الحق لدى كل من المتخاصمين مع إقامة الحجة على ذلك، في الله: أي في دينه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن الملة الصحيحة هى ملة إبراهيم وليست هى باليهودية ولا النصرانية، بل هى صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها، وهى بعيدة عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاع الرؤساء فطمست ما جرى عليه الأنبياء حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى الرجوع إليها، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه شرع هنا يبطل الشبهات التي تعترض سبيل الحق، فلقّن نبيه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات. روى أن سبب نزول هذه الآيات أن اليهود والنصارى قالوا: يجب أن يكون الناس لنا تبعا في الدين، لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع، فردّ الله عليهم بما ستعلم بعد. الإيضاح (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ؟) أي أتدّعون أن الدين الحق هو اليهودية والنصرانية، وتقولون حينا: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وحينا آخر تقولون: (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ومن أين جاءكم هذا القرب من الله دوننا، والله ربنا وربكم وربّ العالمين، فهو الخالق وجميعنا خلقه، وإنما يتفاضل الناس بأعمالهم، وآثار أعمالنا عائدة إلينا خيرا كانت أو شرّا، وآثار أعمالكم كذلك لكم على هذا النحو، ونحن له مخلصون في أعمالنا لا نبتغى إلا وجهه، أما أنتم فقد اتكلتم على أسلافكم من الصالحين، وزعمتم أنهم شفعاء لكم عند ربكم مع انحرافكم عن سيرتهم، إذ هم ما كانوا يتقربون إلا بصالح العمل وصادق الإيمان، فاجعلوهم رائدكم وانهجوا نهجهم تنالوا الفوز والسعادة.

وخلاصة ما سبق- إن روح الدين التوحيد، وملاك أمره الإخلاص المعبّر عنه بالإسلام، فإذا زال هذا المقصد وحفظت الأعمال الصورية لم يغن ذلك شيئا، وأهل الكتاب أزهقوا هذا الروح وحفظوا الرسوم والتقاليد، فهم ليسوا على شىء من الدين، ولكنّ محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بما أحيا ذلك الروح الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين، فهو الذي كمّل شريعتهم بشريعته التي تصلح لجميع البشر في كلّ زمان ومكان. (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) أي أتقولون: إن اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله وهو ربنا وربكم، أم تقولون إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها إنما كان بأن هؤلاء الأنبياء كانوا عليها، فإن كان هذا ما تدّعون فأنتم كاذبون فيما تقولون، فإن هذين الاسمين إنما حدثا فيما بعد، فما حدث اسم اليهودية إلا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلا بعد عيسى، فكيف تزعمون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، وقضية العقل شاهدة بكذبكم؟ (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟) أي أأنتم أعلم بالمرضىّ عند الله، أم الله أعلم بما يرضيه وما يتقبله؟ لا شكّ أن الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملة إبراهيم وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدّقه قبل أن تجىء اليهودية والنصرانية، فلماذا لا ترضون لأنفسكم هذه الملة؟ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) أي لا أحد أشدّ ظلما ممن يكتم شهادة مثبتة في كتاب الله تبشر بأن الله يبعث فيهم نبيّا من بنى إخوتهم وهم العرب أبناء إسماعيل. وهم لا يزالون يكتمون ذلك، فينكرون على غير المطّلع على التوراة، ويحرّفون على المطلع عليها. وخلاصة ما سلف- أنه أقام ثلاث حجج تدحض ما ادّعوا: (1) قوله: (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) . (2) قوله: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) إلخ. (3) قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) إلخ.

(وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي إن الله لا يترك أمركم سدى، بل يعذبكم أشدّ العذاب، وهو محيط بما تأتون وما تذرون. ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد عقب التقريع والتوبيخ. (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن جماعة الأنبياء قد مضت بالموت، ولها ما كسبت من الأعمال، ولكم ما كسبتم منها، ولا يسأل أحد عن عمل غيره، بل يسأل عن عمل نفسه ويجازى به، فلا يضره ولا ينفعه سواه، وهذه قاعدة أقرتها الأديان جميعا وأيّدها العقل كما قال: (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) . لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين، وساعدهم على ذلك رؤساء الأديان فأوّلوا لهم نصوص الدين اتباعا للهوى، ومن ثمّ جاء القرآن يقرّر ارتباط السعادة بالكسب والعمل، وينفى الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتد بهم في صالح أعمالهم، وقد حاجّ بذلك أهل الكتاب الذين يفتخرون بأسلافهم ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة. وعلينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا ورائدنا في أعمالنا تلك القاعدة- الجزاء على العمل- ولا نغتر بشفاعة سلفنا الصالح، ونجعلها وسيلة لنا في النجاة إذا نحن قصّرنا في عملنا، فكل من السلف والخلف مجزىّ بعمله، ولا ينفع أحدا عمل غيره. وفّقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) . وصلى الله على سيدنا محمد وآله، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين تمّ تصنيف هذا الجزء في الثامن والعشرين من صفر سنة إحدى وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان. فى مدينة حلوان من أرباض القاهرة بالديار المصرية.

فهرس أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

فهرس أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء الصفحة المبحث 3 مقدمة التفسير 5 عناية المسلمين بتفسير الكتاب الكريم. 6 التفسير في عهد الصحابة 7 التفسير في عهد التابعين 10 عصر المعرفة الإسلامية 13 آراء العلماء في كتابة المصاحف 16 نهجنا الذي سلكناه في هذا التفسير 17 أساليب المفسرين 18 ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم 19 تمحيص الروايات في كتب التفسير 22 تفسير سورة الفاتحة 23 ماحوته سورة الفاتحة من المقاصد 24 نزول القرآن منجما 26 آراء الصحابة والتابعين في البسملة 32 جزاء الأمم والأفراد في الدنيا 33 معنى العبادة شرعا 34 الاستعانة بالله أو التوكل عليه 35 ضروب الهداية 39 تفسير سورة البقرة 40 عقاب الله يتقى باتقاء أسبابه 41 الإيمان بالغيب 42 الصلاة التي طلبها الدين 44 ما يحصل به الإيمان على الوجه الصحيح 46 الختم على القلوب 53 المفسدون في كل زمان يدّعون أنهم مصلحون

الصفحة المبحث 57 مثل المنافقين في القرآن 63 الأنداد الذين نهى الله عن اتخاذهم 70 ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها 70 العهد الذي أخذه الله على عباده 73 أمر التكوين وأمر التشريع 75 أخبار النشأة الإنسانية وآراء العلماء في الحوار الذي بين الله وملائكته 85 الخلافة في الأرض 86 عالم الملائكة 87 آراء العلماء في إبليس 90 جنة آدم 92 هبوط آدم وحواء من الجنة، خلق حواء من ضلع آدم 93 عصيان آدم 95 أطوار النوع البشرى 106 الاستعانة بالصبر والصلاة 110 الشفاعة التي جاءت بها الأحاديث الصحيحة 113 الزمن الذي بين دخول بنى إسرائيل مصر في عصر يوسف وخروجهم منها فى عصر موسى 116 فرق البحر لموسى وقومه 122 الأمم متكافلة، فسعادة الفرد بسعادة سائر الأفراد وشقاؤه بشقائهم 128 الفرق بين المخترعات العلمية والمعجزات 136 المقصد من الكتب الإلهية العمل بها لا التغني بألفاظها 139 آراء العلماء في المسخ الذي حدث لبنى إسرائيل 156 أسباب حبّ الوالدين لولدهما 162 تمنى الموت 180 السحر وتأثيره، وما أنزل على الملكين ببابل 197 تخريب تيطس الرومانى بيت المقدس 206 التالي للقرآن وهو معرض عن تدبر معناه كالمستهزئ بربه 212 الحكمة في التوجه إلى البيت الحرام 213 أعمال البشر التي تقع باختيارهم لها آثار اضطرارية 217 قوله صلى الله عليه وسلم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى 218 وصية يعقوب لبنيه 226 صبغة الله

تتمة سورة البقرة

الجزء الثّاني [تتمة سورة البقرة] تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثّاني

[سورة البقرة (2) : الآيات 142 إلى 143]

الجزء الثاني بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 143] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) تفسير المفردات السفه والسفاهة: اضطراب في الرأى والفكر أو الأخلاق، ويسمى اضطراب العقل طيشا وجهلا، واضطراب الأخلاق فسادا، وولاه عن الشيء: صرفه، والقبلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل، ثم خصت بالجهة التي

المعنى الجملي

يستقبلها الإنسان في الصلاة، والصراط الطريق، والمستقيم المستوي المعتدل من الأفكار والأعمال والأخلاق، وهو ما فيه الحكمة والمصلحة، والوسط العدل والخيار، والزيادة على ذلك إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، وكلاهما مذموم، والفضيلة في الوسط كما قيل: ولا تغل في شىء من الأمر واقتصد ... كلا طرفى قصد الأمور ذميم يقال انقلب على عقبيه عن كذا إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء وهو طريق العقبين الرأفة رفع المكروه وإزالة الضرر، والرحمة أعمّ إذ تشمل دفع الضرر، وفعل الإحسان. المعنى الجملي كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يستقبل الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس في الصلاة، كما كان أنبياء بنى إسرائيل قبله يفعلون ذلك، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى لو حوّل الله القبلة إليها، ومن ثمّ كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة، فيصلى جهة جنوب الكعبة مستقبلا الشمال. فلما هاجر إلى المدينة صلى مستقبلا بيت المقدس فحسب لتعذر الجمع بينهما، وبقي على ذلك ستة عشر شهرا كان في أثنائها يتوجه إلى الله أن يجعل الكعبة هي القبلة لأنها قبلة أبيه إبراهيم، فأمره الله بذلك ونزل قوله: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» إلخ فقال اليهود والمشركون والمنافقون: ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟ وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به قبل وقوعه، ولقّنه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطّن نفسه عليه، فإن مفاجأة المكروه أشدّ إيلاما، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس، وليعدّ

الإيضاح

الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم، وقد قالوا في أمثالهم «قبل الرمي يراش السهم» وليكون الوقوع بعد الإخبار به معجزة له صلى الله عليه وسلم. ويتضمن هذا الجواب سرّا من أسرار الدين كان أهل الكتاب في غفلة عنه وجهل به، وهى أن الجهات كلها لله، فلا فضل لجهة على أخرى، فلله أن يأمر بالتوجه إلى أىّ جهة منها ويجعلها قبلة، وعلى العبد أن يمتثل أمر ربه «ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله» . الإيضاح (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟) أي سيقول الذين خفّت أحلامهم، وامتهنوا عقولهم بالتقليد والإعراض عن النظر، والتأمل من المنكرين تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين على جهة الإنكار والتعجب: أىّ شىء جرى لهؤلاء المسلمين، فصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهى قبلة النبيين والمرسلين من قبلهم؟ (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي أجبهم بأن الجهات كلها لله، فليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في جوهرها، وليس فيها من المنافع ما لا يوجد في غيرها، وكذلك الكعبة والبيت الحرام، وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة، لتكون جامعة لهم فى عبادتهم، لكن سفهاء الأحلام يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هى الصخرة المعيّنة أو البناء المعين، وقد بلغ الأمر باليهود أن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك، وما أرادوا بذلك إلا فتنته صلى الله عليه وسلم والطعن فى الدين، ببيان أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها، حدث بلا داع يدعو إليه، حتى قالوا: إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، وليرجعنّ إلى دينهم أيضا. (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي يرشد الله من يشاء إرشاده وهدايته إلى

الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين، ويلهمهم ما فيه الخير لهم، وهو تارة يكون فى التوجه إلى بيت المقدس، وأخرى في التوجه إلى الكعبة. (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي وقد جعلنا المسلمين خيارا وعدولا، لأنهم وسط فليسوا من أرباب الغلوّ في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرّطين. وقد كان الناس قبل الإسلام قسمين: مادّى لا همّ له إلا الحظوظ الجثمانية كاليهود والمشركين، وقسم تحكمت فيه تقاليده الروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمية، كالنصارى والصابئة وطوائف من وثنى الهنود أصحاب الرياضات. فجاء الإسلام جامعا بين الحقّين حق الروح وحق الجسم، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية، فالإنسان جسم وروح، وإن شئت فقل: الإنسان حيوان وملك، فكماله بإعطائه الحقين معا. (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي لتشهدوا على الماديين الذين فرّطوا في جنب الله، وأخلدوا إلى اللذات: وحرموا أنفسهم من المزايا الروحية، وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وتشهدوا على من غلا في الدين وتخلّى عن جميع اللذات الجثمانية وعذب جسمه، وهضم حقوق نفسه، وحرمها من جميع ما أعده الله لها فى هذه الحياة، فخرجوا بها عن جادة الاعتدال، وجنى على روحه بجنايته على جسمه. تشهدون على هؤلاء وهؤلاء وتكونون سباقين للأمم جميعا باعتدالكم وتوسطكم فى جميع شئونكم، وذلك هو منتهى الكمال الإنسانى الذي يعطى كل ذى حق حقه، فيؤدى حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه، وحقوق ذوى القربى وحقوق الناس جميعا. (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) إذ هو المثل الأعلى لمرتبة الوسط، فنحن إنما نستحق هذا الوصف إذا اتبعنا سيرته وشريعته، وهو الذي يحكم على من اتبعها، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أخرى، وانحرف عن الجادّة وحينئذ يكون الرسول

بدينه وسيرته حجة عليه، بأنه ليس من أمته التي وصفها الله في كتابه بقوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين. (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) أي وما جعلنا القبلة فيما مضى هى الجهة التي كنت عليها إلى اليوم، ثم أمرناك بالتحول عنها إلى الكعبة إلا ليتبين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له، فهو عرضة لرياح الشبهات، تطير به وتغدو وتروح. والخلاصة- إن الله يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين، وريب المرتابين، فيثبت من فقه الدين وعرف سره وحكمته، وتتخطف الشبهات والشكوك من أخذ الدين تقليدا من غير فقه ولا عرفان، وهكذا سبحانه يختبر ما في القلوب بما يبتلى به الناس من الفتن كما قال: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» . وقد جاء في الكتاب الكريم (لنعلم- وليعلم) وعلم الله تعالى قديم لا يتجدد، ومن ثم قال العلماء: المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع، ذاك أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت، ويترتب على ذلك الجزاء من ثواب وعقاب. (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي وكانت القبلة المحوّلة شاقة ثقيلة على من ألف التوجه إلى القبلة الأولى، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده ويثقل عليه الانتقال منه، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسر تشريعه، فعلموا أن التعبد باستقبالها إنما يكون بطاعة الله بها، لا بسرّ في ذاتها أو مكانها، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما، هو اجتماع الأمة عليها، وهو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 144 إلى 147]

(وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي وما كانت حكمة الله ورحمته تقضى بإضاعة إيمانكم الباعث لكم على اتباع الرسول في الصلاة وفي القبلة، فلو كان تحويل القبلة مما يضيع الإيمان بتفويت ثواب كان قبله لما حولها، وفي هذا بشرى للمؤمنين المتبعين للرسول بأن الله يجزيهم الجزاء الأوفى، ولا يضيع أجرهم ولا ينقصهم منه شيئا. ثم ذكر سبب ما تقدم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن الله رءوف بعباده، لأنه ذو الرحمة الواسعة، فلا يضيع عمل عامل منهم، ولا يبتليهم بما يظهر صدق إيمانهم وإخلاصهم ليضيع عليهم هذا الإيمان والإخلاص، بل ليجزيهم أحسن الجزاء. والخلاصة- إنه لا يكتفى بدفع البلاء عنهم برأفته، بل يعاملهم بعد ذلك بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل، ويزيدهم من فضله. [سورة البقرة (2) : الآيات 144 الى 147] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

تفسير المفردات

تفسير المفردات تقلب الوجه في السماء: تردده المرة بعد المرة فيها، وهى مصدر الوحى وقبلة الدعاء. نولينك، من وليه وليا إذا قرب منه، وتولية الوجه المكان جعله قبالته وأمامه، والشطر هنا الجهة، والمراد بالوجه جملة البدن، بكل آية: أي بكل برهان وحجة، وواحد الأهواء هوى وهو الإرادة والمحبة، والامتراء الشكّ. المعنى الجملي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قبلتهم حتى روى أنه قال لجبريل: وددت لو أن الله صرفنى عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات. الإيضاح (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) أي قد نرى تردد نظرك جهة السماء حينا بعد حين، تطلعا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة. (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) أي فلنجعلنّك تلى جهة تحبها وتتشوف لها غير جهة بيت المقدس.

(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي فاجعل وجهك بحيث يلى جهة المسجد الحرام، وفي ذكر (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه. (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي وفي أىّ مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم فى الصلاة، وهذا يقتضى أن يصلّوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب. وقد وجب لهذا أن يعرف المسلمون موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا، ومن ثمّ عنوا عناية عظيمة بعلم تقويم البلدان بقسميه الفلكي والأرضى (الجغرافية الفلكية والأرضية) . والأوامر التي جاءت في الكتاب الكريم موجهة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هى له ولأمته، إلا إذا دلّ دليل على أنها خاصة به كقوله: «خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» وقوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ» . وإنما أكد الأمر باستقباله، ووجّهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه، وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله، لتشتدّ عزيمتهم وتطمئنّ قلوبهم، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب واليهود بعزيمة صادقة وثبات على اتباع الرسول، ثم عاد إلى بيان حال السفهاء مثيرى الفتنة في تحويل القبلة فقال: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وإن أهل الكتاب يعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام، هو الحق المنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم مع هذا يفتنون ضعاف المؤمنين في دينهم ويتقبلون ذلك منهم، إذ يذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم، وما هى من كتبهم، ولكن يريدون بذلك الخداع والفتنة والتهويش على الذين في قلوبهم مرض، بإثارة الشكوك فى نفوسهم، ومن ثمّ كذب الله هؤلاء المخادعين، وبيّن أنهم يقولون ما لا يعتقدون،

إذ هم يعلمون أن أمر القبلة كغيره من أمور الدين- حقّ لا محيص عنه، إذ جاء به الوحى الذي لا شك في صدقه. (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فهو العليم بالظاهر والباطن والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين. (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أي ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة، على أن الحق هو ما جئتهم به من وجوب التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام- ما صدّقوا به ولا اتبعوك عنادا منهم ومكابرة. وقصارى ذلك- إنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تدفعها بحجة، بل خالفوك عنادا وصلفا، فلا يجدي معهم برهان ولا تقنعهم حجة. وكما أيأسه من اتباعهم قبلته، أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال: (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) أي إن ذلك لا يكون منك، فإنك على قبلة إبراهيم الذي يجلّونه جميعا، فهى الأجدر بالاتباع. وإذا كان إتباع ابراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا والتقليد يحول بينهم وبين النظر في حكمة القبلة، وسرّ اجتماع الناس عليها، وكون الجهات كلها لله- فأى آية ترجعهم عن قبلتهم؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها؟ (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه، محقّا كان أو مبطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، إذ التقليد أعمى بصيرته، فلا يبحث فى فائدة ما هو فيه، ولا يوازن بينه وبين غيره، ليتّبع أصلح الأمور وأكثرها نفعا.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي ولئن وافقتهم فيما يريدون، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين، والعلم الذي لا شكّ فيه- لتكونن من جملة الظالمين- وحاشاك أن تفعل ذلك. وتقدم أن مثل هذا من باب (إيّاك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد أنه لا ينبغى لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في اتباع أهواء القوم استمالة لهم، فإن الحقّ قوىّ بذاته، فمن عدل عنه وجارى أهل الأهواء، رجاء منفعة أو اتقاء مضرّة فهو ظالم لنفسه، ولمن سلك بهم هذا السبيل الجائر. وإذا كان هذا الوعيد توجه لأعلى الناس مقاما عند ربه لو حاول اتباع الهوى استرضاء للناس بمجاراتهم على الباطل، فما ظنك بغيره ممن يتبع الهوى ويجارى الناس على شىء نهاهم الله عنه، فليعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح من الظلم العظيم الذي يوقع في مهاوى الهلاك، فكأنه قيل: إن هذا ظلم عظيم لا هوادة فيه مع أحد، فلو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله لسحل عليه الظلم «وما للظّالمين من أنصار» فكيف بمن دونه ممن لا يقار به منزلة عند ربه؟ ولا شكّ أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يوجب على المؤمن أن يفكر طويلا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف إن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه، وقوارعه الشديدة، وزواجره التي تخرّ لها الجبال سجّدا. وأعجب من هذا مجاراتهم لأهواء الملوك والأمراء، حتى إنهم ليلفّقون لهم من الحيل والفتاوى ما يسترضونهم به، ويكون فيه إشباع لشهواتهم واتباع لأهوائهم. (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) هذا كالدليل لما ذكر فى قوله: «لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» فكأنه قال: إن سبب العلم بأنه الحق،

[سورة البقرة (2) : الآيات 148 إلى 152]

أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم، فلا يفوتهم شىء من أمرهم، حتى لقد قال عبد الله بن سلام رضى الله عنه- وقد كان من أحبار اليهود- ثم أسلم: أنا أعلم به منى بابني، فقال له عمر رضى الله عنه: ولمه؟ قال: لأني لست أشكّ في محمد أنه نبىّ، أما ولدي فلعلّ والدته خانت، فقبّل عمر رضى الله عنه رأسه، فهذا اعتراف من حبر من أحبارهم هداه الله، كما اعترف بمثله تمنيم الداري من علماء النصارى (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه، من أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبىّ، وأن الكعبة قبلة، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى، ومنهم من كان يجحده عن جهل، لأنهم كفروا به تقليدا، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي إن الحق هو ما أتاك من ربك من الوحى، لا ما يقول لك اليهود والنصارى، فالقبلة التي وجهك نحوها هى القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين، فتمترى في الحق بعد ما تبين. والنهى في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة، موجه فيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد من كانوا غير راسخى الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم أن يغترّوا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين. [سورة البقرة (2) : الآيات 148 الى 152] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب، فذكر أنهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبى حقّا، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنه متى ثبتت نبوّته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه- ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة تتوجه إليها، والواجب التسليم فيها لأمر الوحى، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازى كل عامل بما عمل، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلى، فى البر أو في البحر، وأنه ينبغى لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة، بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا. الإيضاح َ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان نحو الكعبة، وبنو إسرائيل كانوا يستقبلون صخرة بيت المقدس،

والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فأىّ شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوّغا للطعن في النبي وشرعه، فالقبلة إذا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم، فليست الجهة أسّا من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحى كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة. َاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي فبادروا إلى فعل كل نوع من أنواع الخير، وليحرص كل منكم أن يكون سباقا إليه، وأن يتبع أمر المرشد لا أمر المكابر المستكبر الذي يتبع الهوى، ويلقى الحق وراءه ظهريا، فإنه إنما يستبق إلى الشرّ والضلال «وماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال» . َيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً) أي ففى أي مكان تقيمون فيه، فالله يأتي بكم ويجمعكم للحساب، فعليكم أن تستبقوا إلى فعل الخيرات، فالبلاد والجهات لا شأن لها فى أمر الدين، وإنما الشأن لعمل البر، وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية. ثم أقام الدليل على ما قبله بقوله: ِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات. والأمر باستباق الخيرات هنا مجمل يفصله ذكر أنواع البر التي ذكرت في آية «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ» وستأتى، وكأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة: إن جوهر الدين ولبه في المسارعة إلى الخيرات، فهل رأيتم محمدا صلى الله عليه وسلم وأتباعه قصّروا في ذلك أو كانوا السباقين

إلى كل مكرمة، المتصفين بكل فضيلة، فدعوا الجدل والمراء واتبعوا فضائل الدين، فالدين هو السبيل الموصل إلى السعادة المنجّى من كل سوء. (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي ومن أىّ مكان خرجت، وفي أي بقعة حللت، فول وجهك في صلاتك شطر المسجد الحرام، وقد أعاد الأمر مرة أخرى ليبين أن هذا التولي عام في كل زمان ومكان، ولا يختص ببلاد دون أخرى، ولا بحضر دون سفر، ولا بالصلاة التي كان يصليها وقد نزل عليه التحويل فيها، بل هو شريعة عامة في كل حين وفي كل مكان. وأصحاب هذه القبلة يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها في بقاع الأرض المختلفة شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا. ثم وثّق ذلك ووكده بقوله: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي وإن توليك إياه لهو الحق الثابت الموافق للحكمة والمصلحة. (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي فالله ليس بغافل عن أعمالكم وإخلاصكم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يجىء به من أمر الدين، وسيجازيكم بذلك خير الجزاء. ولا يخفى ما في هذا من الوعد والبشارة للمؤمنين بنيل المكافأة على ما يفعلون. (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي ومن حيث خرجت في أسفارك في المنازل القريبة أو البعيدة، فولّ وجهك جهة المسجد الحرام، وحيثما كنتم من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين وصليتم فولوا وجوهكم شطره. وأعاد الأمر (فَوَلِّ وَجْهَكَ) مرة ثالثة عناية بأمر هذا التولي، وليرتب عليه الحكم والمنافع الثلاث الآتية:

1- (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي لئلا يكون لأولئك المحاجين في أمر القبلة وهم أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون- حجة وسلطان عليكم. ووجه انتفاء حجتهم على طعنهم في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، أن أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهى الكعبة فبقاء بيت المقدس قبلة دائمة له، حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به، فلما جاء هذا التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم. وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم جاء لإحياء ملة أبيه، ينبغى ألا يستقبل غير بيت ربه الذي كان أبوه قد بناه، وكان يصلى هو وإسماعيل إليه، وبذلك دحضت حجة الفريقين، ومن ورائهم المنافقون. (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي لكن الذين ظلموا منهم بالعناد، فإن لهم عليكم حجة، إذ يقول اليهود: ما تحوّل إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه، وحبّا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله، ويقول المشركون: رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا، ويقول المنافقون: إنه متردد مضطرب لا يثبت على قبلة، إلى نحو هذا من الآراء التي سداها ولحمتها الهوى، ولا مرجع فيها لحجة وبرهان، بل هى جدل في دين الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير، ومثل هؤلاء لا يقام لقولهم وزن. (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أي فلا تخشوا الظالمين في توجهكم إلى الكعبة، لأن كلامهم لا يستند إلى حجة من برهان عقلى ولا هدى سماوى. (وَاخْشَوْنِي) فلا تخالفوا ما جاءكم به رسولى عنى، فأنا القادر على جزائكم بما وعدتكم. وفي هذا إيماء إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه، وأن المبطل ينبغي ألا يؤبه له، فإن الحق دائما يعلو، وما آفة الحق إلا ترك أهله له، وخوفهم من أهل الباطل.

2- (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم، وجعل الأمم الأخرى تبعا لكم فيه، وطهره من عبادة الأوثان والأصنام، ووجّه شعوب العالم جميعا إلى بلادكم، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما يجلّ حصره وفي الحق أن كل أمر من الله فامتثاله نعمة، وتكون النعمة أتمّ، والمنة أكمل، إذا كان فيه حكمة ظاهرة، وشرف للأمة، وأثر حميد نافع لها. 3- (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي وليعدّكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق، فإن الفتن التي أثارها السفهاء على المؤمنين في أمر القبلة أظهرت قوة الحق وثباته، وضعف الباطل وخنوعه، ومحّصت المؤمنين، ومحقت الكافرين «ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوىّ عزيز» . (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) أي ولأتمّ نعمتى عليكم باستيلائكم على البيت الذي جعلته قبلة لكم، وتطهيركم له من عبادة الأصنام، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فالقبلة في بلادكم، والرسول من أمتكم، وهو يتلو عليكم آياتنا التي ترشدكم إلى الحق، وتهديكم إلى سبيل الرشاد، وهى تشمل آيات الكتاب الكريم وغيرها من الدلائل والبراهين التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته، وبديع تصرفه في السموات والأرض. ووجه المنة في ذلك، أنه يهديهم إلى الحق مصحوبا بالدليل والبرهان، دون التقليد والتسليم بلا تبصر وفهم، وبذا يكون العقل مستقلا، والدين له مرشدا وهاديا. (وَيُزَكِّيكُمْ) أي يطهر نفوسكم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من وأد البنات، وقتل الأولاد تخلصا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب. وبهذه الزكاة التي زكّوا بها أنفسهم فتحوا الممالك الكبرى، وكانوا أئمة الأمم

التي كانت تحتقر هذا الجنس، وعرفوا لهم فضلهم بعدلهم وسياستهم للأمم سياسة حكيمة أنستهم سياسة الأمم التي قبلهم، وجعلت لذلك الدين أثرا عميقا في نفوسهم، فدانوا لحكمه خاضعين، واهتدوا بهديه راشدين. (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) أي ويعلمكم القرآن الكريم ويبين لكم ما انطوى عليه من الحكم الإلهية، والأسرار الربانية التي لأجلها وصف بأنه هدى ونور، فالنبى صلى الله عليه وسلم كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه، حتى يبقى مصونا من التحريف والتصحيف، ويرشدهم إلى ما فيه من أسرار وحكم ليهتدوا بهديه، ويستضيئوا بنوره. (وَالْحِكْمَةَ) وهى العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها، الباعث على العمل بها. ذاك أن سنة الرسول العملية وسيرته صلى الله عليه وسلم في بيته، ومع أصحابه في السلم والحرب، والسفر والإقامة، فى القلة والكثرة، جاءت مفصلة لمجمل القرآن، مبيّنة لمبهمه، كاشفة لما في أحكامه من الأسرار والمنافع. ولولا هذا الإرشاد العملي لما كان البيان القولى كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء، والجهل إلى الائتلاف والاتحاد، والتآخى والعلم، وسياسة الأمم. فالنبى صلى الله عليه وسلم وقف أصحابه على فقه الدين، ونفذ بهم إلى سرّه، فكانوا حكماء علماء عدولا أذكياء، حتى إن أحدهم كان يحكم المملكة العظيمة ويقيم فيها العدل ويحسن السياسة، وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه، لكنه فقهه وعرف أسرار أحكامه. (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما ليس مصدر علمه النظر والفكر، بل طريق معرفته الوحى كأخبار عالم الغيب وسير الأنبياء وأحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم، وأكثرها كان مجهولا عند أهل الكتاب أيضا، وقد بلغوا في هذا النوع من العلم مبلغا فاقوا به سائر الأمم.

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) أي اذكروني بالطاعة بألسنتكم بالحمد والتسبيح، وقراءة كتابى الذي أنزلته على عبدى، وبقلوبكم بالفكر في الأدلة التي نصبتها في الكون لتكون علامة على عظمتى، وبرهانا على قدرتي ووحدانيتي، وبجوارحكم بالقيام بما أمرتكم به، واجتنابكم ما نهيتكم عنه، أجازكم بالثواب والإحسان وإفاضة الخير وفتح أبواب السعادة ودوام النصر والسلطان. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدى وأنا معه، إذا ذكرنى في نفسه ذكرته فى نفسى، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرّب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا» الحديث. وهذه أفضل تربية من الله لعباده، إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل. وبعد أن أعلمهم ما يحفظ النعم، أرشدهم إلى ما يوجب المزيد منها بمقتضى الجود والكرم فقال: (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) أي واشكروا لى هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها إلى ما وجدت لأجله، والثناء علىّ بالقلب واللسان، والاعتراف بإحساني إليكم، ولا تكفروا هذه المنن التي أو ليتكموها بصرفها في غير ما يبيحه الشرع والسنن الإلهية وهذا تحذير من الله لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، إذ كفرت بأنعم الله فلم تستعمل العقل والحواس فيما خلقت لأجله، فسلبها ما كان قد وهبها تأديبا لها ولغيرها. وقد امتثل المسلمون هذه الأوامر حينا من الدهر ثم تركوها بالتدريج فحلّ بهم ما ترى من النكال والوبال، كما قال تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» .

[سورة البقرة (2) : الآيات 153 إلى 157]

[سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) تفسير المفردات الصبر: توطين النفس على احتمال المكاره، والابتلاء: الاختبار والامتحان، والمراد بالأموال: الأنعام التي كانت معظم ما يتموّله العرب، والمصيبة: كل ما يؤذى الإنسان في نفس أو مال أو أهل، قلّ أو كثر، والصلاة: من الله التعظيم وإعلاء المنزلة عنده وعند الناس، والرحمة: اللطف بما يكون لهم من حسن العزاء، والرضا بالقضاء. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتخويل القبلة، وأقام الحجة على المشاغبين، وبيّن فوائد التحويل للمؤمنين، ومن أهمها البشارة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما فى الفتن من تمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوّره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى، ومنة عظمى. بيّن في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل

كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعوّد تحمل المشاقّ، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حقّ أو إزالة باطل، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك، وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه عليهم الرحمة والرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر، ونصرهم الله نصرا مؤزّرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم. وفي الصلاة التوجه إلى الله ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه، واستشعار المصلى للهيبة والجلال وهو واقف بين يدى ربه كما جاء في الحديث «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وهو بهذا الشعور المالك للبّه المالئ لقلبه، يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخفّ بكل كرب، ويحتمل كل بلاء، ويقاوم كل عناء. فلا تتوق نفسه إلا لما يرضى ربه الذي يلجأ إليه في الملمّات، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات. وليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هى مجرد القيام والركوع والسجود، والتلاوة باللسان خاصة، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» وقوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ» ومن ثمّ نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شىء على غير ما يرومون، وما كان للمصلى أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله، والله يبرئه من ذلك ويقول: «إِلَّا الْمُصَلِّينَ» .

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أي استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه، وعلى سائر ما يشق عليكم من مصايب الحياة، بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عزّ اسمه، وتصغر بمناجاته فيها كل المشاقّ. وإنما خصّ الصبر والصلاة بالذكر، لأن الصبر أشد الأعمال الباطنة على البدن، والصلاة أشد الأعمال الظاهرة عليه، إذ فيها خضوع واستسلام لله، وتوجه بالقلب إليه، واستشعار لعظمة الخالق، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر «اشتدّ عليه» فزع إلى الصلاة وتلا هذه الآية. (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي إن الله ناصرهم ومجيب دعوتهم، ومن كان الله ناصره فلا غالب له، أما الجازع فقلبه لاه عن ذكر الله، والقلب اللاهي ممتلىء بهموم الدنيا وأكدارها، وإن حاز الدنيا بحذافيرها. وقد جرت سنة الله أن الأعمال العظيمة لا تنجح إلا بالثبات والدأب عليها، ومدار ذلك كله الصبر، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه، فيسهّل له العسير من أمره، ويجعل له فرجا من ضيقه، ومن لم يصبر فليس الله معه، لأنه تنكّب عن سنته، فلن يبلغ قصده وغايته. (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي ولا تتحدثوا في شأنهم، فتقولوا: إنهم أموات، بل هم أحياء في عالم غير عالمكم، ولكن لا تشعرون بحياتهم، إذ ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر، بل هى حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس وبها يرزقون وينعمون، ولا نعرف حقيقة هذه الحياة ولا الرزق الذي يكون فيها، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب، فنفوض أمره إلى الله، وقيل إنها حياة روحانية محضة لا ندرك سرها.

وقد أبان سبحانه في هذه الآية جزاء ما يلاقيه المؤمن في تأييد الدعوة إلى دينه مما يصل به أحيانا إلى القتل في التغلب على من يصدّ الناس عن الدعوة ويقاتل في الدفاع عن الباطل، فذكر ما أعد له من النعيم المقيم، والرزق المتواصل، والحياة التي لا يعرف كنهها إلا علام الغيوب، جزاء ما فعل لتأييد حجة الله البالغة، والجهر بالحق، والصدع بأمر ربه، فكان له ما كان مما لم تره عين، ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) أي والله لنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الأعداء وبعض المصايب المعتادة في المعاش، كالجوع ونقص الثمار، إذ كان أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج صفر اليدين، حتى لقد بلغ من جوعهم أن كانوا يتبلغون بتمرات يسيرات، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك، وبنقص الأنفس بالقتل والموت من اجتواء المدينة، فقد كانت حين الهجرة بلد وباء وحمى ثم حسن مناخها. وفي الآية إيماء إلى أن الانتساب إلى الإيمان لا يقتضى سعة الرزق وبسط النفوذ وانتفاء المخاوف، بل كل ذلك يجرى بحسب السنن التي سنها الله لخلقه، فتقع المصايب متى وجدت أسبابها، وكامل الإيمان يتأدب بمقاومة الشدائد، ويتهذّب بوقوع الكوارث. (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي وبشر الصابرين الذين يقولون هذه المقالة المعبرة عن الإيمان بالقضاء والقدر- بالظفر بحسن العاقبة في أمورهم كلها بحسب ما وضع من السنن في الكون. والصبر لا ينافى ما يحدث من الحزن حين حلول المصيبة، فإن ذلك من الرقة والرحمة الطبيعيين فى الإنسان، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى عند ما حضر ولده إبراهيم الموت، فقيل له: أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ قال: إنها الرحمة، ثم قال:

[سورة البقرة (2) : آية 158]

إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون. والجزع المذموم هو الذي يدعو صاحبه إلى فعل ما يمجّه العقل وينهى عنه الشرع، مما نرى مثله عند الجماهير إذا حلّت بهم المصايب، ونزلت بهم الكوارث. روى مسلم عن أم سلمة رضى الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمّ آجرني فى مصيبتى، وأخلف لى خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها» . وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عاقبته، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» . وفي قوله: «إِنَّا لِلَّهِ» إقرار بالعبودية والملك، وفي قوله: «وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» إقرار بالفناء والبعث من القبور، واليقين بأن مرجع الأمر كله لله تعالى. (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) أي أولئك الصابرون لهم من ربهم مغفرة ومدح على ما فعلوا، ورحمة يجدون أثرها في برد القلوب عند نزول المصيبة. وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين، فإن الكافر الذي حرم من هذه الرحمة، إذا نزلت به المصيبة تضيق به الأرض بما رحبت، حتى لقد يقضى على نفسه بيده إذا لم يجد وسيلة للخلاص مما حلّ به (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) إلى الحق والصواب، ومن ثم استسلموا للقضاء، فلم يستحوذ الجزع على نفوسهم، ففازوا بخير الدنيا والراحة فيها، وسعادة الآخرة بتزكية النفس، وتحليها بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال. [سورة البقرة (2) : آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الصفا والمروة: جبلان بمكة بينهما من المسافة مقدار 760 ذراعا، والصفا: تجاه البيت الحرام، والآن علتهما المبانى وصار ما بينهما سوقا، وواحدة الشعائر شعيرة وهى العلامة، وتسمى المشاعر أيضا وواحدها مشعر، وهى تطلق حينا على معالم الحج ومواضع النسك، وحينا آخر على العبادة والنسك نفسه. والحج لغة القصد، وشرعا قصد البيت الحرام لأداء المناسك المعروفة. والعمرة: لغة الزيارة، وشرعا زيارة مخصوصة للبيت الحرام مفصلة في كتب العبادات، والاعتمار: أداء مناسك العمرة، والجناح: (بالضم) الميل، ومنه «وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها» والمراد هنا الميل إلى الإثم، ويّطوف أصله يتطوّف: أي يكرر الطواف، وهذا التطوّف هو الذي عرف في كتب الدين بالسعي بين الصفا والمروة، وهو من مناسك الحج بالإجماع والعمل المتواتر والتطوع: لغة الإتيان بالفعل طوعا لا كرها، ثم أطلق على التبرع بالخير لأنه طوع لا كره، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب، شاكر: أي مجاز على الإحسان إحسانا. المعنى الجملي علمت مما سلف أن في تحويل القبلة إلى البيت الحرام توجيها لقلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه لتطهيره من الشرك والآثام، وأن في قوله: ولأتمّ نعمتى عليكم بشارة بهذا الاستيلاء، وأنه أرشد المؤمنين إلى ما يستعينون به على الوصول إلى ذلك وإلى سائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة، وأنه أشعرهم بما سيلاقون في سبيل ذلك من المصايب والكوارث، وهنا ذكر ما يؤكد تلك البشارة ويتمم لهم النعمة باستيلائهم على مكة وإقامة مناسك الحج فيها، فساق الكلام في الصفا والمروة على أنه شعيرة من شعائر الحج وقربة يتقرّب بها إلى الله، وأنه من المناسك التي كان عليها إبراهيم الذي أحيا النبي صلى الله عليه وسلم ملته، وجعلت الصلاة إلى قبلته.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) أي إن هذين الموضعين من علامات دين الله، وكذلك الأعمال والمناسك التي تعمل بينهما وهى السعى بينهما هى أيضا من الشعائر، لأن القيام بها علامة الخضوع لله والإيمان به وعبادته إذعانا وتسليما. والأحكام الشرعية قسمان: (1) نوع يسمى بالشعائر وهى ما تعبّدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص، والتوجه فيها إلى مكان معين سماه بيته، مع أنه من خلقه كسائر العالم، وكمناسك الحج وأعماله، فمثل هذا شرعه الله لنا لمصلحة لا نفهم سرها تمام الفهم، ولا نزيد فيه ولا ننقص، ولا يؤخذ فيه برأى أحد ولا باجتهاده، إذ لو أبيح لهم ذلك لزادوا فيه، فلا يفرق بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع، ويصبح المسلمون كالنصارى ويصدق عليهم قوله: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» . (2) ما لا يسمى بالشعائر كأحكام المعاملات من بيع وإجارة وهبة ونحوها، وهذه قد شرعت لمصالح البشر، ولها علل وأسباب يسهل على الإنسان فهمها. (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي فمن أدى فريضة الحج أو اعتمر فلا يتخوفنّ من الطواف بهما، من أجل أن المشركين كانوا يطوفون بهما، فإن هؤلاء يطوفون بهما كفرا، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وتصديقا لرسولى وطاعة لأمرى. والسرّ في التعبير بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح، مع أن السعى بينهما إما فرض كما هو رأى مالك والشافعي أو واجب كما هو رأى أبي حنيفة، الإشارة إلى بيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر، وأن السعى بينهما من مناسك إبراهيم، وذلك لا ينافي الطلب الجازم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 159 إلى 162]

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) أي ومن أكثر من الطاعة بالزيادة على الواجب- فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، وهو العليم بمن يستحق هذا الجزاء. وفي التعبير عن إحسان الله على عباده بالشكر- تعويدهم الآداب العالية والأخلاق السامية، إذ أن منفعة عملهم عائدة إليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه. أفبعد هذا ينبغى للإنسان أن يرى نعم الله تترى عليه، ولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما خلقت لأجله؟ وهل يليق به ألا يشكر نعمة من أسدى إليه المعروف وغمره بالنعمة؟ وشكر المنعم على ما يسديه من النعم ركن عظيم من أركان العمران، فهو يشحذ عزائم العاملين، ويوجد التنافس بين ذوى الهمم المخلصين لوطنهم وأممهم، بل للعالم أجمع. كما أن ترك شكر الناس وتقدير أعمالهم جناية على الناس وعلى أنفسنا، فإن صانع المعروف إن لم يلق من الناس إلا الكفران، ترك عمل الخير يأسا منه في الفائدة أو حذرا من سوء النية، إذا الحاسدون من الأشرار يسعون في إيذاء الأخيار. ويروون في ذلك حديثا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرّ بمديحه إذا ذكرت أعماله الشريفة وسعيه في حب الخير، مع أنه من أخلص المخلصين لله لا يبغى بعمله غير مرضاته، وهو «عجبت لمحمد كيف يسمن من أذنيه» . [سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 162] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الكتمان تارة يكون بستر الشيء وإخفائه، وتارة أخرى بإزالته ووضع آخر مكانه، واليهود فعلوا في التوراة كليهما، فقد أخفوا حكم رجم الزاني، وأنكروا بشارة التوراة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتعسفوا في تأويل ما ورد فيها من ذلك على وجه لا ينطبق على محمد عليه السلام، وكذلك فعلوا بالدلائل الدالة على نبوّة عيسى عليه السلام وزعموا أنها لغيره، وأنهم لا يزالون إلى الآن ينتظرونه، والبينات: هى الأدلة الواضحة الدالة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الرجم، وتحويل القبلة، والهدى هو ضروب الإرشاد التي فيها، والكتاب يراد به الكتب المنزلة جميعا، واللعن: الإبعاد والطرد، ولعن الله الإبعاد من رحمته التي تشمل المؤمنين جميعا في الدنيا والآخرة، واللاعنون: هم الملائكة والناس أجمعون، ولعنهم لهم دعاؤهم عليهم بالإبعاد من رحمة الله، تابوا: أي رجعوا عن الكتمان، وأصلحوا: أي أصلحوا أعمالهم وأرشدوا قومهم إلى تلك الآيات البينات عن النبي صلى الله عليه وسلم ودينه والهدي الذي جاء به، وبينوا: أي جاهروا بعملهم الصالح وأظهروه للناس حتى يمحوا عن أنفسهم سمة الكفر ويكونوا قدوة لغيرهم، خالدين: أي ما كثين في تلك اللعنة على طريق الدوام، ومتى خلد فيها فقد خلد فى عذاب النار الدائم، ينظرون: أي يمهلون. المعنى الجملي لا يزال الكلام في عناد الكفار للنبى صلى الله عليه وسلم ومعاداتهم إياه، ولا سيما اليهود، فقد ذكر فيما سلف جحودهم وعنادهم له في مسألة القبلة، وجاء في سياق ذلك أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون.

الإيضاح

وهنا ذكر أن أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم: (1) إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه كالبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وصفاته مع وجودها في سفر التثنية، فقد جاء فيه: وسوف أقيم لهم نبيّا مثلك من بنى إخوتهم، وأجعل كلامى في فمه، ويكلمهم بكل شىء آمره به. ولا شكّ أن بنى إخوتهم هم العرب أبناء إسماعيل، وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره فى سورة المائدة. (2) وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة، أو بحمله على غير معانيه بالتأويل اتباعا لأهوائهم. وقد فضحهم الله بهذه الآيات، وسجل عليهم اللعنات الدائمات. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام وأمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بينا واضحا، يستحقون الطرد والبعد من رحمة الله، ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين. وحكم هذه الآية شامل لكل من كتم علما فرض الله بيانه للناس، كما روى في الخبر أنه عليه السلام قال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» . وروى أن أبا هريرة قال: لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم، وتلا «إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا» الآية. ومن هنا ترى أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه، والدين يداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشى الهدى، ثم هو لا ينتصر بيد

ولا لسان، يكون ممن يستحق وعيد الآية، وقد لعن الله الذين كفروا من بنى إسرائيل وبين سبب لعنهم بقوله: «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» فمنه ترى أن الأمة كلها قد لعنت لتركها التناهى عن المنكر، فيجب إذا أن تكون في الأمة جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قال: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إلا من أناب عن كتمانه، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأقر بنبوته، وصدّق ما جاء به من عند الله، وأصلح حال نفسه بالتقرّب إلى الله بصالح الأعمال، وبيّن ما علم من وحي الله إلى أنبيائه، وما عهد إليهم في كتبه، فلم يكتمه ولم يخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويفيض عليهم مغفرته تفضلا منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوب عباده المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته، وهو الرّحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات. وفي الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه، فى التوبة عما فرط من الذنوب، وطرد لليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام كما قال: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» . (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بعد أن ذكر في الآية السالفة أن الكافرين الذين كتموا الحق يستحقون اللعن، ثم أخرج من بينهم جماعة التائبين، ذكر في هذه الآية وما بعدها أن اللعن الأبدىّ الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان، لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر، وحينئذ تسجل عليه اللعنة من الله والملائكة والناس جميعا، ومن بينهم أهل مذهبه، فإنهم إذا

[سورة البقرة (2) : الآيات 163 إلى 164]

شرحت لهم أحوال كفره وإصراره على غيه، وكيف يعاند الداعي إلى الحق، رأوه محلا للعن ومستحقا أشدّ العقوبة. والسر في التعبير بلعن الملائكة والناس، مع أن لعن الله وحده يكفى في خزيه، الدلالة على أن جميع من يعلم أحواله من العوالم العلوية والسفلية يراه أهلا للعن الله ومقته، فلا يشفع له شافع ولا يرحمه راحم، فهو قد استحق اللعن لدى جميع من يعقل ويعلم، ومن استحق النكال من الرب الرءوف الرّحيم، فماذا يرجو من سواه من عباده؟ (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي ماكثين في هذه اللعنة على طريق الدوام، ومتى خلدوا فيها فقد خلدوا في عذاب النار الدائم لا يخلصون منه، ولا يخفف عنهم شىء منه، ولا هم ينظرون ويمهلون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال، لأن الكفر الذي استحقوا به هذا العذاب هو غاية ما يكتسبه المرء من ظلمات الروح، ومتى مات انقطع عمله وتعذر عليه أن يجلّى تلك الظلمة، ويرجع إلى الحق، ويزكى نفسه، ولا يمهل إذ هو الجاني على نفسه، فأىّ شىء يرجو من غيره؟ [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) المعنى الجملي حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين

الإيضاح

فى اللعنة لا يخفف عنهم من العذاب شيء ولا يقبل منهم فدية ولا تنفعهم شفاعة. وهنا ذكر أن شارع الدين واحد لا معبود سواه، ولا ينبغى أن تكتم هدايته للبشر وهو مفيض الرحمة والإحسان، ليتذكر أولئك الذين يكتمون البينات، المؤثرون آراء رؤسائهم وأحبارهم، ثقة بهم، واعتمادا على شفاعتهم، إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا وإنهم مخطئون في كتمان الحق ومعاداة أهله. الإيضاح (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي وإلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد، فلا تشركوا به أحدا. والشرك به ضربان: (1) شرك في الألوهية والعبادة، بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصدّه عن بعض، فيتوجه إليه في الدعاء عند ما يتوجه إلى الله، ويدعوه معه، أو يدعوه من دون الله، ليكشف عنه ضرا أو يجلب له نفعا. (2) شرك به في الربوبية، بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلّغه عنه الرسل، استنادا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين، هم أعلم بمراد الله، وهذا هو المراد بقوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» . فواجب علماء الدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، كما فعل من قبلهم من أهل الكتب المنزلة، حين زادوا على الوحى أحكاما كثيرة من تلقاء أنفسهم، وخالفوا ما نزل بتأويلات وتعسفات بعيدة عن روح الدين وسرّه. والله هو الرّحمن الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فحسب المرء أن يرجوها

ولا يعتمد على رحمة سواه، ممن يظن أنهم مقربون إليه، إذ كل ما يعتمد عليه من دونه فليس أهلا للاعتماد عليه، بل الاعتماد عليه من قبيل الشرك. والإله الذي بيده أزمّة المنافع، والقادر على دفع المضارّ، واحد لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلماته، ولا أوسع من رحمته. وإنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته، لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق، بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده. ثم ذكر- عزت قدرته- بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» الآية. وهذه الظواهر والآيات ضروب منوّعة: 1- السموات التي تتألف أجرامها من طوائف، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها، فتكون سببا في حياة الحيوان والنبات، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها، استقر كل منها في مداره، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية، ولولا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة فى أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعا. وفي كل شىء له آية ... تدلّ على أنه واحد 2- الأرض، ففى جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان، وفي منافعهما المختلفة باختلاف أنواعها، ما يدل على إبداع. الحكيم العليم «وفي الأرض آيات للموقنين» .

3- (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبهما بمجىء أحدهما وذهاب الآخر واختلافهما في الطول والقصر باختلاف الأقطار والبلدان ومواقع الطول والعرض واختلاف الفصول، وفي ذلك من المنافع والمصالح للناس آيات بينات دالة على وحدة مبدع هذا النظام ورحمته بعباده، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم في آيات أخرى فقال: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا» وقال أيضا: «وهو الّذى جعل اللّيل والنّهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورا» . 4- (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) الفلك اسم للسفينة الواحدة وللكثير. ودلالتها على الوحدانية يحتاج إلى معرفة طبيعة الماء وقانون الثقل في الأجسام، وطبيعة الهواء والريح والبخار والكهرباء التي هى العمدة في سير السفن الكبرى فى هذا العصر. وكل ذلك يجرى على سنن مطردة تدل على أنها صادرة عن قوة بديعة النظام، هى قوة الإله الواحد العليم، كما قال: «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» . ودلالتها على الرحمة قد بينه سبحانه بقوله «بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» أي ينفعهم في أسفارهم وتجارتهم، فهى تحمل أصناف المتاجر من صقع إلى صقع، ومن قطر إلى آخر، فتجعل العالم كله مشتركا في المطاعم والمشارب والملابس وأصناف الأدوية وغيرها. وجاءت هذه المنة عقب اختلاف الليل والنهار لاحتياج المسافرين إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، ومن احتياج ربابنة السفن إلى معرفة علم النجوم (الجغرافية الفلكية) ومن ثم قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» .

5- (وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) وقد وصف الله تعالى في آية آخري كيف ينزل المطر قال: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم: إن المطر يتوالد من تصاعد بخار الماء بوساطة حرارة الهواء التي تنشأ في مياه البحار من احتكاك بعض ذراتها ببعض، ومن احتكاك الهواء بسطح البحر، وحين تصعد في الجو تتكاثف وتتكون سحبا يسقط الماء من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله. (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات، وبه أمكن معيشة الحيوان على سطحها، وهذا هو الإحياء الأول الذي أشير إليه بقوله في آية أخرى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» أي ان السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلا بعض أجزائها بيعض ففتقناهما فانفصل جرم الأرض من جرم السماء وصارت الأرض قطعة مستقلة ملتهبة وكانت مادة الماء (الأوكسجين والإيدروجين) تبخر من الأرض فتلاقى في الجو طبقة باردة تحيلها سحابا فتنزل على الأرض فتبرد حرارتها، وما زالت هذه حالها حتى صارت كلها ماء، وتكونت بعد ذلك الأرض اليابسة وحرج النبات وعاش الحيوان. وأما الإحياء المستمر المشاهد في جميع بقاع الأرض فهو المشار إليه بقوله: «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فكل أرض لا ينزل عليها المطر ولا تجرى فيها المياه من الأرضين الممطورة تكون خالية من النبات والحيوان. فنزول الماء على هذا النحو المشاهد، وكونه سببا في حياة الحيوان والنبات من أعظم الأدلة على وحدانية المبدع، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع يدل على الرحمة الإلهية الشاملة.

6- (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي توجيه الرياح وتصريفها بحسب الإرادة ووفق النظام على السنن الحكيمة، فمنها الملقحة للنبات كما قال تعالى: «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» ومنها العقيم، وهى في الأغلب تهب من جهة من الجهات الأربع، وقد تكون متناوحة: أي تهب من كل ناحية، وتارة تأتى نكباء بين بين، يدل على وحدة مصدرها ورحمة مدبرها. 7- (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي الغيم الذي ذلل وسحب فى الجواء لإنزال الأمطار في مختلف البلاد، وتكوّن بنظام، واعترض بين السماء والأرض بحسب السنة الإلهية في اجتماع الأجسام اللطيفة وافتراقها وعلوها وهبوطها، مما يدهش لرؤيته الناظر قبل أن يألفه ويأنس به. (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي في كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر في الأسباب، ليدرك الحكم والأسرار، ويميز بين النافع والضار، ويستدل بما فيها من الإتقان والإحكام، على قدرة مبدعها وحكمته، وعظيم رحمته، وأنه المستحق للعبادة دون غيره من خلقه. وفي الحديث «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» للج: قذف الريق ونحوه من الفم، والمراد عدم الاعتبار والاعتداد بها، إذ من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه. وقال بعض العلماء: إن لله كتابين كتابا مخلوقا هو الكون، وكتابا منزلا هو القرآن، ويرشدنا هذا إلى طرق العلم بذاك، بما أوتيناه من العقل، فمن اعتبر بهما فاز، ومن أعرض عنهما خسر الدنيا والآخرة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 165 إلى 167]

[سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) تفسير المفردات الأنداد واحدها ندّ وهو المماثل، والتبرؤ المبالغة في البراءة وهى التنصل والتباعد ممن يكره قربه وجواره، والأسباب واحدها سبب وهو الخبل الذي يصعد به النخل وأمثاله، ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد من المقاصد المعنوية، والكرّة العودة والرجوع إلى الدنيا، والحسرة شدة الندم والكمد بحيث يتألم القلب ويتحسر مما يؤلمه. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما تقدم ظواهر الكون الدالة على توحيد الخالق ورحمته، ذكر هنا حال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامها برهانا على وحدانيته، ومن ثم جعلوا لله أندادا يلتمسون منهم الخير، ويدفعون بهم النقمة، ويأخذون عنهم الدين والشّرعة الإيضاح (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) أي ومن الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت أوصافه الجليلة أندادا وأمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، يحبونهم كحب الله ويسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم، ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه، إذ هم لا يرجون من الله شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربا من التوسط الغيبى فيه، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحّد.

وللمشرك أنداد متعددون، وأرباب متفرقون، فإذا حزبه أمر، أو نزل به ضرّ لجأ إلى بشر أو صخر، أو توسل بحيوان أو قبر؟ أو استشفع بزيد أو عمرو، لا يدرى أيهم يسمع ويسمع، ويشفع فيشفّع، فهو دائما مبلبل البال، لا يستقر من القلق على حال. وقد عظمت فتنة متخذى الأنداد بهم، حتى كان حبهم إياهم من نوع حبهم لله، إذ أنهم لا يرجون منه شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم مثله، فهم يلتجئون إليهم عند الحاجة كما يلتجئون إلى الخالق سبحانه. وليس من اتخاذ الأنداد طلب المسببات من أسبابها، وقد تخفى علينا أحيانا ويعمى علينا طريق معرفتها، فعلينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ إلى الله، لعله برحمته يلهمنا إلى طريقها، مع بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب، حتى لا يبقى فى الإمكان شيء بعد ذلك. فالدين يحظر علينا أن ننفر إلى الحرب والدفاع عن الأوطان ونحن عزل أو حاملو سلاح دون سلاح العدو المعتدى اتكالا على الله واعتمادا على أن النصر بيده، بل يأمرنا بإعداد العدة، ثم الاتكال بعد ذلك في الهجوم والإقدام على عناية الله، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله، كما أن من التجأ إلى ما ليس بسبب كإنسان مكرّم أو ملك مقرّب، أو ما دون ذلك كصنم أو تمثال فهو مشرك بالله ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب، أو طالبا ما هو أعجل منه، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى لأحد أقار به أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية طلبا للتعجيل بالشفاء. (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من كل ما سواه إذ حبهم له خاص به لا يشركون فيه غيره، إذ هم يعتقدون أن ملكوت السموات والأرض بيده، وهو الذي له القدرة والسلطان على جميع الأكوان، فما ينالهم من خير كسبى فهو بهدايته وتوفيقه،

وما يجيئهم بغير حساب فهو بعنايته وفضله، وما تعذر عليهم من الأمور يفوضونه إليه، ولا يعوّلون إلا عليه. ثم ذكر بعد هذا وعيد متخذى الأنداد قال: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) أي ولو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك، وظلم الناس وغشهم، بحملهم على أن يحذو حذوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم، حين يرون العذاب في الآخرة، فتقطع بهم الأسباب، ولا تغنى عنهم الأنداد والأرباب، أن القوة لله وحده، بها يتصرف في كل موجود، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هى عين القوة التي تدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين حين لجئوا إلى سواها، وأشركوا معها غيرها، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم. وأمثال هذا العذاب على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثير في القرآن والسنة الصحيحة، وعليه جرى السلف الصالح، وهو حجة على من يعمل بأقوال أناس من الموتى ممن لا يعرف له تاريخ يوثق به، ولا رواية يصح الاعتماد عليها، مع تركهم لكلام الله ورسوله وكلام أئمة السلف. ثم بين حال التابعين والمتبوعين يوم القيامة حتى ينكشف الغطاء، ويرى الناس بأعينهم العذاب، فقال: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) أي حين يتبرأ الرؤساء المضلون الذين اتّبعوا من أتباعهم الذين أغووهم في الدنيا ويتنصلون من إضلالهم، لأنه قد ضاعف عذابهم وحملهم أوزارا فوق أوزارهم، وتتقطع الروابط التي كانت بينهم في الدنيا ولكن ذلك لا يجديهم نفعا فهو إنما حصل لرؤيتهم العذاب ماثلا أمام أعينهم، بما اقترفوا من السيئات وجنوه من الآثام، فأنّى يفيدهم التبرؤ مما صنعوا؟. (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) أي وقال التابعون: ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنتبع سبيل الحق، ونأخذ بالتوحيد الخالص، ونهتدى بكتاب

[سورة البقرة (2) : الآيات 168 إلى 170]

الله وسنة رسوله ثم نعود إلى موضع الحساب، فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرءوا منا، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم. (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) أي إنه كما أراهم العذاب، سيريهم أعمالهم حسرات عليهم، والمراد من إراءتهم ذلك، أنه يظهر لهم أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الآثار في نفوسهم، حتى جعلتها مستعبدة لغير الله، فيورثهم ذلك حسرة وشقاء، فالأعمال هى التي كونت هذه الحسرات في النفوس، ولكن ذلك لا يظهر إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها النفوس أو تشقي. (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) إلى الدنيا وهم على صحة العقيدة وصلاح الأعمال، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم، ولا إلى الجنة، لأن سبب دخولهم هو ما طبعوا عليه من خرافات الشرك وحب الأنداد. [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 170] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) تفسير المفردات الحلال هو ما أباحه الشارع، والحرام ضده، والخطوات واحدها خطوة (بالضم) وهى ما بين قدمى الماشي، يقال اتبع خطواته، ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته، ومبين أي ظاهر العداوة لذوى البصائر، والسوء ما يسوءك وقوعه أو عاقبته، والفحشاء كل ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام وهى أقبح وأشد

المعنى الجملي

من السوء، ويأمركم أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع، وأنتم فى انقيادكم له، كأنكم مأمورون، ألفينا أي وجدنا، وعقل الشيء عرفه بدليل، وفهمه بأسبابه ونتائجه. المعنى الجملي بعد أن بين في الآية قبلها حال متحذى الأنداد يوم القيامة وذكر ما سيلاقونه من العذاب، وأن الذين اتّبعوا سيتبرءون ممن اتبعوهم حين رؤية العذاب، وتقطع الأسباب بينهم، وهى المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض، وقد علمت فيما سلف أن الأنداد قسمان: (1) قسم يتّخذ شارعا يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا من الله ورسوله. (2) قسم يعتمد عليه في دفع المضارّ وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب. بين في هذه الآيات أن تلك الأسباب محرمة، لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان، وأن سبب جمودهم على الباطل والضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً) أي كلوا بعض ما في الأرض من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراء على الله من الحرث والأنعام أكلا حلالا طيبا. قال ابن عباس: نزلت في قوم من ثقيف وبنى عامر بن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حرّموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام.

وقد بين ما حرم من المآكل في الآية الكريمة «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» فما عدا هذا فهو مباح بشرط أن يكون طيبا وهو ما لا يتعلق به حق الغير، وبيانه أن المحرم قسمان: (1) محرم لذاته لا يخل إلا للمضطر. (2) محرم لعارض، وهو ما يؤخذ بغير وجه صحيح كما يأخذه الرؤساء من المرءوسين بلا مقابل، أو يأخذه المرءوسون بجاه الرؤساء، وكأخذ الربا والرّشوة والغصب والسرقة والغش، فكل هذا خبيث غير طيب. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ولا تتبعوا سيرته فى الإغواء ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء، فهو عدو لكم بين العداوة، إذ هو منشأ الخواطر الرديئة، والمحرّض على ارتكاب الجرائم والآثام قال تعالى: «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» فهذا نهى عن اتباع وحي الباطل والشر، لأنه من إغواء الشيطان، فإذا عرض للإنسان داعي البذل لمعاونة بائس فقير، فهمّت نفسه بالعمل، ثم جاش في صدره خاطر الاقتصاد والتوفير، فليعلم أن هذا من وحي الشيطان. ولا ينخدع لما يسوّله له من إرجاء هذا العطاء ووضعه فى موضع أنفع، أو بذله لفقير أحوج. ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال: (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) أي إنما يوسوس الشيطان ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بأن تفعلوا ما يسوءكم في دنياكم وآخرتكم وأن تجترحوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فالذين يتركون الأسباب الطبيعية التي قضت سنة الله بربط المسببات بها، اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنون أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية، والتصرف

فى الأكوان بدون اتخاذ الأسباب- قد ضلوا ضلالا بعيدا واتبعوا أمر الشيطان، ومثلهم من اتخذ رأى الرؤساء حجة في الدين من غير أن يكون بيانا أو تبليغا لما جاء عن الله، فهؤلاء قد أعرضوا عن سنن الله وأهملوا نعمة العقل، واتخذوا من دون الله الأنداد «ومن يضلل الله فلا هادى له» . (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففى كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع. ومن هذا زعم الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه، لا يفعل شيئا إلا بوساطتهم، فحولوا قلوب عباده عنه وعن سننه في خلقه، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ويسمون مثل هذا توسلا: أي تقربا إلى الله، وحاشى أن يتقبّل التقرب إليه بالشرك به، ودعاء غيره معه وهو يقول «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» . ثم سجل عليهم كمال ضلالهم وعدّد جناياتهم فقال: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لمن اتبع خطوات الشيطان من المشركين: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحى ولا تتبعوا من دونه أولياء- جنحوا إلى التقليد، وقالوا نحن لا نعرف إلا ما وجدنا عليه السادة والكبراء والشيوخ من آبائنا، استئناسا بما ألفوه مما ألفه آباؤهم من قبل. ثم رد عليهم سبحانه مقالتهم الحمقاء وأظهر بطلان آرائهم فقال: (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) أي أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم فى كل حال وفي كل شىء، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين وعباداته: أي حتى لو تجردوا من دليل عقلى أو نقلى في عقائدهم وعباداتهم.

[سورة البقرة (2) : آية 171]

وفي الآية إرشاد إلى منع التقليد لمن قدر على الاجتهاد. فإذا اتبع المرء غيره في الدين ممن علم أنه على حق كالأنبياء والمجتهدين- فهذا ليس بتقليد، بل اتباع لما أنزل الله، كما قال تعالى «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» فأقرب الناس إلى معرفة الحق هم الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح، فإنهم إذا أخطئوا يوما أصابوا في آخر، وأبعدهم عن معرفة الحق المقلدون، لأنهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم، وهم لا يوصفون بإصابة الصواب، لأن المصيب من يعرف أن هذا هو الحق، والمقلد إنما يعرف أن فلانا قال هذا هو الحق، فهو عارف بالقول فقط. [سورة البقرة (2) : آية 171] وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) تفسير المفردات المثل الصفة والحال، ونعق الراعي والمؤذن صاح، وما لا يسمع أي لا يدرك بالاستماع إلا دعاء ونداء، والفارق بينهما أن الدعاء للقريب والنداء للبعيد، والفارق بين الكافر والضال أن الأول يرى الحق ويعرض عنه، ويصرف نفسه عن دلائله، فهو كالحيوان يرضى بأن يقوده غيره ويصرّفه كيف شاء، والثاني يخطئ الطريق مع طلبه أو جهله بمعرفته بنفسه أو بدلالة غيره. المعنى الجملي بعد أن نعى سبحانه وتعالى على المقلدين من الكفار سوء حالهم من اتباعهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم إلى برهان يعتمدون عليه، أو حجة يركنون إليها.

الإيضاح

أعقبه بمثل يبين خطل آرائهم، وسخف عقولهم، فذكر أنهم كالغنم التي تقبل بدعاء راعيها، وتنزجر بزجره، مسخّرة لإرادته، ولا تفهم لماذا دعا، ولماذا زجر، وهكذا شأن من يسلّمون معتقدا بلا دليل ويقبلون تكليفا بلا فهم ولا تعليل، فهم كالصم لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم، وكالبكم الذين لا يستجيبون لما دعوا إليه، وكالعمى فى الإعراض عن الأدلة حتى كأنهم لم يشاهدوها، فهم لا يصلون إلى معرفة الحق، لأن اكتسابه إنما يكون بالنظر والاستدلال، وأنى لمن فقد هذه الحواس أن يصل إلى الحق ويقبله؟ ومن ثم قالوا: من فقد حسا فقد فقد علما. الإيضاح (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) أي إن مثل الكافرين في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلال، وعدم تأملهم فيما يلقى إليهم من الأدلة، مثل البهائم التي ينعق عليها الراعي، ويسوقها إلى المرعى، ويدعوها إلى الماء، ويزجرها عن الحمى، فتستجيب دعوته وتنزجر بزجره، وهى لا تعقل مما يقول شيئا، ولا تفهم له معنى، وإنما تسمع أصواتا تقبل لسماع بعضها وتدبر لسماع بعض آخر بالتعود، ولا تعقل سببا للإقبال والإدبار. وفي الآية إرشاد إلى أن التقليد بلا عقل ولا فهم من شأن الكافر، وأما المؤمن فمن شأنه أن يعقل دينه. ويعرفه بنفسه، ويقتنع بصحته، إذ ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل المقصد منه أن يرتقى عقله وتتزكى نفسه بالعلم والعرفان، فهو يعمل الخير لأنه نافع يرضى الله، ويترك الشر لأنه يضره فى دينه ودنياه. (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي إنهم يتصامّون عن سماع الحق، فكأنهم صم ولا يستجيبون لما يدعون إليه فكأنهم خرس، ولا ينظرون في آياته تعالى في الآفاق وفي أنفسهم فكأنهم عمى، لا يعقلون لعملهم مبدأ ولا غاية، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان، ومن ثم اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون.

[سورة البقرة (2) : الآيات 172 إلى 173]

[سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) تفسير المفردات الإهلال رفع الصوت، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها، ويقولون: باسم اللات. أو باسم العزّى، ثم قيل لكل ذابح (مهلّ) وإن لم يجهر بالتسمية، والباغي الطالب للشىء الراغب فيه كما ورد في الحديث (يا باغي الخير هلّم) والعادي المتجاوز قدر الضرورة كما جاء في التنزيل «وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ» أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم، والإثم الذنب والمعصية. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه حال الذين يتخذون الأنداد من دونه، ثم خاطب الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبا، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنه لا استقلال لهم برأى ولا يهتدون بعقل. هنا وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأحرى بالاهتداء، فطلب إليهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم، فمن الحق أن يكون الشكران غدوّا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى، والنعم التي لا تحصر ولا تعدّ.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) كان المشركون وأهل الكتاب قبل مجىء الإسلام فرقا وأصنافا، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة عند العرب، وبعض الحيوان عند غيرهم، وكان الشائع لدى النصارى أن أقرب القربات تعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات، واحتقار الجسد وما يلزمه، وأن الله لا يرضى إلا بإحياء الروح، وافتنّوا في الحرمان من الطيبات، فمنها ما خصصوه بالقديسين أو الرهبان والقسيسين، ومنها ما هو عام كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصوم كصوم العذراء والقديسين، والحرمان من السمك واللبن والبيض في بعض آخر منها. وكل هذه الأحكام وضعها الرؤساء، ولا وجود لها في التوراة، ولا نقلت عن المسيح عليه السلام، ولكن نقلوها عن الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات، اعتقادا منهم أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بتعذيب النفس وترك حظوظ الجسد. وقد جعل الله هذه الأمة وسطا تعطى الجسد حقه والروح حقه، فأحل لنا الطيبات وأمرنا بالشكر عليها، ولم يجعلنا جثمانيين خلّصا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة بل جعلنا أناسىّ كملة. وقصارى ذلك- إن الله أباح لنا أن نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه تدينا ولا تعذيبا للنفس ولا نحرم بعضا ونحل بعضا تقليدا للرؤساء ووساوس الشياطين. وأمرنا بشكره على خلقها لنا وتيسر أسباب الحصول عليها، ونهانا أن نجعل له ندّا نطلب منه الرزق، أو نرجع إليه في التحليل والتحريم، وإلا كنا مشركين به، كافرين لنعمه، كما فعل من اتخذ وسطاء بينه وبين ربه، يطلب منهم الرزق، ويشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه الله.

وبعد أن ذكر إباحة الطيبات، بين ما حرم من الأطعمة فقال: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي إنه تعالى حرم الميتة لما يتوقع من ضررها، لأنها إما أن تكون قد ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة، وكلاهما لا يؤمن ضرره، ولأن الطباع تستقذرها. (والدم) أي الدم المسفوح، لأنه قذر وضارّ كالميتة. (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) لأنه ضار ولا سيما في البلاد الحارة كما دلت على ذلك التجربة. (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) أي وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه لصم وغيره مما يعبد من دون الله، لأنه من أعمال الوثنية، وفيه إشراك واعتماد على غير الله، وقد نص الفقهاء على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم، ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى إذ يقولون عند الذبح: باسم الله الله أكبر، يا سيد يا بدوي، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر ويقضى حاجة صاحبه. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي فمن ألجئ إلى أكل شىء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا، لم يقصد إجازة عمل الوثنية. ولا استحسانه. وإنما ذكر قوله: غير باغ ولا عاد، لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر، وجعل الضرورة تقدر بقدرها.

[سورة البقرة (2) : الآيات 174 إلى 176]

[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) تفسير المفردات الضلالة: هى العماية التي لا يهتدى فيها الإنسان لمقصده، والهدى: الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه، والشقاق: هو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف، وحقيقته أن يكون كل من الخصمين في شق أي جانب غير ما فيه الآخر. المعنى الجملي بعد أن بين فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى، وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم، ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله، وشرعوا لهم ما لم يشرعه، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب، ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة كما قال: «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» .

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أي إن الذين يخفون ما أنزل الله من وحيه على رسله، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير موضعه برأيهم واجتهادهم، فى مقابل الثمن القليل من حطام الدنيا كالرشوة على ذلك أو الجعل (الأجر) على الفتاوى الباطلة أو نحو ذلك مما يستفيده الرؤساء من المرءوسين، وسمى قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الدائمة بدوام المحافظة عليه، والمبطل وإن تمتع بثمن الباطل فذاك إلى أمد الحياة القصير كما قال: «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ» . (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتّجرين به، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار، وانتهاء مطامعهم بعذابها، وقد يكون المعنى: إنه لا تملأ بطونهم إلا النار أي لا يشبع جشعهم إلا النار التي يصيرون إليها على نحو ما جاء في الحديث «ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» وهذا الحكم عامّ يصدق على المسلمين كما يصدق على غيرهم، فسنة الله مطردة في تأييد أنصار الحق وخذلان أهل الباطل. (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي إن الله يعرض عنهم ويغضب عليهم، وقد جرت عادة الملوك إذا غضبوا أعرضوا عن المغضوب عليهم ولم يكلموهم، كما أنهم حين الرضا يلاطفون من يرضون عنه، ويقابلونه بالبشاشة والبشر. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح عنهم إذا ماتوا وهم مصرّون على كفرهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ولهم عذاب شديد الألم موجع. (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي إن أولئك الذين جزاؤهم ما تقدم، هم الذين تركوا الهدى الواضح البين الذي لا خلاف فيه، وهو ما جاء به الرسل

عن ربهم، واتبعوا آراء الناس في الدين وهى لا ضابط لها، وهى مشتبه الأعلام يضلّ بها الفهم، ومن ثم كان أهلها في خلاف وشقاق. (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) أي إن متبع الضلال استحق العذاب بدل المغفرة، وهو باختياره إياه بعد قيام الحجة قد اشترى العذاب بالمغفرة، وكان هو الجاني على نفسه حين اغترّ بالعاجل واستهان بالآجل. (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي إنّ انهماكهم في العمل الذي يوصلهم إلى النار المبين فى الآيتين السالفتين هو مثار العجب، فسيرهم في الطريق التي يجرهم إليها، وعدم مبالاتهم بمآل أعمالهم، دليل على أنهم يطيقون الصبر عليها، وتلك حال تستحق العجب أشد العجب، وأعجب من ذلك أن يرضاها عاقل لنفسه ومثل هذا الأسلوب ما يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب ملك من الملوك: ما أصبرك على القيد والسجن! أي إنه لا يتعرض لمثل هذا إلا من هو شديد الصبر على العذاب. (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي ذلك العذاب الذي تقرّر لهم بسبب أن الكتاب جاء بالحق، والحق لا يغالب، فمن غالبه غلب. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي وإن الذين اختلفوا فى الكتاب الذي نزله الله لجمع الكلمة على اتباع الحق وإزالة الاختلاف، لفى شقاق بعيد عن سبيل الحق، فلا يهتدون إليه، إذ كل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من رأى ومذهب، وينأى بجانبه عن الآخر، فيكون الشقاق بينهما بعيدا. وهذا وعيد آخر بعد الوعيد الأول على كتمان الحق، فالمختلفون لا يسلكون سبيلا واحدة كما يدعو إلى ذلك القرآن «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» فلا يجوز أهل الكتاب الإلهى أن يكونوا شيعا ومذاهب شتى كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» .

[سورة البقرة (2) : آية 177]

فإذا وجد خلاف في الفهم (وهو ضرورى في طباع البشر) وجب التحاكم إلى الكتاب والسنة حتى يزول كما قال: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» وليس هناك عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم، لأن الله أوجد لكل مشكل مخرجا، على أن ما تختلف فيه الأفهام لا يقتضى الشقاق والنزاع، بل يسبهل على جماعة المسلمين من أهل العلم أن ينظروا فيما اختلف فيه، وما يرون أنه الراجح يعتمدون عليه، إذا تعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها. [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) تفسير المفردات البر: لغة التوسع في الخير، وأصله من البر المقابل للبحر، وفي لسان الشرع كل ما يتقرب به إلى الله من الإيمان به وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق، قبل المشرق والمغرب أي ناحيتيهما، وآتى المال أي أعطاه، والمسكين هو الدائم السكون لأن الحاجة أسكنته، والعجز قد أقعده عن طلب ما يكفيه، وابن السبيل هو المسافر البعيد عن ماله ولا يمكنه الاتصال بأهل أو بذي قرابة، والسائل من ألجأته الحاجة إلى السؤال وتكفّف الناس، والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة يجب على السائل ألا يتعداها، وفي الرقاب أي وفي تحرير الرقاب وعتقها، وأقام الصلاة أي أداها على أقوم وجه وأحسنه، والعهد ما يلتزم به إنسان

المعنى الجملي

لآخر والبأساء من البؤس وهو الفقر والشدة، والضراء كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد حبيب من أهل ومال، صدقوا أي في دعوى الإيمان، والتقوى هى الوقاية من سخط الله وغضبه بالبعد عن الآثام والذنوب المعنى الجملي لما أمر الله تعالى بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، طال خوض أهل الكتاب في ذلك، واحتدم الجدل بينهم وبين المسلمين حتى بلغ أشده، وكانوا يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا يقبلها الله تعالى، ولا يكون صاحبها متبعا دين الأنبياء، كما كان المسلمون يرون أن الصلاة لا يرضى عنها الله إلا إدا كانت إلى المسجد الحرام قبلة إبراهيم أبي الأنبياء جميعا. من قبل هذا بين الله في تلكم الآيات أن تولية الوجوه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين، لأنه إنما شرع لتذكير المصلى بأنه يناجى ربه، ويدعوه وحده، ويعرض عن كل ما سواه، وليكون شعارا لاجتماع الأمة على مقصد واحد، فيكون في ذلك تعويدهم الاتفاق في سائر شئونهم وأغراضهم وتوحيد جهودهم. الإيضاح (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي ليس توجيه الوجه إلى المشرق والمغرب لذاته نوعا من أنواع البر، فهو في نفسه ليس عملا صالحا. (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) أي ولكن البر هو الإيمان وما يتبعه من الأعمال باعتبار اتصاف البارّ بها وقيامه بعملها. فالإيمان بالله أساس البر، ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمكنا من النفس

مصحوبا بالإذعان والخضوع واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة، ولا تؤيسه نقمة، كما قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» . والإيمان به يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، ودعوى الوساطة عند الله، ودعوى التشريع والقول على الله بلا إذنه، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدا ذليلا لأحد من البشر، وإنما يخضع لله وشرعه. والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أن له حياة أخرى في عالم غيبى غير هذا العالم، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد، ولا يجعل أكبر همه لذّات الدنيا وشهواتها فحسب. والإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحى والنبوة واليوم الآخر، فمن أنكرها أنكر كل ذلك، لأن ملك الوحى هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين كما قال تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» وقال: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» . والإيمان بالكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء يستدعى امتثال ما فيها من أوامر ونواه، إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع توجهت نفسه لعمله، ومن اعتقد أنه ضار ابتعد عنه ونفرت نفسه منه. والإيمان بالنبيين يستدعى الاهتداء بهديهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم. وقدران الجهل على قلوب كثير من الناس فظنوا أن صياحهم بالأدعية والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ما في كتاب دلائل الخيرات والمدائح الشعرية، مع الجهل بأخلاقه الشريفة، وسيرته الكاملة، والتأسى به إذا دعوا إلى ذلك أو نهوا عن البدع في دينه، والزيادة في شريعته، فيها غناء لهم أيّما غناء، وقد ضلوا ضلالا بعيدا.

فقد جاء في الصحيحين «أن جماعة من أمته صلى الله عليه وسلم يردون الحوض يوم القيامة فيذادون عنه (يطردون دونه) فيقول أمتى فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فيقول. سحقا لمن بدّل بعدي» . (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ) أي وأعطى المال مع حبه له الأصناف الآتية من ذوى الحاجة، رحمة بهم وشفقة عليهم وهم: (1) ذوو القربي المحتاجون، وهم أحق الناس بالبر، إذ المركوز في الفطرة أن الإنسان يألم لفاقة ذوى رحمه وعدمهم أشد مما يألم لغيرهم، فهو يرى أن هوانه بهوانهم وعزه بعزهم، فمن قطع رحمه وامتنع عن مساعدتهم، وهم بائسون وهو في نعمة من الله وفضل، فقد بعد عن الدين والفطرة، وجاء في الحديث الصحيح «صدقتك على المسلمين صدقة، وعلى ذى رحمك اثنتان» أي لأنها صدقة وصلة رحم. (2) اليتامى، لأن صغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب، فى حاجة إلى معونة ذوى اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم وتفسد تربيتهم، فيكونوا ضررا على أنفسهم وعلى الناس. (3) المساكين، الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم، فيجب على المسلمين أن يساعدوهم ويقدموا لهم المعونة، إذ هم أعضاء من جسم الأمة، ومن مصلحة أفرادها التعاون والتآزر حفظا لكيانها، وإبقاء على بنيانها من التداعي إلى الهدم والزوال. (4) ابن السبيل، وفي أمر الشارع بمواساته وإعانته في سفره ترغيب منه في السياحة والضرب في الأرض. (5) السائلون، الذين اضطروا إلى تكفف الناس، لشدة عوزهم. (6) فى تحرير الرقاب وعتقها، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم، ومساعدة

الأسرى على الافتداء، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم (المكاتب هو الرقيق يشترى نفسه من مولاه بثمن يجعله نجوما (أقساطا) . وفي جعل هذا نوعا من البذل واجبا على المسلمين، دليل على رغبة الشارع في فكّ الرقاب، واعتباره أن الإنسان خلق ليكون حرا إلا في أحوال عارضة تقضى المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقا. والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين، ولا بامتلاك نصاب محدود من المال ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة، بل هو موكول إلى أريحيّة المعطى وحال المعطى. وقد أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حث عليها الكتاب الكريم، مع ما فيها من التكافل العامّ بين المسلمين، ولو أدوها لكانوا في معايشهم من خير الأمم، ولدخل كثير من الناس في الإسلام، لما يرون فيه من جميل العناية بالفقراء، وأن لهم حقوقا فى أموال الأغنياء، فتتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين. (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي أداها على أقوم وجه، ولا يتحقق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب، بل إنما يكون بوجود سرّ الصلاة وروحها، ومن آثاره تحلّى المصلى بالأخلاق الفاضلة، وتباعده من الرذائل، فلا يفعل فاحشة ولا منكرا، كما قال تعالى مبينا فوائدها: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» ولا يكون هلوعا جزوعا إذا مسه الضرّ، ولا بخيلا منوعا إذا ناله الخير كما قال عزّ اسمه: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ» كما لا يخشى فى الحق لوم اللائمين، ولا يبالى في سبيل الله ما يلقى من الشدائد، ولا بما ينفق من فضله ابتغاء مرضاته. (وَآتَى الزَّكاةَ) أي أعطى الزكاة المفروضة، وقلما تجئ الصلاة في القرآن الكريم إلا وهى مقترنة بالزكاة ذاك أن الصلاة تهذب الروح، والمال قرين الروح، فبذله

ركن عظيم من أعمال البرّ، ومن ثمّ أجمع الصحابة على محاربة مانعى الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن مانعها يهدم ركنا من أركان الإسلام، وينقض أساس الإيمان. وقد افتنّ الناس في منعها بما سموه حيلا شرعية، وهى ليست من الشرع في شىء، فكيف يؤكد الله علينا الزكاة ويذكرها في كتابه سبعين مرّة، ثم يرضى أن نحتال عليه ونخادعه في تركها، فلم إذا فرض وأوجب، ورغّب ورهّب؟ وأحرى بمثل هذه الحيل أن تسمى حيلا شيطانية لا حيلا شرعية، لأن فيها احتيالا على الله في إبطال فريضته. ومن ذلك أن يأتي المزكى قبل تمام الحول (وهو شرط في وجوب الزكاة) بيوم أو يومين ويهب ماله لامرأته على أن ترده إليه بعد ذلك الميقات المضروب، وهو بهذا يدكّ صرح الكتاب والسنة، ويزعم مع هذا أنه مسلم مؤمن بالله ورسوله وكتابه. وقد بينت السنة العملية والقولية قدر المأخوذ وحددته بمقدار 1/ 40 من رأس المال، وسبيل الأخذ، وسائر أحكام الزكاة. وبعد أن ذكر البر في الأعمال ذكر البر في الأخلاق، فقال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) أي والذين يوفون بعهودهم إذا عاهدوا عليها، وهذا شامل لما يعاهد عليه الناس بعضهم بعضا، ولما يعاهد عليه المؤمنون ربهم من السمع والطاعة لكل ما جاء به في دينه، ولا يجب الوفاء به إذا كان في معصية. ومثل العهود العقود، فيجب علينا الوفاء بها ما لم تكن مخالفة لقواعد الدين العامة. وفي الوفاء بالعهود والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينفرط عقده، كما أن الغدر والإخلاف فيها هادم للنظام، مفسد للعمران فما من أمة فقدت الوفاء بالعهد (وهو ركن الأمانة وقوام الصدق) إلا حل بها العقاب الإلهى، فانتزعت الثقة من بين أفرادها حتى بين الأهل والعيال، فيعيشون متخاذلين وكأنهم وحوش مفترسة، ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه، إذا أمكن يده أن تصل إليه، ومن ثمّ يضطر أفرادها إلى الاستيثاق فى عقودهم بكل ما يقدرون عليه، ويحترس كل منهم من غدر الآخر، فلا يكون هناك

تعاون ولا تناصر، بل تباغض وتحاسد، ولا سيما بين الأقارب، ولو شمل الناس الوفاء لسلموا من هذا البلاء. (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) أي والصابرين لدى الفقر والشدة، وعند الضر من مرض وفقد أهل وولد ومال، وفي ميادين القتال، ولدى الضرب والطعان ومنازلة الأقران. وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر، وكاد يفضى إلى الكفر، والضرّ إذا برّح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنيّة والظفر مقرون بالصبر، وبالصبر يحفظ الحقّ الذي يناضل صاحبه دونه، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الفرار من الزّحف من أكبر الكبائر. وباتباع هذه الأوامر كانت الأمة الإسلامية أعظم أمة حربية في العالم، وما زال استبداد الحكام يفسد من بأسها، وترك الاهتداء بالكتاب والسنة يضعف من قوتها، حتى سبقتها الأمم كلها في ميادين الكفاح. (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) فى دعواهم الإيمان، دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية، بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا، وعذابه في الآخرة. وقال بعض العلماء: من عمل بهذه الآية فقد كمل إيمانه، ونال أقصى مراتب إيقانه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 178 إلى 179]

[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) تفسير المفردات كتب: فرض ولزم عند مطالبة صاحب الحق به، والقصاص: لغة يفيد العدل والمساواة، ومنه سمى المقصّ مقصا لتعادل جانبيه، والقصة قصة لأن الحكاية تساوى المحكي، وشرعا أن يقتل القاتل، لأنه مساو للمقتول في نظر الشارع، فاتباع بالمعروف: أي فمطالبة للدية بالمعروف بلا تعسف، وأداء إليه بإحسان: أي أداء بلا مماطلة ولا بخس حق، اعتدى: أي انتقم من القاتل بعد العفو، والألباب: واحدها لبّ وهو العقل. المعنى الجملي كان القصاص على القتل أمرا محتوما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج، وكانت الدية أمرا مقضيا عند النصارى، وكانت العرب تتحكم في ذلك بحسب قوة القبائل وضعفها، فكثيرا ما كانت القبيلة تأبي أن تقتص من القاتل، بل تقتصّ من رئيس القبيلة، وربما طلبوا بالواحد عشرة، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرّا، فإن أجيبوا فيها ونعمت، وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا ظلم عظيم، وقسوة شديدة، وقتل القاتل فحسب وهو ما جاء في التوراة إصلاح لهذا الظلم. ولكن قد تقع أحيانا بعض جرائم يكون الحكم فيها بقتل القاتل ضارّا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل المرء أخاه أو أحد أقار به لغضب فجائي اضطره إلى قتله، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت. فإذا قتل يفقدون بفقده النصير والمعين،

الإيضاح

بل قد يكون في قتل القاتل مفاسد ومضارّ، وإن كان القاتل أجنبيا من المقتول فيكون من الخير لوليّه عدم قتله دفعا للضرر أو استفادة للدية، ففى أمثال هذه الحالات يجوز لأولياء المقتول العفو مع أخذ الدية أو تركها. وإذا ارتقت عاطفة الرحمة لدى شعب أو بلد وصار يستنكر القتل ويرى أن العفو أفضل، فالأمر موكول إليهم والشريعة ترغبهم فيه، وهذا هو الإصلاح الكامل الذي جاء به الكتاب الكريم في القصاص. وقد يجول بخاطر بعض الناس ولا سيما في عصرنا الحاضر، أن عقوبة القاتل بالقتل انتقام لا تربية، والواجب أن تعلّم الحكومة الجمهور التراحم في العقوبات، لأنهم ما ارتكبوا هذه الجريمة إلا لمرض في عقولهم، فيجب أن يوضعوا في المستشفيات حتى يبرءوا إلى كلام كثير كهذا وأشباهه، ولو أنا دققنا النظر وتأملنا لعلمنا أن مثل هذا إن ساغ في التشريع فلن يكون إلا في الأمم الراقية التي قطعت شوطا بعيدا في الحضارة، وكان أفرادها على حظ عظيم من الأخلاق الفاضلة، ولا يصلح أن يكون تشريعا عاما، فالقصاص بالعدل والمساواة هو الذي يربّى الأمم والشعوب، وتركه يغرى الأشقياء، ويجرئهم على سفك الدماء، فإن عقوبة السجن لا تزجر كثيرا من الناس، بل يرون السجون خيرا لهم من بيوتهم الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) أي فرض عليكم المساوات، والعدل في القصاص، لا كما كان يفعله الأقوياء مع الضعفاء من المغالاة في قتل الكثير بالقليل، وقتل السيد البريء بالمسود تعنتا وظلما. ثم فسر هذه المساواة بقوله: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) أي يؤخذ الحر ويقتل بقتل الحر بلا إبطاء ولا جور، فإذا قتل حرّ حرّا قتل هو به لا غيره من سادة القبيلة، ولا عدد كثير منها،

وإذا قتل عبد عبدا قتل به لا سيده ولا أحد الأحرار من قبيلته، وكذلك تقتل المرأة إذا قتلت ولا يقتل أحد فداء منها. والخلاصة- إن القصاص على القاتل أيا كان لا على أحد من قبيلته، ولا فرد من أفراد عشيرته. قال البيضاوي في تفسيره: كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول (فضل وشرف) على الآخر، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية وأمرهم أن يتبارءوا (يتساووا) . وقد جرى العمل من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة، والحر بالعبد إذا لم يكن سيده، فإن كان هو عزّر بشدة تمنع أمثال هذا الاعتداء، ولا يقتل الوالد بولده، لأن المقصد من القصاص ردع الجاني عن الاستمرار في مثل هذه الجناية، والوالد بفطرته مجبول على الشفقة على ولده حتى ليبذل ماله وروحه في سبيله، وقلما يقسو عليه، ولكن كثيرا ما يقسو الولد على والده، وللحاكم أن يعزر قاتل ولده بما يراه زاجرا لأمثاله ومربّيا لهم. وبعد أن ذكر وجوب القصاص وهو أساس العدل، ذكر هنا العفو وهو مقتضى التراحم والفضل قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه ولىّ الدم، ولو كان العافي واحدا إن تعددوا وجب اتباعه وسقط القصاص، وقد جعل هذا الحق لأولياء المقتول وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده، ويهانون بفقده، ويحرمون من رفده وعونه، فمن أزهق روحه كان لهم أن يطلبوا إزهاق روحه، إذ تحفزهم إلى ذلك النّعرة القومية والمصلحة، فإذا طلبوا ولم يقتصّ الحاكم، فربما احتالوا للانتقام، وفشا التشاحن والخصام، ولكن إن جاء العفو من جانبهم أمنت الفتنة، وليس للحاكم أن يمتنع من العفو إذا رضوا به، ولا أن يستقلّ بالعفو إذا

طلبوا القصاص حتى لا تحملهم الضغينة على الانتقام بأيديهم إذا قدروا.، فيكثر الاعتداء ويعيشون في تباغض وفوضى تستباح فيها الدماء. (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي فاتباع العفو بالمعروف واجب على العافي وغيره، وعليه ألا يرهق القاتل من أمره عسرا، بل يطلب منه الدية بالرفق والمعروف الذي لا يستنكره الناس، وكذلك لا يمطل القاتل ولا ينقص ولا يسىء في كيفية الأداء، ويجوز العفو عن الدية أيضا كما قال: «ودية مسلّمة إلى أهله إلّا أن يصّدّقوا» . (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أي ذلك الحكم الذي شرعناه لكم من العفو عن القاتل والاكتفاء بقدر من المال، تخفيف ورخصة من ربكم ورحمة لكم، وأي رحمة أفضل من العطف والعفو والامتناع عن سفك الدماء. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فمن اعتدى وانتقم من القاتل بعد العفو والرضى بالدية، فله عذاب أليم من ربه يوم القيامة، يوم لا تغنى نفس عن نفس شيئا. وبعد أن ذكر حكمة العفو والرغبة فيه، وذكر الوعيد على الغدر، أرشد إلى بيان الحكمة في القصاص، إذ أن ذلك أدعى إلى ثبات الحكم في النفس، وأدعى إلى الرغبة فى العمل به فقال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي إن في القصاص الحياة الهنيئة، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض، إذ من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها، يرتدع عن القتل فيحفظ حياة من أراد قتله وحياة نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، إذ من الناس من يبذل المال الكثير للإيقاع بعدوه. وقد أثر عن العرب كلمات تفيد معنى الآية كقولهم: القتل أنفى للقتل، وقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقولهم: أكثروا القتل ليقلّ القتل، ولكن الآية أخصر

[سورة البقرة (2) : الآيات 180 إلى 182]

من هذا كله، وفيها من الفوائد ما لا يوجد فيما أثر عنهم، إذ أن القتل ظلما لا يكون نافيا للقتل بل هو سبب في زيادته، وإنما النافي للقتل هو القتل قصاصا، وأمرهم بالقتل ليقلّ القتل أو ينتفى، يصدق باعتداء قبيلة على أخرى والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على الأخذ بالثأر، ويكون المراد أن قتلنا لعدوّنا إحياء لنا وتقليل أو نفى لقتله إيانا. (يا أُولِي الْأَلْبابِ) وخصّ أرباب العقول بالنداء للدلالة على أن الذي يفهم قيمة الحياة ويحافظ عليها هم العقلاء، كما أنهم هم الذين يفقهون سرّ هذا الحكم وما اشتمل عليه من المصلحة والحكمة، فعليكم أن تستعملوا عقولكم في فهم دقائق الأحكام. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي ولما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم لعلكم تتقون الاعتداء وتكفّون عن سفك الدماء، إذ العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من غوائل القصاص. [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) تفسير المفردات كتب: أي فرض، وخيرا: أي مالا كثيرا، والوصية: الإيصاء والتوصية، وتطلق على الموصى به من عين أو عمل، والمعروف: ما لا يستنكره الناس لقلته بالنسبة إلى

المعنى الجملي

ذلك الخير أو لكثرته التي تضرّ الورثة، وتقدر الكثرة باعتبار العرف ففى القرى غيرها فى الأمصار، فهى تقاس بحسب حال الشخص لدى الناس، وإنما يكون ذلك بعدم الزيادة على ثلث المتروك للوارثين، وخاف: أي علم، والجنف: الخطأ، والإثم: تعمّد الإجحاف والظلم. المعنى الجملي كان الكلام في الآية السابقة في القصاص في القتل، وهو ضرب من ضروب الموت، فناسب أن يذكر ما يطلب ممن يحضره الموت من الوصية، والخطاب عام موجه إلى الناس كلهم، بأن يوصوا بشىء من الخير، ولا سيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته، لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وقد تقدم أن قلنا إن الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتمّ إلا بالتعاون والتكافل والائتمار بأوامرها والتناهى عن نواهيها، فإن لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على ذلك. الإيضاح (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) أي فرض عليكم معشر المؤمنين إذا حضرت أسباب الموت وعلله والأمراض المخوفة، وتركتم مالا كثيرا لورثتكم، أن توصوا للوالدين وذوى القربى بشىء من هذا الخير لا يعدّ في نظر الناس قليلا ولا كثيرا، وقد قدروه بعدم الزيادة على ثلث المتروك للوارثين، وجمهرة العلماء وأئمة السلف. وروى عن بعض الصحابة أن هذه الوصية إنما تكون لهم ما لم يكونوا وارثين لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله أعطى كل ذى حقّ حقه، ألا لا وصية لوارث» . وجوّز بعض الأئمة الوصية للوارث، بأن يخص بها بعض من يراه أحوج من الورثة

كأن يكون بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا عاجزا عن الكسب، فمن الخير والمصلحة ألا يسوّى بين الغنى والفقير، والقادر على الكسب ومن يعجز عنه. وإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصى لهما بما يؤلّف به قلوبهما، وقد أوصى الله بحسن معاملتهما وإن كانا كافرين، كما قال: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» . (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي أوجب ذلك حقا على المتقين لى المؤمنين بكتابي. (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصىّ، فإنما إثم التبديل على من بدّل، وقد برئت منه ذمة الموصى وثبت له الأجر عند ربه. والتغيير إما بإنكار الوصية، أو بالنقص فيها بعد أن علمها حق العلم. (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه سميع لأقوال المبدّلين والموصين، ويعلم نياتهم ويجازيهم وفقها. ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد للمبدّلين، والوعد بالخير للموصين. وهذه الوصية واجبة عند بعض علماء السلف كما ترشد إلى ذلك هذه الآية والحديث «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شىء يريد أن يوصى به إلا ووصيته عند رأسه» وعند جمهور العلماء مندوبة. ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذا كان للإصلاح وإزالة التنازع فقال: (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي إذا خرج الموصى في وصيته عن نهج الشرع والعدل خطأ أو عمدا، فتنازع الموصى لهم في المال أو تنازعوا مع الورثة، فتوسط بينهم من يعلم بذلك، وأصلح بتبديل هذا الجنف

[سورة البقرة (2) : الآيات 183 إلى 185]

والحيف، فلا إثم عليه في هذا التبديل، لأنه تبديل باطل بحق، وإزالة مفسدة بمصلحة، وقلما يكون إصلاح إلا بترك بعض الخصوم شيئا مما يرونه حقا لهم. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن خالف وبدل للإصلاح، فالله يغفر له ويثيبه على عمله. [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 185] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) تفسير المفردات الصيام في اللغة: الإمساك والكفّ عن الشيء، وفي الشرع الإمساك: عن الأكل والشرب وغشيان النساء من الفجر إلى المغرب احتسابا لله، وإعدادا للنفس وتهيئة لها لتقوى الله بمراقبته في السرّ والعلن، والإطاقة: القدرة على الشيء مع تحمل المشقة الشديدة والفدية: هى طعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة عن كل يوم يفطرونه، واليسر: السهولة والتخفيف، وضده العسر.

المعنى الجملي

المعنى الجملي فرض الله علينا الصوم كما فرضه على من قبلنا، لأنه من أعظم الذرائع لتهذيب النفوس، وأقوى العبادات في كبح جماع الشهوات، ومن ثم كان مشروعا في جميع الملل حتى الوثنية، فهو معروف لدى قدماء المصريين، ومنهم انتقل إلى اليونان والرومان، ولا يزال الهنود الوثنيون يصومون إلى الآن، وفي التوراة مدحه ومدح الصائمين، وليس فيها ما يدل على أنه فرض، وثبت أن موسى صام أربعين يوما كما أنه ليس في الإنجيل نص على الفريضة، بل فيها مدحه وعدّه عبادة، وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى والحواريون، وقد وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام تختلف فيها المذاهب والطوائف. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي فرض عليكم الصيام كما فرض على المؤمنين من أهل الملل قبلكم من لدن آدم عليه السلام. وفي هذا تأكيد له وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين فإنه عبادة شاقة، والأمور الشاقة إذا عمّت كثيرا من الناس سهل تحملها ورغب كل أحد في عملها. ثم بين فائدة الصوم وحكمته فقال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي إنه فرضه عليكم ليعدّكم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده، فتتربي بذلك العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرّمة والصبر عنها، وقد جاء في الحديث: «الصيام نصف الصبر» وبهذا نعلم أنه ما كتب علينا الصوم إلا لمنفعتنا، لا كما يعتقد الوثنيون من أن القصد منه تسكين غضب الآلهة إذا عملوا ما يغضبهم، أو استمالتهم في بعض

الشئون والأغراض، لأن الآلهة لا ترضى إلا بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد، وشاع هذا الاعتقاد بين أهل الكتاب فجاء الإسلام ومحاكل هذا. وإعداد الصوم لتقوى الله يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأنا: (1) أنه يعوّد الإنسان الخشية من ربه في السرّ والعلن، إذ أن الصائم لا رقيب عليه إلا ربه، فإذا ترك الشهوات التي تعرّض له من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وزوجة جميلة، امتثالا لأمر ربه، وخضوعا لإرشاد دينه مدة الصيام شهرا كاملا، ولولا ذلك لما صبر عليها وهو في أشدّ الشوق إليها، لا جرم أنه بتكراره ذلك يتعوّد الحياء من ربه، والمراقبة له في أمره ونهيه، وفي ذلك تكميل له وضبط للنفس عن شهواتها، وشدة مراقبتها لبارئها. ومن كملت لديه هذه الخلّة لا يقدم على غشّ الناس ومخادعتهم، ولا على أكل أموالهم بالباطل، ولا على هدم ركن من أركان الدين كالزكاة، ولا على اقتراف المنكرات، واجتراح السيئات، وإذا ألمّ بشىء منها يكون سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» . ولما للصوم من جليل الأثر في تهذيب النفس جاء في الحديث: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» أي من صغائر ذنوبه وكبائرها إذا تاب منها قبل الصوم، وجاء في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى، وأنا أجزى به» . (2) أنه يكسر حدّة الشهوة، ويجعل النفس مصرّفة لشهواتها بحسب الشرع، كما جاء في الحديث: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» والوجاء: رضّ الأنثيين، وهو كالخصاء مضعف للشهوة الزوجية

(3) أنه يعوّد الشفقة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، فهو عند ما بجوع يتذكر من لا يجد قوتا من أولئك البائسين، فيرقّ قلبه لهم ويشفق عليهم، وفي ذلك تكافل للأمة وشعور بالأخوة الدينية. (4) أن فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء، والملوك والسوقة، فى أداء فريضة دينية واحدة. (5) تعويد الأمة النظام في المعيشة، فهم يفطرون في وقت واحد، لا يتقدم واحد على آخر. (6) أنه يفنى المواد الراسبة في البدن، ولا سيما في أجسام المترفين أولى النّهم قليلى العمل، ويجفف الرطوبات الضارة، ويطهر الأمعاء من السموم التي تحدثها البطنة، ويذيب الشحم الذي هو شديد الخطر على القلب، وقد أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صوموا تصحّوا» وقال بعض علماء أوربا: إن صيام شهر واحد في السنة يذهب الفضلات الميتة في البدن مدة سنة. ومن يصم على هذا الوجه يكن راضيا مرضيّا مطمئنّا لا يجد في نفسه اضطرابا ولا قلقا من مزعجات الحوادث، ولا عظيم المصايب والكوارث، نعم إن وجد شىء من هذا كان جثمانيّا لا روحانيّا. وأين هذا من الصوم الذي عليه أكثر المسلمين اليوم من إثارته للسخط والغضب لأدنى سبب حتى صاروا يعتقدون أنه أثر طبيعى للصوم، وهو وهم استحوذ على النفوس حتى صار كأنه حقيقة واقعة. وهذا الأثر في نفوسهم مناف للتقوى التي شرع الصيام لأجلها، ومخالف لما جاء من الآثار من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «الصيام جنّة» أي ستر ووقاية من المعاصي والآثام. ويرى الأوزاعى أن الغيبة تفطر الصائم، وقال ابن حزم يبطله كل معصية من متعمّد لها ذاكر لصومه، وقال الغزالي: من يعصى الله وهو صائم كمن يبنى قصرا، ويهدم مصرا

وأين هذا مما نرى عليه الناس من الاستعداد لمآكل رمضان وشرابه، حتى لينفقون فيه ما يكاد يساوى نفقة السنة كلها، فكأنّ رمضان موسم أكل، وكأنّ الإمساك عن الطعام في النهار لأجل الاستكثار منه في الليل. (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي أياما معيّنات بالعدد وهى أيام رمضان، فالله لم يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفا ورحمة بالمكلفين. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فمن كان على إحدى الحالين فالواجب عليه- إذا أفطر- القضاء بقدر عدد الأيام التي لم يصمها لأن كلتيهما عرضة لاحتمال المشقة بالصوم، وأكثر الأئمة على اشتراط أن يكون المرض شديدا يصعب معه الصوم بدليل قوله: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» . ويرى جماعة منهم ابن سيرين وعطاء والبخاري أن أىّ مرض هو رخصة في الإفطار فربّ مرض لا يشقّ معه الصوم يضرّ فيه الصوم المريض، ويكون سببا في زيادة مرضه وطول مدته، وضبط المشقة عسر، ومعرفة الضرر أعسر. والسفر الذي يباح فيه الفطر هو الذي يباح فيه قصر الصلاة، روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين- يريد أنه يقصر الصلاة - وهذه المسافة وإن قطعت الآن في دقائق معدودات مبيحة للفطر، إذ العبرة بقطع مثل هذه المسافة لا بالزمن الذي تقطع فيه. ومن صام رمضان وهو مريض أو مسافر فقد أدى الفريضة، ومن أفطر وجب عليه القضاء، وبذلك كان عمل الصحابة، فقد ورد في الصحيح أنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم المفطر ومنهم الصائم لا يعيب أحد على الآخر، وأنه كان يأمرهم بالإفطار عند توقع المشقة فيفطرون جميعا، روى أحمد ومسلم عن أبي سعيد قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم قد دنوتم من عدوّكم والفطر أقوى لكم» فكانت

رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: «إنكم مصبّحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطرنا» فكانت عزمة فأفطرنا. وروى عن عائشة أن حمزة الأسلمى قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال له: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» وفي رواية مسلم أنه أجابه بقوله: «هى رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه» وأكثر الأئمة كمالك وأبي حنيفة والشافعي على أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشقّ، ويرى أحمد والأوزاعى أن الفطر أفضل عملا بالرخصة. (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) والذين يطيقون هم الشيوخ الضعفاء والزّمنى الذين لا يرجى برء أمراضهم، والعمال الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم من المناجم، والمجرمون الذين يحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا كان الصيام يشق عليهم، والحبلى والمرضع إذا خافتا على ولديهما، فكل هؤلاء يفطرون وعليهم الفدية، وهى طعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة بقدر شبع المعتدل الأكل، عن كل يوم يفطرونه. وخلاصة ما تقدم: أن المؤمنين في صيامهم أقسام ثلاثة: 1- المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر ولا مشقة، والصوم حتم واجب عليه، وتركه من الكبائر. 2- المريض والمسافر ويباح لهما الإفطار مع وجوب القضاء، لما في المرض والسفر من التعرض للمشقة، فإذا علما أو ظنا ظنّا قويّا أن الصوم يضرهما وجب الإفطار. 3- من يشقّ عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله كهرم وضعف بنية ومرض مزمن لا يرجى برؤه، وأشغال شاقة دائمة، وحمل وإرضاع، وهؤلاء لهم أن يفطروا ويطعموا مسكينا عوضا من كل يوم بقدر ما يشبع الرجل المعتدل الأكل. (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي فمن زاد في الفدية فذلك خير له، لأن ثوابه عائد إليه ومنفعته له، وهذا التطوع شامل لأصناف ثلاثة:

1- أن يزيد في الإطعام على مسكين واحد، فيطعم بدل كل يوم مسكينين أو أكثر. 2- أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب. 3- أن يصوم مع الفدية. (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي وصومكم أيها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه، خير لكم من الفدية، لما فيه من رياضة الجسد والنفس وتفدية الايمان بالتقوى ومراقبة الله، روى أن أبا أمامة قال للنبى صلى الله عليه وسلم: مرني بأمر آخذه عنك قال: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له» . (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وجه الخيرية فيه وكونه لمصلحة المكلفين، لأن الله غنى عن العالمين، وما روى من قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من البر الصوم في السفر» فقد خصّص بمن يجهده الصوم ويشقّ عليه حتى يخاف عليه الهلاك. ثم بين الأيام المعدودات التي كتبت علينا فقال: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) أي هذه الأيام هى شهر رمضان الذي بدئ فيه بإنزال القرآن، ثم نزل منجّما في ثلاث وعشرين سنة، لهداية الناس إلى الصراط السوىّ والنهج المستقيم، مع وضوح آياته وإرشادها إلى الحق، وجعلها فارقة بين الحق والباطل، والفضائل والرذائل. ومن التذكر لهدايته أن يعبد في هذا الشهر ما لا يعبد في غيره، ليكون ذلك كفاء فيضه الإلهى بالإحسان، وتظاهر نعمه على عباده، فهو من شعائر ديننا، ومواسم عبادتنا. (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أي فمن شهد منكم دخول الشهر بأن لم يكن مسافرا فليصمه، وشهوده برؤية هلاله، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره أن يصومه، والأحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن، وجرى عليها العمل من الصدر الأول إلى اليوم.

ومن لم يشهدوا الشهر كسكان البلاد القطبية- التي يكون فيها الليل نصف سنة فى القطب الشمالي، بينما يكون نهارا في القطب الجنوبي والعكس بالعكس- فعليهم أن يقدروا مدة تساوى مدة شهر رمضان، والتقدير على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة، وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم. (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أعيد ذكر رخصة الإفطار مرة أخرى، لئلا يظن أن صوم هذا الشهر محتم لا تتناوله رخصة، أو تتناوله ولكنها غير محمودة، ولا سيما بعد تعظيم أمر الصوم فيه، لما له من المناقب والمزايا التي سبق ذكرها، حتى روى أن بعض الصحابة رضى الله عنهم مع علمهم بالرخصة في القرآن كانوا يتحامون الفطر في السفر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم به في بعض الأسفار فلا يمتثلون حتى يفطر هو. (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي يريد الله في هذه الرخصة في الصيام وفي كل ما شرعه لكم من الأحكام، أن يجعل دينكم يسرا لا عسر فيه. وفي هذا إيماء إلى أن الأفضل الصيام إذا لم يلحق الصائم مشقة أو عسر، لانتفاء علة الرخصة حينئذ، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة، منها حديث أنس: «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا» . (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي رخص لكم في الإفطار في حالى المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر، وأن تكملوا العدة، فمن لم يكملها أداء لعذر المرض أو السفر أكملها قضاء بعده، وبذا تحصّلون خيراته، ولا يفوتكم شىء من بركاته. (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ) إليه من الأحكام التي فيها سعادتكم في الدنيا والآخرة، وذلك بذكر عظمته وحكمته في إصلاح حال عباده، بتربيتهم بما يشاء من الأحكام، ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص التي تليق بحالهم. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) له نعمه كلها، فتعطوا كلا من العزيمة والرخصة حقها، فيكمل إيمانكم ويرضى عنكم ربكم.

[سورة البقرة (2) : آية 186]

[سورة البقرة (2) : آية 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) المعنى الجملي لما طالب الله عباده في الآية السابقة بصوم الشهر وإكمال العدّة، وحثهم على التكبير ليعدّوا أنفسهم للشكر، عقب بهذه الآية للدلالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، فيجيب دعوة الداعين ويجازيهم بأعمالهم، وفي هذا حثّ لهم على الدعاء، وقد روى أن سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع المسلمين يدعون الله بصوت رفيع فى غزوة خيبر فقال لهم: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» . ويستفاد من هذه الآية أنه لا ينبغى رفع الصوت في العبادات إلا بالمقدار الذي حدده الشرع في الصلاة الجهرية، وهو أن يسمعه من بالقرب منه، فمن تعمد المبالغة في الصياح حين الدعاء، كان مخالفا لأمر ربه وأمر نبيه. (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) قرب الله من عباده إحاطة علمه بكل شىء، فهو يسمع أقوالهم ويرى أعمالهم، أي ذكّر أيها الرسول عبادى بما يجب أن يراعوه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص والتوجه إلىّ وحدي بالدعاء، وأخبرهم بأني قريب منهم ليس بينى وبينهم حجاب، ولا ولىّ ولا شفيع يبلغنى دعاءهم وعبادتهم، أو يشاركنى في إجابتهم وإثابتهم، وأجيب دعوة من يدعونى بلا وساطة أحد إذا هو توجه إلىّ وحدي في طلب حاجته، لأننى أنا الذي خلقته وأعلم ما توسوس به نفسه والعارف بالشريعة وبسنن الله في خلقه، لا يقصد بدعائه إلا هدايته إلى الأسباب التي توصله إلى تحصيل رغباته ونيل مقاصده، فهو إذا سأل الله أن يزيد في رزقه، فهو لا يقصد أن تمطر له السماء ذهبا وفضة، وإذا سأله شفاء مريضه الذي أعياه علاجه، فإنه

لا يريد أن يخرق العادات، بل يريد توفيقه إلى العلاج الذي يكون سبب الشفاء، ومن ترك السعى والكسب وطلب أن يؤتي مالا فهو غير داع بل جاهل، وكذا المريض الذي لا يراعى الحمية ولا يتخذ الدواء ويطلب الشفاء والعافية، لأن مثل هذين يطلبان إبطال السنن التي سنها الله في الخليقة. والدعاء المطلوب هو الدعاء بالقول مع التوجه إلى الله بالقلب، وذلك أثر الشعور بالحاجة إليه، والمذكّر بعظمته وجلاله، ومن ثم سماه النبي صلى الله عليه وسلم مخّ العبادة، وإجابة الدعاء: تقبّله ممن أخلص له وفزع إليه، سواء وصل إليه ما طلبه في ظاهر الأمر أم لم يصل، ونحو الآية قوله في سورة ق: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» وعلى هذا فلا داعى لرفع الصوت في الدعاء، ولا إلى الوساطة بينهم وبينه في طلب الحاجات كما كان يفعله المشركون من التوسل بالشفعاء والوسطاء. (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) الاستجابة الإجابة بعناية واستعداد، أي وإذ كنت قريبا منهم مجيبا دعوة من دعانى، فليستجيبوا لى بالقيام بعمل ما أمرتهم به من الإيمان والعبادات النافعة لهم كالصيام والصلاة والزكاة وغيرها مما أدعوهم إليه، كما أجيب دعوتهم بقبول عبادتهم. (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) الرشد والرشاد ضد الغىّ والفساد: أي إن الأعمال إذا صدرت بروح الإيمان يرجى أن يكون صاحبها راشدا مهتديا، أما إذا صدرت اتباعا للعادة وموافقة المعاشرين فلا تعدّ للرشاد والتقوى، بل ربما زادت فاعلها ضراوة في الشهوات، وفسادا في الأخلاق، كما يشاهد ذلك لدى الصائمين الذين يصومون تقليدا لآبائهم وعشيرتهم لا بإخلاص لربهم وابتغاء لمثوبته.

[سورة البقرة (2) : آية 187]

[سورة البقرة (2) : آية 187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) تفسير المفردات ليلة الصيام: هى الليلة التي يصبح منها المرء صائما، والرفث إلى النساء: الإفضاء إليهن. قال الأزهرى: الرفث، كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، واللباس: الملابسة والمخالطة، تختانون أنفسكم: أي تخونون أنفسكم بعمل شىء تعدونه حراما، الخيط الأبيض: أول ما يبدو من بياض النهار كالخيط الممدود رقيقا ثم ينتشر، والخيط الأسود: هو ما يمتد من سواد الليل مع بياض النهار، فالصبح إذا بدا في الأفق بدا كأنه خيط ممدود ويبقى بقية من ظلمة الليل يكون طرفها الملاصق لما يبدو من الفجر كأنه خيط أسود في جنب خيط أبيض، والإتمام: الأداء على وجه التمام، وحقيقة المباشرة مسّ كلّ بشرة الآخر: أي ظاهر جلده، والمراد بها ما أريد بالرفث، والاعتكاف شرعا: المكث فى المسجد طاعة لله وتقربا إليه، والحدود: واحدها حد، وهو في اللغة الحاجز بين شيئين ثم سمى بها ما شرعه الله لعباده من الأحكام، لأنها تحدد الأعمال وتبين أطرافها وغاياتها، فإذا تجاوزها المرء خرج عن حد النصيحة وكان عمله باطلا. والمراد من الآيات هنا دلائل الدين ونصوص الأحكام. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن الصوم فرض علينا كما فرض على من قبلنا، لأنه يعدّنا للهداية وتقوى الله، ثم ذكر الأعذار المبيحة للفطر، أردف ذلك ذكر بقية أحكام الصوم،

الإيضاح

فبيّن أن صومنا امتاز برخصة لم تكن لمن قبلنا، ثم بيّن بدء مدة الصوم ونهايته، ثم ذكر حرمة قربان النساء مدة الاعتكاف في المساجد، ثم ختمها ببيان أن الله يبين الأحكام للناس لأجل أن يتقوه ويخشوا عقابه. روى أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل: أن الناس كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له قيس بن صرمة (بكسر الصاد) صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح مجهودا، وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ» إلخ. وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام كان كل إنسان يذهب في فهمه مذهبا كما يؤديه إليه اجتهاده ويراه أحوط وأقرب للتقوى، حتى نزلت هذه الآية. الإيضاح (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) أي أحلّ لكم ليلة الصيام قربان نسائكم، وقد علّمنا الله النزاهة في التعبير عن هذا الأمر حين الحاجة إلى الكلام فيه بعبارات مبهمة كقوله: «لامَسْتُمُ النِّساءَ، أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ، دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ» . ثم بيّن سبب هذا الحكم فقال: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) أي رخص لكم في مباشرتهنّ ليلة الصيام لما بينكم وبينهن من مثل هذه المخالطة والمعاشرة التي تجعل من العسير عليكم أن تجتنبوهنّ وتجعل من الصعب الصبر عنهنّ. (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم، إذ تعتقدون شيئا ثم لا تلتزمون العمل به، إذ قد ذهب بهم اجتهادهم إلى أنهم يحرمون على أنفسهم بعد النوم في الليل ما يحرم على الصائم في النهار، لكنهم قد خانوا أنفسهم بحسب اعتقادهم فهم عاصون بما فعلوا.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ) أي فقبل توبتكم وعفا عن خيانتكم أنفسكم، إذ خالفتم ما كنتم تعتقدون حين فهمتم من قوله: «كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» تحريم ملامسة النساء ليلا، أو تحريمها بعد النوم كتحريم الأكل والشرب. (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي فالآن إذ أحلّ لكم الرفث إليهنّ بالنصّ الصريح، باشروهن واطلبوا بتلك المباشرة ما قدر لهذا الجنس بمقتضى الفطرة من جعل المباشرة سببا للنسل، ولإحصان كل منهما الآخر وصده عن الحرام، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم للفقراء «وفي بضع أحدكم صدقة، فقالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ قالوا بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» . (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أي ويباح لكم الأكل والشرب والمباشرة عامة الليل، حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، ويتبين بطلوع الفجر الصادق. واستدل الأئمة بالآية على صحة صوم من أصبح جنبا، لأن المباشرة أبيحت إلى طلوع الفجر، والصائم لا يمكنه الاغتسال إلا بعده، وعلى أنه إذا طلع الفجر وهو يأكل أو يشرب فنزع تم صومه، وعلى أنه لو أكل ظانّا أن الفجر لم يطلع صحّ صومه. وبعد أن ذكر مبدأ الصيام في الجملة السابقة ذكر غايته فقال: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أي ثم استمروا في صيامكم إلى ابتداء الليل بغروب قرص الشمس وما يلزمه من ذهاب شعاعها عن جدران البيوت والمآذن، ويتلو ذلك إقبال الليل، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أدبر النهار وأقبل الليل وغابت الشمس فقد أفطر الصائم» . ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة التي تفهم من قوله: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ» منع المباشرة حين الاعتكاف كما أشار إلى ذلك بقوله: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أي ولا تباشروا النساء حال عكوفكم

[سورة البقرة (2) : آية 188]

فى المساجد للعبادة، فإن المباشرة نهطل الاعتكاف ولو ليلا كما تبطل الصيام نهارا. (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها) أي إن هذه الأحكام المشتملة على الإيجاب والتحريم والإباحة هى حدود الله وأحكامه فلا تقربوها، إذ من قرب من الحد أو شك أن يتعداه كالشاب يداعب امرأته في النهار يوشك ألا يملك إربه، فيقع في المباشرة المحرّمة، أو يفسد صومه بالإنزال، فالاحتياط يقتضى ألا يقرب الحدّ حتى لا يتجاوزه بالوقوع فيما بعد، ومن ثم جاء في الحديث: «إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» . فالتحذير في هذه الآية أشد منه في الآية الأخرى «تلك حدود الله فلا تعتدوها» والله لم ينه عن قرب حدوده إلا في هذه الآية وفي الزنا وفي مال اليتيم، ولكن تعدّد فيه الوعيد على تعديها. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي على هذا الطريق السوىّ من بيان أحكام الصيام في أوله وآخره، وعزيمته ورخصته، وفائدة مشروعيته وحكمته، يبين الله آياته للناس ليعدّهم لتقواه ويباعدهم عن الهوى. [سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) تفسير المفردات المراد بالأكل الأخذ والاستيلاء، وعبّر به لأنه أعم الحاجات التي ينفق فيها المال وأكثرها، إذ الحاجة إليه أهم، وتقويم البنية به أعظم، والباطل من البطلان وهو الضياع والخسران، وأكله بالباطل أخذه بدون مقابلة شىء حقيقى، والشريعة حرمت أخذ المال بدون مقابلة يعتدّ بها، وبدون رضا من يؤخذ منه، وإنفاقه في غير وجه

المعنى الجملي

حقيقى نافع، والإدلاء: إلقاء الدلو لإخراج الماء، ويراد به إلقاء المال إلى الحكام لإخراج الحكم للملقى، وقوله بها أي بالأموال، والفريق من الشيء: الجملة والطائفة منه، والإثم: هو شهادة الزور أو اليمين الفاجرة أو نحو ذلك. المعنى الجملي لما كان الكلام في الآية السالفة في الصيام وأحكامه، وفيه حلّ أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت، ناسب أن يذكر هنا حكم أكل الإنسان مال غيره. الإيضاح (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض، وسماه ماله إشعارا بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيها إلى أن احترام مال غيرك احترام وحفظ لمالك، كما أن التعدي على مال غيرك جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، ولا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، إذ هو باستحلال مال غيره يجرّئ غيره على استحلال أكل ماله إذا كان في طاقته. والباطل كلمة معروفة المعنى عند الناس بوجوهها الكثيرة ويدخل فيها: (1) الربا لأنه أكل لأموال الناس بدون مقابل من صاحب المال المعطى. (2) الأموال التي تلقى إلى الحكام رشوة لهم. (3) الصدقة على القادر على الكسب الذي يكفيه. (4) أخذ القادر على الكسب صدقة، فلا يحلّ لمسلم أن يقبل صدقة وهو غير مضطر إليها. (5) باعة التمائم والعزائم وختمات القرآن والعدد المعلوم من سورة يس لقضاء الحاجات أو رحمة الأموات. (6) التعدي على الناس بغصب المنفعة، بأن يسخر بعضهم بعضا في عمل لا يعطيه عليه أجرا، أو ينقصه من الأجر المسمى أو أجر المثل.

(7) ضروب الغشّ والاحتيال كما يقع من السماسرة من التلبيس والتدليس، فيزينون للناس السلع الرديئة والبضائع المزجاة، ويورطونهم في شرائها، ويوهمونهم ما لا حقيقة له، بحيث لو عرفوا الخفايا ما باعوا وما اشتروا. (8) الأجر على عبادة من العبادات كالصلاة والصوم، لأن العبادة إنما تكون بالنية وإرادة وجه الله تعالى ابتغاء لمرضاته وامتثالا لأمره، فمتى شاب هذا حظ من حظوظ الدنيا خرج العمل عن كونه عبادة، إذ لا يقبل الله من الأعمال إلا ما أريد به رضاه فحسب، ودافع الأجر عليها خاسر لماله، وآخذه خاسر لمآله. ومن علّم العلم والدين بالأجر، فهو كسائر الصناع والأجراء لا ثواب له على أصل العمل، بل على إتقانه والإخلاص فيه، ولا يجوز أخذ الأجر على جواب السائل عن فتوى دينية تعرض له، إذ الإجابة فريضة على أهل الذكر العارفين، وكتمان العلم محرم عليهم. والخلاصة- أنه ينبغى للإنسان أن يطلب الكسب من الطرق المشروعة التي لا تضر أحدا. (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) أي ولا تلقوا بأموالكم إلى الحكام رشوة لهم. (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لتأخذوا بعضا من أموال غيركم بوساطة يمين فاجرة، أو شهادة زور، أو نحو ذلك مما تثبتون به أنكم على حقّ فيما تدّعون، وأنتم تعلمون أنكم على الباطل مرتكبون المعصية، فإن الاستعانة بالحكام على أكل الأموال بالباطل حرام، إذ الحكم لا يغير الحق في نفسه، ولا يحله للمحكوم له، وحكم القاضي إنما ينفذ ظاهرا فقط، فهو لا يحلل الحرام، فإذا حكم القاضي بصحة عقد بأن فلانا عقد على فلانة بشهادة زور لا يحلّ له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي وهو يعلم أنه بغير حقّ، وهكذا الحال في الأموال والعقود المالية. والأصل في ذلك حديث أم سلمة الذي رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن

[سورة البقرة (2) : آية 189]

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمتخاصمين حضرا أمامه «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» . فبكى الخصمان وقال كل واحد منهما: أنا حلّ لصاحبى، فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهبا فتوخّيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» . وقوله ألحن بحجته: أي أقدر عليها من صاحبه، والتوخي قصد الحق، والاستهام: الاقتراع أي اقصدا الحق فيما تصنعان من القسمة، وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من القسمة. وفي الآية والحديث عبرة لو كلاء الدعاوى (المحامين) فلا ينبغى لمن يؤمن منهم بالله واليوم الآخر أن يقبل الوكالة في دعوى يعتقد أن صاحبها مبطل، ويعتمد في ذلك على خلابته في القول ولحنه في الخطاب. والناظر إلى ما عليه المسلمون اليوم من غرامهم بالتقاضي والخصام والإدلاء إلى الحكام لمحض الإيذاء والانتقام وإن أضرّ بنفسه، يعلم بعدهم عن فهم دينهم وهدى كتابهم، ومن ثم ساءت حالهم فنفدت ثرواتهم، وخربت بيوتهم، وفرّقت جماعاتهم، ولو تأدبوا بأدب الكتاب الذي إليه ينتسبون لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم ويمنع تقاطعهم وعقوقهم، ولحلّ فيهم التراحم محل التزاحم، وقد بلغ من أمرهم أن ظنوا أنهم عن هدى الدين أغنياء، وعموا عما أصابهم لأجل هذا من الأرزاء. [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) تفسير المفردات الأهلة: واحدها هلال وهو القمر في ليلتين أو ثلاث من أوّل الشهر، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر حين رؤيته، من قولهم: استهلّ الصبىّ إذا صرخ حين يولد

المعنى الجملي

وأهلّ القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، والمواقيت: واحدها ميقات وهو ما يعرف به الوقت وهو الزمن المقدّر المعين. المعنى الجملي كان الكلام في الآيات السابقة في بيان حكم الصيام وذكر شهر رمضان، فناسب ذلك ذكر الأهلة، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال كما جاء في الحديث: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» . أخرج أبو نعيم وابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة ابن غنيمة قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوى ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حال فنزلت الآية. الإيضاح (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي يسألونك عن حكمة اختلاف الأهلة وفائدته، فأجبهم بأنها معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية، فيعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم، وآجال عقودهم في المعاملات، ومعالم للعبادات المؤقتة، فيعرفون بها أوقاتها كالصيام والإفطار ولا سيما الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء، ولو كان الهلال ملازما حالا واحدة لم يتيسر التوقيت به. والتوقيت بالأهلة يسهل على العالم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر، والتوقيت بالسنة الشمسية لا يصلح إلا للحاسبين، وهؤلاء لم يقدروا على ضبطها إلا بعد ارتقاء العلوم بأزمان طوال. والعلوم التي نحتاج إليها في حياتنا على ضروب: (1) ما لا حاجة لنا فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات. (2) ما لا نجد له أستاذا إذ لا سبيل للبشر إلى الوصول إليه، ككيفية التكوين

والخلق الأول فالطبيب يعرف كيف يولد الحيوان والأطوار التي يتدرج فيها منذ كان نطفة إلى أن صار إنسانا عاقلا والنباتي يعرف ما تكوّن منه النبات، وكيف ينمو ويتغذى، ولكنّ كلا منهما عاجز أن يعرف كيف وجدت أنواع الحيوان والنبات، ولا مادتهما أول مرة، فالإيجاد والخلق لا يمكن اكتناههما، كما لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته. (3) ما يتيسر للناس معرفته بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الطبيعية والرياضية والزراعية والهيئة الفلكية كأسباب أطوار الهلال وتنقله من حال إلى حال وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» . ومثل هذا ينبغى ألا يطالب الأنبياء ببيانه، لأن ذلك جهل بوظيفتهم، وإهمال للقوى والمواهب التي وهبها الله تعالى للإنسان ليصل بها إلى ذلك، وإلا وجب حينئذ أن يتلقّى كل شىء بالتسليم، كما يجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن كان الأنبياء ينبهون الناس إجمالا إلى استعمال الحواس والعقول فيما يزيد منافعهم ويرقى إدراكهم وشعورهم، يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في واقعة تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ومن حديث ذلك أنه عليه الصلاة والسلام نهي أهل المدينة عن تأبير نخلهم : أي وضع طلع الذكر عليه فلم ينتج ثمرا جيدا، فرجعوا إليه فقال لهم هذه المقالة. والتاريخ الذي سيق في القرآن لم يذكر على أنه قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، بل سيق للعبر تتجلى في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم بيانا لسنة الله فيهم، وإنذارا للكافرين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتثبيتا لقلوب المؤمنين كما قال تعالى: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» وما يروى فى التوراة من التاريخ المفصل من ذكر خلق آدم وما بعده، فهو مما ألحق بالتوراة بعد موسى بقرون.

(4) ما يجب علينا للخالق الذي هدى عقولنا إلى الإيمان بآياته التي نراها في الآفاق وفي أنفسنا، لكن هذه الهداية مبهمة تحتاج إلى التحديد من حيث معرفة ما يجب اعتقاده في الله تعالى وفي حكمة خلقنا، وما يتبع ذلك من وجوب الشكر والعبادة له، ومعرفة مصيرنا وحال الحياة الأخرى. ومثل هذا لا سبيل إلى معرفته بطريق الكسب البشري، وكثيرا ما وقعت الأمم فى الخطأ والحيرة في فهم مسائله لجهلهم بالصلة بين الخالق والمخلوق فمنهم من توهم أن الحياة الأخرى تكون بهذه الأجساد، والجزاء فيها يكون بهذا المتاع، ومن ثمّ اخترعوا الأدوية لحفظ أجسادهم ومتاعهم كالمصريين في عهد الفراعنة. لهذا كان الإنسان محتاجا إلى هاد يخبر عن الله تعالى لنأخذ عنه بالإيمان والتسليم ما لا يصل الحسّ والوجدان والعقل إلى إدراكه. (5) ما يستطيع العقل البشرى أن يصل إلى إدراك فائدته، لكنه عرضة للخطأ فيه، لما يعرض له من الشهوات والأهواء التي تلقى الغشاوة على البصائر والأبصار، فتحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة، أو تلبس الحقّ بالباطل أو تشبه النافع بالضار، فالخمر والحشيش يعلم الإنسان مضرتهما، لكن الشهوة تحجب ذلك عنه فيشربهما، ويؤثر حكم لذته في حكم عقله الذي ينهاه عن كل ضار، ومن ثمّ احتاج في هذا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى، ويكبح جماح الشهوات ليكون على هدى وبينة من أمره. ولما ذكر مواقيت الحج ذكر ما كان من أفعالهم فيه قال: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) هذا إبطال لما كانوا يفعلونه في الجاهلية إذا هم أحرموا من إتيان البيت من ظهره وتحريم دخوله من بابه، روى البخاري وابن جرير عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس (جمع أحمس من الحماسة، وهى الشدة والصلابة لتشددهم في دينهم) وكانوا يدخلون البيوت

[سورة البقرة (2) : الآيات 190 إلى 193]

من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان، إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة ابن عامر الأنصاري، فقالوا يا رسول الله: إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، قال إني رجل أحمسى، قال له: فإن دينى دينك، فأنزل الله الآية. (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بعد أن أعلمهم بخطئهم في إتيان البيوت من ظهورها وظنهم أن ذلك من البرّ، بيّن لهم البرّ لحقيقى، وأنه تقوى الله بالتخلي عن المعاصي والرذائل، والتحلي بالفضائل واتباع الحقّ وعمل الخير، فأتوا البيوت من أبوابها، وليكن باطنكم عنوانا لظاهركم، واتقوا الله رجاء أن تفلحوا في أعمالكم وتصلوا إلى غاية آمالكم، فالمتقون ملهمون إلى طريق الرشاد، كما قال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» . [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 193] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

تفسير المفردات

تفسير المفردات سبيل الله دينه لأنه طريق إلى مرضاته، يقاتلونكم: أي يتوقع منهم قتالكم، ولا تعتدوا: أي لا تبدءوهم بالقتال، محبة الله لعباده إرادة الخير والثواب لهم، والمعتدون أي الذين جاوزوا ما حده الله لهم من الشرائع والأحكام، والثقف: الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا، وقد يستعمل في مطلق الإدراك، من حيث أخرجوكم: أي من مكة، والفتنة من قولهم فتن الصائغ الذهب إذا أذابه في النار ليستخرج منه الزّغل، ثم استعملت في كل اختبار شاقّ كالإخراج من الوطن المحبب من الطباع السليمة والفتنة في الدين، ويكون الدين لله أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج إلى مداهنة ومحاباة، أو استخفاء ومداراة. المعنى الجملي بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية بين هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد لا لحظوظ النفس وشهواتها وحبّ سفك الدماء. وقد روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدّ عن البيت، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفى لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله الآية.

الإيضاح

الإيضاح (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) أي أيها المؤمنون الذين يخشون أن يمنعهم كفار قريش حين زيارة البيت الحرام والاعتمار فيه، نكثا منهم للعهد، وفتنة لهم فى الدين، ويكرهون الدفاع عن أنفسهم بقتالهم في الإحرام والشهر الحرام، إني أذنت لكم في قتالهم إعزازا لدين الله وإعلاء لكلمته، لا لهوى النفس وشهواتها ولا حبّا فى سفك الدماء. (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي ولا تعتدوا بالقتال فتبدءوهم به، ولا فى القتال فتقتلوا من لا يقاتل من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى، ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، فإنّ الاعتداء من السيئات التي يكرهها الله تعالى، ولا سيما حين الإحرام وفي أرض الحرم وفي الأشهر الحرم. (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي إذا نشب القتال بينكم وبينهم فاقتلوهم أينما أدركتموهم، ولا يصدنكم عنهم وجودكم في أرض الحرم. (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة، فإن المشركين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها بما كانوا يفتنونهم في دينهم، وبعدئذ صدوهم عن دخولها للعبادة، فرضى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون على شرط ألا يعارضوهم في دخولها العام القابل لأداء النسك والإقامة بها ثلاثة أيام ثم نقضوا العهد فكان من فضل الله ورحمته بالمؤمنين أن قوّى أمرهم وأذن لهم أن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الحانثين في عهودهم. ثم ذكر العلة في الإذن بقتالهم فقال: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي إن فتنتهم إياكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب

والإخراج من الوطن ومصادرة المال أشد قبحا من القتل فيه، إذ لا بلاء على الإنسان أشدّ من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره. ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه المسجد الحرام فقال: (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته، فلا أمان له حينئذ. ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرّج منه، أكد الإذن فيه بشرطه السابق فقال: (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم. (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي إنه قد جرت سنة الله بأن يجازى الكافرين مثل هذا الجزاء، ويعذبهم مثل ذلك العذاب لأنهم قد تعرّضوا له بتعديهم الحدود التي شرعها، فهم الظالمون لأنفسهم، لأنهم قد بدءوا بالعدوان، فيلقون جزاء ما صنعوا. (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن كفّوا عن القتال أو عن الكفر فإن الله يقبل منهم عملهم، فهو رحيم بعباده يغفر لهم ما سبق من زلاتهم، ويمحو خطيئاتهم إذا هم تابوا عما اقترفوا، وأحسنوا واتقوا: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» . (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي وقاتلوهم حتى لا تكون لهم قوّة يفتنونكم بها فى دينكم، ويؤذونكم في سبيله، ويمنعونكم من إظهاره والدعوة إليه. وجملة وقاتلوا الأولى بينت بدء القتال، وقاتلوهم إلخ بينت الغاية منه، وهى ألا يوجد شىء من الفتنة في الدين.

[سورة البقرة (2) : الآيات 194 إلى 195]

(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى مداهنة ومحاباة، أو استخفاء ومداراة. وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام مغلوبين على أمرهم، والمشركون في ضلالتهم هم أصحاب الحول، وكانت مكة قرارة الشرك، والكعبة مستودع الأصنام، فأبى الله إلا أن يتمّ نوره، فمكّن للمؤمنين في الأرض، ففتحوا مكة وحطّموا تلك الأصنام، وكسروا اللات والعزّى «وتمّت كلمة ربّك صدقا وعدلا لا مبدّل لكلماته» . (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فإن انتهوا عما كانوا عليه وأسلموا، فلا تعتدوا عليهم، لأن العقوبة والعدوان إنما تكون على الظالمين تأديبا لهم، ليرجعوا عن ظلمهم وغيهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 194 الى 195] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) تفسير المفردات الحرمات: واحدها حرمة وهى ما يجب احترامه والمحافظة عليه، والقصاص: المقاصة والمقابلة بالمثل، وإلقاء الشيء: طرحه حيث تراه ثم استعمل في كل ما يطرح ويلقى مطلقا، سبيل الله: هى طريق الخير والبرّ المؤدى إلى إعزاز دينه كجهاد الأعداء وصلة الأرحام، والتهلكة: الهلاك والمراد به هنا الإمساك عن النفقة في الاستعداد للقتال وترك الجهاد.

المعنى الجملي

المعنى الجملي خرج المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم للنسك عام الحديبية، فصدهم المشركون وقاتلوهم رميا بالسهام والحجارة في شهر ذى القعدة سنة ست، ثم صالحوهم على أن يرجعوا إلى مكة في العام القابل، ولما خرجوا في ذلك العام لعمرة القضاء كرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام، فبيّن الله لهم أن المحظور في الأشهر الحرم هو العدوان بالقتال لا المدافعة عن النفس، وأن المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين فعلوا ما هو أشد قبحا من القتل بتأييدهم للشرك ومنعهم للحق. الإيضاح (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي الشهر الحرام يقابل بذلك الشهر الحرام، وهتك حرمته بهتك حرمته، فلا تبالوا بالقتال فيه إذا اضطررتم للدفاع عن دينكم وإعلاء كلمته. (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي يجب مقاصة المشركين على انتهاك حرمة الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل، ليكون شهر بشهر جزاء وفاقا، فهم قد انتهكوا حرمة شهركم بالصدّ عن البيت الحرام وفيه تعرّض للقتال، فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم مكة عنوة وقهرا، فإن منعوكم في هذه السنة عن قضاء العمرة وقاتلوكم فاقتلوهم. ثم ذكر نتيجة لما سبق وأيد الحكم السابق بقوله: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أي إن الاعتداء المحظور ما كان ابتداء، أما ما كان على سبيل القصاص فهو اعتداء مأذون فيه. وبهذه الآية استدل الشافعي على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به، فيذبح إذا ذبح ويخنق إذا خنق، ويغرق إذا أغرق وهكذا. وفي الآية أيضا إيماء إلى أن قتال الأعداء كقتال المجرمين بلا هوادة ولا تقصير،

فمن يقاتل بالقذائف النارية أو بالمدافع أو بالغازات السامة يقاتل بمثلها حتى يمتنع عن الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، ويوجد الأمان والاطمئنان بين الناس. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي واحذروا أن تعتدوا بما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع المتقين بالمعونة والتأييد، والنصر والتمكين، والغلبة لهم على أعدائهم تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته. ثم أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وابذلوا المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين، فاشتروا السلاح والكراع وعدد الحرب التي لعدوكم مثلها إن لم تزيدوا عليه حتى لا يكون له الغلب عليكم، وإلى هذا أشار بقوله: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي إنكم إن لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال وإعداد للعدّة فقد أهلكتم أنفسكم. روى أن أبا أيوب الأنصاري قال: فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية، إنه لما أعزّ الله دينه، ونصر رسوله همس بعضنا في أذن بعض، إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه ما يردّ علينا ما قلنا (وَأَنْفِقُوا) الآية فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو، رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم فى جماعة آخرين. والخلاصة- إن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين، وهم من الكثرة بحيث يخشى شرّهم، فلو انصرف المؤمنون عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لأوقعوا بهم، فيكونون حينئذ قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة. (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي وأحسنوا كل أعمالكم وجوّدوها ولا تهملوا إتقان شىء منها، ويدخل ذلك التطوع بالإنفاق في سبيل الله لنشر دعوة الدين

وقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصدر الأوّل كان دفاعا عن الحقّ وأهله وحماية دعوة الدين، فكانوا يبدءون أولا بالدعوة بالحجة والبرهان، فإذا منعوا بالقوّة وهدّد الداعي أو قتل قاتلوا حماية للدعاة ونشرا للدعوة، لا للإكراه على الدخول فى الدين، إذ ذاك منهى عنه بنحو قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» . فإذا لم يوجد من يصدّ الدعوة أو يهدد الدعاة ويعتدى على المؤمنين، فلا يفرض علينا الجهاد لسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولا للطمع في الغنائم والأنفال. وجملة القول: إن القتال شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدّعى من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيى الدعوة الإسلامية ويعدّ لها عدّتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان. ولم يشهد التاريخ أمة قوية رحيمة بالضعفاء في فتوحها كالأمة العربية، كما اعترف بذلك المنصفون من الإفرنج، فقد قال جوستاف لو بون الفيلسوف الفرنسى: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، وما يتجنّى به أعداء الإسلام من دعواهم أن الإسلام قام بالسيف، فقول يكذبه التاريخ ولا يؤيده من ينظر إلى الأمور بعين الإنصاف ويدع الهوى وراءه ظهريا.

[سورة البقرة (2) : آية 196]

[سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) تفسير المفردات الحصر والإحصار: الحبس والتضييق، يقال حصره عن السفر وأحصره إذا حبسه ومنعه، والهدى يطلق على الواحد والجمع وهو ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النعم ليذبح ويفرق على الفقراء والمحل (بكسر الحاء) مكان الحلول والنزول، حاضر والمسجد الحرام هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت. المعنى الجملي كان الكلام فيما مضى في بيان أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره بعد شهر الصيام، وجاء ذكر آيات القتال تابعا لبيان أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام. وهنا عاد إلى إتمام أحكام الحج، فذكر حكم المحصر وعدم جواز الحلق قبل بلوغ الهدى محله، إلا لمن كان مريضا أو به جروح ونحوها فإنه يحلق وعليه أن يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة أو يتصدق بفرق على ستة مساكين (الفرق بالتحريك مكيال بالمدينة يزن ستة عشر رطلا) فإذا زال الخوف من العدوّ، فمن أتم العمرة وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحج من مكة فعليه دم، لأنه أحرم بالحج من غير الميقات، فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج، وسبعة إذا رجع إلى بلده إلا إذا كان مسكنه ووراء الميقات.

الإيضاح

الإيضاح (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي وأتوا بالحج والعمرة تامين كاملين، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها، وباطنا بالإخلاص لله تعالى دون قصد الكسب والتجارة أو الرياء والسمعة. والتجارة لا تنافى الإخلاص إذا لم تقصد لذاتها بدليل قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» والرياء والسمعة إذا كانا هما الباعث على الحج، فالحج ذنب للمرائي لا طاعة، وهكذا حكم من يحج ليقال له (الحاج فلان) أو ليحتفل بقدومه، أو يقترض بالربا أو يرتكب أكبر ضروب المنكر ليحج، أو لا تخطر على باله مناسك الحج وأركانه، وإنما يقصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف من الحج إلا هذه الزيارة. وقد كان الحج معروفا في الجاهلية من عهد إبراهيم وإسماعيل وأقرّه الإسلام بعد أن أزال ما فيه من ضروب الشرك والمنكرات، وزاد فيه مناسك وعبادات. وهو فريضة لقوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» وللأحاديث الواردة في ذلك. وأول حجة حجها المسلمون كانت سنة تسع بإمرة أبي بكر رضى الله عنه، وكانت تمهيدا لحجة النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» . (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فإن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، وأردتم أن تتحللوا فعليكم أن تذبحوا ما تيسر لكم من بدنة أو بقرة أو شاة، ثم تتحللوا. وذبحها يكون في موضع الإحصار ولو في الحل. لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهى من الحل.

(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) قد جعل الشارع أمارة الدخول في الحج أو العمرة، الإحرام بنية النسك عند الابتداء به بالتلبية ولبس غير المخيط من إزار ورداء وكشف الرأس للرجل ولبس النعلين العربيتين، وأمارة الخروج منهما (ويعبر عنه بالإحلال والتحلل) بحلق الرأس أو التقصير، فالنهي عن الحلق نهى عن الإحلال قبل بلوغ الهدى إلى المكان الذي يحل ذبحه فيه، وذلك حيث يحصر الحاج، وإلا فالكعبة لقوله تعالى «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» . (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) أي فمن كان منكم مريضا يحتاج إلى الحلق ويؤذيه تركه، أو به أذى من رأسه من جراح أو صداع، فعليه فدية إن حلق، وهى إما صيام أو صدقة أو نسك. وقد بيّن مقدارها ما أخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة قال «وقف علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسى يتهافت قملا، فقال: يؤذيك هوامك؟ قلت نعم، قال: فاحلق رأسك» قال فنزلت هذه الآية، وذكرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك بما تيسر» . (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من خوفكم من عدوكم أو برأتم من مرضكم الذي منعكم من حجكم أو عمرتكم. (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة، إلى وقت الانتفاع بأعمال الحج، فعليه ما استيسر من الهدى أي فعليه دم نسك شكرا لله أن أتاح له الجمع بين النسكين، ويأكل منه كالأضحية ويذبح يوم النحر. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) أي فمن لم يجد الهدى لعدم وجوده أو عدم المال الذي يشترى به، فعليه صيام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج وتمتد إلى يوم النحر، وسبعة أيام إذا رجع من الحج إلى بلده، أو شرع في الرجوع فيجزئ الصوم في الطريق، ولا يتضيق الوقت إلا إذا وصل إلى وطنه.

[سورة البقرة (2) : آية 197]

(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) أي هذه الأيام الثلاثة والسبعة الأيام عشرة كاملة، وهذا نتيجة لما تقدم مبين لجملة العدد الواجب بعد أن بينه تفصيلا، وفائدته إزالة وهم من قد يظن أن الواو للتخيير بمعنى أو كقوله تعالى «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» وقولهم: جالس الحسن وابن سيرين، وإرشاد إلى أن المراد بالسبعة هنا العدد دون الكثرة في الآحاد وهى تستعمل لهما، إلى أن القرآن قد جرى على طريقهم في التخاطب، فهم لكونهم أمة أمية كان أحدهم إذا خاطب صاحبه بأعداد متفرقة جمعها له ليسهل إحاطته بها. وفائدة وصفها بالكمال الإشارة إلى أن رعاية العدد من المهام التي لا يجوز إغفالها بل يجب المحافظة عليها دون نقص في عددها ولا تهاون في أدائها، وإلى أن هذا البدل كامل في قيامه مقام المبدل منه، وهما في الفضيلة سواء. ثم بين سبحانه أن التمتع بالعمرة مضمومة إلى وقت الإحرام بالحج وما يتبعه من الأحكام خاص بالآفاقيين دون أهل الحرم قال: (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي إن أهل الآفاق هم الذين يحتاجون إلى هذا التمتع، لما يلحقهم من المشقة بالسفر إلى الحج وحده ثم السفر إلى العمرة وحدها، أما أهل الحرم فليسوا في حاجة إلى ذلك، فلا متعة ولا قران لحاضرى المسجد الحرام. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي اخشوا الله وحافظوا على امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، واحذروا أن تعتدوا في ذلك، واعلموا أنه تعالى شديد العقاب لمن انتهك حرماته، وركب معاصيه. [سورة البقرة (2) : آية 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فرض فيهن الحج أي أوجبه على نفسه، والرفث لغة قول الفحش، وشرعا قربان النساء، والفسوق لغة التنابز بالألقاب كما جاء في قوله تعالى «وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ» وشرعا الخروج عما حدده الشارع للمحرم إلى ما كان مباحا في الحل كالصيد والطيب والزينة باللباس المخيط. والجدال المراء والخصام، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر، لأنه مشقة تضيق بها الصدور، والزاد هو الأعمال الصالحة وما يدّخر من الخير والبر، والتقوى هى ما يتقى به سخط الله وغضبه من أعمال الخير والتنزه عن المنكرات والمعاصي. المعنى الجملي بعد أن ذكر أعمال الحج وبين ما يجب على المحصر أن يفعله من ذبح الهدى وعدم الحلق حتى يبلغ الهدى محله، ثم ذكر حكم من لم يجد ذلك، أعقب هذا بذكر زمان الحج، وما يجب على من أوجب على نفسه الحج من ترك الرفث والفسوق والجدال، ثم ختم ذلك بطلب التمسك بالآداب الصالحة والتزود بها ليوم المعاد، فهى خير زاد، كما طلب خشيته تعالى والخوف من عقابه. الإيضاح (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس، وهى شوال وذو القعدة وعشر ذى الحجة، وهذا هو المروي عن ابن عباس، وجرى عليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد. وفي قوله: معلومات، إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار هذه الأشهر أشهرا للحج، ونقل ذلك بالتواتر العملىّ من لدن إبراهيم وإسماعيل، وجاء الإسلام مقررا لما عرف ولم يغيره.

وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر معرفة أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها، وإن كان الإحرام يصح في غيرها، لأنه شرط للحج فيجوز تقديمه على وقت أدائه كتقديم الطهارة على أداء الصلاة. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدى، لأن الحج عبادة لها تحريم وتحليل، فلا يكفى للشروع فيه مجرد النية بل لا بد من فعل به يشرع فيه. (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) أي لا يفعل الحاج شيئا من هذه الأفعال لأنه مقبل على الله قاصد لرضاه، فينبغى أن يتجرد عن عاداته وعن التمتع بنعيم الدنيا، وينسلخ عن مفاخره ومميزاته عن غيره بحيث يتساوى الغنى والفقير والصعلوك والأمير، وفي هذا تهذيب للنفس وإشعار لها بالعبودية لله تعالى. وقد جاء في الصحيحين عن أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» . إلى ما في ذلك من تعظيم شأن الحرم وتغليظ أمر الإثم فيه، لأن المرء في أوقات العبادة ومناجاة الله، يجب أن يكون على أكمل الآداب وأفضل الأحوال، وللمرء في المجتمع من الآداب ما ليس له حين الخلوة، وله في مجلس السلطان ما ليس له مع الإخوان. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم وتتخلى عن الرذائل وتتحلى بالفضائل، وتكون أكثر استعدادا لعمل الخير، وأطوع لامتثال أوامر الشرع، والله يعلم ما تفعلون، فيجازيكم بأعمالكم ويثيبكم على أفعالكم. (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أي واتخذوا التقوى زادكم لمعادكم، فإنها خير زاد.

[سورة البقرة (2) : الآيات 198 إلى 199]

(وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي وأخلصوا لى يا أهل العقول والأفهام بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبى وعقابى، وتدركوا ما تطلبون من الفوز برضاى ورحمتى. [سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 199] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) تفسير المفردات الجناح: الحرج والإثم، من الجنوح، وهو الميل عن القصد، أن تبتغوا أي أن تقصدوا وتطلبوا، وفضلا أي عطاء ورزقا منه بالربح في التجارة أيام الحج، والإفاضة من المكان: الدفع منه أي أفضتم أنفسكم ودفعتموها، ويقال أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق، وعرفات موقف الحاج في أداء النسك، وسمى بهذا الاسم لأن الناس يتعارفون فيه، وعرفة اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات، وهو التاسع من ذى الحجة، والذكر: الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد، والمشعر الحرام: هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمى بهذا الاسم لأنه معلم للعبادة، والشعائر العلامات، ووصف بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهى عنه المعنى الجملي جاء هذا كالاستدراك: والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من منع التجارة في الحج ذاك أن الآيات السابقة أرشدت إلى حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحج، والتجارة

الإيضاح

تفضى إلى الجدال والنزاع في قيم السلع قلة وكثرة، فعقب ذلك ببيان حكمها، وأبان أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافى الإخلاص فى هذه العبادة، وإنما الذي ينافيها أن يكون المقصد التجارة فحسب، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر للحج. وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام يتأثمون من كل عمل دنيوى أيام الحج، حتى إنهم كانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص. أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا فى الجاهلية، فتأثّموا أن يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت الآية. وعن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر إنا نكري (أي الرواحل للحجاج) فهل لنا من حج؟ فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتنى عنه، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم حجاج. الإيضاح (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) أي لا حرج ولا إثم في الكسب أيام الحج إذا لم يكن هو المقصد بالذات، إذ هو مع حسن النية وملاحظة أنه فضل من الله عبادة، ولكن التفرغ لأداء المناسك في تلك الأوقات أفضل، والتنزه عن حظوظ الدنيا أكمل، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» . (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أي يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالدعاء والتحميد والثناء

والتلبية، وإنما طلب منه ذلك خشية أن يتركه بعد المبيت، فطلب منه المضىّ في الذكر مادام في هذا الموضع. (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، بأن يكون بتضرع وخيفة وطمع في ثوابه، صادر عن رغبة ورهبة كما قال صلى الله عليه وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ولا تعدلوا عنه إلى ما كنتم تفعلونه في الجاهلية من الشرك واتخاذ الوسطاء بينكم وبينه، فلا تفرغ قلوبكم له، فقد كانوا يقولون في التلبية: لبّيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) أي وإنكم كنتم من قبل هذا الهدى من الضالين عن الحق في العقائد والأعمال بعباد الأوثان والأصنام، وباتخاذ الوسطاء الذين يشفعون عنده ويقربون إليه زلفى. (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) روى البخاري ومسلم: أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس (واحدهم أحمس وهو الشديد الصّلب في الدين والقتال) كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات. فأمر الله نبيه أن يأتى عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، ليبطل ما كانت عليه قريش. فالمعنى- عليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد تحقيقا للمساواة وتركا للتفاخر وعدم الامتياز لأحد عن أحد، وذلك من أهمّ مقاصد الدين. (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) مما أحدثتم من تغيير المناسك بعد إبراهيم، وإدخال الشرك فى أعمال الحج. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يستغفره مع الإنابة والتوبة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 200 إلى 203]

[سورة البقرة (2) : الآيات 200 الى 203] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) تفسير المفردات الخلاق: الحظ والنصيب، وحسنة الدنيا هى العافية أو المرأة الصالحة أو الأولاد البررة، أو العلم والمعرفة، وحسنة الآخرة هى الجنة أو رؤية الله تعالى يوم القيامة، والأولى التعميم فى كل هذا. المعنى الجملي كان العرب في الجاهلية يجتمعون بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات والديات، ليس له ذكر غير فعال آبائه فأنزل الله هذه الآية. ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون، فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج، كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم. وخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام

الإيضاح

التشريق، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات فقال: أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجمىّ، ولا لعجمى على عربى، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلّغت، قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. الإيضاح (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي فإذا فرغتم من مناسك الحج ونفرتم فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم. ثم ذكر أن الذين يذكرونه فيدعونه قسمين: 1- (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي فمن المسلمين فريق ممن يشهدون مواسم الحج، ممن لم تصل أسراره وحكمه إلى شغاف قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم، يكون جلّ اهتمامهم في ذكرهم ودعائهم حظ الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الأعداء إلى نحو ذلك من الحظوظ العاجلة، وهؤلاء لا حظ لهم في الآخرة مما أعده الله للمتقين من رضوانه، إذ هم وجهوا جلّ اهتمامهم لحظوظ الدنيا وعملوا لها جهد الطاقة، ولا يسألون ربهم إلا المزيد من نعيمها ولذاتها، وقد ينالونها بدون عناء ولا نصب في العمل كما قال تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» . 2- (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي ومنهم فريق يقول: ربنا هب لنا حياة طيبة سعيدة في الدنيا، وحياة راضية مرضية في الآخرة. وطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها التي دلت التجربة على نفعها

فى الكسب ونظم المعيشة وحسن معاشرة الناس والتخلق بآداب الشرع وأدب السلوك وما جرى عليه العرف من فضائل الصفات. وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص والعمل الصالح والتحلي بمكارم الأخلاق. (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي واحفظنا من الشهوات والذنوب التي تؤدى إليها، ويكون ذلك بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة، مع القيام بأداء الفرائض. وفي الآية إيماء إلى أن الغلوّ في الدين والتشدد فيه مذموم خارج من سنن الفطرة، وقد نهى الله أهل الكتاب عنه وذمهم عليه، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف، فقال له: هل كنت تدعو الله بشىء؟ قال: نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبى به في الآخرة فعجّله لى في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه، فهلا قلت: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) ودعا له فشفاه الله. (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي أولئك الذين يطلبون سعادة الدارين، والحسنة في المنزلتين، يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم وسعيهم، فهم قد طلبوا الدنيا بأسبابها، وسعوا للآخرة سعيها فكان لهم حظ من كسبهم في الدارين على قدره. وبمعنى الآية قوله: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» . (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيوفى كل كاسب أجره عقب عمله، فقد جرت سنته أن يكون الجزاء أثرا للعمل بلا إبطاء، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطلاع كل عامل على عمله، ويتم ذلك في لحظة، وقد روى أن الله يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وروي بمقدار لمحة البصر.

وبعد أن أمر بذكره عند المشعر الحرام وكانوا لا يذكرونه هناك، وأمر بذكره عند تمام قضاء المناسك بعد أيام منى حيث كانوا يذكرون مفاخر آبائهم، أمر بذكره فى أيام منى فقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) الأيام المعدودات هى أيام منى، وهى أيام التشريق الثلاثة من حادى عشر من ذى الحجة إلى ثالث عشر، وقد روى أرباب السنن عن عبد الرّحمن بن يعمر قال: إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة فسألوه، فأمر مناديا ينادى «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع- مزدلفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» . وأردف رجلا ينادى بهن، أي أركب معه رجلا ينادى بهذه الكلمات، ليعرف الناس الحكم، وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر فيها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهى الليلة العاشرة من ذى الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام منى ثلاثة، وهى التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له، ومن تأخر إلى الثالث جاز له، بل هو الأفضل لأنه الأصل. وبينت السنة أن ذكر الله في هذه الأيام هو التكبير في إدبار الصلوات، وعند ذبح القرابين، وعند رمى الجمار، روى عن الفضل بن العباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع (مزدلفة) إلى منى، فلم يزل يلبّى حتى رمى جمرة العقبة، وروى عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر بمنى تلك الأيام، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا. والذكر في يوم عرفة ويوم النحر لغير الحاج التكبير، وللحاج هذا وغيره، والمأثور من التكبير، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا، ومن التلبية، لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لك، لا شريك لك. (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) أي من

تعجل وطلب الخروج من منى في تمام يومين بعد يوم النحر واكتفى برمى الجمار فيهما ولم يمكث حتى يرمى الجمار في اليوم الثالث، فلا إثم عليه بهذا التعجيل، إذ المطلوب أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ويرمى كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة سبع حصيات (والجمرة جمعها جمار وجمرات وهى مجتمع الحصى) ورميها من ذكريات المناسك المأثورة عن إبراهيم عليه السلام كذبح القرابين وعامة أعمال الحج. ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني فعليه أن يبيت حتى يرمى اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده، ثم ينفر ولا إثم عليه بترك الترخيص. وهذا التخيير ونفى الإثم عن المستعجل والمتأخر، إنما هو لمن اتقى الله وترك ما نهى عنه، لأنه هو الحاج على الحقيقة، فما الغرض من كل عبادة إلا التقوى كما قال: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» . والوسيلة إلى ذلك ذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال حتى يكون عبدا له لا لأهوائه وشهواته. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واتقوا الله حين أدائكم مناسك الحج وفي جميع شئونكم واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة، والعاقبة حينئذ لمن اتقى كما قال تعالى: «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» . ومن علم بأنه محاسب على أعماله مجازى عليها. كان ذلك باعثا له على العمل، وداعيا له إلى ملازمة التقوى، أما من كان على شك أو ظن فإنه يعمل تارة ويترك أخرى. وقد كرر الأمر بالذكر وبين منزلة التقوى ليشعرنا بأن المهم في العبادة هو ذكر الله الذي يصلح النفس ويوجه القلب إلى عمل الخير، ويبعدها عن الشرور والمعاصي، فيكون فاعلها من المتقين.

[سورة البقرة (2) : الآيات 204 إلى 207]

[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) تفسير المفردات يقال أعجبه الشيء أي راقه واستحسنه ورآه عجبا أي طريفا جديدا غير مبتذل، وتقول العرب: الله يشهد أو الله يعلم أنى أريد كذا، تقصد بذلك الحلف واليمين كما قال تعالى حكاية عن رسل عيسى: «قالوا ربّنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون» واللدد شدة الخصومة، والخصام الجدال، وتولى أي أدبر وانصرف عن مجلسك، والسعي السير السريع بالأقدام والمراد به هنا الجد في العمل والكسب، ويهلك أي يضيع، والحرث الزرع، والنسل ما تناسل من الحيوان، والمراد من إهلاكهما الإيذاء الشديد، أخذته أي لزمته، والعزة في الأصل خلاف الذل والمراد بها هنا الأنفة والحميّة، بالإثم أي على الذنب الذي نهى عنه واسترسل في فعله، حسبه أي كافيه، والمهاد الفراش يأوى إليه المرء للراحة، ويشرى أي يبيع ويبذل ابتغاء أي طلبا. المعنى الجملي دلت الآيات السابقة على أن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله بإصلاح القلوب وإنارتها بذكره تعالى، لاستشعارها عظمته وفضله، وعلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافى التقوى بل يعين عليها، خلافا لما ذهب إليه أهل الأديان السابقة

الإيضاح

من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أسّ الدين وأصله، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق. ولما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان: منافقون يظهرون غير ما يبطنون، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله، ولا يريدون إلا وجهه. الإيضاح (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ومن الناس فريق يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة الدنيا، لأنك تأخذ بالظواهر، وهو منافق يظهر غير ما يضمر ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة اللسان، فى غش المعاشرين والأقران، ويوهم أنه صادق الإيمان، نصير للحق خاذل للباطل، متّق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن. (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي ويحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي. (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي وهو قوى في الجدل لا يعجزه أن يغشّ الناس بما يظهر من الميل إليهم والسعى في إصلاح شئونهم. والخلاصة- إن هذا الفريق يركن في خداعه للناس إلى أمور ثلاثة: (1) حسن القول بحيث يعجب السامع ويملك لبه، بحيث لا يتهمه في صدقه. (2) إشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده. (3) قوة العارضة في الجدل عند محاجة المنكر أو المعارض. ومثل هذا الفريق يوجد في كل أمة وكل عصر وإن اختلفت حاله باختلاف العصور، فحينا ترى الواحد لا يغشّ بزخرف قوله إلا فردا أو أفرادا معدودين وحينا يتسنى له أن يخدع أمة وينكل بها تنكيلا، فترى الجرائد في عصرنا قد تكون سبيلا للغش، كما تكون أحيانا طريقا للنصح وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرها وفلاحها

ولا سيما إذا كان الكاتبون فيها ممن تثق بهم الدهماء، ويتقبل الجمهور آراءهم بالتسليم والاطمئنان. (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) أي إن مثل هؤلاء إذا أعرضوا عن مخاطبيهم وذهبوا لشأنهم، فإن سعيهم يكون على ضد ما قالوا، فهم يدّعون الصلاح والإصلاح ثم يسعون في الأرض بالفساد، إذ لا همّ لهم إلا اللذات والحظوظ الدنيئة التي لأجلها يعادون أرباب الفضيلة، ويكونون من ذوى اللدد والخصومة لهم، لما بينهم من التناقض في السجايا والغرائز، بل يعادون أمثالهم من المفسدين، إذ من دأبهم الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم. وقوله في الأرض يفيد العموم أي إنهم في أي مكان يحلون فيه يفسدون. (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) أي إنه دائب على إفساده مسترسل فيه ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل، وهكذا شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خربت الدنيا بأسرها. وفي ذلك عبرة للذين يقتلعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره، انتقاما ممن يكرهونهم، فأين منهم هدى الإسلام وهدى القرآن. ويرى بعضهم أن المراد بالحرث النساء كما في قوله: «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ» وبالنسل الأولاد، فيكون المراد- إن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقونه من الفتن ويدأبون عليه من التفريق- لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب، فهم يؤذون أنفسهم وأهليهم بضروب من الإيذاء قد يعميهم الغرور عنها، أو عن كونها من سعيهم. (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أي والله لا يرضى الفساد ولا يحبه، فلا يحب المفسدين، وفي الآية إيماء إلى أن تلك الصفات المحمودة في الظاهر لا تكون مرضية عند الله إلا إذا أصلح صاحبها عمله، لأن الله لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي إن ذلك المفسد إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر أسرع إليه الغضب، وعظم عليه الأمر وأخذته الأنفة وطيش السفه، إذ يخيل إليه أن النصح والإرشاد ذلة تنافى العزة التي تليق بأمثاله. وفي طبع المفسدين النفور ممن يأمرهم بالصلاح، إذ يرون في ذلك تشهيرا بهم وإعلانا لمفاسدهم التي يسترونها بزخرف القول وخلابته، وإن استطاعوا الحبس حبسوا أو ضربوا أو قتلوا. (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي إن النار مصيره ويكفيه عذابها جزاء له على كبريائه وحميته حمية الجاهلية، وستكون مهاده ومأواه، وهى بئس المهاد وشره، فلا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها. قيل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: اتق الله، فوضع خده على الأرض، وقال ابن مسعود: من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد اتق الله، فيقول: عليك نفسك أي أصلح نفسك ولا تصلح غيرك. ثم ذكر الفريق الآخر فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) أي ومن الناس فريق يبيع نفسه لله لا يبغى ثمنا لها غير مرضاته، ولا يتحرى إلا صالح العمل وقول الحق مع الإخلاص فيهما، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر عرض الدنيا وزخرفها على ما عند ربه. وهذا البيع لا يتحقق إلا إذا جاد المؤمن بنفسه وما له في سبيل الله إذا دعت الضرورة إلى ذلك، كجهاد أعداء الأمة عند الاعتداء عليها، أو الاستيلاء على شيء من أرضها، فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه ذلك، ومن قدر عليه بماله وجب عليه ذلك، وإن قدر عليهما معا وجب عليه، فإن قصر في شىء من ذلك فقد آثر نفسه على مرضاة الله وخرج من زمرة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله. (وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فيجازيهم على العمل القليل نعيما دائما، ولا يكلفهم

[سورة البقرة (2) : الآيات 208 إلى 210]

إلا ما في وسعهم عمله، ويشترى منهم أموالهم لأنفسهم وهى ملكه تعالى بما لا يعدّ ولا يحصى من رحمته وإحسانه وكرمه، ويرفع هممهم ليبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده، وتقرير الحق والعدل فيهم، ولولا ذلك لغلب شرّ المفسدين في الأرض، فلا يبقى فيها صلاح كما قال تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» . [سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 210] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) تفسير المفردات أصل السلم: التسليم والانقياد، فيطلق على الصلح والسلام وعلى دين الإسلام، والخطوات: واحدها خطوة (بالضم) ما بين قدمى من يخطو، والزلل في الأصل: عثرة القدم، ثم استعمل في الانحراف عن الحقّ، والبينات: الحجج والأدلة التي ترشد إلى أن ما دعيتم إليه هو الحق، عقلية كانت أو نقلية، والعزيز الغالب: الذي لا يعجزه الانتقام، والحكيم: الذي يعاقب المسيء ويكافئ المحسن، ينظرون: أي ينتظرون، يأتيهم الله: أي يأتيهم عذابه، والظلل: واحدها ظلة (بالضم) وهى ما أظلك، والغمام: السحاب الأبيض الرقيق، وقضى الأمر: أي أتمّ أمر إهلاكهم وفرغ منه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فيما سلف من الآيات أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يسعى في الأرض بالفساد ويهلك الحرث والنسل، وفريق يبغى بعمله رضوان الله وطاعته- أرشدنا إلى أن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد، لا التفريق والانقسام. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) كافة: أي في أحكامه كلها التي أساسها الاستسلام والخضوع لله والإخلاص له، ومن أصوله الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب بين المهتدين بهديه، والأمر بالدخول فيه أمر بالثبات والدوام كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ» . المعنى- يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب، دوموا على الإسلام فيما تستأنفون من أيامكم، ولا تخرجوا عن شىء من شرائعه، بل خذوا الإسلام بجملته وتفهموا المراد منه، بأن تنظروا في كل مسألة إلى النصوص القولية والسنة المتبعة فيها وتعملوا بذلك، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر، وإن أدى إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن، وبهذا يرتفع الشقاق والتنازع ويعتصم المسلمون بحبل الوحدة الإسلامية التي أمرنا الله باتباعها في قوله: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» ونهانا عن ضدها في قوله: «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا» وقوله صلى الله عليه وسلم «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض» . ولكنّ المسلمين قد خالفوا هذا فتفرّقوا وتنازعوا وشاقّ بعضهم بعضا، واتخذوا مذاهب متفرّقة، كل فريق يتعصب لمذهب ويعادى سائر إخوانه المسلمين زعما منه أنه ينصر الدين وهو يخذله بتفريق كلمة المسلمين، فهذا سنّى يقاتل شيعيا، وهذا شافعى يغرى التتار بالحنفية، وهؤلاء مقلّدة الخلف يحادّون من اتبع طريق السلف. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي ولا تتبعوا سبله في التفرق في الدين أو في الخلاف

والتنازع، إذ هى سبله التي يزينها للناس، ويسوّل لهم فيها المنافع والمصالح، فقد كانت اليهود أمة واحدة مجتمعة على كتاب واحد، فوسوس لهم الشيطان فتفرقوا وجعلوا لهم مذاهب وشيعا، وأضافوا إلى الكتاب ما أضافوا، وحرّفوا من حكمه ما حرّفوا، فسلّط الله عليهم أعداءهم فمزقوهم كل ممزّق، وهكذا فعل غيرهم من أهل الأديان، كأنهم رأوا دينهم ناقصا فكملوه، وقليلا فكثّروه فثقل عليهم بذلك فوضعوه، فذهب الله بوحدتهم ولم تغن عنهم كثرتهم، إذ سلّط عليهم الأعداء وأنزل بهم البلاء. ثم ذكر السبب في النهى عن اتباع خطوات الشيطان فقال: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه ظاهر العداوة لكم، فإن جميع ما يدعو إليه ظاهر البطلان، بيّن الضرر لمن تأمل فيه وتفكر، ومن لم يدرك ذلك في مبدأ الخطوات أدركه فى الغايات، حين يذوق مرارة العاقبة، فلا عذر لمن بقي على ضلالته بعد تذكير الله وهداية عباده إلى سبل الخير، وتحذيره إياهم من سلوك طرق الشر. ثم توعدهم إذا هم حادوا عن الهج السويّ والطريق المستقيم فقال: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي فإن حدتم عن صراط الله وهو السلم، وسرتم في طريق الشيطان وهى طريق الخلاف والافتراق، بعد أن بيّن لكم عداوته، ونهاكم عن اتباع طرقه وخطواته، فاعلموا أن الله يأخذكم أخذ عزيز مقتدر، فهو عزيز لا يغلب على أمره، حكيم لا يهمل شأن خلقه، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخليقة، فجعل لكل ذنب عقوبة، وجعل العقوبة على ذنوب الأمم ضربة لازب في الدنيا، ولم يؤخرها حتى تحلّ بها في الحياة الأخرى. ولا تقوم للأمم قائمة إلا إذا أقامت العدل بين أفرادها، وكانت صالحة لعمارة الأرض كما قال تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» وهكذا الأفراد إذا لم ينهجوا النهج السوىّ ويتحلّوا بفاضل الأخلاق، فلن يوفّقوا في دنياهم ولا في أخراهم. ثم زاد في التهديد والوعيد فقال:

[سورة البقرة (2) : الآيات 211 إلى 212]

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) أي هاهى ذى قد قامت الحجج ودلت البراهين على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فهل ينتظر المكذبون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب في ظلل من الغمام عند خراب العالم وقيام الساعة، وتأتي الملائكة وتنفّذ ما قضاه الله يومئذ؟. والحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به، ولا توطئة توطّن النفوس على احتماله، إلى أن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أفظع وأشدّ هولا، والخوف إذا جاء من موضع الأمن كان خطبه أعظم ونحو الآية قوله: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا» . وفي الآية عبرة للمؤمن ترغّبه في المبادرة إلى التوبة لئلا يفاجئه وعد الله وهو غافل، فإذا لم يفاجئه قيام الساعة العامة وهلاك هذا العالم كله، فاجأه قيام قيامته بموته بغتة، فإن لم يمت بغتة جاءه المرض بغتة، فلا يقدر على العمل وتدارك الزلل. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي كيف ينتظرون غير ذلك، وهو أمر قضاه الله وأبرمه فلا مفرّ منه، وحينئذ يثاب الطائع ويعاقب العاصي. ثم بالغ في التهديد والزجر قال: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيضع كل شىء في موضعه الذي قضاه، فهو الأول، ومنه بدأت الخلائق، وهو الآخر وإليه ترجع الأمور وتصير، فعلى من زلّ عن الصراط السويّ، واتبع خطوات الشيطان أن يبادر بالتوبة ويرجع إلى الحق قبل أن يحيق به زلله، ويجازى على عمله «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» . [سورة البقرة (2) : الآيات 211 الى 212] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الآية: المعجزة الظاهرة التي لا يخفى أنها من عند الله كالعصا واليد البيضاء، والتبديل: تغيير الشيء من حال إلى حال، ونعمة الله: هى آياته الباهرة التي آتاها أنبياءه وجعلها مصدر الهدى والنجاة، والعقاب: عذاب يعقب الذنب، وزيّن له الشيء: حسّن له، وسخر منه: استهزأ به، والحساب: التقدير. المعنى الجملي (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي سل أيها الرسول الكريم هؤلاء الحاضرين من بنى إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتيناها أسلافهم فأنكروها، فأخذناهم بذنوبهم، وحلّ بهم ما كانوا أهلا له من العقاب، فهل لهم أن يتدبروا عاقبة أمرهم ويعتبروا بتلك العظات البالغة، ويقلعوا عما هم عليه من الجحود والطغيان؟ خوفا من أن يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك من النكال والوبال وسوء المآل. وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ لهم على طغيانهم وجحودهم بالحق بعد وضوح الآيات، كما يقول أحدنا توبيخا لآخر أمام جمع من الناس: سلوه كم أنعمت عليه؟ وكم أنقذته من ورطة كادت تودى به؟. ثم هدّد وتوعد من يغير سنن الله قال: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يغير نعمة الله وهى باهر آياته فيجعلها من أسباب ضلاله بدلا من أن تكون من أسباب سعادته، وتزيده رجسا إلى رجسه، عاقبه الله أشدّ العقاب. وذلك جزاء كل من حاد عن سنته، وبدّل شريعته. وهؤلاء المبدلون منهم، فالعقاب لا محالة نازل بهم، إذ هو من سنن الله العامة فحذار أن تكونوا من المخالفين المبدلين. ومعنى قوله (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أنها وصلت إليه وتمكن من معرفتها، ووقف على تفاصيلها فهو بمعنى قوله: «يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .

والآية عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين، فإن ملكهم الذي يتقلص ظله وعزّهم الذي تتخطّفه منهم الأيدى- ما حدث له ما حدث إلا بعد أن بدلوا نعمة الله التي أشار إليها بقوله: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» . ثم ذكر طبيعة الكافرين الجاحدين قال: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي حسنت الحياة الدنيا للكافرين وأشربت محبتها في قلوبهم فتهالكوا عليها، وتهافتوا فيها، وأعرضوا عن الدين حين ظنوا أن منافعها قد تفوتهم. والمراد بهم من لا يؤمنون بالحقوق المشروعة لله وللناس، إيمان إذعان وانقياد، بل يؤثرون الدنيا على ما عند الله من النعيم المقيم، وأخصّ صفاتهم أن تكون زينة الدنيا أكبر همهم، فهم يؤثرونها على كل شىء، حتى إن أمر الدين لا يزحزحهم عن شىء يقدرون عليه من هذه الزينة، لأنهم لا يقين لهم في الآخرة، فدينهم تقاليد وخواطر تتنازعها الشبهات، والشكوك والتأويلات فأهل الكتاب- ولهم شريعة إلهية- تفرّقوا واختلفوا في التأويل وارتكبوا التحريف، وكل فريق منهم يعتذر عن ترك العمل بالتوراة بأنه متبع لبعض الأحبار الذين هم أعلم منه بها. وليس لذلك من سبب إلا الافتتان بزينة الحياة الدنيا الزائلة، وإيثارها على حياة الآخرة الباقية، فقد انصرفت نفوسهم عن النظر الصحيح في آيات الحق وبيّناته، فرؤساؤهم جعلوا همهم الشهرة والاستعلاء على الأقران، وانتصر كل فريق لمذهب يدافع عنه بالجدل والتأويل، والمرءوسون ينتمى كل فريق إلى رئيس يعتزّ به ويقلده، ولا يستمع قولا لمخالفه، وحب الدنيا هو رأس كل خطيئة، وسبب كل بلية في الدنيا والآخرة. فليحذر المسلمون أن يحذوا حذوهم ويسيروا سيرتهم ولا يتبعوا خطوات الشيطان فيتفرّقوا كما تفرّق اليهود والنصارى حتى لا يحيق بهم ما حق بالذين من قبلهم.

ولكن الله قد قضى ولا راد لقضائه أن يحتذوا حذوهم، ويتبعوا نهجهم، ويختلفوا كما اختلف الذين من قبلهم، فحاق بهم مثل ما حاق بأولئك، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا. والخلاصة- إن الله قد أوعد المسلمين على التفرّق والاختلاف، وذكّرهم بحال من سبقهم من أهل الكتاب الذين حلّ بهم عقابه في الدنيا جزاء أعمالهم من حبهم للدنيا وزينتها، وتركهم حقوقه وحقوق الناس واختلافهم في دينهم لأجلها. (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ويسخرون من فقراء المؤمنين كعبد الله ابن مسعود وعمّار وصهيب، ويقولون: تركوا لذات الدنيا وعذّبوا أنفسهم بالعبادات. كما يسخرون من أغنيائهم لأنهم لا يتنوّقون في النعيم، بل يستعدون لما بعد الموت بترقية نفوسهم بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبينات والتحلي بفاضل الأخلاق، وإعطاء فضل ما لهم للعاجزين والبائسين. ثم ردّ على أولئك الساخرين الذين يرون أنهم في لذاتهم خير من أهل اليقين فى تقاهم فقال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي إنه إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين برهة من الدهر في هذه الحياة القصيرة بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والخدم والأعوان، فإن المؤمنين المتقين سيكونون أعلى منهم في تلك الحياة الأبدية مقاما وأرفع منهم منزلة. وآثر التعبير بالذين اتقوا عن الذين آمنوا، إيماء إلى أن المفتونين بزخرف الدنيا يدّعون الإيمان لأنهم نشئوا بين قوم يدعون أهل الكتاب، ومع هذا لم يعتد بإيمانهم فى الآخرة، إذ لم تصحبه التقوى، ولم يكن له أثر في النفس يولّد العمل الصالح كما قال: «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» . (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إنه يعطى كثيرا بلا تضييق ولا تقتير

[سورة البقرة (2) : آية 213]

كما يقال هو ينفق بغير حساب، على معنى أنه ينفق كثيرا، وقد جاء هذا المعنى في قوله: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» . والرزق بلا حساب ولا سعى في الدنيا يكون بالنسبة إلى الافراد، فإنا نرى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين، لكن المتقى يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر، إذ هو بالتقوى يجد المخلص من كل ضيق، ومن عناية الله به رزقا غير محتسب. أما الأمم فأمرها على خلاف ذلك، فالأمم الذليلة المهينة لا تكون متقية لأسباب نقمة الله وسخطه بالجري على سننه، إذ ليس من سنن الله أن يرزق الأمة العزّة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر ولا تعمل ولا تتدبر، بل هو يعطيها بعملها ويسلبها بزللها كما قال: «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» . [سورة البقرة (2) : آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

تفسير المفردات

تفسير المفردات جاء لفظ الأمة في كتاب الله لعدة معان: (1) الملة: أي العقائد وأصول الشرائع كما في قوله: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ،» (2) الجماعة الذين تربطهم رابطة يعتبرون بها وحدة تسوغ أن يطلق عليها اسم الأمة كما في قوله: «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» ، (3) الزمن كما في قوله: «وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ» وقوله: «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» ، (4) الإمام الذي يقتدي به كما في قوله: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ» ، (5) إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» . المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه الذين آمنوا بنبيه أن يدخلوا في السلم كافة، وأن يكونوا في وفاق لا نزاع معه، إذ ينبغى لمن جاءته الهداية من ربه ألا ينحو في عمله إلى ما يدعو إلى خلاف أو يثير نزاعا، بل الواجب عليه أن يقف عند ما حدده الكتاب الإلهى والهدى السماوىّ، ثم ذكر أن جاحد الحق إنما ينظر في عمله إلى ما يوفّر عليه لذته فى هذه الحياة الدنيا، فهو لا يسعى إلا إلى لذة عاجلة، ومن كانت هذه حاله كان فى خلاف وشقاق. ذكر هنا أن الاهتداء بهدى الأنبياء ضرورى للبشر، إذ أن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض، ولا سبيل لعقولهم وحدها أن تصل إلى ما يلزمهم في توفير مصالحهم، ودفع المضار عنهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله القادر على إثابتهم وعقوبتهم، العالم بما في ضمائرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من أسرارهم.

الإيضاح

الإيضاح (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي خلق الله الناس أمة واحدة مرتبطا بعضها ببعض في المعاش، لا تعيش إلا مجتمعة يعاون بعضها بعضا، وكل واحد منهم يعيش بعمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن الوفاء بجميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته، وهذا ما يعبر عنه بقولهم «الإنسان مدنىّ بالطبع» . ولما كانوا كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف، إذ لا يمكنهم في هذه الوحدة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام، مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول، وحرمانهم من الإلهام الذي يهدى كلا منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه، فكان من لطف الله ورحمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومنذرين بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الله إذا اتبعوا شهواتهم، ولم ينظروا في العاقبة. وقال أبو مسلم الأصفهاني والقاضي أبو بكر الباقلاني: إن المعنى: إن الناس كانوا أمة واحدة على سنة الفطرة، تأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، وتمييز الحسن من القبيح، والباطل من الصحيح بالنظر في المنافع والمضار، ولكن استسلام الناس إلى عقولهم بلا هدى إلهى مما يدعو إلى الاختلاف، فكثيرا ما حالت الأوهام بين الناس وبين الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام. فالعقل شاهد بأن العناية الإلهية سارت بالإنسان في جماعته كما سارت به في أفراده، فكما نشأ الفرد قاصرا في جميع قواه، نشأت الجماعة البشرية على ضرب من السذاجة لا تبلغ بها إلى تناول الشئون الرفيعة العالية، والمعاني السامية، وما زال هذا شأنه تربيه حوادث الكون، وتهذبه تجارب السنين والأيام، فاستعمل النحاس بعد الحجارة فى معايشه، وانتقل من بعد ذلك إلى الحديد، ثم ارتقى إلى استعمال البخار فالكهرباء.

وقد كان في طور قصوره لا يدرك إلا ما يصل إليه بالحس، ولا يعلم إلا المحسوس، ولم يزل كذلك حتى كشفت له تجارب السنين والأيام خطأه فيما يتوّهم، وعلّمته الحوادث ما لم يكن يعلم، فاستعدّ لفهم باطن ما عقل، وسرّ ما عرف، فجاءته الأنبياء تهديه لصلته بربه، وصلته ببني الإنسان، وكانوا له بمنزلة الرأس من البدن يبينون له الخير، ويبشرون كاسبه بأحسن الجزاء، وينذرون فاعل الشرّ بسوء المصير، بنار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي إن الله يبعث الأنبياء لينبهوا أقوامهم إلى ما غفلوا عنه، ويحذروهم عاقبة ما هم فيه من سيىء العادات، وقبيح الأخلاق، وشرّ الأعمال، حتى إذا تهيأت نفوسهم لقبول تشريع الأحكام أنزل الله الكتب لبيان تلك الأحكام بحسب استعداد تلك الأمم. وفي الآية إيماء إلى أن الكتاب هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيجب على الحاكمين أن يلزموا حكمه، ولا يعدلوا عنه إلى ما تسوّله لهم نفوسهم وتزينه أهواؤهم من ضروب التأويل، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر في ضروب التأويل فتصبح المصلحة مفسدة. وكما أضاف الحكم إلى الكتاب هنا، أضاف إليه النطق في قوله. «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» والهدى والتبشير في قوله: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ» . وفي الآية إيماء إلى أن الله أنزل مع كل نبىّ كتابا سواء كان طويلا أو قصيرا دوّن وحفظ، أو لم يدوّن ولم يحفظ ليبلغه للناس، فيبلّغ السلف الخلف، والسابق اللاحق. ثم ذكر أن ممن أوتوا الكتاب من جعلوه مصدر الاختلاف بغيا وجورا قال: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي إن الاختلاف الذي وقع من الرؤساء والأحبار، والعلماء وأهل النظر القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل، وهم الذين أوتوه، وأعطاهم الله الكتاب ليقرّروا ما فيه،

ويراقبوا سير العامة عليه، بعد أن قامت الأدلة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف، وأنه ما جاء إلا لإسعاد الناس والتوفيق بينهم، لا لإشقائهم وتمزيق شملهم- لم يكن مصدره إلا البغي بينهم، وتعدى الحدود التي أقامها الدين حواجز بين الناس. فقد يشوب طلب الحق شىء من الرغبة في عزة الرياسة، أو ميل مع أربابها، أو شهوة خفية في منفعة أخرى، وهذا من البغي على حق الله في عباده، أو من التعصب للرأى وتأييد المذهب بدون رعاية للدليل ولا نظر إلى البرهان، وربما كان هذا مع حسن النية، فيكون هذا مصدر شقاق وخلاف، وقد كان الواجب تمحيص الآراء ليحصل الوفاق، لكن هذه الجناية التي جناها الرؤساء على أنفسهم وعلى الناس بسبب بغيهم لا تقدح في هداية الكتاب إلى ما يتفق عليه الناس من الحق، فبغى علماء الدين فى التأويل، وكثرة القيل والقال ليس بعيب في الكتاب، فالذى يؤتي العقل ثمّ لا يهتدى بهديه، هل يعد ذلك منقصة له، تدل على أنه ليس بنعمة من عند الله؟ والذين لهم أبصار ولا يستعملونها في معرفة الطريق التي يسيرون فيها، ولا في وقاية أرجلهم من الأشواك التي تصادفهم في تلك الطريق، ولا يتباعدون من حفرة يتردّون فيها، وربما كانت نظرة واحدة تقيهم من التهلكة لو وجهوا أنظارهم نحوها. وكذلك لا يأخذون حذرهم إذا هم سمعوا الأصوات التي تنذر بالخطر العاجل- فهل حال مثل هؤلاء يحطّ من قيمة السمع والبصر؟ كذلك حال رجال الدين لا تقدح في إرشاد الدين، وقيمة هديه للناس. وقد رأينا الأديان في بدء نشأتها تلمّ الشمل وتمحق أسباب الخلاف من النفوس، وتوجد بين معتنقيها أخوّة لا تدانيها أخوة النسب، فكان الواحد من الصحابة يؤثر أخاه في الدين بماله على نفسه، ويبذل روحه فداء له، والأخ من النسب لا يفعل شيئا من ذلك.

كان هذا أيام أن كان الدين غضّا طريّا معروفا بحقيقته لأهله، تبينه للناس رؤساؤه، ويمشى بنوره فيهم علماؤه، لا خلاف ولا اعتساف، ولكن خلف من بعدهم خلف اعتسفوا في التأويل، وما همهم من ذلك إلا سدّ مطامعهم، وتأييد سطوتهم، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت، واعوجّت السبل أم استقامت، ثم يأتى ضال آخر فيحرّف ويؤوّل، ويريد أن ينال من الأول ما نال هذا من غيره، فيقع الخلاف والشقاق باسم الدين ولحماية الدين، وكم حروب وقعت بين المسلمين حتى قصمت ظهورهم، وأوهنت عزائمهم، وما كان دعواهم في كل ما حدث إلا حفظ الدين، وحمل الناس على الحق المبين، وقد سبقهم إلى مثل هذا اليهود والنصارى ولا يزال أمرهم كذلك إلى اليوم، فكأنهم احتذوا حذوهم، وجعلوهم رائدهم مع ما في كتابهم من النعي عليهم وتقريعهم على سوء صنيعهم، وكتابهم ملىء بهذا، وسنة نبيهم تحذرهم كل التحذير من سلوك هذا الطريق المعوّج الذي جرى عليه سابقوهم، وكان وبالا ونكالا عليهم. ثم أرشد إلى أن الإيمان الصحيح يهدى الناس إلى الحق ويمنع الاختلاف قال: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إن المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحقّ ويصلون إلى ما يرضى ربهم بتوفيقه وإنعامه، فالإيمان الصحيح له نور يسطع في العقول فيهديها في ظلمات الشبه، ويضىء لها السبيل إلى الحق لا يخالطه باطل، فيسهل عليها أن تميط كل أذى يتعثر يه السالك، كما لا يسمح لصاحبه أن يأخذ بأمر قبل أن يتبصر فيه، ويعرف أنه نافع له في دينه ودنياه، ويجعل لنفسه رقيبا عليها في كل خطرة تمرّ بباله، وكل نظرة تقع على ما بين يديه من آيات الله، فإذا اعتقد فهو يعتقد ما يطابق الواقع، وإذا تخيل فإنما يتخيل صورا تجلّى الواقع في أقوى مظاهره، فهو ساكن القلب، مطمئن النفس، والناس في اضطراب وحرب، كفروا بأنعم الله فعوقبوا عليها بفشوّ الشرّ، وفساد الأمر كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا

[سورة البقرة (2) : آية 214]

دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» . [سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) تفسير المفردات المثل: الوصف العظيم والحال التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل، والبأساء: الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه، كأخذ المال، والإخراج من الديار، وتهديد الأمن، ومقاومة الدعوة، والضرّاء ما يصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزال: الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه كما قال تعالى في المؤمنين يوم الأحزاب: «وزلزلوا زلزالا شديدا» . المعنى الجملي بعد أن أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وأرشد إلى حاجة البشر إلى معونة بعضهم بعضا لكثرة المطالب وتعدد الرغبات، وذلك مما يدعو إلى التنازع والتعادي، فدعا ذلك إلى وضع نظام جامع وشرع يحدّد الحقوق ويهدى العقول إلى ما لا مجال للنزاع فيه، لما فيه من البينات الدالة على أنه من عند الله، ثم ذكر إحسان الله إلى عباده، إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم فيما اختلفوا فيه، ثم ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في كتابهم، واتخاذهم آلة الوفاق طريقا للخلاف، وبعدئذ بيّن أن الله هدى أهل الإيمان الصحيح لما وقع فيه الاختلاف من الحق بالرجوع إلى الكتاب وتحكيمه في كل خلاف، ثم أشار إلى أن الذين يحاولون الخروج من الخلاف يكونون

الإيضاح

عرضة لبغى المختلفين وإيذائهم، وإن كانوا يريدون الخير لهم، حثّ المؤمنين هنا على الثبات والمصابرة في تحمل المشاقّ التي تصيبهم من الكفار، كما لقى الأنبياء ومن معهم من أمثالهم من الشدائد ومقاساة الهموم، وكان عاقبة أمرهم الفلج والنصر عليهم. روى أن الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين، وشجوا رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وكسروا رباعيته ، وقيل نزلت في غزوة الأحزاب حين اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين، وأصاب المؤمنين يومئذ جهد وشدة وجوع وضروب من الأذى، وأبدى المنافقون صفحة العداوة والبغضاء للمؤمنين الصادقين وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض «ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» وقال صادقو الإيمان على قلتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» الإيضاح (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) هذا خطاب للذين هداهم الله إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف إلى نور الوفاق باتباعهم هدى الكتاب زمن التنزيل، وهم أهل الصدر الأول من المسلمين، وفيه العبرة لمن يأتي بعدهم ويظنون أن في انتسابهم إلى الإسلام الكفاية في دخول الجنة، جهلا منهم بسنة الله في أهل الهدى منذ أن خلقهم أن يتحملوا الشدائد والإيذاء في طريق الحقّ وهداية الخلق. والخلاصة- إنه قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا، أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون على الشدائد كما ثبتوا، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله من غير أن تفتنوا في سبيل الحق، فتصبروا على ألم الفتنة، وتؤذوا في الله، فتصبروا على الإيذاء كما هى سنة الله في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟

ثم بين ما أصاب الأمم قبلهم من الشدائد فقال: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟) أي إن أولئك السابقين كانوا إذا أصابهم البؤس والضر ووقعوا في حال من الاضطراب والزلزلة من شدة الهول، وقد أحاط بهم أعداء الحق من كل جانب اعتقدوا أن النصر الذي وعد الله به من ينصره قد أبطأ فاستعجلوه بقولهم: (مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟) . فأجابهم الله بقوله: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) فهو سينصركم على عدوكم، ويكفيكم شرّ أهل البغي ويؤيد دعوتكم، ويجعل كلمتكم العليا، وكلمة الذين كفروا هى السفلى. ونحو الآية قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وقوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» . والمسلمون لم يصلوا في الشدة إلى مثل الحال التي نال فيها أولئك الرسل ما نالوا، فقد قتل بعض النبيين وأصابهم ضروب من الإيذاء حتى قيل إن منهم من نشر بالمنشار وهو حىّ، وأحرق بعض بالنار كما فعل أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» . فليتأمل المسلمون وليعتبروا بما خوطب به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم موضع التجلة والاحترام، وكيف عوتبوا هذا العتاب الشديد على ظنهم أنهم يدخلون الجنة وهم لم يقاسوا من البأساء والضرّاء واحتمال الشدائد في سبيل نصرة الدين، مثل ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان حتى استحقوا الجنة، فكيف لا يعاتب المسلم نفسه (وهو يعلم

[سورة البقرة (2) : آية 215]

أنه دون الصحابة إيمانا ودعوة إلى الحق وصبرا على المكاره في سبيل الله) حين يؤثر ما عند الناس على ما عند الله، ولا همّ له إلا زينة الدنيا والاستكثار من المال ولو من غير الطريق الحلال، والاعتداء على الناس، والبغي في الأرض. وقصارى القول- إن للإيمان حقوقا وواجبات تؤدى إلى سعادة الدارين، من أهملها سلب النعمة التي أنعم بها على السابقين، فعلى المسلم أن يجعل همه تطبيق آي كتاب الله على أعماله، وأن يعرض عن الاحتفال بعيوب الناس، وأن يتعاون مع المؤمنين على البرّ والتقوى، ويهجر من رغب عنها، اكتفاء بزخرف الدنيا وزينتها. [سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) تفسير المفردات الخير هنا: هو المال، وسمى به لأن حقه أن ينفق في وجوهه، والأقربون: هم الأولاد وأولادهم ثم الإخوة. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أن حب الناس لزينة الحياة الدنيا هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف، وأن أهل الحق هم الذين يتحملون البأساء والضرّاء في أموالهم وأنفسهم ابتغاء مرضاة الله، ناسب أن يذكر هنا ما يرغب الإنسان في الإنفاق في ذلك السبيل، ومن المعلوم أن بذل المال كبذل النفس، كلاهما من آيات الإيمان، فالسامع لما تقدم تتوجه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه، ومن ثم جاء بعده السؤال مقرونا بالجواب:

الإيضاح

روى في أسباب النزول عن ابن عباس، أن ابن الجموح- وكان شيخا كبيرا وله مال عظيم- سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، بماذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فنزلت الآية. وروى أحمد والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تصدّقوا فقال رجل: عندى دينار، قال: تصدّق به على نفسك، قال: عندى دينار آخر، قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندى دينار آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندى دينار آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنت أبصر به. الإيضاح (يسئلونك ماذا ينفقون) أي أىّ شىء يتصدقون به من أصناف أموالهم؟ (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي قل لهم: على المنفق أن يقدم الوالدين لأنهما قد ربياه صغيرا وتعبا في تنشئته، ثم الأولاد وأولادهم، ثم الإخوة لأنهم أولى الناس بعطفه ورعايته، ولأنه إذا تركهم يحتاجون إلى غيره كان في ذلك عار وشنار عليه، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الكسب لصغر سنهم، ثم المساكين وأبناء السبيل للتكافل العام بين المسلمين، فهم أعضاء أسرة واحدة فيجب أن يتعاونوا في السرّاء والضرّاء. وقد جاءت الآية في بيان نفقة التطوع لا في الزكاة المفروضة، لأنها لم تعين مقدار المنفق، والزكاة الشرعية معينة المقدار بالإجماع، ولم يذكر سبحانه السائلين والرقاب لذكرهما في مواضع أخرى. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي وما تنفقوه في وجوه البرّ والطاعة في أي زمان وأىّ مكان على الأصناف المذكورة أو غيرها، فالله عليم به لا يغيب عنه شىء، فلا ينسى المثوبة والجزاء عليه، بل يضاعف عليه الجزاء.

[سورة البقرة (2) : الآيات 216 إلى 218]

[سورة البقرة (2) : الآيات 216 الى 218] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) تفسير المفردات كتب عليكم: أي فرض عليكم، والصدّ المنع، والفتنة: أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم، يرتدد: أي يرجع، وحبط العمل: بطل وفسد، وآمنوا: أي ثبتوا على إيمانهم، وهاجروا: أي فارقوا الأهل والوطن، وجاهدوا من الجهد وهو المشقة، ويرجون: أي يتوقعون المنفعة بعمل الأسباب التي سنها الله، ورحمة الله: أي ثوابه. المعنى الجملي كان الكلام فيما مضى في الإنفاق وبذل المال في سبيل الله على أصناف من المؤمنين فى احتياج إلى مدّ يد المعونة والمساعدة لهم إيجادا لروح التعاون بين الإخوة في الإيمان،

الإيضاح

وبثا لمبدأ التكافل العام في الأسرة الإسلامية، لتصلح جميع أعضائها وتكون كالبدن السليم، لا يشتكى منه عضو من الأعضاء، فيؤدى كل عضو وظيفته في الحياة، ويعمل العمل الذي هيئ له بمقتضى النظام العام. قفى ذلك بذكر القتال وبذل النفس لإعلاء دين الله وجعل كلمته العليا وكلمة الكفر هى السفلى ونشر النور الإسلامى في أرجاء المعمورة لهدى الخلق ومعرفتهم للحق. ومن البين أن المال أخو الروح، فالصلة بينهما وثيقة، فناسب ذكر آيات القتال بعد ذكر أحكام الصدقة على النحو الذي عرفت. الإيضاح (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي فرض عليكم قتال الكفار فرض كفاية إذا قام به جماعة كفى ولم يلزم الباقين، إلا إذا دخل العدوّ بلاد المسلمين فاتحا فيكون فرض عين. وقوله: وهو كره لكم أي شاقّ عليكم تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافى الرضا بما يكلف به الإنسان كالمريض يشرب الدواء المرّ البشع الذي تعافه نفسه لما يرى فيه من منافع في العاقبة. وهذه أول آية فرض فيها القتال، وكان ذلك في السنة الثانية للهجرة، وقد كان القتال محظورا على النبي صلى الله عليه وسلم مدة إقامته في مكة، فلما هاجر إلى المدينة أذن له فى قتال من يقاتله من المشركين بقوله: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» ثم أذن له فى قتال المشركين عامة، ثم فرض الجهاد. (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) أي إن من الأشياء المكروهة طبعا ما يفعله الإنسان لما يرجو فيه من نفع وخير فيما بعد، فقد يتحمل الإنسان أخطار الأسفار لتحصيل الربح في التجارة، ويتحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة في الدنيا والعقبى.

كذلك من الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضرر والأذى في نفسه، أو من جهة منازعة الناس له فيه، وهكذا الحال في ترك الجهاد فإنه يصون النفس عن خطر القتل ويصون المال عن الإنفاق منه حالا، لكن فيه مفاسد ومضار مآلا كتسليط الكفار على بلاد المسلمين وأموالهم واستباحة حريمهم، وقد يكون في ذلك القضاء عليهم، وكفى بذلك خسرانا مبينا. إلى أن في الجهاد الظفر بالغنائم، والفرح بالاستيلاء على بلاد العدوّ، وحفظ بيضة الإسلام، وترغيب الناس في الدخول فيه، وإعلاء كلمة الحق، والثواب في الآخرة، ومرضاة الله «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» . (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إذا تصوّرتم قصور علمكم وكمال علم ربكم علمتم أنه تعالى لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم، فعليكم أن تمتثلوا وإن كرهته نفوسكم، فاشتغلوا بطاعة الله، ولا تلتفتوا إلى مقتضى طباعكم وما تهواه قلوبكم. وقال بعض المفسرين: المراد بذلك أن المسلمين رأوا أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به، فخافوا أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه، فأبان لهم سبحانه أن سنته قد جرت بأن ينصر الحقّ وحزبه على الباطل وأهله ما استمسكوا به ودعوا إليه ودافعوا عنه، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغرى به أعداءه، ويطمعهم بالتنكيل بحزبه والتألّب عليه للإيقاع به. وقد سبق في علم الله أنه لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم كما قال: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» وقد علم الله هذا فأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه، وستجدون صدق هذا في امتثال أمره، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه. وبعد أن ذكر أن القتال كتب على هذه الأمة بين مسألة سألوا عنها، وهى القتال فى الشهر الحرام فقال:

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، إذ اختلج في صدورهم أن الأمر به في غير الشهر الحرام والمسجد الحرام، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، أيحلّ لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أولا؟ ويؤيده ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمته في ثمانية من المهاجرين في جمادى الآخرة قبل وقعة بدر بشهرين، ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو ابن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها تجارة من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام وهو الشهر الذي يأمن فيه الخائف، ويسعى الناس فيه إلى معايشهم. ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: والله ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ منها شيئا، ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، ندموا على ما فعلوا وظنوا أن قد هلكوا فنزلت الآية، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العير وعزل منها الخمس وقسم الباقي بين أصحاب السريّة وفدى الأسيرين. (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي إن أىّ قتال فيه وإن كان صغيرا في نفسه أمر كبير مستنكر الوقوع لعظيم حرمته، وأن ما فعله عبد الله بن جحش وما يفعله المسلمون فيما بعد من القتال فيه، مبنىّ على قاعدة ارتكاب أخفّ الضررين إذا لم يكن من أحدهما بدّ، فالقتال في نفسه أمر كبير وجرم عظيم، ولكنه ارتكب لإزالة ما هو أعظم منه، وذلك ما ذكره تعالى بقوله: (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) أي إنّ منع المشركين للمؤمنين عن الطريق الذي يوصل إلى الله تعالى، وهو الإسلام باضطهادهم للمسلمين، وفتنتهم عن دينهم بقتلهم من يسلم تارة، وإيذائه في نفسه وأهله وماله ومنعه من الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة أخرى، ومنعهم المسلمين عن

المسجد الحرام في الحج والعمرة، وإخراجهم أهله منه، وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، وكفرهم بالله تعالى- كل جريمة من هذه الجرائم التي يرتكبها المشركون أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فما بالك بها وقد اجتمعت معا. ثم ذكر عزّ اسمه السبب الذي من أجله شرع القتال، وهى فتنة المؤمنين عن دينهم فقال: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمار بن ياسر وبلال وخبّاب بن الأرتّ وغيرهم، فقد عذبوا عمارا بالكيّ بالنار ليرجع عن دينه، وعذّب أبوه وأخوه وأمه، فمرّ بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، ومات ياسر في العذاب، وطعنت أمه بحربة في موضع عفتها فماتت، وكان أمية بن خلف يعذب بلالا بالجوع والعطش ليلة ويوما، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء (الرمل المحمى بحرارة الشمس) ويضع على ظهره صخرة عظيمة ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى، فيأبي ذلك وتهون عليه نفسه في سبيل الحفاظ على دينه. وما امتنع منهم إلا من له عصبة من قومه، على أنه لم يسلم من أذاهم ذوو العصبيات فقد آدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعوا سلا الجزور (الكرش المملوء بالفرث) على ظهره وهو يصلى حتى نحّته عنه فاطمة رضى الله عنها، وتعرّضوا له بضروب أخرى من الإيذاء وقاه الله شرّها كما قال تعالى: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» . ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وكثر عددهم صاروا يقاتلونهم في مهجرهم لفتنتهم فى الدين إن استطاعوا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) أي إن هؤلاء لا همّ لهم إلا منع الإسلام عن الانتشار في الأرض، لاستحكام عداوتهم وحرصهم على فتنتكم فانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة طمع في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة

عن الإسلام إذا كان وحده، فكيف إذا اقترن به غيره من الآثام كالصدّ عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، والكفر بالله، والاعتداء بالقتال. وفي قوله إن استطاعوا استبعاد لاستطاعتهم، وشك في حصولها، وتنبيه إلى سخف عقولهم، وكون فعلهم هذا عبثا لا يوصل إلى غرض، لأن من عرف الإسلام معرفة صحيحة لا يرجع عنه إلى الكفر، وهكذا حال الكافرين في كل عصر ومصر يقاتلوننا ليردونا عن ديننا إن استطاعوا. ثم عاقبة من يتأثر بهذه الفتنة فيرتد عن دينه فقال: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ومن يرجع منكم عن الإسلام إلى الكفر، ويمت على هذه الحال- بطلت أعماله حتى كأنه لم يعمل صالحا قط، لأن قلبه قد أظلم فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة الماضية، ويخسر الدنيا والآخرة، أما خسارة الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة، إذ يقتل عند الظفر به، ولا يستحق موالاة المسلمين ولا نصرتهم، وتبين منه زوجته، ويحرم الميراث، وأما خسارة الآخرة فيكفى في بيانها قوله: (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) . والردة تارة تحصل بالقول كإنكار شىء مما علم من الدين قطعا، وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحا بالدين كالسجود للشمس والصنم والاستهانة بالمصحف ونحو ذلك. وظاهر الآية يدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر، وبه أخذ الشافعي، ورأى أبو حنيفة أن الردة تحبط العمل حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام تمسكا بعموم قوله تعالى: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وقوله: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» . ولما ذكر حال المشركين وحكم المرتدين، بين جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ)

[سورة البقرة (2) : الآيات 219 إلى 220]

أي إن المؤمنين الذين ثبتوا على إيمانهم والذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هاجروا إليه للقيام بنصرة الدين وإعلاء كلمة الله، والذين بذلوا جهدهم في مقاومة الكفار وتقوية المؤمنين- هم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه، وهم جديرون بأن يعطوا ذلك، لأنهم استفرغوا ما في وسعهم، وبذلوا غاية جهدهم، ولم يدخروا وسيلة فيها مرضاة لربهم إلا فعلوها، فحق لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة. وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فرارا بنفسه وقومه من أذى قريش وفتنتهم في دينهم، بعد أن عاهده أهل المدينة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وتبعه المؤمنون فى هجرته ليعتزّ الإسلام بأهله، ويقدروا على الدفاع عن أنفسهم إذا هم اجتمعوا، واستمروا على ذلك حتى فتح مكة، وخذل الله المشركين وجعل كلمتهم السفلى وكلمة الله هى العليا. (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بالمؤمنين، يحقق لهم رجاءهم إن شاء، بعميم فضله، وعظيم طوله، قال قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمة، قد جعلهم الله أهل رجاء، ومن رجا طلب، ومن خاف هرب. [سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الخمر مأخوذة من خمر الشيء إذا ستره وغطاه، سميت بها لأنها تستر العقل وتغطيه، والميسر: القمار، من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب بلا مشقة ولا كدّ، والإثم الذنب ولا ذنب إلا فيما كان ضارا من قول أو فعل، والضرر يكون في البدن والنفس والعقل والمال، والعفو الفضل والزيادة على الحاجة، والعنت: المشقة وما يصعب احتماله، يقال عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر. المعنى الجملي روى أحمد عن أبي هريرة قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فنزلت الآية فقال الناس: ما حرّم علينا، إنما قال: إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم صلى رجل من المهاجرين وأمّ الناس في المغرب فخلّط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» ثم نزلت آية أغلظ من ذلك «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» إلى قوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» قالوا انتهينا ربّنا. ومجموع الروايات يدل على أن النهى القطعىّ عنها كان بعد التمهيد لذلك وبعد النهى عن قرب الصلاة حال السكر، وأوقات الصلاة متقاربة، فمن ينهى عن قرب الصلاة وهو سكران فلا بد أن يتجنب السكر في أكثر الأوقات لئلا تحضره الصلاة وهو سكران، وفي هذا من الحكمة في التدريج بالتكليف ما يجعل النفوس له أقبل ولاتّباعه أطوع. قال القفّال: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب- أن الله تعالى علم

الإيضاح

أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق. الإيضاح (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي يسألونك عن حكم تناول الخمر، إحلال هو أم حرام؟ ومثل هذا بيعها وشراؤها ونحو ذلك مما يدخل في التصرفات التي تخالف الشرع- وعن حكم استعمال الميسر وفعله. وكلمة (الخمر) يراد بها عند الشافعي كل شراب مسكر، ويراد بها عند أبي حنيفة ما اعتصر من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد. حجة الأول (1) أن الصحابة وهم صميمو العرب فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما كان من العنب وما كان من غيره. (2) وما رواه أبو داود والترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم: كل مسكر خمر. (3) وما رواه النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البرّ خمرا، وإن من الشعير خمرا. (4) وما أخرجه البخاري عن أنس قال: حرّمت الخمر حين حرمت، وما يتخذ من خمر الأعناب إلا القليل، وعامة خمرنا من البسر والتمر. قال بعض العلماء: جرى ذكر هذه الأشياء لكونها معهودة في ذلك العصر، فكل ما في معناها من ذرة أو عصارة شجر أو تفاح أو بصل أو نحو ذلك مما يستخرج منه الخمر الآن فحكمه حكم هذه الأصناف. وكيفية الميسر عند العرب أنه كانت لهم عشرة قداح وتسمى الأزلام والأقلام أيضا (واحدها قدح وزلم وقلم، وهى قطع من الخشب) وأسماؤها الفذّ والتّوأم والرقيب والحلس والمسبل والمعلّى والنّافس والمنيح والسّفيح والوغد، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها إما عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرين

جزءا، ولا شىء للثلاثة الأخيرة، فكانوا يعطون للفدسهما، وللتوءم سهمين، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، وهو أعلاها، ومن ثم يضرب به المثل، فيقال لذى الحظ الكبير من كل شىء (هو صاحب القدح المعلّى) . وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الرّبابة وهى الخريطة توضع على يد عدل يجلجلها ويدخل يده ويخرج منها واحدا باسم رجل ثم واحدا باسم رجل آخر وهكذا، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجذور كله- وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها شيئا، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم (الوغد: اللئيم عديم المروءة) . واتفق العلماء على أن كل قمار حرام كالقمار على النّرد والشّطرنج وغيرهما. إلا ما أباح الشرع من الرهان في السباق والرماية ترغيبا فيهما للاستعداد للجهاد. (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي قل لهم: إن في تعاطى الخمر والميسر إثما لأن فيهما أضرارا كثيرة، ومفاسد عظيمة. أما الخمر فلها مضار في البدن والنفس والعقل والمال وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض، فمن ذلك: (1) مضارها الصحية- بإفساد المعدة وفقد شهوة الطعام وجحوظ العينين وعظم البطن وامتقاع اللون، ومرض الكبد والكلى، والسل الذي يفتك بالبلاد الأوربية فتكا ذريعا على عناية أهلها بالقوانين الصحية، وقد استطار شره في مصر بعد انتشار المسكرات بها، مع أن جوها لا يساعد على انتشاره، وإسراع الهرم إلى السكير حتى قال بعض الأطباء الألمان: إن السكير ابن الأربعين يكون نسيج جسمه كنسيج جسم ابن الستين، وقال آخر: إن المسكر يعطل وظائف الأعضاء أو يضعفها، فهو يضعف حاسة الذوق ويحدث التهابات في الحلق وتقرّحات في الأمعاء وتمددا في الكبد ويولد

الشحم فيه فيضعف عمله، ويعيق دورة الدم وقد يقفها أحيانا فيموت السكّير فجأة، كما يضعف مرونة الشرايين فتتمدد وتغلظ حتى تفسد أحيانا فيفسد الدم ولو في بعض الأعضاء فتحدث (الغرغرينا) التي تقضى بقطع العضو الذي تظهر فيه حتى لا يسرى الفساد إلى الجسم كله فيكون الموت، وكذلك يضعف مرونة الحنجرة ويهيج شعب التنفس ويحدث بحة في الصوت ويكثر السعال. وانقطاع النسل، فولد السكير يكون ضعيفا وحفيده أشد ضعفا وأقل عقلا وهكذا يسرى الضعف إلى أولاده طبقة بعد أخرى حتى ينقطع النسل، ولا سيما إذا سار الأبناء على سنة الآباء وذلك هو الغالب فيهم، حتى قال أحد الأطباء: اقفلوا لى نصف الخانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات. (2) مضارها العقلية- إنها تضعف القوة العاقلة لتأثيرها في المجموع العصبي، وكثيرا ما ينتهى الأمر بالسّكور إلى الجنون. (3) مضارها المالية- تفنى الثروة وتستهلك المال، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أصناف الخمور وغلا ثمن الكثير منها- وافتنّ تجرها في ترويج بضاعتهم بوسائل شتى حتى لقد يجمعون بينها وبين القيادة والزنا، فكم رأينا من خمار رومى فقير يفتح حانة في إحدى القرى فلا يلبث إلا قليلا حتى يبتلع ثروة أهلها ويصير سيد القرية، وقد قيل: إن ما ينفق في مصر ثمنا للخمر يربو على ما ينفق في فرنسا كلها. (4) مضارها في المجتمع- وقوع النزاع والخصام بين بعض السكارى وبعض، وبينهم وبين من يعاشرهم لأدني بادرة تصدر من واحد منهم، وذلك ما أشار إليه الكتاب الكريم: «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ» . والخسة والمهانة في عيون الناس، فقد يأتى السكّير في كلامه وحركاته بما يضحك منه ويكون موضع السخرية من الناس، ويعبث به الصبيان، إذ يكون أقل منهم

عقلا، وقلما يضبط أقواله وأفكاره، وللسكارى من النوادر ما يكفى كل ذى شرف وعقل أن يكفّ عن الخمر، وتجرّئ على ارتكاب الجرائم وتغرى بها، ولا سيما الزنا والقتل، ومن ثم سميت أم الخبائث. (5) مضارها النفسية- إفشاء السر وهو ذو أضرار خطيرة، ولا سيما إذا كان متصلا بالحكومات وسياسة الدول وشئونها العسكرية، وعليها يعتمد الجواسيس في نجاحهم فى مهامهم التي ندبوا لها. (6) مضارها الدينية- إن السكران لا تتأتى منه عبادة صحيحة، ولا سيما الصلاة التي هى عماد الدين، ومن ثم قال: «وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ» أي يصدكم الشيطان بتناولها عن الذكر والصلاة. أما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر، فمنها: (1) أنه يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين. (2) أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة. (3) أنه يفسد الأخلاق بتعويد الناس الكسل بانتظار الرزق من الأسباب الوهمية وتركهم الأعمال الجالبة للكسب كالزراعة والصناعة والتجارة وهى أساس العمران (4) خراب البيوت بغتة وضياع أموال أربابها فجأة بالخسارة في لعب الميسر، فكم رأينا من أسرة نشأت بين أحصان الثروة والغنى، وانحصرت ثروتها في واحد من أفرادها، فلم يكن منه إلا أن أضاعها بين غمضة عين وانتباهتها، وأصبحت هذه الأسرة فى فقر مدقع لا تملك ما تعيش به عيش الكفاف. أما منافع الخمر فكثيرة منها: (1) الاتجار بها فقد كانت ولا تزال موردا كبيرا للغنى والإثراء. (2) قد تكون علاجا لبعض الأمراض ككثير من السموم والنبات الضار بالمزاج المعتدل والمقدار الذي يعطى حينئذ يكون قليلا لا يكفى للذة والنشوة.

(3) تسلّى الحزين على ما يكون بعدها من رد الفعل الذي يزيد في الكآبة والحزن. (4) تثير النّخوة والشجاعة، وهذا من أعظم منافعها عند العرب، وإن كان هذا مضرة في العصر الحاضر، فإن هذه الحميّة هى التي تثير الشحناء والبغضاء بين السكارى ولا حاجة إليها الآن في الحرب، لأنها أصبحت فنا لا بد فيه من حضور العقل وجودة النظر. (5) تجعل البخيل سخيّا، وقد يكون هذا نافعا في الأزمنة القديمة حين كان الرجل ينفق ماله بين أهله- أما الآن فإنه كثير الضرر، لأنه يذهب بثروة البلاد ويضعها فى أيدى الأشرار من الأجانب. ومن منافع الميسر. (1) مواساة الفقراء كما في النوع المسمى (يا نصيب) الذي يعمل لبناء الملاجئ والمستشفيات والمدارس وغيرها من أعمال البر. (2) سرور الرابح وأريحيته. (3) أنه يصيّر الفقير غنيّا بدون تعب ولا نصب. (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فى هذا إرشاد إلى القاعدة العظيمة التي دوّنها علماء الإسلام فيما بعد وهى: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» ، وإلى القاعدة الأخرى «ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما» . ولما كانت دلالة الآية على التحريم ليست صريحة لم تجعل تشريعا عاما تطالب به كل الأمة، بل عمل فيها كل واحد باجتهاده، فمن فهم منها التحريم امتنع منها، ومن لم يفهم ذلك جرى على أصل الإباحة، ومن ثم عمل الصحابة باجتهادهم على اختلافهم فيه، وأقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وصار عمر يدعو الله أن يبين في الخمر بيانا شافيا حتى نزلت آية المائدة التي تقدمت: إنما الخمر والميسر إلخ. فتركهما الصحابة جميعا. ولما للخمر من مضارّ كثيرة تركها في الجاهلية كثير من العرب، منهم العباس

ابن مرداس فقد قيل له: ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلى بيدي فأدخله في جوفى، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم وأمسى سفيههم. وقد ألّفت الجماعات في أوربا وأمريكا للسعى في إبطال المسكرات، وحمل الدول على تشديد العقوبة على بائعى الخمور. ولا تزال الأيام تظهر من مضارّ الخمر والميسر ما لم يكن معروفا من قبل، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ولكن الهوى وسلطان اللذة صرفا كثيرا من أدعياء المدنية عن النظر في هذه المضار، فأسرفوا في معاقرتها حتى غيض معين الشباب، وحرموا من سعادة الحياة، وحرمت منهم أمتهم وأهلوهم، وهم أحوج ما يرجون من ذكائهم ورجاحة عقولهم، وبدت فتنة السكر بين ذوى الثراء والجاه من المتعلمين، وانتقلت منهم العدوى إلى غيرهم من الفلاحين، والعمال والأجراء، وعم خطر هذه الآفة وتبعها انتشار الزنا بما له من مضارّ لا تحصى كداء الزهري والسيلان وغيرهما مما يوجب انقطاع النسل. وإذا استمر انتشار الخمر والزنا في هذه البلاد ولا سيما الخمور التي تباع للفقراء فهى موادّ سامة محرقة (سبيرتو) يضاف إليها قليل من الماء والسكر، فليس بالبعيد أن تنقرض الأمة بعد جيلين أو أكثر كما انقرض هنود أمريكا، ولا يبقى منهم إلا بعض الأجراء والخدم، فالسكر والزنا مقراضان يقرضان الأمم قرضا. وقد شاع حديثا في مصر ما هو أفتك بالأمة من الخمور وأقتل لها، وهو بعض السموم التي تستعمل حقنا تحت الجلد أو شمّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهرويين. وأما كون إثم الميسر أكثر من نفعه فواضح مما تقدم، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أنواع القمار وعمّ ضررها، وقد تنبهت لذلك حكومات كثيرة فمنعت أكثر أنواعه وشددت في العقوبة عليه، مع احترامها للحرية الشخصية، علما منها بأن منفعة القمار وهمية ومضرته حقيقية، إذ المقامر يبذل ماله المملوك له لربح موهوم، والمسترسل فى إضاعة المحقق طلبا للمتوهم يفسد فكره، ويضعف عقله، ومن ثم انتهى الأمر

بالكثير من اللاعبين إلى قتل أنفسهم أو الرضا بعيشة الذل والمهانة. وكم من أرباب الثراء ما زال الشيطان يغريه حتى فقد ثروته وعاش بقية حياته فقيرا معدما. ولبيوت القمار وسائل في استدراج الأغنياء وتخريب بيوتهم بأجابيلهم وشركهم التي ينصبونها. وقلما يقدر متعاطى الخمر والميسر على تركهما، لأن للخمر تأثيرا في الأعصاب يدعو إلى شربها والإكثار منها، وما تحدثه من التنبيه يعقبه الخمود والفتور، فيشعر السكران بعد صحوه أنه مضطر إلى معاودة السكر، فإذا هو عاد قويت الداعية إليه. وأما صاحب الميسر فإذا ربح طمع في المزيد، وإذا خسر طمع في تعويض الخسارة وقصارى القول- إن الله قد هدانا لأن نبحث عن مضار الخمر والميسر بأنفسنا لنكون على بصيرة في تحريمهما، وإنا لنرى الأمم التي لا تدين بالإسلام قد اهتدت إلى ما لم نهتد إليه من المضار، فأنشأت تؤلف الجماعات للسعى في إبطال هاتين الجريمتين. (وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) أي أىّ جزء من أموالهم ينفقون، وأىّ جزء منها يمسكون، ليكونوا ممتثلين لقوله: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وقد أطلق القرآن العفو والزيادة ليقدّره كل قوم بحسب عصرهم، وما يليق بحالهم والمراد بهذا الإنفاق فيما زاد على الزكاة المفروضة من صدقات التطوع على الأفراد والمصالح العامة. وقد قضت الحكمة بمجىء الإنفاق مطلقا أول الإسلام، وبمدح الإيثار على النفس، لأن المسلمين كانوا فئة قليلة بين أمم وشعوب تناصبهم العداوة وتبذل في سبيل ذلك الأموال والأرواح، فلا تستقيم لهم حال إذا لم يتّحدوا ويكونوا كرجل واحد ويجودوا بالمال لخدمة المصالح العامة. وتلك سنة الله في كل دين حين بدأ ظهوره، حتى إذا ما اعتز وكثرت الأمة، وصار يكفى لمرافقها العامة ما يبذله كل ذى غنى من ماله- اختلفت الحال ودعا الأمر

إلى تقييد الإنفاق، ومن ثم سأل المسلمون ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأنهم ينفقون الفضل والزيادة على حاجة من يعولونهم. أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير الصدقة ما أبقت غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: أنفق علىّ أو طلقنى، ويقول مملوكك: أنفق علىّ أو بعنى، ويقول ولدك: إلى من تكلنى؟» . وأخرج ابن سعد عن جابر قال: قدم أبو الحصين السلمى بمثل بيضة الحمامة من الذهب، فقال يا رسول الله: أصبت هذه من معدن فخذها فهى صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، ثم قال: يأتي أحدكم بما يملك، فيقول هذه صدقة، ثم يقعد يتكفّف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول. والحكمة في الجمع بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن الإنفاق في آية واحدة- الموازنة بين حال فريقين من الناس: فريق ينفق المال بغير حساب في الإثم تفاخرا ومباهاة فيما لا خير فيه، أو لمجرد اللذة وإن ساءت العاقبة، وفريق ينفقه في سبيل الله يزيل به ضرورة إخوانه ذوى الحاجة، أو يرفع به شأن أمته بالإنفاق في مصالحها العامة وأعمال الخير فيها كالتعليم وإنشاء الملاجئ والمستشفيات. فالأمة التي يكون أفرادها مليون نسمة إذا بذلوا في مصالحها العامة كتربية النشء وإعداد القوة الحربية ونحو ذلك مما يرقى شئونها- تكون أعز وأقوى من أمة عدّتها مائة مليون لا يبذلون شيئا من فضل أموالهم في مثل ذلك، فكل امرئ من الأولى يكون كأمة، لأن أمته عون له، تعده جزءا منها ويعدها كلّا له، والأمة الثانية كلها لا تعدّ بواحد، لأن كل واحد منها يخذله الآخرون، ويرى أن حياته بموته، فيكون

كل واحد منها في حكم الميت، ومثل هذا الجمع لا يسمى أمة، لأن كل واحد يعيش وحده وإن كان مع غيره على ظهر الأرض، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم، ويتعاون الجميع على حفظ الوحدة الجامعة لهم، وبها تتكون الأمة الناجحة في الحياة. فالأمم لا تنهض إلا بمثل هذا التعاون ومساعدة الغنى للفقير وإعانة القوى للضعيف، وبهذا يظهر القليل على الكثير وتكون له السيادة. ثم ذكر مننه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال: (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي على هذا النحو من البيان قضت الحكمة بأن يبين لكم الأحكام التي فيها مصالحكم ومنافعكم، ويوجه عقولكم إلى ما فيها من منافع ومضارّ. ثم ذكر الحكمة في شرع هذه الأحكام فقال: (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي لتتفكروا في شئونهما معا، فتجتمع لكم مصالح الروح والجسد وتكونوا أمة وسطا، لا كمن ظنوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها فخسروها وخسروا الآخرة، إذ الدنيا مزرعة الآخرة، ولا كالذين انصرفوا إلى اللذات، ففسدت أخلاقهم، وأظلمت أرواحهم، وصاروا كالبهائم، وخسروا الآخرة والدنيا. وهذه الآية وما ماثلها ترشد إلى أن الإسلام هاد إلى سعة دائرة الفكر واستعمال العقل فى مصالح الدارين معا، ومن ثم قال العلماء إن الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس فى معايشهم- من الفروض الدينية، إذا أهملت الأمة شيئا منها ولم يقم من أفرادها من يكفيهم أمرها، كانت عاصية لأمر ربها مخالفة لدينه. وعلى هذا سارت الأمة الإسلامية في القرون الأولى، فكانت إذا احتاجت إلى شىء مما يستدعيه التوسع في العمران، عدّت القيام به من فروض الدين- إلى أن غلا أقوام فى الدين وأهملوا مصالح الدنيا زعما منهم بأن ذلك من الزهد المطلوب والتوكل المحبوب، وما هو منهما في شىء، وكان نتيجة ذلك أن أهملت الشريعة، ولم توجد أمة إسلامية تقيمها، ولم يعد من المسلمين من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها

مصالح الأمم والحكومات، بل قد أصبح كثير من العلماء يعد الاشتغال بالعلوم والفنون التي تتوقف عليها مصالح الدنيا، صادّا عن الدين مبعدا عنه. (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) أي ويسألونك عن القيام بأمر اليتامى، أو عن مخالطتهم وكفالتهم. أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت آية «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» وآية «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى» انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) الآية. وأشد ما ورد في الوصية باليتامى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً» وقد كان السابقون الأولون من المؤمنين يحفظون حدود الله ويأخذون القرآن بقوة، فتحدث لهم ذكرى وعظة لا يجد مثلها من بعدهم ممن لم يفهم القرآن كما فهموا. وهذه الوصايا باليتامى ملكت على المؤمنين نفوسهم فتركتهم في حيرة وحرج من أمر القيام على اليتامى واستغلال أموالهم خوفا من أن ينالهم شىء من الظلم، وتأثّم الصحابة من مخالطة اليتامى، فكان بعضهم يأبى القيام على اليتيم، وبعضهم يعزل اليتيم عن عياله، فلا يخالطونه في شىء حتى إنهم كانوا يطبخون له وحده، ثم فطنوا إلى ما في هذا من الحرج مع عدم المصلحة لليتيم، بل فيه مفسدة له في تربيته وضياع لماله، إلى ما في ذلك من الاحتقار والإهانة له، فيكون كالكلب أو كالداجن في مأكله ومشربه، ومن ثم احتاجوا إلى السؤال عما يجمع بين المصلحتين: مصلحة اليتيم ليعيش فى بيت كافله عزيزا كأحد عياله، ومصلحة الكافل فيسلم من أكل شىء من ماله بغير حق، فأجيبوا بقوله تعالى:

(قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي قل لمن يسأل عن المصلحة فى معاملة اليتامى من عزل أو مخالطة- إن كل ما فيه صلاح لهم فهو خير، فعليكم أن تصلحوا نفوسهم بالتربية والتهذيب، وأموالهم بالتنمية والتثمير، ولا تهملوا شئونهم فتفسد أخلاقهم وتضيع حقوقهم، ولا وجه للتأثم من مخالطتهم في المأكل والمشرب والكسب، فهم إخوانكم في الدين، ومن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء في الملك والمعاش، وفي ذلك منفعة لهم لا ضرر عليهم، إذ كل واحد منهم يسعى في خير الجميع، والمخالطة مبنية على المسامحة، لانتفاء مظنّة الطمع، فيكون اليتيم في البيت كالأخ الصغير تراعى مصلحته، ويتحرى له رجحان كفته (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي والله يعلم ما تضمره القلوب، وتميل إليه من قصد الإفساد أو الإصلاح في هذه المخالطة، وسيحاسبكم على الدقيق والجليل من الأمور وإنما نبه القلوب إلى ذكر علمه تعالى، لتلاحظ ذلك حين العمل، وترقب الجزاء على ما تعمل، حتى تأمن الزلل، وتبتعد عن مواطن الشبهة، فشهوة الطمع كثيرا ما تسوّل للانسان أكل مال اليتيم، كما تزين له أكل مال أخيه الضعيف ولا وازع ولا زاجر إلا تقوى الله، ومراقبته في السر والعلن. وكثير من الأوصياء على الأيتام يظهرون العفّة والزهد في أكل أموالهم، وهم يلتهمونها التهاما، فتراهم بعد قليل أصبحوا من ذوى الثراء، وأجرهم المفروض ليس فيه الغناء. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي ولو شاء الله أن يكلفكم ما لا تطيقونه من القيام بشئون اليتامى وحفظ أموالهم دون أن يأذن لكم في مخالطتهم لفعل، لكنه لواسع رحمته لا يكلف النفس إلا ما تطيق كما قال: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» ومن ثم أباح لكم مخالطتهم ومعاملتهم معاملة الإخوة، وعفا عما جرى العرف به من

المسامحة فيه، إذ ذلك لا يستغنى عنه الخلطاء، ووكل أمر ذلك إلى ضمائركم، مع مراقبة من لا تخفى عليه خافية، العليم بالسر والنجوى. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي لو شاء إعناتكم لعزّ على غيره أن يمنعه، ولكن جرت سنته أن يجعل شرائعه جامعة لمصالح عباده، جارية على ما توحى به الفطرة المعتدلة التي فطرهم عليها. والحكمة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر- أن السؤالين الأولين بينا حال طائفتين من الناس في بذلهم وإنفاقهم للمال فناسب أن يذكر بعدها السؤال عن طائفة هى أحق الناس بالإنفاق عليها، وبذل المال فى تربيتها وإصلاح شئونها، وهى جماعة اليتامى، كأنه تعالى يذكرنا بأنه حين مخالطتهم وإصلاح أمورهم يجب أن تكون النفقة من أموالنا، وأنهم من الأصناف التي تستحق أن ينفق عليها من العفو الزائد على حاجتنا، ولا ينبغي أن نعكس ذلك ونطمع فى فضول أموالهم. ومما تقدم تعلم، كيف كانت عناية المؤمنين بأحكام دينهم وحفظ حدوده، وكيف شدد سبحانه في الأمر بشأن اليتامى، فلم يأذن في القيام عليهم إلا بقصد الإصلاح ولا بمخالطتهم إلا مخالطة الإخوة، مع توجيه القلوب إلى مراقبته، والتذكير بإحاطة علمه، ومع كل هذا لا نرى من الأوصياء على اليتامى إلا الفساد والإفساد، دون مراقبة لله في أعمالهم، ومراجعة نفوسهم في أفعالهم، غير ناظرين إلى الوعيد الشديد الذي تقشعر من هوله الصمّ الجلاميد.

[سورة البقرة (2) : آية 221]

[سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) المعنى الجملي روى الواحدي عن ابن عباس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من قبيلة غنىّ يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان حليفا لبنى هاشم، إلى مكة ليخرج جماعة من المسلمين أسارى بها. فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته وقالت ويحك يا مرثد ألا تخلو، فقال لها؟ إن الإسلام قد حال بينى وبينك وحرّمه علينا، ولكن إن شئت تزوجتك، فقالت نعم، فقال: إذا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنته في ذلك، ثم تزوجتك، فقالت له: وأبي، تتبرّم، ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقى بسببها، فقال يا رسول الله: أيحل لى أن أتزوجها؟ فنزلت الآية. الإيضاح (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) أي ولا تتزوجوا المشركات اللاتي لا كتاب لهن حتى يؤمنّ بالله ويصدقن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء لفظ المشرك في القرآن بهذا المعنى في نحو قوله: «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ» وفي قوله: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ» . والخلاصة- لا تتزوجوا المشركات ما دمن على شركهن. (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أي ولأمة مؤمنة على ما بها من

خساسة الرق وقلة الخطر، خير من مشركة حرة على مالها من شرف الحرية ونباهة القدر ولو أعجبتكم بحمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها. إذ بالإيمان يكون كمال دينها، وبالمال والجاه يكون كمال دنياها، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يستطع الجمع بينهما- إلى أنه ربما حصلت المحبة والتآلف عند اتحادهما دينا فتكمل المنافع الدنيوية أيضا من حسن العشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والقيام على الأولاد بتنشئتهم تنشئة قويمة، وتهذيب أخلاقهم حتى يكونوا قدوة لسواهم. أخرج ابن ماجه عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنكحوا النساء لحسنهنّ، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، وانكحوهن على الدّين، فلأمة سوداء ذات دين أفضل» وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك» أي افتقرت، وظاهر هذا الأسلوب الدعاء عليه، والمراد الدّعاء له، وهو كثير الاستعمال في كلام العرب. (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) أي لا تزوجوهم المؤمنات إلا إذا آمنوا وتركوا ما هم عليه من الكفر، وحينئذ يصيرون أكفاء لهن. (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) أي ولمملوك مؤمن مع ما به من الذلة والمهانة خير من مشرك عزيز الجانب مهيب في أعين الناس. وقصارى ما تقدم- إنه لا يجوز لنا أن نتصل بالمشركين برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوّج منهم، إذ المرأة موضع ثقة الرجل، يأمنها على نفسه وولده ومتاعه، وما كان الجمال وحده ليحقق في المرأة هذا الوصف، فالمشركة لا دين لها يحرّم عليها الخيانة ويأمرها بالخير وينهاها عن الشر، فقد تخون زوجها وتفسد عقيدة ولدها.

أما الكتابيات كالنصرانيات واليهوديات، فقد جاء في القرآن في سورة المائدة النصّ على حلّهن فقال: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» والحكمة في هذا التألف لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا، وسهولة شريعتنا، فالرجل هو القوّام على المرأة وصاحب الولاية والسلطة عليها، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن هذا الدين يدعو إلى الإنصاف في المعاملة وسعة الصدر بين المختلفين في الدين. وأما زواج الكتابىّ بالمسلمة فحرام بنص السنة وإجماع المسلمين على ذلك، والسرّ فى هذا أن المرأة كما علمت ليس لها من الحقوق مثل ما للرجل، فلا تظهر الفائدة التي تقدمت، إلى أنه بما له عليها من السلطان يخشى أن يزيغها عن عقيدتها ويفسد منها دون أن تصلح منه. وقد بين علة النهى عن مناكحة المشركين والمشركات بقوله: (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إن هؤلاء المشركين والمشركات من دأبهم أن يدعوا إلى كل ما يكون سببا في دخول النار من الأقوال والأفعال- وصلة الزوجية من أقوى العوامل في تأثير هذه الدعوة في النفوس، إذ من شأنها أن يتسامح معها في أمور كثيرة، فربما سري شىء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب من الشبه والتضليل، فالمشركون عبدوا غير الله لكنهم لم يسموا عملهم عبادة، بل أطلقوا عليه الاستشفاع والتوسل، واتخذوا غير الله ربّا وإلها وسمّوه وسيلة وشفيعا، ظنا منهم أن تسمية الشيء بغير اسمه يخرجه عن حقيقته كما قال تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» . وإذا كانت مساكنة المشركين مع الكراهة والنفور قد أفسدت الأديان، فكيف بهم إذا اتّخذوا أزواجا، ألا يكون في ذلك الدعوة إلى النار، والسبب في الشقاء والدمار؟ (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) أي إن دعوة الله التي عليها المؤمنون هى التي

توصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه وتوفيقه، فهي بالضد من دعوة المشركين التي توصل إلى النار، لسوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم، وما عليه المؤمنون هو الذي هدت إليه الفطرة، وبلّغه عنه رسله بإذنه، وأرشدوا إليه خلقه. اعتبر بهذا وانظر إلى ما فتن به كثير من الشبان المصريين من التزوّج بالأفرنجيات والغرام بعشرتهنّ تاركين بنات وطنهم من المسلمات المؤمنات العفيفات، فأفسدن عليهم دينهم ووطنيتهم وقطعن صلة الأرحام ما بين الأزواج وأسرهم، وصارت المعيشة الزوجية فى كثير من الأحيان جحيما وغصة وعذابا أليما، حتى اضطر بعضهم إلى الطلاق بعد أن أنفق كثيرا من ثروته وماله، ومن استمر عليها أغضى العين على القذى وباع العرض رخيصا، وفقد الغيرة والنّخوة التي هى أفضل شمائل الرجل، وبها يكون التفاضل بين الرجال، وقلما اهتدت امرأة بزواجها بمسلم فأسلمت، بل لقد عظم الخطب وعمّ البلاء، فسرت العدوى إلى المسلمات المتعلمات الغنيات، فتزوّجن بمن أحببن من رجال الفرنجة بلا مبالاة ولا خشية من دين، ولا خوف من حكومة، ولا وازع من أسرة، وكل هذا من ضعف الوازع الديني، وترك الفضائل الإسلامية التي ينبغى أن تغرس في نفوس النشء إبّان الصبا. ثم امتنّ عز اسمه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال: (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ويوضح الأدلة على أحكام شريعته للناس، فلا يذكر لهم حكما إلا إذا بيّن لهم حكمته وأرشدهم إلى فائدته، والسرّ فى تشريعه لعلهم بهذا يعتبرون، فإن الأحكام إذا ذكرت بعللها وأدلتها طبعت فى النفوس وتقبلتها على الوجه المرضى، ولم تكن صورا ورسوما تؤدى دون أن تحصل الغاية منها، وهى الإخبات إلى الله، وتهذيب الأرواح وتنقيتها من أدران الذنوب وأكدار المعاصي.

[سورة البقرة (2) : الآيات 222 إلى 223]

[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) تفسير المفردات الحيض: لغة السيلان، يقال حاض السيل وفاض، وشرعا: دم ذو أوصاف خاصة يخرج من الرحم في مدة مخصوصة استعدادا للحمل حين المعاشرة الزوجية إبقاء للنوع البشرى، والأذى: الضرر، واعتزال النساء زمن المحيض ترك غشيانهن في هذه المدة، والطهر: انقطاع دم الحيض، والتطهر: هو الاغتسال بالماء إن وجد ولم يمنع منه مانع، أو التيمم خلفا عنه عند الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن طهرت لأقل من عشرة أيام فلا تحل له إلا إذا اغتسلت أو مضى وقت صلاة والدم منقطع، وإن طهرت لأكثر مدته، وهى العشرة حلت له ولو لم تغتسل، والحرث: موضع النبت أي الأرض التي تستنبت، شبهت بها النساء لأنها منبت للولد كالأرض للنبات، أنّى شئتم: أي كيف شئتم من قيام وقعود واضطجاع، وإقبال وإدبار متى كان المأتى واحدا وهو موضع الحرث. المعنى الجملي هذا السؤال ثالث الأسئلة التي جاءت معطوفة بالواو لاتصالها بما قبلها وما بعدها، إذ كلها في التشريع المختص بالنساء، أما الأسئلة التي وردت قبلها مفصولة فهى مختلفة الموضوعات، فجاءت مفصولة على طريق التعداد والسرد. كل هذه الأسئلة جاءت والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة والاختلاط على أتمه بين العرب واليهود، وقد كان اليهود يشددون في مسائل الحيض كما جاء في الفصل الخامس عشر من التوراة، وفيه: أن كل من مسّ الحائض في أيام طمثها يكون نجسا،

الإيضاح

وكل من مس فراشها يغسل ثيابه بماء ويستحم ويكون نجسا إلى المساء، وكل من مسّ متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا- إلى نحو ذلك من الأحكام وللرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام. وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحيّض، ولا يؤاكلونهنّ كما كانت تفعل اليهود والمجوس. وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض، وكانوا مخالطين للعرب في كثير من المواطن، وقد جرت العادة أن الناس لا يتأثمون في أمور الدين إذا كانت تتعلق بلذاتهم وشهواتهم، وفيها منفعة لهم، وقلما يقفون عند حدود الشرائع، فكان هذا الاختلاف الذي يرونه بين أهل الأديان مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة الإيضاح (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أي ويسألونك عن حكم مخالطة النساء زمن الحيض. (قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي أجبهم وقل لهم: هو ضرر وأذى، فاتركوا غشيانهنّ في هذه المدة، والسرّ في هذا التأكيد كبح جماح الرغبة في ملابسة النساء ولو وصلت إلى حد الإيذاء، وقد كان بعض الناس يظن أن الاعتزال ترك القرب الحقيقي، لكن السنة بينت أن المحرّم إنما هو الوقاع فحسب، فعن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها فى البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شىء إلا الجماع» رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.

وعن حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحلّ لى من امرأتي وهى حائض؟ قال: «لك ما فوق الإزار» أي ما فوق السرّة، رواه أبو داود. وقد جاءت الآية ببيان سبب المنع أوّلا، ثم رتبت عليه الحكم وهو المنع، ليؤخذ بالتسليم والقبول، وليعلم أن الأحكام لم تشرع إلا للمصلحة لا للتعبد كما يرى اليهود. والخلاصة- إنه يجب ترك غشيان النساء مدة الحيض، لأنه سبب للأذى والضرر، وقد أثبت ذلك الطب الحديث، فقالوا: إن الوقاع في زمن الحيض يحدث الأضرار الآتية: (1) آلام أعضاء التناسل في الأنثى، وربما أحدث التهابات في الرحم فى المبيضين أو في الحوض تضرّ صحتها ضررا بليغا، وربما أدى ذلك إلى تلف المبيضين وأحدث العقم. (2) أن دخول مواد الحيض في عضو التناسل عند الرجل، قد تحدث التهابا صديديا يشبه السيلان، وربما امتدّ ذلك إلى الخصتين فآذاهما، ونشأ من ذلك عقم الرجل، وقد يصاب الرجل (بالزهرى) إذا كانت جراثيمه في دم المرأة. وعلى الجملة فقربانها في هذه المدة قد يحدث العقم في الذكر أو في الأنثى، ويؤدى إلى التهاب أعضاء التناسل فتضعف صحتها، وكفى بهذا ضررا، ومن ثمّ أجمع الأطباء المحدثون في بقاع المعمورة على وجوب الابتعاد عن المرأة في هذه المدة كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم خبير. (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أي فإذا اغتسلن من دم الحيض فأتوهن من المأتي الذي جبلت النفوس على الميل إليه، ومضت سنة الله بحفظ النوع به، وهو موضع النسل. وفي هذا إيماء إلى أن الشريعة طلبت التزوج وحرّمت الرهبانية، فليس لمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرّب إلى الله تعالى، لأنه سبحانه قد امتنّ علينا بالزواج

بقوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» وطلب إلينا أن ندعوه بالتوفيق للسرور بالزوجة الصالحة والولد البارّ فقال: «رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ» . فالزواج الشرعي وقربان المرأة ابتغاء النسل من أعظم القرب، وتركه مع القدرة عليه وعدم المانع مخالف لناموس الفطرة وسنته تعالى في شريعته. وحين قال عليه الصلاة والسلام: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا يا رسول الله: يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر» ؟ وقصاري ذلك- إن الإسلام لم يجعل العبادة في تعذيب النفس ومخالفة سنة الفطرة بترك ما أحلّ الله من لذات الدنيا، توهما بأن ذلك مما يرضى الخالق جلّ وعلا. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) أي إن الله يحب الذين يرجعون إليه تائبين غير مصرّين على سيئ أفعالهم، بتغليب سلطان الشهوة على سنة الفطرة حين أتوا نساءهم في المحيض أو في غير المأتي الذي أمر الله به. (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي وإنه تعالى يحب كل من نزّه نفسه عن الأقذار، وابتعد عن ارتكاب المنكرات، وهؤلاء أحبّ إلى الله ممن فرطت منهم الزلة ووقعوا في الدنس ثم تابوا (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي لا حرج عليكم في إتيان نسائكم بأى كيفية شئتم ما دمتم تقصدون الاستيلاد في الموضع الطبيعي، فالشارع لا يقصد إلى إعناتكم وحظر اللذة عليكم، بل يريد لكم الخير والمنفعة، ولا يريد المفسدة بوضع الأشياء فى غير مواضعها. وقد جاءت هذه الآية عقب سابقتها، كالبيان لها شارحة وجه الحكمة التي لأجلها شرع غشيان النساء، وهو حفظ بقاء النوع البشرى بالاستيلاد، كما يحفظ النبات بالزرع والحرث، لا لذة المباشرة لذاتها، ومن ثمّ لا يحل لكم أن تأتوا النساء في زمن الحيض

حيث لا استعداد لقبول الزرع، ولا في غير المأتى الذي يتحقق به الاستيلاد (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) ما يقدّم للنفس هو ما ينفعها في مستأنف حياتها، ولا شىء أنفع للإنسان في مستقبله من ولد بارّ ينفعه في دينه ودنياه كما جاء في الحديث «إن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه بعد موته» ولا يكون الولد كذلك إلا إذا أحسن والداه تربيته وهذباه وجعلاه ذا خلق عظيم. وهذا يدعو إلى اختيار المرأة الودود الولود، التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها، وتكون قدوة حسنة له، إذ ينشأ وهو يرى فضائلها وجلائل أعمالها فتنطبع صورتها في نفسه، فيشبّ وهو كامل الأخلاق حميد الصفات، كما يختار الزارع الأرض الصالحة التي تؤتي جيد الغلة. وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي واحذروه بأن تخرجوا النساء عن كونهنّ حرثا بإضاعة مادة النسل في الحيض، أو بوضعها في غير موضع الحرث، أو بأن تختاروا المرأة السيئة الأخلاق التي تفسد تربية الأولاد بإهمالها، وسوء القدوة في معاشرتها. ثم أوعد من يخالفون أمره فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي واعلموا أنكم ستلاقون ربكم في الآخرة، فيجازيكم على عصيانه ومخالفة أمره، وتتجرّعون من جراء ذلك العذاب الأليم. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر المؤمنين الذين يقفون عند حدود دينهم، ويتبعون هدى ربهم في أمر النساء والأولاد، فيسعدون بنعيم الدنيا والآخرة فمن يختر لنفسه الزوجة الصالحة، ويحسن تربية ما رزقه الله من الأولاد، يكن قرير العين سعيدا بما يرى من حسن حاله وحال أهله وولده. أما من تطغى عليه شهواته، فيخرج عن السنن التي شرعها الله لعباده، فإنه لا يسلم من المنغصات في هذه الحياة، وهو في الآخرة أتعس حالا وأضلّ سبيلا. فالسعادة كل السعادة في تكميل النفس بصادق الإيمان وفاضل الأخلاق، واطمئنان

[سورة البقرة (2) : الآيات 224 إلى 227]

القلب عند الفرح والحزن، ولدى السرور والهم، وتسليم الأمر إلى خالق الخلق ومدبر أمرهم بعد أخذ الأهبة، وكمال العدّة، وهذا هو التوكل الذي أمرنا به. [سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 227] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) تفسير المفردات العرضة كالغرفة: المانع المعترض دون الشيء، والمراد من الأيمان الأمور المحلوف عليها، كما جاء في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه» واللغو: ما يقع في حشو الكلام من الأيمان من غير قصد ولا رويّة كقول الإنسان: إي والله، ولا والله، فهذا ونحوه يسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد به عقد اليمين، فلا يؤاخذ الله به بفرض كفارة ولا بعقاب، حتى لا يكون في ذلك حرج على المؤمنين. والإيلاء: لغة الحلف، وشرعا حلف الرجل ألا يقرب امرأته إما لمدة معينة أو غير معينة كأن يقول: والله لا أقربك أربعة أشهر، أو لا أقربك، والتربص: الانتظار، وفاءوا: أي رجعوا إلى نسائهم، وعزموا الطلاق: أي صمّموا في قصده، وعزموا ألا يعودوا إلى ملامسة نسائهم. المعنى الجملي بعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره- ذكر هنا أن مما يتّقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعا من البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس.

الإيضاح

وقد روى ابن جرير أن سبب نزول الآية أن أبا بكر حلف ألا ينفق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك بافترائه على عائشة، وقد كان من ذوى قرابته، وفيه نزل: «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى» الآية. كذلك بين أنه لا يؤاخذ باليمين اللغو فلا يعاقب عليها ولا يفرض فيها كفارة، كما أرشد إلى أن من آلى من امرأته ينتظر عليه مدة أربعة أشهر، وبعدها إما أن يرجع إليها ويحنث في اليمين، وإما أن يطلق. الإيضاح (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) أي ولا تجعلوا الحلف بالله مانعا لما حلفتم على تركه من عمل البر، فتتركوه تعظيما لاسمه، فالله لا يرضى أن يكون اسمه حجابا دون الخير، فكثيرا ما يسرع الإنسان إلى الحلف بألا يفعل كذا ويكون خيرا، أو أن يفعل كذا ويكون شرا، فنهانا الله عن ذلك وأمرنا بتحرى وجوه الخير، فإذا حلفنا على تركها فلنفعلها ولنكفر عن اليمين بما سيأتى في سورة المائدة. (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما تلفظون به، عليم بنواياكم، فعليكم أن تراقبوه فى السر والعلن، وتراقبوا حدود شرائعه لتكونوا من المفلحين. ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد والتهديد. (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أي لا يؤاخذكم بما يقع منكم من الأيمان في حشو الكلام دون أن تقصدوا به عقد اليمين، فلا يفرض عليكم فيه كفارة ولا يعاقبكم به. (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي ولكن يؤاخذكم بالكفارة أو العقوبة بما نوت قلوبكم وقصدته من اليمين، حتى لا تجعلوا اسمه الكريم عرضة للابتذال، أو مانعا من صالح الأعمال. (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فيغفر لعباده ما ألموا به من الذنوب، ولا يتعجلهم بالعقوبة، ولم يكلفهم ما يشق عليهم مما لم تقصده قلوبهم، ولا يدخل تحت سلطان الاختيار.

وبعد بيان أحكام اليمين العامة انتقل إلى حكم يمين خاصة هى يمين الإيلاء فقال: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أي للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم أن ينتظروا مدة أربعة أشهر دون أن يطالبوا بالرجوع إلى نسائهم أو بالطلاق. والحلف على هذا الوجه حلف بما لا يرضى الله تعالى، لما فيه من ترك التوادّ والتراحم بين الزوجين، ولما يترتب عليه من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما، ولما فيه من امتهان المرأة وهضم حقوقها. وقد كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها أبدا، ويتركها لا هى أيّم ولا هى ذات بعل، وكان المسلمون في ابتداء الإسلام يفعلون مثل هذا، فأزال الله ذلك الضرر عنهنّ، وضرب للزوج مدة يتروّى فيها، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارّة فعله، وإن رأى المصلحة فى المفارقة فارقها. (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن رجعوا إلى نسائهم وحنثوا في اليمين وقاربوهنّ في أثناء هذه المدة أو في آخرها، فإن الله يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة، لأن الفيئة توبة في حقهم، فيغفر لهم إثم حنثهم عند التكفير. (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي وإن عزموا ألا يعودوا إلى ملامسة المرأة، وثبتوا على ترك القربان حتى مضت المدة، فإن الله سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنياتهم، فليراقبوه فيما يفعلون، فإن كانوا يريدون بذلك إيذاء النساء ومضارتهنّ فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعى بأن كان الباعث على الإيلاء تربيتهنّ لإقامة حدود الله، وعلى الطلاق اليأس من إمكان العشرة، فالله يغفر لهم. وخلاصة ذلك- إن من حلف على ترك غشيان امرأته، لا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر، فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم، وإن أتمها تعين عليه أحد أمرين: الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق، وعليه أن

[سورة البقرة (2) : آية 228]

يراقب الله فيما يختاره منهما، فإن لم يطلق بالقول كان مطلقا بالفعل: أي إنها تطلق منه بعد انتهاء تلك المدة رغم أنفه. وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق، إذ جعل جزاء الفيئة المغفرة والرحمة، وذكّر المولى بسمعه لما يقول، وعلمه بما يسرّه في نفسه ويقصده من عمله. هذا حكم الإيلاء إذا أطلقه الزوج ولم يذكر زمنا أو ذكر أكثر من أربعة أشهر، فإن ذكر مدة دون أربعة أشهر، فلا يلزمه شىء إذا أتمها. [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) تفسير المفردات يراد بالمطلقات هنا الأزواج اللاتي يعهد في مثلهنّ أن يطلقن، وأن يتزوجن بعد ذلك، وهنّ الحرائر ذوات الحيض بقرينة ما قبلها وما بعدها من ذكر التربص بالزواج، ولأنهنّ المستعدات للحمل والنسل الذي هو المقصد من الزواج. أما من لسن كذلك كاليائسات، فليس من شأنهنّ أن يطلقن، إذ من أمضى مدة الزوجية مع امرأة حتى يئست من المحيض، فأدب الشرع وداعي الفطرة يحتمان عليه أن برعى عهدها ويحفظ ودعا- إلى أنّ مثل هذه لو طلقت فقلما تتزوج بعد، والتي لم تبلغ الحلم لا تكاد تتزوّج، ومن عقد على مثلها كانت رغبته فيها عظيمة، فيندر أن يتحوّل عنها فيطلقها.

المعنى الجملي

والتربص: الانتظار، والقروء: واحدها قرء (بضم القاف وفتحها) يطلق تارة على حيض المرأة وأخرى على طهرها، ومن ثم قال الحنفية والحنابلة المراد به الحيض، وقال المالكية. والشافعية المراد به الطهر، وما في أرحامهنّ يشمل الولد والحيض والبعولة واحدهم بعل وهو الزوج، والمراد بالدرجة هنا ما جاء في قوله: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ» . المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة أن المولى إما أن يفىء ويرجع إلى معاشرة زوجه، وإما أن يعقد العزم على الطلاق بترك القربان- ناسب أن يذكر بعدئذ شيئا من أحكام الطلاق ليكون كالتتمة لما سبق. الإيضاح (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي وحرائر النساء اللاتي يطلقن وهنّ من ذوات الحيض، فلسن يائسات انقطع عنهنّ الحيض، ولا صغيرات لم يصلن إلى سن الحيض- ينتظرن ثلاث حيض بعد الطلاق حتى يتزوّجن، ليظهر أنهنّ غير حوامل. وفي قوله بأنفسهنّ إشارة إلى أنه يجب عليهنّ أن يملكن رغبتهنّ في الزواج. ويكبتن جماح شهواتهنّ إلى إتمام تلك المدة وإلى أن هذه الرغبة مما تنطوى عليها نفوس النساء، وإلى أنهنّ يستطعن امتلاكها والتربص اختيارا. إلى ما في هذا من التعظيم والتبجيل لهنّ إذ لم يؤمرن بذلك أمرا صريحا. ثم بين سبحانه حكمة هذا التربص بالزواج ضمن حكم آخر فقال: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) أي ولا يحل للنساء أن يكتمن ما خلق الله في الأرحام من ولد إذا علمن به، أو حيض ليطلن عدتهنّ، وقد فشا ذلك الآن في المطلقات اللاتي لا يجدن الأزواج، لأن القضاة يفرضون لهنّ النفقة ما دمن في العدة، فهنّ يكتمن الحيض جهد المستطاع استدامة لهذه النفقة،

وقد جرت المحاكم الآن على أن تكون أقصى العدة سنة قمرية كما هو رأى للإمام مالك رضى الله عنه. وكانت المرأة في الجاهلية تتزوج أحيانا بعد فراق رجل ثم يظهر أنها حبلى من الأول، فتلحق الولد بالثاني، فلما جاء الإسلام حرّم هذا لما فيه من ضروب الغش والبهتان بنفي الولد عن قوم هو منهم وإلحاقه بمن ليس منهم، وأمر أن تعتد بعد فراق زوجها لتظهر براءة الرحم من الحمل. (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إذا كن صادقات في الإيمان بالله الذي أنزل الحرام والحلال لمصلحة عباده، وباليوم الآخر الذي يجازى فيه كل عامل على ما عمل، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ، إذ التصديق بأن في اتباع هذا المثوبة والرضوان، وفي تركه الشقاء والخسران، يقتضى الامتثال مع التعظيم والإجلال، ولا يخفى ما في هذا من التهديد الشديد والوعيد. (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) أي إن بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى العصمة الأولى في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة، أما إذا قصد من المراجعة مضارتها ومنعها من التزوج حتى تكون كالمعلقة، فلا هو يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى، ولا يمكّنها من التزوج بغيره، فهو آثم بينه وبين ربه بهذه المراجعة. والخلاصة- إنه لا يباح للرجل أن يردّ مطلقته إلى عصمته إلا إذا أراد إصلاح ذات البين، ونية المعاشرة بالمعروف وإنما كان أحق بردها، لأنه بعد الطلاق قلّما يرغب فيها الرجال، ولأنه قد يندم على طلاقها، ويرغب في مراجعتها، ولا سيما إذا أنجبا أولادا فتتغلب عاطفة تربيتهم وكفالتهم بين الزوجين على عاطفة الغضب العارضة، وهذا الطلاق الذي يملك فيه الرجل حق المراجعة ما دامت المرأة في العدة يسمى طلاقا رجعيا، ولا يحتاج فيه الرجل إلى رأي

المرأة وإذنها- وسيأتى ذكر الطلاق البائن الذي لا تحل مراجعة المطلقة بعده إلا بعقد جديد برضا الزوجة أو الزواج بغيره. ولما كانت إرادة الإصلاح بردّ المرأة إلى العصمة، إنما تؤتى ثمرها إذا قام كل منهما بالحقوق التي ينبغي عليه أن يؤديها، ذكر ذلك سبحانه بعبارة هى على إيجازها تعتبر دستورا في معاملة كل من الزوجين للآخر- وهو مساواة الرجل للمرأة في سائر الحقوق إلا أمرا واحدا فقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي إن للرجل حقوقا وعليه واجبات يؤديها للمرأة، وللمرأة مثل ذلك. بيان هذا أن الحقوق والواجبات التي على كل منهما للآخر موكولة إلى اصطلاح الناس في معاملاتهم وما يجرى عليه العرف بينهم، وتابعة لشرائعهم وآدابهم وعاداتهم، فإذا طلب الرجل منها شيئا تذكر أنه يجب عليه شىء آخر بإزائه، ومن ثم أثر عن ابن عباس أنه قال: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لى لهذه الآية. والمراد بالمماثلة أن الحقوق بينهما متبادلة متكافئة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متساويان في الشعور والإحساس والعقل، فليس من العدل ولا من المصلحة أن يتحكم أحد الجنسين في الآخر ويستذله، لأن الحياة المشتركة بينهما لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه. وهذه الحقوق أجملها النبي صلى الله عليه وسلم فيما قضى به بين بنته وصهره، فقضى على ابنته بخدمة البيت، وعلى علىّ بما كان في خارجه من الأعمال. وهذا ما تحكم به الفطرة في توزيع الأعمال بين الزوجين، فعلى المرأة تدبير شئون المنزل والقيام بحوائج المعيشة، وعلى الرجل السعى والكسب في خارجه، وهذا لا يمنع من استعانة كل منهما بالخدم والأجراء حين الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه، كما لا يمنع من مساعدة كل منهما للآخر في عمله حين الضرورة، يرشد إلى ذلك

قوله تعالى: «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ» . والخلاصة- إن الإسلام رفع النساء إلى درجة لم يرفعهنّ إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع الماضية، بل لم تصل إليها أمة من الأمم التي بلغت شأوا بعيدا فى الحضارة والمدنية، فهى وإن بالغت في تكريم النساء واحترامهنّ وتعليمهنّ العلوم والفنون، لا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من التصرف في مالها بدون إذن زوجها. وقد أعطى الإسلام هذه الحقوق للمرأة منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، وكانت فى أوربا من نحو مائة سنة تعامل معاملة الرقيق كما كانت في الجاهلية، أو أسوأ منها حالا. ومن العجب العاجب أن الفرنجة الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن المرأة، يفخرون علينا ويرموننا بالوحشية في معاملتها مدّعين أن ذلك هو أثر التعاليم الدينية، ولكن لهم بعض العذر في ذلك بما يرون عليه المسلمين في معاملتهم للنساء بحكم العادة والجهل بفقه الشريعة وعدم النظر إلى ما كان عليه الصدر الأول من المسلمين في معاملتهن. وأما الدرجة التي للرجال عليهن فهي الرياسة، والقيام على المصالح كما فسرتها الآية: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» . فالحياة الزوجية حياة اجتماعية تقتضى وجود رئيس يرجع إليه حين اختلاف الآراء والرغبات، حتى لا يعمل كل ضدّ الآخر، فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختلّ النظام، والرجل هو الأحق بهذه الرياسة، لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوّته وماله، ومن ثم كان هو المطالب بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هى المطالبة بطاعته فيما لا يحرّم حلالا، ولا يحلل حراما، فإن نشزت عن طاعته كان له حق تأديبها

بالوعظ والهجر في المضاجع، والضرب غير المبرّح، كما يجوز مثله لقائد الجيش وللسلطان لمصلحة الجماعة. أما الاعتداء عليها للتشفى من الغيظ أو لمجرد التحكم فهو ظلم لا يقره الدين بحال كما ورد فى الحديث عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهى مسئولة عن رعيتها» . ولا شكّ أن من موجبات هذه الرياسة التي للرجال أن يعلموهنّ ما يمكنهن من القيام بما يجب عليهن من الواجبات، ومعرفة ما لهن من الحقوق، ويعلموهن عقائد الدين وآدابه، وما يجب عليهن لتربية أولادهن، ومعاملتهن للناس. ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فتمريض المرضى ومداواة الجرحى كان فيما مضى أمرا سهلا، لكنه الآن يحتاج إلى تعلم علوم وفنون متعددة وتربية خاصة فتحت لأجلها مدارس تعدّ لها. وأي الأمرين أفضل في نظر الدين والعقل، أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرّضة أجنبية تطّلع على ما لا يحل لها أن تنظر إليه إلا للضرورة، وتنكشف على مخبآت بيته؟ وهل تستطيع أن تفعل ذلك إذا كانت جاهلة بالقوانين الصحية غير عارفة بأسماء الأدوية؟ وهل يمكن الأم الجاهلة أن تعلم أولادها شيئا نافعا لهم قبل ذهابهم إلى المدرسة؟ أو هى تحشو أدمغتهم بخرافات وأوهام تسىء إليهم في مستأنف حياتهم عند ما يصيرون رجالا في المجتمع، ولله درّ حافظ إبراهيم حين يقول: الأمّ مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب الأعراق (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فمن عزته وحكمته أن أعطى المرأة من الحقوق مثل ما أعطى الرجل بعد أن كانت كالمتاع لدى جميع الأمم، وفي اعتبار كل الشرائع، وأن أعطى الرجل حق الرياسة عليها، ومن لم يرض بهذا يكن منازعا لله في عزّته وسلطانه،

[سورة البقرة (2) : آية 229]

ومنكرا لحكمته في أحكامه. ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لمن خالف ما فرض الله وقدره من الأحكام. [سورة البقرة (2) : آية 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) تفسير المفردات الطلاق اسم بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، ومرتان: أي دفعتان، والإمساك بالمعروف أن يراجعها لا على قصد المضارة، بل على قصد الإصلاح وحسن المعاشرة، والتسريح بإحسان أن يوقع الطلقة الثالثة ويؤدى لها حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة، والجناح: الإثم، والاعتداء تجاوز الحد في قول أو فعل، والظلم: وضع الشيء فى غير موضعه. المعنى الجملي كان للعرب في جاهليتهم طلاق وعدة للمرأة ومراجعة في العدة، لكن لم يكن للطلاق حدّ ولا عدد، فإن كان الطلاق لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع زوجه واستقامت بينهما العشرة، وإن كان لمضارة الزوجة راجعها قبل انقضاء العدة، واستأنف طلاقا جديدا، وهكذا يفعل المرة تلو المرة أو يفىء وتسكن ثورة غضبه، فكانت المرأة ألعوبة فى يد الرجل يضارها بالطلاق أنّى شاء. فلما جاء الإسلام أصلح مما أصلح من شئونهم الاجتماعية أمور الزوجية والطلاق والرجعة. أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت: «كان الرجل يطلق امرأته ما شاء

الإيضاح

أن يطلقها، وهى امرأته إذا ارتجعها في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبينى، ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدّتك أن تنقضى راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فسكت حتى نزلت الآية «الطلاق مرتان» ... الإيضاح (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أي إن التطليق الشرعي الذي حده الله للطلاق ولم يخرج به العصمة من أيدى الرجال هو مرتان: أي طلقتان تحلّ بكل منهما العصمة ثم تبرم، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام كما قال بذلك جمع من الصحابة، منهم عمر وعثمان وعلىّ وعبد الله ابن مسعود وأبو موسى الأشعري، ويؤيده حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا، فتطلّق لكل قرء تطليقة» . فالطلاق الذي يثبت للزوج فيه حق المراجعة هو أن يوجد طلقتان فقط، أما بعد الطلقتين بأن وجدت الثلاث فلا يثبت للزوج حق الرجعة البتة، ولا تحل له المرأة إلا بعد زواج آخر. (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي ليس لكم بعد المرتين إلا أحد الأمرين، الإمساك بالمعروف أو الطلاق بإحسان، ويؤيد هذا حديث أبي رزين الأسدى عند أبي داود وغيره، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم سمعت الله تعالى يقول: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فأين الثالثة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أو تسريح بإحسان. فقوله تعالى بعد هذا «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» بيان لهذا. فإن اختار التسريح فطلقها بانت منه ولا تحل له حتى تتزوّج زوجا غيره. والخلاصة- إن الرجل إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها، يجوز له أن يراجعها من غير رضاها ما دامت في العدة، فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها،

أو طلقها قبل الدخول بها، فلا تحل له إلا بعقد جديد بإذنها، فإن طلقها ثلاثا فلا تحل له ما لم تتزوّج زوجا غيره ويصبها. والحكمة في إثبات حق الرجعة- أن الإنسان لا يحس بخطر النعمة وجليل قدرها إلا إذا فقدها، وربما ظهرت المحبة للمرأة بعد فراقها، أو استبانت له الحاجة إليها وعظمت المشقة عليه في تركها والبعد عنها، ويندم على ما فرط منه في شأنها- وقد تكون المرأة سادرة في كبريائها وخيلائها، ولا تؤدى ما ينبغى للرجل من الحقوق والواجبات، فإذا هى طلقت تذكرت مصار خطئها، وأحست بما كان فيها من عيوب في المعاملات الزوجية والشؤون المنزلية، وتمنت أن لو كانت لها عودة تمكنها من إصلاح ما سلف منها- فإذا أبيح لها العودة إلى الحياة الزوجية كان في هذا فرصة في استدراك ما فات، والعمل على الطريق السوىّ فيما هو آت وقد يحدث أحيانا أن يرجع الرجل سيرته الأولى من المشاكسة والمغاضبة وسوء الخلق، أو يحدث من الزوجة ما يدعو إلى الفراق ثانية فيطلقها حين حدة الغضب مرة أخرى، ثم يرى أنه كان بما عمل في غواية وضلالة، وأنه لا يطيق البقاء بعيدا عنها، إذ أن أولاده لا تستقيم شئونهم إلا بوجودها فأبيح له العودة مرة أخرى، فإذا هو عاد الثالثة استبان أن رباط الزوجية قد وهن، وأن العشرة أصبحت في خطر، وأن بقاءهما زوجين ربما جرّ إلى ما لا تحمد عقباه من الإساءة إليها في نفسها أو في مالها أو في عرضها، فيجدر أن يكون الفراق لا رجعة بعده، مع أدائه ما لها عليه من حقوق مالية، وفاء بحقوق العشرة السالفة التي كانت فيها المودة والرحمة بينهما، حين كان يسكن إليها وتسكن إليه، ومن ثم ينبغى له ألا يذكرها بسوء في نفسها أو في عرضها وعفتها حتى لا ينفر الناس منها إذا هى أرادت أن تتزوج بسواه، وفي هذا منتهى المروءة والوفاء لذلك الرباط الوثيق الذي كان بينهما، وحل الزوج وثاقه بطلاقها. وفي هذا التشريع بذلك التدريج منتهي الرأفة والسجاحة في تلك الشئون الاجتماعية التي يترتب عليها صلاح الأسرة وحسن تهذيب الأولاد، وتثقيف عقولهم والحدب عليهم

بإشراك الوالدين في تقويم المعوجّ وتعهدهما لهم بالرعاية الأبوية التي لن تكون كاملة إلا إذا قام كل من الوالدين بقسط منها. وبعد أن فرض سبحانه الإحسان على من اختار التسريح حرّم على الرجال أخذ شىء من مال المرأة فقال: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أي ولا يحل لكم أن تأخذوا منهنّ بإزاء الطلاق شيئا مما أعطيتموهنّ على سبيل التمليك مهرا كان أو غيره، بل يجب عليكم أن تمتعوهنّ بشىء من المال زائدا على ذلك كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» . وإنما نصّ سبحانه على ذلك وإن كان هذا يفهم من الأمر بالإحسان إليهن حين التسريح، لمزيد العناية بأمر النساء، وللتأكيد في تحذير الرجال الأقوياء من ظلم النساء الضعفاء وهضم حقوقهن كما تومئ إلى ذلك الآية الكريمة: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» وهذا الحكم فيما إذا اختار الزوج الفراق ورغب عنها، فإن كانت هى الطالبة لفراقه وتوسلت إلى ذلك بالنشوز وسوء العشرة لكراهتها إياه أو لسوء خلقها، لا لمضارته إياها فلا جناح عليه فيما يأخذه منها لإطلاق سراحها، إذ لا يكلف خسارة امرأته وماله بغير ذنب جناه، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) ألا يقيما أي ألا يراعيا، وحدود الله هى أحكامه التي شرعها للزوجين من حسن العشرة والمماثلة في الحقوق مع ولاية الرجل عليها، والتعاون على القيام بتدبير المنزل وتربية الأولاد بما يصلح حالهم في دينهم ودنياهم، وعدم المضارة التي أشار إليها بقوله: «وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» . فإن خافا ذلك بأن خافت المرأة أن تعصى الله في أمر زوجها بأن تجحد نعمة العشرة أو تخونه، أو خاف الرجل أن يزيد على ما شرعه الله في مؤاخذة الناشز، فالحكم ما ذكره بقوله:

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الخطاب في مثل هذا للأمة لأنها متكافلة في المصالح العامة، وأولو الأمر هم المطالبون أولا بالقيام بهذه المصالح، والحكام وسائر الناس رقباء عليهم، أي إذا خافا عدم إقامة حدود الله التي سنها للزوجين فلا إثم عليهما فيما تعطيه المرأة للرجل لتفتدى به نفسها وتطلق منه، ولا على الرجل في أخذه لأجل ذلك، لأنه برضاها واختيارها بدون إكراه منه ولا مضارة لها بل هى الحافزة عليه. روى البخاري وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أبيّ ابن سلول زوج ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت ابن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضا وأكره الكفر في الإسلام (تريد كفران نعمة العشير وخيانته) قال: أتردّين عليه حديقته؟ (وكان قد أصدقها إياها) قالت نعم: قال اقبل الحديقة وطلقها تطليقة. وهذا الفراق الذي يبنى على الافتداء يسمى خلعا وعدّته كعدة المطلقة. ثم ختم الآية بوعيد من يخالف هذه الأحكام فقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها) أي هذه الأوامر والنواهي المتقدمة هى الحدود التي حدها الله في المعاملات الزوجية، فلا تتجاوزوا ما أحله لكم إلى ما حرمه عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه. (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وفعل ما لا ينبغى فعله، والظلم مخرّب للعمران، مبيد للأمم، ولا سيما ظلم الأزواج للأزواج، إذ الرابطة التي بينهما أمتن الروابط وأحكمها، فأى رجاء في الأمة إذا انحلت فيها عرا تلك الرابطة، وهى أشد الروابط تماسكا. وإنا لنشاهد الآن ما يدمى له القلب أسى وحسرة من انفصام روابط الزوجية بحال لم تعهد في أي عصر من عصور الإسلام، إذ هتك النساء حجاب الصيانة والحياء، وأسرفن في التبرّج والاختلاط بالرجال، وكثر الطلاق، وقلّ الزواج، وعمت الشكوى

[سورة البقرة (2) : آية 230]

من هذه الفوضى الخلقية، ونبذ آداب الدين والفضيلة، وشعر العقلاء بسوء المغبة بعد أن فاتت الفرصة، وندموا ولات ساعة مندم. وقد جاء في السنة الحث على ترك الطلاق، وحظره في غير ضرورة، فمن ذلك حديث ثوبان عند أحمد والترمذي والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» وقال: «المختلعات هنّ المنافقات» . [سورة البقرة (2) : آية 230] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) الإيضاح (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي فإن طلقها بعد المرتين المذكورتين في قوله: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» وهذه التطليقة هى المعبّر عنها فيما سلف بقوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» فلا يملك مراجعتها بعد ذلك إلا إذا تزوجت بزوج آخر زواجا صحيحا مقصودا مع غشيان الثاني لها كما بينته السنة، فقد روى الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنى كنت عند رفاعة فطلقنى فبتّ طلاقى، فتزوجنى عبد الرّحمن ابن الزّبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك» (يعنى بالعسيلة أقل ما يكون من تغشى الرجل بالمرأة) . والحكمة في اشتراط ذلك أن الرجل متى علم أن المرأة لا تحل له بعد الطلاق ثلاثا

إلا إذا نكحت زوجا غيره، ولعله عدوه- يرتدع ويزدجر، لأن هذا مما تنفر منه الطباع السليمة ويأباه ذوو الغيرة والمروءة. والآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثا ما كان زواجا صحيحا عن رغبة مقصودة لذاتها، فمن تزوج بامرأة بقصد إحلالها للزوج الأول كان زواجه غير صحيح ولا تحل به المرأة للأول إذا هو طلقها، وهو معصية لعن الشارع فاعلها، وبهذا قال مالك وأحمد والثوري- وقال جماعة من الفقهاء: هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط ذلك في العقد. روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له» . وروى عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال: لا، إلا نكاح رغبة لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل ثم تذوق العسيلة. وعن عمر رضى الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك، فقال: كلاهما زان. وسأل رجل ابن عمر فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم؟ فقال ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسئل ابن عباس عمن طلّق امرأته ثلاثا ثم ندم، فقال هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخدع الله يخدعه. ومن هذا ترى أن حكم السنة ورأى كبار الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، لعن المحلل والمحلل له، لكن قد فشت هذه الرذيلة بين الأشرار الذين اتخذوا الطلاق

[سورة البقرة (2) : آية 231]

عادة، وجعلوا دينهم هزوا ولعبا، حتى صار الإسلام يعاب بمثل هذا، وما عيبه إلا بفعلهم. (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أي فإن طلقها الزوج الثاني فلا حرج عليه ولا على المرأة أن يتراجعا، ويكون هو أحق بها من الزوج الأول، ولكن بعد تحقق الشرط الذي بينه الله بقوله: (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) أي إن ترجح لدى كل منهما أن يقوم بحق الآخر على الوجه الذي حده الله من حسن العشرة وسلامة النية، ليصلح حالهما ويستقيم أمرهما. فإن خافا حين المراجعة نشوزا منها أو إضرارا منه، فالرجوع ممقوت عند الله وإن صح عند القاضي. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن هذه الأحكام بينها الله على لسان نبيه في كتابه الكريم لأهل العلم بفائدتها، ومعرفة ما فيها من المصلحة، ليعملوا بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة والمنفعة، لا لمن يجهلون ذلك، فلا يجعلون لحسن النية وإخلاص القلب مدخلا في العمل، فيرجع أحدهم إلى المرأة وهو يضمر لها السوء ويبغى الانتقام منها. [سورة البقرة (2) : آية 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يقال بلغ البلد: إذا وصل إليه، ويقال أيضا بلغه إذا شارفه ودنا منه، يقول الرجل لصاحبه: إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوى، يريد دنوت منها، لأن ذا طوى قبلها، والأجل يطلق على المدة كلها وعلى آخرها، فيقال لعمر الإنسان أجل وللموت الذي ينتهى به أجل، والمراد هنا زمن العدة، والمراد بالإمساك المراجعة، والمعروف ما ألفته العقول واستحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة، والمراد بالتسريح ترك المراجعة حتى تنقضى عدتها والضرار الضرر، والاعتداء الظلم، وآيات الله هى آيات أحكام الطلاق والرجعة والخلع ونحو ذلك، وهزوا أي مهزوءا بها بالإعراض عنها، والتهاون في المحافظة عليها، لقلة الاكتراث بالنساء وعدم المبالاة بهن، ونعمة الله هى الرحمة التي جعلها بين الزوجين، وما أنزل عليكم من الكتاب أي من آيات أحكام الزوجية التي تحفظ لكم الهناء في الدنيا والسعادة في الآخرة، والحكمة هى سرّ تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح. المعنى الجملي بعد أن بيّن فيما سلف كيفية الطلاق المشروع وعدده بقوله: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» وأن الأصل فيه أن يكون بلا عوض بقوله: «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» ، وأن أخذ العوض لا يحل إلا بشرط ذكره بقوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» . ذكر هنا ما يجب في معاملة المطلقات، ونهى عن ضده، وتوعد على فعل ذلك الضد، وأرشد إلى المصلحة والحكمة في الائتمار بذلك الأمر والانتهاء عن ذلك النهى

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي وإذا طلقتم النساء فقار بن إتمام العدة، فاعزموا أحد الأمرين، إما إمساك المرأة بالمراجعة، أو إطلاق سبيلها بالمعروف الذي شرع لكم في الآية: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» . وإنما فسرنا بلوغ الأجل بقرب إتمام العدة، لأن الأجل إذا انقضى حقيقة لم يكن للزوج حق إمساكها بالمعروف، إذ هى غير زوجة له، وفي غير عدة منه. ثم أكد الأمر بالإمساك بالمعروف ووضح معناه بقوله: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) أي ولا تراجعوهن مريدين مضارتهن وإيذاءهن بالحبس وتطويل العدة لتلجئوهن إلى افتداء أنفسهن كما كانوا يتعاطونه في الجاهلية، روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها، ثم يفعل ذلك ليضارّها ويعضلها فأنزل الله هذه الآية. وعن السدى قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، ثم راجعها ثم طلقها مضارة لها فأنزل الله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) . (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي ومن يفعل ذلك الإمساك المؤدى إلى الظلم فقد ظلم نفسه في الدنيا بسلوك طريق الشر وإقلاق راحة الضمير بالاعتداء، وبمناصبة المرأة وأسرتها العداء فيتألبون عليه وينفرون منه حتى يوشك ألا يصاهره أحد، كما ظلم نفسه في الآخرة بمخالفة أمر الله وتعرضه لسخطه. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً) أي ولا تتهاونوا بحدود الله التي شرعها لكم في دينه جريا على سنن الجاهلية، فإن التهاون بعد هذا البيان والتأكيد يعدّ استهزاء بها. وفي هذا وعيد شديد وتهديد لمن يتعدى هذه الحدود، وفيه حث للمسلمين على

احترام صلة الزوجية والبعد عما كانوا يفعلونه في الجاهلية، إذ كانوا يتخذون هذه الصلة لعبا ويعبثون بطلاقهن ويمسكونهن عبثا فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق ثم يقول لعبت ويعتق، ثم يقول لعبت فأنزل الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «ثلاث جدّهن جد وهزلهنّ جدّ: الطلاق والنكاح والرجعة» . (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) أي وتذكّروا ما أنعم به عليكم من الرحمة التي جعلها بين الزوجين، وبها امتنّ علينا في قوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ومن جعل النكاح والطلاق والرجعة بأيدينا، وعدم التضييق في عدد النساء كما ضيق على من سبقنا إذ أحل لهم امرأة واحدة ولم يحلّ لهم بعد موت المرأة زواج أخرى، وبما أنزل به عليكم من آيات أحكام الزوجية التي تجعلكم في هناء في الدنيا وسعادة في الآخرة، ومن الحكمة في سنّ تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح، إذ معرفة التشريع مع حكمته هى التي تحدث العبرة والعظة الباعثة على الامتثال. وقد ذكّرنا سبحانه بنعمته علينا أن ممكننا من إقامة الصلة الزوجية على أتمّ نظام، وأن هدانا بهذا الدين القويم وحدّ لنا الحدود ووضع الأحكام مبينا حكمها وأسرارها، وأيدها بالمواعظ التي تهدى إلى اتباعها. بيد أن الناس قد أعرضوا عن هذه النعم ففسدت بينهم تلك المودة والرحمة، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة غرورهم بالقوة وطغيانهم بالغنى، وكفر النساء نعمة الرجال وتمادين في ذمهم والتبرم بهم، وقلد الناس بعضهم بعضا في ذلك. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) بامتثال أمره ونهيه في أمر النساء وتوثيق الصلة الزوجية، وترك ما ألف الناس من عدم المبالاة بعقد الزوجية الذي كانوا يرونه كعقد الرق والإجارة في المتاع الخسيس، بل كانوا يرونه دون ذلك، إذ كانوا يطلقون المرأة لأتفه سبب، ثم يعودون إليها، يفعلون ذلك المرة بعد المرة للضرار والإهانة.

[سورة البقرة (2) : آية 232]

فاعتياد المعاملة السيئة والأنس بها لا يقاوم إلا بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة فى تأكيده بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. نعم، كان لذلك أحسن الأثر في أولئك الخارجين من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، ثم خلف من بعدهم خلف أعرضوا عن القرآن وجهلوا ما فيه من الحكم والأحكام، حتى صاروا شرا مما كان عليه أهل الجاهلية من ظلم النساء ومعاملتهن بالقسوة دون مراعاة لما أمر به الدين على لسان سيد المرسلين. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شىء مما يسرّه العبد أو يعلنه، وهو لا يرضى إلا التزام حدوده والعمل بأحكامه، مع الإخلاص وحسن النية، حتى يكون الباطن كالظاهر في الخير، ولا يتم ذلك إلا بمراقبة الله في العمل، والإخلاص له فى السر والعلن، والعلم بأنه تعالى المطلع على كل شىء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. [سورة البقرة (2) : آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) تفسير المفردات البلوغ الانتهاء، والأجل هنا آخر المدة المضروبة لانقضاء العدة لا قربها كما في الآية التي قبلها، لأن الإمساك بالمعروف والتسريح لا يتأتي بعد انقضاء العدة إذا انقضاؤها إمضاء للتسريح فلا محل معه للتخيير، والتخيير يستمر إلى قرب الانقضاء والمذكور هنا

الإيضاح

النهى عن العضل وإجازة النكاح، وهذا لا يكون إلا بعد انقضاء العدة، ومن ثم أثر عن الشافعي أنه قال: دل السياق على افتراق البلوغين، والعصل الحبس والتضييق، والعظة النصح والتذكير بالخير على وجه يرقّ له القلب ويبعث على العمل، والزكاء النماء والبركة. الإيضاح (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله. إذا طلقتم النساء وانقضت عدّتهن، وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهن وأردن هنّ ذلك، فلا تمنعوهن من الزواج، إذا رضى كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجا، وكان التراضي في الخطبة بما هو معروف شرعا وعادة، بألا يكون هناك محرّم ولا شىء يخلّ بالمعروف ويلحق العار بالمرأة وأهلها. وفي قوله «بينهم» دليل على أنه لا مانع أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها، ويتفق معها على التزوج بها، ويحرم حينئذ على الولي أن يعضلها ويمنعها من الزواج. كما أن في قوله «بالمعروف» دليلا على أن العضل من غير الكفء غير محرم، كأن تريد الشريفة في قومها أن تتزوج برجل خسيس يلحقها منه عار، ويمسّ كرامة قومها منه أذى، وحينئذ ينبغى أن تصرف عنه بالنصح والعظة. وأجاز بعضهم العضل إذا كان المهر دون مهر المثل، ولكن الذي ينبغى التعويل عليه أنه إذا كان الرجل حسن السيرة يرجى منه صلاح المعيشة الزوجية، ويعسر عليه دفع المهر الكثير والنفقات الأخرى للزواج- لا يجوز العضل بل يجب تزويجه. والمدار في الكفاءة على العرف القومى لا على تقاليد بيوت ذوى الشرف والجاه وكبريائهم، فما يعدّه جمهرة الناس إهانة للمرأة وعارا على أهلها، فهو الذي يبيح

لأوليائها المنع منه إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أشنع منه، كما لا يجوز إكراه المرأة على أن تتزوج بمن لا تحب، إذ قد يجرّ هذا إلى أضرار ومفاسد ربما لا تحمد عقباها. والخطاب هنا للأمة جميعها، لأنها متكافلة في المصالح العامة، ليعلم المسلمون أنه يجب على من علم منهم بوقوع المنكر من أولياء النساء أو غيرهم أن ينهوه عن ذلك حتى يفىء إلى أمر الله وأنهم إذا سكتوا عن المنكر ورضوا به يأثمون، إذ كثيرا ما يرجّحون أهواءهم وشهواتهم على الحق والمصلحة، ثم يقتدى بعضهم ببعض، فيكثر الشر والمنكر فتهلك الأمة كما قال تعالى «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» . وقد كان من عادات الجاهلية أن يتحكم الرجال في تزويج النساء، إذ لم يكن يزوج المرأة إلا وليها، وقد يزوجها بمن تكره، ويمنعها من تحب لمحض الهوي. أخرج البخاري وخلق كثير غيره عن معقل بن يسار قال: كان لى أخت فأتانى ابن عم لى فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له: يا لكع (يا لئيم) أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها فأنزل الآية، قال: ففىّ نزلت فكفرت عن يمينى وأنكحتها إياه. وفي رواية فلما سمع معقل الآية قال: أرغم أنفى، وأزوّج أختى، وأطيع ربي. (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ذلك الذي تقدم من الأحكام المقرونة بالحكم، مع الترغيب والترهيب، يوعظ به أهل الإيمان بالله واليوم الآخر إذ هم الذي يتقبلونه، وتخشع له قلوبهم، ويتحرّون العمل به. طاعة لأمر ربهم، ورجاء لمثوبته عليه في الدارين.

وفي الآية دليل على أن المؤمن حقا لا بد أن يتعظ به، فالذين لا يتعظون به ولا يعملون به فليسوا بمؤمنين، بل هم يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، لأنهم لم يتلّقوا أصول الإيمان بالدليل، فلم يقع من نفوسهم موقع التأثير في مسالك الوجدان، فوعظهم عبث ضائع، إذ هم لا يتبعون إلا أهواءهم، ويقلدون ما وجدوا عليه آباءهم. (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي ذلكم النهى عن ترك العضل على الشرط الذي تقدم، فيه بركة وصلاح لحال متبعيه، وفيه طهر لأعراضهم وأنسابهم، وحفظ لشرفهم وأحسابهم، فكم كان عضل النساء مدعاة للفسوق، مفسدة للأخلاق، وسببا في اختلال نظم البيوت، وشقاء الذرية. انظر إلى ولىّ يمنع من له الولاية عليها من الزواج بمن تحب، ويزوجها بمن تكره، اتباعا لهواه أو لعادات قومه، كما كانت تفعل العرب من قبل، أيرجى لمثل هذه صلاح أو أن تقيم حدود الله، أم يخشى أن يغويها الشيطان بمن تحب، ويمد لها حبل الغواية حتى لا تقف عند حد؟. ولجهل الناس بوجوه المصالح الاجتماعية كانوا لا يرون للنساء شأنا في إصلاح حال البيوت ولا فسادها، حتى جاء الإسلام وعلمهم من ذلك ما هم في أشد الحاجة إليه من حسن معاملة النساء والرفق بهن ومعاملتهن بالحسنى «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» لكنّ المسلمين نسوا أوامر دينهم وساروا سيرة جاهلية مع نسائهم فكان لذلك أسوأ الأثر في فساد الاسر والبيوت جزاء وفاقا لتركهم عظات شريعتهم وتناسيهم أوامر دينهم. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي والله يعلم ما لكم في ذلك من النفع والصلاح، إذ هو العليم بوجوه الفائدة في هذه الأحكام، والسر فيما به أمر، وعنه نهي، وأنتم لا تعلمون ذلك علما صحيحا خاليا من الأهواء والأوهام. فالبشر جميعا لم يهتدوا إلى هذه الأحكام مع اختبارهم وتجاربهم الطويلة، بل عزبت حكمتها عن نفوس الكثيرين منهم، بعد أن نزل بها الوحى، وجاء بها الدين

[سورة البقرة (2) : آية 233]

فلم يعملوا بها، وكان يجب عليهم أن يقيموها على وجهها ملاحظين مالها من فوائد ومنافع أرشد إليها العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) تفسير المفردات الحول والعام يقعان على صيفة وشتوة كاملتين، والسنة تبتدئ من أىّ يوم عددته من العام إلى مثله، والمولود له هو الوالد، والتكليف الإلزام، والوسع ضد الضيق وهو ما تتسع له القدرة ولا يبلغ آخر مداها، والطاقة آخر درجات القدرة، فليس بعدها إلا العجز التام، مأخوذة من آخر طاقة (فتلة) من الطاقات التي يتألف منها الحبل، والمضارة مشاركة كل من الوالدين للآخر في الضرر، فتفيد أن كل إضرار من أحدهما للآخر بسبب الولد إضرار بنفسه، إذ هذا يستلزم ضر الولد وكيف تحسن تربية ولد بين أبوين همّ كل منهما إيذاء الآخر وضرره، والفصال

المعنى الجملي

الفطام لأنه يفصل الولد من أمه، ويفصلها منه فيكون مستقلا في غذائه دونها، والتشاور والمشاورة والمشورة استخراج الرأى من المستشارين، ولا جناح عليهما أي لا حرج، واسترضعت المرأة الطفل أي اتخذتها مرضعا له، ما آتيتم أي ما ضمنتم والتزمتم، بالمعروف أي على الوجه المتعارف المستحسن شرعا وعادة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أحكام الطلاق في الآيات السالفة، وبين حرمة العضل على الأولياء- ذكر هنا أحكام الرضاعة وكيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف، وتربية الأطفال والعناية بشئونهم بطريق التشاور والتراضي بين الوالدين. الإيضاح (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي على جميع الوالدات مطلقات كن أو غير مطلقات أن يرضعن أولادهن مدى حولين كاملين لا زيادة عليهما، وقد تنقص المدة إذا رأى الوالدان أن في ذلك مصلحة، والأمر موكول إلى اجتهادهما. وإنما وجب ذلك على الأم لأن لبنها أفضل لبن باتفاق الأطباء، فالولد قد تكوّن من دمها وهو في أحشائها، فلما برز إلى الوجود تحول الدم إلى لبن يتغذى منه وهو منفصل منها، فهو الذي يلائمه في التغذية وهو سائر معه بحسب سنه، ولا يخشى على الولد منه من علة بدنية أو خلقية تكون فيه، فما أخذه وهو في الرحم فاللبن لا يزيده شيئا، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها ومعرفة أخلاقها وبذل الجهد فى اختيارها، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد، فيكون دما له ينمو به اللحم وينشز العظم، فيؤثر فيه جسميا وخلقيا، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية في الرضيع أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه حتى لقد يؤثر صوتها في صوته، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية،

وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية، حتى كانت قيصرة روسيا ترضع أولادها وتحرم عليهم المراضع. فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شئونهم، فقد رغب نساء الأغنياء عنها ترفعا وطمعا في بقاء الجمال وحفظ الصحة وسرعة الحمل، وكل هذا مقاوم لسنة الفطرة ومفسد لتربية الأولاد. وقد كان للمسلمين من دينهم وازع أيما وازع، فقد هداهم إلى ما فيه المصلحة في تربية الطفل وتهذيبه، ولم نردينا تعرّض لمحاسن تربية النشء ومساويها مثل ما تعرض له الدين الإسلامى، فاللهم وفق المسلمين إلى الاهتداء بهديه، والتحلي بآدابه. ويرى جمع من العلماء أنه يجمل بالأم أن ترضع ولا يجب عليها ذلك إلا إذا تعينت للإرضاع بأن كان الولد لا يقبل غير ثديها كما يشاهد ذلك من بعض الأطفال، أو كان الأب عاجزا عن استئجار ظئر ترضعه، أو كان قادرا ولم يجد من ترضع. وقوله كاملين تأكيد لذلك إذ قد جرت العادة أن يتسامح في مثل هذا فيقال: أقمت عند فلان حولين بمكان كذا، ويكون قد أقام حولا وبعض الحول. والحكمة في تحديد هذه المدة في الرضاع العناية بشئون الطفل، فإن اللبن هو الغذاء الموافق له في هذه السن، إلى أنه محتاج إلى شفقة وعناية تامة لا تتوافران عند غير الأم، إلا إذا رأى الوالدان المصلحة في أقل من ذلك، فهما اللذان يراعيان صحة الطفل فمن الولدان من يستغنى عن اللبن بالطعام اللطيف قبل تمام الحولين. وقد استنبط العلماء من هذه الآية ومن قوله: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» أقل مدة الحمل، فإنه إذا أسقطت مدة الرضاع من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر وهى أقل المدة. وقد روى هذا عن على وابن عباس رضى الله عنهما. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وعلى الوالد كفاية المرضع من طعام وكسوة لتقوم بخدمته حق القيام، وتحفظه من عاديات الأيام.

وإنما عبر بالمولود له، ولم يعبر بالوالد للإشارة إلى أن الأولاد لآبائهم، فإليهم ينسبون، وبهم يدعون، والأمهات مستودعات لهم كما قال المأمون: لا تزرين بفتى من أن يكون له ... أمّ من الروم أو سوداء دهجاء فإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأبناء آباء والخلاصة- إن الوالدات قد حملن للوالد، وأرضعن له، فعليه أن ينفق عليهن ما فيه الكفاية من طعام وشراب وكسوة ليقمن بخدمته، ويحفظنه ويرعين شئونه، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف اللائق بحال المرأة في البيئة التي تعيش فيها، ولا تلحقها بها غضاضة في نوعه، ولا في طرق أدائه. (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) أي لا تلزم نفس إلا بما تتسع له قدرتها بحيث لا ينتهى إلى الضيق، وقد فسر هذا في سورة الطلاق بقوله: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» . ثم بين العلة في تشريع الأحكام السابقة بقوله: (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) أي إن العلة في تشريع ما تقدم منع الضرار من الجانبين بإعطاء كل ذى حق حقه بالمعروف، فيحرم أن يأتى من أحد الوالدين إضرار بالآخر بسبب الوالد، فلا ينبغى أن تمتنع الأم من إرضاعه تعجيزا للوالد بالتماس الظئر، أو تكلفه من النفقة فوق وسعه، أو تقصّر في تربية الولد تربية بدنية أو خلقية أو عقلية لتغيظ الرجل، كذلك لا يليق به أن يمنعها من إرضاع ولدها، وهى له أرأم، وبه أرأف، وعليه أحنى وأعطف، أو يضيّق عليها في النفقة مع الإرضاع، أو يمنعها من رؤيته ولو بعد مدة الرضاع والحضانة. (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) أي وعلى وارث الصبى وهو قريبه الذي لا يجوز له أن

يتزوجه على تقدير أن يكون أحدهما ذكرا والثاني أنثى، مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة وأجرة الرضاع. وقيل المراد بالوارث وارث الصبى من الوالدين أي إذا مات أحد الوالدين فيجب على الآخر ما كان يجب عليه من إرضاعه والنفقة عليه. (فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي: فإن للوالدين صاحبى الحق المشترك في الولد، الراغبين في تربيته تربية قويمة في جسمه وعقله- أن يفطماه قبل الحولين الكاملين أو بعدهما إذا اتفق رأيهما على ذلك بعد التشاور والتراضي بينهما، لأن هذا التحديد إنما هو للمصلحة ودفع الضرر، فمتى رأيا الفائدة في الأقل أو في الأكثر فعلاه، أما إذا أقدم أحدهما على ما يضر بالولد كأن ملّت الأم الإرضاع، أو بخل الأب بإعطاء الأجرة بقية الأجل المضروب فلا حق له في ذلك، وإنما اعتبر رضا الأم مع أن ولىّ الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره، مراعاة لمصلحة الطفل، إذ هى لكمال شفقتها عليه لا تفكر إلا فيما له فيه خير وفائدة. وهأنت ذا ترى إرشاد القرآن إلى استعمال المشورة في أدنى الأعمال لتربية الولد، ولم يبح لأحد الوالدين الاستبداد بذلك دون الآخر- فما بالك بأجلّ الأعمال خطرا وأعظمها فائدة، فهل بعد هذا من شك في حاجة الملوك والأمراء إليها في تربية الأمم وتدبير شئونها؟ ومن ثم طلبها القرآن الكريم من الرسول صلوات الله عليه بقوله: «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» ومدح المؤمنين بقوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» . (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم المراضع الأجنبيات فلا ضير في ذلك إذا أعطيتم لهن الأجور المتعارفة لأمثالهن، لما في ذلك من مصلحة للمرضع ومصلحة للولد والوالد، فإن المرضع إذا لم تعامل معاملة حسنة ترضيها بأن تأخذ أجرها كاملا غير منقوص، وتمنح الهبات والعطايا- لا تهتم بالطفل ولا تعنى بإرضاعه، ولا بنظافته ولا بسائر

[سورة البقرة (2) : الآيات 234 إلى 235]

شئونه، وإذا هى أوذيت تغير لبنها فيكون ضارا بالطفل مؤذيا له، ويتبع هذا إيذاء الوالد حين يرى ابنه على غير ما يحب ويهوى. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي واخشوا الله فلا تفرطوا في شىء من هذه الأحكام مع توخّى الحكمة فيها، واعلموا أن الله بصير بأعمالكم فهو يجازيكم عليها، فإذا قمتم بحقوق الأطفال بتراض وتشاور واجتنبتم المضارّة كان الأولاد قرة أعين لكم في الدنيا وسبب المثوبة في الآخرة، وإن أنتم اتبعتم أهواءكم وعمل كل منكم على مضارة الآخر كان الأولاد بلاء وفتنة لكم في الدنيا واستحققتم عذاب الله في الآخرة. فما أشد هذا التهديد والوعيد على ترك العناية بالأطفال ومضارة كل من الوالدين للآخر من أجل أولادهما، فليعتبر بذلك المسلمون ولا يجعلوا تربية الأولاد موكولة إلى المصادفة، والعناية بها دون العناية بسلعة التاجر، وأدوات الصانع، وماشية الزارع، وما أبعد المسلمين اليوم عن اتباع مناهج دينهم واتباع وصاياه، ولله الأمر من قبل ومن بعد. [سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 235] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يتوفون منكم: أي يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم، ويذرون: أي يتركون، والزوج يطلق على الذكر والأنثى كما قال تعالى: «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» وأصله العدد المكوّن من شيئين اتحدا وصارا شيئا واحدا في الباطن وإن كانا شيئين في الظاهر، وسمى به كل من الرجل والمرأة للدلالة على أن من مقتضى الفطرة أن يتحد الرجل بامرأته والمرأة ببعلها، بتمازج النفوس ووحدة المصلحة، حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر، ويتربصن: أي ينتظرن، وبلغن أجلهن: أي أتممن عدتهن وانتهت مدة التربص والانتظار، والتعريض في الكلام أن تفهم المخاطب ما تريد بضرب من الإشارة والتلويح بدون تصريح، والخطبة (بكسر الخاء) هى طلب الرجل المرأة للزواج بالوسائل المعروفة بين الناس، والإكنان في النفس هو ما يضمره مريد الزواج في نفسه ويعزم عليه من التزوج بالمرأة بعد انقضاء العدة، والقول المعروف ما لا يستحيا منه في المجاهرة كذكر حسن المعاشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك. وعزم الشيء وعزم عليه واعتزمه: إذا صمم على تنفيذه، والكتاب بمعنى المكتوب أي المفروض، وأجله: أي نهايته. المعنى الجملي كان الكلام قبل هذا في أحكام الطلاق من جهة عدده وكيفيته، وأن للزوج المراجعة والإمساك بالمعروف، كماله التسريح والتطليق بالإحسان، ثم ذكر بعده حكم الإرضاع وما للوالدة من حقوق فيه، وما على الوالد من واجبات قبل ولده من رزق وكسوة ونحو ذلك- وهنا ذكر أحكام من يموت بعولتهن من وجوب الحداد عليهم، ومن وجوب العدة، ومن جواز خطبتهن، ومن صحة العقد عليهن.

الإيضاح

الإيضاح (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أي إن الرجال الذين يموتون ويتركون زوجات يردن الزواج، لا يحل لزوجاتهم أن يتعرضن لخطبة ولا زواج ولا خروج من المنزل إلا لعذر شرعى مدة أربعة أشهر وعشرة أيام. وخلاصة المعنى- إن عدة النساء اللاتي يموت أزواجهن أربعة أشهر وعشرة أيام لا يتعرضن فيها للزواج بزينة ولا خروج من المنزل إلا للأعذار المبيحة لذلك، ولا يواعدن الرجال بالزواج، اهتماما بحقوق الزوجية وتعظيما لشأنها. وقد حرمت السنة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام. وهذا الحكم خاص بغير الحوامل، فإن الحامل التي يموت زوجها تنقضى عدتها بوضع الحمل ولو بعد الموت بساعة كما قال تعالى: «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن. روي أبو داود حديث سبيعة الأسلمية قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاها بأنها حلّت حين وضعت حملها، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر. ولا نبحث عن الحكمة في تحديد هذه المدة فهى كأعداد الركعات ومقدار الواجب فى الزكاة، وقال بعضهم في بيانها: إن تعرف براءة الرحم احتاجت إلى ثلاثة قروء أو ستين يوما، فبراءة النفس من الحزن والكآبة تحتاج إلى مدة أطول من هذه لعظم الكارثة وفداحة الخطب، إلى أن التعجيل بالزواج مما يسىء أهل الزوج ويفضى إلى الخوض في شأن المرأة، إذ يقولون إنها لم تكن على ما ينبغى من الوفاء للزوج والحزن عليه إلى أنه كان من المعروف عند العرب أن المرأة تصبر على البعد عن الرجل أربعة أشهر بلا حرج ولا مشقة وتتوق إليه بعد ذلك، حتى إن عمر أمر ألا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر بعد أن سأل أهل بيته.

وإذا صح أن هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام. وهذا التحديد لعدة الوفاة يشمل الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض واليائسة. (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي فإذا أتممن عدتهن وانتهت مدة التربص والانتظار فلا إثم عليكم أيها المسلمون أن تفعل المرأة ما كان محظورا عليها قبل ذلك من التزين والتعرض للخطّاب والخروج من المنزل على الوجه المعروف شرعا وعرفا. فإن فعلن شيئا من ذلك قبل انقضاء الأجل كن قد أتين بمنكر فيجب على أوليائهن وخيار المسلمين أن يمنعوهن، فإن لم يستطيعوا ذلك استعانوا بالحاكم لإزالة هذا المنكر. وقد بينت السنة والأخبار الصحيحة ما يحظر على المرأة أن تفعله، فقد روى الشيخان من حديث حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفى أبو سفيان (والدها) فدعت بطيب فيه صفرة خلوق وغيره، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها، ثم قالت والله ما بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . وقالت زينب: سمعت أمّى أمّ سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفى زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا) مرتين أو ثلاثا- كل ذلك يقول (لا) ثم قال: إنما هى أربعة أشهر وعشر. وقد كانت المرأة في الجاهلية تحدّ على زوجها شر حداد وأقبحه، فكانت تمكث سنة كاملة لا تمسّ طيبا ولا زينة، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، ثم تخرج بعد ذلك، وكان لهم في ذلك عادات سخيفة وخرافات شائنة.

إلى أن جاء الإسلام فأصلح من ذلك، فجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه، ولم يحرم فيها إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدى الزواج، وما منع النظافة ولا الجلوس في كل مكان في البيت مع النساء والمحارم من الرجال، والكحل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم هو كحل الزينة لا كحل التداوى بدليل حديث الموطأ عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار» . والمسلمات اليوم لا يسرن على طريق واحدة في الحداد، فمنهن من يغلون في الحداد ويغرقن في النّوح والندب والخروج من مألوف العادات في المعيشة، حتى يزدن على ما كان عليه نساء الجاهلية، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع، بل ربما حددن على الولد السنة والسنتين، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين. فالخير كل الخير للمسلمين أن يصلحوا هذه العادات الرديئة في الحداد، إذ لا فائدة فيها إلا إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش والماعون، وفساد آداب المعاشرة والشقاء في أحوال المعيشة، وما ينجم عن ذلك من الأمراض، ولا سيما لدى ضعفاء الأمزجة. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعودة إلى أحكام الشرع من الحداد ثلاثة أيام على القريب وأربعة أشهر وعشرا على الزوج، وجعل الحداد مقصورا على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من المنزل إلا لضرورة. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فهو محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه شىء منها، فإذا جعلتم نساءكم تسير على نهج الشرع وحدوده صلحت أحوالكم، وسعدتم في دنياكم، وأحسن الله جزاءكم في أخراكم، وإن أسأتم السيرة وحدتم عن السّنن السوىّ أخذكم أخذ عزيز مقتدر. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ، أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ)

أي ولا إثم ولا حرج على الرجل أن يعرّض للمرأة ويلوّح لها في أثناء عدة الزواج، أو عدة الطلاق البائن بأمر الزواج، لا في أثناء عدة الطلاق الرجعى، لأنها لا تزال فى عصمة زوجها. وللناس في كل عصر كنايات يستعملونها في مثل هذا، كأن يقول: إني أحب امرأة من صفتها كيت وكيت، أو يقول وددت لو أن الله وفّقنى لامرأة صالحة مثلك أو يقول: إنى حسن الخلق، كثير الإنفاق، جميل العشرة، محسن إلى النساء، إلى نحو ذلك. كذلك لا حرج عليه فيما يكتمه في نفسه ويعزم عليه من الزواج بها بعد انتهاء أجل العدة، لأن مثل هذا مما يتعسر الاحتراز منه، ومن ثم ذكره الله تعالى على وجه الترخيص بقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) فى أنفسكم ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن أن تبوحوا لهن بما انطوت عليه جوانحكم، ومن ثم رخص لكم في التعريض دون التصريح، فعليكم أن تقفوا عند حدّ الرخصة ولا تتجاوزوها. (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي ولكن لا تواعدوهن على الزواج في السر، فإن المواعدة على هذه الحال مدرجة للفتنة، ومظنّة للقيل والقال، بخلاف التعريض فإنه يكون على ملأ من الناس، فلا عار فيه ولا عيب، ولا يكون وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه. وذهب جمهرة العلماء إلى أن السر هنا يراد به النكاح، أي لا تتّعدوا معهن وعدا صريحا على التزوّج بهن. (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً) أي لا تواعدوهن بالمستهجن، ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في الجهر، كذكر حسن العشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك. والخلاصة- إنه لا يجوز للرجال أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة في امر

[سورة البقرة (2) : الآيات 236 إلى 237]

الزواج سرّا، أو يتواعدوا معهن عليه، ولكن رخص لهم في التعريض الذي لا ينكر الناس مثله على مسمع منهن، ولا يعدّونه خارجا من الاحتشام معهن. وفائدة ذلك- أن يكون تمهيدا لهن، حتى إذا أتمت إحداهن العدة كانت عالمة بمن يرغب فيها، فإذا سبق المفضول ردته إلى أن يأتي الأفضل. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) أي ولا تصمموا تصميما جازما على الارتباط الشرعي مع معتدة الوفاة حتى تنتهى عدتها. والخلاصة- إن التزوج بالمرأة في العدة محرم قطعا، بل الخطبة فيها محرّمة، والعقد فيها باطل بإجماع المسلمين. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) أي واعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه فى قلوبكم من العزم على ما لا يجوز، فاحذروا أن تعزموا على ما حظر عليكم من قول أو فعل. وقد جاء هذا التحذير عقب ذكر الأحكام المتقدمة على سنن القرآن من قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا، ليكون ذلك آكد في المحافظة عليها والعناية بها. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي واعلموا أن الإنسان إذا تعدى حدود الله وأراد الرجوع إليه بالتوبة يغفر له، وهو الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل عباده ليصلحوا بصالح أعمالهم ما أفسدوا بما سبق من زلّاتهم، فعليكم أن تجتنبوا أسباب العقوبة، وتعملوا بما أمرتم به، وتغتنموا زمان الحياة القصيرة حتى لا تأسوا على ما فاتكم. [سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الجناح هنا التبعة (المسئولية) كالتزام بمهر وغيره، والمسيس: اللمس باليد من غير حائل، ويراد به في لسان الشرع ما يراد بالمماسة والملامسة والمباشرة وهو غشيان المرأة، والفريضة: المهر، وفرضها: تسميتها، والمتعة والمتاع ما ينتفع به مع سرعة انقضائه ومن ثمّ يسمى التلذذ بالشيء تمتعا لسرعة انقطاعه، وأوسع الرجل إذا صار ذا سعة فى المال وبسطة وغنى، وأقتر: إذا قلّ ماله وافتقر، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيق عليهم فى النفقة، والقدر (بفتح الدال وسكونها) قدر الإمكان والطاقة، ومتاعا: أي حقّا ثابتا واجبا، والمعروف: ما يتعارفه الناس بينهم ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم ومعايشهم وبيئاتهم، والمحسنون: هم الذين يحسنون في معاملة المطلقات، والذي بيده عقدة النكاح هو الزوج المالك لعقد النكاح وحله، وعفوه: تركه ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها كاملا تكرما منه، والفضل: المودة والصلة. الإيضاح (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي لا يلزمكم شىء من المهر وغيره عند طلاقكم للنساء قبل الدخول بهن إلا إذا سميتم لهن مهرا، فإن حصل المساس فعليه تمام المسمى في حال التسمية، ومهر مثلها إن لم يسمّ لها مهرا، وفي حال الطلاق قبل المسيس مع الفرض، عليه نصف ما فرض وسمى. (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أي وأعطوا المطلقات شيئا من مالكم يتمتعن به بحسب حالكم في الثروة والغنى، ولم يحدده الله تعالى، بل وكله إلى اجتهاد

المرء لأنه أدرى بثروته، إلا أن الشارع حبب في بسط الكف والسخاء للمطلقة تطييبا لنفسها وعوضا عما لحقها من الضرر. (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي وجعل هذه المتعة حقا واجبا على من يريد الإحسان في معاملة المرأة بما يتعارفه الناس بينهم. وهذه المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول ولم يسمّ لها مهر وهى المذكورة في الآية، ومستحبة لسائر المطلقات. والحكمة في شرعها أن في الطلاق قبل الدخول امتهانا وسوء سمعة لها، لأن فيه إيهاما للناس بأن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه شىء من أخلاقها، فإذا هو متعها متاعا حسنا تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قبله لا من قبلها ولا علة فيها، فتحتفظ بما كان لها من صيت وشهرة طيبة، ويتسامع الناس ويقولون إن فلانا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر وهو معترف بفضلها، لا أنه رأى فيها عيبا، أو رابه من أمرها شىء، فيكون ذلك كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق. وقد أثر عن الحسن السبط أنه متّع إحدى زوجاته بعشرة آلاف درهم فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق. (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي وإن حصل الطلاق قبل المسيس وقد سمى لهن مهر فلهن نصف المسمى المفروض، ويرجع إلى الزوج النصف الثاني. وهذا جار على ما كان يعمله الناس من سوق المهر كله للمرأة حين العقد، لا على ما استحدثوه من تأخير ثلث المهر أو أكثر منه أو أقلّ لرغبتهم في حبّ الظهور والتفاخر بكثرة المهر مع اجتناب إرهاق الزوج بدفعه كله. وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول وجب المهر كله للزوجة إذا مات الزوج،

أو لوارثها إذا ماتت هى، لأن الموت كالدخول بها يوجب المهر كله، إن كان هناك مهر مسمى، أو مهر مثلها إن لم يسمّ لها مهر. (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي إلا أن يعفو المطلقات عن أخذ النصف كله أو بعضه، فتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي، فكيف آخذ منه شيئا؟ فيسقط حينئذ ما وجب عليه، وحق الإسقاط إنما يكون للمرأة البالغة الرشيدة. (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أي أو يعفو الزوج ويترك ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها تكرما منه، وحينئذ تأخذ الصداق كاملا، النصف الواجب عليه، والنصف الساقط العائد إليه بالتنصيف، وعبر بقوله: بيده عقدة النكاح للتنبيه إلى أن الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده، لا يليق به أن يحلها ويدعها بدون شىء، بل يستحب له العفو والسماح بكل ما كان قد أعطى، وإن كان الواجب المحتّم نصفه، وإلى هذا أشار بقوله: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي إن من عفا من الرجال والنساء فهو المتّقى، فأحيانا تكون المصلحة في عفو الرجل عن النصف الآخر، وأحيانا في عفو المرأة عن النصف الواجب لها، لأن الطلاق قد يكون من قبله بلا سبب داع منها، وقد يكون بالعكس. والمراد بالتقوى هنا تقوى الله المطلوبة في كل أمر، إذ العفو أكثر ثوابا وأجرا، أو المراد تقوى الريبة بما يترتب على الطلاق من التباغض، إذ السماح بالمال يذهب هذا الأثر ويعيد الصفاء إلى القلوب، وهذا ما بينه سبحانه بقوله: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي ينبغى لمن تزوج من أسرة ثم طلق، ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، ولكن المسلمين نسوا دينهم أو تناسوه، وجروا على عكس هذا، فصارت روابط الصهر وسائر أنواع القرابة واهنة ضعيفة، وإنك لو رأيت ما يجرى بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات وما يكيد به بعضهم لبعض، لوجدت أنهم تجافوا أوامر شريعتهم وجعلوا إلههم هواهم، فالرجال يتركون نساءهم بلا نفقة حتى يضطررن

[سورة البقرة (2) : الآيات 238 إلى 239]

أحيانا إلى بيع أعراضهن، أو يذرونهن كالمعلقات، فلا هم يمسكونهن بمعروف ولا يسرحونهن بإحسان حتى يفتدين منهم بالمال. والمطلقات المعتدات بالأقراء يزعمن أن الحيض قد حبس عنهن، فتمضى السنة أو أكثر منها ولا تنقضى عدتهن بزعمهن، وما الغرض من هذا إلا إلزام المطلق النفقة طول هذه المدة انتقاما منه، ولكن العمل الآن في المحاكم المصرية على أن نفقة العدة لا تزيد على سنة قمرية (354 يوما) . وإذا حدث طلاق- كان بين أسرتي الزوجين حرب عوان ونصبت كل منهما للأخرى الحبائل والأشراك، لتوقعها في مهاوى الهلاك، فأين هؤلاء من كتاب الله وشرعه، إنهم ليسوا منه في شىء، فقد عميت أبصارهم وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. (إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ختم سبحانه الآية بالتذكير باطلاعه تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا، ترغيبا في المحاسنة والفضل، وترهيبا لأهل المخاشنة والجهل، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذّى الإيمان وتبعث على الامتثال. [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) تفسير المفردات حافظ على الشيء وداوم عليه وواظب عليه: فعله المرة بعد المرة، وحفظ الصلاة المرة بعد الأخرى الإتيان بها كاملة الشرائط والأركان بالخشوع والخضوع القلبي، والصلوات: هى الخمس المعروفة بالبيان العملي من النبي صلى الله عليه وسلم والتي أجمع

المعنى الجملي

عليها المسلمون من جميع الفرق، حتى إن من جحدها أو شيئا منها لا يعدّ مسلما، وقد استنبطوا عددها من آيات أخرى كقوله تعالى: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» والصلاة الوسطى: هى إحدى هذه الخمس، والوسطى: إما بمعنى المتوسطة بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وإما بمعنى الفضلى، وبكل من المعنيين قال جماعة من العلماء، ومن ثم اختلفوا أىّ الصلوات أفضل؟ وأيتها المتوسطة؟ وأرجح الأقوال أنها صلاة العصر لما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن على مرفوعا (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) يعنى يوم الأحزاب، وروى أحمد والشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى هذا اليوم «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» ولم يذكر العصر، وفي رواية عن علىّ عن عبد الله بن أحمد في سند أبيه: كنا نعدها الفجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هى العصر» . والقنوت: الانصراف عن شئون الدنيا إلى مناجاة الله والتوجه إليه لذكره ودعائه، والرجال: واحدهم راجل، وهو الماشي، والركبان: واحدهم راكب. المعنى الجملي تقدم هاتين الآيتين آيات في الأحكام بعضها في العبادات وبعضها في المعاملات وكان آخرها ما بينه من السبيل القويم في معاملة الأزواج، وقد جرت سنة القرآن أن يأتى عقب الحكم والأحكام بالأمر بتقوى الله، والتذكير بعلمه بحال عباده، وما أعدّ لهم من جزاء على العمل، حتى يقوى الوازع الديني في النفوس ويحفزها على الإخلاص فيه. لكن النفوس قد تغفل عن هذا التذكير بانهما كها في مشاغل الحياة، أو في تمتعها باللذات، فتتنكّب عن جادة الهدى، وتتفرّق بها السبل، ومن ثم كانت

الإيضاح

فى حاجة إلى مذكّر يرقى بها إلى العالم الروحي، ويخلعها من عالم الحس، ويوجهها إلى مراقبة من برأها وفطرها حتى تطهر من تلك الأرجاس والأدران، وتترفع عن البغي والعدوان، وتميل إلى العدل والإحسان، ذلك المذكر هى الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتنفى الجزع والهلع عند المصايب، وتعلّم البخيل الكرم والجود، لهذا أردف هذه الأحكام بطلب الصلاة والمحافظة عليها وأدائها على وجهها بإخبات وقنوت لتحدث فى النفس آثارها. الإيضاح (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) أي داوموا على الصلوات جميعها لما فيها من مناجاة الله والتوجه إليه بالدعاء له والثناء عليه كما جاء في الحديث «اعبد الله كانك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وإذا أديت على الوجه الحق وأقيمت كما أمر به الدين نهت عن الفحشاء والمنكر، وحفظت النفوس من الشرور والآثام، ولا سيما صلاة العصر حين ينتهى الإنسان من أعمال الدنيا فيضرع إلى الله أن وفقه لخدمة نفسه وعياله وأهله ووطنه، ويشكره على ذلك حق الشكر. (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي قوموا خاشعين لله مستشعرين هيبته وعظمته، ولا تكون الصلاة كاملة تتحقق فائدتها التي ذكرت في الكتاب الكريم إلا بالتفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب وخشوعه. روى أحمد والشيخان من حديث زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام- لأن حديث الناس مناف له، فيلزم من القنوت تركه. والمحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى والشرط في صحة الإسلام والأخوّة فى الدين وحفظ الحقوق.

روى أحمد وأصحاب السنن من حديث، بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمن تركها فقد كفر. وروى أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ذكر الصلاة يوما فقال: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف» . وروى الترمذي قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. أرأيت بعد هذا كيف أعرض جمهرة المسلمين عن الصلاة، وكثر التاركون الغافلون عنها، وقلّ عدد المصلين، أرأيت أن أحدهم لتتلى عليه الآيات والأحاديث فيصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقرا، اتكالا على شفاعة الشافعين، وغرورا بالانتساب إلى الإسلام، واعتقادا بأن ذلك كاف في نيل السعادة في الآخرة، ولهم من مشايخ الطرق وغيرهم ما يمدّهم في غيهم، ويستدرجهم في غرورهم. وقد كان من أثر ترك الصلاة والتهاون في شئون الدين في المدن والقرى، أن فشت الفواحش والمنكرات، وكثرت حانات الخمور، ومواخر الفجور والرقص، وبيوت القمار، وتكالب الناس على جمع المال، لا يبالون أمن حلال جاء أم من حرام، وانقبضت الأيدى عن فعل الخير، وزال التراحم والتعاطف، وقلّت الثقة بين بعض الناس وبعض، واعتدى بعض الزراع على بعض بقلع المزروعات قبل النّضج، وبالسرقة بعده، وبقتل الماشية بالسم أو بالسلاح، وتزعزع الأمن على النفس والمال ولو حافظوا على الصلوات كما أمر الله لانتهوا عن كل هذا بالوازع النفسي، فالصلاة حارس وديدبان يمنع من عمل السوء. فالمحافظ عليها لا يرضى أن يكون من روّاد بيوت القمار ومحالّ اللهو والفسوق، ولا يمنع الماعون، بل يبذل معونته لمن يراه مستحقا لها، ولا يخلف موعدا، ولا ينتقص

حقا لغيره، ولا يضيع حقوق أهله وعياله، ولا حقوق أقاربه وجيرانه، ولا يجزع من النوائب، ولا تفلّ عزمه المصايب، ولا تبطره نعمة، ولا تقطع رجاءه نقمة. والمحافظ عليها هو الذي يؤمن شره، ويرجى خيره، ولا غرو فللصلاة يد في الآداب الكاملة، والأخلاق السامية، والاستقامة في السرّ والعلن. (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً) أي فإن خفتم أي ضرر من قيامكم قانتين لله، فصلوا كيفما تيسر لكم راجلين أو راكبين. وفي هذا تأكيد للمحافظة على الصلاة وبيان أنها لا تسقط بحال، إذ حال الخوف على النفس أو المال أو العرض مظنّة العذر في تركها، كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام. والسبب في عدم سقوطها عن المكلف في كل حال، أنها عمل مذكّر بسلطان الله المستولى علينا وعلى العالم كله، وما الأعمال الظاهرة إلا مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات، إذ من شأن الإنسان أنه إذا أراد عملا قلبيا يحتاج إلى جمع الفكر وحضور القلب أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل. فإذا تعذر بعض الأعمال البدنية فلا تسقط العبادة القلبية وهى الإقبال على الله مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر المستطاع، ويكون ذلك حين قتال العدو أو الفرار من أسد فيصلى المكلف راجلا أو راكبا إن حال وقت الصلاة لا يمنعه من ذلك الكرّ والفرّ والطعن والضرب، ويأتى من أقوال الصلاة وأفعالها بما يستطاع من ركوع وسجود ولا يلتزم التوجه للقبلة. وستأتى صلاة الخوف كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة في سورة النساء. (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي فإذا زال الخوف وأمنتم فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه، كيف تصلون حين الأمن وحين الخوف.

[سورة البقرة (2) : الآيات 240 إلى 242]

[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) تفسير المفردات يذرون: أي يتركون زوجات بعد وفاتهم، وصية لأزواجهم: أي وصية من الله لأزواجهم، متاعا إلى الحول: أي جعل الله لهن ذلك متاعا مدة الحول، غير إخراج: أي لهن ذلك المتاع وهن مقيمات في البيت غير مخرجات منه، ولا ممنوعات من السكنى فيه. المعنى الجملي هذه الآيات جاءت متممة لأحكام الزواج، وقد توسط بينها الأمر بالمحافظة على الصلاة لأنها عماد الدين، فجدير بالمسلمين أن يعنوا بها أشد العناية، إذ من حافظ عليها جعل نصب عينيه إقامة حدود الدين، والعمل بالشريعة كما قال: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» . الإيضاح (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) أي والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات بعدهم، فليوصوا لهن بوصية وليمتّعوهن متاعا إلى آخر الحول غير مخرجات من بيوتهن، فلا يمنعن السكنى فيها.

والخلاصة: إن على الأزواج أن يوصوا لهن بشىء من المال ينفقنه مدة الحول، ولا يخرجن من البيوت مدة سنة كاملة، تمر فيها الفصول الأربعة التي يتذكرن أزواجهن فيها. وهذا الأمر أمر ندب واستحسان لا أمر وجوب وإلزام تهاون فيه الناس كما تهاونوا فى كثير من المندوبات. (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) أي فإن خرجن من تلقاء أنفسهن فلا إثم عليكم أيها المخاطبون بالوصية فيما فعلن في أنفسهن من المعروف شرعا وعادة كالتعرض للخطّاب بعد العدة والتزوج، إذ لا ولاية لكم عليهن، فهن حرائر لا يمنعن إلا من المنكر الذي يمنع منه كل مكلف. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي والله عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفه، حكيم يراعى فى أحكامه مصالح عباده. ومن عزته وقدرته أن يحوّل الأمم من عادات ضارة، إلى عادات نافعة تقتضيها المصلحة، كتحويل العرب من عادتهم في العدة والحداد، إذ كانوا يجعلون المرأة أسيرة ذليلة مقهورة في عقر دارها سنة كاملة- إلى ما هو خير من ذلك وهو إكرامها في بيت زوجها بين أهله، وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآدابه. (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي وشرعت المتعة لكل مطلقة على سبيل الوجوب إذا كانت غير مدخول بها، وعلى سبيل الاستحسان لغيرها، والذي يفعل ذلك من أشرب قلبه تقوى الله والخوف من عقابه، فهو الذي يجود بالمال تطييبا للقلوب وإزالة للضغن. والخلاصة- إن المطلقات أصناف أربعة: (1) مطلقة مدخول بها وقد فرض لها مهر، وهذه لها كل المفروض، وهى التي عناها الله سبحانه بقوله: «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» .

[سورة البقرة (2) : الآيات 243 إلى 244]

(2) مطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها، وهذه يجب لها المتعة بحسب يسار الزوج ولا مهر لها، وهى التي عناها الله بقوله: «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» إلى آخر الآية، ولا عدّة لها. (3) مطلقة مفروض لها وغير مدخول بها، ولها نصف المهر المفروض، ولا عدة لها، وفيها نزل قوله: «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ... » (4) مطلقة مدخول بها غير مفروض لها، ولها مهر مثلها من قريباتها وأسرتها. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) المراد من البيان ذكر الحكم وفائدته، ثم قرنه بالموعظة الحسنة، وقوله تعقلون: أي تتدبرون الأشياء وتذعنون لما أودع فيها من الحكم والمصالح إذعانا يكون له الأثر في الأعمال. والمعنى- إن الله جلت قدرته، مضت سنته أن يبين لعباده أحكام دينهم على هذا النحو من البيان الذي تقرن فيه الأحكام بعللها وأسبابها وبيان فوائدها، ليعدّهم بذلك لكمال العقل، حتى يتحرّوا الاستفادة من كل عمل، وليكونوا على بصيرة من دينهم، عالمين بانطباق أحكامه على مصالحهم، فدينهم هو دين العقل، وأحكامه تنطبق على مصالح البشر في كل زمان ومكان. [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 244] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الأحكام الماضية وقرنها بعللها وأسبابها، وفوائدها ومنافعها، ووجّه أنظار المخاطبين عقب كل منها إلى الخوف والخشية من الربّ الخالق لكل شىء،

الإيضاح

العليم بكل شىء- قفى هذا بذكر بعض الأخبار عمن سلف من الأمم للعبرة والعظة فى سياق واقعة مصت تنويعا في التذكير والبيان. والأحكام السالفة تتعلق بالأفراد في أنفسهم وفي بيوتهم، والحكمان الآتيان يتعلقان بالأمم من ناحية الدفاع عن استقلالها وحفظ كيانها بمدافعة المعتدين عليها، وبذل المال والروح في توفير منافعها، وجلب الخير لها. وقد جرت العادة بأن التذكير بمنافع الشخص ومصالحه كافية في العمل بما يوعظ به، إذ أنها وفق ما يهوى، فلها في النفس عون أيّما عون، أما المصالح العامة فالرغبة فيها قليلة، فتحتاج إلى العناية في الدعوة إليها وتكرار الطلب لها، ومن ثم جاءت هذه الآية على هذا النسق الرائع، والأسلوب الخلاب، لتدعو المخاطبين إلى تلبية الدعوة، والقيام بما يجب من النصرة، فتكون المصلحة العامة صنو المنفعة الخاصة، وما يحفظ بقاء الجماعة عدل ما يحفظ نظام الفرد والأسرة. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) الخطاب في نحو هذا يوجه إلى كل من بلغه وسمعه، والاستفهام للتعجيب والاعتبار، والرؤية بمعنى العلم، وهذا أسلوب جار مجرى المثل يخاطب به من لم يرو من لم يعلم، ويراد معنى- ألم ينته علمك إلى كذا، والمقصد هنا- ألم يصل إلى علمك حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وحالهم بلغت من العجب مبلغا لا ينبغى لمثلها أن تجهل- إذ هم قوم بلغوا حدّا من الكثرة التي تدعو إلى الشجاعة واطمئنان النفس والدفاع عن الحمى، لا إلى الهلع والجزع وخور العزيمة والهرب من الوطن خوفا من الموت بمهاجمة الأعداء، وهذا هو الخوف والحذر الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء، فيخيل إليهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا وسيلة تدني إليه، فهو يمكّن العدوّ من الرقاب، ويحفزه إلى الفتك بهم، استهانة بأمرهم كما قال المتنبي:

يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم والكتاب الكريم لم يبين لنا عدد هؤلاء القوم ولا أمتهم، ولا بلدهم، ولو علم أن فى ذلك خيرا لنا لتفضل علينا ببيانه في محكم كتابه فنكتفى بما فيه، ولا ندخل في تفاصيل ذكرت في الإسرائيليات، هى إلى الأوهام والخرافات أقرب منها إلى الحقائق التي تصلح للعبرة، وتكون وسيلة إلى الموعظة. ويرى جمع من المفسرين منهم ابن كثير بسنده عن ابن جرير وعطاء- أن هذا مثل لا قصة واقعة، ضرب للعظة والتأمل فيما ينطوى عليه، ليكون أفعل في النفس وأدعى إلى الزجر. (فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) أي خرجوا هاربين فأماتهم الله، بأن مكن منهم العدوّ ففتك بهم، وقتل أكثرهم وفرّق شملهم، وأصبح من بقي منهم خاضعا للغالب، منضويا تحت لوائه، يصرّف بحسب إرادته ولا وجود له في نفسه، ثم أحياهم بعود الاستقلال إليهم، بعد أن جمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، واعتزوا وكثروا، وخرجوا من ذلّ العبودية إلى رياض الحرية، وكان ما أصابهم من البلاء تأديبا لهم ومطهرا لنفوسهم مما عرض لهم من ذميم الأخلاق ورذيل السجايا. وقد جرت سنة الله في خلقه أن تموت الأمم باحتمالها الظلم، وقبولها الجور والعسف، حتى إذا أفاقت من سباتها وتنبهت من غفلتها، قام بعض أفرادها بتدارك مافات، والاستعداد لما يرقى شأنها، وتبذل في ذلك كل مرتخص وغال، وتتلمس كل الوسائل التي تحقق لها ما تصبو إليه، ولا يصدها عن ذلك ما يحول دونها من العوائق حتى تفوز ببغيتها وتنال أمنيتها، ومن ثم أثر عن علىّ كرم الله وجهه أنه قال: بقية السيف هى الباقية، أي هى التي يحيا بها أولئك الميتون. وعلى هذا فالموت والحياة واقعان على القوم في مجموعهم على ما عهد في أسلوب القرآن، إذ خاطب بنى إسرائيل في زمن التنزيل بما كان من آبائهم الأولين بمثل قوله: «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» وقوله: «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ»

وسر هذا تقرير وحدة الأمة وتكافلها، وتأثير سيرة بعض أفرادها في بعض حتى كأنها شخص واحد، وكل جماعة منها كعضو فيه، وهذا استعمال معهود في كلام العرب يقولون هجمنا على بنى فلان حتى أفنيناهم، ثم أجمعوا أمرهم وكرّوا علينا، ولا شك أن الذي كر إنما هو من بقي منهم. وإطلاق الحياة على حال الأمة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم، والموت على مقابلها، معهود في القرآن كقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» وقوله: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» . (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) جميعا بما جعل في موتهم من الحياة، فقد جعل المصايب محيية للهمم، كما جعل الجبن والهلع وغيرهما من مفاسد الأخلاق سببا في ضعف الأمم، وجعل ضعفها مغريا للقوى بالاعتداء عليها، وجعل هذا الاعتداء منبها لها إلى اليقظة بعد السّبات العميق، حتى تحيا وتكون أمة عزيزة مرهوبة الجانب، قوية البطش والشوكة. والخلاصة- إن إماتة الأمة إنما تكون بتسليط الأعداء عليها، والتنكيل بها، وإحياءها يكون بإحياء نابتة من أبنائها تستردّ ذلك المجد الضائع، والشرف المسلوب، كالبنيان القديم الذي تقضى الضرورة بإزالته، وإقامة بناء جديد تدعو الحاجة إلى عمل مثله، أو كالعضو الفاسد الذي يبتره الطبيب ليسلم الجسد كله. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يقومون بحقوق هذه النعم، بل هم فى غفلة من حكمة ربهم، فينبغى للمؤمنين أن يعتبروا بما نزل بغيرهم، ويستفيدوا من حوادث الكون، حتى إذا نزل بهم البلاء بما يقع منهم من التفريط، لم يقصروا في حماية أنفسهم، علما منهم بأن الحياة العزيزة لا تكون إلا بدفع المعتدى، ومقاومة عدوانه، هذا خلاصة ما اختاره الأستاذ الإمام تفسيرا للآية.

واختار غيره أن الآية تشير إلى قوم بأعيانهم خرجوا من ديارهم، ورووا عن ابن عباس أن ملكا من ملوك بنى إسرائيل استنفر عسكره للقتال فأبوا وقالوا: إن الأرض التي سنذهب إليها موبوءة، فدعنا حتى يزول الوباء، فأماتهم الله ثمانية أيام حتى انتفخوا، وعجز بنو إسرائيل عن دفنهم لكثرتهم، فأحياهم الله وقد بقي منهم شيء من ذلك النّتن وقالوا إن هذا الموت لم يكن كالموت الذي يكون وراءه الحياة للبعث والنشور، وإنما هو نوع انقطاع لتعلق الروح بالجسد بحيث لا يلحقه التغيير والفساد، وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد، حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بأنه موت حقيقى. وقيل إنه من خوارق العادات، فلا يجرى على سنن الموت الطبيعية. (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) القتال في سبيل الله هو القتال لإعلاء كلمة الحق، وتأمين الدعوة، ونشر الدين، حتى لا يغلب أهله، ولا يصدهم صادّ عن إقامة شعائره، وتلقين أوامره، والدفاع عن بلاد الإسلام إذا همّ الطامع في اغتصابها والتمتع بخيراتها، وإرادة إذلالها، والعدوان على استقلالها. فهذا أمر لنا بأن نتحلّى بالشجاعة، ونلبس سرابيل القوة، ليخشى العدو بأسنا، ويرهب جانبنا، ونكون أعزاء ونحيا حياة سعيدة في دنيانا وأخرانا. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فعلينا أن نراقب أنفسنا فيما عسى أن نعتذر به عن التقصير عن امتثال الأمر بالقتال بنحو قولنا- ماذا نعمل، ليس لنا في الأمر شىء «ليس لها من دون الله كاشفة» إلى نحو ذلك من تعلّات الجبناء التي لا يتقبلها الله وما هى إلا مراوغة، وفرار من الاستعداد للدفاع ومقاتلة العدو، فالمتعلل بها مخادع لربه ولنفسه ولقومه. فمن علم علما صحيحا أن الله سميع لما يقول، عليم بما يفعل، حاسب نفسه حتى يتجلّى له من تقصيره ما يحمله على التشمير عن ساعد الجد لتدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت.

[سورة البقرة (2) : آية 245]

[سورة البقرة (2) : آية 245] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بالقتال في الآية السابقة دفاعا عن الحق، وكان ذلك يتوقف على بذل المال لتجهيز المقاتلة، والاستعداد للمدافعة، ولا سيما بعد أن ارتقت الفنون العسكرية، واحتاجت إلى علوم وصناعات كثيرة- حثّ هنا على بذل المال فيما يعين عليه، ويعلى شأن الدين، ويمنع عداوة المعتدين. الإيضاح (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) حث سبحانه على الإنفاق في سبيل الله بهذا الأسلوب الذي يستفزّ النفوس ويبسط الأكف، إذ سماه قرضا لله، والله غنى عن العالمين، لعلمه بأن داعى البذل في المصالح العامة ضعيف في نفوس أكثر الناس والرغبة فيه قليلة، فإنك لترى أن الغنى يبذل فضل ماله لأفراد يعيش بينهم، إما لاتقاء شر حسده، وإما لارتفاع مكانته في النفوس، وإما لجلب محبتهم إياه كما قال: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان ولا سيما إذا كان البذل لذوى القربي، فحظ النفس فيه أظهر، إذ يتعذر على الإنسان أن يكون ناعم البال بين أهل الضر والبؤس، سعيدا بين الأشقياء والمعوزين. أما البدل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته، وحفظ حقوقه، فليس فيه شىء من حظوظ النفس التي تسهل عليها مفارقة ما تحبه وهو المال، إلا إذا كان تبرعا جهريا يتولاه الحكام والملوك. من قبل هذا احتاج الأمر إلى المبالغة في الترغيب، فإنك لا تقول: من ذا الذي

يفعل كذا إلا في الأمر العظيم الذي يندر أن يقدم عليه أحد، لأنه عظيم أو شاقّ قلّ من يتصدى له كما جاء في قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ» وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» . والقرض الحسن هو ما حل محله ووافق المصلحة، لا ما قصد به الرياء والسمعة، نعم إن ما أنفق في المصالح العامة حسن وإن أريد به الشهرة، لكنه لا يدل على ثقة المنفق بربه، وابتغائه مرضاته، ولا على حبه للخير لذاته، فلا يكون له حظ من نفقته يقرّبه إلى ربه. والخلاصة- إنه لا يكون القرض حسنا إلا إذا وضع موضعه، مع البصر بوجه الحاجة وحسن النية، ليكون فيه منفعة للمسلمين من الطريق الذي شرعه الإسلام (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) الأضعاف واحدها ضعف، وهو مثل الشيء في المقدار يزاد عليه، وقد عبر عن البذل في سبيله ابتغاء مرضاته بالقرض الحسن، وهذا يقتضى أنه لا يضيع منه شىء عند الله، ثم عبر ثانيا بالجزاء عليه أضعافا مضاعفة، زيادة فى الترغيب والحث عليه. وهذه الأضعاف الكثيرة التي جاء في بعض الآيات أنها تبلغ سبعمائة ضعف (والمراد من ذلك) تكون في الدنيا والآخرة. ذاك أن المنفق لإعلاء كلمة الله، ولتعزيز الأمة، والدفاع عن الحق، إنما يدافع عن نفسه، ويحفظ حقوقها، فضعف الأمة وضياع حقوقها لا يكون إلا بما يقع على أفرادها من البلاء والعسف والظلم- إلى أن بذل الأغنياء لأموالهم، وقيامهم بفريضة التعاون، وكفالة الغنى للفقير، وحماية القوىّ للضعيف- مما يوسع المرافق على الأمة ويوفر لها السعادة ويديم لأفرادها النعمة، ما بقوا على هذه السنة، واستقاموا على هذا النهج القويم ثم هم بذلك يستحقون سعادة الآخرة ومضاعفة الثواب، ورضوان الله «ورضوان من الله أكبر» .

(وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يقبض أي يقتر ويضيق، ويبسط أي يوسع أي والله يقتر على بعض الناس لجهلهم بسنن الله في كسب المال، وعدم نهوضهم للسعى فى مناكب الأرض بحسب الأوضاع التي شرعها الله لعباده في هذه الحياة، ويبسط الرزق لآخرين، لأنهم ساروا على النواميس التي تقتضيها طبيعة الحياة، واتخذوا الأسباب التي توصل من سلكها إلى نتائجها المحتومة كما أرشدت إلى ذلك الفطرة وسنة الوجود. ولو شاء أن يغنى فقيرا، أو يفقر غنيا لفعل، فإن الأمر كله له، وبيده القبض والبسط، فحضّ الأغنياء على مؤازرة الفقراء لم يكن من حاجة له، أو عجز منه، بل هداية منه لعباده، ليشكروه على تلك النعم فيزيدهم منها كما قال: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» وبذلك يبلغ النوع الإنسانى كماله الاجتماعى الذي أعده له بحكمته حتى يحقق معنى الخلافة في الأرض ويعمرها على أحسن الوجوه، وأفضل الحالات. ثم بين مصير الخلق ومجازاتهم على أعمالهم من خير أو شر، وفيه وعد ووعيد فقال: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) والرجوع إلى الله ضربان: (1) رجوع في هذه الحياة بالسير على سننه الحكيمة، ونظمه في الخليقة، بأن يعرف المرء أن الغنى يكون بعمل العامل وتوفيق الله وتسخيره، وأن البذل من فضل الله يأتي بالمنافع الخاصة للباذل، وبالمنافع العامة لقومه الذين يعتز بهم ويسعد بسعادتهم، وأن تركه يعقبه مفاسد ومضار عامة وخاصة للأمم والأفراد، وأنه لا يستقل بعمله مهما أوتي من رجاحة عقل، بل له حاجة إلى معونة الله وتوفيقه بتسخير الأسباب له. (2) رجوع في الآخرة حين تظهر للمرء نتائج أعماله وآثار أفعاله «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .

[سورة البقرة (2) : الآيات 246 إلى 247]

[سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 247] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) تفسير المفردات الملأ: القوم يجتمعون للتشاور، ولا واحد له، وسموا بذلك لأنهم يملئون العيون رواء، والقلوب هيبة، والنبي هو شمويل معرّب صمويل أو صموئيل، عسى كلمة تفيد توقع الحصول وقرب تحققه، كتب: أي فرض، وطالوت معرب شاول لقب به لطوله، فقد جاء في سفر صموئيل الأول من العهد العتيق (فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب، من كتفه فما فوق) اصطفاه أي فضله بما أودع فيه من الاستعداد الفطرىّ للملك، وبسطة الجسم عظمه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه في الآيات التي قبل هذه شرع القتال لحماية الحق وبذل المال فى سبيل الله لعزة الأمة ومنعتها، وأن من ينحرف عن ذلك يتردى في مهاوى الردى كما وقع لمن خرجوا من ديارهم فارّين من عدوهم على كثرة عددهم. هنا بين قصة قوم من بنى إسرائيل أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن واستحقوا الخزي والنكال، لكن جاءت هذه القصة مفصلة

تبين ما في القصة الأولى المجملة، فإن الأولى تصرح بأن موتهم كان بذهاب استقلالهم، وأنه نتيجة لفرارهم وضعف عزيمتهم، لكن لم يذكر سبب إحيائهم وإن كان قد فهم مما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال أن هذا هو سنة الله في إحياء الأمم. أما هذه القصة فقد فصلت احتياج هؤلاء القوم إلى القتال لمدافعة العادين عليهم، واسترجاع ديارهم من أيديهم، فبذلوا الوسع في الاستعداد للدفاع، لكن الضعف قد بلغ منهم كل مبلغ، فتولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا منهم، ألهمهم الله رشدهم فاعتبروا وانتصروا. وقد جاء قصص القرآن للعبرة والموعظة كما قال: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» ومن ثم لم يذكر إلا ما تمس الحاجة إليه من الفائدة، أما ذكر التفاصيل والجزئيات فربما شغل عن ذلك- إلى ما فيها من خلاف ربما يذهب الثقة بها، ومن قبل هذا اقتدى كثير من المؤرخين في العصر الحديث بطريق القرآن فلا يذكرون إلا الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات، مع توافر أسباب ضبطها ونقل أخبارها بتصوير الوقائع والأماكن، وسهولة الانتقال من مكان إلى مكان، وإنك لترى في ذكر أخبار الحروب فى العصر الحاضر التناقض الواضح في رسائل الفريقين المختصمين فيها، مما يرفع الثقة بها. وإذا جاء في كتب بنى إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق، أو في كتب التاريخ القديمة ما يخالف ما في القرآن في باب القصص، فعلينا ألا نحفل به ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فحال التاريخ قبل الإسلام كانت حالكة الظلام، فلا يوثق إذ ذاك برواية، كما أن الكتب الدينية ليست لها أسانيد متواترة، وقد صرح القرآن بأن أتباع موسى نسوا حظّا مما ذكروا به، وحفظوا نصيبا وهذا الذي حفظوه حرفوه، وأن أتباع عيسى فعلوا مثل ما فعل أصحاب موسى، فلا ثقة بما جاء في قصص العهدين العتيق والجديد مما يسمى مجموعه الكتاب المقدس.

الإيضاح

الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي ألم ينته إلى علمك قصص هؤلاء الملأ من بنى إسرائيل من بعد موسى في عصر داود عليه السلام، وكان بينهما زمان طويل. (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي قالوا لنبيهم شمويل، أقم لنا أميرا نصدر عن رأيه في تدبير الحرب، وتنتظم به كلمتنا، وكان دأب بنى إسرائيل أن يقوم أمرهم بملك يجتمعون عليه، يجاهد الأعداء ويجرى الأحكام، ونبىّ يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم، ويأتيهم بالخير من ربهم. (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) أي هل أتوقع منكم الجبن عن القتال إن كتب عليكم؟ (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أي أىّ سبب يدعونا إلى ترك القتال، وقد عرض لنا ما يوجبه إيجابا قويا بإخراجنا من ديارنا وأوطاننا واغترابنا عن أهلنا وأولادنا؟ (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) أي فلما فرض عليهم القتال بعد سؤال النبي ذلك وبعث الملك- أعرضوا وتخلفوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله بعد مشاهدة العدوّ وشوكته، إلا قليلا منهم عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة كما سيأتى بعد. ذاك أن الأمم إذا قهرها العدو تهن قوّتها ويغلب عليها الجبن وتلبس ثوب الذل والمسكنة، فإذا أراد الله إحياءها بعد موتها نفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها وهم الأقلون، فيعملون ما لا يعمله الأكثرون. وفي الآية من العبرة والفوائد الاجتماعية- أن الأمم حين الضعف قد تفكر فى الدفاع حين الحاجة إليه، وتعزم على القيام به إذا توافرت الشرائط التي يتخيلونها كما قال:

وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا فإذا توافرت لهم ضعفوا وجبنوا وزعموا أن ما هم عليه من القوة غير كاف لمقاومة الأعداء، والتمسوا لأنفسهم المعاذير، وأكثروا من التعللات الواهية. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي بالذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها، وحفظا لحقوقها، فيصبحون في الدنيا أذلاء مستضعفين، وفي الآخرة أشقياء معذبين، وفي هذا وعيد لأمثالهم لا يخفى. (قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) روى في أخبار بنى إسرائيل أن الإسرائيليين في الزمن الذي بعث فيه صموئيل نبيا لهم، كانوا قد انحرفوا عن شريعتهم، وعبدوا الأصنام والأوثان، وضعفت فيهم الرابطة الدينية، فسلط الله عليهم أهل فلسطين، فأثخنوهم وقتلوا منهم العدد الكثير، وأخذوا تابوت عهد الرب، وكانوا من قبل يستفتحون به (يطلبون الفتح والنصر به) على أعدائهم ففترت هممهم واستكانوا وذلوا، ولم يكن لهم إلى ذلك العهد ملوك، بل رؤساؤهم وقضاتهم رجال الدين، ومن بينهم أنبياؤهم، ومن هؤلاء صموئيل فقد كان قاضيا، ولما كبرت سنه جعل بنيه قضاة، فكانوا من قضاة الجور وأكلة الرّشا، فاجتمع شيوخ بنى إسرائيل الذين عبر عنهم القرآن بالملأ، وطلبوا من صمويل أن يختار لهم ملكا يحكم فيهم كبقية الشعوب الأخرى، فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك واستعبادهم للأمم فألحوا، فألهمه الله أن يختار لهم شاول ملكا. (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) أي كيف يملّك علينا وهو لا يستحق هذا التملك؟ لأن هناك من هو أحق به منه، ولأنه لا يوجد لديه ما يتوقف عليه الملك وهو المال، ولأنه ليس من سلائل الملوك ولا من سلائل النبوّة، وقد كان الملك في سبط يهوذا بن يعقوب لا يتجاوزه إلى غيره ومنهم داود وسليمان، وكانت النبوة في سبط لاوى بن يعقوب، ومنه موسى وهرون. وقد جرت العادة عند الناس أن الملك لا بد أن يكون وارثا للملك أو ذا نسب

شريف يسهل على عظماء الناس أن يخضعوا له، وأن يكون ذا مال كثير يدبر به الملك ولا يأبهون بمعارفه وصفاته الذاتية وفضائله وأخلاقه. من أجل هذا بيّن الله فيما حكاه عن نبيه خطأ هؤلاء القوم في زعمهم أن الملك لا يستحق إلا بالنسب وسعة المال فقال: (قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) أي قال لهم نبيهم: إن الله اختاره ملكا عليكم لما فيه من المزايا الآتية: (1) الاستعداد الفطري وهو في المنزلة الأولى من الأهمية، ومن ثم قدمه. (2) السعة في العلم الذي يكون به التدبير، ومعرفة مواطن ضعف الأمة وقوتها وجودة الفكر في تدبير شئونها. (3) بسطة الجسم وكمال قواه المستلزمة لصحة الفكر، فقد جاء في أمثالهم: العقل السليم في الجسم السليم. وللشجاعة والقدرة على المدافعة والهيبة والوقار. (4) توفيق الله تعالى له بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» . أما المال فليس بلازم في تأسيس الملك، لأنه متى وجدت الأسباب سهل على صاحبها إيجاد المال اللازم لتدبير الملك، فكم في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي وكان استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها كافيا في الاستيلاء عليها، واستعانته بأهل العلم والشجاعة كافيا في تمكين سلطته فيها. (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي والله واسع التصرف والقدرة، إذا شاء أمرا اقتضته حكمته فى نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة، عليم بوجوه الحكمة، فهو يضع لهم من السنن والنظم ما هو في منتهى الإبداع والإتقان، وليس في الإمكان أبدع مما كان.

[سورة البقرة (2) : الآيات 248 إلى 252]

[سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 252] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تفسير المفردات الآية: العلامة، والتابوت: صندوق وضعت فيه التوراة، أخذه العمالقة ثم ردّ إلى بنى إسرائيل وفي سفر تثنية الاشتراع: أن موسى لما أكمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون شاهدا عليكم. ثم كانت حرب بين الفلسطينيين وبنى إسرائيل على عهد عالى الكاهن انتصر فيها الفلسطينيون، وأخذوا التابوت من بنى إسرائيل ونكلّوا بهم تنكيلا، فمات

المعنى الجملي

عالى كمدا، وكان صموئيل أو شمويل قاضيا لبنى إسرائيل من بعده وهو نبيهم الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ففعل، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت الذي أقامه لهم، والسكينة: ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب، وتحمله: أي تحرسه وقد جرت عادتهم بأن من يحفظ شيئا في الطريق ويحرسه يقال إنه حمله، وإن كان الحامل غيره، وفصل بالجنود: أي فصل عن بلده مصاحبا لهم لقتال العمالقة، والجنود: واحدهم جندى وهم العسكر وكل صنف من الخلق كما جاء في الحديث «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها: ائتلف، وما تناكر منها اختلف» والابتلاء: الاختبار والامتحان، والنهر (بسكون الهاء وفتحها) كان بين فلسطين والأردن، والشرب: تناول الماء بالفم من موضعه وابتلاعه دون أن يشرب بكفين ولا إناء، وطعم الشيء: أي ذاقه مأكولا كان أو مشروبا، والغرفة (بالضم) المقدار الذي يحصل في الكف بالاغتراف، والغرف: أخذ الماء بالكف ونحوه، والطاقة: أدني درجات القوة، وجالوت: أشهر أبطال الفلسطينيين أعدائهم، والفئة: الجماعة من الناس قليلا كان عددهم أو كثيرا، والبراز (بالفتح) الأرض المستوية الفضاء، والإفراغ: إخلاء الإناء مما فيه بصبه، وثبات القدم: كمال القوة وعدم التزلزل عند المقاومة، وداود: هو داود ابن يسّى وكان راعى غنم وله سبعة إخوة هو أصغرهم، والحكمة: النبوة وعليه نزل الزبور كما قال: «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» وتعليمه مما يشاء هو صنعة الدروع كما قال: «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» ومعرفة منطق الطير كما قال: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» وفصل الخصومات لقوله: «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» . المعنى الجملي فى هذه الآيات تفصيل لما جرى بين النبي وقومه من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الجملية يبين مصير حالهم.

الإيضاح

الإيضاح (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) أي وقال لهم نبيهم: إن من علامة عناية الله بطالوت عود التابوت إليكم، وفيه ما تطمئن به قلوبكم (وقد كان له عندهم شأن دينى خاص) وفيه بقية من رضاضة الألواح (فتاتها) وعصا موسى وثيابه وشىء من التوراة وأشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهرون، وقد أضيف إلى آل موسى وآل هرون، لأنه قد تناولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت. وفي صدور هذا القول من النبي دليل على أن بنى إسرائيل لم يقنعوا بما احتج به عليهم من استحقاق طالوت للملك للأسباب المتقدمة، ومن ثم جعل لهم علامة أخرى تدل على عناية ربه به. وقد وصف التابوت في كتب بنى إسرائيل بأوصاف هى غاية في الغرابة في كيفية صنعه وجمال منظره، وما تحلّى به من الذهب ودخل في تركيبه من الخشب الثمينة. والسبب في صنعه أن المصريين الوثنيين استعبدوا الإسرائيليين دهرا طويلا، فملكت قلوب بنى إسرائيل عظمة الهياكل الوثنية، وما فيها من الزينة وجمال الصنعة، فأراد الله أن يشغل قلوبهم عنها بمحسوسات من جنسها تنسب إليه وتذكّر به وقد سمى التابوت أولا تابوت الشهادة: أي شهادة الله سبحانه، ثم تابوت الربّ، وتابوت الله. وقد جاء الإسلام بمنع الزخارف والزينة في المساجد وبيوت العبادة، حتى لا بشغل المصلى شىء منها عن مناجاة ربه. ولكن وا أسفا قلّد المسلمون أرباب الملل الأخرى في الزّخرف والنقش في المساجد والمنابر، وأقيمت الأضرحة، ولبس رجال الدين مثل لباسهم، بل سبقوهم في كثير من ذلك، فأصبحت المساجد كأنها هياكل ومعابد للوثنيين، ونسوا أو تناسو

الحكمة التي لأجلها امتنع المسلمون في الصدر الأول عن تجميلها، وفرشها بالطنافس وعمل الحلي فيها، وصدق فيهم ما جاء في الأثر: «لتتّبعنّ سنن من قبلكم باعا فباعا حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه» . (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قيل إن البقرتين اللتين حملتا التابوت وجرّتا العجلة (العربية) من بعض بلاد فلسطين إلى بنى إسرائيل كانتا تسيران مسخّرتين بإلهام الملائكة وحراستهم، ولم يكن لهما قائد ولا سائق. وقد جرت العادة بأن ما يحدث بإلهام ولا كسب فيه للبشر وهو من الخير يسند إلى إلهام الملائكة. وقالوا في سبب إتيان التابوت: إن أهل فلسطين ابتلوا بعد أخذ التابوت بالفيران فى زرعهم، والبواسير في أنفسهم فتشاءموا منه، وظنوا أن إله إسرائيل انتقم منهم، فأعادوه على عجلة تجرها بقرتان، ووضعوا فيه صور فيران وصور بواسير من الذهب، جعلوا ذلك كفارة لذنبهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في مجيء التابوت علامة على عناية الله بكم، واصطفائه لكم هذا الملك الذي ينهض بشئونكم، وينكل بعدوكم، فعليكم أن ترضوا بملكه، ولا تتفرقوا عنه، بل عاونوه يرق بكم إلى مراقى السعادة والفلاح. (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أي فلما خرج طالوت من البلد يصحبه هؤلاء الجند قال لهم هذه المقالة. وقد روى أنهم لما رأوا التابوت لم يشكّوا في النصر، فسارعوا إلى الجهاد، فقال لهم طالوت: لا يخرج معى شيخ ولا مريض، ولا رجل بنى بناء ولم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوج امرأة لم يبن بها، ولا أبتغى إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا (شديد الحر) وسلكوا مفازة فشكوا قلة الماء، وسألوا الله أن يجرى لهم

نهرا، فقال لهم: إن الله سيختبر حالكم ويعلم المطيع منكم من العاصي، والراضي من الساخط، وستقابلون نهرا فمن شرب منه فليس من أشياعى المؤمنين، إلا أن يكون ما يتناوله قليلا وهو غرفة تؤخذ باليد، ومن لم يذقه فهو الذي يوثق به ويركن إليه عند الشدائد. وحكمة هذا الابتلاء أن يختار المطيع الذي يرجى بلاؤه في القتال وثباته حين النزال، ويبعد من يظهر عصيانه، ويخشى في الوغى خذلانه، فطاعة الجيش لقائده من أهم أسباب الظفر، وأحوج القواد إلى ذلك من ولّى على قوم وهم له كارهون. والخلاصة- أن مراتب الاختبار ثلاث: (1) من يشرب فيروى ولا يبالى بمخالفة الأمر، وهذا يتبرّأ منه. (2) من يأخذ بيده غرفة يبلّ بها ريقه، وهو مقبول على ما به من نقص في الجملة. (3) من لا يذوق الماء أبدا، وهذا هو المولى والنصير الذي يوثق باتحاده ويعوّل على جهاده. (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) لأنهم كانوا قد اعتادوا العصيان وفسد بأسهم وتزلزل إيمانهم، ولم يبق فيهم من أهل الإيمان والغيرة على الدين إلا النفر القليل. والقليل من ذوى العزائم الصادقة والنفوس التي أشربت حب الإيمان وامتلأت غيرة عليه- يفعل ما لا يفعله الكثير من ذوى الأهواء المختلفة، والنزعات المتضاربة «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى» . (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي فلما تخطى طالوت النهر هو ومن آمن معه وهم القليل الذين أطاعوه، ولم يخالفوه فيما ندبهم إليه، قال بعض ممن آمن معه من المؤمنين لبعض آخر منهم، وهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، لا قدرة لنا على محاربة جالوت وجنوده، فضلا عن أن يكون لنا الغلب عليهم، لما شاهدوا من كثرتهم وقوتهم، فردّ عليهم الفريق الثاني لوثوقه

بنصر الله وقوة أهل الحق على قلتهم، وخذلان أهل الباطل على كثرتهم، كما حكى الله عنهم. (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) أي قال الذين يستيقنون بلقاء ربهم بالبعث، ويتوقعون ما عنده من الجزاء والثواب: كثيرا ما رأينا الجماعات القليلة غلبت الجماعات الكثيرة حين يكتب الله لهم الترفيق بمشبئته وقدرته، والله لا يذلّ من نصره وإن قلّ عدده، ولا يعزّ من خذله وإن كثرت آلاته وعدده وهذا دليل منهم على ثقتهم بنصر الله وتوفيقه. (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فهو ينصرهم على عدوهم، ويثبتهم عند لقائه، وفي هذا حضّ على الصبر المؤدى إلى الغلبة، والثقة بالله عند الشدائد، ومدلهمات الحوادث، والرجوع إليه إذا فدح الخطب، وعظم الأمر، فهو القادر على النصر والتأييد لمن أخلص له من عباده. (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لأعدائه الفلسطينيين جالوت وجنوده، وشاهدوا ما هم عليه من كثرة العدد والعدد لجئوا جميعا إلى الله يدعونه أن يفرغ على قلوبهم الصبر، ويثبت أقدامهم في القتال، ويملأ نفوسهم ثقة واطمئنانا، وينصرهم على أولئك القوم الكافرين عبدة الأوثان الذين أشربوا حبّ الدنيا وامتلأت قلوبهم بالترهات والأباطيل. ولقد راعوا الترتيب الطبيعي في الدعاء بحسب الأسباب الغالبة، إذ الصبر سبب الثبات، والثبات سبب النصر، وأولى الناس بنصر الله المؤمنون. (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي فاستجاب الله دعاءهم، فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم وانتهى أمرهم بالهرب من المعركة وفاقا لسنته تعالى في نصر أهل الحق المؤمنين الصابرين على أهل الباطل الضالين.

(وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) كان جالوت جبار الفلسطينيين طلب البراز فلم يجرؤ أحد من بنى إسرائيل على مبارزته، حتى جعل طالوت مكافأة لمن يقتله أن يزوجه ابنته ويحكّمه في ملكه، فبرز له داود وكان صغير السن ولم يليس درعا ولم يحمل سلاحا، بل حمل حجارته ومقلاعه الذي كان من عادته أن يقاتل به الذئب والأسد، فسخر منه جالوت وقال: ما خرجت إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة، لأبدّدن لحمك، ولأطعمنّه اليوم للطير والسباع، فرماه داود بمقلاعه، فأصاب الحجر رأسه فصرعه، ودنا منه فاحتزّ رأسه، وجاء به فألقاه بين يدى طالوت، وانهزم من كان معه، وشهر داود بين الناس، وكان له من الصيت والسمعة ما ورث به ملك بنى إسرائيل، وآتاه الله النبوّة وأنزل عليه الزبور وعلّمه صنعة الدروع، ومعرفة منطق الطير، وعلوم الدين وفصل الخصومات كما قال تعالى: «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله إذ كان من أحوالهم أن يبعث الله إليهم نبيا ويملّك عليهم ملكا يأتمر بأمر ذلك النبي، وكان نبىّ هذا العصر شمويل والملك طالوت، فلما توفّيا صار له الملك والنبوة. ثم بين سبحانه الحكمة في الأمر بالقتال الذي استفيد من الآيات السالفة فقال: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي ولولا دفع الله أهل البغي والجور والشرور والآثام بأهل الإصلاح والخير، لغلب أهل الفساد وبغوا على الصالحين، وأوقعوا بهم وصار لهم السلطان فى الأرض. فكان من رحمة الله لعباده وفضله عليهم، أن أذن للمصلحين بقتال البغاة المفسدين وهو سبحانه جعل أهل الحق حربا لأهل الباطل، وهو ناصرهم ما نصروه وأصلحوا فى الأرض. وقد نسب عز اسمه الدفع إلى نفسه، لأنه سنة من سننه في المجتمع البشرى، وعليه بنى نظام هذا العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها

العبرة بهذه القصص

(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي هذه القصص السالفة من حديث الألوف الذين خرجوا من ديارهم، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام الجبابرة، وقتل داود جالوت- آيات الله نقصها عليك على وجه لا يشك فيه أهل الكتاب، إذ هم يجدونه مطابقا لما جاء في كتبهم الدينية والتاريخية فأنت من المرسلين لما دلت عليه هذه الآيات، ولو كنت قد تعلمتها لجئت بها على النهج الذي عند أهل الكتاب أو غيرهم من القصّاص، ولم تشاهد أزمنة وقوعها حتى تراها رأى العين، وقد أشار سبحانه إلى مثل هذه الحجة للدلالة على نبوّته صلى الله عليه وسلم فقال: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» العبرة بهذه القصص (1) إن الأمم إذا سيمت الخسف تتنبه أفكارها إلى دفع الضيم، فتعلم أن لا سبيل إلى ذلك إلا بانضوائها تحت لواء زعيم عادل باسل كما وقع من بنى إسرائيل حين نكل بهم أهل فلسطين. (2) إن أول من يشعر بالحاجة إلى ذلك هم خواصها وأشرافها كما حدث من الملأ من بنى إسرائيل، ثم تنتقل الفكرة من ذلك إلى عامتهم، حتى إذا وصلت إلى حيز العمل نكص ضعفاء العزائم على أعقابهم كما يدل عليه قوله: «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» . (3) إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الملك، ومن ثم لجأ الملأ من بنى إسرائيل إلى نبيهم ليختار لهم ملكا، وقد جاء الإسلام وجعل المرجح اختيار أرباب المكانة في الأمة، وهم أهل الحل والعقد، وعون الحاكم وقوته، لاحترام الأمة لهم وثقتها بهم.

(4) إن الأمم زمن الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة هم أصحاب الجاه والثروة كما يدل على ذلك قول المنكرين لملك طالوت (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) مع أن الأجدر بهذا الاختيار أهل الشرف بمعارفهم وعلومهم وأخلاقهم الفاضلة، ونفوسهم الكريمة. (5) إن الأمم إذا رقيت في علومها ومعارفها وحضارتها اختارت ملوكها من سلائل الملوك والأمراء، وحافظت على قوانين الوراثة، ولم يشذ عن ذلك إلا أصحاب الحكومات الجمهورية التي تختار رئيسها بالانتخاب. (6) إن الظفر لا يتم للقائد إلا إذا أطاعه جنده في كل ما يأمر وينهى، وعلى هذا بنيت قوانين الجندية في العصر الحديث. (7) إن الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة إذا صبرت وثبتت وأطاعت رؤساءها والتجارب والمشاهدة تدل على صدق هذا. (8) إن من سنن الله في خلقه دفع الناس بعضهم بعضا وهو المعبر عنه في العصر الحديث (بنظرية تنازع البقاء) ومن ثم قالوا إن الحرب طبيعية في البشر، إذ بها يبقى الأصلح والأمثل، وإلى هذا يشير سبحانه بقوله: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» أي إن سنة الله أن يقذف زبد الباطل الضار بالمجتمع ويمحوه من الوجود، ويبقى إبليز الحق النافع الذي ينمو فيه عمران العالم، ويحفظ به الخلق من أعاصير الظلم والفساد، حتى يتغلب الخير على الشر، والحق على الباطل، ولا يزال هذا سنة الوجود ما بقي الإنسان على ظهر البسيطة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. ثمّ تصنيف هذا الجزء بمدينه حلوان من أرباض القاهرة في اليوم الثامن والعشرين من جمادى الأولى من سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية.

فهرس أهم المباحث العامة العامة التي في هذا الجزء

فهرس أهم المباحث العامة العامة التي في هذا الجزء الصفحة المبحث 5 الحكمة في توحيد القبلة في الصلاة لجميع المسلمين. 6 شهادة المسلمين على الغلاة في الدين والمفرّطين فيه. 7 كان تحويل القبلة امتحانا لصدق الإيمان أو الريب فيه. 9 الحكمة في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. 13 مقال عبد الله بن سلام لعمر بن الخطاب في اعتقاده أن محمدا نبى حقّا. 21 نعم الله قد تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب. 22 من آثار الصلاة المتقبلة عند الله أنها تنهى عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن. 23 حياة الشهداء حياة غيبية لا ندرك كنهها. 24 ابتلاء الله لعباده المؤمنين بنقص الأموال والأنفس والثمرات. 25 الجزع المذموم هو ما يدعو صاحبه إلى فعل ما ينهى عنه الشرع ويمجه العقل. 27 الأحكام الشرعية شعائر ومعاملات. 28 سمى الله إحسانه إلى عباده شكرا تعويدا لهم الآداب السامية. 29 كتمان الحق ضربان فعلهما اليهود في التوراة. 30 من يرى حرمات الدين تنتهك، ثم لا ينتصر بيد ولا لسان، فقد استحق وعيد الله. 32 الشرك ضربان، شرك في الألوهية وشرك في الربوبية.

الصفحة المبحث 34 بعض ظواهر الكون التي ترشد إلى وحدانيته تعالى. 39 طلب المسببات من أسبابها لا يحظره الدين بل يطلبه. 42 من الأنداد من يتخذ شارعا يحلل ويحرم، ومنهم من يعتمد عليه في دفع الضر وجلب النفع. 45 أبعد الناس عن معرفة الحق هم المقلدون. 46 المقلدون للآباء والأجداد دون أن يفقهوا شيئا كالغنم تسخر لراعيها. 48 الدين الإسلامى وسط في أحكامه يعطى الروح حقه والجسد حقه. 49 ما حرم من الأطعمة وسبب تحريمه. 55 الإيمان بالنبيين يستدعى الاهتداء بهديهم والتأدب بآدابهم. 57 في بذل المال على الفقراء والمساكين مراعاة للتكافل العام بين المسلمين. 58 ما يسمونه بالحيل الشرعية لإبطال الزكاة جناية على الدين بهدم ركن من أركانه. 59 الصبر ألزم في مواطن. 61 عفو الولي عن القاتل أو أخذه الدية منه رخصة عظيمة في الدين. 61 القصاص بالعدل والمساواة هو الذي يربى الشعوب. 65 الوصية للوالدين والأقارب، والوصية للوارث. 66 تبديل الوصية بما فيه الخير للموصى لهم لا مانع منه. 68 فائدة الصوم وسر التشريع فيه 70 الصيام الآن لا يحقق حكمة الشارع فيه 71 الأعذار المبيحة للفطر 72 المؤمنون بالنسبة إلى الصوم أقسام ثلاثة. 73 التطوع في الفدية.

الصفحة المبحث 80 أكل الأموال بالباطل له ضروب وألوان. 84 العلوم التي نحتاج إليها في حياتنا أنواع. 85 شرع قتال المشركين خوف الفتنة في الدين وصدّ الدعوة إلى الحق. 93 الجهاد شامل للجهاد بالنفس والجهاد بالمال. 96 أول حجة حجها المسلمون. 97 الأعذار المبيحة للتحلل من الإحرام. 99 أشهر الحج، وفائدة التوقيت بها. 100 الحكمة في حظر الرفث والفسوق والجدال في الحج. 101 لا حظر في التجارة في الحج إذا لم تكن هى المقصودة. 103 قريش ومن دان دينهم كانوا يترافعون في الجاهلية أن يفيضوا مع الناس. 104 أمر الحجاج بذكر الله بعد قضاء المناسك، وترك التفاخر كما كانوا فى الجاهلية. 105 الناس في ذكر الله فريقان. 107 أمر الحاج بذكر الله في أيام معدودات. 110 المنافق يخدع الناس بضروب من الخدع. 115 بالعدل تحيا الأمم، وبالظلم تموت. 119 الاختلاف والتفرق بين الأمم. 122 الإنسان مدني بالطبع، والاختلاف بين أفراده في آرائهم ضربة لازب. 124 الدين يحث على الوحدة والائتلاف، فالاختلاف فيه بغى وعدوان. 126 الأمم لا تنال رضوان الله إلا بعد تمحيصها بضروب من الابتلاء. 130 أحق الناس بالإنفاق عليهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين. 132 الحكمة في شرع الجهاد في سبيل الله.

الصفحة المبحث 135 الفتنة في الدين شر من القتل. 136 الردّة تحبط الأعمال في الدنيا والآخرة. 138 شرع تحريم الخمر على طريق التدرج لحكمة. 139 الخمر في لسان الشرع اسم لكل مسكر. 139 كيفية الميسر عند العرب. 140 مضار الخمر الصحية والعقلية والمالية، ومضارها في المجتمع 142 مضار الميسر. 145 الحث على صدقة التطوع. 146 التعاون بين الأفراد في النفس والمال ضرورى لرقى الأمم. 149 كل ما فيه صلاح لليتيم فهو خير له. 152 منع الدين التزوج بالمشركات، وأباح التزوج بالكتابيات. 157 الأضرار التي تنشأ من قربان الحائض. 158 حث الدين على الزواج. 161 كفارة اليمين. 164 عدة المطلقة المدخول بها. 167 رفع الدين المرأة إلى درجة لم يرفعها إليها دين سابق. 167 رياسة البيت والقيام بشئونه من حق الرجل. 169 لم يكن للطلاق في الجاهلية حد ولا عدد فأصلح ذلك الإسلام. 171 الحكمة في إثبات حق الرجعة. 174 لا تحل المطلقة ثلاثا لزوجها إلا إذا تزوجت غيره وضاجعها. 179 الرحمة والمودة بين الزوجين. 181 حكم العضل أي منع المرأة من الزواج.

الصفحة المبحث 185 إرضاع الولد واجب على الأم. 187 نفقة الولد واجبة على الأب. 190 عدة المتوفى عنها زوجها. 193 إصلاح الإسلام لعدة المتوفى عنها زوجها. 193 مدة الحداد الواجبة على الزوج. 194 حرمة المواعدة سرّا في عدة الوفاة. 197 الحكمة في وجوب المتعة أو ندبها للزوجة. 205 الأمر بالوصية للأزواج مدة المحول. 205 المطلقات أصناف أربعة. 207 تموت الأمم باحتمالها الضيم والذل. 209 إحياء الأمم يكون بنابتة من أبنائها تسترد المجد الضائع. 210 القتال في سبيل الله. 211 سمى الله إنفاق المال في سبيله قرضا حسنا. 212 الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف. 213 الرجوع إلى الله ضربان. 215 لا يعول إلا على قصص القرآن لا على ما جاء في التوراة والإنجيل. 217 عدم رضا بنى إسرائيل عن تعيين طالوت ملكا عليهم. 218 أسباب اختيار صموئيل له. 221 المسلمون قلدوا من قبلهم في الزخرفة والنقش في المساجد. 223 كيف اختبر طالوت جنوده؟ 225 لولا دفع أهل البغي والجور بأهل الصلاح لفسدت الأرض 226 العبرة من قصص داود وجالوت.

تتمة سورة البقرة

الجزء الثّالث [تتمة سورة البقرة] تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثّالث

[سورة البقرة (2) : آية 253]

بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) المعنى الجملي كان الكلام قبل هذا في بيان سنة الله في خلقه، أن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل، وأنه لا بد أن يقيّض له أعوانا يدافعون عنه، ويكتب لهم الغلبة والفوز مهما كان للباطل من صولة، وقد ضرب لذلك مثل جالوت جبّار الفلسطينيين الذي استولى على ملك بنى إسرائيل واستحوذ على خيرات بلادهم، فقام أولو الرأى فيهم وطلبوا من نبيهم صموئيل أن يختار لهم ملكا يقوم بأمرهم، ويعدّ لهم جيشا يقاوم به

الإيضاح

عدوهم فاختار لهم طالوت ملكا، فجيّش الجيوش وذهب بهم إلى ساحة القتال، وكتب لهم الظفر على العدوّ بإذن الله، وقتل داود- وكان في عسكر طالوت- جالوت وانهزم العدو وولّى الأدبار، وكان الفوز للمؤمنين على الوثنيين الكافرين. وما تمّ هذا إلا بفضل داود الذي آتاه الله الملك والنبوة، وعلّمه كل ما ينفع من عتاد الحرب كالدروع والآلات الأخرى. ثم ذكر بعد هذا أنه لولا فضل الله ورحمته وسابق حكمته بأن يدفع أهل الخير والإصلاح في الأرض أهل الفساد والشرور والآثام فيها لا ختل نظام العالم وفسد أمره. وبعدئذ ذكر أن ذلك القصص الذي تلاه على رسوله قصص أمم قد خلت لم يكن له سابق علم بحالها من قبل، فمعرفته إياها لم تكن إلا بوحي من لدن حكيم خبير، وهذا دليل على أنه من المرسلين. وهنا ذكر أن أولئك المرسلين قد ميز الله بعضهم على بعض، فآتى بعضا مزايا ومناقب ليست لغيره كما فصل ذلك في الآية الكريمة، وقد خص بالذكر من بقي لهم أتباع، وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال. الإيضاح (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي هؤلاء الرسل المشار إليهم بقوله: «وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» فضلنا بعضهم على بعض في مراتب الكمال، فخصصناه بمآثر جليلة خلا عنها غيره، مع استوائهم جميعا في اختياره تعالى لهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة. وخلاصة هذا- إنهم كلهم رسل الله، فهم جديرون أن يقتدى بهم ويهتدى بهديهم، وإن امتاز بعضهم عن بعض بخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم. ثم بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال:

(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام، كما قال تعالى في سورة النساء «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» وفي سورة الأعراف «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ» وفي الآية بعدها «قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي» (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل بمراتب متباعدة في الكمال والشرف، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن جرير عن مجاهد، ويؤيده السياق أيضا، فإن الكلام في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل، والتشنيع عليهم في اختلافهم واقتتالهم، مع أن دينهم واحد في جوهره، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر وقد ذكر موسى أولا وعيسى آخرا ومحمدا في الوسط، إشعارا بأن شريعته وأمته وسط. ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في أخلاقه الشريفة كما يرشد إلى ذلك قوله فى سورة القلم «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ومنها ما هو في كتابه وشريعته كما يدل على ذلك قوله في فضل القرآن «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» وقوله: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» . ومنها ما هو في أمته الذين اتبعوه وعضوا على دينه بالنواجذ كما قال: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» . ولو لم يؤت من المعجزات إلا القرآن وحده لكفى به فضلا على سائر ما أوتى الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات، وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبىّ من الأنبياء إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن

على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . وروى عنه أنه قال: «فضّلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لى الغنائم، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» . (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البينات هى ما يتبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال: «وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ» وأيدناه: أي قوّيناه، وروح القدس هو روح الوحى الذي يؤيد الله به رسله كما قال للنبى صلى الله عليه وسلم «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» . وخصّ عيسى بإيتاء البينات تقبيحا لإفراط اليهود في تحقيره، إذ أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من البينات القاطعة الدالة على صدقه، ولإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه من مرتبة الرسالة وزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ، وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) قوله: من بعدهم أي من بعد الرسل من الأمم المختلفة، أي ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل الذين جاءوا بالحق من ربهم، وقوله من بعد ما جاءتهم البينات: أي من بعد ما جاءهم الرسل بالمعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم، والزاجرة عن الإعراض عن سننهم، وقوله: ولكن اختلفوا: أي إنه لم يشأ عدم اقتتالهم، لأنهم اختلفوا اختلافا كبيرا، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل، ومنهم من كفر بذلك كفرانا لا أمل معه في هداية. وإيضاح هذا أن الله جعل للإنسان عقلا يتصرف به في أنواع شعوره، وفكرا يجول به في طرق معيشته ومعرفة ما يصلح له في شئونه النفسية والبدنية، وجعل ارتقاءه

فى إدراكه وأفكاره كسبيا، فهو ينشأ ضعيف الإدراك ثم يقوى بالتربية والتعليم وتجارب السنين، كما جعل هداية الدين له أمرا اختياريا يأخذ منها بقدر استعداده وفكره كما هو شأنه في الاستفادة من منافع الكون، وهذا هو منشأ الاختلاف. ولو شاء الله أن يجعل الدين من إلهاماته العامة، وشعوره الفطري كشعور الحيوان وإلهامه لكان الناس في هدايته سواء يسعدون به أجمعين، فتمنعهم بيناته أن يختلفوا فيقتتلوا، لكنه خلق الإنسان على غير ما عليه الحيوان، وكان هذا سبب اختلاف أهل الأديان، فمنهم من آمن إيمانا صحيحا فأخذ الدين على وجهه وفهمه حق فهمه، ومنهم من حكّم هواه في تأويله فكان كافرا به في الحقيقة، وهذا هو منشأ التخاصم، وسبب التنازع والقتال، وقد اختلف اليهود في دينهم فاقتتلوا، والنصارى كانوا أشد منهم في ذلك، فتفرقوا طرائق قددا، وكان أهل المذهب الواحد يتشعبون شعبا يقاتل بعضها بعضا. وقد نهى الله المسلمين عن مثل هذا الخلاف، وأمرهم بالاتحاد والوئام، فامتثلوا أمره فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وزمنا قليلا بعده فكانوا خير أمة أخرجت للناس، ثم تفرّقوا في الدين مذاهب واقتتلوا فيه، وما زالت الحال تتفاقم حتى صاروا أبعد الأمم عن الاتفاق والائتلاف. وقد جرت سنة الله بأن أهل الدين الواحد يقاتل بعضهم بعضا باسم الدين، ولحماية الدين من طغيان الملحدين، ولله في خلقه شئون. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي ولو شاء الله أن يعذر بعض المختلفين بعضا، ويقتصر كل فريق على الانتصار لرأيه بالحجة- لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه، لكنه أودع فى غرائزهم النضال عن مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول أو فعل، فمنهم من يقارع الحجة بالحجة، ومنهم القوىّ الذي يقاوم بالسيف، فكان الاختلاف في الرأى والمصالح مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة. (وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أي إن اختصاص الناس بهذه المزايا أثر من آثار

[سورة البقرة (2) : آية 254]

إرادته تعالى فلا مرد له، فإن أراد الله التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه. [سورة البقرة (2) : آية 254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) تفسير المفردات المراد باليوم هنا يوم الحساب، لا بيع فيه: أي لا فداء فيتدارك المقصّر تقصيره، ولا خلّة: أي ولا صداقة ولا مودة بنافعة، والمراد بالكافرين تاركو الزكاة، والظالمون: هم الذين وضعوا المال في غير موضعه وصرفوه في غير وجهه. المعنى الجملي كان الكلام قبل هذا فيما كان من الرسل، ومن أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال- وهنا عاد إلى الأمر بالإنفاق بأسلوب آخر غير ما تقدم، فالأول كان خطابا بالترغيب لمن لطف وجدانه وشعوره، وبلغ في مراتب الكمال منازل الصديقين، ولكن الأكثرين من الناس يفعل في نفوسهم الترهيب أكثر مما يفعل فيهم الترغيب، فهم لا ينفقون في سبيل الله إلا خوفا من العقاب، أو طمعا في الثواب، وقد يجول بخاطر بعض الضعفاء أن يركنوا إلى شفاعة تغنى عن العمل، أو فدية تقى صاحبها عاقبة ما كان منه من الزلل، أو خلة بها يسامح صاحب الكبيرة مما ألمّ به من الخطل- فمثل هؤلاء يخاطبون بنحو ما في هذه الآية. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) الإنفاق هنا يشمل الإنفاق الواجب بالزكاة، والإنفاق المستحب أيضا.

ذاك أنه إذا اضطرب حبل الأمن في الأمة، أو انتشر المرض في أبنائها، أو كثر الجهل في أفرادها، ولا سبيل لدرء هذا إلا ببذل المال- وجب على الأغنياء أن يبذلوه لدفع هذه المفاسد، وإزالة هذه الطوارئ لحفظ المصالح العامة. وفي قوله «مِمَّا رَزَقْناكُمْ» حث على الإنفاق وإشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه. وقوله «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ... » إلى آخره أي من قبل أن يأتي يوم الحساب الذي لا يفدى فيه مقصّر بمال، ولا تنفع فيه الصداقة، ولا تجدى الشفاعة. وخلاصة ذلك- إن الإنفاق في سبيل البر هو الذي ينجيكم في ذلك اليوم الذي لا ينجّى فيه الأشحة الباخلين من عذاب الله فداء يفتدون به أنفسهم، ولا خلة يحمل فيها الخليل شيئا من أوزار خليله، أو يهبه شيئا من حسناته، ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع فيما أراده الله، فيحولها عن مجازاة الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة، المستحق للمقت والعقوبة بما دنّس به نفسه في الدنيا ودسّاها به من المعاصي والآثام، ويجعله يترك عقوبته مرضاة له. ونحو الآية قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» . وفي الآية إيماء إلى أن أمور الآخرة لا تقاس على ما هو حاصل في الدنيا، فلا يظن امرؤ أنه ينجو فيها بفداء يفتدى به أو شفاعة تناله من النبيين والربانيين كما كانت فى الدنيا تناله من الأمراء والسلاطين، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق منّاعا للخير معتديا أثيما. (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم، إذ وضعوا المال في غير موضعه، وصرفوه في غير وجهه، وقد سماهم الله كافرين تغليظا وتهديدا كما قال في آخر آية الحج «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» مكان

ومن لم يحج، وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار كقوله: «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» . ذاك أن العلة في منع الزكاة ونحوها من النفقات الواجبة، أن حب المال أعلى فى قلب المانع من حب الله تعالى، وشأنه أعظم في نفسه من حقوقه عز وجل، والنفس تدعن دائما لما هو أرجح لديها نفعا، وأعظم في وجدانها وقعا. وظلم الباخل بفضل ماله على ملهوف يغبثه، أو مضطر يكشف ضرورته، أو على المصالح العامة التي تقى أمته مصارع السوء، أو ترفع من قدرها، أو تزيل العقبات من طريقها- من أقبح أنواع الظلم، فلا يعذر صاحبه بوجه من الوجوه التي يتعلل بها سواه ممن ظلموا أنفسهم. وإن حال المسلمين اليوم لتوجب الأسى والحزن، فترى أغنياءهم يعرفون حاجة أمتهم إلى بذل المال في إنشاء دور العلم، لينشلوها من بحار الجهل التي هى غارقة فيها وإلى رفع مستوى أخلاقها التي وصلت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، حتى عمّ الفقر والشقاء، ثم هم بعد ذلك يبخلون بفضلة مما أعطاهم الله من رزقه، لتكون بلسما تداوى به تلك النفوس المكلومة، وعلاجا لهذه الأمراض التي انتابتها. ومثل هؤلاء لا يستحقون أن ينسبوا إلى الإسلام، ولا أن يكونوا من المسلمين، إذ ليس في أحدهم عرق ينبض أو يتألم لمصايب المسلمين، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل، وهو أرجح من رضوان ربه، فهو كافر بنعمته وإن سمى نفسه مؤمنا، فما إيمانه إلا كإيمان من نزل فيهم «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» . وقد أنذر الله مثل هؤلاء بقوله: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» .

[سورة البقرة (2) : آية 255]

[سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) تفسير المفردات الله هو المعبود بحق، والعبادة استعباد الروح وإخضاعها لسلطة غيبية لا تحيط بها علما، ولا تدرك كنهها وحقيقتها، وكل ما ألّهه البشر من جماد ونبات وحيوان وإنسان، فقد اعتقدوا فيه هذا السلطان الغيبى استقلالا أو تبعا لسواه، والحي هو ذو الحياة، والحياة هى مبدأ الشعور والإدراك والحركة والنمو، وهى بهذا المعنى مما يتنزه عنها الله سبحانه، فالمراد بها بالنسبة إليه تعالى الوصف الذي يعقل معه الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة، والقيوم القائم على حلقه بتدبير آجالهم وأعمالهم وأرزاقهم كما قال تعالى «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» والأخذ: الغلبة والاستيلاء، والسّنة: النعاس، وهو فتور يسبق النوم، قال عدىّ بن الرقاع: وسنان أقصده النّعاس فرنّقت ... فى عينه سنة وليس بنائم والنوم: حال تعرض للحيوان بها تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس والشعور، والكرسي: هو العلم الإلهى، وآده الشيء: يئوده إذا أثقله ولحقه منه مشقة، والعلىّ: هو المتعالي عن الأشباه والأنداد، والعظيم: هو الكبير الذي لا شىء أعظم منه. المعنى الجملي أمرنا سبحانه قبل هذا بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، ولا يغنى مال يعطى فدية عن العاصين، ولا تنفع صداقة لدي الرؤساء

الإيضاح

وذوى الثراء كما كانت تجدى في الدنيا نفعا، وبها تحلّ كل مهمة- هنا انتقل إلى تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه حتى يستشعر العبد عظيم سلطانه، ووجوب الطاعة لأمره، والإذعان لحكمه، والوقوف عند حدوده، وبذل المال في سبيله، وعدم الركون إلى شفاعة الشافعين ولا الفدية بمال ولا بنين. الإيضاح (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أي الإله الحق الذي يستحق أن يعبد هو الله الواحد الصمد، ذو الملك والملكوت، الحي الذي لا يموت، القائم بتدبير أمر عباده، يكلؤهم ويحفظهم ويرزقهم. (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) أي لا يعتريه نوم ولا مقدماته، وإذا كان كذلك كان قائما بتدبير شئون عباده في جميع الأوقات آناء الليل وأطراف النهار. وقد جاء النظم الكريم بحسب الترتيب الطبيعي في الوجود، فنفى ما يعرض أولا وهو السّنة، ثم ما يتبعها وهو النوم، وبعبارة أخرى- هو ترقّ في نفى النقص عنه، فإن من لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى، فذكر النوم بعد السنة ترقّ من نفى الأضعف إلى نفى الأقوى. والخلاصة- إن هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، مقررة لمعنى الحياة والقيومية على أتمّ وجه، إذ من تأخذه السنة والنوم يكون ضعيف الحياة، ضعيف القيام بشئون نفسه، وبشئون غيره. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكل من فيهما وما فيهما ملكه وعبيده، خاضعون لمشيئته، وهو المصرف لشئونهم والحافظ لوجودهم. وهذه الجملة تأكيد ثان لقيوميته واحتجاج بها على تفرده في الألوهية. لأنه تعالى خلقهما بما فيهما. (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي من ذا الذي يستطبع من عبيده

أن يغيّر ما مضت به سنته، وقضت به حكمته، وأوعدت به شريعته، من تعذيب ذوى العقائد الباطلة، والأخلاق السافلة الذين أفسدوا في الأرض، وانحرفوا عن جادة الدين إلا إذا أذن له ربه، ونحو هذا قوله. «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ» . وهذا تمثيل لانفراده بالملك والسلطان في ذلك اليوم، وأن أحدا من عباده لا يجرؤ على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه- وإذنه غير معروف لأحد من خلقه- وفي ذلك قطع لأمل الشافعين، والذين يركنون إلى الشفاعة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم أمور الدنيا التي خلفوها، وأمور الآخرة التي يستقبلونها. وهذه الجملة مؤكدة لنفى الشفاعة، إذ من كان عالما بكل شىء فعله العباد في الماضي وفيما هو حاضر بين أيديهم وفيما يستقبلهم، وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم، كانت الشفاعة على هذا النحو المعروف، مما يستحيل عليه تعالى، لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له وما يستحقه ما لم يكن يعلم. وما ورد من أحاديث الشفاعة، فهو محمول على الدعاء الذي يفعل الله تعالى عقبه ما سبق في علمه الأزلى أنه سيفعله، مع أنا نقطع بأن الشافع لا يغيّر شيئا من علمه، ولا يحدث تأثيرا في إرادته، وبذلك تظهر كرامة الله لعبده بما أوقع من الفعل عقب دعائه، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية. (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) أي إن أحدا من خلقه لا يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء ذلك، والشفاعة تتوقف على إذنه تعالى، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه، وإنما يعرف إذنه تعالى بما حدده من الأحكام في كتابه، فمن بيّن أنه مستحق لعقابه، فلا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة، ومن بيّن أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألمّ بها

لم تحوّل وجهه عن الله تعالى إلى الباطل والفساد، ولم تدسّ روحه حتى تسترسل فى الخطايا، فهو واصل إليه على ما وعد به في كتابه وما تفضل به على عباده. (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي إن علمه تعالى محيط بما يعملون مما عبر عنه بقوله: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات، ويرى جمع من المفسرين منهم القفال والزمخشري أن الكلام تصوير لعظمته وتمثيل لكبريائه، ولا كرسىّ ولا قيام ولا قعود، وقد خاطب سبحانه عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم. والخلاصة- إن الكرسي شىء يضبط السموات والأرض، نسلم به بدون بحث فى تعينه، ولا كشف عن حقيقته، ولا كلام فيه بالرأى دون نص عن المعصوم. (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي ولا يثقله حفظ هذه العوالم بما فيها، ولا يشق عليه ذلك، وإنما لم يذكر ما فيهما، لأن حفظهما مستتبع لحفظه. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أي وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه، العظيم على كل شىء سواه، فهو المنزّه بعظمته عن الاحتياج إلى من يعلمه بحقيقة أحوالهم، أو يستنزله عما يريد من مجازاتهم على أعمالهم. والخلاصة- إن هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله، حتى لا تدع موضعا للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون ويتكلون على شفاعتهم، فأوقعهم ذلك فى ترك المبالاة بالدين، فخويت القلوب من ذكر الله، وخلت من خشيته جهلا منها بما يجب من معرفته، وأفسدت فطرتهم الأهواء والجهالات، فلا يجدون ما يلهون به إلا كلمة (الشَّفاعَةَ) ومن اغترّ بها فشيطانه هو الذي يوسوس له، ويمده في الغى. فهذه النفوس لم تعرف عظمة الله، ولم تستشعر بالحياء منه، ولم تحترم دينها وشريعتها، إذ آية ذلك بذل المال والروح في إعلاء كلمته، لا تعظيمه بالقول دون أن بصدق ذلك العمل.

[سورة البقرة (2) : الآيات 256 إلى 257]

وإنك لترى المسلمين يترنمون بهذه الآيات، وقلّما تحدث لأحد منهم ذكرا يصرفه عن الشفاعات، ويرجو النجاة بعمل الصالحات وهو مؤمن كما وعد الله بذلك في كتابه، وقد حذوا حذو أهل الكتاب من قبلهم، واتكلوا في نجاتهم على شفاعة سلفهم، وتركوا المبالاة بالدين. [سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) تفسير المفردات لا إكراه في الدين: أي لا إكراه في دخول الدين، وبان الشيء واستبان: وصح وظهر، ومنه المثل: تبيّن الصبح لذى عينين، والرشد: بالضم والتحريك، والرشاد: الهدى وكل خير، وضده الغى، والجهل كالغى إلا أن الأول في الاعتقاد، والثاني فى الأفعال، ومن ثم قيل زوال الجهل بالعلم، وزوال الغى بالرشد، والطاغوت: من الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الشيء، ويجوز تذكيره وتأنيثه وإفراده وجمعه بحسب المعنى كما قال تعالى: «أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» وقال: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» والعروة من الدلو والكوز ونحوهما: المقبض الذي يمسك به من يأخذهما، والوثقي: مؤنث الأوثق، وهو الحبل الوثيق المحكم، والانفصام. الانكسار أو الانقطاع، من قولهم فصمه فانفصم أي كسره أو قطعه، والولي: الناصر والمعين، والظلمات: هى الضلالات التي نعرض للإنسان في أطوار حياته،

المعنى الجملي

كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين فتصدّ عن النظر فيه أو تحول دون فهمه، والإذعان له كالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله وصرفه عن وجهه والشهوات التي تشغل عنه. المعنى الجملي كان الكلام قبل هذا في تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه وانفراده بالملك والسلطان في السموات والأرض، وبيان أن علمه محيط بكل شىء وأنه العلى العظيم. والكلام هنا في بيان أن الاعتقاد بهذا أمر تهدى إليه الفطرة، وترشد إليه المشاهدات الكونية، فأماراته واضحة، والنّصب عليه جلية لا لبس فيها ولا إبهام، فمن هدى إليه فقد فاز بالسعادة، ومن أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وسبب نزول الآية ما رواه ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا من الأنصار يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلما، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما؟ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل الله الآية، وفي بعض الروايات أنه حاول إكراههما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله: أيدخل بعضى النار وأنا أنظر، فنزلت فخلّاهما. الإيضاح (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أي لا إكراه في الدخول فيه، لأن الإيمان إذعان وخضوع، ولا يكون ذلك بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالحجة والبرهان. وكفى بهذه الآية حجة على من زعم من أعداء الدين، بل من أوليائه، أن الإسلام ما قام إلا والسيف ناصره، فكان يعرض على الناس، فإن قبلوه نجوا، وإن رفضوه حكم فيهم السيف حكمه.

والتاريخ شاهد صدق على كذب هذا الافتراء، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام حين كان النبي يصلى مستخفيا والمشركون يفتنون المسلمين بضروب من التعذيب، ولا يجدون زاجرا حتى اضطر النبي وصحبه إلى الهجرة؟ أو كان ذلك الإكراه في المدينة بعد أن اعتز الإسلام؟ وقد نزلت هذه الآية في مبدأ هذه العزة، فإن غزوة بنى النضير كانت في السنة الرابعة للهجرة، اللهم لا هذا ولا ذاك. هذا، وقد كان معهودا عند بعض الملل ولا سيما النصارى إكراه الناس على الدخول فى دينهم. ثم أكد عدم الإكراه بقوله: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) أي قد ظهر أن في هذا الدين الرشد والفلاح، وأن ما خالفه من الملل الأخرى غىّ وضلال. ثم فصل ذلك فقال: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) أي فمن يكفر بما تكون عبادته والإيمان به سببا في الطغيان والخروج عن الحق من عبادة مخلوق، إنسانا كان أو شيطانا أو وثنا أو صنما، أو تقليد رئيس، أو طاعة هوى، ويؤمن بالله فلا يعبد إلا إياه، ولا يرجو شيئا من أحد سواه، ويعترف بأن له رسلا أرسلهم للناس مبشرين ومنذرين بأوامره ونواهيه التي فيها مصلحة للناس كافة- فقد تحرى باعتقاده وعمله أن يكون ممسكا بأوثق عرا النجاة، وأمتن وسائل الحق، وإنما يكون ذلك بالاستقامة على الطريق القويم الذي لا يضل سالكه، فمثله مثل الممسك بعروة الحبل المحكم المأمون الانقطاع لدى حمل جسم كبير ثقيل. ثم أتى بما يفيد الترغيب والترهيب فقال: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لأقوال من يدعى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، عليم بما يكنه قلبه مما يصدق هذا أو يكذبه، فمن اعتقد أن جميع الأشياء مسيرة بقدرة الله لا تأثير فيها لأحد سواه، فهو المؤمن حقا وله الجزاء الأوفى، ومن انطوى قلبه

على شىء من نزعات الوثنية، ونسب ما جهل سره من عجائب الخلق إلى قوة غير طبيعية يتقرب بها إلى الله زلفى، فقد حق عليه العذاب، وكان جزاؤه جزاء الدين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين. وجاء بمعنى الآية قوله: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟» . وقد جعل المسلمون قوله: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أسّا من أسس الدين، وركنا عظيما من أركان سياسته، فلم يجيزوا إكراه أحد على الدخول فيه، كما لم يجيزوا لأحد أن يكره أحدا على الخروج منه. وإنما يتم ذلك إذا كانت لنا المنعة والقوة التي نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتتنا فيه أو الاعتداء علينا، وقد أمرنا الله بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل المخالفين بالتي هى أحسن مع حرية الدعوة وأمن الفتنة. وإنما فرض علينا الجهاد ليكون سياجا ووقاية لصدّ من يقاوم هذه الدعوة، ويمنع نشر هذا النور في أرجاء المعمورة، وكف شر الكافرين عن المؤمنين، كيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن يتمكن الإيمان من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك في مكة جهرا، ومن ثم قال سبحانه: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي حتى يكون الدين كله خالصا لله غير مزعزع ولا مضطرب، ولن يكون كذلك إلا إذا كفّت الفتن عنه وقوى سلطانه حتى لا يجرؤ على أهله أحد. والفتن تكفّ بأحد أمرين: (1) بإظهار المعاندين الإسلام ولو باللسان، وبدا لا يكونون من خصومنا ولا يناصبوننا العداء، ولا يمنعون أحدا من الدعوة إليه. (2) بقبول الجزية وهى جزء من المال يؤخذ من أهل الكتاب جزاء حمايتنا لهم بعد أن يخضعوا لنا فنكفى شرهم.

(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إن المؤمن لا ولىّ له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى، فهو يهديه إلى استعمال ضروب الهدايات التي وهبها له (الحواس والعقل والدين) على الوجه الصحيح، وإذا عرضت له شبهة لاح له شعاع من نور الحق يطرد هذه الظلمة حتى يخلص منها كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» . فنظر الحواس في الأكوان وإدراكها ما فيها من بديع الإتقان ينير هذه الحواس، ونظر العقل في المعقولات يزيده نورا على نور، والنظر فيما جاء به الدين من الآيات يتمم له ما يصل به إلى أوج سعادته ومنتهى فوزه وفلاحه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) أي والكافرون لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة التي تسوقهم إلى الطغيان، فإن كانت من الأحياء الناطقة ورأت أن عابديها قد لاح لهم شعاع من نور الحق نبههم إلى فساد ما هم فيه- بادرت إلى إطفائه وصرفه عنهم بإلقاء حجب الشبهات، وإن كانت من غير الأحياء فسدنة هياكلها وزعماء حزبها لا يقصّرون في تنميق هذه الشبهات، ببيان أن الواجب الاعتقاد بتلك السلطة وبما ينبغي لأربابها من التعظيم، وهو لا شك عبادة وإن سموه توسلا أو استشفاعا أو غير ذلك من الأسماء. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فإن ما يكون في الآخرة ما هو إلا جزاء لما كان عليه الإنسان في الدنيا، ولا يليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحق مكان فى نفوسهم إلا تلك الدار التي وقودها الناس والحجارة. ونحن لا نبحث عن حقيقتها، وإن كنا نعتقد مما جاء فيها من نصوص الدين أنها دار شقاء وعذاب، جزاء ما قدمته أيدى العاصين من سيئ أعمالهم.

[سورة البقرة (2) : آية 258]

[سورة البقرة (2) : آية 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) تفسير المفردات الاستفهام للتعجيب والإنكار، وحاجّ جادل وقابل الحجة بالحجة، فبهت: أي صار مبهوتا دهشا وأخذه الحصر من سطوع نور الحجة فلم يجد جوابا، الظالمين: أي المعرضين عن قبول الهداية بالنظر في الدلائل القاطعة التي توصل إلى معرفة الحق. المعنى الجملي بعد أن أثبت فيما سلف أن الله ولىّ الذين آمنوا، وأن الطاغوت ولىّ الكافرين ضرب هنا مثلا يؤيد تلك القضية ويكون شاهدا على صدقها ودليلا على صحتها، فبيّن أن إبراهيم كيف وفقه الله وتولاه بولايته إلى الحجج القيمة التي أزال بها تلك الشبهات التي عرضها عليه خصمه حتى فاز عليه وفلج بحجته، وأن الذي حاجّه كيف عمى عن نور الحق، فانتقل من ظلمة من ظلمات الشكوك والأوهام إلى أخرى، وتردّى في مهاوى الهلاك بولاية الطاغوت له. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) أي ألم ينته إلى علمك الذي يبلغ مرتبة اليقين قصص ذلك الملك الذي تجبر وادعى الربوبية، وعارض إبراهيم في ربوبية ربه- ويقال إنه نمروذ بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام. (أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) أي إن الذي أورثه الكبر والبطر، وحمله على الإسراف فى الغرور والإعجاب بقدرته حتى حاجّ إبراهيم- هو إيتاء الله إياه الملك. ثم بين تفصيل تلك المحاجة فقال:

(إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هذا جواب من إبراهيم حين كسر الأصنام التي تعبد من دون الله، وسفّه أحلام عابديها، فسأله نمروذ عن ربه الذي يدعو إلى عبادته قال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) . فأنكر الملك الطاغية هذا الجواب. و (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أي أنا أحيى من حكم عليه بالإعدام بالعفو عنه، وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله. وهذا الإنكار من ذلك الملك الجبار يدل على أنه لم يفهم قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فإن الحياة في جوابه بمعنى إنشاء الحياة في جميع العوالم الحية من نبات وحيوان وغيرها، وإزالة الحياة بالموت- وفي جواب نمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة، من أجل هذا أوضح إبراهيم جوابه كما حكى سبحانه عنه. (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي إن ربي الذي يعطى الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته، هو الذي يطلع الشمس من المشرق، فهو المكوّن لهذه الكائنات على ذلك النظام البديع، والسنن الحكيمة التي نشاهدها، فإن كنت تستطيع أن تفعل كما يفعل، فغيّر لنا شيئا من هذه النظم، فالشمس تطلع من المشرق فحوّلها وائت بها من المغرب. (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي فدهش ولم يجد جوابا، وكأنما ألقمه حجرا. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يهدى من أعرض عن قبول الهداية، ولم ينظر في الدلائل التي توصل إلى معرفة الحق ويستسلم للطاغوت، ويترك ما أعطاه الله من الفهم، اتباعا لهواه وشهواته التي تزين له ما هو فيه، وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضلّ صلالا بعيدا.

[سورة البقرة (2) : آية 259]

[سورة البقرة (2) : آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) تفسير المفردات القرية: الضيعة، والمصر: الجامع، وقد أبهم الله القرية فلم يذكر مكانها ولا المارّ عليها، بل اقتصر على موضع العبرة، وما به تقوم الحجة ولم يعن بما فوق ذلك حتى لا يشغل القارئ أو السامع به، ومن ثم اختلف المفسرون فيها فمن قائل إنها بيت المقدس وإن المار عليها هو عزير بن شرخيا، ومن قائل هى دير هرقل على شط دجلة والمار هو أرميا من سبط هارون عليه السلام، وخاوية: أي ساقطة من خوى البيت إذا سقط، والعروش: واحدها عرش وهو سقف البيت وكل ما هيئ ليستظل به، والمراد منه أن العروش سقطت أوّلا ثم سقطت الحيطان عليها، وأنى: بمعنى كيف، والحياة هنا العمران، والموت: الخراب، وأماته: أي جعله فاقدا للحس والحركة والإدراك بدون أن تفارق الروح البدن بتاتا مثل ما حدث لأهل الكهف، والبعث: الإرسال من بعثت الناقة إذا أطلقتها من مكانها، وعبر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنه عاد كما كان أوّلا حيا عاقلا مستعدا للنظر والاستدلال، وقد دلت تجارب الأطباء في العصر الحديث على أن من الناس من يبقى حيا زمنا طويلا لكنه يكون فاقد الحسّ والشعور، وهو المسمى لديهم بالسبات وهو النوم المستغرق ويستعمله أهل الرياضيات في الهند، فقد شوهد شاب قد نام نحو شهر ثم أصيب بدخل في عقله، وآخرون ناموا أكثر من ذلك، ومتى ثبت هذا فالذى يحفظ الأجسام مثل هذه المدة قادر أن يحفظها مائة سنة وثلاثمائة سنة، فهذا من الممكنات لا من المستحيلات وقد تواتر به النص فيجب التسليم به، والتجارب التي

المعنى الجملي

عملت تقرب بيان إمكانه من أذهان الذين يعسر عليهم أن يميزوا بين ما هو مستبعد لعدم إلفه في مجرى العادة، وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته، ولم يتسنه: أي لم يتغير ولم يفسد، من قولهم تسنه الشيء مرت عليه السنون والأعوام، وآية: علامة دالة على قدرة الله، وننشزها: أي نرفعها من الأرض ونردها إلى أماكنها من الجسد. المعنى الجملي بعد أن ذكر محاجة إبراهيم لذلك الكافر وإلزامه الحجة، بإثباته أن لهذا الكون إلها قادرا على كل شىء، واحدا لا شريك له في الملك والتدبير، ذكر هنا ما يدل على إثبات البعث والنشور، ويرشد إلى هداية الله للمؤمنين، وإخراجهم من ظلمات الشبه إلى نور اليقين، ولا غرابة في وقوع الشبهة للمؤمن ثم طلبه المخرج منها بالدليل والبرهان، فيهديه الله بما له من الولاية والسلطان على نفسه، ويخرجه من الحيرة التي تعرض له إلى الطمأنينة التي تثلج قلبه وتملؤه بردا ويقينا. الإيضاح (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي أرأيت مثل الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها، أي ما رأيت مثله فتعجب منه، لأن حاله بلغت من الغرابة حدّا لا يرى لها مثل. (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها) أي قال: كيف يعمر الله هذه القرية بعد حرابها؟ ومراده بذلك استبعاد عمرانها بالبناء والسكان بعد أن خربت وتفرّق أهلها. (فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أي فجعله الله فاقد الحسّ والحركة دون أن تفارق الروح البدن، ثم أعاده إلى ما كان عليه أوّلا. (قالَ كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى

طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي قال له بعد مبعثه كم يوما لبثت يا عزير؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم بناء على ظنه وتخمينه، فقال له: ما لبثت هذا المقدار؟ بل لبثت مدة. متطاولة. ومع ذلك لم يلحق طعامك وشرابك تغيّر مما تجرى العادة بمثله حين مرور الزمان وتطاول الأعوام. والقصد من السؤال إظهار عجزة عن الإحاطة بشئونه تعالى، وليطّلع أثناء ذلك على بدائع قدرته بإبقاء الغذاء الذي لم يتسارع إليه الفساد مع مضى الزمن الطويل، وليعلمه أن إحياءه كان بعد مدى طويل، وبذا يزول من نفسه الاستبعاد الذي خطر على باله أولا. (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف نخرت عظامه، وتقطعت أوصاله وتمزقت، ليستبين لك طول لبثك، وتطمئن بذلك نفسك. (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك وإحياء حمارك، وحفظ ما معك من الطعام والشراب، ليزيل تعجبك، ونريك آياتنا في نفسك وطعامك وشرابك، ولنجعلك آية للناس. أما كونه آية له فواضح، وأما كونه آية للناس فلأن علمهم بموته مائة عام ثم بحياته بعد ذلك يكون من أكبر الآيات التي يهتدى بها من يشاهدها، إلى كمال قدرة الله وعظيم سلطانه. وبعد أن أراه الآية التي تكون حجة على من رآها في قوله: (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) نبهه إلى الدليل الذي يحتج به على إمكان البعث في كل مكان وزمان، وهو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه فقال: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أي إن القادر على أن يكسو هذه العظام لحما ويمدها بالحياة ويجعلها أصلا لجسم حى- قادر على أن يعيد الخصب والعمران للقرية، وكذلك القادر على الإحياء بعد لبث مائة سنة قادر على الإحياء بعد لبث الموتى آلاف السنين، فبعض أفعاله تعالى يشبه بعضا.

[سورة البقرة (2) : آية 260]

وخلاصة ذلك- إننا كما أطلعناك على بعض آياتنا الخاصة الدالة على قدرتنا على البعث، نهديك إلى الآية الكبرى الدالة على كيفية التكوين، وبمثل هذا يحتج القرآن في مثل قوله: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» وفي قوله: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» وفي قوله: «فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً» . (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فلما ظهر له إحياء الميت عيانا قال: أعلم علما يقينيّا مؤيدا بآيات الله في نفسى وفي الآفاق، أن الله على كل شىء من الأشياء التي من جملتها ما شاهدته، قدير لا يستعصى عليه أمر. [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) تفسير المفردات فصرهن: أي ضمهن، سعيا: أي مسرعات طيرانا ومشيا، وعزيز: أي غالب على أمره، حكيم: أي لأنه جعل أمر الإعادة وفق حكمة التكوين. المعنى الجملي ذكر في هذه الآية مثالا آخر يدل على إثبات البعث، وفيه دلالة على ولاية الله للمؤمنين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكرر المثل لإثبات البعث، ولم يذكر إلا مثالا واحدا لإثبات الربوبية، لأن منكرى البعث أكثر من منكرى الألوهية.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟) أي واذكر وقت قول إبراهيم لربه، أرنى كيف يكون إحياء الموتى؟ وما وقع حينئذ من عجيب صنعه تعالى لتقف على هدايته تعالى للمؤمنين وولايته لهم. وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات لأمرين: (1) أن إيجاب ذكر الوقت يستلزم ذكر ما وقع فيه. (2) أن ذكر الوقت يشتمل على ما فيه بالتفصيل، فإذا استحضر كان كل ما فيه حاضرا لا يشذ عنه شىء. وصرح بذكر إبراهيم دون الذي مرّ على القرية، لأن في سؤاله من الأدب مع الله والثناء عليه ما ليس في سؤال ذاك، فالصورة في الأول صورة الإقرار مع طلب الزيادة فى العلم، والصورة في الثاني صورة الإنكار. وبدأ سؤاله بكلمة (رب) المفيدة لعنايته تعالى بعبيده، وتربيته لعقولهم وأرواحهم استعطافا وثناء على الله أمام الدعاء. وخلاصة المعنى- يا رب أرنى بعيني كيفية إحيائك للموتى. (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) أي قال: ألم تعلم ذلك وتؤمن يأنى قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألنى إراءته؟ قال بلى علمت ذلك وصدقت بالخبر، ولكن تاقت نفسى للخبر والوقوف على كيفية هذا السر ليطمئن قلبى بالعيان بعد خبر الوحى. وفي قوله تعالى لإبراهيم: «أولم تؤمن» وهو العليم بإيمانه ويقينه- تنبيه وإرشاد إلى ما ينبغى أن يقف عنده الإنسان ولا يعدوه، فإن الإيمان بهذا السر الإلهى والتسليم فيه لخبر الوحى، هو غاية ما يطلب من البشر، ولو كان وراء ذلك سبيل آخر لبينه الله تعالى.

وفي إرشاد إبراهيم خليله تأديب لعامة المؤمنين، ومنع لهم عن التذكر في كيفية الخلق والتكوين، فإن هذا مما استأثر الله تعالى بعلمه. وليس في سؤال إبراهيم ما يشعر بالشك، فالإنسان قد جبل على طلب المزيد في العلم والرغبة في الوقوف على أسرار الخليقة، وأكمل الناس علما أشدهم رغبة في طلب الوقوف على المجهولات. فطلب إبراهيم رؤية كيفية إحياء الموتى طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة بالبعث إذ قد عرفه بالوحى والدليل. وإنا الآن لا نؤمن بأمور كثيرة إيمانا يقينيا ولا نعرف كيفيتها، ونودّ لو نعرفها، فهذا الأثير (التلغراف اللاسلكى) ينقل أخبار العالم في لحظة، ولا نعرف كيفية ذلك، بل أكثر من ذلك نقل الصور بالتلغراف من الأقطار النائية، والقارات البعيدة، ومثله أصوات المذياع (الراديو) التي تنشر في جميع أقطار العالم بكل اللغات، وتسمع في أرجاء المعمورة، ولا يعرف كثير من الناس كيف تصل إليهم. ثم بين سبحانه أنه أجابه إلى ما طلب. (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إن إبراهيم بعد أن طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى- أمره ربه أن يأخذ أربعة من الطير، فيقطعهنّ أجزاء، ثم يفرقها على عدة جبال بحضرته وأرضه، ثم يدعوها فتجيبه مسرعة- والطير أشد الحيوان نفورا من الإنسان غالبا- وقد فعل إبراهيم ذلك. قال المرحوم النطاسي عبد العزيز باشا إسماعيل في رسالته (الإسلام والطب الحديث) أثناء كلامه في المعجزات التي وقعت على أيدى الأنبياء ليتجلى لك ما ربما غاب عن فكرك، وندّ عن بالك، وتفهم ذلك حقّ الفهم قال: المعجزات كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة، بخلاف ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونموّ الحيوان والنبات، فإنه مع إعجازه يأتى مطابقا لقواعد

[سورة البقرة (2) : الآيات 261 إلى 264]

ونظم وضعها الله لا تتغير، وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لتعوّدنا إياه، ولكن إن أتي الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما. ولا تحدث المعجزات إلا على أيدى الأنبياء، لأن صدمتها إن كانت شديدة على الحاضرين، فهى أشد على من يكون واسطة فيها، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم. وصفوة القول- إن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها دون السنن الاعتيادية، وهى لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله، لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها، ولا يدرك طريق صنعها، أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهى طبيعى، ولذلك هو يتكرر في الظروف نفسها على يد كل إنسان- هذا كلامه باختصار. [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 264] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)

تفسير المفردات

تفسير المفردات سبيل الله: ما يوصل إلى مرضاته تعالى، الحبة: واحدة الحب، وهو ما يزرع ليقتات به، المنّ: أن يذكر المحسن إحسانه لمن أحسن إليه ويظهر به تفضله عليه، والأذى: أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه كأن يقول له: إنى قد أعطيتك فما شكرت، قول معروف: أي كلام حسن وردّ جميل على السائل كأن يقول له: رزقك الله، أو عد إلىّ مرة أخرى أو نحو ذلك، ومغفرة: أي ستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره مما يثقل على النفوس احتماله، وخير: أي أنفع وأكثر فائدة، رئاء الناس: أي مراءاة لهم لأجل أن يروه فيحمدوه، ولا يقصد ابتغاء رضوان الله بتحرّى ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين وترقية شأن الأمة بالقيام بما يصلح شؤنها، فمثله: أي فصفته، وصفوان: أي حجر أملس، والوابل: المطر الشديد، والصلد: الأملس الذي ليس عليه شىء من الغبار، ويقال فلان لا يقدر على درهم: أي لا يجده ولا يملكه. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أمر البعث وقرره بالأدلة التي أراها للذى مر على قرية، ولإبراهيم صلوات الله عليه، وذكر أن هؤلاء المبعوثين يعودون إلى دار يوفّون فيها أجورهم بغير حساب، فى يوم لا تنفع فيه فدية ولا شفاعة، بل تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيل الله- ذكر هنا فضل الإنفاق وأن الحسنة قد يضاعفها الله إلى سبعمائة، ثم ضرب مثل السنبلة لذلك، ثم ذكر أن المنّ والأذى يبطل الصدقة كما يبطلها الرياء، وضرب لهذا مثل الصفوان.

الإيضاح

الإيضاح (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أي مثل الذين ينفقون المال يبتغون به رضا الله وحسن مثوبته كمن يزرع حبة فى أرض مغلة فتنبت سبع سنابل: أي تخرج ساقا تتشعب منه سبع شعب في كل سنبلة منها مائة حبة كما يرى في كثير من الحب كالذرة والدّخن. وقد عنى بتطبيق هذا المثل علميا بعض أعضاء الجمعية الزراعية بمصر في مزارع القمح التي لها في التفتيش النموذجى وفي غيره، فهدتهم التجارب إلى أن الحبة الواحدة لا تنبت سنبلة واحدة بل أكثر، وقد وصلت أحيانا إلى أربعين، وأحيانا إلى ست وخمسين، وأحيانا إلى سبعين، كما دلتهم أيضا على أن السنبلة الواحدة تغل أحيانا ستين حبة أو أكثر، وقد عثر في عام (1942 م) أحد مفتشى الجمعية على سنبلة أنبتت سبعا ومائة حبه وعرض نتيجة بحثه على الإخصائيين من رجال الجمعية وغيرهم في حفل جامع، ورأوا تلك السنبلة وعدوها عدّا، فاتفقت كلمتهم على صدق ما عدّ ورأى، وشكروه على جهوده الموفقة- والزمان كفيل بتأييد قضايا الكتاب الكريم مهما طال عليها الأمد وكلما تقدم العلم ظهر صدق ما أخبر به. وخلاصة ذلك- إن المنفق في إرضاء ربه وإعلاء دينه كمثل أبرك بذر زرع فى أخصب أرض، فنما نموّا حسنا فجاءت غلته سبعمائة ضعف. (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) فيزيده زيادة لا حصر لها. أخرج ابن ماجه عن علىّ وأبي الدرداء كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك، فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم» ثم تلا هذه الآية. وعن معاذ بن جبل أن الغزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد.

(وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى لا ينحصر فضله، ولا يحد عطاؤه، وهو عليم بمن يستحق هذه المضاعفة كالمنفقين في إعلاء شأن الحق، وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد، حتى إذا ما ظهرت آثار ذلك في قوة ملتهم وسعادة أمتهم جنوا من ذلك أجلّ الفوائد وعاد ذلك عليهم بالخير الوفير. ولنعتبر بما نراه في الأمم العزيزة الجانب التي ينفق أفرادها في إعلاء شأنها بنشر العلوم والمعارف وتأليف الجماعات الخيرية التي تقوم بها المصالح العامة، ولنوازن بين هؤلاء وبين كبراء الأمم التي ضعفت وذلت بإهمال الإنفاق في المصالح العامة، نر صعاليك الأولين ذوى عزة ومنعة لا يجاريهم فيها ثراة الآخرين. هذا وإن الناس بمقتضى الفطرة يقتدى بعضهم ببعض، فمن بذل شيئا في سبيل المصلحة العامة كان قدوة لمن يبذل بعده، فالناس يتأسى بعضهم ببعض من حيث لا يشعرون. والفضل الأكبر للسابقين الأولين في عمل الخير، فهم الذين يضعون الأسس لعمل الخير، فهم الفائزون برضوان الله، ولهم أجرهم وأجر من اقتدى بهم أخرج الترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . ثم بين ثواب الإنفاق في الآخرة بعد بيان منافعه في الدنيا فقال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين يبذلون أموالهم يبتغون بذلك مرضاة ربهم، ولا يتبعون ذلك بمنهم على من أحسنوا إليهم ولا بإيذائهم، لهم عند ربهم ثواب لا يقدر قدره، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس وتفزعهم الأهوال، ولا هم يحزنون حين يحزن الباخلون الممسكون عن الإنفاق في سبيل الله، إذ هم أهل السكينة والاطمئنان والسرور الدائم.

والحكمة في تعليق هذا الثواب على ترك المنّ والأذى، أن الإنفاق في سبيل الله يراد به وجه الله وطلب رضاه، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه لأنه لا يد له قبله، ولا صنيعة له عنده، تستحق- إن لم يكافئه عليها- المن والأذى فعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه. ثم وضع سبحانه دستورا لحسن المعاملة بين الناس فقال: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) أي كلام حسن وردّ جميل على السائل، وستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره أنفع لكم وأكثر فائدة من صدقة فيها الأذى، لأنه وإن خيّب رجاءه فقد أفرح قلبه وهوّن عليه ذل السؤال، وهذا القول تارة يتوجه إلى السائل إن كانت الصدقة عليه، وتارة أخرى يتوجه إلى المصلحة العامة، كما إذا احتيج لجمع المال لدفع عدوّ مهاجم أو بناء مستشفى أو مدرسة أو نحو ذلك من أعمال الخير والبر ولم يكن لدى المرء مال، فعليه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث العاملين على العمل، وينشطهم إليه، ويبعث عزيمة الباذلين على الزيادة في البذل، أما الصدقة التي يتبعها أذى فهى مشوبة بضرر ما يتبعها من الإيذاء، ومن آذى فقد بغّض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغض لهم، والسلم والولاء خير من العداوة والبغضاء. ومن الخير للأمة أن يظهر أفرادها في مظهر المتعاونين كما قال: «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى» وذلك مما يعزز مقامها، ويحفظ كرامتها، ويجعلها مهيبة في أعين الناس أجمعين. وخلاصة المعنى- إن مقابلة المحتاج بكلام يسره وهيئة ترضيه، خير له من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة، ولا فارق بين أن يكون المحتاج فردا أو جماعة، فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه، وإظهار استهجانه، وتشكيك الناس في فائدته، لا توازى إحسان القول فى ذلك العمل الذي تطلب المساعدة له، والإغضاء عن التقصير الذي ربما يقع من

العاملين فيه، فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك أجدى لها من شىء من المال تعطيه مع مقالة السوء وفعل الأذى. وقد قررت هذه الآية مبدأ عامّا في الشريعة وهو «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» فقد دلت على أن الخير لا يكون طريقا إلى الشر، وعلى أن الأعمال الصالحة يجب أن تكون خالية من الشوائب التي تفسدها وتذهب بفائدتها كلها أو بعضها، وعلى أن من عجز عن نوع من أنواع البرّ فعليه أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدى إلى مثل غايته، فمن شق عليه أن يتصدق ولا يمن ولا يؤذى، فعليه أن يجبر قلب الفقير بقول المعروف. (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) أي والله غنى عن صدقة عباده، فلا يأمرهم ببذل المال لحاجة إليه، بل ليطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شئونهم الاجتماعية، ليكونوا أعزاء، بعضهم لبعض ناصر ومعين. فهو غنى عن صدقة يتبعها منّ أو أذى، لأنه لا يقبل إلا الطيبات، حليم لا يعجل بعقوبة من يمنّ أو يؤذي. وفي هذه الجملة سلوة للفقراء، وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغنى الحليم، وتهديد للأغنياء وإنذار لهم بألا يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم، وعدم تعجيل العقوبة على كفرهم بنعمته تعالى، إذ من وهبهم المال فإنه يوشك أن يسلبه منهم. وبعد أن أبان سبحانه فيما سلف أن ترك المن والأذى شرط لحصول الأجر والثواب على الإنفاق في سبيله- أقبل يخاطب عباده المؤمنين وينهاهم نهيا لا هوادة فيه عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) أي إن المن والأذى هادم للفائدة المقصودة من الصدقة ومبطل لها، وهو تخفيف بؤس المحتاجين وكشف أذى الفقر عنهم إذا كانت الصدقة للأفراد، وتنشيط القائمين بخدمة الأمة ومساعدتها

إذا كانت الصدقة في مصلحة عامة- إذ أن كل عمل لا يؤدى إلى الغاية منه فقد حبط وبطل كأن لم يكن، فما بالك إذا أتبع بضد الغاية ونقيضها؟. ونحو ذلك ما يقال: إن صلاة المرائى باطلة، على معنى أن الغرض منها وهو توجه القلب إلى الله واستشعار سلطانه والإذعان لعظمته والشكر لإحسانه لم يحصل، لأن قلب المرائى إنما يتوجه إلى من يرائيه لا إلى ذى العظمة والجبروت، والملك والملكوت. وفي ذلك مبالغة أيّما مبالغة في التنفير عن هاتين الرذيلتين اللتين قد أولع الناس بهما فالنفوس مغرمة بذكر ما يصدر منها من الإحسان تمدحا وتفاخرا، وذلك طريق إلى المن والإيذاء، ولا سيما إذا آنس المتصدق تقصيرا في شكر الناس له على صدقته، أو احتقارا لها، فهو حينئذ لا يكاد يملك نفسه عن المنّ والأذى. (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لا تبطلوا صدقاتكم بإحدى هاتين الرذيلتين فتكونوا مشبهين من ينفق ماله مرائيا الناس: أي لأجل أن يروه فيحمدوه، لا لابتغاء مرضاة الله بتحرّى ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين، وترقية شأن الأمة بما يصلح شئونها، وهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا. والخلاصة- إن كلا من المرائى وذى المن والأذى أتى بعمل غير مقبول ولا صحيح بل هو باطل ومردود عليه. (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي إن صفة عمل المنافق المرائى كصفة تراب على حجر أملس نزل عليه ماء مطر شديد، فأزاله وترك الحجر صلدا نقيا لا تراب عليه. والوجه المشترك بينهما، أن الناس يرون أن لهؤلاء المرائين أعمالا كما يرى التراب على الصفوان، فإذا جاء يوم القيامة وصاروا إلى الله اضمحل ذلك كله وذهب، لأنه لم يكن لله، كما يذهب الوابل من المطر ما كان على الصفوان، فيتركه أملس لا شىء عليه

[سورة البقرة (2) : الآيات 265 إلى 266]

(لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي إنهم لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثمرة لا في الدنيا ولا في الأخرى، أما في الدنيا فلأن المنان المؤذى بغيض إلى الناس، كالبخيل الممسك، والمرائي لا يخفى على الناس فعله. ثوب الزياء يشفّ عما تحته ... فاذا اكتسيت به فإنك عار وأما في الآخرة فلأن المنّ والأذى كالرياء مناف للإخلاص، ولا أجر عند الله إلا للمخلصين في أعمالهم الذين يتحرّون تزكية نفوسهم وإصلاح أحوالهم. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى ما فيه خيرهم ورشادهم، فإن الإيمان هو الذي يهدى قلب صاحبه إلى الإخلاص ووضع النفقات في مواضعها، والاحتراس من الإتيان بما يذهب فائدتها. وفي هذا تعريض بأن كلا من الرياء والمنّ والأذى من صفات الكافرين التي ينبغى للمؤمنين أن يتجنبوها. [سورة البقرة (2) : الآيات 265 الى 266] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) تفسير المفردات ابتغاء مرضاة الله أي طلبا لرضوانه، وتثبيتا من أنفسهم أي لتمكين أنفسهم فى مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها عند بذلها بحيث لا ينازعها فيه زلزال البخل

المعنى الجملي

ولا اضطراب الحرص، والجنة: البستان، والربوة المكان المرتفع من الأرض، وأشجار الربى أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وفعل الشمس فيها، وآتت أكلها: أي أعطت صاحبها أكلها، والاكل كل ما يؤكل والمراد هنا الثمر، وضعف الشيء مثله، والطلّ المطر الخفيف، والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها إلى السماء حاملة الغبار فتكون كهيئة العمود، والنار أي السموم الشديد. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه مثل الذين ينفقون أموالهم ثم يتبعون ذلك بالمنّ والأذى، ومثل الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، قفّى على ذلك بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضا ربهم وتزكية لأنفسهم، فبضدها تتبين الأشياء. الإيضاح (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) أي مثل المنفقين أموالهم ابتغاء رضوانه تعالى، وتمكينا لأنفسهم في مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها حين البذل حتى يكون ذلك سجية لها، كمثل جنة جيدة التربة ملتفة الشجر، عظيمة الخصب، تنبت كثيرا من الغلات، نزل عليها مطر كثير فكان ثمرها مثلى ما كانت تغلّ، وإن لم يصبها الوابل فطلّ ومطر خفيف يكفيها لجودة تربتها وكرم منبتها وحسن موقعها، وهكذا كثير البر كثير الجود إن أصابه خير كثير أغدق ووسّع في الإنفاق، وإن أصابه خير قليل أنفق بقدره، فخيره دائم، وبره لا ينقطع. وإنما قال من أنفسهم أي بعض أنفسهم، ولم يقل لأنفسهم، لأن إنفاق المال وجه من وجوه التثبيت والطمأنينة، وبذل الروح وجه آخر، وكماله ببذل الروح

والمال معا كما جاء في قوله سبحانه في سورة الحجرات «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» . وقد هدانا الله بهذا إلى أن نقصد بأعمالنا طلب رضاه وتزكية نفوسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حب المال، فإن نحن فعلنا ذلك جوزينا خير الجزاء. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو يجازى كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به، وفي ذلك تحذير من الرياء الذي يظن صاحبه أنه يغشّ الناس بإظهاره خلاف ما يضمر. فعليك أيها المنفق أن تخلص لربك الذي لا يخفى عليه ما تنطوى عليه سريرتك، ثم ضرب مثلا لمن ينفق ماله ويتبعه بالمنّ والأذى فقال: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) أي هل يود الإنسان أن تكون له جنة معظم أشجارها الكرم والنخل- وهما أجلّ الأشجار وأكثرها نفعا- حاوية لأنواع أخرى من الثمرات، تجرى فيها الأنهار فتسقيها ماء غدقا، علّق بها آماله، ورجا أن ينتفع بها عياله، وقد أصابه الكبر وأقعده عن الكسب، وله ذرية ضعفاء لا يستطيعون أن يقوموا بشأنه وشأنهم، ولا مورد له غير هذه الجنة. وبينا هو على تلك الحال إذا بجنته قد أصابها إعصار فأحرقها بما فيه من سموم النار وهو أحوج ما يكون إليها، وبقي هو وأولاده حيارى لا يدرون ماذا هم فاعلون؟ وهكذا حال من يفعل الخير ويبذل المال ويحبط عمله بالرياء أو بالمنّ والأذى، فإنه يأتى يوم القيامة وهو أشد ما يكون حاجة إلى ثواب ما بذل، لكنه يجد إعصار الرياء والمنّ والأذى أبطل ما فعل من الخير وجعله هباء منثورا فأصبح يقلب كفيه نادما ولات ساعة مندم.

[سورة البقرة (2) : آية 267]

وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الكرم بثمره، والنخل بشجره، لأن كل شىء فى النخل نافع للناس في شئون معايشهم، سواء في ذلك ورقه وجذوعه وأليافه وعثا كيله فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغيرها. والمراد بقوله (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) مع كون الجنة من نخيل وعنب- المنافع أي هو متمتع بجميع فوائدها. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي مثل هذا البيان بضرب الأمثال التي بلغت الغاية في الوضوح- يبين الله لكم دلائل شريعته وأسرارها وفوائدها وغاياتها، لتتفكروا فيها وتعتبروا بما اشتملت عليه من العبر، فتضعوا نفقاتكم فى مواضعها، وتقصدوا بها أن تكون خالصة لوجهه تعالى بدون رياء ولا أذى. [سورة البقرة (2) : آية 267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) تفسير المفردات الطيب: هو الجيد المستطاب، وضده الخبيث المستكره، ولا تيمموا أي لا تقصدوا، وتغمضوا أي تتساهلوا وتتسامحوا من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره، ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر. وحميد أي مستحق للحمد على نعمه العظام ... المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه ما يجب أن يتصف به المنفق عند البذل من الإخلاص لله فصد تزكية النفس والبعد عن الرياء، وما يجب أن يتحلى به بعد البذل من البعد

الإيضاح

عن المنّ والأذى على أبلغ وجه وآكده، وفيه الإرشاد إلى ما يختص بالباذل وبطرق البذل. أشار هنا إلى ما ينبغى أن يعنى بشأنه في المال المبذول وهو أن يكون من جيد أمواله وأحبها إليه ليتم الإرشاد والنصح في وجوه البذل والنفقة في سبيل الله. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي أنفقوا من جياد أموالكم المكسوبة من النقد وسلع التجارة والماشية، ومما أخرجنا من الأرض من الحبوب والثمار وغيرها قال تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» . (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) أي ولا تقصدوا الخبيث الرديء من أموالكم فتخصّوه بالإنفاق منه. وقد روى في سبب نزول الآية أن بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف التمر (أي رديئه) . وروى من وجه آخر أن الرجل كان يعمد إلى التمر فيضرمه، ثم يعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء، وكما نهينا عن تعمد تخصيص الصدقة بالخبيث، نهينا عن تكليف المتصدق بدفع الجيد من ماله فحسب، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم» فالواجب أخذ الوسط (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي كيف تقصدون الخبيث وتتصدقون به وحده ولستم ترضون مثله لأنفسكم إلا أن تتساهلوا فيه تساهل من أغمض عينيه عنه فلم ير العيب فيه، ولن يرضى ذلك أحد لنفسه إلا وهو يرى أنه مغبون مغموص الحق، ألا ترى أن الرديء لا يقبل هدية إلا بإغماض فيه وتساهل مع المهدى، لأن إهداءه

[سورة البقرة (2) : الآيات 268 إلى 269]

يشعر بقلة الاحترام لمن أهدى إليه، والذي يقبله مع الإغماض إنما يقبله لحاجته إليه، أو لخوف الحق، والله لا يحتاج فيغمض. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن الله غنى عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم، فلا تتقربوا إليه بما لا يقبله لرداءته، وهو المستحق للحمد على جلائل نعمائه، ومن الحمد اللائق بجلاله تحرّى إنفاق الطيب مما أنعم به [سورة البقرة (2) : الآيات 268 الى 269] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) تفسير المفردات يعدكم أي يخوّفكم، والفقر: سوء الحال وضيق ذات اليد، ويأمركم أي يغريكم، والمراد بالفحشاء هنا البخل، والمغفرة الصفح عن الذنب، والفضل الرزق والخلف، والحكمة العلم النافع الذي يكون له الأثر في النفس، فيوجه الإرادة إلى العمل بما تهوى مما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة المعنى الجملي بعد أن أمرنا سبحانه بإنفاق الطيب من أموالنا، ونهانا عن تيمم الخبيث منها وإعطائه صدقة، أراد أن يبين أن أسباب هذا القصد الذي يفعله المتصدق، وركونه إلى الرديء دون الجيد أن الشيطان يقول له: لا تنفق الجيد من أموالك حتى لا تكون عاقبة ذلك الفقر

الإيضاح

الإيضاح (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي إن الشيطان يخوّف المتصدقين الفقر ويغريهم بالبخل، ويخيّل إليهم أن الإنفاق يذهب بالمال، ولا بد من إمساكه والحرص عليه استعدادا لحاجات الزمان، وسمى ذلك التخويف وعدا [والوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر، والشيطان لم يضف مجىء الفقر إليه] مبالغة فى الإخبار بتحقق وقوعه، وكأن مجيئه بحسب إرادته وطوع مشيئته. (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) أي إن الله وعدكم على لسان نبيكم، وبما أودعه فى الفطر السليمة من حب الخير والرغبة في البر- مغفرة لكثير من خطاياكم، وخلفا فى الدنيا من جاه عريض، وصيت حسن بين الناس، ومال أزيد مما أنفق، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» . روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» ومعنى الدعاء للمنفق بالخلف أن يسهل له أسباب الرزق، ويرفع شأنه عند الناس، والبخيل محروم من مثل هذا. ومعنى الدعاء على الممسك بالتلف أن يذهب ماله حيث لا يفيده. (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي إن الله واسع الرحمة والفضل، فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقون، وهو عليم بما تنفقون، فلا يضيع أجركم، بل يجازيكم أحسن الجزاء (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) أي إنه تعالى يعطى الحكمة والعلم النافع المصرّف للإرادة لمن يشاء من عباده، فيميز به الحقائق من الأوهام، ويسهل عليه التفرقة بين الوسواس والإلهام وآلة الحكمة العقل المستقل بالحكم في إدراك الأشياء بأدلتها، وفهم الأمور

على حقيقتها- ومن أوتى ذلك عرف الفرق بين وعد الرّحمن ووعد الشيطان، وعضّ على الأول بالنواجذ وطرح الثاني وراءه ظهريا. وقد فسر حبر الأمة عبد الله بن عباس الحكمة بالفقه في القرآن أي معرفة ما فيه من الهدى والأحكام بأسراره وحكمه، ومن فقه ما ورد في الإنفاق وفوائده وآدابه من الآيات- لا يكون وعد الشيطان له الفقر وأمره إياه بالبخل مانعا له من البذل والإنفاق. والآية الكريمة رافعة شأن الحكمة بأوسع مالها من المعاني، وهادية إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أي ومن يوفقه الله لهذا النوع النافع من العلم، ويرشده إلى هداية العقل، ووجيهه الوجهة الصحيحة- فقد هدى إلى خيرى الدنيا والآخرة، فهو يسخر القوى التي خلقها الله له من سمع وبصر وشعور ووجدان في النافع من الأشياء، ويعدّها لتنفيذ ما يرغب فيه، ثم بعدئذ يفوض الأمر إلى بارئه الذي فطره وسوّاه، ومنه مبدؤه وإليه منتهاه، وبهذا لا يستسلم لوساوس الشيطان، ولا يقض مضجعه ما يجده من مكدرات الحياة وآلامها، ولا ما تسوقه إليه من محنها وأرزائها، اعتقادا منه أن كل شىء بقضاء الله وقدره، وبهذا يستريح باله، وتهدأ ثائرته، ويجد في قلبه بردا وسلاما لمزعجات الليالى والأيام. (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ولا يتعظ بالعلم ويتأثر به، ويجعل الإرادة مصرفة له، خاضعة لمشيئته، إلا ذوو العقول السليمة، والنفوس التي تغوص في بحر الحقائق، وتستخرج منها ما هو نافع في هذه الحياة، وبه سعادتها، وتجعله سلما ترقى به في معارج الفلاح لتصل به إلى خير العقبى- حشرنا الله في زمرة أولئك

[سورة البقرة (2) : آية 270]

[سورة البقرة (2) : آية 270] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) تفسير المفردات النذر في اللغة: العزم على التزام شىء خاص فعلا أو تركا. وفي الشرع التزام طاعة تقربا إلى الله تعالى، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه تعالى حكم النفقة والبذل في سبيله- عمم الحكم هنا في كل نفقة، سواء أكانت في طاعة أم في معصية، وبين أن الله عليم بها ومجاز عليها. إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فعلينا أن نختار لأنفسنا أفضل ما نحب أن يعلمه ربنا عنا. الإيضاح (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) في خير أو شر، صادرة عن إخلاص أو عن رياء، أتبعت بمنّ أو أذى أو لم تتبع بذلك، سرا كانت أو علانية. (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) فى طاعة أو في معصبة فهو قسمان: (1) نذر قربة وبرّ، وهو ما قصد به التزام الطاعة قربة لله تعالى كأن ينذر بذل مقدار معين من المال، أو صلاة نافلة، كقوله إن شفى الله مريضى فلله علىّ أن أتصدق بكذا. (2) نذر لجاج وغضب، وهو ما يقصد به حث النفس على شىء أو منعها عنه، كقولك إن كلمت فلانا فعلىّ كذا.

واتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالأول، وهو مخير في الثاني بين الوفاء بما التزمه، وكفارة يمين. وكل هذا إن كان النذر في طاعة، لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بالطاعة، فإن نذر فعل معصية جرم عليه فعله، فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النذر نذران، فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى، وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان، ولا وفاء فيه، ويكفره ما كفر اليمين» . ومن نذر مباحا فعله، لأن فسخ العزائم من ضعف الإرادة، ومن ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذرت أن تضرب بالدّف وتغنى يوم قدومه بالوفاء. (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) ويجازى عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد. (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي وما للذين ظلموا أنفسهم ولم يزكوها من رذيلة البخل، أو من رذيلة المن والأذى، وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم وظلموا الأمة بترك الإنفاق في مصالحها العامة- من أنصار لهم ينصرونهم يوم الجزاء، فيدفعون عنهم بجاههم أو بمالهم، وهذا كقوله: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» . وفي هذا عبرة أيّما عبرة لأولئك الباخلين بمالهم من المسلمين على المصالح العامة التي فيها خير للأمة، وفيها سعادتها وعزها، فالمال هو قطب الرحى، وعليه تدور مصالح الأمم في هذا العصر عصر المال، ومن ثم تدهورت الأمم الإسلامية وصارت في أخريات الأمم مدنية ورقيّا وحضارة وتقدما، وفشا الجهل بين أفرادها، وأصبحت في فقر مدقع، وقد كان في مكنتهم أن ينشلوها من وهدتها، ويرفعوها من الحضيض الذي وصلت إليه يبذل شيء من المال الذي يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير العميم، والفضل الكبير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

[سورة البقرة (2) : آية 271]

[سورة البقرة (2) : آية 271] إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن الله يعلم ما تنفقون ويجازيكم عليه إن خيرا وإن شرا- بيّن هنا سبيل إعطاء الصدقات، وما يتبع في ذلك من السر والعلانية، وأيهما الأفضل. الإيضاح (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) أي إن تظهروا الصدقات فنعم عملا إظهارها، لما فيه من الأسوة الحسنة، فيقتدى بالمتصدق كثير من الناس، ولأن الصدقة من شعائر الإسلام التي لو أخفيت لتوهم منعها. (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي وإن تعطوها الفقراء خفية فهو أفضل، لما في ذلك من البعد عن شبهة الرياء، ولما دلت عليه الآثار والأحاديث، أخرج أحمد عن أبي أمامة «أن أباذر قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة سرّ إلى فقير، أو جهد من مقلّ ثم قرأ الآية» . وروى الطبراني مرفوعا «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب» وروى البخاري: إن من السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم القيامة، إذ لا ظل إلا ظله «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما: صدقة السر في التطوع نفضل على علانيتها سبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا، وهكذا الحكم في جميع الفرائض والتطوع وقال أكثر العلماء: إن أفضلية السر على العلانية إنما هى في التطوع

لا في الفريضة، فإن إظهارها أفضل لإظهار شعيرة من شعائر الدين، وقوة الدين بإظهار شعائره، ولما في ذلك من القدوة الحسنة، ولأن احتمال الرياء بعيد في أداء الفرائض، بل قالوا أيضا: إن الإظهار أفضل لمن يرجو اقتداء الناس به في صدقته ولو كانت تطوعا. والمخلص في صدقته لا يعسر عليه حين الصدقة في المصالح العامة- أن يجمع بين إخفاء الصدقة الذي يسلم به من منازعة الرياء، وبين إبدائها الذي يكون مدعاة للأسوة والاقتداء، بأن يرسل حوالة مالية لجمعية خيرية ولا يذكر لها اسمه أو يذكره لرئيسها أو أمين صندوقها فحسب، وقد جرت عادة الجميعات أن تشيد بمثل هذه الصدقة بلسان أعضائها أو بلسان الجرائد والمجلات ونحوها، وذلك أوسع طرق الشهرة وأبعدها مدى في عصرنا. وقد فهم من قوله (الفقراء) ولم يقل فقراءكم أعنى المسلمين- أن صدقة التطوع تعطى للمسلم والكافر والبر والفاجر، لأن الله كتب الرحمة والإحسان في كل شىء فقد ورد في الصحيحين: «فى كل ذى كبد حرّى أجر» أي في جميع الأحياء وتمنع الزكاة التي هى أحد أركان الإسلام عن الكافر. ومثلها زكاة الفطر. كما فهم من التصريح به أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه، إذ يدعى الغنىّ الفقر، ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس، فعلينا أن نجزى ونعطى الفقراء حقا لا مدعى الفقر. (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أي ويمحو عنكم بعض ذنوبكم، لأن الصدقة لا تكفر جميع الذنوب. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي فما تفعلونه في صدقاتكم من الإسرار والإعلان، فالله خبير به، عليم بأمره، ومجازيكم عليه، وفي هذا ترغيب في إعطاء الصدقات سرا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 272 إلى 273]

وقد روى أنه لما نزل قوله (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) الآية قالوا يا رسول الله: أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت الآية (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ ... ) إلى آخرها. [سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 273] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) تفسير المفردات الهدى ضربان: هدى التوفيق إلى طريق الخير والسعادة، وهو على الله تعالى، وهدى الدلالة والإرشاد إلى الخير وهو على النبي صلى الله عليه وسلم، وابتغاء وجه الله طلب مرضاته، أحصروا منعوا وحبسوا في طاعته لغزو أو تعلم علم، ضربا في الأرض أي سيرا فيها للكسب والتجارة، والتعفف إظهار العفة وهى ترك الطلب ومنع النفس مما تريد، والسيما العلامة التي يعرف بها الشيء، وإلحافا أي إلحاحا وهو أن يلازم السائل المسئول حتى يعطيه. المعنى الجملي بعد أن أرشد في الآية السابقة إلى إيتاء الصدقات للفقراء عامة مسلمين وغيرهم، بين هنا أنه لا ينبغى التحرج من إعطاء الفقير غير المسلم الصدقة لكفره، لأن الصدقة لسد خلّته، ولا دخل لها بإيمانه، إذ من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما، وأن يسبق سائر الناس بالفضل والجود

الإيضاح

أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا ألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وغيره أن ناسا من الأنصار لهم صهر وقرابة من المشركين، كانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا فنزلت الآية. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدّقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) الآية. الإيضاح (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، إن أنت إلا بشير ونذير، وما عليك إلا الإرشاد والحث على الفضائل والنهى عن الرذائل كالمنّ والأذى وإنفاق الخبيث. (وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إن أمر الناس في الاهتداء مفوّض إلى ربهم، بما وضعه لسير عقوبهم وقلوبهم من السنن، فهو الذي يوفقهم إلى النظر الصحيح الذي يكون من ثمرته العمل الموصل إلى سعادتهم. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم فى الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فلأنه يكفّ شر الفقراء ويدفع عنكم أذاهم، فإن الفقراء إذا ضاقت بهم الحال وحزبهم الأمر تألبوا على الأغنياء وسلبوهم ونهبوا أموالهم وآذوهم على قدر ما يستطيعون، ثم سرى شرهم إلى غيرهم، فتختل نظم المجتمع، ويفقد الأمن فى الأمة. وأما في الآخرة فلأن ثوابه لكم، ونفعه الديني راجع إليكم لا للفقراء، فلا تمنعوا الإنفاق على فقراء المشركين. (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ) أي إنكم لا تنفقون لأجل جاه ولا مكانة

عند المنفق عليه، وإنما تنفقون لوجه الله، فلا فرق بين فقير وفقير إذا كان مستحقّا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزّاق الكريم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لأجل عقيدته، وهذا كقوله: «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» . (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي يوف إليكم في الآخرة لا تنقصون منه شيئا، فأنتم على استفادتكم من الإنفاق في رقىّ أنفسكم، وتثبيتها في مقامات الإيمان والإحسان، وإرادة وجه الله وابتغاء مرضاته- لا يضيع عليكم ما تنفقون، بل توفونه ولا تظلمون منه شيئا. وفي هذا إرشاد من الله لعباده أن يكملوا أنفسهم، ويبتغوا أن يراهم الله كملة يعملون الحسن لأنه حسن تتحقق به حكمته، وتقوم به سنته في صلاح البشر. ثم بين أحق الناس بالصدقة فقال: (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي اجعلوا ما تنفقون للذين ذكر الله صفاتهم الخمس التي هى من أجلّ الأوصاف قدرا: (1) الإحصار في سبيل الله، والمراد به حبس النفس للجهاد أو العمل في مرضاة الله، إذ هم لو اشتغلوا بالكسب لتعطلت المصلحة العامة التي أحصروا فيها، وحبسوا أنفسهم لها، وتجب نفقتهم في بيت المال، ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية فى العصر الحديث، فإن حبس الشخص نفسه في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح العامة كالجهاد وطلب العلم، وكان يستطيع الكسب في أوقات فراغه لم يحلّ له الأخذ من الصدقة. (2) العجز عن الكسب والضرب في الأرض للتجارة ونحوها بسبب المرض أو الخوف من العدو، وهذا هو المقصود بقوله: (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) .

(3) التعفف والمبالغة في التنزه عن الطمع مما في أيدى الناس، فإذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم ظنهم أغنياء، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) . (4) أن لهم سيما خاصة تترك معرفتها إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق إذ صاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف، ولا يختص ذلك بخشوع وتواضع، ولا برثاثة في الثياب، فربّ سائل يأتيك خاشع الطرف والصوت رثّ الثياب، تعرف من سيماه أنه غنى وهو يسأل الناس تكثرا، وكم رجل يقابلك بطلاقة وجه، وحسن بزّة فتحكم عليه في لحن قوله، وأمارات وجهه أنه فقير عزيز النفس، وهذا ما أشار إليه بقوله: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) . (5) ألا يسألوا الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح كما هو شأن الشحاذين وأهل الكدية، وقد يكون المعنى- أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» . والسؤال محرم لغير ضرورة، روى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحلّ الصدقة لغنىّ ولا لذى مرّة سوىّ» والمرة بكسر الميم القوة، والسوىّ هو السليم الأعضاء، والمراد به القادر على الكسب. وروى أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: ما يغدّيه أو يعشّيه» .

وروى أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقلّ منه أو ليستكثر» . وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدّق منه ويستغنى به عن الناس، خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه» . فمن يعلم أنه يسأل لنفسه تكثرا كالشحاذين الذين جعلوا السؤال حرفة وهم قادرون على العمل- لا يعطي شيئا، فقد رأى عمر رضى الله عنه سائلا يحمل جرابا فأمر أن ينظر فيه فإذا هو خبز، فأمر أن يؤخذ منه ويلقى إلى إبل الصدقة. وقد روى أن هذه الآية نزلت في أهل الصّفة وهم أربعمائة من فقراء المهاجرين رصدوا أنفسهم لحفظ القرآن الكريم والجهاد في سبيل الله، ولم يكن لأكثرهم مأوى، لذلك كانوا يقيمون في صفّة المسجد (موضع منه مظلّ) وقد هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها، فهم محصورون في سبيل الله بهذه الهجرة، ومحصورون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن. وقد كان حفظه حينئذ من أفضل العبادات على الإطلاق، لأنهم ما كانوا يحفظونه إلا للفهم والاهتداء والعمل به، وحفظ الدين بحفظه، وكانوا يحفظون بيان النبي صلى الله عليه وسلم له بسنته القولية وسنته العملية. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوما على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتى على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائى» . ولا يحل لأهل التكايا ومشايخ الطرق أن يأكلوا أموال الناس، لأنهم لم ينقطعوا لتعلم علم ولا غزو في سبيل الله، بل قصارى أمر الأولين أن يأكلوا الصدقات والأوقاف ليعبدوا الله في هذه التكايا، فهى لهم كالأديار للنصاري وهم فيها كالرهبان، وإن كان بعضهم قد يتزوج.

[سورة البقرة (2) : آية 274]

وكذلك مشايخ الطرق الذين ينزلون بجماعتهم بلدا بعد آخر، ويكلفون من يستضيفونه الذبائح والشيء الكثير من الطعام، ثم لا يخرجون إلا مثقلين بالمال والهدايا، بل قد يسلبون وينهبون باسم الدين وفي معرض الكرامات، فهؤلاء الأوغاد يشبهون أنفسهم بأهل الصفة، ويزعمون أن لأكلهم أموال الناس بالباطل- أصلا في الكتاب والسنة «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا» . (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه حسن النية والإخلاص له فى العمل، ولا تحرى النفع به وإيتاؤه أحق الناس به، فهو يجازى عليه بحسب هذا. ولا يخفى ما في هذا من الترغيب في الإنفاق، ولا سيما على مثل هؤلاء الذين تقدم ذكرهم. [سورة البقرة (2) : آية 274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) المعنى الجملي بعد أن رغب سبحانه في الآيات السالفة في الإنفاق وبين فوائده للمنفقين والمنفق عليهم، وللامة التي يتعاون أفرادها ويكفل أقوياؤها ضعفاءها، وأغنياؤها فقراءها، ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامة التي تجعل الأمة عزيزة الجانب محوطة بالكرامة فى أعين الأمم الأخرى، كما بين آداب النفقة والمستحقين لها، وأحق الناس بها إلى نحو من هذا. بين هنا فضيلة الإنفاق في جميع الأوقات والأحوال ومضاعفة الأجر على ذلك. الإيضاح المعنى- إن الذين ينفقون أموالهم في جميع الأزمنة وفي سائر الأحوال، ولا يحجمون عن البذل إذا لاح لهم وجه الحاجة إلى ذلك، لهم ثوابهم عند ربهم

[سورة البقرة (2) : الآيات 275 إلى 281]

فى خزائن فضله، ولا خوف عليهم حين يخاف الباخلون من تبعة بخلهم بالمال وحبسه حين الحاجة إلى بذله في سبيل الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من صالح العمل الذي يرجون به ثواب الله. ذاك أن نفوسهم قد سمت وبلغت حدا من الكمال لم يبق لسلطان المال معه موضع فى قلوبهم، وأصبحت مرضاته الشغل الشاغل لهم، فلا يستريح لهم بال إلا إذا سدوا خلّه محتاج أو آسوا جراح مكلوم، أو أشبعوا بطن جائع، أو جهزوا جيشا يسدّون به ثغرة فتحها عدو، وهؤلاء هم المؤمنون حقا الذين يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا. وإنما قدم الليل على النهار، والسر على العلانية للإيماء إلى تفضيل صدقة السر على صدقة العلانية، وجمع بين السر والعلانية للإيماء إلى أن لكل منهما موضعا تقتضيه المصلحة قد يفضل فيه سواه، إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها. وقد روى أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق إذ أنفق أربعين ألف دينار، عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشرة بالعلانية. وأخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في علىّ كرم الله وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما، وبالنهار درهما، وسرا درهما، وعلانية درهما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على هذا؟ قال: حملنى أن أستوجب على الله الذي وعدنى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن ذلك لك» . [سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يأكلون: أي يأخذون ويتصرفون فيه بسائر أنواع التصرفات، والربا لغة الزيادة يقال ربا الشيء يربو إذا زاد، ومنه الرابية لما علا من الأرض فزاد على ما حوله، والخبط: الضرب على غير اتساق، يقال ناقة خبوط إذا وطئت الناس وضربت الأرض بقوائمها، ويقال للرجل يتصرف في الأمور على غير هدى: هو يخبط خبط عشواء [العشواء الناقة الضعيفة البصر] والمسّ: الجنون، يقال مسّ الرجل فهو ممسوس إذا جنّ، والموعظة: العظة والزجر، والمحق: نقص الشيء حالا بعد حال كمحاق القمر، ويربى: يزيد ويضاعف، لا يحب: أي لا يرتضى، والكفار: المقيم على الكفر المعتاد له، والأثيم: المنهمك في ارتكاب الآثام، اتقوا الله: أي قوا أنفسكم عقابه، وذروا: أي اتركوا، فأذنوا: أي فاعلموا، بحرب من الله: أي بغضب منه، وحرب من رسوله بمعاملتكم معاملة البغاة وقتالكم بالفعل في عصره، واعتباركم أعداء له في كل عصر، لا تظلمون: أي لا تفعلون

المعنى الجملي

الظلم بغرمائكم بأخذ الزيادة، ولا تظلمون بنقص شىء من رأس المال، العسر: الإعسار ويكون بفقد المال أو كساد المتاع، والنظرة: الانتظار، والميسرة: اليسار والسعة. المعنى الجملي كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطى المال من غير عوض ابتغاء وجه الله- وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابى يأخذ المال بلا عوض يقابله. وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل، وفيم يكون؟ حتى نتفهمه حق الفهم، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام. الربا ضربان: ربا النسيئة، وربا الفضل فالأول: يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل، قال ابن جرير: إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال: أخر عنى دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عزّ وجل في إسلامهم عنه اهـ. والتعامل بهذا النوع من الكبائر، وقد ورد في الحديث «لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده» والثاني: يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصرى بأقة وربع من عنب أزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين (الذهب والفضة) لما جاء فى الخبر من قوله صلى الله عليه وسلم «لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق

أسرار تحريم الربا

(الفضة) والبرّ بالبرّ والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد» . والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه. أسرار تحريم الربا زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة، ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هى مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدى الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيّا لا يعطى ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغنى لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كاداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية. وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكّمون الدين في شىء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين؟ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلماذا لانتقن سائر المكاسب لنعوّض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شىء؟. وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عاثقا لهم عن الرقى، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» وقال: «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» .

فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعد ما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقى سببا فى الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا، وكان الدين وحده هو العاصم لنا. فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث فى أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم. فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها. ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرّم الدين الربا فيما يلى: (1) إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش، فيألف الكسل، ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم. ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم. (2) إنه يؤدى إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع

عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جرّاء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة. ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيّا عنه بألا يحدّث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة. (3) إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال صلى الله عليه وسلم «حرمة مال الإنسان كحرمة دمه» . ولا ينبغى اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يد المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن. (4) إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ» . والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوه من الكماليات التي كان يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم

بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولى الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) . وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه فى مؤتمر القانون الإسلامى في شهر يوليو سنة 1951 وقد جاء فيها: أن سنة القرآن فى معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة. فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرّمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحى، أما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئى له، والثالثة تحريمه التحريم الكلى القاطع. فهل يطيب لكم أن تدرسوا معى المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا؟ إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التامّ على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحى وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها. نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيّا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.

ففى الآية المكية يقول الله جلت حكمته «وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله» هذه كما ترونها موعظة سلبية: أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية (16- 67) حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم. أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنصّ الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهى يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر (2- 219) حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهى صريح، وقد جاء هذا النهى بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة (4- 43) . وكذلك لم يجىء النهى الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة (2- 130) وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآنى كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهى الحاسم عن كل ما يزيد على رأس ما الدين حيث يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ،

وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (2- 278- 281) . هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التأريخي. وإنكم لترون الآن أن الفئة التي تزعم أن الإسلام يفرق بين الربا الفاحش وغيره (وهى الفئة من المتعلمين الذين ليس لهم رسوخ قدم في علوم القرآن) لم تكتف بأنها خالفت إجماع علماء المسلمين في كل العصور، ولا بأنها عكست الوضع المنطقي المعقول حيث جعلت التشريع الإسلامى بعد أن تقدم إلى نهاية الطريق في إتمام مكارم الأخلاق يرجع على أعقابه ويتدلى إلى وضع غير كريم، بل إنها قلبت الوضع التأريخي إذا اعتبرت النص الثالث مرحلة نهائية، بينما هو لم يكن إلا خطوة انتقالية في التشريع لم يختلف فى ذلك محدّث ولا مفسّر ولا فقيه. على أنا لو فرضنا المحال ووقفنا معهم عند هذا النص الثالث، فهل نجد فيه ربحا لقضيتهم في التفرقة بين الربا الذي يقل عن رأس المال، والربا الذي يزيد عليه أو يساويه؟ كلا، فإنه قبل كل شىء لا دليل في الآية على أن كلمة الإضعاف شرط لا بد منه في التحريم، إذ من الجائز أن يكون ذلك عناية بذم نوع من الربا الفاحش الذي بلغ مبلغا فاضحا في الشذوذ عن المعاملات الإنسانية من غير قصد إلى تسويغ الأحوال المسكوت عنها التي تقلّ عنها في الشذوذ. ومن جهة أخرى فإن قواعد العربية تجعل كلمة «أضعافا» فى الآية وصفا للربا لا لرأس المال كما قد يفهم من تفسير هؤلاء الباحثين، ولو كان الأمر كما زعموا لكان القرآن لا يحرم من الربا إلا ما بلغ 600 من رأس المال. بينما لو طبقنا القاعدة العربية على وجهها لتغير المعنى تغيرا تاما بحيث لو افترضنا ربحا قدره واحد في الألف أو المليون لصار بذلك عملا محظورا غير مشروع بمقتضى النص الذي يتمسكون به.

أما القول بأن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يعرفون إلا بالربا الفاحش الذي يساوى رأس المال أو يزيد عليه، فإنه لا يصح إلا إذا أغمضنا أعيننا عما لا يحصى من الشواهد التي نقلها أقدم المفسرين وأجدرهم بالثقة. ولقد كان الشعب العبراني الذي يعيش والشعب العربي في صلة دائمة منذ القدم يفهم من كلمة الربا كل زيادة على رأس المال قلّت أو كثرت، وهذا هو المعنى الحقيقي والاشتقاقى للكلمة. أما تخصيصها بالربا الفاحش فهو اصطلاح أوربي حادث، يعرف ذلك كل مطلع على تاريخ التشريع. وبعد، فإنا لا نطيل الوقوف عند هذا النص الانتقالى، لأن الذي يعنى رجل القانون فى تطبيق الشرائع إنما هو دورها الأخير، وقد بينا أن الدور الأخير في موضوعنا إنما تمثله الآيات التي تلوناها آنفا من سورة البقرة، كما رأينا أن الشريعة القرآنية تتجه كلها منذ البداية إلى استنكار كل تعويض يطلب من المقترض أفلا يكون من التناقض أن هذه الشريعة التي تضع الإحسان إلى الفقير في أبرز موضع من قانونها والتي تحث على إنظار المعسر أو على ترك الدين له- تعود فتأخذ منه بالشمال ما منعته باليمين، إذ تأذن للغنىّ بأن يطالبه ببعض الزيادة على الدين؟. إلى جانب هذه النصوص القرآنية تجد في بيان السنة النبوية ما هو أكثر تفصيلا وأشد صرامة، فإن الرسول صلوات الله عليه لم يكتف بتحريم الربا على آكله كما ورد فى القرآن الكريم، ولم يكتف بجعل المعطى والآخذ والكاتب سواء في اللعن والإجرام، بل إنه أحاط هذه الجريمة بنطاق من الذرائع والملابسات جعلها حمى محرما تحريم الوسائل الممهدة إلى الحرمة الأصلية. والطريف في أمر هذه الإضافة أنه جعل التحريم فيهما على مراتب متفاوتة

الإيضاح

فى تدرج حكيم يتنقل من الإباحة التامة رويدا رويدا إلى الحظر الكلى، مارّا بكل المراتب المتوسطة بينهما اهـ ببعض تصرف. الإيضاح (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) يقال لمن يتصرف في شىء من مال غيره، أكله وهضمه أي إنه تصرف فيه تمام التصرف، فلا سبيل إلى رده كما لا سبيل إلى رد المأكول. والمراد أن حال المرابين في الدنيا كالمتخبطين في أعمالهم بسبب الصرع والجنون، إذ أنهم لما فتنوا بحب المال واستعبدتهم زينته، ضريت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجله جميع موارد الكسب الأخرى، فخرجت نفوسهم عن حدّ الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، وترى أكثر ذلك ظاهرا في حركاتهم وتقلبهم فى أعمالهم فالمولعون بأعمال (البورصة) والمغرمون بالقمار يزداد فيهم النشاط والانهماك فى الأعمال، وترى فيهم خفة تعقبها حركات غير منتظمة. والعرب تقول لمن يسرع ويأتي بحركات مختلفة على غير نظام قد جنّ. وجمهور المفسرين على أن المراد بالقيام القيام من القبور حين البعث، وأن الله جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود. وروى الطبراني حديث عوف بن مالك مرفوعا: «إياك والذنوب التي لا تغفر، الغلول- الخيانة في مغنم وغيره- فمن غلّ شيئا أتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط» . وتخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب، إذ يزعمون أنه يخبط الإنسان فيصرع، فورد القرآن على ما يعتقدون، وكذلك يعتقدون أن الجنى يمسّ الإنسان

فيختلط عقله، ويقولون رجل ممسوس: أي مسه الجن، ورجل مجنون: إذا ضربته الجن، ولهم في ذلك قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المحسوسات. فجاءت الآية وفق ما يعتقدون، ولا تفيد صحة هذا ولا نفيه، كما جاء قوله تعالى فى وصف ثمر شجرة الزقوم التي تكون يوم القيامة في النار «طلعها كأنّه رءوس الشّياطين» وما رأى أحد رءوس الشياطين، لكنها جاءت بحسب ما يتخيلون ويزعمون. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي ذلك الأكل للربا مرتب على استحلالهم له وجعله كالبيع، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل، يجوز أن يعطى المحتاج عشرة دراهم على أن يردّ عليه بعد سنة عشرين درهما، والسبب في كل من الزيادتين واحد وهو الأجل. تلك حجتهم وهم واهمون فيما قالوا، فقياسهم فاسد، ومن ثم قال: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» . إذ في البيع ما يقتضى حله، وفي الربا من المفسدة ما يقتضى تحريمه- ذاك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشترى بالسلعة انتفاعا حقيقيا، فمن يشترى قمحا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره في الأرض أو ليبيعه، والثمن مقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشترى باختيارهما، أما الربا فهو إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر، فما يؤخذ من المدين زيادة في رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل، ولا يؤخذ بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار. (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) أي فمن بلغه تحريم الله للربا ونهيه عنه فتركه فورا بلا تراخ ولا تردد اتباعا لنهى الله- فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، ويكتفى منه بألا يأخذ ربا بعد ذلك.

(وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) يحكم فيه بعدله، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم، وبلوغه الموعظة من ربه، وفي هذا إيماء إلى أن تلك الإباحة لما سلف رخصة للضرورة، وترشد إلى أن ردّ ما أخذه من قبل النهى إلى أربابه من أفضل العزائم. (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ومن عادوا إلى ما كانوا يأكلون من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك الذين لم يتعظوا بموعظة من ربهم، وهو لا ينهاهم إلا عما يضرهم، فهم أهل النار خالدين فيها. والخلود هنا المكث الطويل، وقد عبر به تغليظا كما جاء مثله في آيات أخرى. ويرى بعضهم أنّ الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا- إيثار لحب المال أو اللذة به، فلا يجتمع مع الإيمان الحق الذي يملأ النفوس خوفا ورهبة من عقاب الله بفعل ما نهى عنه، وأما الإيمان الصوري فلا وزن له عند الله، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما يرشد إلى ذلك الحديث «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» . فالذى يرتكب الفواحش على هذه الطريقة يعدّ من الكافرين المستحلين، وإن أنكر ذلك بلسانه، فيكون خالدا مخلدا في النار أبدا. (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي يذهب الله بركة الربا ويهلك المال الذي يدخل فيه، فلا ينتفع به أحد من بعده، ويضاعف ثواب الصدقات، ويزيد المال الذي أخرجت منه. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» . وقال العلماء: المراد بالمحق ما يلاقى المرابى من عداوة المحتاجين، وبغض المعوزين وقد تفضى هذه العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضارّ كالاعتداء على الأموال والأنفس والثمرات، كما ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا، فقد قام الفقراء يعادون

الأغنياء ويتألبون عليهم حتى صارت هذه مسألة اجتماعية شائكة لديهم، وكذلك ما يصابون به في أنفسهم من الوساوس والأوهام، يعرف ذلك من راقب عبّاد المال وبلا أخبارهم. فمنهم من شغله المال عن طعامه وشرابه، بل عن أهله وولده، حتى لقد يقصّر في حق نفسه تقصيرا يفضى إلى الخسران والذل والمهانة. وقصارى ذلك- إن الربا يمحق ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة، ويصل بصاحبه إلى عكس هذه النتيجة من الهموم والأحزان، والحب الشديد للمال، ومقت الناس له، وكراهتهم إياه، وبذا لم يصل إلى ثمرة المال المقصودة في هذه الحياة، وهى أن يكون ناعم البال عزيزا شريفا عند الناس، لكونه مصدر الخير لهم، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال، فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بماله هذا الضرب من الانتفاع، فكان كمن محق ماله وهلك. وقد قضت سنة الله في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله، وقد تقدم إيضاح هذا. (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) الكفّار هنا هو المتمادى في كفر ما أنعم الله به عليه من المال، لأنه لا ينفق منه في سبيله، ولا يواسى به المحتاجين من عباده، والأثيم هو المنهمك في ارتكاب الآثام، فهو قد جعل المال آله لجذب ما في أيدى الناس إلى يده فاستغلّ إعسارهم، وأخذ أقواتهم، وامتص دماءهم. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين صدّقوا بما جاءهم من ربهم من الأوامر والنواهي، وعملوا ما تصلح به نفوسهم كمواساة المحتاجين، والرحمة بالبائسين وإنظار المعسرين- وهذا من مستتبعات الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان- وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بالله فتزيد إيمانه، وحبه لربه ومراقبته له، فتسهل عليه طاعته في كل شىء، وآتوا الزكاة التي تطهر النفوس من رذيلة البخل وتمرنها على أعمال البر- وخص هذين بالذكر مع شمول الأعمال الصالحة لهما لأنهما أعظم أركان العبادات

النفسية والبدنية- لهم ثواب مدخر عند ربهم يوم الجزاء، ولا يحزنون على ما فات، ولا يخافون مما هو آت. وفي هذا تعريض بآكلى الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لكفوا عن ذلك. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يا أيها المؤمنون المصدقون الله فيما به أمر وعنه نهي، قوا أنفسكم عقابه باتباع أوامره ونواهيه واتركوا ما بقي لكم من الربا عند الناس إن كنتم مؤمنين حقا بكل ما جاء به الدين من أوامر ونواه. وقد عهد في كلام العرب أن يقال: إن كنت متصفا بما تقول فافعل كذا ويذكرون أمرا من شأنه أن يكون أثرا لهذا الوصف. وفي هذا إيماء إلى أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد أن نهى الله عنه وتوعد عليه، لا يعدّ من أهل الإيمان الذي له السلطان على الإرادة فهو مخلد في النار، وإيمانه ببعض ما جاء في الدين، وكفره ببعضه بعدم الإذعان له والعمل به، لا يعد إيمانا حقا وإن أقر بلسانه، إذ مثل هذا لا يعتدّ به كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» . (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي فإن لم تتركوا ما بقي من الربا كما أمرتكم، فاعلموا أنكم محاربون لله ورسوله، إذ خرجتم عن شريعته ولم تخضعوا لحكمها ونبذتم ما جاء به رسوله عنه. وفي هذا رمز إلى أن عدم الخضوع لأوامر الشريعة خروج منها وامتهان لأحكامها. وحرب الله غضبه وانتقامه ممن يأكل الربا، والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا فكثيرا ما رأينا آكلى الربا أصبحوا بعد الغنى يتكففون الناس. وحرب رسوله مقاومته لهم في زمنه، واعتبارهم خارجين من الإسلام يحل قتالهم، وعداوته لهم بعد وفاته إذا لم يخلفه أحد يقيم شريعته.

(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) أي وإن رجعتم عن الربا خضوعا لأوامر الدين، فلكم رءوس الأموال لا تأخذون عليها شيئا من الغرماء، ولا تنقصون منها شيئا، بل تأخذونها كاملة. روى ابن جرير أن هاتين الآيتين نزلتا في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بنى المغيرة كانا شريكين في الجاهلية، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بنى عمرو وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) . وأخرج عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من ربا على الناس وما لهم من ربا عليهم فهو موضوع، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد عليها، وكان بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من المغيرة، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كبير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال: «إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب» (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أي وإن وجد مدين معسر ممن لكم عليهم دين فأنظروه وأمهلوه إلى حين اليسار حتى يتمكن من أداء الدين. روى أن بنى المغيرة قالوا لبنى عمرو بن عمير في القصة السالفة: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا فنزلت الآية في قصتهم كالآيتين قبلها. (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أصل نصدقوا تتصدقوا أي وتصدقكم على المعسرين من المدينين بإبرائهم من الدين كلّا أو بعضا، خير لكم من إنظارهم وأكثر ثوابا عند الله منه. وفي هذا حث على الصدقة، والسماح للمدين المعسر، لما فيه من التعاطف

والتراحم وبر الناس بعضهم ببعض، وذلك مما يوجد حسن الصلة بين الأفراد ويتم ارتباط الأمة وتضامن بنيها في المصالح العامة، كما يرشد إلى ذلك الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» . (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فاعملوا وفق ما تعلمون، وسامحوا إخوانكم، وأشعروا قلوبهم الشفقة والحدب عليهم. وفي الآية دليل على وجوب إنظار المعسر إلى حين اليسار، وأفضل منه الإبراء والتصدق عليه بقيمة الدين. ثم ختم سبحانه آيات الربا بتلك العظة البالغة التي إذا وعاها المؤمن هوّنت عليه السماح بالمال والنفس وكل ما يملك مما طلعت عليه الشمس فقال: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) أي واحذروا ذلك اليوم العظيم الذي تتفرغون فيه من شواغلكم الجسدية الدنيوية التي كانت تصرفكم عن ربكم في هذه الحياة، إذ كنتم ترون أن لكم حاجات وضرورات يجب عليكم أن تستعدوا لها بتكثير المال وجمعه. والخلاصة- إنكم إذا تذكرتم ذلك اليوم وفكرتم فيما أعدّ الله لعباده من الجزاء على قدر أعمالهم، خفف ذلك من غلوائكم واطمأنت نفوسكم إلى ملاقاة ربكم، فتجدون بردا وسلاما لطيب هذه المعاملة. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي ثم يجازى كل امرئ بما عمل من خير أو شر. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزدادون على عقابهم. عن ابن عباس أن هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال: ضعها فى رأس المائتين والثمانين من البقرة، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما، وقيل أحدا وثمانين يوما.

[سورة البقرة (2) : الآيات 282 إلى 283]

[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 283] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) تفسير المفردات تداينتم: داين بعضكم بعضا، إلى أجل مسمى: أي موعد محدود بالأيام والشهور والسنة ونحوها مما يفيد العلم، لا بالحصاد وقدوم الحاج مما فيه جهالة، بالعدل

المعنى الجملي

أي بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين، ولا يأب أي لا يمتنع، كما علمه الله أي على الطريق التي علمه الله إياها من كتابة الوثائق، وليملل أي وليلق على الكاتب ما يكتبه والإملال والإملاء بمعنى، يقال أملّ على الكاتب وأملى عليه، ولا يبخس أي ولا ينقص، سفيها أي ضعيف الرأي لا يحسن التصرف في المال لضعف عقله، أو ضعيفا أي صبيا أو شيخا هرما، أو لا يستطيع أن يملّ أي بأن كان جاهلا أو ألكن أو أخرس، واستشهدوا شهيدين أي اطلبوا أن يشهد رجلان، ترضون أي ترضون دينهم وعدالتهم، أن تضل أي تخطىء لعدم ضبطها وقلة عنايتها، ولا تسأموا أي لا تملوا ولا تضجروا، أقسط أي أعدل، وأقوم أي وأعون على إقامتها على وجهها، وأدنى أي أقرب، ألا ترتابوا أي إلى انتفاء الريب في جنس الدين وقدره وأجله، تديرونها أي تتعاطونها بالتعامل يدا بيد، الجناح الإثم والذنب ولا يضارّ أي ولا يفعل الضرر بالمتعاملين بالامتناع عن الكتابة أو الشهادة أو بالتحريف أو الزيادة أو النقص، فسوق أي خروج عن الطاعة، والرهان واحدها رهن بمعنى مرهون. المعنى الجملي بعد أن رغب سبحانه في الصدقات والإنفاق في سبيله، لما فيهما من الرحمة ثم أعقب ذلك بالنهى عن الربا لما فيه من القسوة- ذكر هنا ما يحفظ المال الحلال بكتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات، وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد عليه، إذ من يؤمر بالإنفاق والصدقة، وينهى عن ترك الربا لا بدّ له من كسب ينّمى ماله ويحفظه من الضياع، ليتسنى له القيام بما طلب الله وحث عليه. وفي هذا دليل على أن المال ليس مبغوضا عند الله، ولا مذموما في دين الله، كيف وقد شرع الله لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه،

الإيضاح

وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه باستعمال عقولنا، وتوجيه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها. وكأنّ هذه الآية جاءت احتراسا مما عسى أن يقع في الأذهان من الكلام السابق، إذ ربما فهم من المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله، والتشديد في تحريم الربا، أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما يظهر من نصوص بعض الأديان السابقة وكأنه يقول: إنا لا نأمركم بإضاعة المال ولا بترك تثميره، وإنما نأمركم أن تكسبوه من الطريق الحلال، وتنفقوا منه في وجوه البر والخير، يرشد إلى هذا أن الله نهانا عن إيتاء المال للسفهاء خوفا من ضياعه بقوله: «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» أي تقوم بها مصالحكم ومعايشكم. روى أحمد والطبراني حديث عمرو بن العاص «نعمّا المال الصالح للمرء الصالح» وإنما يذم المال إذا استعبد صاحبه، فبخل في إنفاقه، واشتط في جمعه من الحلال والحرام، روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم» . الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) طلب الله إلى المؤمنين حفظا لديونهم التي تشمل القرض والسلم [ما فيه المبيع مؤجل والثمن عاجل] ويسميه العامة (الغاروقة) وبيع الأعيان إلى أجل معين- أن يكتبوها حتى إذا حل الأجل سهل عليهم أن يطلبوها ويقاضوا المدين للحصول عليها. وقد تبين الله تعالى كيفية الكتابة، ومن يتولاها فقال: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أي وليكن الكاتب الذي يكتب لكم الديون عادلا يساوى بين المتعاملين، لا يميل إلى أحدهما فيزيده على حقه، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه.

(وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ) بعد أن شرط الله في الكاتب العدالة شرط فيه العلم بالأحكام والفقه في كتابة الدين، إذ الكتابة لا تكون ضمانا تاما إلا إذا كان الكاتب عالما بالأحكام الشرعية والشروط المرعية عرفا وقانونا، وكان عادلا حسن السيرة، لا غرض له إلا بيان الحق بلا محاباة. وقدم صفة العدالة على صفة العلم، لأن العادل يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغى أن يعلمه لكتابة الوثائق، ولكن من كان عالما غير عادل فالعلم بهذا وحده لا يهديه للعدالة، وقلما رأينا فسادا من عدل ناقص العلم، ولكن أكثر الفساد من العلماء الذين فقدوا ملكة العدالة. وفي ذكر هذه الشروط في الكاتب إرشاد من الله للمسلمين أن يكون فيهم هذا الصّنف من الكتاب القادرين على كتابة العقود الرسمية، كما أن في ذكرها إيماء إلى أنه ينبغى أن يكون الكاتب غير المتعاقدين وإن كانا يحسنان الكتابة خيفة أن يغالط أحدهما الآخر أو يغشّه. وفي التعبير بقوله (ولا يأب) رمز إلى أن العالم بما فيه مصلحة الناس، إذا دعى إلى القيام بعمل وجب عليه أن يلبّى الدعوة، ومن ثم أمره الله بذلك أمرا صريحا فقال: (فليكتب) وهذا الأمر بعد النهى عن الإباء كالتأكيد، لأن الموضوع هامّ لتعلقه بحفظ الحقوق، ولا سيما لدى الأميين الذين خوطبوا به أولا. (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) أي وليلق على الكاتب ما يكتبه المدين ليكون إملاله حجة عليه تحفظها الكتابة. (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) أي وليتق الذي عليه الحق الله في الإملال، بأن يذكر ما عليه كاملا، وفي هذا مبالغة في الحث على التقوى بالتذكير بجلائل النعم والترهيب من العقاب. ثم نهاه أن يبخس من الحق شيئا تأكيدا لهذا فقال: (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) إذ الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه، وعرضة

للطمع، وربما يستخفه طمعه إلى نقص شىء من الحق، أو الإبهام في الإقرار الذي يملى على الكاتب تمهيدا للمجادلة والمماطلة. (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) أي فإن كان المدين ضعيف العقل أو صبيا أو هرما أو جاهلا أو ألكن أو أخرس، فعلى من يتولى أموره ويقوم مقامه من قيّم أو وكيل أو مترجم أن يمل بالعدل بلا زيادة ولا نقص. (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) أي واطلبوا أن يشهد على المداينة رجلان من المؤمنين ممن حضرها، وفي قوله من رجالكم دليل على اشتراط الإسلام في الشهادة كما اشترطوا العدالة بدليل قوله: «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» . قال ابن القيم في إعلام الموقعين: البيّنة في الشرع أعم من الشهادة، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية يسمى بينة، فلا مانع أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بذلك المعنى إذا تبين للحاكم الحق بها. (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي فإن لم يكونا أي من تستشهدونهما رجلين، فليستشهد رجل وامرأتان. (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) أي ممن ترضون دينهم وعدالتهم من الشهداء، وإنما جىء بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها، ومن ثم فوّض الأمر فيها إلى رضى المستشهدين. (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) أي حذر أن تضل إحداهما وتخطىء لعدم ضبطها وقلة عنايتها، فتذكر كل منهما الأخرى بما كان فتكون شهادتها متممة لشهادة الأخرى. وخلاصة هذا- أنه لما كان كل منهما عرضة للخطأ والضلال: أي الضياع وعدم الاهتداء إلى ما كان قد وقع بالضبط، احتيج إلى إقامة الثنتين مقام الرجل الواحد حتى إذا تركت إحداهما شيئا من الشهادة، كأن نسيته أو ضل عنها تذكرها الأخرى

وتتم شهادتها، وعلى القاضي أن يسأل إحداهما بحضور الأخرى، ويعتدّ بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الأخرى، وكثير من القضاة لا يعلمون بهذا جهلا منهم بما ينبغى أن يتبع في نحو هذا. أما الرجلان فيفرق بينهما، فإن قصر أحدهما أو نسى شيئا مما يبين الحق لا يعتد بشهادته، وتكون شهادة الآخر وحده غير كافية ولا يعول عليها إن بينت الحق. وهذه العبارة لبيان سر تشريع الحكم في اشتراط العدد في النساء، إذ قد جرت العادة أن المرأة لا تشتغل بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فتكون ذاكرتها ضعيفة فيها، بخلاف الأمور المنزلية فإن ذاكرتها فيها أقوى من ذاكرة الرجل فقد جبل الإنسان على أن يقوى تذكره لما يهتم به ويعنى بشأنه، واشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية لا يغير هذا الحكم. لأن الأحكام إنما تكون للأعم الأكثر، وعدد هؤلاء قليل في كل أمة وجيل. (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) أي ولا ينبغى للشهود أن يمتنعوا عن تحمل الشهادة ليؤدوها حين الحاجة. روى الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم، وقيل إن المراد لا يأبوا عن تحمل الشهادة ولا أدائها، فالامتناع عن كل منهما محرم، وهو فرض كفاية لا يجب على من دعى إليه إلا إذا لم يوجد غيره يقوم مقامه. (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) أي ولا تتكاسلوا عن كتابة الدين، قليلا كان أو كثيرا، مبينين بذلك أجله المسمى. وفي هذا دليل على أن الكتابة من الأدلة التي تعتبر عند استيفاء شروطها، وعلى أنها واجبة في القليل والكثير، وعلى أنه لا ينبغى التهاون في الحقوق حتى لا يضيع شىء منها، وهذا قاعدة من قواعدة الاقتصاد في العصر الحديث، فكل المعاملات والمعاوضات لها دفاتر خاصة تذكر فيها مواقيتها، والمحاكم تجعلها أدلة في الإثبات

ثم بين الحكمة في الأوامر والنواهي المتقدمة بعد ذكرها، وتلك سنة القرآن يذكر الأحكام، ثم يذكر أسرارها وفوائدها لتكون أثبت في النفس، وأثلج للقلب قال: (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي ذلك الحكم أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأعون على إقامة الشهادة على وجهها. وفي هذا إيماء إلى أن للشاهد أن يطلب وثيقة العقد المكتوب ليتذكر ما كان من الأحوال حين كتابتها وإملائها. وقوله: أدنى ألا ترتابوا أي إنه أقرب إلى نفى ارتياب بعضكم من بعض، إذ هذا الاحتياط في كتابة الحقوق والإشهاد عليها، ومراعاة العدل من المتعاملين والكتّاب والشهداء يدفع الارتياب وما ينشأ منه من مفاسد كالعداوات والمخاصمات- وهذه ميزة ثالثة تؤكد الأخذ بها والاعتماد عليها وجعلها مذكرة للشهود. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أي إن الكتابة مطلوبة إلا أن توجد تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين بالتعاطى بأن يأخذ المشترى المبيع والبائع الثمن، فلا حرج حينئذ في ترك الكتابة ولا إثم في ذلك، إذ لا يترتب عليه شىء من التنازع والتخاصم. وفي هذا إشارة إلى ما يجب على المرء في ضبط أمواله وإحصاء ما يرد إليه وما يصدر عنه، وهذا منتهى الرقى المدني، هدى إليه الإسلام قبل أن يعرفه الغربيون ذوو الحضارة والمدنية بعدة قرون، ولم يجعل ذلك أمرا محتوما لما فيه من المشقة على غير الأمم ذات التقدم والحضارة. (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أي وأشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة، إذ قد يحصل التنازع والخلاف في بعض العقود الحاضرة بعد تمام العقد، فاكتفى بالإشهاد. أما الديون المؤجلة فربما يقع التنازع فيها بعد موت الشهود، إذ هى مما يطول زمنها ومن ثم وجبت كتابتها.

(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أصل يضارّ يضارر (بكسر الراء) وهذا نهى للكاتب أن يضر أحد المتعاملين بالتحريف أو التغيير بزيادة أو نقص، وللشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة عما يطلب منهما، ويؤيده قوله بعد (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) إذ التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم. (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من الضرار، فإن هذا الفعل خروج من طاعة الله إلى معصيته. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي واتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه، وهو سبحانه يعلمكم ما فيه صلاح حالكم في الدارين وحفظ أموالكم، ولولا هديه لكم لم تعلموا شيئا، وهو العليم بكل شىء، فإذا شرع شيئا من الأحكام فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن اتبع شرعه وهداه. وجاء ختم الآية بهذه الموعظة الحسنة ليكون معينا على الامتثال لجميع ما تضمنته من الأحكام- وهذه الآية أطول آية في القرآن وأبسطها شرحا وأبينها أحكاما، وفيها مبالغة في التوصية بحفظ المال وصونه من الضياع، ليتمكن المرء من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عما يوجب سخطه من التعامل بالربا وغيره، ومن المواظبة على تقواه التي هى الوسيلة لكل فوز وفلاح. ثم ذكر ما هو كالاستثناء من الأحكام السابقة فقال: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يحسن كتابة المداينة، أولم تجدوا صحيفة ولا دواة ولا قرطاسا، فاستوثقوا برهن تقبضونه. وذكر السفر وعدم وجود الكاتب الذي يكتب وثيقة الدين، بيان للعذر الذي رخص ترك الكتابة ووضع الرهن محله في التوثق لصاحب الدين لا لمنع أخذ الرهن فى غير ذلك، فقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه في المدينة ليهودى بعشرين صاعا من شعير أخذها لأهله رواه البخاري ومسلم.

وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغى أن يكون عدم وجود الكاتب مقيدا بحال السفر، لا في مواطن الإقامة، لأن الكتابة مفروضة على المؤمنين، والإيمان لا يتحقق إلا بالإذعان والعمل، ولا سيما في فريضة أكدت كالكتابة. (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) أي فإن أمن بعض الدائنين بعض المدينين لحسن ظنه به، وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره، فليؤدّ المدين دينه وليكن عند ظن الدائن به، وليتق الله ربه فلا يتخوّن من الأمانة شيئا، فقد يوسوس له الشيطان بأن لا حجة عليه ولا شهيد، فالله خير الشاهدين وهو أولى أن يتقى، وسمى الدين أمانة لائتمان المدين عليه بترك الارتهان به. والآيات السالفة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن هى الأصل، والعزيمة للاحتياط في الديون- وهذه الآية رخصة أباحها الله لناحين الضرورة كالأوقات التي لا يوجد فيها كاتب ولا شهيد، فإذا احتاج امرؤ إلى الاقتراض من أخيه فى مثل هذه الحال، فالله لا يحرم عليه قضاء حاجته وسد خلّته إذا هو ائتمنه. ثم أكد وجوب الشهادة الذي استفيد من قوله: (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) بقوله: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي ولا تمتنعوا عن أداء الشهادة إذا دعا إليها الأمر، ومن يفعل ذلك يكن مجترحا للإثم مرتكبا للذنب. وسرّ هذا التأكيد أن الكتّاب والشهود هم الذين يعينون الناس على حفظ أموالهم، فعليهم ألا يقصروا في ذلك، كما على أرباب الأموال ألا يضاروهم، فإن المصلحة مشتركة بين الجميع. ونسب الإثم إلى القلب، لأنه هو الذي يعى الوقائع ويدركها ويشهد بها، فهو آلة الشعور والعقل، فكتمان الشهادة عبارة عن حبس ذلك فيه، والإثم كما يكون بعمل الجوارح وحركات الأعضاء يكون بعمل القلب واللب، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا»

[سورة البقرة (2) : آية 284]

فأسند إلى الفؤاد: أي القلب أو النفس أعمالا خاصة به، كما أسند الباقي إلى السمع والبصر. ومن آثام القلب سوء القصد وفساد النية والحسد. والآية ترشد إلى أن الإنسان يعاقب على ترك المعروف كما يعاقب على فعل المنكر، لأن الترك في الشهادة بكتمانها فعل للنفس تترتب عليه آثار تضرّ غيرها. وكل من الكتابة والاستشهاد شرع للاستيثاق بين الدائن والمدين، والكتابة أقوى من الشهادة، والشهادة عون لها، فالدائن يستوثق لماله فيأمن من إنكاره كله أو بعضه، والمدين يستوثق لما عليه فلا يخاف أن يزاد فيه، والشاهد يستوثق بشهادته فإذا شك أو نسى رجع إلى الكتاب فتذكّر واطمأن قلبه كما قال: «ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا» . للكتابة الفضل الأكبر في حفظ الحقوق حين موت الشهيدين أو أحدهما، لأنه لا حافظ لها حينئذ إلا هى، فهى التي يرجع إليها ويعمل بها. [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) المعنى الجملي جاءت هذه الآية متممة لقوله: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ودليل عليه، لأن كل شىء هوله، وهو خالقه فهو العليم به، ونحو الآية قوله: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» . وإذا كان كل شىء في السموات والأرض له، فهو يعاقب من كتم الشهادة، لأنه قد أتى إثما وارتكب جرما، ثم زاد هذا المعنى توكيدا بما يعده من قوله:

الإيضاح

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر الآية، إذ كتمان الشهادة داخل في عموم ما في النفس فالله يحاسب عليه، فإن شاء عفا عمن أجرم، وإن شاء عاقبه وهو القدير دون سواه على ذلك. الإيضاح (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كل ما فيها خلقا وملكا وتصرفا له لا شركة لغيره في شىء منهما فلا يعبد فيهما سواه، ولا يعصى فيما يأمر وينهى، وله أن يلزم من شاء بما شاء من التكاليف. (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) أي وإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه بالقول أو بالفعل، أو تكتموه عن الناس ولا تظهروه يجازكم الله به يوم القيامة، لأن الإبداء والإخفاء عنده سيان لأنه «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» فالمعوّل عليه في مرضاته تزكية النفوس وتطهير السرائر لا لوك اللسان، وحركات الأبدان. والمراد بقوله (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الأشياء التي لها قرار في أنفسكم، وعنها تصدر أعمالكم كالحقد والحسد ونحوهما- ذاك أن الخواطر والهواجس قد تأتي بغير إرادة الإنسان ولا يكون لها أثر في نفسه ولا ينتج منها فعل يكون مترتبا عليها، لكنه إذا استرسل معها حسبت عليه عملا يجازى به، لأنه مشى معها قدما باختياره، وقد كان يستطيع مطاردتها وجهادها، فالمظلوم يذكر ظالمه فيشتغل فكره في دفع ظلمه والهرب من أذاه، وربما استرسل مع خواطره إلى أن تجره إلى تدبير الحيل للإيقاع به، ومقابلة ظلمه بما هو شر منه، فيكون مؤاخذا عليه أبداه أو أخفاه. وصفة الحسد تبعث في نفس الحاسد خواطر الانتقام من المحسود والسعى في إزالة نعمته، وهذه الخواطر مما يحاسب الحاسد عليها أبداها أو أخفاها- وهكذا يقال في كل أعمال القلب التي أمرنا الشارع بجهادها ومقاومتها، مما هو أثر لأخلاق وملكات وعزائم قوية تنشأ عنها أعمال هى آثار لها، إذا انتفت الموانع وتركت المجاهدة.

أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق- الصلاة والصيام والجهاد والصدقة- وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير؟ فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» الآية، قال فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» إلى آخرها. وقوله نسخها الله: أي أزال ما أخافهم من الآية الأولى وحوّله إلى وجه آخر. وقد قال الصحابة ما قالوا لأنهم قد دخلوا في الإسلام وكثير منهم تربّوا في حجر الجاهلية وانطبعت في نفوسهم أخلاقها، وأثرت في قلوبهم عاداتها، وكانوا يتطهرون منها بالتدريج بهدى الرسول ونور القرآن، فلما نزلت هذه الآية خافوا أن يؤاخذوا على ما كان باقيا في أنفسهم من العادات الأولى، وكانوا يحاسبون أنفسهم لاعتقادهم النقص وخوفهم من الله عز وجل، حتى أثر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسأل حذيفة بن اليمان هل يجد فيه شيئا من علامات النفاق؟ فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يؤاخذها إلا على ما كلفها، وهم مكلفون بتزكية أنفسهم ومجاهدتها بقدر الطاقة، وطلب العفو عما لا طاقة لهم به. وقد يكون بعضهم خاف أن تدخل الوسوسة والشبهة قبل التمكن من دفعها فيما تشمله الآية، فكان ما بعدها مبينا لغلطهم في ذلك. (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي فهو يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له، وبعذب بعدله من يشاء أن يعذبه، والله إنما يشاء ما فيه الرحمة والعدل، ومن العدل

[سورة البقرة (2) : الآيات 285 إلى 286]

أن يجازى المسيء بقدر إساءته، والمحسن على قدر إحسانه، ومن الفضل أن يضاعف جزاء الحسنة عشرة أضعافها أو يزيد، ولا يضاعف السيئة. والذنب المغفور هو الذي يوفق الله صاحبه لعمل صالح يغلب أثره في النفس وليس كما يزعم الجاهلون أن الأمور فوضى والكيل جزاف، فيقيمون على الذنوب ويصرون عليها ويمنون أنفسهم بالمغفرة- اقرأ قوله تعالى في دعاء الملائكة للمؤمنين «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . ومحاسبة الله لعباده أن يريهم أعمالهم الظاهرة والباطنة، ويسألهم لم فعلوها؟ ثم إن شاء غفر وإن شاء عذب، فمن لم تصل أعماله المنكرة إلى أن تكون ملكات له فالله يغفرها له، ومن تكون كذلك فالله يعاقبه عليها، وهو المختار يفعل ما يشاء. ولا يخفى ما في الآية من الإنذار والتخويف، وليس فيها قطع بمغفرة ذنب وإن كان صغيرا، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية أنه قال: أبهمت الأمر علينا نرجو ونخاف، فآمن خوفنا ولا تخيب رجاءنا. [سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لا نفرق بين أحد من رسله: أي إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء لا يفضل بعضهم بعضا، سمعنا: أي سماع تدبر وفهم، والتكليف: الإلزام بما فيه كلفة، والوسع: ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، والاكتساب يفيد الجد في العمل، والمؤاخذة المعاقبة لأن من يراد عقابه يؤخذ بالقهر، ما لا طاقة لنا به: أي ما لا قدرة لنا عليه ويشقّ علينا فعله، والإصر: العبء الثقيل يأصر صاحبه ويحبسه مكانه، إذ لا يطيق حمله لثقله، والمراد به التكاليف الشاقة، مولانا: أي مالكنا ومتولى أمورنا. المعنى الجملي افتتح سبحانه هذه السورة ببيان أن القرآن لا ريب فيه، وأنه هدى للمتقين، وبين صفات هؤلاء وأصول الإيمان التي أخذوا بها، ثم ذكر خبر الكافرين والمرتابين، ثم أرشد فيها إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق، وحاجّ الضالين من الأمم السالفة ولا سيما اليهود، فإنه قد بلغ في حجاجهم مبلغا ليس بعده زيادة لمستزيد- وهنا اختتم السورة بالشهادة للرسول صلوات الله عليه وللمؤمنين، ثم لقنهم من الدعاء ما يرضيه، ثم ذكر تمام خضوعهم وإخباتهم إلى ربهم الذي رباهم وخلقهم في أحسن تقويم، وميزهم بالفطر السليمة والخلق الكامل، وطهر نفوسهم وزكاها من الأدناس والأرجاس حتى وصلوا إلى طريق السعادة، وفازوا بخيرى الدارين، وهذا منتهى الكمال الإنساني، وغاية ما تصبو إليه نفوس البشر.

الإيضاح

الإيضاح (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي صدّق الرسول بما جاء به الوحى من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان، وتخلّق به كما قالت عائشة رضى الله عنها كان خلقه القرآن، وكذلك المؤمنون من أصحابه. وقد كان من أثر هذا الإيمان أن زكت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وعلت هممهم فأتوا بالعجب العاجب من فتح البلاد والشعوب وسياستها سياسة عدل وحكمة مما شهد لهم به أعدى أعدائهم، وسجله لهم التاريخ في سجلّ الدول العظيمة الرقىّ والتقدم حين كان الناس في ظلام دامس، وحين كانت أرقى الأمم في تلك العصور تسوس رعاياها بالخسف والعسف، فأنقذها مما ترسف فيه من قيود الاستعباد وجعلها تتنفس في جوّ من الحرية لم تر مثله- وكفى بالله شهيدا لهم. (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أي كل منهم آمن بوجود الله ووحدانيته، وتمام حكمته في نظام خليقته، وبوجود الملائكة وسفارتهم بين الله والرسل ينزلون بوحيه على قلوب أنبيائه، أما البحث عن ذواتهم وصفاتهم وأعمالهم فمما لم يأذن به الله. وآمن كل منهم إجمالا فيما أجمله القرآن وتفصيلا فيما فصله- بأن الله أنزل على رسله كتبا فيها هداية للبشر بحسب ما فصل في قوله: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ» الآية. (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي ويقولون إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء كثر قوم الرسول أو قلوا، والتفضيل الذي جاء في قوله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» إنما هو في مزايا أخرى فوق الرسالة. وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

(وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وقالوا بلّغنا الرسول فسمعنا القول سماع تدبر وفهم، وأطعنا ما فيه من الأوامر والنواهي طاعة إذعان وانقياد، وهذا مما يبعث النفس إلى العمل به إلا إذا عرض لها مانع يمنعها منه. والمخلصون في إيمانهم يحاسبون أنفسهم على ما يقع منهم من تقصير تأتى به العوارض الطارئة، ويأبون إلا الكمال، ومن ثم كان من شأنهم أن يقولوا: (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي استر لنا ذنوبنا بعدم الفضيحة عليها في الدنيا وترك الجزاء عليها في الآخرة، أي نسألك ربنا المغفرة مما عساه يقع منا من التقصير الذي يعوقنا عن الرقى في مراتب الكمال. وإنما يكون ذلك بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة، وبهذا يمّحى أثر الذنب من النفس في الدنيا، فترجع إلى الله في الآخرة نقيّة زكية. (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي لا يكلف الله عباده إلا ما يطيقون، ويتيسر لهم فضلا منه ورحمة، وهو كقوله: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وهذا إخبار من الله بعد تلقيهم تكاليفه بالطاعة والقبول بآثار فضله ورحمته لهم، إذ كلفهم ما يتسنى لهم فعله، ولا يصعب عليهم عمله. وفيه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه من التقصير، وبتيسير ما ربما يفهم من الآية السالفة (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) من المشقة والتعسير. (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) أي لها خير ما كسبته لنفسها من قول أو فعل، وعليها ضرّ ما جدّت فيه من شر. وأضيف الاكتساب إلى الشر لبيان أن النفس مجبولة على فعل الخير، وتفعل الشر بالتكلف والتأسى، إذ الميل إلى الخير مما أودع في طبع الإنسان، ولا يحتاج إلى مشقة فى فعله بل يجد لذة في عمله، كما يشعر بالميل إلى عبادة الله، لأن شكر المنعم مغروس فى طبعه.

وأما الشر فإنه يعرض للنفس لأسباب ليست من طبيعتها، ولا من مقتضى فطرتها ولا يخفى عليها إذ ذاك أنها ممقوتة في نظر الناس، وأنها مهينة في قرارة نفوسهم. فالطفل ينشأ على الصدق حتى يسمع الكذب من الناس فيتعلمه وهو يشعر بقبحه، وهكذا شأنه عند اجتراح كل شر، فتراه يشعر بقبحه، ويجد بين جوانحه وازعا يقول له: لا تفعل، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه. والخير كل ما فيه نفع نفسك ونفع الناس، والعبارة الجامعة له أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» . والخلاصة- إن للنفس ثواب ما كسبت من الخير، وعليها عقاب ما اجترحت من الشر. وفي هذا ترغيب في عمل الخير، والمحافظة على أداء الواجبات الدينية، فإن اختصاص نفع الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله، وتحذير له من الإخلال به لأن مضرة ذلك تحيق به لا بغيره، واقتصار مضرة الفعل بفاعله من أشد الزواجر عن مباشرته. وبعد أن بين سبحانه حال المؤمنين في السمع والطاعة، وطلبهم المغفرة مما يتّهمون به نفوسهم من التقصير، وذكر فضله على عباده في عدم تكليفهم ما لا يطيقون- علمهم ما يدعون به ربهم فقال: (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) علمنا سبحانه أن ندعوه بألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا تفضلا منه، وإحسانا علينا، إذ كان ينبغى العناية والاحتياط والتذكر، لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان، أو يقل وقوعها منا، فيكون ذنبنا جديرا بالعفو والمغفرة. ذاك أن النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء، وترك إجالة الفكر فيه، ليستقر في النفس، ومن ثم ينسى الإنسان ما لا يهمّه ويحفظ ما يهمه، ويؤاخذ الناس

بعضهم بعضا بالنسيان، ولا سيما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى، فإنه إن لم يفعل ما يأمره به نسيانا رماه بالإهمال والتقصير وآخذه على ذلك. وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط والتروّى، ومن ثم أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الشيء خطأ، فإذا رمى امرؤ صيدا فأخطأ وأصاب إنسانا فقتله أوخذ به في الشريعة والقوانين الوضعية. وبهذا تعلم أن المؤاخذة على النسيان والخطأ مما جاءت به الشريعة، وجرى عليه العرف في المعاملات والقوانين، ولو لم يكن كل منهما مقصرا ما جاز هذا وما حسن، وكذلك يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ. والخلاصة- أن المراد من الآية أن الخطأ والنسيان مما يرجى العفو عنهما إذا وقع الإنسان فيهما بعد بذل الجهد والتفكر والتذكر وأخذ الدين بقوة، ثم لجأ إلى الدعاء الذي يقوى في النفس خشية الله ورجاء فضله، فيكون هذا الإقبال نورا تنقشع به ظلمة ذلك التقصير. وما رواه ابن ماجه والبيهقي في السنن عن ابن عباس مرفوعا «إن الله تجاوز عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فهو وعد من الله بالتجاوز عنها يوم القيامة رحمة منه وفضلا. (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أي ربنا لا تكلفنا ما يشق علينا فعله، كما كلفت من قبلنا من الأمم التي بعثت فيها الرسل كبنى إسرائيل إذ كان يجب عليهم قطع موضع النجاسة من الثوب إذا تنجس، وكانوا يدفعون ربع المال زكاة إلى نحو من ذلك. وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه لا يكلفنا ما يشقّ علينا كما صرح بذلك في قوله: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» وامتنان علينا وإعلام لنا بأنه كان يجوز

أن يحمل علينا الإصر، فيجب علينا أن نشكره لذلك، فنحن ندعوه استشعارا للنعمة والشكر عليها. (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات أو من البلايا والمحن، ولا ما يشق علينا من الأحكام، بل حملنا اليسير الذي يسهل علينا حمله والنهوض به، حتى لا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرّطين في دينهم. (وَاعْفُ عَنَّا) أي امح آثار ذنوبنا فلا تعاقبنا عليها. (وَارْحَمْنا) بتوفيقك إيانا للسير على سنتك التي جعلتها وسيلة لسعادة الدارين. وهذه الجمل الثلاث نتائج لما قبلها من الجمل التي افتتحت بلفظ (رَبَّنا) فاعف عنا مقابل لقوله (لا تُؤاخِذْنا) واغفر لنا مقابل لقوله (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) وارحمنا مقابل لقوله (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة. (أَنْتَ مَوْلانا) أي أنت مالكنا ومتولى أمورنا، فأنت الذي منحتنا الهداية، وأيدتنا بالتوفيق والعناية. (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بإقامة الحجة عليهم والغلبة حين قتالهم، والأول أشد أثرا وأقوى فعلا، فإنه نصر على الروح والعقل، أما النصر بالسيف فهو نصر على الجسد فحسب. وما علمنا الله هذا الدعاء لتلوكه ألسنتنا وتتحرك به شفاهنا فحسب، بل لندعوه مخلصين له لاجئين إليه بعد استعمال ما يصل إليه كسبنا من الأسباب والوسائل التي هى طريق الاستجابة، فمن فعل ذلك فإن الله يستجيب دعاءه، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركة اللسان، مع مخالفة أحكام الشريعة، وتجافى السنن التي سنها الله، فهو بدعائه كالساخر من ربه، فهو لا يستحق منه إلا المقت والخذلان.

ونحن الآن قد أعرضنا عن هدايته، وتنكبنا سنته في خليقته، ثم طلبنا منه النصر بألسنتنا دون قلوبنا فلم يستجب لنا دعاء، وكنا نحن الجانين على أنفسنا، المستحقين لهذا الخذلان. فإذا اتخذ المسلمون العدّة وقاموا ببذل الوسع في استكمال الوسائل التي أرشد إليها المولى سبحانه، وساروا على السنن التي هدى إليها البشر، فإنه يستجيب دعوتهم وينصرهم على أعدائهم، فقد ورد في الأثر: إن هذه الأمة لا تغلب من قلة. وفّقنا الله إلى العمل بسنته، والسير وفق شريعته، إنه نعم المولى ونعم النصير. خلاصة ما في هذه السورة من أمهات الشريعة (1) دعوة الناس جميعا إلى عبادة ربهم. (2) عدم اتخاذ أنداد له. (3) ذكر الوحى والرسالة، والحجاج على ذلك بهذا الكتاب المنزل على عبده، وتحدى الناس كافة بالإتيان بمثله (4) ذكر أسّ الدين وهو توحيد الله. (5) إباحة الأكل من جميع الطيبات. (6) ذكر الأحكام العملية من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأحكام الصيام، والحج والعمرة، وأحكام القتال والقصاص. (7) الأمر بإنفاق المال في سبيل الله. (8) تحريم الخمر والميسر. (9) معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة. (10) أحكام الزوجية من طلاق ورضاعة وعدة. (11) تحريم الربا والأمر بأخذ ما بقي منه. (12) أحكام الدّين من كتابة وإشهاد وشهادة وحكم النساء والرجال في ذلك.

سورة آل عمران

(13) وجوب أداء الأمانة. (14) تحريم كتمان الشهادة. (15) خاتمة ذلك كله، الدعاء الذي طلب إلينا أن ندعوه به. وعلى الجملة فقد فصلت فيها الأحكام، وضربت الأمثال، وأقيمت الحجج، ولم تشتمل سورة على مثل ما اشتملت عليه، ومن ثم سميت فسطاط القرآن. سورة آل عمران هذه السورة مدنية، وعدد آياتها مائتان باتفاق العادّين. ووجه اتصالها بما قبلها أمور: (1) إن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به- فقد ذكر فى الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية طائفة الزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، ويقولون كل من عند ربنا. (2) إن في الأولى تذكيرا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق. (3) إن في كل منهما محاجة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا، لأن النصارى متأخرون فى الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليا في المرتبة للحديث الأول. (4) إن في آخر كل منهما دعاء، إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدى الدعوة ومحاربى أهلها، ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا

[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 إلى 9]

مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمى إلى قبول دعوة الدين وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة. (5) إن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها، فبدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله: «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)

تفسير المفردات

تفسير المفردات (الم) تقدم أن قلنا في السورة قبلها إن الرأى الذي عليه المعوّل أن الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السور هى حروف للتنبيه كألا، ويا، مما جاء في أوائل الكلام لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها من حديث يستدعى العناية بفهمه، وتقرأ بأسمائها ساكنة كما تقرأ أسماء العدد فيقال (ألف. لام. ميم) كما يقال (واحد. اثنان. ثلاثة) وتمد اللام والميم، وإذا وصل به لفظ الجلالة جاز في الميم المد والقصر، وفتحها وطرح الهمزة من (الله) للتخفيف والإله: هو المعبود، والحي: ذو الحياة وهى صفة تستتبع الاتصاف بالعلم والإرادة، والقيوم: القائم على كل شىء بكلاءته وحفظه، ونزّل يفيد التدريج والقرآن نزل كذلك في نيف وعشرين سنة بحسب الحوادث كما تقدم، وعبر عن الوحى مرة بالتنزيل، وأخرى بالإنزال للإشارة إلى أن منزلة الموحى أعلى من الموحى إليه، ومعنى كونه بالحق أن كل ما جاء به من العقائد والأحكام والحكم والأخبار فهو حق لا شكّ فيه، ما بين يديه هى الكتب التي أنزلت على الأنبياء السابقين، والتوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة، ويريد بها اليهود خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها، وهى: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع، ويريد بها النصارى جميع الكتب التي تسمى العهد العتيق، وهى كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بنى إسرائيل وملوكهم قبل المسيح، وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل، ويريد بها القرآن ما أنزل على موسى ليبلغه قومه، والإنجيل كلمة يونانية معناها التعليم الجديد أو البشارة، وتطلق عند النصارى على أربعة كتب تسمى بالأناجيل الأربعة وهى كتب مختصرة فى سيرة المسيح عليه السلام وشىء من تاريخه وتعاليمه، وليس لها سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة، وكتب العهد الجديد تطلق على هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل (الحواريين) ورسائل بولس وبطرس

المعنى الجملي

ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا، والإنجيل في عرف القرآن هو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى عليه السلام ومنه البشارة بالنبي محمد وأنه هو الذي يتمم الشريعة والأحكام، والفرقان هو العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وكل ما كان عن حضرة القدس يسمى إعطاؤه إنزالا ألا ترى إلى قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» والانتقام من النقمة وهى السطوة والتسلط، يقال: انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، والتصوير جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف، والأرحام واحدها رحم وهى مستودع الجنين من المرأة، والمحكم من أحكم الشيء بمعنى وثّقه وأتقنه، والأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء، والمتشابه يطلق تارة على ماله أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا، وتارة أخرى على ما يشتبه من الأمور ويلتبس، والزيغ الميل عن الاستواء والاستقامة إلى أحد الجانبين والمراد به هنا ميلهم عن الحق إلى الأهواء الباطلة، والتأويل من الأول وهو الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، والراسخون في العلم: هم المتفقهون فى الدين، ومن لدنك: أي من عندك، والمراد بالرحمة العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه، وجمع الناس حشرهم للحساب والجزاء، لا ريب فيه: أي إننا موقنون به لا نشك في وقوعه لأنك أخبرت به وقولك الحقّ. المعنى الجملي روى ابن جرير وابن إسحق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحو ستين راكبا، وخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا حىّ لا يموت، وأن عيسى يأتى

عليه الفناء؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شىء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا لا، قال: ألستم تعلمون أن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذّى كما يغذى الصبى، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله «الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» إلى آخر تلك الآيات. ووجه الرد عليهم فيها- أنه تعالى بدأ بذكر التوحيد لينفى عقيدة التثليث بادئ ذى بدء، ثم وصفه بما يؤكد ذلك من كونه حيّا قيوما: أي قامت به السموات والأرض وهى قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده، ثم ذكر أنه تعالى نزل الكتاب وأنزل التوراة ليبين أنه قد أنزل الوحى وشرع الشرائع قبل وجوده كما أنزل عليه الإنجيل وأنزل على من بعده، فليس هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما هو نبى مثلهم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا به بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول، ثم قال: إنه لا يخفى عليه شىء ليردّ على استدلالهم على ألوهية عيسى بإخباره عن بعض المغيبات، فإن الإله لا يخفى عليه شىء مطلقا سواء أكان في هذا العالم أم غيره من العوالم السماوية وعيسى لم يكن كذلك، ثم أبان أن الإله هو الذي يصور في الأرحام ليرد على ولادة عيسى من غير أب، إذ الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصور في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه، ثم صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة. ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف الكتاب وجعله قسمين، محكم العبارة محفوظ من الاحتمال والاشتباه، وهو الأصل الذي دعى الناس إلى تدبر معانيه والعمل به،

الإيضاح

وإليه يرجع في فهم المتشابه، ومتشابه وهو ما يدل اللفظ فيه على شىء والعقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، ثم بين أن الناس في هذا انقسموا فرقتين: فرقة زائغة يرجعون في تأويله إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد، وفرقة يقولون آمنا به ونفوّض علمه إلى ربنا، وقد دعوه ألا يضلّهم بعد الهداية، ويرزقهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة. الإيضاح (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قد مر تفسير هذا بإيضاح أول آية الكرسي. (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنه أوحى إليك هذا القرآن بالتدريج متصفا بالحق الذي لا شبهة فيه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء السالفين، فإنه أثبت الوحى وذكر أنه أرسل رسلا أوحى إليهم، وهذا تصديق جملى لأصل الوحى إليهم، لا تصديق تفصيلى لتلك الكتب التي عند الأمم التي تنمى إلى أولئك الأنبياء بمسائلها جميعا، ألا ترى أن تصديقنا لمحمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به، لا يلزم منه التصديق بكل ما في كتب الحديث المروية عنه، بل ما ثبت منها صحته فقط. (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) أي وأنزل التوراة على موسى هدى للناس، وقد أخبر الكتاب الكريم أن قومه لم يحفظوها إذ قال: «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» كما أخبر عنهم أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه فيما حفظوه واعتقدوه، والأسفار التي بين أيديهم تؤيد ذلك، ففى سفر التثنية (فعند ما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها- أمر موسى اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم،

ليكون هناك شاهدا عليكم، لأنى عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به، ويصيبكم الشر في آخر الأيام، لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم- إلى أن قال لهم: وجّهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم، لكى توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هى حياتكم، وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها) . وكذلك خبر موت موسى وكونه لم يقم في بنى إسرائيل نبى مثله بعد. (فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وليسا من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت، بل كتبا كغيرهما بعده) . إذا فالتوراة التي عندهم كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة، والقرآن يثبت ذلك، وأيضا ففقد كتاب الشريعة لأمة لا يجعلها تنسى جميع أحكام هذه الشريعة، فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده، وعلى غيره من الأخبار، وهذا كاف في الاحتجاج على بنى إسرائيل بإقامة التوراة، والشهادة بأن فيها حكم الله كما جاء في سورة المائدة، وأسفارها كلها كتبت بعد السّبى يرشد إلى ذلك كثرة الألفاظ البابلية التي جاءت فيها، وقد اعترف علماء النصارى بفقد توراة موسى التي هى أصل دينهم، فقد جاء في كتاب خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان أمرها، والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرّب بختنصّر الهيكل، وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها، وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية، ولكن من أين جمع

عزرا تلك الكتب بعد فقدها؟ وعلى أي شىء اعتمد في إصلاح غلطها؟ فإن قالوا إنه بالإلهام فإنا نقول إن هذا مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لاثقة بنقلهم، على أن علماء أوربا قالوا إن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابة رجل واحد. وأنزل الله الإنجيل على عيسى، وأنبأ سبحانه بأن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود بل هم أولى بذلك، فإن التوراة كتبت زمن نزولها، وكان ألوف الناس يقرءونها ويعملون بما فيها من شرائع وأحكام ثم فقدت، ولكن الكثير من أحكامها كان محفوظا معروفا عندهم، أما كتب النصارى فلم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح، لأن أتباعه كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان، حتى اعتنق قسطنطين النصرانية فظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على أنها أربعة. وخلاصة ذلك- إن الله أنزل التوراة والإنجيل لهداية من أنزلا عليهم إلى الحق ومن جملة ذلك الإيمان بمحمد صلوات الله عليه واتباعه حين يبعث، فقد اشتملتا على البشارة به والحث على طاعته- ونسخ أحكامها بالكتاب الذي أنزل عليه. (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي وأنزل العقل الذي يفرق بين الحق والباطل، وجاء في آية أخرى «الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان» والميزان هو العدل. فالله سبحانه قرن بالكتاب أمرين الفرقان الذي نفرق به الحق في العقائد ونميزه عن الباطل، والميزان وهو ما نعرف به الحقوق في الأحكام ونعدل بين الناس. وقصارى ذلك- إن ما يقوم عليه البرهان العقلي من عقائد وغيرها فهو حق منزّل من عند الله وما قام به العدل فهو حكم منزّل من عند الله وإن لم ينص عليه في الكتاب فالله هو المنزل والمعطى للعقل والعدل- الفرقان والميزان- كما أنه سبحانه هو المنزّل للكتاب، ولا غنى لأحدهما عن الآخر. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي إن الذين كفروا بآيات الله

الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل، فكذبوا بالقرآن أولا ثم بسائر الكتب تبعا لذلك- لهم عذاب شديد بما يلقى الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تدنس نفوسهم- وتكون سبب عقابهم في الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية على الحياة الجسدية المادية. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي إن الله بعزته ينفذ سنته، وينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض. (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه، ويعلم سرهم وجهرهم فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه، ولا حال الكافر، ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وفي التعبير بعدم خفاء شىء عليه- إشارة إلى أن علمه لا يوازن بعلوم المخلوقين بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء. (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي هو الذي يجعلكم على صور مختلفة متغايرة وأنتم في الأرحام من النّطف إلى العلق إلى المضغ، ومن ذكورة وأنوثة، ومن حسن وقبح إلى غير ذلك، وكل هذا على أتم ما يكون دقة ونظاما، ومستحيل أن يكون هذا قد جاء من قبيل الاتفاق والمصادفة، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه وتعلقت به إرادته، الحكيم المنزّه عن العبث، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة، ومن ثم خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل «ليس في الإمكان أبدع مما كان» . (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي هو الذي أنزل عليك الكتاب منقسما إلى محكم العبارة، بعيد من الاحتمال والاشتباه، ومتشابه وهو ضربان:

(1) ما يدل اللفظ فيه على شىء والعقل على خلافه فتشابهت فيه الدلالة ولم يمكن الترجيح كالاستواء على العرش. (2) ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة. وقد جاء وصف القرآن بالمحكم في قوله: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ» وهو إما بمعنى إحكام النظم وإتقانه، وإما بمعنى الحكمة التي اشتملت عليها آياته، ووصفه بالمتشابه في قوله: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً» بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا فى الهداية والسلامة من التناقض والتفاوت والاختلاف كما قال: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» وقوله: «وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» أي إن ما جيئوا به من الثمرات في الآخرة يشبه ما رزقوا به من قبل، فاشتبهوا فيه لهذا التشابه. (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءهم الباطلة فينكرون المتشابه وينفّرون الناس منه ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم كالإحياء بعد الموت وجميع شئون العالم الأخروىّ، ويأخذونه على ظاهره بدون نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم، فيقولون إن الله روح والمسيح روح منه، فهو من جنسه، وجنسه لا يتجزأ فهو هو، ومعنى ابتغاء تأويله- أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس من دينهم، والقرآن ملىء بالرد عليهم من نحو قوله: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) للعلماء في تفسير هذه الآية رأيان:

(1) رأى بعض السلف وهو الوقوف على لفظ الجلالة، وجعل قوله: والراسخون فى العلم كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، واستدلوا على ذلك بأمور منها: (ا) أن الله ذم الذين يتبعون تأويله. (ب) أن قوله (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ظاهر في التسليم المحض لله تعالى ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض. وهذا رأى كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كأبىّ بن كعب وعائشة. (2) ويرى بعض آخرون الوقف على لفظ (العلم) ويجعل قوله: (يَقُولُونَ آمَنَّا) كلام مستأنف، وعلى هذا فالمتشابه يعلمه الراسخون- وإلى ذلك ذهب ابن عباس وجمهرة من الصحابة، وكان ابن عباس يقول: أنا من الراسخين في العلم، أنا أعلم تأويله. وردّوا على أدلة الأولين بأن الله تعالى إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة، والراسخون في العلم ليسوا كذلك فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا اضطراب فيه، فالله يفيض عليهم فهم المتشابه بما ينفق مع فهم المحكم، وبأن قولهم (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) لا ينافى العلم، فإنهم لرسوخهم فى العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون، بل يؤمنون بهذا وذاك لأن كلا منهما من عند الله وليس في هذا من عجب، فإن الجاهل في اضطراب دائم، والراسخ في العلم ثابت العقيدة لا تشتبه عليه المسالك. ووجود المتشابه الذي يستأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة- ضرورى لأن من مقاصد الدين الإخبار بأحوالها، فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك، وهو من عالم الغيب نؤمن به كما نؤمن بالملائكة والجن، ولا يعلم تأويل ذلك: أي حقيقة ما تئول إليه هذه الألفاظ إلا الله. والراسخون في العلم وغيرهم في مثل هذا سواء، لأن الراسخين يعرفون ما يقع تحت حكم الحس والعقل، ولا يستشرفون بأنظارهم إلى معرفة حقيقة

ما يخبر به الرسل من عالم الغيب، إذ هم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه، إنما سبيله التسليم، فيقولون آمنا به كل من عند ربنا، فالوقف في مثل هذا لازم على لفظ الجلالة (الله) . أما النوع الأول من المتشابه وهو الألفاظ التي لا يجوز في العقل أخذها على ظاهرها من صفاته تعالى وصفات أنبيائه كقوله «وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» فمثل هذا يمنع الدليل العقلي والدليل النقلى حمله على ظاهره، ومثل هذا هو الذي يأتى فيه الخلاف في علم الراسخين بتأويله فالذين نفوا عنهم علمهم به جعلوا حكمة تخصيص الراسخين بالتفويض والتسليم- هى تمييزهم بين الأمرين وإعطاء كلّ حكمه كما تقدم، والذين أثبتوا لهم علمه يردون ما تشابه ظاهره من صفات الله وأنبيائه إلى أم الكتاب وهو المحكم، ويأخذون منه ما يمكنهم من فهم المتشابه. وعلى هذا فتخصيص الراسخين بهذا العلم لبيان أن غيرهم يمتنع عليه الخوض فيه، ولا يجوز لهم التهجم عليه. وقد يخطر على البال سؤال وهو: لم كان في القرآن متشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون فى العلم؟ ولم لم يكن كله محكما يتساوى في فهمه جميع الناس، وهو قد نزل هاديا والمتشابه يحول دون الهداية لوقوع اللبس في فهمه، وفتح باب الفتنة في تأويله لأهل التأويل؟ أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة منها: (1) إن في إنزال المتشابه امتحانا لقلوبنا في التصديق به، إذ لو كان ما جاء فى الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه لأحد، لما كان في الإيمان به شىء من الخضوع لأمر الله والتسليم لرسله. (2) إن في وجوده في القرآن حافزا لعقول المؤمنين إلى النظر فيه كيلا تضعف وتموت، إذ السهل الجلى لا عمل للعقل فيه، وإذا لم يجد العقل مجالا للبحث مات، والدين أعز شىء على الإنسان، فإذا ضعف عقله في فهمه ضعف في كل شىء، ومن ثم قال والراسخون في العلم، ولم يقل والراسخون في الدين لأن العلم أعم وأشمل، فمن رحمته

أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه، إذ بحثه يستلزم النظر فى الأدلة الكونية، والبراهين العقلية، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله. (3) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله، والوقوف عند فهم المحكم، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» . (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هى الأصول، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب: إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغى للعقلاء أن يعتبروه. ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال: (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول، فيخافون أن يقعوا فى الخطأ، والخطأ قرين الخطر. وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلّب القلوب ثبت قلبى على دينك» قلت: يا رسول الله

[سورة آل عمران (3) : الآيات 10 إلى 13]

ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال: «ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» . (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به، لأنك أخبرت به وقولك الحق، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه، وأنت لا تخلف وعدك. وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي منه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) تفسير المفردات تغنى: أي تنفع، وقود (بفتح الواو) أي حطب ونحوه، والدأب: العادة من دأب على العمل إذا جدّ فيه وتعب، ثم غلب في العادة، والمهاد: الفراش، يقال مهدّ الرجل المهاد إذا بسطه، والآية: العلامة على صدق ما يقول الرسول.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد، وذكر الكتب الناطقة به، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به- شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد، وأرشد إلى أنها لا تغنى عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم، فيتوهمون الاستغناء عن الحق، ويتبعون الهوى. وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم، فالله لا يحابى ولا يظلم وهو شديد العقاب. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من بنى إسرائيل أم من كفار العرب- لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهامّ أمورهم ويعوّلون عليهم فى الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا، وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، فردّ الله عليهم بقوله: «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً» وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.

ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حلّ بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا وأكثر عددا لعلهم يتعظون فقال: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بشريعته، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام، ودأب من قبلهم من الأمم، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات. ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة فقال: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) المراد بالكافرين هنا اليهود لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمى الذي بشرنا به موسى، وفي التوراة نعته وهمّوا باتباعه، فقال بعضهم: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى، فلما كان يوم أحد شكّوا، وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوه، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش، فقالوا له: لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس فنزلت. أي قل لأولئك اليهود إنكم ستغلبون في الدنيا وسينفذ فيكم وعيدي، وتساقون فى الآخرة إلى جهنم سوقا، وبئس المهاد ما مهدتموه لأنفسكم. وقد صدق الله وعده فقتل المسلمون بنى قريظة الخائنين، وأجلوا بنى النّضير المنافقين، وفتحوا خيبر وضربوا الجزية على من عداهم.

ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال: (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم: لا تغرنكم كثرة العدد، ولا المال والولد، فليس هذا سبيل النصر والغلب، فالحوادث التي تجرى في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون. انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين. وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوى البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها، لا لمثل من نعتهم الله بقوله: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» . ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى، وقوله (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ترشد إلى السر في هذا الفوز، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة، وما أمكنها من تدبير واستعداد، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده، يرشد إلى هذا قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشدّ العزائم والنهوض بالهمم، وبالطاعة لرسوله، وكان هو القائد في تلك الواقعة- واقعة بدر- وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال. وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة، فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله، فنصرهم وفاء بوعده «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» .

وغزوات الرسول وأصحابه تفسر ما ورد في هذه الآيات، ولما خالفوا ما أمروا به غزوة أحد نزل بهم ما نزل، وفي هذا أكبر عبرة لمن تذكر واعتبر. وقد روى أرباب السير أن جيش المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة وعشرين رجلا، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين على بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو، والآخر لمرثد بن أبي مرثد، وكان معهم ست دروع وثمانية سيوف، وجميع من قتل منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وأن جيش المشركين كان تسعمائة وخمسين مقاتلا، رأسهم عقبة بن ربيعة، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وكان في معسكرهم من الخيل مائة فرس وسبعمائة بعير، ومن الأسلحة ما لا يحصى عدّا. ومعنى قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) أن المشركين رأوا المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين- وكانوا نحو ثلاثمائة- أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم الله بالملائكة، بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم كما جاء في خطاب أهل بدر «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» . ومعنى قوله (رأى العين) أنها رؤية مكشوفة لا لبس معها ولا خفاء كسائر المرئيات والمشاهدات. (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) أي والله يقوّى بمعونته من يشاء كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.

[سورة آل عمران (3) : آية 14]

[سورة آل عمران (3) : آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) تفسير المفردات الشهوات: واحدة شهوة وهى رغبة النفس في الحصول، والمراد بها المشتهيات كما يقال هذا الطعام شهوة فلان أي ما يشتهيه، والأنعام واحدها نعم وهى الإبل والبقر والغنم ولا تطلق النعم إلا على الإبل خاصة، والمسوّمة: هى التي ترعى في الأودية والقيعان، والحرث: الزرع والنبات. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه قبل هذا اشتغال الكافرين بالأموال والأولاد وإعراضهم عن الحق وانهماكهم في اللذات، ذكر هنا وجه غرورهم بذلك تحذيرا لهم من جعلها مطية لشهواتهم، وتذكيرا لهم بأنه لا ينبغى أن تجعل هى غاية الحياة، فتشغلهم عن أعمال الآخرة التي جعلت الدنيا مزرعتها، والوسيلة لكسب السعادة فيها. الإيضاح (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) معنى تزيين حب الشهوات للناس، أن حبها مستحسن لديهم لا يرون فيه قبحا ولا غضاضة، ومن ثم لا يكادون يرجعون عنه، وهذا أقصى مراتب الحب، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحا أو ضارّا، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به، وقد يحب الإنسان شيئا وهو يراه شيئا لا زينا، وضارّا لا نافعا، ويود لذلك لو لم يحبه كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيهم منه، ومن أحب شيئا ولم يزيّن له يوشك أن يرجع عنه يوما ما، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.

المعنى- إن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات المبينة بعد كما قال: «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» وقال: «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» . وقد يسند التزيين إلى الشيطان بالوسوسة في قبيح الأعمال كما قال تعالى: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» . ثم فصل هذه المشتهيات الستة التي ملأت قلوب الناس حبا فقال: (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) . (فأولها) النساء وهن موضع الرغبة ومطمح الأنظار، وإليهن تسكن النفوس كما قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدّهم وجدّهم، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن، فإسرافهم في حبهنّ له الأثر العظيم فى شئون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها. وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلوّ والإسراف كحب المرأة، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده، فكثير ممن تزوجوا بما فوق الواحدة وأفرطوا في حب واحدة وملّوا أخرى أهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق وقد وسعوه على أولاد المحبوبة، وكم من غنىّ عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم، فهو يفعل ذلك للتقرب وابتغاء الزلفى إليها. (وثانيها) البنون والمراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى: «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» وفي الحديث «الولد مجبنة مبخلة» . والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهى تسلسل النسل وبقاء النوع، وهى حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.

وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة منها: (1) أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس (2) أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليه لضعف أو كبر. (3) أنه يرجى بهم من الشرف ما لا يرجى من الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة. (4) الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها وتتصل بعشيرة أخرى. (وثالثها) القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة كما قالوا ألوف مؤلفة وظل ظليل، وقيل المقنطرة المضروبة من دنانير ودراهم، وقيل هى المنضدة في وضعها. وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان، والتي تشغل القلب للتمتع بها، وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة. ومن ثم كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين بهم المستكبرين عن تلبية دعوتهم، وإن أجابوها وآمنوا فهم أقل الناس عملا وأكثرهم بعدا عن هدى الدين، انظر إلى قوله تعالى: «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا» . وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات، ورغبات الإنسان غير محدودة، ولذاته لا عدّ لها ولا حصر، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها، وما وصل إلى غاية فى جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن

المال وسيلة لا مقصد فيفتنّ في الوصول إليه الفنون المختلفة، والطرق التي تعنّ له، ولا يبالى أمن حلال كسب أم من حرام؟ روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» . ولقد أعمت فتنة المال كثيرا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن، بل عن حقوق من يعاملهم، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم، بل عن أنفسهم، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزرى بمروءته، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال. ومن ثم قالوا: المال ميّال. (ورابعها) الخيل المسوّمة التي ترعى في الأودية، يقال سام الدابة: رعاها، وأسامها: أخرجها إلى المرعى، كما قال تعالى: «وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» . وقال ابن جرير: المسوّمة: المعلّمة من السّومة وهى العلامة. قال النابغة: بسمر كالقداح مسوّمات ... عليها معشر أشباه جنّ وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة، والمعلمة المطهّمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء- من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون، حتى لقد يتغالى بعضهم فى ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون. (وخامسها) الأنعام وهى مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم، وبها تفاخرهم وتكاثرهم، وقد امتنّ الله بها على عباده بقوله: «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 إلى 17]

(وسادسها) الحرث وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة، والانتفاع به أتمّ منها لكنه أخر عنها، لأنه لما عمّ الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل، وقلما يكون الانتفاع به صادّا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعا من نصرة الحق. وهناك ما هو أعم نفعا وأعظم فائدة في الحياة وهو الضوء والهواء، فلا يستغنى عنهما حىّ من الأحياء، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطته بهما. (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) المتاع ما يتمتع به، والمآب المرجع من آب يئوب إذا رجع، أي هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلا في هذه الحياة الفانية، ويجعلونه وسيلة في معايشهم، وسببا لقضاء شهواتهم وقد زيّن لهم حبها في عاجل دنياهم، والله عنده حسن المآب في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم فلا ينبغى لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل. فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه، والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال: «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 17] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)

تفسير المفردات

تفسير المفردات النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات، والتقوى: هى الإخبات إلى الله والإعراض عما سواه، والمطهرة: الخالية من الشوائب الجسمية والنفسية والرضوان (بضم الراء وكسرها) الرضا، والصبر: حبس النفس عند كل مكروه يشقّ عليها احتماله، والصدق يكون في القول والعمل والوصف يقال فلان صادق في قوله، وصادق في عمله، وصادق في حبه، والقانتين: أي المداومين على الطاعة والعبادة، والمستغفرين بالأسحار: أي المصلّين وقت السحر. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا- أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات. الإيضاح (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) أي قل لقومك وغيرهم: أأخبركم بخير من جميع ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره، وجىء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه. وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها، ولا شك في ذلك إذ هى من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها، فما مثل المسرف في حب النساء حتى

يعطى امرأته حق غيرها، أو يهمل لأجلها تربية ولده إلا مثل من يستعمل عقله فى استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هى في ذاتها شر ولا كون حبها شرا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة. ثم أجاب عن هذا الاستفهام على طريق قولك هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة، ويرخص السعر ويفى بالوعد؟ هو فلان فقال: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ) أي للذين أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه نوعان من الجزاء. أحدهما جسمانى وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات، والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خلقا وخلقا. وثانيهما روحاني عقلى وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط ولا يعقبه غضب، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين. وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات كما نرى ذلك في الدنيا. فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى ولا يكون ذلك باعثا له على فعل الخير وترك الشر، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جرّ بها في الدنيا، ففى مثلها يرغب. ومنهم من ارتقى إدراكه، وعظم قربه من ربه، فيتمنى رضاه ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة. وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» وقوله: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ (الزراع) نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» .

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه تعالى هو البصير بعباده، الخبير بقرارة نفوسهم ودخائل أحوالهم، العليم بسرهم ونجواهم، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهو المجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر. وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيا، وإنما المتقى من يعلم منه ربه التقوى. ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي إن الذين اتقوا معاصى الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين: ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينيا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول، ثم تقفو التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» وقولك «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرّحيم. وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب. والخلاصة- إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به- هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.

ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) أي إن المتقين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهى: (1) الصبر وأكمل أنواعه: الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر، فهو الذي يثبّت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة، وهو الحافظ لشرف الإنسان فى الدنيا عند المكاره، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدى المطامع. وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار. (2) الصدق وهو منتهى الكمال، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى: «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» . (3) القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبّ العبادة وروحها، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة. (4) الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه. (5) الاستغفار بالأسحار: أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشقّ القيام، وتكون النفس فيه أصفى، والقلب أفرغ من الشواغل. والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح، والعمل وفق حدود الدين، ولا يكفى الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر، فإن المستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بربه، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه، أو غرّ في معاملته لربه، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله: إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 إلى 20]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) تفسير المفردات يقال شهد الشيء وشاهذه إذا حضره كما قال: «ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ» وقال «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» والشهادة بالشيء الإخبار به عن علم إما بالمشاهدة الحسية، وإما بالمشاهدة المعنوية وهى الحجة والبرهان، وأولو العلم هم أهل البرهان القادرون على الإقناع، وهم يوجدون في هذه الأمة وفي جميع الأمم السالفة، بالقسط: أي بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة. والدين له في اللغة عدة معان: منها الجزاء، والطاعة والخضوع، ومجموعة التكاليف التي بها يدين العباد لله- وما يكلف به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس، ودينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع، وملة باعتبار أنها أملّت وكتبت- والإسلام يأتي بمعنى الخضوع والاستسلام، وبمعنى الأداء تقول أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه، وبمعنى الدخول في السلم أي الصلح والسلامة، وتسمية الدين الحق إسلاما يناسب كل هذه المعاني وأولها أوفقها بالتسمية، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ

المعنى الجملي

أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وحاجوك: جادلوك، وأسلمت: أي أخلصت، والأميون مشركو العرب واحدهم أمي نسبوا إلى الأم لجهلهم كأنهم على الفطرة، البلاغ: أي التبليغ للناس. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء- ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه. الإيضاح (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) أي بيّن سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك، والملائكة أخبروا الرسل بهذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضرورى وهو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات، وأولو العلم أخبروا بذلك وبيّنوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدلائل والحجج، لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه. وقوله بالقسط أي بالعدل في الاعتقاد، فالتوحيد هو الوسط بين إنكار الإله والشرك به، والعدل في العبادات والآداب والأعمال، فعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترقية الروح وتزكية النفس، وأباح كثيرا من الطيبات لحفظ البدن وتربيته، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا وبالعدل في الأحكام في نحو قوله: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» وقوله «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» . كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون وأوضحه.

فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى، فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه. ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فإن العزة إشارة إلى كمال القدرة، والحكمة إيماء إلى كمال العلم، والقدرة لا تتم إلا بالتفرد والاستقلال، والعدالة لا تكمل إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط، ولا يخرج من الخليقة شىء عن حكمته البالغة. ثم ذكر الدستور العام الذي عليه المعوّل في كل دين فقال: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) أي إن جميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء روحها الإسلام والانقياد والخضوع، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال، وبه كان الأنبياء يوصون. فالمسلم الحقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك، مخلصا فى أعماله مع الإيمان من أىّ ملة كان، وفي أي زمان وجد، وهذا هو المراد بقوله عز اسمه «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» . ذاك أن الله شرع الدين لأمرين: (1) تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات بها تستطيع التصرف في الكائنات لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها. (2) إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله وللناس. وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية. أخرج ابن جرير عن قتادة قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره، ولا يجزى إلا به.

وخطب على كرم الله وجهه قال: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل، ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، والكافر يعرف كفره بإنكاره، أيها الناس دينكم دينكم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، إن السيئة فيه تغفر، وإن الحسنة في غيره لا تقبل. (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي وما خرج أهل الكتاب من الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على نحو ما فصلناه آنفا، وصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين- والدين واحد لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء، ولولا بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأى والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه لما حدث هذا الاختلاف. والتاريخ شهيد بأن الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب ينقض بعضها بعضا، وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم ببعض. فآريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد بعد فشوّ الشرك، قد حكم عليهم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة 325 م بالإلحاد وإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها، ولما انتشرت تعاليمه فيما بعد حكم تيودوسيوس الثاني بإبادة الآريوسية بقانون رومانى صدر سنة 628 م، وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن ويغالب بعضها بعضا. والعبرة من هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا، ولكن وا أسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون، وتفرقنا طرائق قددا، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئنّ منه، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته، ويمدنا بروح من عنده فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق، والعودة إلى الوحدة والاتفاق، حتى يعود

المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومن تبعهم بإحسان. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه، ويترك الإذعان لها- فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات، والله سريع الحساب. والمراد بآيات الله هنا هى آياته التكوينية في الأنفس والآفاق، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله. (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم- وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه فى دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له- بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات، وجئتهم بالحق- فقل لهم: أقبلت بعبادتي على ربى مخلصا له، معرضا عما سواه، أنا ومن اتبعنى من المؤمنين. والخلاصة- إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى. (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟) أي وقل لليهود والنصارى ومشركى العرب- وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة- أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه، أم تصرّون على كفركم وعدم ترككم للعناد؟ ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه، ثم يقول له: أفهمتها؟

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 إلى 22]

وفي ذلك تعيير لهم بالبلادة وجمود القريحة وتوبيخ لهم على العناد وقلة الإنصاف (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي فإن أسلموا هذا الإسلام الذي هو روح الدين، فقد فازوا بالحظ الأوفر ونجوا من مهاوى الضلال، فإن إسلامهم على هذا الوجه يستتبع اتباعك فيما جئت به، لأن من هذه حاله فهو مستنير القلب متجه إلى طلب الحق، فهو أقرب الناس إلى قبوله متى لاح له وظهر. (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي وإن أعرضوا عن الاعتراف بما سألتهم عنه فلن يضيرك ذلك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ، وقد أديته على أتم وجه وأكمله. (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فهو أعلم بمن طمس على قلبه وجعل على بصره غشاوة، فوقع اليأس من اهتدائه، وبمن يرجى له الهداية والتوفيق بعد البلاغ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) تفسير المفردات المراد بالذين يكفرون هم اليهود خاصة، وقوله بغير حق أي بغير شبهة لديهم، وحبط العمل بطل، والبشارة والبشرى الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه، واستعمالها فى الشر جاء على طريق التهكم والسخرية. المعنى الجملي بعد أن بين في الآيات السابقة حقيقة الدين الذي يقبله الله، وأنه الإسلام لوجهه تعالى، وذكر أن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما نشأ من البغي بعد أن جاءهم

الإيضاح

العلم، ثم ذكر محاجة أهل الكتاب جميعا ومشركى العرب للنبى صلى الله عليه وسلم، ثم أردفه ببيان أن إعراضهم عن الحق لا يضيره شيئا، فما عليه إلا البلاغ. انتقل هنا إلى الكلام عن اليهود خاصة، وعيّر الحاضرين منهم بما فعله السالفون من آبائهم، لأن الأمة في تكافلها، وجرى لا حقها على أثر سابقها كأنها شخص واحد على ما سلف مثله في سورة البقرة. وقد يكون هذا كلاما مع اليهود الذين في عصر التنزيل، فإنهم همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم زمن نزول الآية، إذ السورة مدنية كما همّ بذلك قومه الأميون بمكة من قبل، وكان كل من الفريقين حربا له، وعلى هذا فالآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين، فكل منهما قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي إن الذين كفروا بآيات الله من اليهود كما تشهد بذلك كتبهم قبل القرآن، وكان دأبهم قتل الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام بغير شبهة لديهم. وفي ذكر هذا الوصف ما يزيد بشاعته وانقطاع العذر الذي ربما لجئوا إليه، ويقرر أن العبرة في مدح الشيء وذمه تدور مع الحق وجودا وعدما، لا مع الأشخاص والأصناف. أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة بن الجراح قال: «قلت يا رسول الله: أىّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجل أمر بمنكر ونهى عن معروف، ثم قرأ الآية، ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار فى ساعة واحدة، فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بنى إسرائيل فأمروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم» .

(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي ويقتلون الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدل في كل شىء ويجعلونه روح الفضائل وقوامها. ومرتبة هؤلاء في الإرشاد تلى مرتبة الأنبياء، وأثرهم في ذلك يلى أثرهم، لأن جميع الناس ينتفعون بهدي الأنبياء بقدر استعدادهم، والحكماء ينتفع بهم الخاصة المستعدون لفهم العلوم العالية، والنظريات العويصة. انظر إلى الفارق بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد جبّت وثنية العرب في الزمن القليل، ودعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد وقد عجزت عن مثل ذلك أو ما يقار به، إذ لم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا القليل من طلاب الفلسفة. وسر هذا أن دعوة النبي يؤيدها الله بروح من عنده، وتتعدد مظاهرها باعتبار المخاطبين فقد جاء في الحديث «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» وأشارت إلى ذلك الآية الكريمة: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» فالحكمة يدعى بها العقلاء وأرباب الفكر والنظر، والموعظة يدعى بها العامة وذوو الأحلام الضعيفة، والجدل بالتي هى أحسن لمن هم فى المرتبة الوسطى، لم يرتقوا إلى ذروة الحكماء، ولم ينزلوا إلى الدرجة السفلى، فلا ينقادون إلى الموعظة كسابقيهم، فلا بد لهم من الحسنى في الجدل، ومخاطبتهم على قدر عقولهم. والحكماء ليس لديهم إلا طريق واحد في الدعوة إلى الحق والفضيلة، والمحور الذي تدور عليه هو حب العدل والإنصاف في الأفكار والأخلاق والآداب، سواء أكان الحكيم الذي يدعو ينتسب إلى دين أم لا، إذ هو إنما يبنى دعوته على الإقناع من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه، مع الإخلاص والصدق. فالإقدام على قتل مثل هؤلاء جناية على العقل، ومقت للعدل وكفى بذلك جرما وأعظم به خسرا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 إلى 25]

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أنبئ هؤلاء بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ومن أحقّ بهذا العذاب من أولئك الطغاة الذين أسرفوا في الشر وقتلوا النبيين أو كانت نفوسهم كنفوس من قتلوا ولم يمنعهم عن القتل إلا العجز؟ كما قال تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ- يحبسوك- أَوْ يَقْتُلُوكَ» . (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن هؤلاء الذين فعلوا تلك القبائح يبطل الله أعمالهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنهم لم ينالوا بها حمدا ولا ثناء من الناس، إذ هم كانوا على ضلال وباطل، ولعنهم الله وهتك أستارهم وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله، وذلك هو حبوطها في الدنيا، وأما في الآخرة فلا ثواب لها، بل قد أعد لهم العذاب الأليم، والخلود في الجحيم. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من بأس الله وعذابه، وقد نفى الله عنهم الناصر الذي يدفع العذاب عنهم، لأنهم لما قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق، ولم يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتلهم- جوزوا بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين. وقد جعل الله وعيدهم ثلاثة أصناف: (1) اجتماع أسباب الآلام والمكاره وهو العذاب الأليم. (2) زوال أسباب المنافع بحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة ففى الدنيا بإبدال لمدح بالذم والثناء باللعن، وفي الآخرة بما أشار إليه بقوله: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» . (3) دوام هذا العذاب وهو ما أشار إليه بقوله (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ألم تر: استفهام لتعجيب النبي صلى الله عليه وسلم من حالهم، والذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود، والنصيب: الحظ، والكتاب: التوراة، ليحكم بينهم: أي ليفصل بين اليهود والداعي لهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والتولي: الإعراض بالبدن، والإعراض يكون بالقلب، والافتراء: الكذب، واليوم: هو يوم الحساب والجزاء، ما كسبت: أي ما عملت من خير أو شر. المعنى الجملي بعد أن ذكر مقابح أعمال اليهود من توليهم عند الدعوة، وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط، ليبين لرسوله أن إعراضهم عن دعوته ليس ببدع ولا غريب فيهم، فذلك ديدنهم ودأبهم مع الأنبياء السالفين، فلا تذهب نفسه عليهم حسرات، ولا يحزنه إعراضهم- انتقل إلى خطاب رسوله ذاكرا أعجب شأن من شئونهم في الدين لذلك العهد وهو أنهم لا يقبلون التحاكم إلى كتابهم، وإذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ثم أردفه ذكر سبب هذا وهو أنهم اغتروا باتصال نسبهم بالأنبياء، وظنوا أن ذلك كاف في نجاتهم فأصبحوا لا يبالون بارتكابهم للمعاصى ولا باجتراح الآثام، ثم رد عليهم بأن الجزاء على الأعمال لا على مقدار الأنساب رفعة وضعة. أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدارس- مدرسة اليهود لدراسة التوراة- على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله،

الإيضاح

فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أىّ دين أنت يا محمد؟ قال على ملة إبراهيم ودينه، قالا فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمّوا إلى التوراة فهى بيننا وبينكم، فأنزل الله الآية. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي ألم تر إلى هؤلاء الذين تستحق أن تعجب لهم من اليهود- كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم؟ (وهذا دأب أرباب الديانات في طور انحلالها واضمحلالها) . وقد كانوا يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم ماضوا العزيمة على قبول حكمه حتى إذا جاء على غير ما أحبوا خالفوه ونكصوا على أعقابهم، فقد زنى بعض أشرافهم وحكّموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولّوا وأعرضوا عن قبول حكمه، إذ هم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم. وقوله نصيبا من الكتاب هو ما يحفظونه من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم وقد فقدوا سائره، وهم لا يحسنون فهمه ولا يلتزمون العمل به. فهذه الكتب الخمسة التي تسمى بالتوراة وتنسب إلى موسى عليه السلام، لا يوجد دليل على أنه هو الذي كتبها، إذ ليست محفوظة حتى يمكن الحكم عليها، بل قام الدليل لدى بعض الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بخمسمائة سنة، كما لا تعرف اللغة التي كتبت بها أول مرة، ولا دليل على أن موسى كان يعرف اللغة العبرية، وإنما كانت لغته المصرية، فأين التوراة التي كتبها بتلك اللغة، ومن ترجمها؟ (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي إنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تتولى طائفة منهم بعد تردد وجذب ودفع، وقد كان من دواعى الإيمان به ألا يترددوا في إجابة الدعوة إليه، إذ هو أصل دينهم، وعليه بنيت عقيدتهم.

وفي هذا إيماء إلى أن هذا التولي لم يكن عارضا يرجى زواله، بل ذلك دأبهم فى عامة أحوالهم. وإنما جىء بكلمة (فريق) للإشارة إلى أن هذا التولي لم يكن وصفهم جميعا فقد كان منهم طائفة يهدون بالحق، ومنهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر أسباب هذا التولي فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي إن ذلك الإعراض والتولي إنما حدث لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له، فلم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب. وخلاصة ذلك- إنهم استخفوا بالعقوبة واستسهلوها اتكالا على اتصال نسبهم بالأنبياء، واعتمادا على مجرد الانتساب إلى هذا الدين، واعتقدوا أن هذا كاف في نجاتهم. ومن استخفّ بوعيد الله زعما منه أنه غير نازل حتما بمن يستحقه- تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي، فيقدم بلا مبالاة على انتهاك حرمات الدين، ويتهاون فى أداء الطاعات، وهكذا شأن الأمم حين تفسق عن دينها ولا تبالي باجتراح السيئات، وقد ظهر ذلك في اليهود ثم في النصارى ثم في المسلمين، فإن كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات أو تنجيه الكفارات، وإما أن يمنح العفو والمغفرة إحسانا من الله وفضلا، فإن فاته ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار مهما كانت أعمالهم. والقرآن قد ناط أمر الفوز والنجاة من النار بالإيمان الذي ذكر الله علاماته وصفات أهله، وبالعمل الصالح والخلق الفاضل، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن كما جعل المغفرة لمن لم تحط به خطيئته. أما الذين صار همهم إرضاء شهواتهم، ولم يبق للدين سلطان على نفوسهم فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

والمراد بالأيام المعدودات هى أربعون يوما وهى مدة عبادتهم للعجل، وقال الأستاذ الإمام: إنه لم يثبت في عدد هذه الأيام شىء. (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وقد أطمعهم وخدعهم ما كانوا يفترون على الله من نحو قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقولهم: إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله وعد يعقوب ألا يعذب أبناءه إلا تحلّة القسم (مدة قصيرة) . والخلاصة- إن مثل هذا التحديد للعقوبة من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم إذ هو مما لا يعرف بالرأى ولا بالفكر، بل بالوحى من الله، والعهد منه كما قال في سورة البقرة «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» . (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي فكيف يصنعون إذا جمعناهم للجزاء فى يوم لا ريب فيه؟ وفي هذا الاستفهام تهويل لما سيكون، واستعظام لما أعدّ لهم، وأنهم سيقعون فيما لا حيلة في دفعه والخلاص منه، وأن ما حدّثوا به أنفسهم وسهلوه عليها بتعللاتهم وأباطيلهم تطمّع بما لا يكون. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي ورأت كل نفس ما عملت من خير أو شر محضرا لا نقص فيه، ثم جوزيت عليه وكان منشأ سعادتها أو شقائها، ولا يفيدهم الانتماء إلى دين معين أو مذهب خاصّ، إذ لا امتياز لشعب على شعب وإن تسمى بعضهم بشعب الله، ولا بين الأشخاص وإن لقبوا أنفسهم بأبناء الله، فإن الجزاء يومئذ إنما يكون بما في داخل الصدور لا بما في خارجها، وبما أحدثته الأعمال فيها من صفات حسنة أو قبيحة. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فهناك العدل الكامل، فلا ينقص أحد من جزاء ما كسب ولا يزاد في عذابه شىء، والعبرة حينئذ بتأثير العمل في النفس، فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بها، واستغرق وجدانها، كانت خالدة في النار، لأن عملها لم يدع للإيمان

[سورة آل عمران (3) : الآيات 26 إلى 27]

أثرا صالحا يعدّها لدار الكرامة، وإن لم يبلغ هذا القدر بأن غلب عليها العمل الصالح، أو استوى الأمران، جوزيت على كل بحسب درجته ومقداره. [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) تفسير المفردات الملك: السلطة والتصرف في الأمر بيدك الخير: أي بقدرتك التي لا يقدر قدرها، الخير كلّه تتصرف فيه أنت وحدك، الولوج: الدخول، والإيلاج: الإدخال، ويراد به زيادة زمان النهار في الليل والعكس بالعكس بحسب المطالع والمغارب فى أكثر البلدان. المعنى الجملي كان الكلام في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المخاطبين بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام، ويمشى فى الأسواق، كما أنكر ذلك أمثالهم على الأنبياء من قبل، وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبىّ من غير آل إسرائيل، فجاءت هذه الآية تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم في مقام عناد المنكرين، ومكابرة الجاحدين، وتذكيرا له بقدرته تعالى على نصره وإعلاء دينه، وكأنه يقول له: إذا تولى هؤلاء الجاحدون عنك ولم يقنعهم

الإيضاح

البرهان، فظل المشركون على جهلهم وأهل الكتاب في غرورهم، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء. روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. الإيضاح (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أي أنت ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى والتصرف التام في تدبير الأمور وإقامة ميزان النظام العام فى الكائنات، فأنت تؤتي الملك من تشاء من عبادك، إما تبعا للنبوة كما وقع لآل إبراهيم وإما بالاستقلال بحسب السنن الحكيمة الموصلة إلى ذلك واتباع الأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب، وتنزع الملك ممن تشاء بانحراف الناس عن الطريق السوىّ الحافظ للملك من العدل وحسن السياسة وإعداد القوة بقدر المستطاع، كما نزعه من بنى إسرائيل وغيرهم بظلمهم وفسادهم. (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) للعزة آثار وللذل مثلها، فالعزيز يكون نافذ الكلمة كثير الأعوان مالكا للقلوب بجاهه أو علمه النافع للناس، مع بسطة في الرزق وإحسان إلى الخلق. والذليل يرضى بالضيم والمهانة، ويضعف عن حماية الحريم، ومقاومة العدو المهاجم، ولا عز أعظم من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا سار المجتمعون على السنن التي سنها الله لعباده، فأعدّوا لكل أمر عدته، ولا عبرة بكثرة عدد الأمة وقلته في تكوين العزة واجتماع القوة، فقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقوا العرب في المدينة يغترون بكثرتهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين،

ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا كما قال تعالى: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» . والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا، انظر إلى الشعوب الشرقية على كثرة عدد كل شعب منها، كيف سادها وتحكم فيها ملوك الغرب على قلة عددهم، وما ذاك إلا لفشوّ الجهل وتفرق الكلمة والتخاذل في مقاومة الغاصب، بل ممالأة بعضهم له إذا جاش بصدر بعضهم مقاومته، والسعى في إزالة طغيانه، وتحكمه في الرقاب والبلاد. (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي بقدرتك الخير كله تتصرف فيه أنت وحدك بحسب مشيئتك، ولا يملكه أحد سواك، وخص الخير بالذكر مع أن كلا من الخير والشر بيده وقدرته كما يدل على ذلك قوله: (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن المناسب للمقام ذكر الخير فقط، فإنه ما أغرى أولئك الجاحدين وجعلهم يستهينون بالدعوة إلا فقر الداعي وضعف أتباعه وقلة عددهم، فأمره الله أن يلجأ إلى مالك الملك الذي بيده الإعزاز، وأن يذكّره بأن الخير كله بيده، فلا يعجزه أن يعطى نبيه والمؤمنين من السيادة وبسطة السلطان ما وعدهم، وأن يؤتيهم من الخير ما لا يدور بخلد أولئك الذين استضعفوهم كما قال «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» . (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي إنك تدخل طائفة من الليل فى النهار فيقصر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل طائفة من النهار في الليل فيطول هذا من حيث يقصر ذاك. والخلاصة- إنك بحكمتك في خلق الأرض مكورة، وجعل الشمس بنظام خاص تزيد في أحد الموين (الليل والنهار) ما يكون سببا في نقص الآخر.

فليس بالمنكر بعد هذا أن تؤتى النبوة والملك من تشاء كمحمد وأمته من العرب وتنزعهما ممن تشاء كبنى إسرائيل، فما مثل تصرفك في شئون الناس إلا مثل تصرفك فى الليل والنهار. (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالعالم من الجاهل والمؤمن من الكافر (والحياة والموت معنويان) والنخلة من النواة والإنسان من النطفة، والطائر من البيضة (والحياة والموت حسيان) . (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) كالجاهل من العالم، والكافر من المؤمن، والنواة من النخلة، والبيضة من الطائر. وقد أثبت علماء الطب أن في النطفة والبيضة والنواة حياة، ولكن هذه حياة اصطلاحية لأهل هذا الفن، لا في العرف العام الذي جاء به التنزيل. قال الدكتور المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه الإسلام والطب الحديث: قيل في تفسير ذلك: كإنشاء الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان ولكن النطفة هى حيوانات حية، وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حى من حى فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير والله أعلم، فإذا قيل: إن معنى الآية خلق آدم من طين أي خلق حىّ من ميت فهذا صحيح، ولكنه ليس المقصود من الآية والله أعلم، لأنها تشير إلى أن الخلق شىء عادى يحصل يوميا بدليل ورودها بعد (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بالتعاقب وهذا شىء اعتيادى، فالله يضرب لنا مثلا نشاهده يوميا. والتفسير الحقيقي هو (إخراج الحي من الميت) كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة، فالصغير يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء شىء ميت، ولا شك في أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر ومواد من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت، وقد كتب علماء الحيوان فقالوا: إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوله إلى

لحمها، وهذه أهم علامة على أنها حية، وكذا الطفل يتغدى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي. وأما إخراج الميت من الحي، فهو الإفرازات مثل اللبن (وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنبات) فإن اللبن سائل ليس فيه شىء حي، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهذه تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والله أعلم بمراده اهـ. وقد استعمل القرآن لفظ الحياة فيما يقابل الموت، سواء أكانت الحياة حسية أم معنوية وسواء أكان لفظ الميت مما يعيش ويحيا مثله أم لا. وهذه العبارة- يخرج الحي من الميت- إلى آخره مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتى الملك من يشاء، فقد أخرج من العرب الأميين سيد المرسلين، إذ أعدهم بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة لأن يكونوا أقوى الأمم استعدادا لقبول هذا الدين الجديد الذي هدم بناء الاستعباد، وأقام على أنقاضه صرح الاستقلال حين كان بنو إسرائيل وغيرهم يرسفون في قيود التقليد، وأغلال الاستبداد من الملوك والحكام. وما الإعطاء لمن أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي عليها مدار النظام، وبها الإبداع والإحكام. (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إن الأمر كله بيدك وليس أحد فوقك يحاسبك فأنت القادر على أن تنزع الملك من العجم وتذلهم، وتؤتيه العرب وتعزهم وذلك أهون شىء عليك. وقد ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه. (1) بمعنى التعب كما في هذه الآية. (2) بمعنى العدد كما في قوله «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» : (3) بمعنى المطالبة كما في قوله «فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ» .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 28 إلى 30]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 30] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) تفسير المفردات الأولياء واحدهم ولىّ وهو النصير، تقاة: أي اتقاء وخوفا، ويحذركم: أي يخوفكم، والأمد: المدة لها حد محدود، محضرا: أي حاضرا لديها. المعنى الجملي بعد أن نبّه الله نبيه والمؤمنين إلى الالتجاء إليه، مع الاعتراف بأن بيده الملك والعز والسلطان المطلق في تصريف الكون فيعطى من يشاء ويمنع من يشاء- أرشدهم في هذه الآيات إلى أن من الغرور أن يعتز أحد بغير الله، وأن يلتجىء إلى غير جنابه. وقد روى أرباب السير أن بعض الذين كانوا يدخلون في الإسلام يغترون بعزة الكافرين وقوتهم فيوالونهم ويركنون إليهم، وليس هذا بالمستغرب بل هو أمر طبيعى فى البشر. وروى عن ابن عباس أنه قال: كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس ابن زيد من اليهود يباطنون (يلازمون) نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم، فقال

الإيضاح

رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر، اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله الآية. الإيضاح (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يصطف المؤمنون الكافرين فيكاشفوهم بالأسرار الخاصة بالشئون الدينية ويقدموا مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان. وخلاصة هذا- نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة، بل ينبغى أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب، ومن ثم تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين. فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين فلا مانع منها، فقد حالف النبي صلى الله عليه وسلم خزاعة وهم على شركهم، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته فى أمور الدنيا. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) أي ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيما يضر مصلحة الدين فليس من ولاية الله في شىء، أي فليس بمطيع له ولا ناصر لدينه، وصلة الإيمان بينه وبين ربه تكون منقطعة، ويكون من الكافرين كما جاء في الآية الأخرى «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» . (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم فى كل حال إلا في حال الخوف من شىء تتقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتّقى ذلك الشيء، إذ القاعدة الشرعية «أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» . وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، وإذا فلا مانع

من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إما بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شىء يضر بالمسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هى جائزة في كل وقت. وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التّقيّة بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقى ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال. فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكون كافرا بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرها وقلبه ملىء بالإيمان وفيه نزلت الآية «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» . وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة: أتشهد أنى رسول الله؟ قال نعم فتركه وقتل رفيقه الذي سأله هذا السؤال فقال إنى أصمّ (ثلاثا) فقدّمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه. وهى من الرخص لأجل الضرورات العارضة، لا من أصول الدين المتبعة دائما، ومن ثم وجب على المسلم الهجرة من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن كمال الإيمان ألا يخاف في الله لومة لائم كما قال تعالى «فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» وقال: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ» . وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحملون الأذى في سبيل دعوة الدين ويصبرون عليه. ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة وإلانة الكلام لهم والتبسم فى وجوههم وبذل المال لهم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها بل هو مشروع فقد أخرج الطبراني قوله صلى الله عليه وسلم

«ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة» وعن عائشة قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة» ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال يا عائشة: «إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه» رواه البخاري. وروى قوله صلى الله عليه وسلم «إنا لنكشر (نبتسم) فى وجوه قوم وإن قلوبنا لتقليهم» (تبغضهم) . (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي عقاب نفسه، وفائدة ذكر (نفسه) الإيماء إلى أن الوعيد صادر منه تعالى وهو القادر على إنفاذه ولا يعجزه شىء عنه. وفي ذلك تهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه، لأن شدة العقاب بحسب قوة المعاقب وقدرته. (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم، فيجزى كلا بما عمل (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إنه سبحانه يعلم ما تنطوى عليه نفوسكم إذ توالون الكافرين أو توادّونهم أو تتقون منهم ما تتقون، فإن كان ذلك يميل بكم إلى الكفر جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جريمة فيه على الدين ولا على أهله، وهو إنما يجازيكم بحسب علمه المحيط بما في السموات والأرض، لأنه الخالق لها كما قال: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» . (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على عقوبتكم فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه، إذ ما من معصية خفيّة كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها قادر على عقاب فاعلها (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) أي احذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير حاضرا لديها،

[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 إلى 32]

فيكون ذلك غبطة وسرورا لها، وتنعم بما أحسنت، وتبتئس المسيئة وتغتم بما أساءت وتود أن ما عملت من السوء كان بعيدا عنها لم تره حتى لا تؤاخذ بجريرته. ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لها. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي احذروا من سخط الله بترجيح جانب الخير وعمله على ما يزينه لكم الشيطان من عمل السوء «وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون» . (وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) قال الحسن البصري: ومن رأفته أن حذرهم نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه اهـ. ومن رأفته أيضا أن جعل الفطرة الإنسانية ميالة بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يعرض لها من الشر، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح. [سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) تفسير المفردات المحبة: ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، فيدعوها ذلك إلى التقرب إليه، يغفر لكم: أي يتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة، فإن تولوا: أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك. المعنى الجملي بعد أن ذكر قبل هذا جلال سلطانه وعظيم كماله، ثم نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأكد ذلك بالوعيد الشديد- ذكر هنا أن طريق محبته متابعة رسوله وامتثال

الإيضاح

أوامره التي جاء بها واجتناب ما نهى عنه، وبذا يكون المرء أهلا لمحبته، مستحقا لغفران ذنوبه. روى أن هذه الآية نزلت حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب ابن الأشرف ومن تابعه من اليهود إلى الإيمان فقالوا «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» فأمر الله نبيه أن يقول لهم: إنى رسول الله إليكم أدعوكم إليه، فإن كنتم تحبونه فاتبعونى وامتثلوا أمرى يحببكم الله ويرض عنكم. الإيضاح (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي قل لهم: إن كنتم تريدون طاعة الله وترغبون في العمل بما يقرب إليه طلبا للثواب فيما عنده، فاتبعونى بامتثال ما نزل به الوحى منه إلىّ، يرض الله عنكم ويتجاوز عما فرط منكم من الأعمال السيئة، والاعتقادات الباطلة، ويبوئكم في جوار قدسه، إذ في هذا الاتباع اعتقاد الحق والعمل الصالح، وهما يزيلان من النفس آثار المعاصي والرذائل، ويمحوان منها ظلمة الباطل، وأثر ذلك المغفرة ورضوان الله. وهذا حجة على من يدعى محبة الله في كل زمان وأعماله تكذب ما يقول، إذ كيف يجتمع حب مع الجهل بالمحبوب، وعدم العناية بأوامره ونواهيه، فهو كما قال الورّاق: تعصى الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا لعمرى في القياس بديع لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحبّ مطيع (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تحبب إليه بطاعته، وتقرب إليه باتباع نبيه، إذ في هذا تزكية للنفس بصالح العمل، فيغفر لها ما فرط من زلاتها، ويتجاوز عن سيئاتها. روى أنه لما نزل قوله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ... ) قال عبد الله بن أبيّ: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 إلى 37]

(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) أي قل لهم: أطيعوا الله باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا رسوله باتباع سنته والاهتداء بهديه. وفي هذا إرشاد إلى أن الله إنما أوجب عليكم متابعته لأنه رسوله، لا كما يقول النصارى في عيسى. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورا بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه- فإن الله لا يحب الكافرين، الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آياته، وعما أنزله على رسوله فلا يرضى عنهم، بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظيرة عزته، ويسخط عليهم يوم يرضى عن المؤمنين به المطيعين لنبيه، المتبعين لما جاء به من عند ربه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الاصطفاء: أخذ ما صفا من الشيء كالاستصفاء، والذرية في أصل اللغة الصغار من الأولاد، ثم استعملت عرفا في الصغار والكبار، وللواحد والكثير، والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه، والمحرر: المخصص للعبادة والخدمة لا يشتغل بشىء آخر، والتقبل: أخذ الشيء على وجه الرضا والقبول، أعيذها بك: أي أمنعها وأجيرها بحفظك وأصل العوذ الالتجاء إلى سواك والتعلق به، يقال عاذ بفلان إذا استجار به، والرجيم: أي المرجوم المطرود من الخير، ومريم بالعبرية خادم الرب، وتقبل الشيء وقبله: أي رضيه لنفسه، وأنبتها: أي رباها بما يصلح أحوالها، وكفلها زكريا: أي وجغل زكريا كافلإلها، وزكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام، والمحراب هنا هو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذى درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن في المعبد، أني لك هذا: أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط وجدب، بغير حساب: أي بغير عدّ ولا إحصاء لكثرته. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن الدين الحق هو الإسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغى والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته- ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهى الإيمان به مع طاعته والعمل بما يرضيه. الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) أي إن الله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوّة والرسالة فيهم.

فأولهم آدم وهو أبو البشر اصطفاه ربه واجتباه كما قال تعالى: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى» وكان من ذريته النبيون والمرسلون. وثانيهم نوح وهو الأب الثاني للبشر، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقرض، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين، ثم تفرقت ذريته وانتشرت في البلاد وفشت فيهم الوثنية. فظهر إبراهيم صلوات الله عليه نبيا مرسلا، ثم تتابع من بعده النبيون والمرسلون من ذريته وآله كإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وكان من أرفع أولاده قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران، وهم عيسى وأمه مريم ابنة عمران، وينتهي نسبها إلى يعقوب صلوات الله عليه، وختمت النبوة بولد إسماعيل محمد صلوات الله وسلامه عليه. (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) أي إن الآلين ذرية واحدة متشعب بعضها من بعض، فآل إبراهيم وهم إسماعيل وإسحق وأولادهما من نسل إبراهيم، وإبراهيم من نسل نوح ونوح من آدم. وآل عمران وهم موسى وهرون وعيسى وأمه من ذرية إبراهيم ونوح وآدم. وقد يكون المراد بكون بعضها من بعض أنهم أشباه وأمثال في الخير والفضيلة التي كانت سببا في اصطفائهم، على نحو قوله تعالى «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وهؤلاء الذرية هم الذين ذكرهم الله في سياق الكلام في إبراهيم بقوله: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً

وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ، وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه تعالى كان سميعا لقول ابنة عمران عالما بنيتها حين ناجت ربها وهى حامل بنذر ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، وبثنائها عليه حين المناجاة بأنه السميع لدعائها وضراعتها، العليم بصحة نيتها وإخلاصها، وهذا يستدعى تقبل الدعاء، ورجاء الإجابة تفضلا منه وإحسانا. وقد جاء ذكر عمران في هذه الآيات مرتين، فعمران الأول أبو موسى عليه السلام، والثاني أبو مريم وبينهما نحو ألف وثمانمائة سنة على وجه التقريب. (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) أي فلما وضعت بنتا تحسرت وتفجعت على ما رأت من خيبة رجائها وانقطاع حبل أملها فإنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت المقدس والانقطاع للعبادة، والأنثى لا تصلح لذلك. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) أي والله أعلم بمكانة الأنثى التي وضعتها، وأنها خير من كثير من الذكور. وفي هذا تعظيم لهذه المولودة وتفخيم شأنها، ودفع ما يتوهم من قولها الدالّ على انحطاطها عن مرتبة الذكور (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) أي وليس الذكر الذي طلبت وتمنت كالأنثى التي وضعت بل هى خير مما كانت ترجوه من الذّكران. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي وإنى غير راجعة عما انتويته من خدمتها بيت المقدس، وإن كانت أنثى فإن لم تكن جديرة بسدانته فلتكن من العابدات القانتات، وإنى أجيرها بحفظك ورعايتك من الشيطان المطرود من الخير. روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل بنى آدم

يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها» والمراد أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها، فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة، ونحوه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه، إذ معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قلبه صلى الله عليه وسلم ولو بالوسوسة (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي فتقبل مريم من أمها ورضى أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته على صغرها وأنوثتها، وكان التحرير لا يجوز إلا لغلام عاقل قادر على خدمة البيت. (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي رباها ونماها بما يصلح أحوالها كما يربّى النبات في الأرض الصالحة بعد تعهد الزراع إياه بالسقي وقلع ما يضعفه من النبات الطفيلي. وهذه التربية تشمل التربية الروحية والجسدية، فقد نمى جسدها فكانت خير لداتها جسما وقوة، كما نماها صلاحا وعفة وسداد رأى. (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي جعله كافلا لمصالحها وقائما بشئونها. (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أي كلما دخل زكريا محرابها وجد ألوانا من الطعام لم تكن توجد في مثل تلك الأحيان. روى أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وليس لدينا مستند صحيح من كتاب أو سنة يؤيد هذه الروايات الإسرائيلية. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟) أي قال من أين لك هذا والأيام أيام جدب وقحط. (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الذي يرزق الناس جميعا بتسخير بعضهم لبعض، وقد جرى العرف في كل زمان بإضافة الرزق إلى الله، وليس في هذا دلالة على أنه من خوارق العادات. وسيق هذا القصص لتقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل، ودحض شبهة المشركين الذين أنكروها لأنه بشر

[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 إلى 41]

وبيان هذا أن الله اصطفى آدم وسخر له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد، واصطفى نوحا وجعله أبا البشر الثاني، واصطفى إبراهيم وآله على البشر، والعرب وأهل الكتاب يعرفون ذلك، والأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم، والآخرون يفخرون باصطفاء آل عمران من بنى إسرائيل حفيد إبراهيم، وهؤلاء وأولئك يعلمون أنه اصطفى هؤلاء بمحض مشيئته تفضلا منه وإحسانا، وإذا فما الذي يمنع من أن يصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على العالمين كما اصطفى أولئك فالله يصطفى من خلقه من يشاء، وقد اصطفاه وجعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الحق واليقين، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية أظهر من أثره. [سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) تفسير المفردات الذرية: الولد، وتقع على الواحد والكثير، والطيب: ما تستطاب أفعاله وأخلاقه، سميع الدعاء: أي مجيبه كما يقال: سمع الله لمن حمده، إذ من لم يجب فكأنه لم يسمع،

الإيضاح

وكلمة الله: عيسى عليه السلام، والسيد الرئيس يسود قومه، والحصور من الحصر وهو الحبس أي يحبس نفسه ويمنعها مما ينافى الفضل والكمال، من الصالحين: أي من أصلابهم، والصلاح صفة تجمع الخير كله أنى يكون لى؟ أي كيف يحصل لى، بلغني الكبر: أي أدركنى كبر السن وأثّر فيّ، عاقر: أي عقيم لا تلد، آية: أي علامة أعرف بها ميقات الحمل إذا حدث لأتلقى النعمة بالشكر، ألا تكلم الناس: أي لا تستطيع الكلام، والرمز: الإشارة بيد أو رأس أو غيرهما، وسمى الرمز كلاما لأنه يفيد ما يفيده الكلام ويدل على ما دل عليه، والعشى: الوقت من الزوال إلى الغروب، والإبكار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. الإيضاح (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) أي في هذا المكان الذي خاطبته فيه مريم بما ذكر دعا ربه بهذا الدعاء، فإنه حين رأى حسن حالها ومعرفتها بالله تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلا من عنده فرؤية الأولاد النجباء مما تشوّق نفوس الناظرين إليهم وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم. (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي ناداه جبريل عليه السلام كما قال به جمهور من المفسرين كما يقال خرج فلان على بغال البريد، وركب السفن، وهو إنما ركب بغلا واحدا وسفينة واحدة، ويقال ممن سمعت هذا الخبر؟ فتقول من الناس، وأنت إنما سمعته من واحد. ويرى ابن جرير في جماعة آخرين أن المراد جماعة الملائكة إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل، وبهذا قال قتادة وعكرمة ومجاهد. (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي نادته الملائكة على الفور وهو يدعو بذلك الدعاء الذي فصّل في سورة مريم.

(أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي نادته بهذه البشرى، وقوله بيحيى أي بولد اسمه يحيى كما قال في سورة مريم «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى» وهو معرب يوحنا، ففى إنجيل متى: إنه يدعى يوحنا المعمدانى، لأنه كان «يعمّد» الناس في زمانه. والاسم العربي من مادة الحياة وإليه يشير القائل في الرثاء: وسميته يحيى ليحيا فلم يكن ... لأمر قضاه الله في الناس من بدّ فهو يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ولآل يعقوب ما كان فيهم من الفضل والنبوة. (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي مصدقا بعيسى الذي ولد بكلمة الله (كُنْ فَيَكُونُ) لا بالسّنة العامة في توالد البشر، وهى أن يكون الولد من أب وأم، وهو سيد يفوق قومه والناس جميعا في الشرف والصلاح وعمل الخير وهو حصور مانع نفسه من شهواتها، وسيكون نبيّا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوّة، ناشئا من أصلاب قوم صالحين، ولا غرو فهو من أصلاب الأنبياء صلوات الله عليهم. روى أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت. ثم سأل ربه سؤال استبعاد وتعجب أنى يكون له ولد وهو وامرأته على تلك الحال. (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) قال الأستاذ الإمام: إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم من كمال إيمانها، وحسن حالها، واعتقادها أن المسخر لها، والرازق لما عندها، هو من يرزق من يشاء بغير حساب، أخذ عن نفسه وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء مستجابا إذا جرى به اللسان بتلقين القلب، حال استغراقه في الشعور بكمال الرب. ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن

[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 إلى 44]

بسماع ندائه واستجابة دعائه- سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهى على غير السنة الكونية، فأجابه بقوله: (قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي قال تعالى بتبليغ ملائكته: كذلك الله يفعل ما يشاء، فمتى شاء أمرا أوجد له سببه أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، فلا يحول دون مشيئته شىء، ففوّض إليه الأمر ولا تسأل عن الكيفية، فلا سبيل لك للوصول إلى معرفتها. (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي قال: رب اجعل لى علامة تدلنى على الحمل، وقد سأل ذلك استعجالا للسرور قاله الحسن البصري، وقيل: ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها، ولا يؤخره حتى يظهر ظهورا معتادا. (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) أي علامة ذلك ألا تقدر على تكليم الناس، بل تعجز عن خطابهم بحصر يعترى لسانك إذا أردته، ثلاثة أيام متوالية مع لياليها إلا بإشارة بيد أو رأس أو نحوهما، ولا تعجز عن ذكر الله وتسبيحه لتكون المدة كلها مشغولة بالذكر قضاء لحق الشكر. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي واذكره ذكرا كثيرا في أيام الحبسة شكرا له، وسبحه في الصباح والمساء. [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 44] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الاصطفاء الأول قبولها محررة لخدمة بيت المقدس، وكان ذلك خاصا بالرجال، والتطهير يعم التطهير الحسى كعدم الحيض والنفاس وبذلك كانت أهلا لملازمة المحراب وهو أشرف مكان في المعبد، والتطهير المعنوي كالبعد عن سفساف الأخلاق وذميم الصفات، والاصطفاء الثاني بما اختصت به من ولادة نبى من غير أن يمسها رجل، وهو اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل هى مهيأة ومعدة له، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود، والقنوت: الطاعة مع الخضوع، والسجود: التذلل، والركوع: الانحناء والمراد لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة والوحى جاء في القرآن لمعان: (1) لكلام جبريل للأنبياء كما قال تعالى: «نُوحِي إِلَيْهِمْ» . (2) وللإلهام كما قال تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى» . (3) ولإلقاء المعنى المراد في النفس كما قال تعالى: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» . (4) وللإشارة كما قال تعالى: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» . فالوحى تعريف الموحى إليه بأمر خفىّ من إشارة أو كتابة أو غيرهما، والأقلام القداح المبرية وتسمي السهام، والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها، ويختصمون: أي يتنازعون في كفالتها. المعنى الجملي هذا عود على بدء فيما يتعلق باصطفاء آل عمران، إثر ذكر طرف من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى اقتضى المقام ذكره كما علمت ذلك مما سلف. الإيضاح (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) المراد بالملائكة جبريل عليه السلام بدليل قوله في سورة مريم: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» وكلام جبريل معها لم يكن وحيا إليها فإن الله يقول: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ»

وإنما هو إلهام بما لها من المكانة عند الله، وبما يجب عليها من الشكر له بدوام القنوت والطاعة له، وذلك مما يزيدها محافظة على الكرامة، وتعلقا بالكمال وتباعدا من النقص. (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) أي إن الله اختار خدمتك لبيت المقدس، وبرأك من العيوب الحسية والمعنوية، واختصك بولادة نبى دون أن يمسسك رجل، وفضلك على جميع النساء في كل الأعصار، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون» أو المراد نساء زمانها ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة» . وبعد أن بين اختصاصها بهذه المزايا والفضائل أوجب عليها طاعته شكرا لهذه النعم فقال: (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي أطيعى ربك وتذللى له وصلى مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابها. (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي هذا الذي قصصناه عليك من أخبار مريم وزكريا من الأخبار التي لم تشهدها أنت ولا أحد من قومك، ولم تقرأها في كتاب ولا علّمكها معلم، بل هى وحي نوحيه إليك على يد الروح الأمين، لتكون دلالة على صحة نبوتك، وإلزاما لمن يحاجك من الجاحدين المعاندين. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي وما كنت حاضرا لديهم حين يضربون بسهامهم القرعة، وينظرون ليعلموا أيهم يكون كافلا لمريم بوساطة هذا الاقتراع، وقد قرعهم زكريا فكان كافلها. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي وما كنت شاهدا تنازعهم وتخاصمهم في كفالتها، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة، والمتنازعون كانوا من الخواصّ وأهل

[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 إلى 51]

الفضل والذين، ولم يكن ذلك إلا لشدة رغبتهم في القيام بشأنها وكفاية مهامها، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا مكافأته قياما ببعض ما يجب له من الحقوق، وإما لأنهم وجدوا في بعض كتب الدين أنه سيكون لها ولابنها شأن عظيم، وإما لأنهم رأوا في ذلك القيام بواجب دينى إذ كانت محررة لخدمة بيت العبادة. وقد جاءت هذه الآية عقب هذه القصة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أخبار القوم لأنه أمي، ولم يروها سماعا عن أحد كما يعترف بذلك منكر ونبوّته، لأنه نشأ بين قوم أميين، فلم يبق له طريق للعلم إلا الوحى أو المشاهدة، والوحى ينكرونه، فلا سبيل بعدئذ إلا المشاهدة التي نفاها على سبيل التهكم لاستحالتها. ونظير هذه الآية قوله عقب قصة نوح عليه السلام «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» وقوله بعد قصة موسى وشعيب «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ» . والجاحدون من أهل الكتاب يقولون فيما وافق فيه القرآن كتبهم: إنه مأخوذ منها وفيما خالفها إنه ليس بصحيح لأنه خالفها، وفيما لم يوجد فيها إنه غير صحيح لأنه لم يذكر فيها، وهذا من المكابرة التي لا تغنى حجة لرد خصم على خصم، والمسلمون يقولون إن ما جاء به القرآن هو الحق للأدلة القائمة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح، وما جاء فيه مخالفا لما في الكتب السابقة يعد مصححا لأغلاطها لانقطاع أسانيدها، حتى إن أعظمها وأشهرها وهى الأسفار التي تنسب إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها، ولا الزمن الذي كتبت فيه، ولا اللغة التي كتبت بها أولا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المسيح: لفظ معرّب من العبراني وأصله مشيحا، وعيسى معرّب يسوع بالعبرانية، والوجيه: ذو الجاه والكرامة، والمهد: مفر الصبى حين رضاعه، والكهل: من تجاوز الثلاثين إلى الأربعين، والكتاب: الكتابة والخط، والحكمة: العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى نافع العمل، ويقف بالعامل على نهج الصراط المستقيم لما له من بصر بفقه الأحكام وسرّ التشريع، والتوراة: كتاب موسى وقد كان المسيح عليما به يبين أسراره لقومه ويحتج عليهم بنصوصه، والإنجيل: هو الكتاب الذي أوحى إليه به، والخلق: التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإنشاء والاختراع، والهيئة:

المعنى الجملي

الصورة، والأكمه: الذي يولد أعمى، والأبرص: هو الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به المعنى الجملي بعد أن ذكر قصة مريم أردفها قصص عيسى عليه السلام، وجاء بقصص زكريا بينهما اعتراضا تقريرا لقصص مريم وتنبيها إلى أنه وحده كاف في الدلالة على صدق من أنزل عليه. الإيضاح (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي إن الملائكة بشرت مريم بهذا الولد الصالح حين بشرتها باصطفاء الله إياها وتطهيره لها، وأمرتها بعبادته ودوام شكره. والمراد من الملائكة هنا جبريل لقوله في سورة مريم «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» وذكر بلفظ الجمع لأنه رئيسهم، وقوله بكلمة من الله أي بكلمة التكوين المعبر عنها بقوله سبحانه «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . وقد خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه وإن كان كل شىء قد خلق بكلمة التكوين، لأنه لما فقد في تكوينه وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق في العادة، وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين- أضيف إلى الله وأطلقت الكلمة على هذا المكون إيذانا بذلك، بخلاف الأشياء الأخرى فإنها تنسب في العرف إلى الأسباب العادية. وأطلق عليه المسيح وهو لقب الملك عندهم، لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس، ويعبرون عن تولية الملك بالمسح، وعن الملك بالمسيح.

والمعروف لديهم أن أنبياءهم السالفين بشروهم بمسيح يظهر فيهم، وأنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض، فحين ظهر عيسى وسمى بالمسيح آمن به قوم وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء، واليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها بعد. وإنما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها إشارة إلى أنه ينسب إليها، إذ ليس له أب. (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فوجاهته في الدنيا لماله من المكانة في القلوب والاحترام فى النفوس، فمنزلته في نفوس المؤمنين به لا تعدلها منزلة أخرى، وما جاء به من الإصلاح قد بقي أثره بعد، وهذه الوجاهة أجل شأنا من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون لدفع أذاهم واتقاء شرهم، أو لمداهنتهم والتزلف إليهم رجاء شىء مما في أيديهم من متاع الحياة، وهذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغضاء. ووجاهته في الآخرة بكونه ذا مكانة عليّة ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها ويعلمون قربه من ربه (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عند الله يوم القيامة، فالناظر إليه حينئذ يعتقد ماله من القرب والزلفى عنده. (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) أي إنه يكلم الناس حال الطفولة وحال الكهولة وفي هذا بشارة بأنه يعيش حتى يكون رجلا سويا، قال ابن عباس: كان كلامه في المهد لحظة بما قصه الله علينا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام. والنصارى تزعم أنه عليه السلام لم يتكلم في المهد، ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا، وعاش ثلاثين سنة، واليهود تقذف أمه بيوسف النجار. والخلاصة- إنه يكلم الناس طفلا في المهد دلالة على براءة أمه مما قذفها به

المفترون عليها، وحجة على نبوته وبالغا كبيرا بعد أن يرسله الله وينزل عليه وحيه، وأمره ونهيه. (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومعدودا من الصالحين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين الذين تعرف مريم سيرتهم. (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي قالت: كيف يكون لى ولد وليس لى زوج؟ وقد يكون مرادها أيحدث ذلك بزواج أم يحصل بقدرتك؟ وقد يكون قصدها التعجب من قدرة الله واستعظام شأنه. (قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي مثل هذا الخلق العجيب والإحداث البديع وهو خلق الولد بغير أب- يخلق الله ما يشاء. ولاختلاف القصتين قصة مريم وزكريا في الغرابة عبر في الأولى بيفعل، وفي الثانية بيخلق، إذ العادة قد جرت بأن الفعل يستعمل كثيرا في كل ما يحدث على النواميس المعروفة والأسباب الكونية المألوفة، والخلق يقال فيما فيه إبداع واختراع ولو بغير ما يعرف من الأسباب، فيقال خلق الله السموات والأرض، ولا يقال فعل الله السموات والأرض. وإيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس فعبر عنه بالفعل، وإن كان فيه آية لزكريا من جهة أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما في العادة- أما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد بل بمحض القدرة، فالتعبير عنه بالخلق أليق. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون من غير ريث ولا إبطاء. وهذا تمثيل لكمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وتصوير سرعة حصول ما يريد بلا إبطاء بصورة آمر مطاع لمأمور قادر على العمل مطيع، يفعل ما يطلب منه على الفور.

وهذا الأمر يسمى أمر تكوين، وهناك أمر آخر هو أمر تكليف يعرف بوحي الله لأنبيائه والجاحدون لآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب، وقوفا عند العادة، وذهولا عن كيفية بدء العالم، ولكن ليس لهم دليل عقلى ينبئ بالاستحالة، وإنا لنشاهد كل يوم حدوث شىء في الكون لم يكن معتادا من قبل، بعضه له أسباب معروفة فيسمونه استكشافا أو اختراعا، وبعضه ليس بمعروف له سبب ويسمونه فلتات الطبيعة. والمؤمنون يقولون إن مثل هذا الذي جاء على غير الأسباب المعروفة يجب أن يهدى العاقل إلى أن الأسباب ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا. وإن أبناء الجيل الحاضر الذين رأوا من الغرائب ما لو رآه السابقون لعدّوه سحرا أو خرافة أو أضافوه إلى الجن- ليس لهم عذر في إنكار الأشياء التي لم يعرفوا لها أسبابا، وقد قرر فلاسفة العصر إمكان توالد الحيوان من غير حيوان، إذا فتوالد الحيوان من حيوان واحد أقرب إلى العقول وأدنى إلى الإمكان. (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي ويعلمه الكتابة والخط، والعلم الصحيح الباعث للإرادة إلى الأعمال النافعة ويفقّهه في التوراة، ويعلمه أسرار أحكامها، وقد كان المسيح عليما بها يرشد قومه إلى أسرارها ومغازيها، وكذلك يعلمه الإنجيل الذي أوحى به إليه. (وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ويرسله رسولا إلى بنى إسرائيل، روى أن الوحى أتاه وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ثم رفع إلى السماء. (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي يرسله محتجا على صدق رسالته قائلا «أنى قد جئتكم بآية من ربكم» ثم فسرها بقوله: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ) أي أنى أصور لكم من الطين صورة على مقدار معين كصورة الطير فأنفخ فيها فتكون طيرا

حيا كسائر الطيور بأمره تعالى، لأنه هو الذي يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى فيه معجزة له والخلاصة- إن من علامات نبوتى إن كنتم فيها تمترن، أنى أقتطع من الطين جزءا مصورا بصورة طير من الطيور التي تريدون، ثم أنفخ فيه فيصير طيرا حيّا يحلّق فى جو السماء كما تفعل بقية الطيور. وقد روى أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق خفّاش فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله. وقد جرت سنة الله أن تجرى الآيات على أيدى الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها، فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد فعل، ولا حاجة بنا إلى تعيين نوع الطير، إذ لم يرد عندنا نص من كتاب أو سنة يعينه فنقف حينئذ عند لفظ الآية. (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ) وإنما خصا بالذكر، لأن مداواتهما أعيت نطس الأطباء، وقد كان الطب متقدما جدا زمن عيسى فأراهم الله المعجزة من ذلك الجنس. وقد جرت السنة الإلهية أن تكون معجزة كل نبىّ من جنس ما اشتهر في زمنه فأعطى موسى العصا وابتلعت ما كانوا يأفكون، لأن المصريين في ذلك العصر كانوا مشهورين بالسحر، وأعطي عيسى من المعجزات ما هو من جنس الطب الذي حذقه أطباء عصره، وأعطى محمدا معجزة القرآن، لأن التفاخر في ذلك العصر كان بالفصاحة والبيان. وقد روى عن إحياء عيسى للموتى روايات كثيرة فمن ذلك أنه أحيا بنتا قبل أن تدفن، وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا رميما

قال صاحب الإسلام والطب الحديث رحمه الله في تفسير هذه الآية: [إن بعضهم قد اعترض على عمل الطين بشكل الطير، لأنه لا لزوم لذلك ما دام الله قادرا على إحيائه إلى آخر ما قالوا] . والحقيقة أن في ذلك حكمة عالية، لأن الإنسان خلق محدود الإدراك والحواس، ولا يفهم ولا يرى ولا يسمع إلا ما كان في متناول إدراكه، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في أن يرده إلى شىء يعرفه، فإن لم يمكنه بقي متحيرا، وإن تكرر ذلك أدى إلى اضطراب في الأعصاب قد يكون خطرا. وهنا يلحظ لطف الله في أنه لا يظهر قدرته للإنسان إلا بطريق التدرج، وهذا يلاحظ في كل المعجزات على الإطلاق، لأن الله تعالى يخلق الطير من الطين ومن غير الطين، سواء أكان في شكل الطير أم لم يكن، وكذلك لا داعى للنفخ لأن طريق الإرادة الإلهية هى (كن فيكون) . ولكن الله يقرب فهم الإرادة بهذه الطريقة، لأن الطين إذا كان بشكل الطير يشتبه فيه الإنسان بالطير الحقيقي، ولا يكون هناك فرق بينهما إلا الحياة مع أن ذلك كل الفرق وبعدها ينفخ فيه. وعملية النفخ تجعله ينتظر تغييرا كما يحدث في أشياء كثيرة مثل الكرة إذا نفخ فيها وغير ذلك. فعند وجود الروح في هذا الهيكل الطيني تكون الصدمة قد انكسرت حدتها بانتظار حدوث شىء مهمّ، مع أن كل هذه المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح. وهذا هو بنفسه ما يحدث عند إبراء الأكمه إلخ، لأن ذلك قد يحدث من نفسه أو بواسطة طبيب في حالات عصبية مخصوصة (غير عضوية) ولهذا يشتبه فيها الناظر. وللمعارضين أن يقولوا إنها ليست معجزة، لأننا نراها على أيدى أشخاص كثيرين، مع أن الفرق بين إبراء الأعمى الذي فقد بصره بفقد العين نهائيا، وبين إبراء الأعمى المصاب بالهستريا إلخ مثلا يشبه الفرق بين الطين الذي في شكل الطير

والطير الحقيقي ولكن الله تعالى أراد أن يفهم الإنسان بذلك قدرته تدريجا فالإنسان أوّلا يشك ويقول: ربما كان كل هذا من الأشياء العادية التي ليست فوق قدرة الإنسان وربما كانت شيئا غير عادى، ولكن الله يقول بعد ذلك: وأحيى الموتى لكى لا يدع مجالا للشك مطلقا. إننا نجد هذه الطريقة نفسها في تاريخ سيدنا عيسى عليه السلام، لأنه خلق من نطفة الأم فقط، وفي العالم المادي لا يمكن أن يخلق الحيوان إلا من نطفتى الأب والأم، ولكن الطريقة التي ولد بها سيدنا عيسى كانت بحيث لا تكون صدمة لعقول المعاصرين فقد اتهم هؤلاء السيدة مريم مدة من الزمن، لأنهم بطبيعتهم فسروا ولادته أو اعتبروها كولادة الناس عامة، ولكنهم أخذوا يفهمون الحقيقة تدريجيا عند ما اقتنعوا بصحة المعجزات الأخرى التي أتى بها المسيح. وقد وصلوا إلى هذا الفهم على الرغم من أن عيسى خلق من أم فقط، ولكن خلقه على هذه الصورة لا يقل عن خلق آدم من طين، لأن نظام الكائنات يجرى على سنة واحدة لا تتخلف أبدا إلا حيث يريد الله، ومتى أراد الله فلا معنى لطريقة خاصة، ولا حاجة إلى واسطة إلا بقدر الإقلال من تأثير الصدمة على الإنسان كما بينا ... ثم قال: المعجزات كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة بخلاف كل ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونمو الحيوان والنبات، فإنه مع إعجازه يأتى مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير. وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لعقولنا لتعودنا إياه، ولكن إن أتى الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما. ولا تحصل المعجزات إلا على أيدى الأنبياء، وذلك لأن صدمتها إن كانت

شديدة على الحاضرين، فهى أشد على من يكون واسطة فيها، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم. ولمنع الصدمة الشديدة وقت حدوثها يهيئ الله الظروف لتحملها، ويهيئ النبي نفسه لقبولها، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها، فأمر الله لسيدنا موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها فتكون بيضاء ليس إلا لتهيئته للمعجزات الأخرى ... وهنا يلاحظ أن كل المعجزات لا يمكن أن يصل إلى صنعها الإنسان مهما ارتقى، وأغلبها ينتهى إلى شىء واحد وهو خلق الحياة والروح مهما ظهرت صغيرة لأول نظرة، فمثلا إبراء عيسى للأعمى يظهر لأول وهلة أنه أقل من إحياء الموتى، والحقيقة أن المقصود بالأعمى هنا هو الأعمى الذي فقد شيئا عضويا حيا لا يمكن استعاضته، ومن أمكنه استعاضة شىء مهما صغر حجمه أمكنه أن يستعيض الكل. وأما إبراء الأعمى الذي يشاهد يوميا فهذا يحدث في الأحوال العصبية غير العضوية، وبواسطة أطباء العيون، وهو يحدث بإزالة أشياء تكون سبب العمى، ولكن لا يمكن الأطباء أن يحدثوا مثلا إبراء الأعمى بإعادة عصب للعين من جديد إلخ. وكذلك صنع أرجل جديدة، فالجرّاح يصنع رجلا صناعية، وبواسطة العضلات الباقية يستطيع الإنسان أن يمشى عليها، ولكن هذا الجراح لا يمكنه أن يصنع رجلا من لحم ودم. وصفوة القول- إنه لا يمكنه أن يصنع جزءا حيا مهما صغر حجمه، لأن الجسم مجموع ملايين من الخلايا، وصنع واحدة كصنع الكل، وهذا معنى قوله تعالى: «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» ولذلك ستبقى المعجزات دائما فوق قدرة الإنسان ويظهر لنا عظمها أو عدم عظمها بالنسبة لعقولنا فقط، ولكنها كلها من نوع واحد، وما كان صنعه فوق إدراكنا لا يمكننا الحكم عليه. وقد يقول البعض: إن العلوم تتقدم، وإنه لو كان بعض الاختراعات الموجودة الآن موجودة في مدة الأنبياء لعدّ معجزة- وهذا القول دليل على أن الروح الحقيقي

للمعجزات لم يفهم، لأن كل الاختراعات العلمية تبنى على السنن الطبيعية، وكلها مبنية على قواعد علمية لا تتغير، فإذا ظهر لها استثناء فإن سببه هو قاعدة علمية أخرى يبحث العالم عنها حتى يجدها، فإن وجدها لا تنطبق على كل الاستثناءات وجد الخوارج عن هذه الاستثناءات محكومة بسنة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية فالسنن الإلهية أو القواعد العلمية أو قواعد الطبيعة- كما يسميها الطبيعيون- لا حدّ لها ولا تتغير أبدا وما لا ينطبق على القاعدة الأصلية ينطبق حتما على قاعدة أخرى وعلى قواعد لا تتغير أبدا، وكل ما يظهر مدهشا في نتيجته من المخترعات مثل الكهرباء والتليفون والراديو وما سيظهر- هو من الاستعانة بهذه القواعد فالذى يتكلم في أوربا ويسمعه آخر فى مصر بواسطة الراديو استطاع ذلك، لأن الهواء بطبيعته يحمل الصوت بصفة أمواج إلى العالم كله، فاستعان العلماء بهذه السنة الطبيعية وسحروها لأغراضهم، ولذلك مهما عظمت النتائج في المخترعات، فإن طريق الوصول إليها سنة ثابتة، ومثلها مثل من يحفر الأرض ويستعين بماء المطر ويحوّله نهرا يجرى، فإنه لم يخلق نهرا ولكنه استعان بالقوى الطبيعية، بعكس المعجزات فإنها من طراز آخر، وهى مهما صغرت نتائجها خلق سنة جديدة، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم. ولزيادة الإيضاح أضرب مثلا قصة سيدنا إبراهيم وعدم احتراقه بالنار، فإن العلم بتقدمه يستطيع أن يغطى الإنسان بشىء غير قابل للاحتراق ويضعه في النار فلا يحترق، وهذا يشبه المعجزة ولكنه اختراع استعان صاحبه فيه بالنواميس الطبيعية. أما المعجزة فهى أن تضع الإنسان كما هو جسما ولحما في النار فلا يحترق، فيكون عدم احتراقه حينئذ هو المعجزة، وهى خرق للسنة الطبيعية التي تقضى باحتراق الجسم متى وضع في النار. وأما تغطية الجسم لمنع اتصال النار به، فإنه يظهر أن المخترع أمكنه منع النار من إحراقه، ولكنه في الحقيقة منع النار من إحراق الجسم الخارجي الذي لا يقبل الاحتراق بطبيعته لأن جسم الإنسان المغطى بمادة لا تحترق لم يتعرض للنار، والفرق

بين الاثنين ظاهر، والقرق بين المخترع وصانع المعجزة مثل الفرق بين الحاوي والمخترع. والطبيب الذي يعيد للقلب ضرباته ليس كمن يحيي الموتى لأنه استعان بالسنن الطبيعية، وأما إحياء الموتى فهو خرق لهذه السنن. ويتساءل كثير من الناس هل المعجزات ضرورية؟ والجواب أنها ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة الله، ولولاها لساد مذهب الطبيعيين، لأن سنن الله لا تتغير أبدا وهذا ما يسمى (بالطبيعة) وثبات هذه القوانين ما ظهر منها وما خفى للآن شىء مدهش، حتى إن الإنسان قد ينسى واضع هذه القوانين، ويقول ما الحاجة بي لأن أقول إن هناك صانعا أزليا ما دامت هذه القواعد ثابتة على وتيرة واحدة ملايين السنين؟ وهنا كانت حكمة الله في أن يخرق هذه السنن ليظهر للناس أن الصانع الأول موجود. ومثل ذلك مثل آلة الميزان تزن الإنسان إذا وقف عليها ووضع قطعة معدنية فى ثقب فيها، فتخرج ورقة عليها رقم وزنه، فإذا فرضنا أنها محكمة الصنع لا تتغير أبدا آلاف السنين، فإن الإنسان يشك في صانعها الأول، ولكنه إن رأى أنها قد تخرج ورقة الوزن بدون أن يقف عليها أحد، وبدون وضع القطعة المعدنية فيها يقول من يفعل ذلك ربما أمكنه صنعها، وإذا رأى يوما أن قطعة معدن صغيرة أصبحت أمام عينيه آلة صغيرة تزن الأشخاص، أيقن أن للأولى صانعا، وهذا هو معنى صنع الطير من الطين لأن هذا تمثيل لخلق سيدنا آدم الذي منه خلق العالم الإنسانى كله بالسنن (الطبيعية) الإلهية التي لا تبديل فيها. وصفوة القول- أن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها بدون السنن العادية، وهى لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها، ولا يدرك طريقة صنعها.

أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهى (طبيعى) ولذلك هو يتكرر دائما فى الظروف نفسها على يد كل إنسان، انتهى كلامه بتصرف. (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي وأخبركم بما تأكلونه من أنواع المآكل، وما تخبئونه للغد في بيوتكم، وقد كان يخبر الرجل بما أكل، وبما سيأكل. والفرق بين إخباره بالغيوب، وإخبار المتنجمة والمتكهنة التي كثيرا ما تخبر بالشيء وتصيب، أن المتنجم والمتكهن إنما ينبئ عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه، ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه، ومن سائر أنبيائه ورسله، بل كان عيسى يخبر به عن غير استخراج ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن بإعلام الله ابتداء من غير أصل تقدم ذلك احتذاه أو بنى عليه، أو فزع إليه كما يفزع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيّه، فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذبة على الله، أو المدّعية علم ذلك. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في ذلك لحجة على صدق رسالتى، وموضعا للعبرة تتفكرون فيه فتعتبرون به أنى محق في قولى لكم إنى رسول من ربكم إليكم، وتعلمون به أنى فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق، إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرين بتوحيده وبنبيه موسى وبالتوراة التي جاءكم بها. (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي وجئتكم مصدقا لما بين يدىّ من التوراة لا ناسخا لها ولا مخالفا شيئا من أحكامها إلا ما خفف الله عن أهلها في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، وهو الذي ذكره بقوله: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي بعض الطيبات التي كانت حرمت على بنى إسرائيل بظلمهم وكثرة سؤالهم، فأحلها عيسى كما قال تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» قالوا ومن ذلك السمك ولحوم الإبل والشحوم والعمل يوم السبت.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 إلى 58]

(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي وقد جئتكم بآية بعد آية من ربكم شاهدة على صدقى وصحة رسالتى بما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات إلى نحو أولئك. وأعاد هذا ليترتب عليه الأمر الذي ذكره وهو: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي لما جئتكم به من المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة اتقوا الله في المخالفة، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه. ثم ختم مقاله بالإقرار بالتوحيد والاعتراف بالعبودية فقال: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) وهذا أمر لهم بالاعتقاد الحق وهو التوحيد، ثم بملازمة الطاعة بالقيام بأداء ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، ونظيره ما جاء في الحديث «قل آمنت بالله ثم استقم» . (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي أمرتكم به هو الطريق السوىّ الذي أجمع عليه الرسل قاطبة، وهو الموصل إلى خيرى الدنيا والآخرة [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 58] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فى الأساس: أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر، وما أحسسنا منه خيرا، وهل تحس من فلان بخير، وفي الكشاف أحس: علم علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس، والأنصار: واحدهم نصير كالأشراف واحدهم شريف، والحواريون: واحدهم حوارى، وحوارىّ الرجل صفيّه وناصره، ومسلمون: أي منقادون لما تريده منا، والمكر تدبير خفى يفضى بالممكور به إلى ما لم يكن يحتسب، وغلب استعماله في التدبير السيئ وإن كان يستعمل في الحسن والسيئ معا كما قال تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» . والداعي إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبّر له أفسد على الفاعل تدبيره لجهله، فكانت حاجة المربي أو القوّام على غيره ماسة إلى الاحتيال عليه والمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول إليه، والتوفى: أخذ الشيء وافيا تامّا ثم استعمل بمعنى الإماتة كما قال تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» وتطهيره من الذين كفروا: براءته مما كانوا يرمونه به بتهمة أمه بالزنا. المعنى الجملي كان الكلام قبل هذا في بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام، وكلامه الناس في المهد، وإيتائه الكتاب والحكمة والنبوة وإرساله رسولا إلى بنى إسرائيل وذكر براءة أمه التي تقدم ذكرها. وهنا ذكر خبره مع قومه وما لاقاه منهم من الصدّ والإعراض ومقاساة الأهوال وهمهم بقتله وإنجاء الله إياه، ووعيد الكافرين به وعذابهم في الدنيا والآخرة، وطوى

الإيضاح

ذكر ما بينهما من خبر ولادته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات التي تقدمت اكتفاء بحكاية الملائكة، وثقة بما فصل في المواضع الأخرى. الإيضاح (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي فلما شعر من قومه بنى إسرائيل بالإصرار على الكفر والعناد وقصد الإيذاء، فقد صح أنه لقى من اليهود شدائد كثيرة، فقد كانوا يجتمعون عليه ويستهزئون به ويقولون له يا عيسى: ما أكل فلان البارحة، وما ادخر فى بيته لغد؟ فيخبرهم فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم. وهموا بقتله فخافهم واختفى عنهم، وخرج هو وأمه يسيحان في الأرض. وفي هذا عبرة وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، وبيان لأن الآيات الكونية مهما كثرت لا تفضى إلى الإيمان إلا إذا كان للمدعو استعداد للقبول، ومن الداعي حسن بيان. وحين رأى منهم ذلك: (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟) أي قال للحواريين كما تدل عليه آية الصف «كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟» أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصرى، ويكونون من أهل الاستعداد لمتابعتى، وينخلعون عما كانوا فيه، وينصرفون إلى تأييد رسوله! (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) أي قال خاصة أصحابه وناصروه: نحن أنصار دين الله، والباذلون كل ما في الوسع في تأييد دعوتك والآخذون بتعاليمك. والمنصرفون عن التقاليد السالفة. وهذا النصر لا يستلزم القتال، بل يكفى فيه العمل بالدين والدعوة إليه. (آمَنَّا بِاللَّهِ) هذا جار مجرى السبب في نصره، فإن الإيمان بالله موجب لنصرة دينه والذبّ عن أوليائه، ومحاربة أعدائه.

(وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي مخلصون منقادون لأوامره. وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبىّ وإن اختلف الأنبياء فى بعض صوره وأشكاله، وأحكامه وأعماله. وإنما طلبوا شهادته، لأن الرسل يشهدون لأممهم يوم القيامة. (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) هذا تضرع إلى الله، وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم. (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي وامتثلنا ما أتى به منك. وفي ذكرهم الاتباع بعد الإيمان دليل على أن إيمانهم كان بمنزلة اليقين الحاكم على النفس المصرّف لها في العمل، إذ العلم الصحيح هو الذي يستلزم العمل، أما العلم الذي لا أثر له فيه فهو محمل ناقص لا يقين فيه ولا اطمئنان، وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بالشيء، فإذا حاول العمل به لم يحسنه، ويتبين له أنه كان محطئا في دعوى العلم به. (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي الشاهدين على حال الرسول مع قومه. (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) أي ومكر أولئك القوم الذين علم عيسى كفرهم من اليهود، بأن وكلوا به من يقتله غيلة، ومكر الله فأبطل مكرهم فلم ينجحوا فيه، ورفع عليه السلام إلى السماء، وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل. (وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا، وأقدرهم على إيصال الضر إليهم من حيث لا يحتسبون، فتدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه، وإتمام حكمته وكلها خير في نفسها، وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم. (إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) أي مكر الله بهم حين قال لنبيه إني متوفيك ورافعك إلىّ.

وفي هذا بشارة بنجاته من مكرهم واستيفاء أجله، وأنهم لا ينالون منه ما كانوا يريدون بمكرهم وخبثهم. وللعلماء في تأويل هذه الآية رأيان: (1) أن فيها تقديما وتأخيرا، والأصل: إنى رافعك إلىّ ومتوفيك، أي إنى رافعك الآن ومميتك بعد النزول من السماء في الحين الذي قدر لك- وعلى هذا فهو قد رفع حيا بجسمه وروحه وأنه سينزل آخر الزمان، فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله. (2) أن الآية على ظاهرها، وأن التوفى هو الإماتة العادية، وأن الرفع بعده للروح ولا غرابة في خطاب الشخص وإرادة روحه، فالروح هى حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هى هى. والمعنى- إنى مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندى كما قال في إدريس عليه السلام «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» . وحديث الرفع والنزول آخر الزمان حديث آحاد يتعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالدليل القاطع من قرآن أو حديث متواتر، ولا يوجد هنا واحد منهما، أو أن المراد بنزوله وحكمه في الأرض غلبة روحه، وسر رسالته على الناس بالأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها. ذاك أن المسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة. ولكن جاء بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر شريعة موسى عليه السلام، ويقفهم على فقهها والمراد منها فإن أصحاب هذه الشريعة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها، فكان لا بد لهم من إصلاح عيسوى يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين، وكل ذلك في القرآن الكريم الذي حجبوا عنه بالتقليد.

فزمان عيسى هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر. وأما الدجال فهو رمز الخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، والقرآن أعظم هاد إلى الحكم والأسرار، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة لذلك. (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ومنجوك مما كانوا يريدونه بك من الشر، أو مما كانوا يرمونه به من القبائح ونسبة السوء إليه. (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وجاعل الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله، وصدقوك في قولك «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعدك فوق الذين مكروا بك من اليهود وكذبوك، ومن سار بسيرتهم ممن لم يهتد بهداك. وهذه الفوقية إما فوقية دينية روحانية وهى فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد من الباطل، وإما فوقية دنيوية وهى كونهم أصحاب السيادة عليهم. وفي هذا إخبار عن ذلّ اليهود ومسكنتهم إلى يوم القيامة وقد تحقق ذلك، فلا يرى ملك يهودى، ولا بلد مستقل لهم بخلاف النصارى، ولكن هذا لم يتحقق زمن المسيح لأتباعه، بل كان اليهود يغلبونهم على أمرهم، فالوجه الأول أولى بالاعتبار. (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي إن هذا السموّ في الآداب والأخلاق والكمال في الفضائل سيستمر لهم ما دامت السموات والأرض، وبعدئذ يفعل الله بهم ما يشاء. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي ثم مصيركم إلىّ يوم البعث، فأحكم بينكم حينئذ فيما اختلفتم فيه من أمور الدين، وهذا شامل للمسيح والمختلفين معه، وشامل للاختلاف بين أتباعه والكافرين به.

وحينئذ يتبين لهم الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يمحو شبه الجاحدين وعناد المخالفين. ثم بين جزاء المحقّ والمبطل وكيفيته فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي فأما الذين كذبوك وهم اليهود فأعذبهم في الدنيا بإذلالهم بالقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، وهم لا يجدون حينئذ نصيرا كما لم يجدوا ذلك فى الدنيا. (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي وأما الذين صدّقوك وأقروا بنبوّتك وبما جئتهم به من الحق، ودانوا بالإسلام الذي بعثك الله به، وعملوا بالأوامر وتركوا النواهي- فيؤتيهم الله أجرهم كاملا غير منقوص ثم بين علة جزاء الفريقين بما جازى فقال: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي والله لا يحب من ظلم غيره حقا له، أو وضع شيئا في غير موضعه، فكيف بظلم عباده له، فهو يجازيه بما يستحق. وفي هذا وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للمؤمنين به وبرسله (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي هذه الأنباء التي أنبأتك بها عن عيسى وأمه مريم وأمها، وزكريا وابنه يحيى، وما قصّ من أمر الحوار بين واليهود من بنى إسرائيل نقرئها لك على لسان جبريل. وهى من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبر في الأخبار والحكم في الأحكام فيهدي المؤمنين إلى لب الدين وفقه الشريعة، وأسرار الاجتماع البشرى. وفيها حجة على من حاجك من وفد نجران، ويهود بنى إسرائيل الذين كذبوك وكذبوا ما جئنهم به من الحق

[سورة آل عمران (3) : الآيات 59 إلى 63]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 59 الى 63] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) تفسير المفردات المثل: الحال الغريبة والشأن البديع، والامتراء: الشكّ، والبهلة (بالضم والفتح) اللعنة والدعاء، يقال ماله بهله الله: أي لعنه، ثم شاع استعماله في مطلق الدعاء، يقال فلان يبتهل إلى الله في حاجته: أي يدعوه، والقصص: تتبع الأثر، ومنه قوله تعالى: «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» أي تتبعى أثره ثم استعمل في الكلام والحديث، لأن القاصّ يتبع المعاني ليوردها، والعزيز: أي ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، والحكيم: ذو الحكمة التي لا يساميه فيها أحد المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف قصص عيسى وأمه وما جاء به، وكفر بعض قومه به، ورميهم أمه بالزنا، وإيمان بعض آخر به. أردف ذلك ذكر حال فريق ثالث لم يكفر به، ولم يؤمن به إيمانا صحيحا، بل افتتن به افتتانا، لكونه ولد من غير أب، فزعم أن معنى كونه (كلمة الله وروح الله) أن الله حل في أمه، وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إنسانا وإلها، فضرب مثلا ليردّ به على الفريقين الكافرين به من اليهود، والمفتونين به من النصارى.

الإيضاح

فبين أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى فهذا خلق من حيوان من نوعه، وذاك قد خلق من التراب فهو أولى بالمزية إن كانت، والإنكار إن صح الإنكار. وأمر الخلقة غريب بالنسبة إلينا، لكنه ليس بالغريب بالنسبة إلى الصانع المبدع. والقوانين المعروفة في الخلق قد استخرجت مما نعهد ونشاهد، وليست بالقوانين العقلية التي قامت البراهين على استحالة ما عداها وإنا لنشاهد كل يوم ما يخالفها كالحيوان التي توجد من غير جنسها، أو الحيوان ذوات الأعضاء الزائدة، ويعبرون عن ذلك بفلتات الطبيعة، ولعل لهذه الشواذ وتلك الفلتات سننا أخرى مطردة لم تظهر لنا. وهكذا شأن خلق عيسى، فكونه على غير السنن المعروفة لا يقتضى تفضيله على غيره من الأنبياء بله أن يكون إلها. وقد روى في سبب نزول الآية أن وفد نجران من النصارى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال وما أقول، قالوا تقول إنه عبد الله قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله الآية. الإيضاح (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) أي إن شأن عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم في ذلك، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال: (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) أي قدّر أوضاعه وكوّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا. وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم- مما لا ينبغى أن يكون ولا يسلمه العقل.

(ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» . ثم أكد صدق هذا القصص فقال: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي هذا الذي أنبأتك به من شأن عيسى ومريم هو الحق، لا ما اعتقده النصارى في المسيح من أنه إله، ولا ما زعمه اليهود من رمى مريم بيوسف النجار. (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به. وتوجيه هذا النهى للنبى صلى الله عليه وسلم مع استحالة وقوع الامتراء منه ذو فائدة من وجهين: (1) أنه إذا سمع صلى الله عليه وسلم مثل هذا الخطاب ازداد رغبة في الثبات على اليقين واطمئنان النفس. (2) أنه إذا سمعه غيره ازدجر ونزع عما يورث الامتراء، إذ أنه صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره خوطب بمثل هذا فما بالك بغيره؟ وخلاصة ذلك- دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من الاطمئنان إلى الحق، والتنزه عن الشك فيه. (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي فمن جادلك في شأن عيسى عليه السلام من بعد أن قصصت عليك من خبره وجليّة أمره ما قصصت. (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) أي فقل لهم: أقبلوا وليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه للمباهلة والدعاء. وفي تقديم هؤلاء على النفس في المباهلة، مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم- إيذان بكمال أمنه صلى الله عليه وسلم وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه، بأنه لن يصيبهم في ذلك مكروه وهذه الآية تسمى آية المباهلة. وقد ورد من طرق عدة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا.

أخرج البخاري ومسلم أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا، ولا عقّبنا من بعدنا أبدا، فقالا له نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا، فقال قم يا أبا عبيدة، فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس «أن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله (قل تعالوا) الآية فقالوا أخرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى قريظة والنضير وبنى قينقاع من اليهود فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا هو النبي الذي نجده في التوراة، فصالحوه على ألف حلة فى صفر وألف في رجب ودراهم» . وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما عليهم الرضوان وخرج بهم وقال: إن أنا دعوت فأمّنوا أنتم. وأخرج ابن عساكر عن جعفر عن أبيه أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبى بكر وولده وبعمر وولده، وبعثمان وولده. ولا شك أن الذي يفهم من الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يدعو المحاجين والمجادلين في شأن عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلوا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى. وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب من نصارى نجران وسواهم على امترائهم في حجاجهم، وكونهم على غير بينة فيما يعتقدون. وفي الآية عبرة لمن ادّكر، لأنه طلب فيها مشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمفاضلة الدينية وفي هذا دليل على أن المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة إلا في بعض مسائل ككونها لا تباشر الحرب بنفسها، بل تشتغل بخدمة المحاربين ومداواة الجرحى، ولا تتولى القضاء في الجنايات ونحوها.

وأين هذا من حال نساء المسلمين اليوم في جهلهنّ بأمور الدين، وعدم مشاركتهنّ للرجال في عمل من الأعمال الدينية أو الشئون الاجتماعية، ولا همّ لنساء الأغنياء في المدن إلا الزينة والتنوق في المطاعم والمشارب والملابس كما لا عمل لنساء الفقراء في القرى والدساكر إلا الخدمة في الحقول والمنازل، فهن كالاتن الحاملة والبقر العاملة، وكان من جراء هذا أن صغرت نفوسهن، وضعفت آدابهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، وساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد من الأفراد إلى الجماعات، وعم الأسر والعشائر، والشعوب والقبائل. وقد قام في العهد الأخير جماعات من العقلاء في كثير من البلاد الإسلامية يطالبون بتحرير المرأة ومشاركتها الرجل في العلم والأدب وشئون الحياة، وصادفت هذه الدعوة آذانا صاغية، فبدأ المسلمون يعلمون بناتهم ولكن يحسن أن بصحب هذا التعليم شىء كثير من التربية الدينية والإصلاح في الأخلاق والعادات. وقد كان هذا عاملا من عوامل الانقلاب الاجتماعى الذي لا ندرى ما تكون عاقبته في إصلاح الأسر الإسلامية ولا ما سيتمخص عنه من نفع للإسلام والمسلمين. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) أي إن هذا الذي قصصته عليك في شأن عيسى هو الحق لا ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما يدعيه اليهود من كونه ابن زنا. (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) الذي خلق كل شىء وليس كمثله شىء. وفي هذا رد على النصارى الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة. (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وإنه تعالى ذو العزة الذي لا يغالبه أحد، وذو الحكمة التي لا يساويه فيها أحد حتى يكون شريكا له في ألوهيته، أو ندّا له فى ربوبيته، وما الولد إلا نسخة من الوالد، فهو يساويه في جنسه ونوعه، وهو سبحانه فوق الأجناس والأنواع. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، ولم يجيبوك إلى المباهلة، فإن الله عليم بحال

[سورة آل عمران (3) : الآيات 64 إلى 68]

المفسدين في الدين ونياتهم، وأغراضهم الفاسدة، فيجازيهم بخبيث سرائرهم، وسىء أعمالهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 64 الى 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) تفسير المفردات أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، تعالوا: أي أقبلوا ووجهوا النظر إلى ما دعيتم إليه، وسواء: أي عدل وإنصاف من بعضنا لبعض، والإله: هو المعبود الذي يدعى حين الشدائد، ويقصد عند الحاجة اعتقادا بأنه وحده ذو السلطة الغيبية، والربّ: هو السيد المربى الذي يطاع فيما يأمر وينهى، ويراد به هنا ماله حق التشريع من تحريم وتحليل، مسلمون: أي منقادون لله مخلصون له، تحاجون: أي تجادلون، والحنيف: المائل عن العقائد الزائفة، والمسلم: هو الموحد المخلص المطيع له.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد والإسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودل ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شىء مما يخاف عاقبته. دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلما أعرضوا أمر بأن يقول لهم: اشهدوا بأنا مسلمون. الإيضاح (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي قل: يا أهل الكتاب هلمّوا وانظروا في مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب التي أنزلت إليهم، فقد أمرت بها التوراة والإنجيل والقرآن. ثم بين هذه الكلمة فقال: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي ألا نخضع إلا لإله له السلطة المطلقة في التشريع وله التحليل والتحريم، ولا نشرك به شيئا سواه، ولا يتخذ بعضا بعضا أربابا من دون الله. وقد حوت هذه الآية وحدانية الألوهية في قوله- ألا نعبد إلا الله- ووحدانية الربوبية في قوله- ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله-. وهذا القدر متفق عليه في جميع الأديان، فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وجاء به موسى، فقد ورد في التوراة قول الله له (إن الربّ إلهك، لا يكن لك آلهة أخرى أمامى، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، ومما

فى الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ) وكذلك جاء عيسى بمثل هذا، ففى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) وجاء خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بمثل هذا «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» . وخلاصة المعنى- أنا وأنتم نعتقد أن العالم من صنع إله واحد هو خالقه والمدبر له، وهو الذي يرسل إلينا أنبياءه ليبلغونا عنه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه فهلمّ بنا نتفق على إقامة هذه الأصول، ونرفض الشبهات التي تعرض لها، فإذا جاءكم عن المسيح شىء فيه (ابن لله) أوّلناه على وجه لا يخالف الأصل الذي اتفق عليه الأنبياء، لأننا لا نجد المسيح فسر هذا القول بأنه إله يعبد، ولا دعا إلى عبادته وعبادة أمه، بل كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له. وقد كان اليهود موحدين، ولكن كان منبع شقوتهم اتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون من الأحكام، وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من عند الله، وسار النصارى على هذا المنوال، وزادوا مسألة غفران الخطايا، وهى مسألة كان لها أثر خطير فى المجتمع المسيحي حتى بلغ من أمرها أن ابتلعت الكنائس أكثر أموال الناس، فقامت طائفة جديدة تطلب الإصلاح وهى فرقة (البر وتستانت) وقالت دعونا من هؤلاء الأرباب وخذوا الدين من الكتاب ولا تشركوا معه شيئا سواه من قول فلان وفلان. روى عدى بن حاتم قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقى صليب من ذهب، فقال يا عديّ اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم، فقال: أما كانوا يحللون لكم ويحرّمون، فتأخذون بأقوالهم؟ قال نعم، فقال عليه السلام: هو ذاك» .

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي فإن أعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، واتخذوا الشركاء والوسطاء والأرباب الذين يحللون ويحرّمون، فقولوا لهم إنا منقادون لله مخلصون له لا نعبد أحدا سواه، ولا نتوجه إلى غيره نطلب منه النفع أو دفع الضر، ولا نحلّ إلا ما أحله الله، ولا نحرّم إلا ما حرمه الله. وفي هذا حجة على أن مسائل الدين كالعبادات والتحريم والتحليل لا يؤخذ فيها إلا بقول النبي المعصوم لا بقول إمام مجتهد ولا فقيه قدير، وإلا كان ذلك إشراكا فى الربوبية، وخروجا من هداية القرآن التي دل عليها مثل قوله «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» وقوله «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» . أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فقد فوّض الله أمرها إلى أولى الحل والعقد وهم رجال الشورى، فما أمروا به وجب على حكام المسلمين أن ينفذوه ويعملوا به، وعلى الرعية أن يقبلوه. وهذه الآية هى الأساس والأصل الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى العمل به حين دعاهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما. أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) الآية» . (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) أي أيها اليهود والنصارى: لم تتنازعون وتتجادلون في إبراهيم ويدّعى كل منكم أنه على دينه؟. (وقد كان إبراهيم موضع إجلال الفريقين لما في كتبهم من الثناء عليه في العهد العتيق والعهد الجديد كما كانت قريش تجلّه وتدّعى أنها على دينه) .

وهو لم يكن على شىء من تقاليدكم، بل كان على الإسلام الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا أشار بقوله: (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي وما أنزلت التوراة على موسى، ولا الإنجيل على عيسى إلا من بعد إبراهيم بأحقاب طوال، وقد قالوا: إن بين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى حوالى ألف سنة. أفلا تعقلون أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له؟. وخلاصة ذلك- أنه إذا كان الدين الحق لا يعدو التوراة كما يقول اليهود، ولا يتجاوز الإنجيل كما يقول النصارى، فكيف كان إبراهيم على الحق، واستوجب ثناءكم وثناء من قبلكم، والتوراة والإنجيل خلو من الإخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموها أليس عندكم عقل يردكم عن مثل هذه الدعوى، ويربأ بكم أن تقولوا ما لا سند له من كتاب ولا دليل عليه؟. وفي هذا إيماء إلى جهلهم وحماقتهم في دعواهم هذه. (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من أمر عيسى عليه السلام، وقد قامت عليكم الحجة، وتبين أن منكم من غلا وأفرط وادعى ألوهيته، ومنكم من فرّط وقال إنه دعىّ كذاب، ولم يكن علمكم بمانع لكم من الخطأ. (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟) من أمر إبراهيم إذ لا ذكر لدينه في كتبكم فمن أين أتاكم أنه كان يهوديا أو نصرانيّا، أليس من المعقول أن تتبعوا فيه ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؟. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي والله يعلم ما غاب عنكم ولم تشاهدوه، ولم تأتكم به الرسل من أمر إبراهيم وغيره مما تجادلون فيه، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم وشاهدتم، أو أدركتم علمه بالسماع. ثم صرّح بما فهم من قبل تلويحا فقال: (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) أي إن اليهود

والنصارى الذين جادلوا في إبراهيم وملته وأنه كان على دينهم- كاذبون في دعواهم وأن الصادق فيها هم أهل الإسلام، فإنهم وحدهم أهل دينه وعلى منهاجه وشريعته دون سائر الملل الأخرى، إذ هو مطيع لله، مقيم على محجة الهدى التي أمر بلزومها، خاشع له بقلب متذلل، مذعن لما فرضه عليه وألزمه به. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم، وهم قريش ومن سار على نهجهم من العرب. وصفوة القول- إن إبراهيم الذي اتفق اليهود والنصارى والمشركون على إجلاله وتعظيمه- لم يكن على ملة أحد منهم، بل كان مائلا عما هم عليه من الوثنية، مسلما لله، مخلصا له. ثم أكد ما سلف بقوله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) معه: أي إن أحق الناس بإبراهيم ونصرته وولايته- هم الذين سلكوا طريقه ومنهاجه في عصره فوحدوا الله مخلصين له الدين، وكانوا حنفاء مسلمين غير مشركين، وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، فإنهم أهل التوحيد الذي لا يشوبه اتخاذ الأولياء ولا التوسل بالشفعاء، المخلصون لله في أعمالهم دون شرك ولا رياء. وهذا هو روح الإسلام والمقصود من الإيمان، ومن فاته ذلك فقد فاته الدين كله. ثم ذكر أنهم مع نصرتهم لإبراهيم فالله ناصرهم فقال: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرة والتأييد، والتوفيق والتسديد فهو يتولى أمورهم ويصلح شئونهم، ويثيبهم بحسب تأثير الإسلام في قلوبهم، ويحازيهم بالحسنى وزيادة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 إلى 74]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 74] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) تفسير المفردات ودّ الشيء: أحبه، طائفة: أي جماعة وهم الأحبار والرؤساء، والآيات هنا ما يدل على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وتلبسون: أي تخلطون، وجه النهار: أي أوّله تقول: أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار، آمن له: صدّقه وسلّم له ما يقول كما قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف «وما أنت بمؤمن لنا» والفضل: الزيادة، والمراد به هنا النبوة. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد أن يتبين لهم، ولا يجدى معهم الدليل والبرهان، فدعوتهم إلى دين الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده لا تجد منهم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية.

الإيضاح

ذكر هنا شأنا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين، فلا يدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغا أشده بين الفريقين ولا غرابة في ذلك، فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب ومن المشركين. أما أهل الكتاب فلأن فيه هدما لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون فلأن للإلف والعادة سلطانا على النفوس، وهذه الدعوة دكّت حصون المعتقدات التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل كما حكى الله عنهم «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» . روى أن هذه الآية نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية. الإيضاح (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي أحبت طائفة من الأحبار والرؤساء أن يوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشككم في دينكم، وتردكم إلى ما كنتم عليه من الكفر. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ أنهم بعنايتهم بالإضلال، واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية، ويغضّون أبصارهم عما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات الدالة على نبوته، فهم يعبثون بعقولهم، ويفسدون فطرتهم باختيارهم (وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يفطنون إلى سوء حالهم، وأنهم ألغوا عقولهم، فلم تفكر فى الحجج التي آتاها الله لنبيه، ولم تنظر إلى نور الحق الساطع الذي يهدى صاحبه إلى الصراط المستقيم. وفي نفى الشعور عنهم نهاية الذم والاحتقار لهم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟) أي لأى سبب تكفرون بما ترونه من البراهين الواضحة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون بصحتها بما جاء في كتبكم من نعته والبشارة به؟. (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي لم تخلطون الحق الذي جاء به النبيون، ونزلت به كتبهم من عبادة الله وحده، والبشارة بنبىّ من بنى إسماعيل يعلّم الناس الكتاب والحكمة بالباطل الذي لفّقه أحباركم ورؤساؤكم بتأويلاتهم الفاسدة، وتجعلون ذلك دينا يجب اتباعه كما جاء في آية أخرى «يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وتكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم وهو مكتوب عندكم في التوراة والإنجيل، وأنتم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا. (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) . روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيف وعدىّ بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض، تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعوا عن دينهم فأنزل الله فيهم- يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل- إلى قوله واسع عليم. ومقصد هذه الطائفة أن تفسد الناس فيقولوا: لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، إذ ليس من المعقول أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرجع عنه بلا سبب، وليتهم وقف الأمر بهم إلى حد القول، بل هم قد فعلوا ذلك. أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: صلّت يهود مع محمد صلاة الصبح، وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه

وليس بالغريب منهم أن يلجأوا إلى مثل هذه الحيلة، إذ هم يعلمون أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه، يرشد إلى هذا قول هرقل صاحب الروم لأبي سفيان حين سأله عن شئون محمد صلى الله عليه وسلم عند ما دعاه إلى الإسلام: هل يرجع عنه من دخل في دينه؟ فقال أبو سفيان (لا) . وقد حذر الله نبيه مكر هؤلاء، وأطلعه على سرهم حتى لا تؤثر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين، ولأنهم إذا افتضحوا فيها لا يقدمون على أمثالها، ويكون ذلك وازعا لهم. وفي هذا إنباء بالغيب فيكون معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم. (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) هذا من كلام اليهود الذين حصروا الثقة في أنفسهم زعما منهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم، بل لقد تغالوا وحقّروا جميع الطوائف، وجعلوا أن كل ما يصدر منهم حسن، وما يصدر من سواهم قبيح. وخلاصة المعنى ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أوّلا، وهم الذين أسلموا منهم، ومقصدهم من ذلك رجوعهم عن إسلامهم لأنهم كانوا راغبين فيه جد الرغبة طامعين فيه، فلهم من إسلامهم حنق وغيظ عظيم. (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) أي ليس الهدى مقصورا على شعب معين أو واحد بذاته، بل الله سبحانه يهدى من يشاء من عباده على لسان من يريد من أنبيائه، ومن يهد الله فلا مضلّ له، فكيدهم لا يضير من أراد الله به الخير، بل يحبط تدبيرهم له. (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) هذا من كلام اليهود، وجملة (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) اعتراضية بينه وبين ما سبقه. والمعنى- لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم.

وتلخيص المراد- لا تعترفوا أمام العرب أو غيرهم بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبىّ من غير بنى إسرائيل، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة. وهذا مبنى على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبى من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبى صلى الله عليه وسلم لا اعتقادا، وأنهم كانوا لا يصرحون بهذا الاعتقاد إلا لمن آمنوا به من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة. وصفوة القول- ولا تظهروا إيمانكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، بل أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ذلك ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام. (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي قل لهم: إن الرسالة فضل من الله ومنة، والله واسع العطاء وهو العليم بالمستحق، فيعطيه من هو له أهل. وفي هذا إيماء إلى أن اليهود قد ضيّقوا هذا الفضل الواسع بزعمهم حصر النبوة فيهم وجهلوا الحكم والمصالح التي لأجلها يعطى النبوة من يشاء. (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إن فضله الواسع ورحمته العامة يعطيهما بحسب مشيئته، لا كما يزعم أهل الكتاب من قصرها على الشعب المختار من بنى إسرائيل، فهو يبعث من يشاء نبيا ويبعثه رسولا، ومن اختصه بهذا فإنما يختصه بمزيد فضله وعظيم إحسانه، لا بعمل قدّمه ولا لنسب شرّفه، فالله لا يحابى أحدا لا فردا ولا شعبا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 إلى 77]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 77] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) تفسير المفردات تأمنه، من أمنته بمعنى ائتمنته، ويقال أمنته بكذا وعلى كذا، والمراد بالقنطار العدد الكثير، وبالدينار العدد القليل، والأميون: هم العرب، والسبيل: المؤاخذة والذنب، وبلى كلمة تقع جوابا عن نفى سابق لتثبته، والعهد ما تلتزم الوفاء به لغيرك، وإذا كان الالتزام من طرفين يقال عاهد فلان فلانا عهدا، ويشترون: أي يستبدلون، والمراد بالعهد عهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، والمراد بالأيمان الأيمان الكاذبة، والثمن القليل: هو العوض الذي يأخذونه أو الرّشا، وجعل قليلا لأن كل ما يفوّت الثواب ويوجب العقاب فهو قليل، ولا خلاق لهم: أي لا نصيب لهم، ولا يكلمهم الله: أي يغضب عليهم، ولا ينظر إليهم: أي يسخط عليهم ويستهين بهم، ولا يزكيهم: أي لا يثنى عليهم المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه خيانة أهل الكتاب في الدين وكيدهم للمسلمين، ليرجعوا عن دينهم، وصدّهم عن الدعوة لذلك الدين الجديد بكل وسيلة يستطيعونها، زعما منهم أنهم شعب الله المختار، وأن الدين الحق خاصّ بهم لا يعدوهم إلى شعب آخر، ولا إلى أمة أخرى.

الإيضاح

أردف ذلك ذكر حال طائفة أخرى منهم تخون الأمانات، وتستحلّ أكل أموال الناس بالباطل، تأويلا للكتاب وغرورا في الدين. الإيضاح (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي ومن أهل الكتاب طائفة تشاكس المسلمين وتكيد لهم ليرجعوا عن دينهم، ومنهم طائفة أخرى تستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم زعما منهم أن الكتاب لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم من بنى إسرائيل. والخلاصة- إن أهل الكتاب طائفتان: (1) طائفة تؤمن على الكثير والقليل كعبد الله بن سلام استودعه قرشىّ ألفا ومائتى أوقية من ذهب فأداها إليه. (2) طائفة أخرى تخون الأمانة، فلو استودعتها القليل جحدته ولا تؤديه إليك إلا إذا أدمت الوقوف على رأسها ملحّا في المطالبة أو لاجئا إلى التقاضي والمحاكمة. ومن هؤلاء كعب بن الأشرف استودعه قرشى دينارا فجحده. ثم بين السبب في فعلهم هذا فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي إن ذلك الترك لأداء الأمانة من قبل أنهم زعموا أنه لا تبعة ولا ذم في أكل أموال العرب. وخلاصة هذا- إن كل من ليس من شعب الله المختار وليس من أهل دينهم فلا يأبه الله له، بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله، فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه، ولا شك أن هذا من الصلف والغرور والغلوّ في الدين واحتقار المخالف الذي يستتبع اهتضام حقوقه. روى ابن جرير أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.

فرد الله عليهم بقوله: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وهم يعلمون كذبهم في ذلك لأن ما جاء من عند الله فهو في كتابه، والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين، ولا أكل أموالهم بالباطل، وهم يعلمون ذلك حق العلم، لكنهم لما لم يكتفوا بالكتاب ولجأوا إلى التقليد وعدّوا كلام أحبارهم دينا، وهؤلاء قالوا في الدين بالرأى والهوى، وحرفوا الكلم عن مواضعه ليؤيدوا آراءهم، وجدوا من هذه الأقوال ما يساعدهم على ما يدّعون. روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: «لما نزلت (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى قوله لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب أعداء الله، ما من شىء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمىّ هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر» . (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي بلى عليكم في الأميين سبيل، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات، فمن أقرضك مالا إلى أجل، أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شىء وجب عليك الوفاء به، وأداء الحق له فى حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي، وبذلك قضت الفطرة وحتّمت الشريعة. وفي هذا إيماء إلى أن اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته، بل العبرة عندهم بالمعاهد، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له، ولا يجب الوفاء لغيره. والعهد ضربان: (1) عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم. (2) عهد الله تعالى، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله. واليهود لم يفوا بشىء منهما، إذ لو وفّوا بعهد الله لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم

واتبعوا النور الذي أنزل معه، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى صلوات الله عليه وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد المتقين الإخلاف والغدر- محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة. وفي هذا إيماء إلى أن الوفاء بالعهود، واتقاء الإخلاف فيها وفي سائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته. أما الانتساب إلى شعب بعينه فلا قيمة له عند الله. وفي هذا تعريض بأن أصحاب هذا الرأى من اليهود ليسوا على حظ من التقوى، وهى الدعامة الأساسية في كل دين قويم. (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين يستبدلون بعهد الله إلى الناس في كتبه المنزلة بأن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون عليه ويتعاقدون، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ويتقوه في جميع الأمور وبما حلفوا عليه من قولهم: لنؤمننّ به ولننصرنّه- ثمنا قليلا هو العوض أو الرّشا- أولئك لا نصيب لهم في منافع الآخرة ونعيمها، ويغضب عليهم ربهم ولا ينظر إليهم ولا يثنى عليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم هو الغاية في الألم. قال القفال: هذه الكلمات يراد بها بيان شدة سخط الله عليهم، لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك لسخطه عليه، وقد يأمره بحجبه عنه، ويقول لا أكلمك ولا أرى وجهك، وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل اهـ. وصفوة القول- إن الله توعد الناكثين للعهد، المخلفين للوعد بالحرمان من النعيم وبالعذاب الأليم، وبأنهم يكونون في غضب الله بحيث لا ترجى لهم رحمة، ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة.

ولم يتوعد الله مرتكبى الكبائر من الزناة وشاربى الخمر، ولا عبى الميسر وعاقّى الوالدين بما توعد به ناكثى العهود وخائنى الأمانات، لأن مفاسدهما أعظم من جميع المفاسد التي لأجلها حرمت تلك الجرائم. فالوفاء بها آية الدين البينة، والمحور الذي تدور عليه مصالح العمران، فمتى نكث الناس في عهودهم زالت ثقة بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات وأساس النظام. والإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث بالعهد، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله علامة النفاق فقال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أوتمن خان» . وروى الطبراني في الأوسط عن أنس رضى الله عنه قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» . فما بال كثير من المسلمين حتى المتدينين منهم استهانوا بالعهود، وأصبحوا لا يحفظون الإيمان ويرون ذلك شيئا صغيرا، مع كل ما رأوا من شديد التهديد والوعيد ويكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لعدم الإلف والعادة فقط، مع أنها دون ذلك عند الله كما تدل عليه هذه الآية. أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيىّ بن أخطب حرّفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرها، وأخذوا على ذلك الرّشا. وروى البخاري وغيره أن الأشعث بن قيس قال: «كان بينى وبين رجل من اليهود أرض فجحدنيها، فقدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألك بينة؟ قلت لا، فقال لليهودى احلف، فقلت: يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالى، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) الآية» . قال الحافظ ابن حجر والآية محتملة لأن يكون هذا سبب النزول أو ذاك، والعمدة فى ذلك ما ثبت في الصحيح.

[سورة آل عمران (3) : آية 78]

[سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) تفسير المفردات لىّ اللسان بالكتاب: فتله للكلام وتحريفه بصرفه عن معناه إلى معنى آخر كما في الألفاظ التي جاءت على لسان عيسى من نحو ابن الله وتسمية الله أبا له وأبا للناس، فهذا مما لا يراد به المعنى الحقيقي، لكنهم لوّوه ونقلوه إلى المعنى الحقيقي بالنسبة إلى المسيح وحده، وأوهموا الناس أن الكتاب جاء بهذا. المعنى الجملي بين الله تعالى في هذه الآية حال طائفة ثالثة من أهل الكتاب، وهم بعض علماء اليهود الذين كانوا حول المدينة، ومن لفّ لفّهم وسار على طريقهم افتعلوا نوعا آخر من الخيانة في الدين بالافتراء على الله ما لم يقله. روى عن ابن عباس أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا الإيذاء له والإغراء به، غيّروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة. الإيضاح (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) أي وإن طائفة من اليهود ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما، يفتلون ألسنتهم

بقراءته فيميلونها عن المنزّل إلى المحرّف لتظنوا أيها المسلمون أن ذلك المحرف من كلام الله وتنزيله وما هو من عند الله، ولكنه من عند أنفسهم. وقد جاء في كتب السيرة والحديث أن اليهود كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يمضغون كلمة (السلام) فيخفون اللام، ويقولون (السام عليكم) غير مفصحين بالكلمة لأنهم يريدون معنى السام وهو الموت. وجاء في سورة النساء قوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ» فهؤلاء وضعوا (غير مسمع) مكان (لا أسمعت مكروها) التي تقال عادة عند الدعاء (وراعنا) مكان (انظرنا) التي يقولها الناس لمن ينتظرون معونته ومساعدته. وإنما قالوا (غير مسمع) لأنها قد تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى لا سمعت وقالوا (راعنا) لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابّون بها. ثم أكد ما سبق بقوله: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي إنهم كاذبون فيما يقولون، وفي هذا تشنيع عليهم بأن الجرأة قد بلغت بهم حدا عظيما، فهم لم يكتفوا بالتعريض والتورية بل يصرحون بنسبته إلى الله كذبا لعدم خوفهم منه، واعتقادهم أنه يغفر لهم جميع ما يجترحون من الذنوب لأنهم من أهل ذلك الدين. وليس ذلك بالغريب عليهم، فإنا نرى كثيرا من المسلمين اليوم يعتقدون أن المسلم من أهل الجنة حتما مهما أصاب من الذنوب، لأنه إن لم تدركه الشفاعة أدركته المغفرة، ويجلى اعتقادهم ذلك قولهم (أمة محمد بخير) . فالمسلم في نظرهم من اتخذ الإسلام دينا، وإن لم يعمل بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من صفات المسلمين الصادقين، بل فعل فعل الكافرين والمنافقين.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 إلى 80]

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون، وهذا تسجيل عليهم بأن ما افتروه على الله كان عن عمد لا عن خطأ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) تفسير المفردات البشر: الإنسان ذكرا كان أو أنثى، واحدا كان أو جمعا، والحكم: الحكمة وهى فقه الكتاب ومعرفة أسراره، وذلك يستلزم العمل به، والعباد: واحدهم عبد بمعنى عابد، والعبيد: جمع لعبد بمعنى مملوك، وهو لا يمتنع أن يكون لغير الله، والربانيين واحدهم ربانى وهو كما قال سيبويه المنسوب إلى الرب، لأنه عالم به مواظب على طاعته كما يقال رجل إلهى إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته، روى أن محمد ابن الحنفية قال يوم مات ابن عباس: اليوم مات ربّانى هذه الأمة. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فيما سلف افتراء اليهود على الله الكذب ونسبتهم إليه ما لم يقله أردف ذلك بذكر افترائهم على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد

الإيضاح

دعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ وقال رجل نصرانى من أهل نجران: أو ذاك تريد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرنى فأنزل الله الآية. وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: بلغني «أن رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال لا، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغى أن يسجد لأحد من دون الله تعالى فأنزل الله (ما كان لبشر) الآيتين» . الإيضاح (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي لا ينبغى لأحد من البشر أن ينزل الله عليه كتابه، ويعلمه فقه دينه ومعرفة أسراره ويعطيه النبوة، ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، لأن من آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم به، ويحثهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا القدوة في طاعته وعبادته، ومعلمى الناس الكتاب. ومعنى قوله من دون الله: أي متجاوزين ما يجب من إفراده تعالى بالعبادة، فإن العبادة الصحيحة لا تتحقق إلا إذا أخلصت له وحده، ولم تشبها شائبة من التوجه إلى غيره كما قال تعالى: «قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي» . ومن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله، بل وإن أمرهم بعبادة الله. ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء، فقد عبد هذه الواسطة من دون الله، لأن هذه الواسطة تنافى الإخلاص له وحده، وحين ينتفى الإخلاص تنتفى العبادة، ومن ثم قال تعالى: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ

الْخالِصُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ» الآية. فتوسلهم بالأولياء جعله تعالى يقول إنهم اتخذوا من دونه أربابا، ويقول صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه، وفي رواية: فأنا منه برىء، هو للذى عمله» رواه مسلم وغيره. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» رواه أحمد. (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتى الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه، وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهى تعليم الكتاب ودراسته، فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربّانيا مرضيا عند الله، إذ العلم الذي لا يبعث على العمل لا يعد علما صحيحا، ومن ثم استغنى بذكره عن ذكر التصريح بالعمل. (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، ومثال ذلك أن تقول: ما كان لمحمد أن أكرمه، ثم يهيننى ويستخفّ بي، وقد نقل عن مشركى العرب عبادة الملائكة «وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله» فجاء الإسلام فبين أن هذا مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له والنهى عن عبادة غيره، ومن ثم قال: (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟) أي أيأمركم بعبادة الملائكة والسجود

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 إلى 83]

للأنبياء بعد توحيدهم لله والإخلاص له، إذ لو فعل ذلك لكفر، ونزعت منه النبوة والإيمان، ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة يكون أعلم الناس بالله، فإن الله لا يؤتى وحيه إلا نفوسا طاهرة، وأرواحا طيبة، فلا تجتمع نبوة ودعاء إلى عبادة غير الله. وأثر عن على كرم الله وجهه أنه قال: قصم ظهرى رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسّك، لأن العالم ينفّر الناس عن العلم بتهتكه، والجاهل يرغّب الناس في الجهل بتنسكه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 83] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) تفسير المفردات الميثاق: العهد المؤكد الموثّق، وهو أن يلتزم المعاهد (بكسر الهاء) للمعاهد (بفتحها) أن يفعل شيئا ويؤكد ذلك بيمين أو بصيغة مؤكدة من ألفاظ المعاهدة أو المواثقة، أقررتم من قرّ الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه، وأخذتم: أي قبلتم كما جاء نحوه في قوله تعالى: «إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ» والإصر: العهد المؤكد الذي يمنع صاحبه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي سيقت هذه الآيات كسابقتها لإثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بتعداد أشياء معروفة عند أهل الكتاب قطعا لعذرهم، وإظهارا لعنادهم، ودحضا لمزاعمهم، وإزالة لشبهات من أنكر منهم بعثة نبى من العرب. وهذه الحجة التي تقررها هذه الآيات من الحجج التي تفنّد تلك الترّهات والأباطيل التي يدّعونها، وهى أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأنهم مهما عظمت المنة عليهم بما آتاهم من كتاب وحكمة، فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل بعدهم مصدقا لما معهم، وأن ينصروه نصرا مؤزّرا، وأن من تولى بعد ذلك كان من الفاسقين. الإيضاح (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) أي واذكر لهم وقت أخذ الله الميثاق من النبيين أنهم كلما جاءهم رسول من بعدهم مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه مهما كانوا قد أوتوا من كتاب وحكمة، لأن القصد من إرسال الأنبياء واحد، فيجب أن يكونوا متكافلين متناصرين، فإذا جاء واحد منهم في زمن نبى آخر آمن به السابق ونصره بما استطاع ولا يستلزم ذلك نسخ شريعة الأول، إذ المقصود تصديق دعوته، ونصره على من يؤذيه ويناوئه. فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شىء من شريعة الأول وجب التسليم له، وإلا صدّقه في الأصول التي هى واحدة في كل دين، ويؤدى كل منهما مع أمته العبادات والمناسك التفصيلية، ولا يعد هذا اختلافا وتفرقا في الدين، فمثل هذا قد يأتى فى الشريعة الواحدة، ففى كفارة اليمين أو غيرها يكفّر شخص بالصيام، وآخر

بإطعام الطعام، وما سبب هذا إلا حال الشخصين، فكل منهما أدى ما سهل عليه. ألا ترى أن الملك إذا أرسل أميرين في عصر واحد إلى ولايتين متجاورتين وجب على كل منهما نصر الآخر حين الحاجة مع اتفاقهما في السياسة العامة للدولة. وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالى واستعدادهم، وفي حال البلاد فى اليسر والرخاء، فيقتضى ذلك اختلاف تفاصيل الالتزامات، فتكون الضرائب كثيرة في إحداهما قليلة في الأخرى، والقوانين صارمة في واحدة، وسهلة هينة في الثانية وكل من العاملين يعمل للمصلحة العامة للدولة. وهكذا حال النبيّين يؤمن كل منهما بما جاء به الآخر مع الموافقة في الأصول دون الفروع، كما آمن لوط بما جاء به إبراهيم وأيده في دعوته وقد كان في عصره. أما إذا بعث الله النبيين في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شىء كما حدث لموسى وهارون عليهما السلام، وبهذا تفهم معنى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم بالكتب السابقة وبمن جاء بها من الرسل، وليس المغني أن تفاصيل شريعته توافق تفاصيل شرائعهم. وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى أن يكون الدين مصدر العداوة والبغضاء كما فعل أهل الكتاب حين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكادوا له بعد أن دعاهم إلى كلمة سواء، ولم يكن منهم إلا الصدّ والإعراض والكيد والجحود. وصفوة القول- إنكم يا أهل الكتاب ملزمون باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بشريعته بمقتضى الميثاق الذي أخذ على كل من موسى وعيسى- أنه إذا جاء نبى بعده، وصدق بمامعه يؤمن به وينصره. وإيمانكم بموسى أو عيسى يقتضى التصديق بكل ما يؤمن به كل منهما. (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟) أي قال الله تعالى للنبيين: أأقررتم بالإيمان والنصر له، وقبلتم العهد على ذلك؟

(قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي قالوا أقررنا بذلك، قال الله تعالى: ليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم، لا يعزب عن على شىء. وهذا الحوار لتثبيت المعنى وتوكيده على طريق التمثيل، وليست الآية نصا في أن هذه المحاورة، وقعت وهذه الأقوال قيلت وله نظائر كثيرة في الأساليب العربية. (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي فمن أعرض بعد أخذ الميثاق على هذه الوحدة، واتخذ الدين آلة للتفريق والعدوان، ولم يؤمن بالنبي المتأخر المصدق لمن تقدمه ولم ينصره، فأولئك الجاحدون هم الفاسقون، فأهل الكتاب الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، خارجون عن ميثاق الله ناقصون لعهده، وليسوا من الدين الحق في شىء. وبعد أن بين أن دين الله واحد، وأن رسله متفقون فيه- ذكر حال منكرى نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي أيتولون عن الحق بعد ما تبين ويبغون غير دين الله وهو الإسلام والإخلاص له في العبادة فى السر والعلن، وقد خضع لله تعالى وانقاد لحكمه أهل السموات والأرض، ورضوا طائعين مختارين لما يحل بهم من تصاريف أقداره؟ وصفوة القول- إن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص له، وأن الأنبياء جميعا كانوا على ذلك، وقد أخذوا بذلك ميثاقهم على أممهم ولكنهم نقضوه إذ جاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه يرجع من اتخذ غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى وسائر الخلق، وحينئذ يجازون بإساءتهم وترك الدين الحق. وفي هذا وعيد وتهديد لهم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 إلى 85]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) تفسير المفردات الأسباط: الأحفاد واحدهم سبط وهم أبناء يعقوب الاثنا عشر وذراريهم، وخصهم بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم، مسلمون: أي مستسلمون منقادون بالطاعة له فيما به أمر وعنه نهى، والخسران: ذهاب رأس المال، ويراد به هنا تضييع ما جبلت عليه الفطر السليمة من الانقياد الله وطاعته. والإيمان: لغة التصديق إما بالقلب كأن يقول إنسان شيئا فتعتقد صدقه، وإما باللسان كأن تقول له صدقت. والإسلام: الانقياد والخضوع، وقد جعل لهما القرآن معنى خاصا، فأطلق الإيمان على الإيمان بالله واليوم الآخر وإرسال الرسل مبشرين ومنذرين بحيث يكون لهذا التصديق سلطان على الإرادة والوجدان، ويكون من ثمراته العمل الصالح الذي يصل بصاحبه إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وأطلق الإسلام على توحيد الله والإخلاص له في العبادة والانقياد لما أرشد إليه على ألسنة رسله. والإيمان والإسلام بهذين المعنيين يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل منهما بالاعتبار، ومن ثم عدّا شيئا واحدا في هذه الآيات، وبهما يكون الفوز بالنجاة فى الآخرة. وأما ما جاء في قوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» فقد أريد بالإيمان المعنى اللغوي وهو الثقة واطمئنان القلب، وهذا لم يحصل لهم بعد، بدليل أنهم امتنّوا على الرسول

المعنى الجملي

صلى الله عليه وسلم بالإسلام وترك القتال، ولكن دخلوا في السلم وترك الحرب والنطق بالشهادتين. كذلك إطلاق الإسلام على هذا الدين المعروف الذي عليه المسلمون اليوم إطلاق حادث لا يعرفه القرآن ولم ينطق به، وإنما نطق بالإسلام وأراد به الاستسلام والانقياد كما علمت مما سبق، فمن اتبعه كان مرضيا عند الله، ومن خالفه كان باغيا لغير دين الله. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أخذ الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصروه- ذكر هنا أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم، وأمته تابعة له في ذلك. وخلاصة ذلك- إن الله أخذ الميثاق من النبيين المتقدمين منهم والمتأخرين على الإيمان بالله والكتب المنزلة على أنبيائه. الإيضاح (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ) أي قل آمنت أنا ومن معي بوجود الله ووحدانيته وتصرفه فى الأكوان. (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وهو القرآن المنزل عليه صلوات الله عليه أولا، وعلى أمته بتبليغه إليهم. (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أي وصدقنا بأن الله أنزل على هؤلاء وحيا لهداية أقوامهم، وأنه موافق في جوهره والمقصود منه لما أنزل علينا كما قال تعالى: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ» . (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات.

وخص هذين النبيين بالذكر، لأن الكلام مع اليهود والنصارى. (وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وما أوتى النبيون من ربهم كداود وسليمان وأيوب وغيرهم ممن لم يقص الله سبحانه علينا قصصهم. وقدم الإيمان بما أنزل علينا على الإيمان بما أنزل على من قبلنا، مع كونه أنزل قبله- لأن ما أنزل علينا هو الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له، ولا طريق لإثباته سواه. فما أثبته القرآن الكريم من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالا فيما أجمل، وتفصيلا فيما فصل وكذلك كتبهم، مع العلم بأن جوهر الدين واحد لدى الجميع، وهو الإيمان بالله وإسلام القلب له مع العمل الصالح، والإيمان باليوم الآخر. (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فنصدق ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، فما مثل الأنبياء إلا مثل الأمراء الأمناء الصادقين يرسلهم السلطان على التعاقب للقيام بشئون ولاية من ولاياته، وإصلاح أحوال أهلها، وعمل القوانين النافعة لحكمها، فقد يغير التالي بعض قوانين السابق بحسب ما يرى من تبدل طباع أهلها وعاداتهم من شراسة إلى لين، ومن جهل إلى علم، ومن بداوة إلى مدنية وحضارة، وما المقصد من كل هذا إلا عمرانها وبذل الوسع في سعادة أهلها، وإيصال الخير إليهم. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي ونحن منقادون له بالطاعة لا نبتغى بذلك إلا التقرب إليه بإصلاح نفوسنا وتزكية أرواحنا، وتطهيرها من أدارن الذنوب والخطايا. وقد افتتحت الآية بالإيمان، واختتمت بالإسلام والخضوع وهو الثمرة والغاية من كل دين أرسل به نبىّ، فقال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لأن الدين إذا لم يصل بصاحبه إلى هذا الخضوع والانقياد لله تعالى كان رسوما وتقاليد لا تجدى شيئا، بل تزيد النفوس فسادا، والقلوب ظلاما، ويكون حينئذ مصدر الشحناء والعداوة بين الناس

[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 إلى 89]

في الدنيا، ومصدر الخسران في الآخرة بالحرمان من النعيم المقيم، والعذاب الأليم. (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) لأنه أضاع ما جبلت عليه الفطر السليمة من توحيد الله والانقياد له كما جاء في الحديث «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه» وخسر نفسه إذ لم يزكها بالإسلام لله، وإخلاص السريرة له كما قال تعالى: «قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) تفسير المفردات الظلم: هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه للوصول إلى الحق، واللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط، والإنظار: الإمهال والتأخير. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه حقيقة الإسلام وأنه الدين الذي بعث الله به جميع الأنبياء، ولا يقبل من أحد غيره، أردف ذلك ذكر حال الكافرين به وجزائهم عند ربهم. أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن: أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وأقروا وشهدوا أنه حق، فلما بعث

الإيضاح

من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم. وقال عكرمة: هم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد في اثنى عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت الآية فيهم، وأكثر الروايات على هذا. الإيضاح (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ؟) أي كيف يسلك الله بمثل هؤلاء سبيل المهتدين بإثابتهم والثناء عليهم، وقد كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حق وجاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي بمثلها تثبت النبوة؟ وشهادتهم أن الرسول حق كانت بمعرفتهم بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات، لكنهم بعد أن جاءهم بالبينات وظهرت الآيات على يديه كفروا به وعاندوه. وفي الآية استبعاد لهدايتهم بحسب سنن الله تعالى في البشر، وإيئاس للنبى صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، فمن سنن الله تعالى في هداية البشر إلى الحق أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع إزالة الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدى إلى المطلوب، وقد مكن لهم الله من كل هذا من قبل، ومن ثم آمنوا به. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يهدى أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم الجانين عليها لأنهم تنكّبوا عن الطريق القويم وتركوا هداية العقل بعد أن ظهر نور النبوة وعرفوه بالبينات. (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي هؤلاء

[سورة آل عمران (3) : الآيات 90 إلى 91]

يستحقون سخط الله وغضبه، وسخط الملائكة والناس، إذ هم متى عرفوا حقيقة حالهم لعنوهم، لأنها مجلبة للعن بطبعها لكل من عرفها كما قال تعالى: «وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» . (خالِدِينَ فِيها) أي خالدين في اللعنة مسخوطا عليهم إلى الأبد. (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا ينقصون من العذاب شيئا، ولا هم يمهلون لمعذرة يعتذرون بها، لأن سببه ما ران على قلوبهم من ظلمات الجحود والعناد وسخط الله وغضبه، وهو معهم لا يفارقهم أينما كانوا. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم وثابوا إلى ربهم، وتركوا ذلك الكفر الذي دنّسوا به أنفسهم نادمين على ما أصابوا منه، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذى الإيمان وتمحو من صفحة القلب ما كان قد ران عليها من ذميم الأخلاق والصفات. وفي هذا إيماء إلى أن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتدّ بها في نظر الدين، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات، لأن التوبة لم يكن لها أثر فى نفوسهم ينبههم إذا غفلوا، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شئونهم، وتقويم المعوجّ من أمورهم، فإذا هم فعلوا ذلك نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول جنته، والفوز برحمته. [سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)

المعنى الجملي

المعنى الجملي الكافرون أصناف ثلاثة: (1) الذين يتوبون توبة صحيحة مقبولة، وهم الذين ذكرهم الله في الآية السالفة التي ختمها بقوله: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» . (2) الذين يتوبون توبة غير مقبولة، وهم المذكورون في قوله: «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» . (3) الذين يموتون على الكفر من غير توبة وهم من ذكروا في الآية الأخيرة. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) المراد بالذين كفروا هم أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا أنه حق قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد البعث، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصدّ عن سبيل الله وبالحرب والكفاح، فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بما ينمّيه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان، والإيمان كذلك. هؤلاء لن تقبل لهم توبة لأن الشر قد تغلغل في نفوسهم وتمكن فيها الكفر فإذا أرادت التوبة وجدت من الموانع ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير. وظاهر الآيات يخالف ما صرّح به القرآن في غير موضع، كقوله في الآية السابقة «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» وقوله: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» . ولكن بالتفسير الآتي يتضح المعنى- ذاك أنه تعالى بعد أن بين حكم من كفر، وأنه أهل للعن والطرد إلا إن تاب، ذكر هنا أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كانها لم تكن، ويكون المعنى في هذه الآية

وما قبلها إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم، لأن نفوسهم قد توغل فيها الشرك، وتمكن فيها الكفر وأحاطت بها خطيئتها وضلت على علم، فإذا أرادت التوبة وجدت ما يحول بينها وبين قبول الحق والخير إلا إذا أحست النفس بألم الذنب، فيحملها ذلك على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادّا للأثر الأول. وبهذا تؤهل صاحبها للمغفرة وترك العقوبة على الذنب، إذ تكون النفس قد زكت وطهرت من الأدناس كما قال تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» . وما مثل ذلك إلا مثل الثوب الأبيض تصيبه بعض الأوساخ، فيبادر صاحبه إلى غسله، فينظف ويزول أثر ذلك الدنس ولكن إذا تراكمت عليه الأقذار مدة طويلة حتى تخللت جميع خيوطه، وتمكنت منها تعذر تنظيفه وإعادته إلى حاله الأولى وبين هذه الحال وما قبلها مراتب متفاوتة. وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي إن هؤلاء المتقبلين في الكفر هم المتمكنون من الضلال المخطئون سبيل الحق والنجاة لا ترجى لهم هداية، ولا تقبل منهم توبة. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) ملء الشيء (بالكسر) مقدار ما يملؤه، أي إن هؤلاء الذين يقيمون على الكفر ويعملون أعمال الكفار حتى يدركهم الموت على هذه الحال- فلن يقبل من أحدهم

[سورة آل عمران (3) : آية 92]

ملء الأرض ذهبا إذا كان قد تصدق به في دنياه، ولا يفيد ذلك في نجاته من عذاب النار، لأن الكفر يحبط أعماله ويمحو كل حسناته، فمن لم ترك نفسه في الدنيا وقسم عما يكدرها من ظلمات الكفر وأوضار الشرك- فلن ينفعها يوم مناقشة الحساب عمل وإن جلّ، ولا فضيلة وإن عظمت، إذ المعول عليه في ذلك اليوم هو الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي يرقى بصاحبه إلى حظيرة القدس في جوار الرب الرّحيم. (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) أي ولو افتدى به في الآخرة لا يقبل منه أيضا على تقدير أنه يملكه، ويريد أن يجعله وسيلة النجاة والمنقذ من العذاب، كما يعطى الناس الرّشا للحكام الظالمين ليزيلوا عنهم ما قد يحلّ بهم من العذاب. ونحو الآية قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ذاك أن النجاة في هذا اليوم لا تكون مما يبذل، ولا بجاه ينفع، بل جعل أمرها موقوفا على صفاء النفس واستعدادها، فمن زكّاها بالإيمان مع العمل الصالح فقد أفلج، ومن دسّاها بالكفر وسبى الأعمال فقد خاب وخسر. وصفوة القول- إنه لا طريق للافتداء على أىّ حال لو أريد ويرى بعض المفسرين أن الكلام من قبيل التمثيل، إذ لا حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه، إذ الأشقياء لا نصير لهم ينفق عليهم، والأولياء في عنى يفضل الله ورحمته عمن ينفق عليهم. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون العذاب عنهم أو يخففونه كما كانوا ينصرونهم في الدنيا إذا حاول أحد أذاهم أو إيقاع المكروه بهم. [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

تفسير المفردات

تفسير المفردات نال الشيء نيلا: إذا أصابه ووجده، يقال نال العلم: إذا وصل إليه واتصف به، والبرّ: ما يكون به الإنسان بارّا، وما تحبون هو نفائس الأموال وكرائمها، لأن شأنها عند النفوس عظيم، فكثيرا ما يخاطر الإنسان بنفسه، ويستسهل بذل روحه للدفاع عن ماله. المعنى الجملي بعد أن حاج الله تعالى أهل الكتاب فيما ادّعوه من الإيمان، وأنهم شعب الله المختار، وأن النبوة محصورة فيهم لا تعدوهم إلى غيرهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات. خاطبهم هنا بأن آية الإيمان وميزانه الصحيح هو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النية، ولكنكم أيها المدّعون لتلك الدعاوى آثرتم شهوة المال على مرضاة الله، ولو أنفق أحدكم شيئا من ماله فإنما ينفق من أردأ ما يملك وأبغضه إليه، لأن محبة المال في قلبه تفوق محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره تعلو الرغبة فيما عند ربه من الرضا والثواب فكيف ترجون أن تكونوا من المؤمنين الصادقين وأنتم لا تنفقون ما تحبون؟ الإيضاح (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي لن تصلوا إلى بر الله تعالى بأهل طاعته برضاه عنهم وتفضله برحمتهم، ونيلهم مثوبته، ودخولهم جنته، وصرف عذابه عنهم حتى تنفقوا ما تهواه نفوسكم من كرائم أموالكم

وقد أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى. روى البخاري ومسلم عن أنس رضى الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (موضع) وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء طيب فيها، فلما نزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة يا رسول الله: إن أحبّ أموالى إلىّ بيرحاء. وإنها صدقة لله تعالى أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال عليه السلام: بخ بخ (كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء) ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه. وفي رواية لمسلم: فجعلها بين حسان ابن ثابت وأبيّ بن كعب. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال: لما نزلت هذه الآية جاء زيد ابن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هى صدقة، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة، فكأن زيدا وجد في نفسه (حزن) فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه قال: أما إن الله قد قبلها. فهذا الأثر وما قبله دلائل واضحات على حسن السياسة الدينية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما يختلج في القلوب، فقد رأى أن أبا طلحة وزيدا قد خرجا عن أحب أموالهما إليهما بعاطفة الدين، فجعل ذلك في الأقربين ليثبّت قلوبهما ويكمل إيمانهما، ولا يجعل للشيطان سبيلا ينفذ به إلى ما بين الجوانح فيندمان إذا هما رأيا أموالهما فى أيدى الغرباء، إذ كثيرا ما يفارق المرء شيئا محبوبا لديه باختياره لعاطفة الدين، أو للجود به على غيره، ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يعاوده الحنين إليه، ومن ثمّ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمّال الصدقة باتقاء كرائم الأموال، والبعد عنها حين جباية الصدقات. وهناك من الشواهد ما يدل على هذا أيضا، فقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر

قال: حضرتنى هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية، فذكرت ما أعطانى الله تعالى، فلم أجد أحب إلىّ من مرجانة (جارية رومية) فقلت هى حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شىء جعلته لله تعالى لنكحتها، فأنكحتها نافعا (مولى له كان يحبه كأحد أولاده) . فتأمل وانظر تر أن نفسه قد راودته بعد عتقها على أن يستبقيها له ولا يفارقها، لولا أن كان مما عوّد نفسه عليه ألا يرجع في شىء جعله لله، ومع ذلك جعلها لأحب الناس إليه، وهو مولاه وعلى الجملة فآثار السلف في الإبثار وبذل المال ابتغاء مرضاة الله كثيرة. فقد روى أن ابن عمر اشتهى سمكة بمكة وكان قد نقه من مرض، فبحث عنها فى المدينة فلم توجد، وبعد مدة وجدت، فاشتريت بدرهم ونصف الدرهم، فشويت وجىء بها على رغيف، فجاء سائل بالباب فقال ابن عمر للغلام: لفّها برغيفها وادفعها إليه، فأبى الغلام فردّه وأمره أن يدفعها إليه، ثم جاء بها فوضعها بين يديه، وقال كل هنيئا يا أبا عبد الرّحمن، فقد أعطيته ذرهما وأخذتها، فقال: لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيّما امرئ اشتهى شهوة فردّ شهوته وآثر على نفسه إلا غفر الله له» . وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا كان أحوج منى إليه فبعث به إليه، فلما وصل إليه قال: إن فلانا كان أحوج منى إليه، فلم يزل يبعث به كل واحد منهم إلى آخر حتى تناوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول. وفي هذه الآثار وأمثالها ما ينبغى أن يكون عظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقتدى بأولئك الأبرار الطاهرين، ويجعلهم المثل العليا للبذل في سبيل الله. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي أىّ شىء تنفقونه في سبيل الله طيبا أو خبيثا فالله مجازيكم به بحسب ما يعلم من نيتكم، ومن مواقع ذلك في قلوبكم،

فربّ منفق مما يحب لا يسلم من الرياء، وربّ فقير معدم لا يجد ما يحب فينفق منه، ولكن قلبه يفيض بالبرّ، ولو وجد ما أحبه لأنفقه أو أكثره. وفي هذه الآية ترغيب وترهيب وحث على إخفاء الصدقة، كى لا يكون للشيطان منفذ إلى قلوب الأبرار الصالحين. جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلوات الله على أنبيائه المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة في رجب المعظم من سنة إحدى وستين وثلاثمائة هجرية.

فهرس أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

فهرس أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء الصفحة المبحث 3 الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما طال به الأسد 5 فضل محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الرسل بمزايا. 7 هداية الدين الكسب لا بالإلهام. 9 الإنفاق في سبيل الله من وسائل النجاة. 10 ظلم الباخل بفضل ماله من أقبح أنواع الظلم. 12 الفرق بين السنة والنوم. 18 فرض الجهاد ليكون سياجا لصد من يقاوم الدعوة 28 أساس المعجزات وعظمتها ليست في نتائجها وغرابتها. 30 أنبتت الجمعية الزراعية أن السنبلة الواحدة أنبتت سبعا ومائة حبة. 33 درء المفاسد مقدم على جلب المصالح 38 سنة القرآن أن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره. 41 في الحديث «اللهمّ أعط منفقا خلفا» . 43 النذر قسمان. 44 المال قطب الرحى وعليه تدور مصالح الأمم 45 صدقة السر تفضل صدقة العلانية. 49 الإحصار في سبيل الله. 50 السؤال محرم لغير ذى ضرورة. 51 أهل الصفّة وذكر مناقبهم.

الصفحة المبحث 55 الربا ضربان: ربا الفضل وربا النسيئة. 57 السر في تحريم الربا. 63 تخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب. 65 محق الله للربا. 67 حرب الله ورسوله. 75 سر التشريع في قيام المرأتين مقام الرجل في الشهادة. 76 وجوب الإشهاد في البيوع المؤجلة. 78 آثام القلب. 79 الحسد يبعث على الانتقام والسعى على إزالة نعمة المحسود. 82 الذنب المغفور. 84 أثر الإيمان في النفوس. 85 النفس مجبولة على فعل الخير وتفعل الشر بالتكلف والتأسى 87 الخطأ والنسيان مما يرجى العفو عنهما. 88 النصر بالحجة أقوى من النصر بالسيف 88 الدعاء يستجاب إذا صحبه الإخلاص بعد اتخاذ الوسائل الموصلة للنجاح. 92 معنى كلمتى التوراة والإنجيل والمراد منهما لدى اليهود والنصارى. 96 ليست التوراة الموجودة الآن هى توراة موسى. 97 المراد بالفرقان 99 آراء الأئمة في المتشابه. 101 الحكمة في إنزال المتشابه. 106 قد تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة. 109 الشهوات التي ملأت قلوب الناس حبّا.

الصفحة المبحث 110 أسباب حب البنين 110 حب المال أودع في غرائز البشر 116 أوصاف المؤمنين 119 شرع الدين لأمرين 120 الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب. 124 دعوة الأنبياء ودعوة الفلاسفة. 125 وعيد الكافرين على ضروب ثلاثة. 126 إعراض اليهود عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ليس ببدع ولا غريب فذلك دينهم مع الأنبياء السابقين. 127 قام الدليل لدى الباحثين على أن التوراة كتبت بعد موسى بخمسمائة سنة. 128 من استخفّ بوعيد الله تزول من نفسه حرمة الأوامر والنواهي. 130 المشركون أنكروا النبوة لرجل يأكل الطعام، واليهود أنكروها لرجل من غير بنى إسرائيل 131 النبوة إما أن تأتى استقلالا أو تابعة للملك كما وقع لآل إبراهيم 133 أثبت الأطباء أن في النطفة والبيضة والنواة حياة 133 التفسير الحق لإخراج الحي من الميت والميت من الحي. 134 ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه 137 اختيار الأئمة التقية ومداراة الكفرة والظلمة 139 رأفة الله بعباده 140 محبة الله تدعو إلى اتباع رسله 142 تفضيل آل إبراهيم وآل عمران على العالمين. 146 سيق قصص آل إبراهيم وآل عمران إثباتا لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

الصفحة المبحث 147 دعاء زكريا ربه الذرية الطيبة حين رأى مريم 149 طلب زكريا آية على حمل امرأته. 150 جاء الوحى في القرآن لأربعة معان. 151 تفضيل مريم على نساء العالمين. 152 ما جاء في القرآن مخالفا للكتب السابقة يعد مصححا لأعلاطها 154 لم أطلق لفظ الكلمة على المسيح؟ 155 وجاهة عيسى في الدنيا والآخرة. 156 كن فيكون تمثيل لكمال القدرة. 157 الأمر ضربان أمر تكوين وأمر تشريع. 158 ما روى من إحياء عيسى للموتى. 159 عمل الطين بهيئة الطير ثم النفخ فيه لطف من الله بعباده 160 المعجزات سنة جديدة 163 المعجزات ضرورية لإيمان الإنسان بقدرة الله. 164 الفرق بين أخبار الأنبياء بالغيب وأخبار المنجمين والكهان 169 آراء العلماء في رفع عيسى إلى السماء 173 خلق آدم أعجب من خلق عيسى. 174 مباهلة النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى. 180 التحليل والتحريم لا يؤخذ إلا من قول النبي المعصوم. 184 أهل الكتاب والمشركون كانوا حريصين على إضلال المؤمنين. 185 من حيلهم في إضلال المؤمنين أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره. 186 أهل الكتاب طائفتان طائفة أمينة وأخرى خائنة 190 العهد ضربان

الصفحة المبحث 191 وعيد الناكثين للعهد. 193 افتراء اليهود على الله ما لم يقله. 199 لا مانع من تتابع الأنبياء في عصر واحد 201 الدين الحق إسلام الوجه لله والإخلاص له. 202 الإيمان والإسلام لغة وشرعا. 207 التوبة التي لا أثر لها في العمل لا يعتدّ بها في نظر الدين. 208 الكافرون أصناف ثلاثة 211 ميزان الإيمان الصحيح الإنفاق في سبيل الله. 212 كان السلف الصالح إذا أحبوا شيئا جعلوه لله. 212 حسن السياسة الدينية لدى الرسول صلى الله عليه وسلم. 213 ما روى من الآثار في الإيثار ابتغاء مرضاة الله

تتمة سورة آل عمران

الجزء الرابع [تتمة سورة آل عمران] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 97] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) تفسير المفردات الطعام: كل ما يطعم ويتناول للغذاء كما قال «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ» وقالت عائشة رضى الله عنها «مالنا طعام إلا الأسودان:

المعنى الجملي

التمر والماء» وكثر استعماله فى الخبز كما قالوا: أكل الطعام مأدوما، وفي البرّ، ومنه حديث أبى سعيد «كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير» والحل: من حل الشيء ضد حرم، وإسرائيل: لقب نبي الله يعقوب، ومعناه الأمير المجاهد مع الله ثم شاع إطلاقه على جميع ذريته كما تدل على ذلك الأسفار المنسوبة إلى موسى، والفرية: الكذب، والافتراء: اختلاق الكذب، والحنيف: المائل عن الباطل إلى الحق، وبكة: من أسماء مكة (أبدلت ميمها باء) وهذا كثير الاستعمال فى الكلام، قالوا: هذا دائم ودائب، والآيات: الدلائل والعلامات، والحج (بكسر الحاء وفتحها وبهما قرىء) القصد. المعنى الجملي كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع إثبات وحدانية الله تعالى، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع وتقاليد لا نص عليها في كتابهم، أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود: (1) أنهم قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إنك تدّعى أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه، فلست بمصدّق له، ولا بموافق له في الدين، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به، فرد الله عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل، ولإبراهيم من قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم. (2) أنه لما حوّلت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة، وأحق بالاستقبال، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ماعظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس، وعظمت مكانا آخر

الإيضاح

وخالفت من تقدّمك من الأنبياء، فرد الله سبحانه شبهتهم، بأن أول بيت بنى للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة. الإيضاح أجاب الله سبحانه عن أولى الشبهتين بقوله: (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي إن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل، ولإبراهيم من قبله، ثم حرم عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا كما يدل على ذلك قوله «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» الآية. والمراد بإسرائيل الشعب كله كما هو شائع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب، كما أن المراد بتحريم الشعب ذلك على نفسه أنه اجترح من السيئات، وارتكب من الموبقات ما كان سببا في هذا التحريم كما ترشد إلى ذلك الآية التي أسلفناها. وخلاصة هذا الجواب- أن الأصل في الأطعمة الحل، وما كان تحريم ما حرم على إسرائيل إلا تأديبا لهم على جرائم ومخالفات وقعت منهم، وكانت سببا فيما نالهم من التحريم لها، والنبي صلى الله عليه وسلم وأمته لم يجترحوا هذه السيئات فلا تحرم عليهم هذه الطيبات. ومعنى قوله: من قبل أن تنزل التوراة، أنه قبل نزول التوراة كان حلّا لبنى إسرائيل كل أنواع المطعومات أما بعد نزولها، فقد حرم عليهم أنواع كثيرة بسبب الذنوب التي اقترفوها، وقد بينتها التوراة وبينت أسباب التحريم وعلله. (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى دعواكم، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها، فالحكم بيننا وبينكم كتابكم الناطق بصحة ما يقول القرآن، فلو جئتم به لكان مؤيدا ما نقول من أن تحريم ما حرم ما كان إلا للتأديب والزجر. وقد جاء في سفر التثنية: قال موسى حين أخذ عليكم العهد بحفظ الشريعة (إنكم شعب

غليظ الرقبة يقاوم الرب) وقد روى أنهم لم يجرءوا على الإتيان بها، وفلجت حجة القرآن. وفي هذا أكبر دليل على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو قد علم أن ما في التوراة يدل على كذبهم، وهو لم يقرأها ولا قرأ غيرها من كتب الأولين، فهذا العلم لم يكن إلا بوحي من الله. (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي فمن اخترع الكذب على الله وزعم أن التحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزول التوراة- بعد أن ظهرت له الحجة بأن التحريم إنما كان بسبب ما ارتكب الشعب من الذنوب والخطايا، وبعد أن طولب المدعون بالإتيان بالتوراة وتلاوتها، فامتنعوا لئلا يظهر كذبهم، وأن الله لم يحرم شيئا قبل نزولها- فأولئك هم الظالمون لأنفسهم المستحقون لعذاب الله، لأنهم قد حولوا الحق عن وجهه، ووضعوا حكم الله فى غير موضعه، فضلوا وأضلوا أشياعهم بإصرارهم على الباطل، وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) فيما أنبأنى به من أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبنى إسرائيل، وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء أفعالهم القبيحة، وبذا قامت عليكم الحجة، وثبت أنى مبلغ عنه، إذ ما كان في استطاعتي لولا الوحى أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون عن أنبيائكم. (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي وإذ قد استبان لكم أن ما يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم هو من ملة إبراهيم، فعليكم أن تتبعوه في استباحة أكل لحوم الإبل وألبانها، وملته حنيفية سمحاء لا إفراط فيها ولا تفريط. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يدعون مع الله إلها آخر، أو يعبدون سواه، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، وفعله اليهود من ادّعائهم أن عزيرا ابن الله، وفعله النصارى من اعتقادهم أن المسيح ابن الله.

وخلاصة هذا- إن محمدا صلوات الله عليه على دين إبراهيم في جزئيات الأحكام وكلياتها، فأحل ما أحله هو من أكل لحوم الإبل وألبانها، ودعا إلى التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله، وما كان إبراهيم صلوات الله عليه إلا على هذا الدين. ثم أجاب عن الشبهة الثانية فقال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي إن البيت الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام للعبادة، ثم بنى المسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون، بناه سليمان عليه السلام سنة 1005 قبل الميلاد فكان جعله قبلة أولى، وبذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما. والخلاصة- إن أول بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء هو البيت الحرام، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يؤثر من تواريخهم، ويتبع هذا أولية الشرف والتعظيم. ثم بين فضائله فقال: (1، 2) (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) تطلق البركة على معنيين: أحدهما النموّ والزيادة، وثانيهما البقاء والدوام كما يقال تبارك الله. والبركة والهداية من فضائله الحسية والمعنوية. أما الأولى فهى أنه قد أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شىء مع كونه بواد غير ذى زرع كما قال الله تعالى: «يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ» فترى الأقوات والثمار في مكة كثيرة جيدة، وأقل ثمنا من كثير من البلاد ذوات الخيرات الوفيرة كمصر والشام. وأما الثانية فلأن القلوب تهوى إليه، فتأتى الناس مشاة وركبانا من كل فج عميق لأداء المناسك الدينية من الحج والعمرة، ويولّون وجوههم شطره في صلاتهم

وربما لا تمضى ساعة من ليل أو نهار إلا وهناك ناس يتوجهون إليه، ولا شك أن هذه الهداية من أشرف أنواع الهدايات. وكل هذا ببركة دعوة إبراهيم صلوات الله عليه «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» . (3) (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي فيه دلائل واضحات، أحدها مقام إبراهيم- موضع قيامه للصلاة والعبادة- وقد عرف ذلك العرب وغيرهم بالنقل المتواتر. وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم، وجعلت النبوة والملك فيهم، فأىّ دليل أبين من هذا على كون ذلك البيت من أول بيوت العبادة المعروفة؟ (4) (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) أي وأمن من دخله، والعرب جميعا قد اتفقوا على احترامه وتعظيمه، فمن دخله أمن على نفسه من الاعتداء والإيذاء، وأمن أن يسفك دمه أو تستباح حرماته مادام فيه، وقد مضوا على ذلك الأجيال الطوال في الجاهلية على كثرة ما بينهم من الأحقاد والضغائن، واختلاف المنازع والأهواء، وقد أقر الإسلام هذا، وكل ذلك بفضل دعوة إبراهيم عليه السلام «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. ومن ثم قال أبو حنيفة رحمه الله: من وجب قتله في الحلّ بقصاص أو ردّة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرّض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه. وفتح مكة بالسيف كان لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه للعبادة، فقد حلت للنبى صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده كما جاء في الحديث

على أن حل مكة وما يتبعها من أرباضها للنبى صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار أمر زائد على أمن البيت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستحلّ البيت ساعة ولا مادونها، بل كان مناديه ينادى: من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن. وقد أخبر أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد بن عبادة الأنصاري حامل اللواء له في الطريق: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال صلى الله عليه وسلم «كذب سعد، هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة» وما فعله الحجاج من رمى البيت بالمنجنيق، فهو فعل السياسة التي قد تحمل صاحبها على مخالفة ما يعتقد حرمته، ويقع به في الظلم والإلحاد، إذ هو وجنده لم يكونوا معتقدين حلّ ما فعلوا. (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) أي ويجب الحج على المستطيع من هذه الأمة، وفي هذا تعظيم للبيت أيّما تعظيم، وما زال الناس من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلوات الله عليهما يحجون البيت عملا بسنة إبراهيم، جروا على هذا جيلا بعد جيل لم يمنعهم من ذلك شركهم ولا عبادتهم للأوثان والأصنام، فهى آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى ابراهيم. واستطاعة السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه كما قال تعالى: «فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» وقال: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» وتختلف الاستطاعة باختلاف الأشخاص، واختلاف البعد عن البيت والقرب منه، وكل مكلف أدرى بنفسه في ذلك. وقد اختلف في تفسيرها، فقال بعضهم إنها القدرة على الزاد والراحلة مع أمن الطريق. وقال بعض: إنها صحة البدن والقدرة على المشي، وقال آخرون هى صحة البدن وزوال الخوف من عدو أو سبع مع القدرة على المال الذي يشترى منه الزاد والراحلة، وقضاء جميع الديون والودائع ودفع النفقة التي تكفى لمن تجب عليه نفقته حتى العودة من الحج.

وخلاصة ذلك- إن هذا الإيجاب مشروط بالاستطاعة وهى تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان. (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) المراد بالكفر هنا جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة بعد أن قامت الأدلة على ذلك، وعدم الإذعان لما فرضه الله من حجه والتوجه إليه بالعبادة. وفسر بعضهم الكفر بترك الحج فكأنه قال ومن لم يحج فإن الله غنى عن العالمين، وعبر عنه بذلك تغليظا وتشديدا على تاركه. فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» وروى عن على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة له: «أيها الناس، إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا، ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديّا أو نصرانيا أو مجوسيا» وأثر عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة (سعة) ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ماهم بمسلمين، ماهم بمسلمين. ولهذه الأدلة قال كثير من الفقهاء: إن الحج واجب على الفور، وقال آخرون: إنه واجب على التراخي. وهذه الجملة تأكيد لما سبق من الوجوب، فإنه بدأ الآية بأن قال: ولله على الناس، فأفاد أن ذلك ما كان لجرّ نفع ولا لدفع ضر، بل كان للعزة الإلهية، ولكبرياء الربوبية، وختمها بهذه الجملة المؤكدة لذلك، ببيان أن فاعل ذلك مستأهل للنعمة برضا الله عنه، وأن تاركه يسخط عليه سخطا عظيما. وحسب البيت شرفا أنه حرم آمن ومثابة للناس ومبارك وهدى للعالمين، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرمته وفضله، من أنه لا يسفك فيه دم، ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه (لا يقطع نباته) وأن قصده مكفر للذنوب ماح للخطايا، وأن العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره، وأن استلام الحجر

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 إلى 99]

الأسود فيه رمز إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه والإخلاص له، وأن الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره. وكتب الأحاديث والسيرة مليئة ببيان فضله، ومشيدة بذكره. [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) تفسير المفردات آيات الله: هى الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والشهيد: العالم بالشيء المطلع عليه، وتصدون، من صددته أصده صدا: أي صرفته، والسبيل: الطريق يذكر ويؤنث، وتبغونها من بغاه يبغيه: أي طلبه، والعوج (بكسر العين) الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين والقول (وبفتحها) فى المحسوسات كالحائط والقناة والشجرة والمراد به هنا الزيغ والتحريف. المعنى الجملي بعد أن أورد سبحانه الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه، ثم ذكر شبهات القوم وكرّ عليها بالحجة، ونقضها بما ليس بعده زيادة لمستزيد- أردف ذلك خطابهم بالكلام اللين، وبدأه بعنوان كونهم أهل الكتاب مما يوجب الإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم له، إذ هم قد فعلوا ذلك على علم. أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: مرّ شاس بن قيس وكان عظيم الكفر شديد الطعن والحرد على المسلمين- على نفر من أصحاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان منهم من العداوة فى الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بنى قيلة (الأوس والخزرج) بهذه البلاد، والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار: فأمر فتى شابا من اليهود- وكان معه- فقال اعمد إليهم فاجلس معهم وذكّرهم يوم بعاث، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ففعل (وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر للأوس على الخزرج) فقيل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحي على الركب (أوس بن قيظى أحد بنى حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بنى سلمة من الخزرج) فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها جذعة (شابة فتية، يعنون الحرب) وغضب الفريقان وقالوا قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة (هى الحرّة، وهى أرض مستوية بظاهر المدينة) فخرجوا إليها، وتجاوب الناس، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها فى الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس وما صنع. وأنزل الله فيه (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) إلى آخر الآيتين

الإيضاح

السابقتين، وأنزل عز وجل في أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ- إلى قوله- لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) . الإيضاح (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ؟) أي لأى سبب تكفرون بتلك الآيات والله مطلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من أمركم وهو مجازيكم بها؟ وذلك مما يوجب عليكم ألا تجترئوا على الكفر بآياته. ولا يخفى ما في هذا من التوبيخ والإيماء إلى تعجيزهم عن إقامة العذر على كفرهم، كأنه قيل هاتوا عذركم إن كان ذلك في مكنتكم. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ؟) أي لأىّ سبب تصرفون من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعه عن الإيمان الذي يرقى عقل المؤمن بما فيه من طلب النظر في الكون، ويرقى روحه بتزكيتها بالأخلاق الطيبة، والأعمال الصالحة، وتكذبون بذلك كفرا وعنادا، وكبرا وحسدا، وتلقون الشبهات الباطلة في قلوب الضعفاء من المسلمين بغيا وكيدا للنبى صلى الله عليه وسلم، تبغون لأهل دين الله ولمن هو على سبيل الحق عوجا وضلالا، وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة، وأنتم عارفون بتقدم البشارة به، عالمون بصدق نبوته، ومن كان كذلك فلا يليق به الإصرار على الباطل والضلال والإضلال. (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من هذا الصدّ وغيره من الأعمال، فمجازيكم عليه، وغير خاف ما في هذا من تهديد ووعيد، كما يقول الرجل لعبده وقد أنكر عليه اعوجاج أخلاقه: لا يخفى علىّ ما أنت عليه، وما أنا بغافل عن أمرك. وإنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة، لأن صدهم عن الإسلام كان بضرب من المكر والكيد ووجوه الحيل، وختم الآية السابقة بقوله والله شهيد لأن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 إلى 103]

وكرر الخطاب بيا أهل الكتاب، لأن المقصد التوبيخ على ألطف الوجوه، وهذا أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريق الضلال والإضلال، وأدل على النصح لهم، والإشفاق عليهم. والآية الأولى لكفهم عن الضلال، والثانية لكفهم عن الإضلال. [سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 103] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) شرح المفردات اعتصم بالشيء: تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك كما قال تعالى حكاية عن زليخا «وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» والتقاة: التقوى كالتؤدة من اتأد، والحق: من حق الشيء بمعنى وجب وثبت، والأصل اتقاء حقا، وحبل الله: كتابه من اعتصم به كان مستمسكا بأقوى سبب، متحرزا من السقوط في قعر جهنم، وشفا الحفرة: طرفها، وبه يضرب المثل في القرب من الهلاك، فيقال أشفى على الهلاك، أي وصل إلى شفاه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم- خاطب المؤمنين محذّرا لهم من إغوائهم وإضلالهم: مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغى أن يطاعوا، ولا أن يسمع لهم قول، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين، ثم بتذكر نعمته عليهم وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة، وقد أشار إلى الأولى بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) ، وإلى الثانية بقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) . الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) أي إنكم أيها المؤمنون إذا أصغيتم إلى ما يلقيه إليكم هؤلاء اليهود مما يثير الفتنة، ولنتم لهم فى القول، واستجبتم لما يدعونكم إليه- ردوكم إلى الكفر بعد الإيمان كما قال تعالى: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» والكفر يوجب الهلاك فى الدنيا والدين أما فى الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء، وهيجان الفتنة المؤدى إلى سفك الدماء، وأما فى الدين فلا حاجة إلى بيانه. (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟) أي ومن أين يتطرق إليكم الكفر، والحال أن القرآن يتلى عليكم على لسان رسوله غضا طريّا، وبين أظهركم، رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم، ويبين لكم ما أنزل إليكم، ولكم فى سنته خير أسوة تغذّى إيمانكم، وتنير قلوبكم، فلا ينبغى لمثلكم أن تلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب عليكم أن ترجعوا عند كل شبهة تسمعونها من

هؤلاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكشف عنها، ويزيل ما علق بقلوبكم منها. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومن يستمسك بدين الله وكتابه ورسوله، فقد حصل له الهدى إلى الصراط المستقيم لا محالة، كما تقول إذا جئت فلانا فقد أفلحت، إذ هو حينئذ لا تخفى عليه المهالك، ولا تروج لديه الشبهات. قال قتادة: ذكر فى الآية أمرين يمنعان من الوقوع فى الكفر: أحدهما تلاوة كتاب الله، وثانيهما كون الرسول فيهم، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله ورضوانه، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي يجب عليكم تقواه حقا، بأن تقوموا بالواجبات، وتجتنبوا المنهيات. ونحو الآية قوله: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أي بالغوا فى تقواه جهد المستطاع. وعن ابن مسعود أنه قال: تقوى الله أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. وعن ابن عباس أنه قال: هى أن يجاهدوا فى الله حق جهاده، ولا تأخذهم فى الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم. (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله، لا تجعلون شركة لسواه أي لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت. والخلاصة- استمروا على الإسلام، وحافظوا على أداء الواجبات، وترك المنهيات حتى الموت. وقد جاء هذا فى مقابلة قوله: (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) . (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) أي تمسكوا بكتاب الله وعهده الذي عهد به إليكم، وفيه أمركم بالألفة والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله، والانتهاء إلى أمره.

وقد جعل الدين فى سلطانه على النفوس، وتصرفه فيها بحسب نواميسه وأصوله، وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال بحسب هديه- كأنه حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط فى الهاوية، كأنّ الآخذين به قوم على نشز أي مرتفع من الأرض يخشى عليهم السقوط منه، فيأخذون بحبل موثّق يجمعون به قوتهم، فينجون من السقوط. وفى الحديث «القرآن حبل الله المتين، لا تنقضى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ، من قال به صدق، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم» وجاء فى معنى الآية قوله تعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» فحبل الله فى هذه الآية هو صراطه المستقيم، كما أن أنواع التفرق هى السبل التي نهى عنها فيها. ومن السبل المفرقة فى الدين إحداث الشيع والمذاهب كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» ومنها العصبية الجنسية كما بين الأوس والخزرج كما تقدم ذلك، وقد روى أبو داود عن مطعم بن جبير (ليس منّا من دعا إلى عصبية) . وقد سار على هذا النهج أهل أوربا فى العصر الحديث فاعتصموا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب تفعل ذلك فى الجاهلية وسرى ذلك إلى بعض البلاد الإسلامية، فحاول أهلها أن يجعلوا فى المسلمين جنسيات وطنية. فدعا الترك إلى العصبية التركية، والمصريون إلى الجنسية المصرية، والعراقيون إلى الجنسية العراقية، ظنا منهم أن ذلك مما ينهض بالوطن، وليس الأمر كما يظنون، فإن الوطن لا يرقى إلا باتحاد كل المقيمين فيه لإحيائه، لا فى تفرقهم ووقوع الشحناء والبغضاء بينهم، فالدين يأمر باتحاد كل قوم تضمهم أرض واحدة، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر بالاعتصام بحبل الله المتين بين جميع الأقوام. (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ

إِخْواناً) أي واذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم الله عليكم بها حين كنتم أعداء يقتل بعضكم بعضا، ويأكل قويكم ضعيفكم، فجاء الإسلام فألف بينكم وجمع جمعكم، وجعلكم إخوانا، حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم، وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه وهو فى خصاصة وحاجة إليه، وأطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة، وأنقذهم مما هو أدهى وأمر وهو عذاب الآخرة. (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي وكنتم بوثنيتكم وشرككم بالله، كأنكم على طرف حفرة يوشك أن ينهار بكم فى النار، فليس بين الشرك والهلاك فى النار إلا الموت، والموت أقرب غائب ينتظر، فأنقذكم الإسلام منها. وفى هذه الآيات جماع المنن التي أنعم بها عليهم، فقد أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه، وألف بين قلوبهم حتى صاروا سادة البشر، حين كانوا يعملون بكتابه وأنقذهم بذلك من النار، فسعدوا بالحسنيين. فانظر إلى آيات الله، ودلائل قدرته، كيف حوّل قوما متخاذلين تملأ قلوبهم الإحن والعداوات، ويتربص كل منهما بالآخر ريب المنون- إلى جماعات متصافية القلوب، مليئة بالحب والإخلاص، وجهتهم جميعا واحدة، هى حكم الله ورفعة دينه، ونشره بين البشر. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي كما بين لكم ربكم فى هذه الآيات ما يضمره لكم اليهود من غشكم، وبين لكم ما أمركم به، وما نهاكم عنه، وبين لكم الحال التي كنتم عليها فى الجاهلية، وما صرتم إليه فى الإسلام، ليعرفكم فى كل ذلك مواقع نعمه- كذلك يبين سائر حججه فى تنزيله على لسان رسوله، ليعدّكم للاهتداء الدائم، حتى لا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان. والاختلاف الذي يقع بين البشر ضربان: (1) ضرب لا يسلم منه الناس، ولا يمكن الاحتراس منه، وهو الخلاف

فى الرأى والفهم، وهو مما فطر عليه البشر، وإلى ذلك الإشارة بقوله: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» إذ أن العقول والأفهام ليست متساوية، فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها فى الشيء الواحد، كما يختلف حبهم له، وميلهم إليه. وهذا ضرب لا ضرر فيه. (2) ضرب جدّت الشرائع فى هدمه ومحوه، وهو تحكيم الرأى والهوى فى أمور الدين وشئون الحياة. وهاك مثلا يتضح لك به ما تقدم- قد اختلف الأئمة المجتهدون فى فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة، وما كان فى ذلك من حرج، فما لك نشأ فى المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب، فقال: إن عمل أهلها أصل من أصول الدين، لأنهم لقرب عهدهم من النبي صلى الله عليه وسلم لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة فى العمل، وأبو حنيفة نشأ فى العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق، فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة، ولو اجتمع هذان الإمامان لعذر كل منهما صاحبه فيما رأى، لأنه بذل جهده فى بيان وجه الحق مع الإخلاص لله، وإرادة الخير والطاعة لأمره، ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم، ولم تقلدهم فى سيرتهم، وحكموا الرأى والهوى فى الدين، وتفرقوا شيعا، كل فريق يتعصب لرأى فيما وقع من أوجه الخلاف، ويعادى المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب فى كل ما خالف فيه غيره من الأئمة، وأن الشافعي ومالكا أخطئا فى جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة. وإذا فكيف يمضى نحو أربعة عشر قرنا ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب فى بعض المسائل الخلافية، فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه فى تلك المسائل، ويرجعون إلى الصواب فيها.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 إلى 109]

وهذا الضرب من الخلاف وهو تحكيم الرأى والهوى كان مصدر شقاء أمم كثيرة فهوت بعد رفعتها وذلت بعد عزتها، وضعفت بعد قوتها. وقد حدث مثل هذا فى الفرق الإسلامية فى علم الكلام، فإن أبدى أحدهم رأيا فى مسألة بادر مخالفه إلى الرد عليه، وتفنيد مذهبه وتضليله، ويقابله الآخر بمثل صنيعه، ولو حاول كل منهما محادثة الآخر، والاطلاع على أدلته، ووزنها بميزان الإنصاف والحق لما حدث مثل هذا الخلاف، بل افتنع كل واحد منهما بما رأى مخالفه. والمسلم ما دام محافظا على نصوص دينه لا يخل بواحد منها، مع احترامه لرسوله المفسر لكتابه لا يخرج من جماعة المسلمين لمخالفته سواه. فإذا تحكم الرأى والهوى ولعن بعضهم بعضا، وكفر بعضهم بعضا، فقد باء بها من قالها كما ورد فى الحديث. وكذلك الحال فى الاختلاف فى المعاملة فى المسائل السياسية والدينية، لا ينبغى أن يكون مفرقا بين جماعة المؤمنين، بل عليهم أن يرجعوا فى النزاع إلى حكم الله وآراء أولى العلم منهم، وبذلك نتقى غائلة الخلاف، ونكون فى وفاق، ونصير ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 109] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأمة: الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم، ووحدة يكونون بها كالأعضاء فى بنية الشخص، والخير: ما فيه صلاح الناس فى الدين والدنيا، والمعروف: ما استحسنه الشرع والعقل، والمنكر ضده، وابيضاض الوجوه: عبارة عن المسرة، واسودادها: عبارة عن المساءة، وعلى هذا جاء قوله: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» . بالحق: أي بالأمر الذي له ثبوت وتحقق ولا مجال فيه للشبهات، والظلم لغة وعرفا: وضع الشيء فى غير موضعه، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه. المعنى الجملي بعد أن أمر الله سبحانه المؤمنين فيما سلف بتكميل أنفسهم وتزكيتها مما يشوبها من الأدناس والأرجاس، بالعمل بتقوى الله، والمحافظة على إخلاص الوجه له حتى الممات، والاعتصام بحبله المتين باتباع كتابه، والجري على سنة رسوله، إذا اختلفت الأهواء، وتضاربت الآراء. أمرهم هنا بتكميل غيرهم من أفراد الأمة، وحثهم على اتباع أوامر الشريعة، وترك نواهيها، تثبيتا لهم جميعا على مراعاة ما فيها من الأحكام، والمحافظة على ما فيها من الشرائع والنواميس، وأن يكون فى نفوس أفرادها من حب الخير والحدب على ما فيه المصلحة لمجموعها، ما يكون لحب الفرد لمصلحته، وبذا تكون بينهم رابطة تجمعهم فى طلاب الخير لهم جميعا، حتى تكون الأمة كأنها جسد واحد كما ورد

الإيضاح

فى الحديث «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» رواه مسلم. وروى البخاري وغيره حديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» . والحفاظ لوحدة الأمة، ومناط بقاء جامعتها- أمر بعض أفرادها بعضا بالاستمساك بالخير، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. الإيضاح (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ولتكن منكم طائفة متميزة تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. والمخاطب بهذا هم المؤمنون كافة فهم مكلفون بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل فى إيجادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة، حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافا أرجعوها إلى الصواب. وقد كان المسلمون فى الصدر الأول على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة، فقد خطب عمر على المنبر، وكان مما قال: إذا رأيتم فىّ اعوجاجا فقوّموه، فقام أحد رعاة الإبل وقال: لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بسيوفنا. وكان الخاصة من الصحابة متكاتفين فى أداء هذا الواجب، يشعر كل منهم بما يشعر الآخر من الحاجة إلى نشر لواء الإسلام وحفظه، ومقاومة كل من يمس شيئا من عقائده وآدابه، وأحكامه ومصالح أهله، وكان سائر المسلمين تبعا لهم. ويجب فيمن يقوم بهذه الدعوة شروط، ليؤدى وظيفته خير الأداء، ويكون مثلا صالحا يحتذى به فى علمه وعمله: (1) أن يكون عالما بالقرآن والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضى الله عنهم.

(2) أن يكون عالما بحال من توجه إليهم الدعوة فى شئونهم واستعدادهم وطباعهم وأخلاقهم، أي معرفة أحوالهم الاجتماعية. (3) أن يكون عالما بلغة الأمة التي يراد دعوتها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة بتعلم العبرية لحاجته إلى محاورة اليهود الذين كانوا يجاورونه، ومعرفة حقيقة حالهم. (4) معرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم، وبذلك يتيسر له معرفة ما فيها من باطل، فإن الإنسان إن لم يتبين له بطلان ما هو عليه، لا يلتفت إلى الحق الذي عليه غيره وإن دعاه إليه. وعلى الجملة فلا يقوم بهذه الدعوة إلا خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام، وحكمة التشريع وفقهه، وهم الذين أشار إليهم الكتاب الكريم بقوله: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» . وهؤلاء يقومون بتطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد فى كل زمان ومكان على مقدار علمهم فى المساجد والمعابد والمنتديات العامة، وفى المحافل عند سنوح الفرصة. فإذا هم فعلوا ذلك كثر فى الأمة الخير، وندر فيها وقوع الشر، وائتلفت قلوب أهليها، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وسعدوا فى دنياهم وآخرتهم. وأمة هذه حالها تسود غيرها من الأمم باجتماع كلمتها، واتفاق أهوائها، إذ لا مطمح لها إلا رفعة شأن دينها، وعزة أبنائها، وسيادتها العالم كله. ولن يتم ذلك إلا إذا أعد أهلها للأمر عدّته، وكمّلوا أنفسهم بالمعارف والعلوم التي تحتاج إليها الأمم التي تبغى السعادة والرقىّ، وتختلقوا بفاضل الأخلاق، وحميد الصفات، حتى يكونوا مثلا عليا تحتذى، ويشار إليهم بالبنان وإن ما أودع فى ديننا من هذا، وما خلّفه لنا السلف الصالح من الكنوز والثروة العلمية، فيه غنية

لمن يريد الخير والفلاح، وقد روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن خير الناس؟ فقال: آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم» . وعنه أنه قال: «والذي نفسى بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجاب لكم» . وعن علىّ كرم الله وجهه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومن غضب لله غضب الله له. وبعد أن أمر سبحانه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، بيّن ما يجب أن تكون عليه الأمة الداعية، الآمرة الناهية، من وحدة المقصد، واتحاد الغرض، لأن الذين سبقوهم من الأمم لم يفلحوا لاختلاف نزعاتهم، وتفرق أهوائهم، لأن كلا منهم يذهب إلى تأييد رأيه، وإرضاء هواه. أما المتفقون فى القصد، فاختلافهم فى الرأى لا يضيرهم، بل ينفعهم إذ هو أمر طبيعى لا بد منه لتمحيصه، وتبين وجوه الصواب فيه، ومن ثم قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي ولا تكونوا كأهل الكتاب الذين تفرقوا فى الدين وكانوا شيعا، تذهب كل شيعة منها مذهبا يخالف مذهب الآخر، وتنصر مذهبها وتدعو إليه، وتخطّىء ما سواه، ولذا تعادوا واقتتلوا. ولو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعتصم بحبل الله وتتجه إلى غاية واحدة لما تفرقوا ولا اختلفوا فيه، ولما تعددت مذاهبهم فى أصوله وفروعه، وما قاتل بعضهم بعضا- فلا تكونوا مثلهم فيحل بكم ما حل بهم. وبعدئذ ذكر عاقبة المختلفين وعظيم نكالهم فقال: (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهذا العذاب يشمل خسران الدنيا، وخسران الآخرة، أما فى الدنيا فلأن بأسهم يكون بينهم شديدا، فيشقى بعضهم ببعض، ويبتلون بالأمم التي تطمع فى الضعفاء، وتذيقهم الخزي والنكال، وأما فى الآخرة فعذاب الله أشد وأبقى.

وهذا الوعيد فى الآية يقابل الوعد فى الآية قبلها وهو قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيرى الدنيا والآخرة. ثم ذكر زمان ذلك العذاب فقال: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) أي واذكروا يوم تبيض وجوه وتسر لما تعلم من حسن العاقبة، وتسودّ وجوه لما ترى من سوء العاقبة، وما يحل بها من النكال والوبال. ونحو الآية قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ» وقوله: «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً» وقوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» وفى الحديث «إن أمتى يحشرون غرّا محجلين من آثار الوضوء» . واستعمال البياض فى السرور، والسواد فى الحزن عرف شائع لدى كل ناطق بالضاد، ولا سيما وصف الكاذب بسواد الوجه كما قال شاعرهم: فتعجبوا لسواد وجه الكاذب والخلاصة- إن هؤلاء المختلفين المتفرقين لهم عذاب عظيم فى هذا اليوم كما تظاهرت على ذلك الآيات والأحاديث، كما يكون لهم مثل ذلك فى الدنيا، إذ هم لاختلاف مقاصدهم لا يتناصرون ولا يتعاونون، ولا يأبهون بالأعمال التي فيها شرف الملة، وعز الأمة، فتسودّ وجوههم بالذل والكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم، وعواقب تفرقهم واختلافهم، بقهر الغاصب لهم، وانتزاعه السلطة من أيديهم، والتاريخ والمشاهدة شاهدا صدق على هذا. أما المتفقون الذين اعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة لخير الأمة وعزها، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر، وناصرا له، فأولئك تبيض وجوههم وتتلألأ بهجة وسرورا حين تظهر لهم آثار اتفاقهم واعتصامهم، بوجود السلطان والعزة والشرف، وارتفاع المكانة بين الأمم. ثم فصل سبحانه أحوال الفريقين فقال:

(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ؟) أي فأما الذين تفرقوا واختلفوا فاسودت وجوههم فيقال لهم هذا القول فى الدنيا والآخرة. أما فى الدنيا فلا بد أن يوجد فى الناس من يقول للأمة التي وقع فيها هذا الاختلاف- مثل هذا القول تغليظا لها لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين، وأما فى الآخرة فيوبخهم الله تعالى بمثل هذا السؤال. وقد جرى عرف القرآن أن يعدّ المتفرقين فى الدين من الكفار والمشركين كما جاء فى قوله: «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» . كذلك يعد الخروج عن مقاصد الدين الحقيقية من الكفر، لأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وهو ذو شعب كثيرة من أجلّها تحرى العدل، واجتناب الظلم، فمن استرسل فى الظلم كان كافرا كما قال تعالى: «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» . وكذلك من ترك الاتحاد والوفاق والاعتصام بحبل الدين كان من الكافرين بعد الإيمان. (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأما الذين ابيضت وجوههم باتحاد الكلمة، وعدم التفرق فيكونون فى الدنيا خالدين فى النعمة ماداموا على تلك الحال، وخلودهم فى الرحمة فى الآخرة أظهر. (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي هذه الآيات نتلوها عليك مقررة ما هو الحق الذي لا مجال للشبهة فيه، فلا عذر لمن ذهب فى الدين مذاهب شتى، واتبع سنن السابقين، وجعل القرآن عضين. فعلينا أن نستمسك بما به أمر ووعد عليه بالفوز والنجاح، ونترك ما عنه نهى

[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 إلى 112]

وأوعد عليه بالعذاب الأليم، حتى نكون أمة متفقة المقاصد، متحدة فى الدين فنجمع بين سعادتى الدنيا والآخرة. (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) أي إن كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه فإنما يريد به هدايتهم إلى ما يكمل فطرتهم، ويتم به نظام جماعتهم، فإذا هم فسقوا عن أمره حل بهم البلاء وكانوا هم الظالمين لأنفسهم، بتفرقهم واختلافهم، إلى نحو ذلك من الذنوب التي تفسد نظم المجتمع وتجعل أهله فى شقاء. ولا يحل عذاب بأمة إلا بذنب فشا فيها فزحزحها عن الصراط المستقيم كما قال: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» . ثم ذكر ما هو كالبرهان لنفى الظلم عنه تعالى فقال: (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إنه تعالى مالك العباد والمتصرف فى شئونهم بحسب سننه الحكيمة التي لا تغيير فيها ولا تبديل كما قال: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» وليس من أسباب ملكه شىء ناقص يحتاج إلى تمام فيتممه بظلم غيره، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. ولأن الظلم ينافى الحكمة والكمال فى النظام وفى التشريع. ومن حمل عبيده أو دوابه ما لا تطيق يقال إنه ظلمها، ومن نقص امرأ حقه فقد ظلمه، قال تعالى: «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» . وعلى الجملة- فالظلم الذي ينفيه تعالى عن نفسه هو ما ينافى مصلحة العباد وهدايتهم لسعادة الدنيا والآخرة، وبعبارة أخرى هو ما يخالف النظام والإحكام. [سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)

تفسير المفردات

تفسير المفردات كنتم: أي وجدتم وخلقتم، أخرجت: أي أظهرت حتى تميزت وعرفت، والأذى: الضر اليسير، يولوكم الأدبار: أي ينهرموا، والذلة هى الذل الذي يحدث فى النفوس من فقد السلطة، وضربها عليهم هو إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم، كما يكون من ضرب السكة بما ينقش فيها، وثقفوا وجدوا، والحبل: العهد، وباءوا: أي لبثوا وحلوا فيه، من المباءة وهو المكان، ومنه تبوأ فلان منزل كذا، وبوأته إياه، والاعتداء: تجاوز الحد. المعنى الجملي بعد أن أمر عز اسمه عباده المؤمنين بالاعتصام بحبله، وذكرهم بنعمته عليهم، بتأليف قلوبهم بأخوّة الإسلام، وحذّرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب فى التمرد والعصيان، وتوعد على ذلك بالعذاب الأليم، واستطرد بين ذلك بذكر من يبيض وجهه ومن يسودّ، وبذكر شىء من أحوال الآخرة. أردف ذلك ذكر فضل المتآخين فى دينه، المعتصمين بحبله، ليكون هذا باعثا لهم على الانقياد والطاعة، إذ كونهم خير الأمم مما يقوّى داغيتهم فى ألا يفوّتوا على أنفسهم هذه المزية، وإنما يكون ذلك بالمحافظة على اتباع الأوامر وترك النواهي

الإيضاح

الإيضاح (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) أي أنتم خير أمة فى الوجود الآن، لأنكم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون إيمانا صادقا يظهر أثره فى نفوسكم، فيزعكم عن الشر، ويصرفكم إلى الخير، وغيركم من الأمم قد غلب عليهم الشر والفساد، فلا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، ولا يؤمنون إيمانا صحيحا. وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أوّلا، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل، فهم الذين كانوا أعداء، فألف بين قلوبهم، واعتصموا بحبل الله جميعا، وكانوا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخاف ضعيفهم قويّهم، ولا يهاب صغيرهم كبيرهم، وملك الإيمان قلوبهم ومشاعرهم، فكانوا مسخرين لأغراضه فى جميع أحوالهم. وهذا الإيمان هو الذي قال الله فى أهله «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» وقال فيهم أيضا «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . وما فتئت هذه الأمة خير الأمم حتى تركت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما تركتهما إلا باستبداد الملوك والأمراء من بنى أمية ومن حذا حذوهم. وأول من اجترأ منهم على إعلان هذه المعصية عبد الملك بن مروان حين قال على المنبر: من قال لى اتق الله ضربت عنقه وما زال الشر يزداد، والأمر يتفاقم حتى سلبت هذه الأمة أفضل مالها من مزية فى دينها ودنياها بعد الإيمان، وهى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

ومما سلف تعلم أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو سبب الفضيلة، كما تقول: محمد كريم، يطعم الناس ويكسوهم، ويعنى بشئونهم. وهذه الصفات وإن شاركتها فيها سائر الأمم، فهى لم تكن فيها على الوجه الذي لهذه الأمة، فالأمر بالمعروف كان فيها على آكد وجوهه، وهو القتال إذا دعت إليه الحاجة، وقد يحصل بالقلب واللسان، ولكن أقواه ما كان بالقتال لأنه إلقاء للنفس فى خطر الهلاك. وأعظم المعروفات الدين الحق، والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، ومن كان فرض الجهاد فى الدين يحمّل الإنسان أعظم المضار لإيصال غيره إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم الشرور، لهذا كان عبادة من العبادات، بل كان أجلّها وأعظمها، وهو فى ديننا أقوى منه فى سائر الأديان. لا جرم كان ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا ما عناه ابن عباس بقوله فى تفسير هذه الآية أي تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف، والتكذيب أنكر المنكرات. والخلاصة- إن هذه الخيرية لا تثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة، فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية، ومن ثم أكد الأمر بهذه الفريضة فى آيات هذه السورة بما لم يعرف له نظير فى الكتب السابقة. وقدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان بالله فى الذكر، مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات، لأنهما سياج الإيمان وحفاظه، فكان تقديمهما فى الذكر موافقا للمعهود عند الناس فى جعل سياج كل شىء مقدما عليه. (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولو آمنوا إيمانا صحيحا يستولى على النفوس، ويملك أزمة القلوب، فيكون مصدر الفضائل والأخلاق الحسنة، كما تؤمنون- لكان ذلك خيرا لهم مما يدّعونه من إيمان لا يزع النفوس عن

الشرور، ولا يبعدها عن الرذائل، إذ هو لم يؤت ثمرات الإيمان الصحيح الذي يحبه الله ورسوله، ولا كان أثرا من آثاره الأمر بالمعروف ولا النهى عن المنكر. وبهذا تعلم أن الإيمان المنفي عنهم إيمان خاص له تلك الآثار التي تقدمت، لا الإيمان الذي يدعيه كل من له دين وكتاب، كما أنه إنما نفاه عن أكثر أفراد الأمة، وأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن حقيقة الدين، ولم يبق عندهم إلا بعض الرسوم والتقاليد الظاهرة- لا عن جميعها، إذ لا تخلو أمة ذات دين سماوى من هذا الإيمان، ومن ثمّ قال: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي منهم المؤمنون المخلصون فى عقائدهم وأعمالهم كعبد الله بن سلام ورهطه من اليهود، والنجاشي ورهطه من النصارى، وأكثرهم فاسقون عن دينهم متمردون فى الكفر. وما من دين إلا يوجد فيه الغالون والمعتدلون والمفرّطون المائلون إلى الفسوق والعصيان. ويكثر الاستمساك بالدين فى أوائل ظهوره، كما يكثر الفسق بعد طول الأمد عليه، كما قال تعالى: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» . ولم يحكم الدين على أمة حكما عاما بالفسق والضلال، بل تارة يعبر بالكثير، وأخرى بالأكثر كقوله فى بنى إسرائيل «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» وقوله فى النصارى واليهود «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ» . وعلى الجملة فالقرآن إذا عرض لوصف الأمم وبيان عقائدها وأخلاقها، وزن ذلك بميزان دقيق يتحرى فيه ذكر الحقيقة مجردة عن كل مغالاة أو مبالغة بما لم يعهد مثله فى كتاب آخر.

فلو تصفحنا الأحكام التي حكم بها على أهل الكتاب، وعرضناها على علمائهم وفلا سفتهم ومؤرخيهم لقالوا: إنها الحق الصّراح. (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي إن هؤلاء الفاسقين لا يقدرون على إيقاع الضرر بكم بل غاية جهدهم أن يؤذوكم بالهجو القبيح، والطعن فى الدين، وإلقاء الشبهات وتحريف النصوص، والخوض فى النبي صلى الله عليه وسلم. (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي وإن يقابلوكم فى ميدان القتال ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشىء، والمنهزم من شأنه أن يحوّل ظهره إلى جهة مقاتله ويستدبره فى هربه منه، فيكون قفاه إلى وجه من انهزم منه. (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي ثم إنهم لا ينصرون عليكم أبدا ماداموا على فسقهم، ودمتم على خيريتكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. وفى الآية ثلاث بشارات من أخبار الغيب تحققت كلها، وقد صدق الله وعده. ومما سبق تعلم أن هذا الحكم إنما يثبت لهم إذا حافظوا على نصر الله بنصر دينه كما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» وكما قال فى وصف المؤمنين المجاهدين «الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ» . (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي إنهم ألزموا الذلة فلا خلاص لهم منها، فحالهم معكم أنهم أذلاء مهضومو الحقوق رغم أنوفهم، إلا بعهد من الله وهو ما قررته الشريعة إذا دخلوا فى حكمها من المساواة فى الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء، وعهد من الناس، وهو ما تقتضيه المشاركة فى المعيشة، من احتياجهم إليكم واحتياجكم إليهم فى بعض الأمور، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن معاملتهم ويقترض منهم، وكذلك الخلفاء الراشدون. والخلاصة- إن هؤلاء لا عزة لهم فى أنفسهم، لأن السلطان والملك قد فقدا

منهم. وإنما تأتيهم العزة من غيرهم بهذين العهدين: العهد الذي قرره الله، والعهد الذي تواطأ عليه الناس. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي وصاروا مستحقين غضب الله مستوجبين سخطه، وأحاطت بهم المسكنة والصّغار، فهم تابعون لغيرهم يؤدون ما يضرب عليهم من المال وادعين ساكنين. وهذا الوصف صادق على اليهود إلى اليوم فى كل بقاع الأرض. وقد ارتفع الذل عنهم فى بلاد الإسلام بحبل من الله، وهو ما ذكرناه فيما سلف من وجوب معاملتهم بالمساواة واحترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم والتزام حمايتهم والذّود عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقين، وبحبل من الناس كما تقدم بيانه. وأما ارتفاع المسكنة بأن يكون لهم ملك وسلطان يوما ما، فالقرآن ينفيه عنهم، لأنه لم يستثن من ذلك شيئا، كما استثنى فى الذلة، فاقتضى بقاء ذلك عليهم إلى الأبد لكنهم يقولون إنهم مبشرون بظهور مسيح (مسيا) فيهم ومعناه ذو الملك والشريعة، والنصارى يقولون: إن هذا الموعود به هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، والمراد بالملك الملك الروحاني. والخلاصة: إنهم متفرقون فى أقطار الأرض على قلتم، منصرفون عن فنون الحرب وأعمالها، بعيدون عن الزراعة ومتعلقاتها، لعنايتهم بجمع المال من أيسر سبله، وأكثرها نماء، وأقلها تعبا وعناء، وهو الربا. وقد ذكر الله سبب ذلك وعلته فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، واستحقاقهم للغضب الإلهى بسبب كفرهم، وقتلهم النبيين بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم. وفى النص على أن ذلك بغير حق مع أنه لن يكون إلا كذلك تشنيع عليهم،

[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 إلى 115]

وإثبات لأن ذلك حدث عن عمد لا عن خطا، ثم أشار إلى سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال: (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي إنه ما جرأهم على ذلك إلا سبق المعاصي، واعتداؤهم على حدود الله، والاستمرار على الصغائر يفضى إلى الوقوع فى الكبائر. فمن جعلها ديدنا له واتخذها عادة وصل به ذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء المرشدين وقتل الأنبياء، وإن كان لم يصدر من اليهود الذين كانوا فى عصر التنزيل، بل كان من أسلافهم، لكنهم لما كانوا راضين به مصوّبين له نسب إليهم، إذ صار خلقا لهم يتوارثه الخلف عن السلف، والأبناء عن الآباء. والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيها، وإن ظهر بعض آثاره فى زمن دون آخر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) تفسير المفردات يقال فلان وفلان سواء: أي متساويان، ويستعمل للواحد والمثنى والجمع فيقال هما سواء، وهم سواء، وقائمة: أي مستقيمة عادلة، من قولك أقمت العود فقام: أي استقام، والتلاوة القراءة وأصلها الإتباع، فكأنها إتباع اللفظ اللفظ، وآيات الله: هى القرآن والآناء: الساعات، واحدها أنى كعصا أو أنى كظبى أو إنو كجرو، ويسجدون: أي يصلون، والمسارعة فى الخير: فرط الرغبة فيه، فلن يكفروه: أي يمنعوا ثوابه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن وصف سبحانه أهل الكتاب فيما تقدم بذميم الصفات، وقبيح الأعمال وذكر الجزاء الذي استحقوه بسوء عملهم، أعقبه ببيان أنهم ليسوا جميعا على تلك الشاكلة، بل فيهم من هو متصف بحميد الخلال وجميل الصفات. الإيضاح (لَيْسُوا سَواءً) أي ليس أهل الكتاب متساوين فى تلك الصفات القبيحة، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون، وهذه الجملة كالتأ كيد لتلك. وبعد أن وصف الفاسقين وذكر سوء أعمالهم- وصف المؤمنين ومدحهم بثمانية أوصاف كل منها منقبة ومفخرة يستحق فاعلها الثواب عليها: 1- (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي منهم جماعة مستقيمة على الحق، متبعة للعدل، لا تظلم أحدا، ولا تخالف أمر الدين، وكان من تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة، إلا أن العرب قد تذكر أحد الضدين وتستغنى به عن ذكر الآخر كما قال الشاعر: دعانى إليها القلب إنى لأمرها ... مطيع فما أدرى أرشد طلابها يريد أم غىّ. وهذه الجملة مبينة لعدم التساوي مزيلة لإبهامه. والمراد بهذه الأمة جماعة من اليهود أسلموا كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضرابهم كما رواه ابن جرير عن ابن عباس، وقال فى تفسير الآية: الأمة القائمة أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. وروى عن قتادة أنه كان يقول فى الآية: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية.

وهذه الآية حجة على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن من أخذه مذعنا، وعمل به مخلصا، وأمر بمعروف ونهى عن منكر فهو من الصالحين. كما أن فيها استمالة لأهل الكتاب، وتقديرا للعدل الإلهى، وقطعا لاحتجاج من يعرفون الإيمان والإخلاص، إذ لولا هذا النص لكان لهم أن يقولوا: لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين. واستقامة بعضهم على الحق من دينهم لا ينافى ضياع بعض كتبهم، وتحريف بعضهم لما فى أيديهم منها، ألا ترى أن من يحفظ بعض الأحاديث ويعمل بما علم، ويستمسك به مخلصا فيه- يقال إنه قائم بالسنة عامل بالحديث. 2، 3- (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي يتلون القرآن بالليل وهم يصلون متهجدين، وخص السجود بالذكر من بين أركان الصلاة لدلالته على كمال الخضوع والخشوع. 4، 5- (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يؤمنون إيمان إذعان بهما على الوجه المقبول عند الله، ومن ثمرات ذلك الخشية والخضوع والاستعداد لذلك اليوم، لا إيمانا لا حظّ لصاحبه منه إلا الغرور والدعوى، كما هو حال سائر اليهود، إذ يؤمنون بالله واليوم الآخر، لكنه إيمان هو والعدم سنواء، لأنهم يقولون عزيز ابن الله، ويكفرون ببعض الرسل، ويصفون اليوم الآخر بخلاف صفته. ولما كان كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير للعمل به، وكان أفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الأذكار ذكر الله، وأفضل العلوم معرفة المبدإ والمعاد- وصفهم الله بقوله: (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ) للدلالة على أنهم يعملون صالح الأعمال، وبقوله: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) للإشارة إلى فضل المعارف الحاصلة فى قلوبهم. 6- (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي إنهم بعد أن كملوا أنفسهم علما وعملا كما تقدم، يسعون فى تكميل غيرهم إما بإرشادهم إلى ما ينبغى بأمرهم بالمعروف، أو بمنعهم عما لا ينبغى بالنهى عن المنكر.

وفى هذا تعريض باليهود المداهنين الصادّين عن سبيل الله. 7- (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي ويعملون صالح الأعمال راغبين فيها غير متثاقلين علما منهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها، وإنما يتباطأ الذين فى قلوبهم مرض، كما وصف الله المنافقين بقوله: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ» . وهذه الصفة جماع الفضائل الدينية والخلقية، وفى ذكرها تعريض باليهود الذين يتثاقلون عن ذلك. وعبر بالسرعة ولم يعبر بالعجلة، لأن الأولى التقدم فيما ينبغى تقديمه وهى محمودة، وضدها الإبطاء، والثانية التقدم فيما لا ينبغى أن يتقدم فيه، ومن ثم قال عليه السلام «العجلة من الشيطان، والتأنّى من الرحمن» وضدها: الأناة، وهى محمودة. 8- (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وهؤلاء الذين اتصفوا بجليل الصفات من الذين صلحت أحوالهم، وحسنت أعمالهم، فرضيهم ربهم، وفى هذا رد على اليهود الذين قالوا فيمن أسلم منهم: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره. والوصف بالصلاح هو غاية المدح، ونهاية الشرف والفضل، فقد مدح الله به أكابر الأنبياء كإسماعيل وإدريس وذى الكفل فقال: «وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» وقال حكاية عن سليمان: «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» . ولأنه ضد الفساد، وهو ما لا ينبغى فى العقائد والأفعال، فهو حصول ما ينبغي فى كل منهما، وذلك منتهى الكمال، ورفعة القدر، وعلوّ الشأن. (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي وما يفعلوا من الطاعات فلن يحرموا ثوابه ولن يستر عنهم كأنه غير موجود. ولما سمى الله إثابته للمحسنين شكرا فى قوله: «فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً»

[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 إلى 117]

وسمى نفسه شاكرا فى قوله: «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» حسن أن يعبر عن عدم الإثابة بالكفر. وهذه الجملة جاءت ردا على اليهود الذين قالوا لمن أسلم منهم: أنتم خسرتم بسبب هذا الإيمان، وإشارة إلى أنهم فازوا بالسعادة العظمى، والدرجات العليا. وفيها تعظيم لهم ليزيل من صدورهم أثر كلام أولئك الأوغاد. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) فهو يجزى العاملين بحسب ما يعلم من أحوالهم، وما تنطوى عليه سرائرهم. فمن كان إيمانه صحيحا واتقى الله فاز بالسعادة. وهذا كالدليل على ما قبله، لأن عدم الإثابة إما للسهو والنسيان، وإما للجهل، وذلك ممتنع فى حقه، لأنه عليم بكل شىء، وإما للعجز أو البخل أو الحاجة، وكل ذلك محال عليه، لأنه خالق جميع الكائنات، وهو القادر على كل شىء. ولما انتفى كل هذا كان المنع من الجزاء محالا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) تفسير المفردات لن تغنى: أي لن تجزىء وتنفع، ومثل الشيء: مثله وشبهه، والصرّ (بالكسر) والصرة: البرد الشديد.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فيما سلف أحوال الكافرين، وما يحيق بهم من العقاب، وأحوال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب، جامعا بين الزجر والترغيب، والوعد والوعيد، ثم وصف من آمن من الكفار بتلك الخلال الحسنة، والمفاخر التي عددها لهم- أتبع ذلك بوعيد الكفار وتيئيسهم بأنهم لن يجدوا يوم القيامة ما يدفع عنهم عذابه، ثم أردفه ببيان أن ما ينفقونه فى هذه الحياة الدنيا، فى لذاتهم وجاههم وتأييد كلمتهم لا يفيدهم شيئا، كزرع أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته، فلم يستفد أصحابه منه شيئا. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي إن الذين كفروا من أهل الكتاب ومشركى مكة وغيرهم ممن كانوا يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالفقر، ويقولون: لو كان محمد على الحق ما تركه ربه فى هذا الفقر الشديد، ويتفاخرون بكثرة الأموال والأولاد كما حكى الله عنهم: «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» لن تنفعهم هذه الأموال والأولاد يوم القيامة، وافتصر على ذكرهما، لأنهما من أعظم النعم، ومن كان يرتع فى بحبوحة هذه النعم، فقلّما يوجه نظره إلى طلب الحق، أو يصغى إلى الداعي إليه، ومن ثم تراه يتخبط فى ظلام دامس حتى يتردى فى الهاوية، ويقع فى المهالك، ولا ينفعه مال ولا ولد «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ» ، يوم يوضع الميزان، ويحاسب كل امرئ على النقير والقطمير. ونحو الآية قوله: «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» وقوله: «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ» وقوله: «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى» .

(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الملازمون للنار لا ينفكون عنها، لأن ظلمة أرواحهم، وفساد عقائدهم، وسوء أعمالهم، اقتضت خلودهم فى تلك الهاوية المظلمة المستعرة التي وقودها الناس والحجارة، قد أعدت لكل من جحد بآيات ربه، وأعرض عن دعوة أنبيائه ورسله، ولم يصغ إلا لداعى الهوى والشهوات. وبعد أن أبان أن أموالهم لا تغنى عنهم شيئا، ذكر أن ما ينفقونه من المال فى سبل الخير لا يجديهم ليزيل ما ربما علق بالبال من أنهم ينتفعون به، وضرب لذلك مثلا فقال: َثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) أي إن ما ينفقونه فى اللذات، ونشر الصيت، واكتساب الشهرة، وتأييد الكلمة، فيصدهم عن سبيل الله، ويفسد عقولهم وأخلاقهم التي هى عماد المنافع، كمثل ريح باردة أصابت حرث قوم فأهلكته. وخلاصة ذلك- أن حالهم فيما ينفقون وإن كان فى الخير كحال الريح الشديدة البرد التي تهلك الزرع، فهؤلاء لا يستفيدون من نفقتهم شيئا، كما أن أصحاب ذلك الزرع كذلك. فهم إذا أنفقوا أموالهم فى بناء الحصون والقلاع لصد العدو، وإقامة القناطر لحفظ المياه وأمن الطريق، وفى الإحسان إلى الضعفاء واليتامى وذوى الحاجات، ورجوا من ذلك الثواب الجزيل، ثم قدموا إلى الآخرة ورأوا كفرهم قد أبطل آثار ذلك الخير، كانوا كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا، فأصابته ريح فأحرقته، فلا يبقى له إلا الحسرة والندامة، ونحو الآية قوله: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» وقوله: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» . وجماع هذا كله قوله: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» .

ومما سلف تعلم أن هذا المثل ضرب لخيبتهم فى الآخرة، وليس بالبعيد أن يكون أيضا مثلا لخيبتهم فى الدنيا. ذاك أنهم أنفقوا الأموال الكثيرة فى جمع العساكر، وتحملوا المشاق، ثم انقلب الأمر عليهم، فأظهر الله الإسلام وقواه، فلم يبق للكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة. وقد جعل الله هذا الحرث لقوم ظلموا أنفسهم، لإفادة أن المنفقين لا يستفيدون منه شيئا، إذ حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بلا منفعة فى الدنيا ولا فى الآخرة. أما حرث المسلم المؤمن فهو وإن ذهب حسا فهو لا يذهب معنى، لما فيه من الثواب بالصبر على ما يصيبه من النكبات والأحزان. والخلاصة- إن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة لهم على ذنوب اقترفوها، إذ لا يستنكر على القادر الحكيم الذي وضع السنن وربط الأسباب بمسبباتها فى عالم الحس، أن يوفق بينها وبين سننه الخفية فى إقامة ميزان القسط بين الناس، لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي تستفاد من النظر والتجربة، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحى الإلهى. ونحن نسمى ما يترتب عليه حدوث الشيء سببا له، وما يلابس السبب من النفع لبعض والضر لآخرين حكمة له، وكل ذلك مقصود للفاعل الحكيم. َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمهم الله بعدم انتفاعهم بنفقاتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم بإنفاق الأموال فى السبل التي تؤدى إلى الخيبة والخسران على النهج الذي سنة الله فى أعمال الإنسان والآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة، أو ينفقه اليهود فى عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ومقاومته، لأنهم هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم، ولم يضروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، بل كان ذلك سبب سيادته عليهم، وتمكنه منهم.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 إلى 120]

وقيل إنها نزلت فيما كان ينفقه المنافقون فى بعض طرق البر رياء وسمعة أو تقيّة. وقيل إن المثل ينطبق على الكافرين الذين ينفقون أموالهم فى طرق البر رغبة فى الخير، لأن شرط الثواب على تلك الأعمال الإيمان، وقد ظلموا أنفسهم بترك النظر فى الدلائل بعد ما ظهرت، أو بالجحود بعد النظر وإقامة الحجة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) تفسير المفردات بطانة الرجل: خاصته الذين يستنبطون أمره، مأخوذة من بطانة الثوب للوجه الذي يلى البدن، ويسمى الوجه الظاهر ظهارة، وهى تستعمل للواحد والجمع مذكرا ومؤنثا، ومن دونكم: أي من غيركم، ويألونكم: من ألا فى الأمر يألو: إذا قصر فيه، ويقال: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، أي لا أمنعك نصحا، ولا أنقصك جهدا، والخبال: النقصان، ومنه رجل مخبول ومخبل ومختبل: إذا كان ناقص العقل، والفساد، ومنه قوله تعالى: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» أي فسادا

المعنى الجملي

وضررا، ووددت كذا: أي أحببته، والعنت: المشقة، والبغضاء: شدة البغض كالضراء شدة الضر، والكتاب هنا: المراد به جنس الكتب كما يقال كثر الدرهم فى أيدى الناس، وعضّ الأنامل: يراد به شدة الغيظ أحيانا، كما يراد به الندم أحيانا أخرى، وذات الصدور: الخواطر القائمة بالقلب، والدواعي التي تدعو إلى الأفعال، أو الصوارف التي تدفعها عنه والمسّ: أصله ما كان باليد كاللمس، ثم سمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا، فقالوا: مسه التعب والنصب قال تعالى: «وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ» وقال: «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ» والحسنة: المنفعة حسية كانت أو معنوية كصحة البدن والفوز بالغنيمة، وأعظمها انتشار الإسلام وحصول الألفة بين المسلمين، والسيئة: الفقر والهزيمة وحصول التفرقة بين الأقارب، من ساء يسوء بمعنى قبح فهو سىء والأنثى سيئة قال تعالى: «ساءَ ما يَعْمَلُونَ» والكيد: الاحتيال لإيقاع غيرك فى مكروه، والمحيط بالشيء: هو الذي يحيط به من كل جوانبه، ويراد به فى حق الله العلم بدقائقه وتفاصيل أجزائه، فلا يعزب عنه شىء منه، قال تعالى: «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» وقال: «وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ» . المعنى الجملي كانت الآيات السالفة حجاجا مع أهل الكتاب والمشركين، وإلزامهم بالحجة، وبيانا لأحوال المؤمنين، وتذكيرا لهم بما يكون من سوء العاقبة يوم القيامة، يوم تبيض وجوه وتسوّد وجوه. والكلام فى هذه الآيات تحذير للمؤمنين من مخالطة الكافرين مخالطة تدعو إلى الإباحة بالأسرار، والاطلاع على شئون المسلمين، مما تقضى المصلحة بكتمانه، وعدم معرفة الأعداء له. ومما دعا إلى هذا النهى أنه كانت بين المؤمنين وغيرهم صلات خاصة تدعو إلى الإباحة بالأسرار إليهم كالنسب والمصاهرة والرضاعة والعهد والمحالفة- إلى أنّ من

الإيضاح

طبيعة المؤمن أن يبنى أمره على اليسر والأمانة والصدق، ولا يبحث عن عيوب غيره. ولكن لما كان همّ المناصبين من أهل الكتاب والمشركين إطفاء نور الدعوة، وإبطال ما جاء به الإسلام، والمسلمون لم يكن لهم غرض إلا نشر هذه الدعوة بسائر الوجوه التي يرونها كفيلة بإعلاء كلمة الدين- اختلف المقصدان، وافترق الغرضان، فلم يكن من الحزم أن يفضى الإنسان بسره إلى عدوه، ويطلعه على خططه التي يدبرها للفوز ببغيته على أكمل الوجوه وأحكمها، وأقربها للوصول إلى الغرض، ومن ثم حذر الله المؤمنين من اطلاع أعدائهم على أسرارهم، لما فى ذلك من تعريض مصلحة الملة للخبال والفساد. أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف فى الجاهلية، فأنزل الله فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواصّ لكم دون المؤمنين، إذا كانوا على تلك الأوصاف التي ذكرت فى هذه الآية: (1) لا يألونكم خبالا: أي لا يقصرون فى مضرتكم، وإفساد الأمر عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. (2) يتمنون ضركم فى دينكم ودنياكم أشد الضرر. (3) يبدون البغضاء بأفواههم، ويظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم، وينسبونكم إلى الحمق والجهل، ومن اعتقد حمق غيره وجهله لا يحبه. (4) ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما فى قلوبهم منه.

فهذه الأوصاف شروط فى النهى عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين، فإذا اعتراها تغيّر وتبدل كما وقع من اليهود، فبعد أن كانوا فى صدر الإسلام أشد الناس عداوة للذين آمنوا- انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين فى فتوح الأندلس، وكما وقع من القبط إذ صاروا عونا للمسلمين على الروم فى فتح مصر- فلا يمتنع حينئذ اتخاذهم أولياء وبطانة للمسلمين، فقد جعل عمر بن الخطاب رجال دواوينه من الروم، وجرى الخلفاء من بعده على ذلك، إلى أن نقل عبد الملك بن مروان الدواوين من الرومية إلى العربية. وعلى هذه السنة جرى العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين فى نوط أعمال الدولة باليهود والنصارى حتى العصر الحاضر، فإن كثيرا من سفراء الدولة العثمانية ووكلائها من النصارى. ومع كل هذا يرمينا الأجانب بالتعصب، ويقولون: إن الإسلام لا تساهل فيه. وهذا النهى المقيد بتلك الأوصاف شبيه بالنهى عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء فى قوله: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» . (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو، ومن يصح أن يتخذ بطانة، ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته، وسوء عاقبة مباطنته، إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات التي تفرق بين الأعداء والأولياء، وتعلمون قدر مواعظ الله وحسن عواقبها. ثم ذكر نوعا آخر من التحذير عن مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة، وفيه تنبيه لهم على خطئهم فى ذلك، وقد ضمنه أمورا ثلاثة كل منها يستدعى الكفّ عن مخالطتهم.

(1) (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) أي إنكم تحبون هؤلاء الكفار الذين هم أشد الناس عداوة لكم، ولا يقصرون فى إفساد أمركم، وتمنّى عنتكم، ويظهرون لكم العداوة والغش، ويتربصون بكم ريب المنون، فكيف بكم توادونهم وتواصلونهم؟. وحب المؤمنين لهم- وهم على تلك الشاكلة- من أقوى البراهين على أن هذا الدين دين رحمة وتساهل، لا يمكن أن يتصور ما هو أعظم منه فى ذلك. (2) (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي إنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من الكتب، سواء منها ما نزل عليكم وما نزل عليهم، فليس فى نفوسكم جحد لبعض الكتب الإلهية، ولا للنبيين الذين جاءوا بها، حتى يحملكم ذلك على بغض أهل الكتاب- أما هم فيجحدون بعض الكتب وينكرون بعض النبيين. وخلاصة هذا: إنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم، فما بالكم لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم، كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم؟ فأنتم أحرى ببغضهم، ومع هذا تحبونهم ولا يحبونكم. قال ابن جرير: فى الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين، أعنى المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان اه. وقال قتادة: فو الله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى إليه ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه (أفناه وأهلكه) اه. وفى هذا توبيخ للمؤمنين بأنهم فى باطلهم أصلب منكم فى حقكم. ونحو الآية قوله: «فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ» (3) (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) أي وإذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألانوا لهم القول حذرا على أنفسهم منهم، فقالوا: آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا هم صاروا فى خلاء حيث لايراهم المؤمنون أظهروا شدة العداوة والغيظ منهم،

حتى ليبلغ الأمر إلى عضّ الأنامل كما يفعل أحدنا إذا اشتد غيظه، وعظم حزنه على فوات مطلوبه. وإنما فعلوا ذلك لما رأوا من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم، ونصر الله إياهم حتى عجز أعداؤهم أن يجدوا سبيلا إلى التشفي منهم، فاضطروا إلى مداراتهم. (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) هذا دعاء عليهم بازدياد الغيظ حتى يهلكوا، كقولهم: دم بعزّ، وبت قرير عين، ونحو ذلك، والمراد بذلك ازدياد قوة الإسلام وعزّ أهله. وفى هذا عبرة للمسلمين لعلهم يتذكرون، فيعلموا أن ما حل بهم من الأرزاء ما كان إلا بزوال هذا الاجتماع، والتفرق بعد الاعتصام. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما تنطوى عليه صدوركم من البغضاء والحقد والحسد، ولا يخفى عليه ما تقولون فى خلواتكم، وما يبديه بعضكم لبعض من تدبير المكايد ونصب الحيل للمؤمنين، وما تنطوى عليه صدور المؤمنين من حب الخير والنصح لكم، ويجازى كلّا على ما قدم من خير أو شر، واعتقد من إيمان أو كفر. (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) أي إذا نالكم خير كانتصاركم على أعدائكم المقاومين لدعوتكم، ودخول الناس فى دين الله أفواجا أحزنهم ذلك وعزّ عليهم. وإن نالتكم مساءة كالإخفاق فى حرب، أو إصابة عدوّ لكم، أو حدوث اختلاف بين جماعتكم فرحوا بذلك. قال قتادة فى بيان ذلك: فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرّهم ذلك، وأعجبوا به وابتهجوا، وهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته، وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، وذلك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة اه.

(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي وإن تصبروا على مشاق التكاليف فتمتثلوا الأوامر، وتتقوا كل ما نهيتم عنه وحظر عليكم- ومن ذلك اتخاذ الكافرين بطانة- فلا يضركم كيدهم، لأنكم قد وفيتم لله بعهد العبودية، فهو يفى لكم بحق الربوبية، ويحفظكم من الآفات والمخافات كما قال سبحانه: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» . قال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فاجتهد فى اكتساب الفضائل. وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الصبر فى كل مقام يشق على النفس احتماله، ولا شك أن حبس الإنسان سره عن وديده وعشيره، ومعامله وقريبه مما يشق عليه، فإن من لذات النفوس أن تفضى بما فى الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به. ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من دونهم من خلطائهم وعشرائهم وحلفائهم لما بدا منهم من البغضاء والحسد- حسن أن يذكّرهم بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم، واتقاء ما يجب اتقاؤه للسلامة من عواقب كيدهم. وفى الآية عبرة للمسلمين فى معاملة الأعداء، فإن الله أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكافرين، واتقاء شرهم، ولم يأمرهم بمقابلة الشر بمثله، إذ من دأب القرآن ألا يأمر إلا بالمحبة والخير، ودفع السيئة بالحسنة كما قال: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» . فإن تعذر تحويل العدو إلى محب، بدفع سيئاته بما هو أحسن منها- جاز دفع السيئة بمثلها من غير بغى، كما فعل النبىّ صلى الله عليه وسلم مع بنى النّضير، فإنه حالفهم ووادّهم، فنكثوا العهد وخانوا، وأعانوا عليه عدوه من قريش وسائر العرب، وحاولوا قتله، فلم يكن هناك وسيلة لعلاجهم إلا قتالهم وإجلاؤهم من ديارهم. (إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عالم بعمل الفريقين، ومحيط بأسباب ما يصدر من كل منهما، ومقدماته، ونتائجه وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده،

[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 إلى 129]

فى معاملة أحدهما للآخر، ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه ما يعمله ذلك المحيط بعمله، وعمل من يناهضه، ويناصبه العداوة، فهداية الله للمؤمنين خير وسيلة للوصول إلى أغراضهم ومآربهم. وهذه الجملة كالعلة لكون الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح. وخلاصة المعنى- إن الله قد دلكم على ما ينجيكم من كيد أعدائكم، فعليكم أن تمتثلوا وتعلموا أنه محيط بأعمالهم، وهو القادر على أن يمنعهم مما يريدون بكم، فثقوا به، وتوكلوا عليه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

تفسير المفردات

تفسير المفردات غدا: خرج غدوة- والغدوة والغداة: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس- وتبوىء أي تهيىء وتسوّى، والمقاعد واحدها مقعد: مكان القعود والمراد المواطن والمواقف، والهم: حديث النفس وتوجهها إلى الشيء، والطائفتان الجماعتان: وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار أن تفشلا: أي تضعفا وتجبنا، وليهما: أي ناصرهما، والتوكل: من وكل فلان أمره إلى فلان إذا اعتمد عليه فى كفايته ولم يتوله بنفسه، والأذلة: واحدهم ذليل، وهو من لا منعة له ولا قوة، وقد كانوا قليلى العدة من السلاح والدواب والزاد، والكفاية: سد الحاجة وفوقها الغنى، والإمداد: إعطاء الشيء حالا بعد حال، بلى: كلمة للجواب كنعم، لكنها لا تقع إلا بعد النفي وتفيد إثبات ما بعده، والفور: الحال التي لا بطء فيها ولا تراخى فمعنى من فورهم: أي من ساعتهم بلا إبطاء، ومسومين (بكسر الواو) من قولهم سوّم على القوم: أي أغار عليهم ففتك بهم، وقيل من التسويم بمعنى إظهار سيما الشيء وعلامته: أي معلمين أنفسهم أو خيلهم، وطرفا: أي طائفة وقطعة منهم، ويكبتهم من الكبت: وهو شدة الغيظ، أو الوهن الذي يقع فى القلب. استطراد دعت إليه الحاجة من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها نزلت فى غزوة أحد، فوجب ذكر طرف من أخبار هذه الواقعة ليستعين به القارئ على فهمها، ويعرف مواقع أخبارها، ويستيقن من حكمها وأحكامها. ولكن عليك أن تعرف قبل هذا، أن قريشا اغتاظت من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وحقدوا على أهلها إيواءهم للمسلمين، وتهددوهم، فكان لا بد من الاستعداد للدفاع، وقد صار النبي صلى الله عليه وسلم داعية للدين، ورئيسا لحكومة المدينة، وقائدا لجيشها.

وقعة بدر

هذا، وقد أدى دفاع المسلمين عن أنفسهم إلى سلسلة من الغزوات، بها انتشر الإسلام بسرعة لم تعهد فى التاريخ، وقد اشترك النبي صلى الله عليه وسلم فى تسع منها أشهرها. وقعة بدر كانت قريش ترى أن محمدا وأصحابه شر ذمة من الثوار يجب أن تقتل، ولا سيما بعد أن صارت لهم القوة فى المدينة وهى على طريق التجارة إلى الشام، فجدّ المسلمون فى مهاجمة قوافل مكة، ونالوا أول انتصار لهم فى السنة الثانية من الهجرة فى غزوة بدر- بئر بين مكة والمدينة كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه- وكانت هذه الوقعة نصرا مؤزّرا للمسلمين، وكارثة كبرى على المشركين، وكان لها دوىّ عظيم فى أرجاء البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها. وقعة أحد أحد جبل على نحو ميل من المدينة إلى الشمال ولما خذل المشركون فى وقعة بدر ورجع فلّهم إلى مكة مقهورين- أخذ أبو سفيان يؤلّب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان هو الرئيس بعد مقتل من قتل من صناديد قريش، فاجتمعوا للحرب وكانوا نحو ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس، وقائدهم أبو سفيان بن حرب، ومعه زوجه هند بنت عتبة، وكان جملة النساء خمس عشرة امرأة، ومعهن الدفوف يضربن بها ويبكين على قتلى بدر، ويحرضن المشركين على حرب المسلمين، وساروا من مكة حتى نزلوا مقابل المدينة فى شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم المقام فى المدينة وقتالهم بها، ورأى باقى الصحابة الخروج لقتالهم، فخرج فى ألف من الصحابة، إلى أن صار بين المدينة وأحد، فانخذل عنه عبد الله بن أبىّ ابن سلول فى ثلث الناس، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشّعب من أحد، وجعل ظهره إلى الجبل، وكان عدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة،

فيهم مائة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مصعب بن عمير، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبى جهل، ولواؤهم مع بنى عبد الدار. ولما التقى الجمعان قامت هند زوج أبى سفيان ومعها النسوة يضربن بالدفوف، وهى تقول: ويها بنى عبد الدار ... ويها حماة الأدبار ضربا بكل بتّار وقاتل حمزة قتالا شديدا، ولما قتل مصعب بن عمير أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية لعلى بن أبى طالب. ولما انهزم المشركون طمعت الرماة فى الغنيمة، وفارقوا المكان الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بملازمته، فأتى خالد بن الوليد مع خيل المشركين من خلف المسلمين، ووقع الصراخ أن محمدا قد قتل، وانكشف المسلمون وأصاب العدو منهم، وكان يوم بلاء على المسلمين، وكان عدة الشهداء من المسلمين سبعين رجلا، وعدة قتلى المشركين اثنين وعشرين رجلا، ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيب رباعيته، وشجّ فى وجهه، وكلمت شفته، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم، وجعل يدعوهم إلى ربهم، فنزل قوله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» . ودخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشجة، ونزع أبو عبيدة بن الجرّاح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيّة من ثنياته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، وامتص مالك ابن سنان والد أبى سعيد الخدري الدم من وجنته، وطمع فيه المشركون وأدركوه يريدون منه ما الله عاصمه منه كما قال «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» وأصابت طلحة يومئذ ضربة شديدة شلت يده، وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،

المعنى الجملي

ومثلت هند وصواحبها بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجد عن الأنوف، وصلمن الآذان، واتخذن منها قلائد، وبقرت هند عن كبد حمزة ولا كتها، ولم تستسغها، وضرب أبو سفيان شدق حمزة بزجّ الرمح، وصعد الجبل، وصرخ بأعلى صوته، الحرب سجال يوم بيوم بدر، اعل هبل (صنم بالكعبة) أي ظهر دينك. ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا له: هو بيننا وبينكم، ثم سار المشركون إلى مكة، وبحث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمه حمزة فوجده مبقور البطن، مجدوع الأنف، مصلوم الأذن، فقال: لئن أظهرنى الله عليهم لأمثلنّ بثلاثين منهم، ثم أمر أن يسجّى عمه ببردته، ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى فوضعهم إلى جانب حمزة واحدا بعد واحد حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة، ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال ادفنوهم حيث صرعوا. إذا علمت ما تقدم سهل عليك فهم هذه الآيات، وما بعدها مما له صلة بهذه الوقعة الهامة فى تاريخ الإسلام، وما فيها من عظة وعبرة للمسلمين، فقد كانت نبراسا لهم فى كل حروبهم وأعمالهم فى حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده- إذ علموا أن مخالفة القائد الأعظم لها أسوأ الآثار، وأن كل ما حدث فيها إنما جر إليه الطمع فى الغنيمة، وجمع حطام الدنيا، وهو ظل زائل وعرض مفارق. المعنى الجملي بعد أن نهى الله المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين كاشفوهم بالعداوة، ثم أعلمهم ببغضهم إياهم، ثم أمرهم بالصبر والتقوى وأنهم إذا فعلوا ذلك لا يضرهم كيدهم شيئا- ذكّرهم فى هذه الآيات بوقعة أحد، وما كان فيها من كيد المنافقين،

الإيضاح

إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا، ثم خرجوا معهم، وانشقوا عنهم فى الطريق، ورجعوا بثلث الجيش، ليوقعوا الفشل بين صفوفهم ويخذلوهم أمام عدوهم وما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم، ولم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا مواقعهم، وإلا تقوى الله، ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر وعنه نهى، وذكّرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم، إذ جعلوا الصبر جنتهم، وتقوى الله عدّتهم، فأصابوا من عدوهم ما أصابوا، وكان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا فى صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة، والبعد عن مطامع هذه الحياة. الإيضاح (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي واذكر لهم أيها الرسول وقت خروجك من بيتك غدوة وهى غدوة سحر يوم السبت سابع يوم من شوال من سنة ثلاث للهجرة تهيىء أمكنة للقتال، منها مواضع للرماة، ومواضع للفرسان، ومواضع لسائر المؤمنين. (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم، كقول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم فى خارج المدينة، وقول من قال: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، ولما تشير به أنت عليهم، عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم وبنيّة كل قائل من أخلص منهم فى قوله وإن أخطأ فى رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومن لم يخلص فى قوله وإن كان صوابا كعبد الله بن أبىّ ومن معه من المنافقين. قال ابن جرير: ضرب الله مثلا أو مثلين على صدق وعده فى الآية السابقة «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» بتذكيرهم بما كان يوم أحد من

وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر (وذنب الجماعة أو لأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما) وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم. (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) أي والله سميع عليم حين همت بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن تضعفا وتجبنا عن القتال حين رأوا انخزال عبد الله بن أبىّ ومن معه عن رسول الله. وهذا الهمّ لم يكن عزيمة ممضاة، ولكنها كانت حديث نفس وقلما تخلوا النفس عند الشدة من بعض الهلع فإن ساعدها صاحبها ذمّ وإن ردها إلى الثبات والصبر فلا بأس بما فعل ومما يدل على أن ذلك الهمّ لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) أي متولى أمورهما لصدق إيمانهما لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعى الضعف الذي ألمّ بهما عند رجوع المنافقين وكانوا نحو ثلث العسكر بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به وتوكلا عليه. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن المؤمنين ينبغى أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه بالتوكل على الله لا بحولهم وقوتهم ولا بأنصارهم وأعوانهم، بعد أخذ الأهبة والعدّة تحقيقا لسنن الله فى خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات وهو الخالق للسبب والمسبب والموجد للصلة بينها. فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم فى العدد والعدد والسلاح وفى سائر عتاد الجيش ولذا قال. (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي إنكم إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا وينصركم ربكم كما نصركم على أعدائكم وأنتم يومئذ فى قلة من العدد وفى غير منعة من الناس حتى أظهركم على عدوكم مع كثرة عددهم وعظيم منعتهم فأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذ فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم فى ذلك اليوم.

ولا ضير فى الذل إذا لم يكن عن قهر من البغاة والظالمين، ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا بمستذلّين من الكفار، وإنما كانت قوتهم أول تكوّنها. (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فاتقوا الله ربكم بطاعته واجتناب محارمه، لتعدّوا أنفسكم لشكره، على ما منّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم، إذ من لم يروّض نفسه بالتقوى يغلب عليه الهوى واتباع الشهوات، فلا يرجى منه الشكر لأنعم الله بصرفها فيما خلقت لأجله من الحكم والمنافع. (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد نصركم الله ببدر فى ذلك الحين الذي كنت تقول فيه لهم: ألن يكفيكم إلخ. أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشّعبى أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله- ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم- إلى قوله: من الملائكة مسوّمين، فبلغته هزيمة المشركين فلم يمدّ أصحابه، ولم يمدّوا بالخمسة الآلاف. (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) قال الفخر الرازي فى التفسير الكبير: أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفار. قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون. (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) أي بلى يكفيكم ذلك، ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم. أي إن تصبروا على لقاء العدو ومناهضتهم، وتتقوا معصية الله، ومخالفة نبيه

صلى الله عليه وسلم، ويجئكم المشركون من ساعتهم هذه- يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة، ليعجل نصركم، ويسهل فتحكم. قال ابن جرير: وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد الثلاثة. الآلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز أن يقال فى ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله: غير أن فى القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة، وذلك قوله: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» . أما فى أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها فى أنهم أمدّوا، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينل منهم ما نيل اه. والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد فى قوة القوم، وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا، وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحات التي تثبّتها وتقوى عزيمتها. (وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) قال الزجاج: وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى اه. يعنى وما جعل الله ذلك القول الذي قاله الرسول لكم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية

إلا بشرى يفرخ بها روعكم، وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدد عدوكم وعظيم استعداده. وفى هذا إيماء إلى أن فى ذكر الإمداد غايتين: (1) إدخال السرور فى القلوب. (2) حصول الطمأنينة ببيان أن معونة الله ونصرته معهم، فلا يجبنوا عن المحاربة. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) العزيز هو القوى الذي لا يمتنع عليه شىء، والحكيم هو الذي يدبّر الأمور على خير السنن وأقوم الوسائل، فيهدى لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء، ويصرفهما عمن يشاء. والمراد- أنه يجب توكلكم على الله لا على الملائكة، فيجب على العبد ألا يتكل على الأسباب فقط، بل يقبل على مسبب الأسباب، إذ هو الذي لا يعجز عن إجابة الدعوات، فعليكم ألا تتوقعوا النصر إلا من رحمته، ولا المعونة إلا من فضله وكرمه. فإن حصل الإمداد بالملائكة فليس ذلك إلا جزءا من أسباب النصر، وهناك أسباب أخرى كإلقاء الرعب فى قلوب الأعداء، ومعرفة المواقع، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها على العدو، وعسكر فى أحسن موضع وهو الشّعب (الوادي) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل، وجعل الرماة من ورائهم، إلى نحو ذلك من الأسباب التي تمكنه من الظهور على عدوه، والغلبة عليه. فلما اختل بعض هذه التدبيرات، وفات الرماة مواضعهم لم ينتصروا. والذي عليه أهل العلم أنه لم يحصل يوم أحد إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك، وإنما أخبر عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على شروط ثلاثة: (1) الصبر. (2) التقوى. (3) إتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الشروط، فلم يحصل الإمداد، ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة.

وحصل الإمداد بالفعل فى وقعة بدر كما تقدم ذكره، وسيأتى مزيد تفصيل له فى سورة الأنفال. وربما سأل سائل عن الفارق بين اليومين فقال: لم أمدّ الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم، وحرمهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب! وجوابنا عن هذا أن المؤمنين كانوا يوم بدر فى قلة وذلة من الضعف والحاجة، فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله، وما وهبهم من قوة فى أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال: «إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» . ولم يكن فى نفوسهم تطلع إلى شىء سوى النصر، وإقامة الدين والدفاع عن حوزته. فكانت أرواحهم بهذا الإيمان مستعدة لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوّى بالاتصال بها. أما فى يوم أحد فقد كان بعضهم فى أول القتال قريبا من الافتتان بما كان من المنافقين، ومن ثم همت طائفتان منهم أن تفشلا، ولكن الله ثبتهما وباشرا القتال مع بقية المؤمنين حتى انتصروا وهزموا المشركين، ثم خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وطمعوا فى الغنيمة وتنازعوا فى الأمر ففشلوا وضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى الاستمداد من أرواح الملائكة، فلم يكن لهم منهم مدد. وحكمة ما حصل تمحيص المؤمنين كما سيأتى فى قوله (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ) الآية، وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى فى ارتباط الأسباب بالمسببات، ومعرفة أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغى أن يثبط الهمم، ولا يدعو إلى الانقلاب على الأعقاب، وأن كل ما يصيب العباد من مصايب فهو نتيجة عملهم، وعقوبة طبيعية على أفعالهم، إلى نحو ذلك من الأسرار التي ستعلمها بعد.

ر وى أحمد ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو يوم بدر: اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا- وما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه فرداه به ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبى الله كفاك مناشدتك لربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله يومئذ «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ» الآية. (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أي إن المقصود من نصركم بامداد الملائكة أن يهلك طائفة منهم، ويخزى طائفة أخرى ويغيظهم بالهزيمة، فيرجعوا خائبين لا أمل لهم فى نصر. وعبر بالطرف لأنه أقرب إلى المؤمنين من الوسط، فهو أول ما يوصل إليه من الجيش، وقد أهلك الله من المشركين طائفة أول الحرب يوم أحد، قدر عددهم بنحو ثمانية عشر رجلا. وعبر بالخيبة دون اليأس، لأن الأولى لا تكون إلا بعد توقع النصر وانتظاره، والثانية بعده وبدونه، وضد الخيبة الظفر، وضد اليأس الرجاء. ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله فقال: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي ليس إليك أيها الرسول من أمر خلقى إلا أن تنفذ فيهم أمرى، وتنتهى فيهم إلى طاعتى، ثم أمرهم بعد ذلك، والقضاء فيهم بيدي دون غيرى، أقضى فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة، أو عاجل العذاب بالقتل والنقم، أو آجله بما أعددت لأهل الكفر بي من العذاب فى الآخرة. (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) أي ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ليس لك من الأمر شىء. روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام،

اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية فتاب الله عليهم كلهم» . وروى أحمد ومسلم عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشجّ فى وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية. وإن لما حدث فى وقعة أحد لحكما دينية واجتماعية وحربية يمكن أن نحملها لك فيما يلى: كان المؤمنون فى وقعة بدر واثقين بنصر الله لنبيه وإظهار دينه، لم يضعف إيمانهم بذلك قلتهم وضعفهم، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم، ولما رأوا تباشير النصر ازدادوا إيمانا بأنهم المنصورون، وأن جندهم هم الغالبون ولكن خيّل إلى الكثير منهم أن النصر سيكون بالآيات، وخوارق العادات، من غير التزام السنن الإلهية التي جعلها الله فى هذا الكون، وبنى عليها نظم الحياة، وأن وجود الرسول بين ظهرانيهم، ودعاءه ربه واستغاثته إياه أشد نكالا بالعدو من اتباع السنن الظاهرة التي من أهمها التزام النظام العسكري وإطاعة القائد، وجودة التعبئة، وحسن الحيلة، والتدبير فى وضع الخطط الحربية، إلى نحو أولئك. وفاتهم أن الدين الإسلامى دين الفطرة، لا دين خوارق العادات، وسلوك طريق المعجزات. فلما قصّروا فى الأخذ بالأسباب يوم أحد ظهر عليهم عدوهم، وجرح الرسول، وإن كان هو لم يقصر ولم ينهزم، ولكن البلاء إذا نزل لا يخص من كان السبب فى وجوده كما قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» وكان من هذا درس عظيم للمؤمنين لمسوه بأيديهم وعلموا أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد شىء، وإنما هو معلّم وأسوة حسنة فيما يعلم، والأمر كله لله يدبره بمقتضى سننه فى الخلق.

هذا البيان الإلهى فى تلك الموقعة التي رأوا نتائجها بأعينهم- برهان ساطع أمام الملأ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان زعيما سياسيا، ومؤسسا لبناء مملكة يريد توطيد دعائمها بفتوحه لأطراف البلاد، لما قال مثل هذا القول فى مواطن الدفاع، وحب النصر على الأعداء. ولا سبيل للنصر على العدو إلا بالاستعداد والحيطة، وحسن التدبير والكياسة الحربية، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» ولا قوة إلا بالعلم والمال، ولا مال إلا إذا انتشر العدل فى الأمة وبث بين أفرادها روح التعاون والشورى فى مهامّ الأمور كما قال: «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» . (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال ابن جرير: أي لله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم، يحكم فيهم بما شاء، ويقضى فيهم بما أحب، فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره ونهيه، ثم يغفر له، ويعاقب من شاء منهم على جرمه، فينتقم منه، فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه، بفضله عليهم بالعفو والصفح، وهو الرحيم بهم فى تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم اه. وفى هذا تأديب من الله لرسوله، وإعلام له بأن الدعاء على المشركين ولعنهم مما لم يكن ينبغى منك، إذ الأمر كله لله، وليس لأحد من أهل السموات والأرض شركة معه ولا رأى ولا تدبير فيهما، وإن كان ملكا مقرّبا أو نبيا مرسلا، إلا من سخره الله للقيام بشىء من ذلك، فيكون خاضعا لذلك التسخير، لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 إلى 136]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) تفسير المفردات ضعف الشيء: مثله الذي يثنيه، فضعف الواحد واحد، لأنه إذا أضيف إليه ثناه، وإذا ضاعفت الشيء منحت إليه مثله مرة فأكثر، وهذه المضاعفة إما فى الزيادة فقط التي هى الربا، وإما بالنسبة إلى رأس المال كما هو حاصل الآن فقد يستدين الإنسان المائة بثلاثمائة، واتقوا الله: أي اجعلوا لأنفسكم وقاية من عذابه، أعدت: أي هيئت، والمسارعة إلى المغفرة والجنة المبادرة إلى الأسباب الموصلة إليهما من الأعمال الصالحة كالإقبال على الصدقات وعمل الخيرات والتوبة عن الآثام كالربا ونحوه، وعرضها السموات والأرض: يراد به وصفها بالسعة، والعرب تقول دعوى عريضة أي واسعة عظيمة. والسراء: الحال التي تسر، والضراء: الحال التي تضر، وفسرهما ابن عباس باليسر والعسر أي السعة والضيق، ويقال كظم القربة أي ملأها وسدّ رأسها، وكظم الباب سده، وكظم البعير جرّته إذا ازدردها وكف عن الاجترار، ثم قالوا كظم الغيظ فهو كاظم، وكظمه الغيظ والغم أخذ

المعنى الجملي

بنفسه فهو مكظوم وكظيم قال تعالى: «ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» وأخذ فلان بكظم فلان: إذا أخذ بمجرى نفسه، والغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال أو المعنوية كالشرف والعرض، فيزعجها ذلك ويحفزها على التشفي والانتقام، والعفو عن الناس: التجاوز عن ذنوبهم وترك مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك، والإحسان: هنا الإنعام والتفضل على غيرك على وجه لا مذمة فيه ولا قبح، والفحشاء: الفعلة الشنيعة القبح التي يتعدى أثرها إلى غيرك كالزنا والغيبة ونحوهما، وظلم النفس: هو الذنب الذي يكون مقصورا على الفاعل كشرب الخمر ونحوه، وذكر الله عند الذنب يكون بتذكر وعده ووعيده، وأمره ونهيه، وعظمته وجلاله، والإصرار: الشدّ من الصر، ويراد به شرعا الاقامة على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروط ذكرها هى مثار الضرر، ثم بين لهم أن كيدهم لا يضرهم ما اعتصموا بتقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك بما حدث لهم حين صدقوا الله ورسوله من الفوز والفلاح فى وقعة بدر، وبما حدث لهم حين عصوا الله وخالفوا أمر القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فى وقعة أحد، وكيف حل بهم البلاء، ونزلت بهم المصايب مما لم يكونوا ينتظرون القليل منها. نهاهم هنا عن شر عمل من أعمال اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وهو الربا، مع بيان أن الربح المتوقع منه ليس هو السبب فى السعادة، بل السعادة إنما تكون فى تقوى الله وامتثال أوامره، وفى ذلك حث على بذل المال فى سبيل الله كالدفاع عن الملة، وتنفير من البخل والشح والكلب على جمع المال بكل وسيلة مستطاعة، وشر تلك الوسائل أكل الربا أضعافا مضاعفة.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة بتأخير أجل الدّين الذي هو رأس المال، وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون فى الجاهلية، فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك، لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز وحاجته. قال ابن جرير: لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة فى إسلامكم بعد إذ هداكم الله، كما كنتم تأكلونه فى جاهليتكم. وكان أكلهم ذلك فى جاهليتهم أن الرجل منهم يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخّر دينك عنى وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل فى إسلامهم عنه اه. وقال الرازي: كان الرجل فى الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال الدائن زد فى المال حتى أزيد فى الأجل، فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها، فهذا هو المراد من قوله تعالى: «أَضْعافاً مُضاعَفَةً» اه. وربا الجاهلية هو ما يسمى فى عصرنا بالربا الفاحش وهو ربح مركب، وهذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل، ولا شىء منها فى العقد الأول، كان يعطيه المائة بمائة وعشرة أو أكثر أو أقل، وكأنهم كانوا يكتفون فى العقد الأول بالقليل من الربح، فإذا حل الأجل ولم يقض الدين وهو فى قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف فى مقابلة الإنساء، وهذا هو الربا النسيئة، قال ابن عباس: إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم اه. وعلى الجملة فالربا نوعان: (1) ربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه فى الجاهلية، وهو أن يؤخر دينه

ويزيده فى المال، وكلما أخره زاد فى المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة، وفى الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدم محتاج، فهو يبذل الزيادة ليفتدى من أسر المطالبة، ولا يزال كذلك يعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابى من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويوقعه فى المشقة والضرر، فمن رحمة الله وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرّم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجىء مثل هذا الوعيد فى كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر. (2) ربا الفضل كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير، أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة وحفنة من التمر الرديء مع تراضى المتبايعين، وحاجة كل منهما إلى ما أخذه. ومثل هذا لا يدخل فى نهى القرآن ولا فى وعيده، ولكنه ثبت بالسنة فقد روى ابن عمر قوله صلى الله عليه وسلم «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء، ولا تشفوا بعضه على بعض إنى أخشى عليكم الرّماء- الربا-» . وهذه الآية هى أولى الآيات نزولا فى تحريم الربا، وآيات البقرة نزلت بعد هذه، بل هى آخر آيات الأحكام نزولا، وقد يقول بعض المسلمين الآن: إنا نعيش فى عصر ليس فيه دول إسلامية قوية تقيم الإسلام وتستغنى عمن يخالفها فى أحكامها بل زمام العالم فى أيدى أمم مادية تقبض على الثروة، وبقية الشعوب عيال عليها، فمن جاراها فى طرق الكسب- والربا من أهم أركانه- أمكنه أن يعيش معها، وإلا كان مستعبدا لها. أفلا تقضى ضرورة كهذه على الشعوب الإسلامية التي تتعامل مع الأوربيين

كالشعب المصري مثلا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها وتنميها، وحتى لا يستنزف الأجنبى ثروتها وهى مادة حياتها؟ وجوابا عن هذا نقول: إن المحرمات فى الإسلام ضربان: (1) ضرب محرم لذاته لما فيه من الضرر، ومثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر. والربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة وهو متفق على تحريمه، فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض ولم يجد من يقرضه إلا بالربا فالإثم على آخذ الربا دون معطيه، لأن له فيه ضرورة. (2) ضرب محرم لغيره وهو ربا الفضل لأنه ربما كان سببا فى ربا النسيئة، وهو يباح للضرورة والحاجة أيضا. والمسلم يعرف إن كان محتاجا إلى الربا ومضطرا إليه أم لا، فإن كان محتاجا حل له تناوله ويكون مثله أكل الميتة وشرب الخمر ونحوهما، وإلا لم يحل ذلك، إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين، وإن كان زيادة فى مال الرابى فهو فى الحقيقة نقصان، لأن الفقراء الذين يشاهدونه يأخذ أموالهم بهذا التعامل يلعنونه ويدعون عليه، وبذلك يسلب الله الخير من يديه، إن عاجلا أو آجلا فى نفسه وماله، وتتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه، وغلظ كبده، وقد ورد فى الأثر: إن آخذ الربا لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حج ولا صلاة. ثم أكد النهى فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي واتقوا الله فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا، ولا تكن قلوبكم قاسية على عباده من ذوى الحاجة والبؤس، فتحملوهم من الدين مالا تحتمله طاقتهم، وتستغلّوا عوزهم وحاجتهم، فتشتطوا فى الربا حتى تخربوا بيوتهم وتجعلوهم من ذوى الفاقة والمتربة- لعل ذلك يكون سبب فلا حكم فى دنياكم، فإن الرحمة وحسن المعونة يوجدان المحبة فى القلوب، والمحبة أساس السعادة فى الدنيا والآخرة.

ثم زاد النهى تأكيدا فقال: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي وابتعدوا عن متابعة المرابين، وتعاطى ما يتعاطون من أكل الربا الذي يفضى بكم إلى دخول النار التي أعدها الله للكافرين. وفى هذا من شديد الزجر ما لا يخفى فان المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا أنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا هذه النار كان انزعاجهم عن المعاصي أتم، ومن ثم روى عن أبى حنيفة رحمة الله أنه كان يقول: إن هذه أخوف آية فى القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه فى اجتناب محارمه. ثم بالغ فى النهى وشدّد فيه أيما تشديد فقال: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأطيعوا الله ورسوله فيما نهيا عنه من أكل الربا، وما أمرا به من الصدقة، كى ترحموا فى الدنيا بصلاح حال المجتمع وفى الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم، وقد ورد فى الأثر «الراحمون يرحمهم الرحمن» رواه أبو داود والترمذي. (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي وبادروا إلى العمل لما يوصلكم إلى مغفرة ذنوبكم ويدخلكم جنة واسعة المدى أعدّها الله لمن اتقاه وامتثل أوامره، وترك نواهيه، فاعملوا الخيرات، وتوبوا عن الآثام كالربا ونحوه، وتصدقوا على ذوى البؤس والفاقة. روى أن رسول هرقل ملك الروم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل وفيه: إنك كتبت تدعونى إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار [يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار فى جانب من العالم، والليل فى ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة فى جهة العلو والنار فى جهة السفل] . وقال أبو مسلم: إن العرض هنا ما يعرض من الثمن فى مقابلة المبيع أي ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة خطرها، وأنه لا يساويها شىء وإن عظم. (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي هيئت لهم وفى الآية دليل على أن الجنة مخلوقة الآن،

وأنها خارجة عن هذا العالم، إذ أنها تدل على أن الجنة أعظم منه، فلا يمكن أن يكون محيطا بها. ثم وصف الله المتقين بجملة أوصاف كلها مناقب ومفاخر فقال: (1) (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ) أي الذين ينفقون فى السعة والضيق، فينفقون فى كل حال بحسبها، ولا يتركون الإنفاق بوجه. وأثر عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب، وأثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة، وفى الحديث «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، وردوا السائل ولو بظلف محرق» . وقد بدأ الله وصف المتقين بالإنفاق لأمرين: (ا) أنه جاء فى مقابلة الربا الذي نهى عنه فى الآية السابقة، إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج، وإطعام له ما لا يستحقه، والربا استغلال الغنى حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهى ضده. ومن ثم لم يرد فى القرآن ذكر الربا إلا ذم وقبّح، ومدحت معه الزكاة والصدقة، اقرأ قوله: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» وقوله «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» . (ب) أن الانفاق فى حالى اليسر والعسر أدل على التقوى، لأن المال عزيز على النفس، فبذله فى طرق الخير والمنافع العامة التي ترضى الله يشق عليها، أما فى السراء فلما يحدثه السرور والغنى من البطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل، وأما فى الضراء فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا أن يعطى، ولكنه مع هذه الحال لا يعدم وقتا يجد فيه ما ينفقه فى سبيل الله ولو قليلا. وحب الخير هو الذي يحرك فى الإنسان داعية البذل لإنفاق هذا العفو القليل، فإن لم توجد تلك الداعية بحسب الفطرة فالدين ينميها ويقويها، إذ هو قد جاء لتعديل الأمزجة المعتلة، وإصلاح الفطر المعوجة.

وقد أرشدنا هدى الدين إلى أن النفوس يجب أن تكون كريمة فى ذاتها مهما ألحّ عليها الفقر وأن تتعود الإحسان بقدر الطاقة لتسمو عن الرذائل التي قد تجرها إليها الحاجة، فتبعد بقدر الإمكان عن ذل السؤال، ومدّ الأيدى إلى الناس، لطلب الإحسان، وإراقة ماء الوجه أمام بيوت الأغنياء، لما فى ذلك من الذلة والصغار وهى ما لا يرضاها مؤمن لنفسه يعتقد أن الأرزاق فى قبضة الله وهو الذي يعطى ويمنع، وقد جعل لكسب المال أوجها كثيرة يستطيع المرء أن يسعى إليها ليحصل عليه، وقد وردت أحاديث كثيرة فى الحض على اكتساب المال من كل طريق حلال، والبعد عن ذل السؤال. إلا أن بذل القليل من الأفراد والجماعات إذا اجتمع صار كثيرا، ومن ثم كانت الأمم الراقية تقيم مشروعاتها النافعة للأمة فى الزراعة أو الصناعة أو فى بناء الملاجئ والمستشفيات بالتبرعات القليلة التي تؤخذ من أفرادها، وبذا تقدمت فى سائر فنون المدنية والحضارة. ولذا حث الله على بذل الخير ولو قليلا بقوله: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» . ومن هذا ترى أن الله جعل من أهم علامات التقوى بذل المال، كما أن الشح به علامة عدم التقوى، والتقوى هى السبيل الموصل إلى الجنة. فانظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون أيديهم عن بذل المعونة للأفراد والجماعات ويكنزون فى صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، هل تغنيهم صلاتهم وصومهم شيئا مع هذا الشح البادي على وجوههم؟ فما هى إلا حركات وأعمال، مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع فى نفوسهم، إذ الصلاة التي يقبلها الله، والصوم الذي يرضاه الله، هو ما ينهى عن الفحشاء والمنكر، وأىّ منكر أشد من الضنّ بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو فرد.

ولو جاد المسلمون بأموالهم عند الحاجة إلى البذل لكان لنا شأن آخر بين أرباب الديانات الأخرى، ولكنا من ذوى العزة والمكانة بينها. ولكنا صرنا إلى ما ترى، عسى الله أن يغير من نفوس المسلمين، ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم باتباع أوامر كتابهم، واجتناب نواهيه، ففى ذلك السعادة لهم فى الدنيا والأخرى. (2) (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي والممسكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه، ومن أجاب داعى الغيظ وتوجه بعزيمة إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال، ولا يكتفى بالحق، بل يتجاوزه إلى البغي، ومن ثم كان من التقوى كظمه، وقد أثر عن عائشة رضى الله عنها أن خادما لها غاظها فقالت: لله درّ التقوى، ما تركت لذى غيظ شفاء. وقال عليه الصلاة والسلام «ما من جرعتين أحبّ إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء، ومن جرعة غيظ كظمها» وقال «ليس الشديد بالصّرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب» . وخلاصة ذلك- هم الذين يكظمون غيظهم عن الإمضاء والنفاذ، ويردونه فى أجوافهم، وهذا كقوله فى الآية الأخرى «وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» . (3) (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي والذين يتجاوزون عن ذنوب الناس ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك، وتلك منزلة من ضبط النفس وملك زمامها قلّ من يصل إليها، وهى أرقى من كظم الغيظ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة. أخرج الطبراني عن أبىّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه» . وفى الآية إيماء إلى حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة، وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره، وإرشاد له إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين

بما فعلوه بحمزة رضي الله عنه حتى قال حين رآه قد مثّل به: لأمثلنّ بسبعين منهم. (4) (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي والله يحب الذين يتفضلون على عباده البائسين ويواسونهم ببعض ما أنعم الله به عليهم شكرا له على جزيل نعمائه. أخرج البيهقي أن جارية لعلى بن الحسين رضي الله عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه فقالت: إن الله يقول (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها قد كظمت غيظى، قالت (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال قد عفا الله عنك، قالت (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى. والإحسان إلى غيرك إما بإيصال النفع إليه، وهو الذي عناه الله بقوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ويدخل فيه إنفاق العلم بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، وإنفاق المال فى وجوه الخير والعبادات، قال صلى الله عليه وسلم «السخىّ قريب من الله قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار» . وإما بدفع الضر عنه إما فى الدنيا بألا يقابل الإساءة بإساءة أخرى وهو ما عناه الله بقوله (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) قال صلى الله عليه وسلم «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» وإما فى الآخرة بأن يعفو عماله عند الناس من التبعات والحقوق، وهذا هو المراد بقوله (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ومن ثم كانت هذه الآية جامعة لوجوه الإحسان إلى غيرك. وقد ذكر الله الجزاء على الإحسان بقوله (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إذ محبة الله للعبد عظم درجات الثواب. (5) (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي والذين إذا فعلوا من القبيح ما يتعدى أثره إلى غيره كالغيبة ونحوها، أو فعلوا ذنبا يكون مقصورا عليهم كشرب الخمر ونحوه- ذكروا عند ذلك وعد الله ووعيده،

وعظمته وجلاله، فرجعوا إليه تعالى طالبين مغفرته، راجين رحمته، علما منهم أنه لا يغفر الذنوب سواه، فهو الفعال لما يشاء بمقتضى حكمته وعلمه الواسع. (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) جملة جاءت معترضة بين ما قبلها وما بعدها، تصويبا لفعل التائبين، وتطييبا لقلوبهم، وبشارة لهم بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وإعلاء لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه. وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأن العبد إذا التجأ إليه، وتنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن ذنوبه وإن جلّت، فإن عفوه أجلّ وكرمه أعظم، كما أن فيها تحريضا للعباد على التوبة وحثا لهم عليها، وتحذيرا من اليأس والقنوط. (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولم يقيموا على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة، وقد قال عليه الصلاة والسلام «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار» يريد صلى الله عليه وسلم أن الصغيرة مع الإصرار كبيرة، وقوله: وهم يعلمون أي بقبحه والنهى عنه والوعيد عليه، والفائدة من ذكر هذا بيان أنه إذا لم يعلم بقبحه يعذر فى فعله. والمؤمن المتقى لا يصر على الذنب وهو يعلم نهى الله عنه ووعيده عليه، إذ يعلم أن الذنب فسوق وخروج عن نظام الفطرة السليمة، واعتداء على حقوق الشريعة. فالآية تومىء إلى أن المتقين الذين أعد الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرا كان أو كبيرا، لأن ذكرهم لله يمنعهم أن يقيموا على الذنوب. إذ الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر، ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالة، وبادر إلى التوبة منها فكانت مذكّرة له بضعفه البشرى، ودليلا على أن للغضب سلطانا عليه- تكون دون صغيرة يقترفها مستهينا بها مصرّا عليها مستأنسا بها، فتزول من نفسه هيبة الشريعة، ويتجرأ بعد ذلك على ارتكاب الكبائر فيكون من الهالكين، وقد رووا حديث «ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة» وقد ضعفه المحدثون،

[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 إلى 141]

إلى أنه ليس المراد من الاستغفار الاستغفار باللسان، وأنه كاف فى التوبة، وأن تحريك اللسان بكلمة أستغفر الله مرة أو عدة مرات يرفع إثم الذنب، بل استغفار فيه هو التوبة النصوح التي عرفت معناها فى قوله: «وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» لا كون اللفظ كفارة للذنب. (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي إن أولئك المتقين الذين وصفوا بما تقدم من الصفات- لهم أمن من العقاب، ولهم ثواب عظيم عند ربهم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار. (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي إن هذا الجزاء إنما هو على تلك الأعمال التي منها ما هو نافع للأمة كإنفاق المال فى وجوهه، ومنها ما هو إصلاح لنفس العامل، فهو أجر للعمل وجزاء عليه، ويتفاوت الناس فى التقوى بحسب ذلك. وخلاصة ذلك- نعم هذا الجزاء الذي ذكر من المغفرة والجنات أجرا للعاملين تلك الأعمال بدنية كانت كانفاق المال ونفسية كعدم الإضرار بغيرك على تفاوت فى ذلك. [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 141] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) تفسير المفردات خلت: مضت، السنن: واحدها سنة وهى الطريقة المعتبرة والسيرة المتبعة، من قولهم سن الماء إذا والى صبه، شبهت به السنة لتوالى أجزائها على نهج واحد، بيان أي إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب، هدى أي زيادة بصيرة

المعنى الجملي

وإرشاد إلى طريق الدين القويم، والموعظة: ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة، الوهن: الضعف فى العمل وفى الرأى وفى الأمر، والحزن: ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب، والقرح (بالضم والفتح) : عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسم، وقيل هو بالفتح الأثر وبالضم الألم، والأيام واحدها يوم: وهو الزمن المعروف والمراد بالأيام هنا أزمنة الفوز والظفر، نداولها: نصرّفها فنديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء كما وقع ذلك فى يومى بدر وأحد وأصل المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدى إذا انتقل من واحد إلى آخر. والشهداء واحدهم شهيد: وهو قتيل المعركة، وقيل واحدهم شاهد، والتمحيص التخليص من كل عيب، ومحّص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه، ومحص الله التائبين من الذنوب طهرهم منها، والمحق: النقصان، ومنه المحاق لآخر الشهر، وفى الأساس: محق الشيء محاه وذهب به. المعنى الجملي كان الكلام فى سابق الآيات فى قصة أحد وأهم أحداثها، ثم ذكرهم بوقعة بدر وما كتب لهم فيها من النصر على قلة عددهم وعددهم. وفى هذه الآيات وما بعدها يذكرهم بسنن الله فى خليقته، وأن من سار على نهجها أدى به ذلك إلى السعادة، ومن حاد عنها ضل وكانت عاقبته الشقاء والبوار، وأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة، كما وعد الله بذلك على ألسنة رسله. «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» وقال: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» الإيضاح (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي إن أمر البشر فى اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل، وما يلابس ذلك من الحرب والطعان والنزال والملك

والسيادة يجرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة العامة. وقد جاء ذكر السنن الإلهية فى مواضع من الكتاب الكريم كقوله: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» وقوله: فى سياق دعوة الإسلام «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» . والمراد بذلك أن مشيئة الله فى خلقه تسير على سنن حكيمة من سار عليها ظفر وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا فلا عجب أن ينهزم المسلمون فى وقعة أحد، وأن يصل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشجوا رأسه، ويكسروا سنه، ويردوه فى حفرة. والمسلمون الصادقون أولى الناس بمعرفة تلك السنن فى الأمم وأجدر الناس بأن يسيروا على هديها، لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ثابوا إلى رشدهم يومئذ ورجعوا إلى الدفاع عن نبيهم وثبتوا حتى انجلى المشركون عنهم ولم ينالوا ما كانوا يقصدون. والخلاصة- إن النظر فى أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبيل المكذبين فحالكم كحالهم. وفى الآية تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وإرشاد لهم إلى أنهم بين عاملى خوف ورجاء، فهى على أنها بشارة لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه، وساروا فى طريق الضالين ممن قبلهم، وعلى الجملة فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا. وقد جرت سنة الله بأن للمشاهدة فى تثبيت الحقائق ما ليس للقول وحده،

إذ القول قد ينسى ويقل الاعتبار به. من قبل هذا أرشدهم إلى الاعتبار وقياس ما فى أنفسهم على ما كان لدى غيرهم من قبلهم ومن ثم قال: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فسيروا فى الأرض وتأملوا فيما حل بالأمم قبلكم ليحصل لكم العلم الصحيح المبنى على المشاهدة والاختبار، وتسترشدوا بذلك إلى أن المصارعة قد وقعت بين الحق والباطل فى الأمم السالفة، وانتهى أمرها إلى غلبة أهل الحق لأهل الباطل، وانتصارهم عليهم ما تمسكوا بالصبر والتقوى، ويدخل فى ذلك اتباع ما أمر الله به من الاستعداد للحرب وإعداد العدة لقتال العدو كما أمر الله به فى قوله: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» . وجرى ذلك على سنن مستقيمة وأسباب مطردة لا تغيير فيها ولا تبديل. والسير فى الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم- نعم العون على معرفة تلك السنن والاعتبار بها، وقد نستفيد هذه الفائدة بالنظر فى كتب التاريخ التي دونها من ساروا فى الأرض، ورأوا آثار الذين خلوا، فتحصل لنا العظة والعبرة، ولكنها تكون دون اعتبار الذين يسيرون فى الأرض بأنفسهم، ويرون الآثار بأعينهم تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي هذا الذي تقدم بيان للناس كافة وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصة، فالإرشاد عام للناس وحجة على المؤمن والكافر، التقى منهم والفاجر. وذلك يدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة بنحو قولهم لو كان محمد رسولا حقا لما غلب فى وقعة أحد، فهذا الهدى والبيان يرشد إلى أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرسل كما هى حاكمة على سائر خلقه، فما من قائد يخالفه جنده، ويتركون حماية الثّغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم،

والعدو مشرف عليهم، إلا كان جيشه عرضة للانكسار إذا كر العدو عليه- قطع خط الرجعة- ولا سيما إذا كان بعد فشل وتنازع، ومن ثم كان هذا البيان لجميع الناس، كلّ على قدر استعداده للفهم وقبول الحجة. وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة، فلأنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقائق، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع، فيستقيمون ويسيرون على النهج السوىّ، ويتجنبون نتائج الإهمال التي تظهر لهم مضرة عاقبتها، فالمؤمن حقا هو الذي يهتدى بهدى الكتاب ويسترشد بمواعظه كما قال: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» فالقرآن يهدينا فى مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نروز أنفسنا ونعرف كنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا فنسير على سنن الله فى طلبه وفى حفظه. وأن نعرف كذلك حال خصمنا ونضع الميزان بيننا وبينه. وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين. (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ولا تضعفوا عن القتال وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل فى يوم أحد. ولا تحزنوا على من فقد منكم فى هذا اليوم. وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون. فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين الذين لا يحيدون عن سنته. بل ينصرون من ينصره ويقيمون العدل. فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو للطمع فيما فى أيدى الناس. فهمة الكافر على قدر ما يرمى إليه من غرض خسيس، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمى إلى إقامة صرح العدل فى الدنيا والسعادة الباقية فى الآخرة- إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره. وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته فى نظم الاجتماع، حتى صار ذلك الايمان وصفا ثابتا لكم حاكما نفوسكم وأعمالكم. وإنما نهى عن الحزن على ما فات، لأن ذلك مما يفقد الإنسان شيئا من

عزيمته، وبالعكس صلته بما يحب من مال أو متاع أو صديق تكسبه قوة وتوجد فى نفسه سرورا، والمراد من النهى عن مثل ذلك معالجة النفس بالعمل ولو تكلفا وخلاصة ذلك- الأمر بأخذ الأهبة وإعداد العدّة مع العزيمة الصادقة والحزم والتوكل على الله حتى يظفروا بما طلبوا ويستعيضوا مما خسروا. وقوله وأنتم الأعلون تبشير بما يكون لهم فى المستقبل من النصر، فإن من احترق الإيمان الصحيح فؤاده، وتمكن من سويداء قلبه يكون على يقين من العاقبة، بعد مراعاة السنن والأسباب المطردة للظفر والفلاح. (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي إن كان السلاح قد عضكم وعمل فيكم يوم أحد فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم فى ذلك اليوم، فقد قتل منهم مثل من قتل منكم فلم يكونوا غالبين. والخلاصة- إنه لا يسوغ لكم التقاعد عن الجهاد، وليس لكم العذر فيه لأجل أن مسكم قرح، فان أعداءكم قد مسهم مثله قبلكم وهم على باطلهم لم يفتروا فى الحرب ولم يهنوا، فأنتم أجدر بصدق العزيمة لمعرفتكم بحسن العاقبة، وتمسككم بالحق. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي إن مداولة الأيام سنة من سنن الله فى المجتمع البشرى، فمرة تكون الدولة للمبطل، وأخرى للمحق، ولكن العاقبة دائما لمن اتبع الحق. وإنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح ورعاها حق رعايتها كالاتفاق وعدم التنازع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة، وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة. فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام حتى تظفروا وتفوزوا، ولا يكن ما أصابكم من الفشل مضعفا لعزائمكم، فإن الدنيا دول. فيوما لنا ويوما علينا ... ويوما نساء ويوما نسر

ومن أمثال العرب: الحرب سجال، روى أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة، ثم قال أين ابن أبى كبشة؟ - يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم وأبو كبشة زوج حليمة السعدية وهو أبوه من الرضاع- أين ابن أبى قحافة؟ - أبو بكر- أين ابن الخطاب؟ فقال؟ عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وهأنذا عمر، فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله عنه: لا سواء، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار، فقال إنكم تزعمون ذلك، فقد خبنا إذن وخسرنا. (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي وتلك الأيام نداولها بين الناس، ليقوم بذلك العدل، ويستقر النظام، ويعلم الناظر فى السنن العامة، والباحث فى الحكم الإلهية أنه لا محاباة فى هذه المداولة، وليعلم الله الذين آمنوا منكم، لأن الجهاد الاجتماعى الذي يدال به قوم على قوم مما يطهر النفوس ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره. والمراد من قوله (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ) أي وليظهر علمه بذلك للناس بظهور ما يعلم لهم، إذ علم الله بالأشياء ثابت فى الأزل، فإذا وقعت حصل تغير فى ذلك المعلوم، فصار حالا بعد أن كان مستقبلا، فهو كقوله: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» أي ليعلم الناس ذلك ويميزوه. الخلاصة- إن المراد من مثل هذه العبارة (لِيَعْلَمَ) - ليثبت ويتحقق صدق إيمان الذين آمنوا، لأنه متى ثبت وتحقق كان الله عالما به على أنه حقيقة ثابتة، إذ علم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة. (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة والقتل فى سبيل الله. ذاك أن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنّون لقاء العدو، وأن يكون لهم يوم كذلك اليوم يقاتلون فيه ويلتمسون الشهادة.

والقرآن ملىء بتعظيم حال الشهداء، قال تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» وقال تعالى: «فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ» . ومن ثم كان من جملة فوائد هذه المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين. ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الشهداء يكونون ممن أخلصوا فى إيمانهم وأعمالهم، ولم يظلموا أنفسهم بمخالفة أوامر الله ونواهيه، والخروج عن سننه فى خلقه فقال: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يصطفى للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم، وفى ذلك بشارة للمتقين بمحبة الله لهم، وإنذار للمقصرين بأنه لا يحبهم الله، وتعريض لأعدائهم المشركين بأن الله لا يحبهم، لأنهم ظلموا أنفسهم وسفهوها بعبادة المخلوقات، وظلموا سواهم بالفساد فى الأرض، والبغي على الناس وهضم حقوقهم، ومن المعلوم أن الظلم لا تدوم له سلطة، ولا تثبت له دولة، بل تكون دولته سريعة الزوال، قريبة الانحلال. (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ونداول الأيام ليتميز المؤمنون الصادقون من المنافقين، وتطهر نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها، فتصير تبرا خالصا لا كدورة فيه، فإن الإنسان كثيرا ما يشتبه عليه أمر نفسه، ولا تتجلى له حقيقتها إلا بالتجارب الكثيرة، والامتحان بالشدائد العظيمة، فهى التي تمحصها وتنفى خبثها وزغلها، كما أن تمحيص الذهب يميز بهرجه من خالصه. فالمعتقد فى دين أنه الحق قد يخيل إليه وقت الرخاء أنه يسهل عليه بذل ماله ونفسه فى سبيل الله ليرفع راية ذلك الدين ويدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه غير ما كان يتصور، انظر إلى الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وطمعوا فى الغنيمة، وإلى الذين انهزموا وولوا الأدبار، كيف محصهم الله

[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 إلى 148]

بتلك الشدائد فعلموا أن المسلم ما خلق للهو واللعب، ولا للكسل والتواكل، ولا لنيل الظفر ونيل السيادة بخوارق العادات، وتبديل سنن الله فى المخلوقات، بل خلق ليكون أكثر الناس جدّا فى العمل، وأعظمهم تفانيا فى أداء الواجب اتباعا للنواميس والسنن التي وضعها الله فى الخليقة. وقد تجلى أثر هذا التمحيص فى الغزوات التي تلت هذه الوقعة ففى غزوة (حمراء الأسد) أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتبع المشركين فيها إلا من شهد القتال بأحد فامتثل المؤمنون أمره بقلوب مطمئنة، وعزائم صادقة، وهم على ما هم عليه من الجراح المبرّحة، والقلوب المنكسرة. (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي ويجعل اليأس يسطو على قلوبهم، وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم، فلا يبقى لديهم شجاعة ولا بأس، ولا قلّ ولا كثر من عزة النفس، فيكون وجودهم كالعدم لا فائدة فيه، ولا أثر له، فالكافرون المبطلون لا يثبت لهم حال مع المؤمنين الصادقين، وإنما يظهرون إذا لم يوجد من أهل الحق والعدل من ينازعهم ويقاوم باطلهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 148] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الجهاد: احتمال المشقة ومكافحة الشدائد، فيشمل: (1) الحرب للدفاع عن الدين وأهله وإعلاء كلمته. (2) جهاد النفس الذي سماه السلف (الجهاد الأكبر) ومن ذلك مجاهدة الإنسان لشهواته خصوصا فى سن الشباب. (3) المجاهدة بالمال لأعمال الخير النافعة للأمة والدين. (4) المجاهدة بمدافعة الباطل ونصرة الحق. تمنون الموت: أي تتمنون الشهادة فى سبيل الله، أن تلقوه أي تشاهدوا أهواله وتذوقوا مرارة كأسه، رأيتموه أي رأيتم أسبابه من ملاقة الشجعان بعدّتهم وأسلحتهم وكرّهم وفرّهم ومصاولتهم للفرسان، وأنتم تنظرون، أي تعاينونه وترونه رؤية لا خفاء فيها كما تقول رأيته وليس بعيني علة، انقلبتم على أعقابكم أي رجعتم كفارا بعد إيمانكم، ويقال لكل من عاد إلى ما كان عليه: رجع وراءه، والقلب على عقبيه، ونكص على عقبيه. والمؤجل: ذو الأجل، والأجل المدة المضروبة للشىء كما قال: «وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا» ومنه الدين المؤجل الذي صرب له أجل ومدة يؤدى فى نهايتها، وكأين: كلمة تفيد أنّ ما دخلت عليه كثير، والربيون: الجماعات الكثيرة واحدهم ربّى وهو الجماعة، والوهن: ضعف يلحق القلب، والضعف اختلال قوة الجسم، والاستكانة:

المعنى الجملي

الخضوع والاستسلام للخصم ليفعل ما يريد، والصبر: احتمال الشدائد ومعاناة المكاره، والإسراف فى كل شىء: مجاوزة الحد فيه كما قال: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا» وثبت أقدامنا أي حين جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإزالة الخواطر الفاسدة من صدورنا. المعنى الجملي لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله فى الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغى لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة والبلاء جار على سنن الله فى خليقته من مداولة الأيام بين الناس، وفيه تمحيص لأهل الحق فإن الشدائد محكّ الأخلاق، وفيه هدى وإرشاد وتسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز والظفر فى جميع أعمالهم. وهنا أبان لهم أن سبيل السعادة فى الآخرة منوط بالصبر والجهاد فى سبيل الله، كما أن طريق السعادة فى الدنيا يكون بإقامة الحق وسلوك طريق الإنصاف والعدل بين الناس، فسنة الله هنا كسنته هناك. الإيضاح (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي هل جريتم على تلك السنن؟ هل تدبرتم تلك الحكم؟ أم ظننتم أنكم تدخلون الجنة وأنتم لم تقوموا بالجهاد فى سبيله حق القيام، ولم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن، ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد التحلي بهما. وإنكم لو قمتم بذلك لعلمه الله تعالى منكم وجازاكم عليه بالنصر والفوز فى هذه الغزوة كما يجازيكم فى الآخرة بدخول الجنة. وقال أبو مسلم الأصفهانى فى (أَمْ حَسِبْتُمْ) إنه نهى وقع بحرف الاستفهام الذي يأتى للتبكيت.

وتلخيصه- لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد وهو كقوله: «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» . وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال ولا تهنوا ولا تحزنوا، كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك واقع كما تؤمرون، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة ولا صبر. وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى لما أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة وأوجب الصبر على تحمل متاعبه، وبين وجوه المصالح فيه فى الدين والدنيا كان من البعيد أن يظن الإنسان أنه يصل إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة اه بتصرف. وجهاد النفس على أداء حقوق الله وحقوق العباد مما يشقّ عليها احتماله، ويحتاج إلى مجاهدتها وترويضها حتى تذلل ويسهل عليها أداء تلك الحقوق، وربما فضل هذا الجهاد جهاد الأعداء فى ميدان القتال وخوض غمار الوغى وأصعب من هذا وأشق دعوة الأمة إلى خير لها فى دينها ودنياها، أو بث فكرة صالحة تغير بعض أخلاقها وعاداتها، أو مقاومة بدعة فاشية بين أفرادها، فإنها تجد مقاومة من الخاصة، بله العامة، فتراهم يرفعون راية العصيان فى وجه الداعي، ويشاكسونه بكل الوسائل، ولا سيما إذا تعلق بتغيير بعض عادات مرنوا عليها جيلا بعد جيل، ووجدوا من أشباه العلماء من يؤازرهم ويناصرهم فى باطلهم. وكثيرا ما يحدث للداعى التلف والهلاك، أو ثلم العرض، أو الإخراج من حظيرة الدين. (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) هذا خطاب لمن شهد من المسلمين وقعة أحد. ذاك أن كثيرا من الصحابة وبعضهم لم يشهد بدرا- كانوا يلحّون فى الخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ليكون لهم يوم كيوم بدر، ويتمنون أن يلقوا الأعداء ويصيبوا من الخير مثل ما أصاب أهل بدر.

فلما كان يوم أحد ولّى منهم من ولّى فعاتبهم الله على ذلك. روى عن الحسن أنه قال: بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: لئن لقينا مع النبي صلى الله عليه وسلم لنفعلنّ ولنفعلنّ فابتلوا بذلك، فلا والله ما كلّهم صدق فأنزل الله عز وجل (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الآية. ومعنى قوله فقد رأيتموه- أنكم شاهدتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدّتهم وأسلحتهم وكرّهم وفرهم، مشاهدة لا خفاء فيها ولا شبهة، وكان لها الأثر العميق فى نفوسكم. ومعنى تمنى الموت تمنى الشهادة فى سبيل الله والقتال لنصرة الحق ولو ذهبت نفوسكم دونه. وصفوة القول- لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم فى الميدان، فهأنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه، وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه، فما بالكم دهشتم عند ما وقع الموت فيكم، وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون، ومن تمنى الشيء وسعى إليه لا ينبغى أن يحزنه لقاؤه ويسوءه. وفى الآية الكريمة تنبيه لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي، وهديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشق وعدم الثقة منها بما دون الجهاد والصبر على المكاره فى سبيل الحق، حتى يأمن الدعوى الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدّعى مع الغفلة أو الجهل بعجزه عنه. وكثيرا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ويفكر فى خدمتهما ويتمنى لو يتاح له أن يساهم فى تلك الخدمة بنفسه أو بماله، حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع، أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته. ولكن المؤمن حقا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حق، وذلك يستدعى العمل مهما كان شاقا، والجهاد مهما كان عسيرا، والصبر على المكاره، وإيثار الحق على الباطل.

وقد كان فيمن خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا فى المرتبة العليا من صدق الجهاد والصبر على المكاره، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثبات الجبال الراسيات، وهم نحو ثلاثين رجلا، لكنه جعل الخطاب عاما ليكون الإرشاد والنصح عاما للجميع، فيتهم ذو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير، فيزدادوا كمالا على كمالهم، ويرعوى المقصرون وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب فى تهذيب الأنفس، وقد ظهر أثر ذلك فى نفوس أولئك القوم فيما بعد، وربّاهم تربية كانت بها عزائمهم ماضية، وهممهم صادقة، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور. (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟) أي إن محمدا ليس إلا بشرا قد مضت الرسل قبله فماتوا وقتل بعضهم كزكريا ويحيي ولم يكتب لأحد منهم الخلد. أفإن مات كما مات موسى وعيسى وغيرهما من النبيين، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى، تقلبوا على أعقابكم راجعين عما كنتم عليه؟ والرسول ليس مقصودا لذاته، بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها. قال أنس بن النضر فى الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، وبلغت القلوب فيها الحناجر، وحين فشا فى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وقال بعض ضعفاء المؤمنين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبىّ فيأخذ لنا أمانا من أبى سفيان، وقال ناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول (إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه) ثم قال [اللهم إنى أعتذر إليك مما قال هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه] وأما المؤمنون الصادقون الموقنون، فمنهم من ثبت معه، ومنهم من كان بعيدا

عنه فرجع إليه كأبى بكر وعلى وطلحة وأبى دجانة الذي جعل نفسه ترسا دونه، فكان يقع عليه النّبل وهو لا يتحرك. والخلاصة- إنّ قتل محمد صلى الله عليه وسلم لا يوجب ضعفا فى دينه لأمرين: (ا) إن محمدا بشر كسائر الأنبياء، وهؤلاء قد ماتوا أو قتلوا. (ب) إن الحاجة إلى الرسول هى تبليغ الدين فإذا تم له ذلك فقد حصل الغرض ولا يلزم من قتله فساد دينه. وفى الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغى أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها ذا صلة بوجود القائد بحيث إذا قتل انهزم الجيش، أو استسلم للأعداء، بل يجب أن تكون المصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء وعلى هذا تجرى الحكومات والحروب فى عصرنا الحاضر. ومن توابع هذا النظام أن تعدّ الأمة لكل أمر عدّته، فتوجد لكل عمل رجالا كثيرين، حتى إذا فقدت معلما أو مرشدا أو قائدا أو حكيما أو رئيسا أو زعيما وجدت الكثير ممن يقوم مقامه، ويؤدى لها من الخدمة ما كان يؤديه وحينئذ يتنافس أفرادها، ويحفزون عزائمهم للوصول إلى ما يمكن أن يصل إليه كسب البشر، وينال كلّ منه بقدر استعداده وسعيه وتوفيق الله له. (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) أي ومن يرجع عن جهاده ومكافحته الأعداء فلن يضر الله شيئا بما فعل، بل يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب، وحرمانها من الثواب، فالله قد وعد بنصر من ينصره ويعزّ دينه، ويجعل كلمته هى العليا، وهو لا محالة منجز وعده. ولا يحول دون ذلك ارتداد بعض الضعفاء والمنافقين على أعقابهم، فهو سيثبّت المؤمنين ويمحّصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص، فيقيموا دينه، وينشروا دعوته، ويرفعوا شأنه، وتنشر على الخافقين رايته، وهو الذي بيده الخلق والأمر وهو القادر على كل شىء.

(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) له نعمه عليهم بالإيمان والهداية إلى أقوم السبل. وفى الآية إرشاد إلى أن المصايب التي تحل بالإنسان لا مدخل لها فى كونه على حق أو باطل، فكثيرا ما يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا، وصاحب الباطل بالنعم والعطايا. وفيها إيماء إلى أنا لا نعتمد فى معرفة الحق والخير على وجود المعلّم بحيث نتركهما عند موته، بل نسير على منهاجهما حين وجوده وبعد موته. والخلاصة- إن الله أوجب علينا أن نستضىء بالنور الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم، وما يعرض له من حياة أو موت، فلا مدخل له فى صحة دعوته، ولا فى إضعاف النور الذي جاء به، فإنما هو بشر مثلكم خاضع لسنن الله كخضوعكم. (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا) أي ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه تعالى ومشيئته التي بها يجرى نظام الحياة وترتبط فيها الأسباب بالمسببات. وقوله كتابا مؤجلا: أي أثبته الله مقرونا بأجل معين لا يتغير، ومؤقتا بوقت لا يتقدم ولا يتأخر، فكثير من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب، أو يتعرضون لعدوى الأمراض، أو يتصدون لأفاعيل الطبيعة، وهم مع ذلك لا يصابون بالأذى فالشجاع المقدام قد يسلم فى الحرب، ويقتل الجبان المتخلف ويفتك المرض بالشاب القوى، ويترك الضعيف الهزيل، وتغتال عوامل الأجواء الكهل المستوي وتتجاوز الشيخ الضعيف، فللأعمار آجال، وللآجال أقدار لا تخطوها، والأقدار هى السنن التي عليها تقوم نظم العالم وإن خفيت على بعض الناس، وإذا كان محيانا ومماتنا بإذن الله فلا محل للخوف والجبن، ولا عذر فى الوهن والضعف، ومما ينسب إلى علىّ قوله: أىّ يومىّ من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر

يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجو الحذر وفى الآية تحريض على الجهاد وتشجيع على لقاء العدو، فإنه إذا كان الأجل محتوما ومؤقتا بميقات، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المعارك واقتحم المهالك فلا محل إذا للخوف والحذر- إلى ما فيها من الإشارة إلى كلاءة الله وحفظه لرسوله مع غلبة العدوّ له والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس، فلم يبق سبب من أسباب الهلاك إلا قد حصل، ولكن لما كان الله حافظا وناصرا له لم يضرّه شىء، وفيها إشارة إلى أن قومه قد قصّروا فى الذبّ عنه. (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي ومن قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها، ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها. وفى معنى الآية الحديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» ... وفيها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد، فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه، وكأنه يقول لهم إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك، وما عليكم إلا أن تسلكوا سبيله، ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، بل يدعوكم إلى خير ترون حظا منه فى الدنيا، والمعوّل عليه ما فى الآخرة. فأنتم بين أمرين: إما إرادة الدنيا، وإما إرادة الآخرة، ولكل منهما سنن تتبع، وطرق تسلك، وفى معنى الآية قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» . ومن هدى الإسلام أن يطلب المرء بعمله خيرى الدنيا والآخرة معا، ويقول: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) والله يعطيه كل ما يطلب أو بعضه يحسب سنن الله وتدبيره لنظم الحياة.

وعلى الإنسان أن يعلم أن له طورين: (1) طور عاجل قصير، وهو طور الحياء الدنيا. (2) طور آجل أبدىّ، وهو طور الحياة الآخرة. وسعادته فى كل من الطورين مرتبطة بإرادته وما توجهه إليه من العمل، فالناس إنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد: فقوم يحاربون حبا فى الربح والكسب، أو ضراوة بالفتك والقتل، فإذا غلبوا أفسدوا فى الأرض وأهلكوا الحرث والنسل، وقوم يحاربون دفاعا عن الحق وإقامة لقوانين العدل، فإذا غلبوا عمروا الأرض وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فهل يستوى الفريقان، وهما فى المقصد مفترقان؟ كذلك يطلب الرجل الربح والكسب أحيانا بكل وسيلة مستطاعة طلبا للذاته، والحصول على شهواته، فيغلو فى الطمع، ويمعن فى الحيل، ولا يبالى أمن الحرام أكل أم من الحلال؟ يأكل الربا أضعافا مضاعفة، فيجمع القناطير المقنطرة، وهو مع ذلك يمنع الماعون، ولا يحضّ على طعام المسكين، ولو سئل البذل فى المصالح العامة كان أشد الناس بخلا وأقبضهم كفا، بينا يطلب آخر الكسب طلبا للتجمل وحبا للكرامة فى قومه وعشيرته، فيقتصد فى الطلب، ويتحرى الربح الحلال، ويلتزم الصدق والأمانة، ويبتعد عن الفسوق والخيانة، وهو مع هذا ينفق مما أفاء الله به عليه، فيواسى البائسين، ويساعد المعوزين، وتكون له اليد الطّولى فى الأعمال النافعة لأمته، فيشيد لها المدارس والمعابد، والملاجئ والمستشفيات، فهل ينظر الناس إلى هذين نظرة متساوية، وهل هما فى القرب عند الله بمنزلة واحدة، أو يفضل أحدهما الآخر بحسن القصد والإرادة والميل إلى الخير وحب المصلحة العامة. وقصارى القول- إن أقدار الرجال تتفاوت وتختلف باختلاف إرادتهم، فبينما تتسع دائرة وجود الشخص بحسب كبر إرادته وسعة مقصده، فتحيط بالكرة الأرضية، بل فوق ذلك بما يكون له من الكرامة فى العالم العلوي- إذا

بآخر تضيق دائرة وجوده إذا هو أخلد إلى الشهوات، وركن إلى اللذات، فيكون حظه من عمله كحظ الحشرات، يأكل ويشرب ويبغى على الضعيف ويخاف من القوى. والله قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم، ولا يقدر مثل هذا إلا القليل منهم. (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الذين يعرفون أنعم الله عليهم ويستعملونها فيما يرقى بهم إلى مراقى الكمال، فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم، وتنفع أمتهم كأنس ابن النضر وأمثاله الذين جاهدوا وصبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب فى انجلاء المشركين عن المسلمين. وبعد أن ضرب الله تعالى لهم المثل فى أنفسهم بأنهم كانوا قبل الموقعة يتحرقون شوقا إلى لقاء العدو، ثم أصابهم ما أصابهم عند لقائه- ضرب لهم المثل بغيرهم من أتباع الأنبياء السالفين وربييهم الذين لم يلحقهم وهن ولا ضعف بعد قتل أنبيائهم، بل صبروا واحتملوا الإيذاء حتى تغلب الحق على الباطل. وفى هذا من شديد التوبيخ لأولئك المنهزمين الذين لم يستنوا بسنة الربانيين المجاهدين مع الرسل صلوات الله عليهم، مع أنهم أحدر بذلك منهم إذ كانوا خير أمة أخرجت للناس فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) أي إن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير ممن آمن بهم، واعتقد أنهم هداة ومعلّمون، لا أرباب معبودون، فما وهنوا لما أصاب بعضهم من جرح أو قتل حتى ولو كان المقتول هو نبيهم نفسه، لأنهم يقاتلون فى سبيل الله لا فى سبيل نبيهم، علما منهم بأن النبي ما هو إلا مبلّغ عن ربه وهاد لأمته «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» وما ضعفوا عن جهاد عدوهم، ولا استكانوا ولا خضعوا له، ولا ولّوا الأدبار، بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه فى حال الحياة، إذ هم على يقين من ربهم فى أن الجهاد

فى السبيل التي يرضاها من تقرير العدل فى الأرض وحماية الحق وما يتبع ذلك ويلزمه. والخلاصة- عليكم أن تعتبروا بحال أولئك الربيين وتصبروا كما صبروا، فإن دين الله واحد، وسنته فى خلقه واحدة، ومن ثم طلب إليكم أن تعرفوا عاقبة من سبقكم من الأمم، وتقتدوا بعمل الصادقين الصابرين منهم، وتقولوا مثل قول أولئك الربّيين. وبعد أن بين سبحانه مفاخر أفعالهم أردفها بمحاسن أقوالهم فقال: (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي إن هؤلاء الربيين لم يكن لهم من قول عند اشتداد الخطوب ونزول الكوارث إلا الدعاء لربهم بأن يغفر لهم بجهادهم ما كانوا ألمّوا به من الذنوب، وتجاوزوا فيه حدود الشرائع، وأن يثبّت أقدامهم على الصراط القويم الذي هداهم إليه، حتى لا تزحزحهم الفتن ولا يعروهم الفشل والوهن حين مقابلة الأعداء، وأن ينصرهم على القوم الكافرين الذين يجحدون الآيات، ويعتدون على أهل الحق، فلا يمكنونهم من إقامة ميزان القسط، فما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء بمقتضى السنن التي هدى إليها خلقه، وألهمها عباده. وفى هذا إيماء إلى أن الذنوب والإسراف فى الأمور من عوامل الخذلان، والطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح، ومن ثم سألوا ربهم أن يمحو من نفوسهم أثر الذنوب وأن يوفقهم إلى دوام الثبات حين تزلّ الأقدام. وقد قدموا طلب المغفرة من الذنوب على طلب النصر ليكون الدعاء فى حيز القبول، فإن الدعاء المقرون بالخضوع والطاعة الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة. وفى طلبهم النصر من الله مع كثرة عددهم التي دل عليها قوله: (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) إعلام بأنهم لا يعوّلون على كثرة العدد بل يطلبون العون والمدد الروحاني من الله بثبات الأقدام والتمسك بأهداب الحق.

كما أن فى ذكر قولهم هذا دون ذكر ما فيه جزع وخور- تعريضا بأولئك المنهزمين من المسلمين يوم أحد. (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا) بالنصر على الأعداء، والظفر بالغنيمة، والسيادة فى الأرض، والكرامة والعزة وحسن الأحدوثة والذكر الحسن، وقد سمى ذلك ثوابا لأنه جزاء على الطاعة، وامتثال أوامر الله. (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) بنيل رضوان الله ورحمته، والقرب منه فى دار الكرامة، وقد فسّر بقوله تعالى: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» وقوله فى الخبر «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وما حصلوا على ذلك إلا بما قدموا من صالح العمل الذي كان له أحسن الأثر فى نفوسهم فارتقت به إلى حظيرة القدس، وتخصيص الحسن بهذا الثواب إيذان بفضله، وأنه المعتدّ به عند الله، وأنه ثواب لا يشوبه أذى، فهو ليس كثواب الدنيا عرضة للأذى والمنغّصات. وإنما جمع لهم بين الثوابين، لأنهم أرادوا بعملهم هاتين السعادتين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، كما هو شأن المؤمن «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» . وهذه الآية وأشباهها حجة على الغالين فى الزهد الذين يتحرجون عن الاستمتاع بشىء من لذات الدنيا، ويعدون ذلك منافيا للتقوى، ومبعدا عن رضوان الله. (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لأنهم هم الذين يقيمون سننه فى أرضه، ويظهرون بأنفسهم وأعمالهم أنهم جديرون بخلافة الله فيها، ولا تكون أعمالهم إلا بما يرضى الله، فهى من الله ولله. وقد جاء فى الآية الترتيب هكذا- التوفيق على الطاعة، ثم الثواب عليها، ثم المدح على ذلك، إذ سماهم محسنين، ليكون فى ذلك توجيه للعبد ليعلم أن كل ذلك بعنايته تعالى وفضله.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 إلى 151]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) تفسير المفردات المراد بالذين كفروا: أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن. وقال آخرون المراد عبد الله ابن أبىّ وأتباعه من المنافقين الذين ألقوا الشبهات فى قلوب الضعفة من المؤمنين، وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت هذه الواقعة، وإنما هو رجل كسائر الناس يوم له ويوم عليه، فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم عليه، يردوكم على أعقابكم: أي يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان، خاسرين: أي لاستبدالكم ذلة الكفر بعزة الإسلام، والانقياد للأعداء الذي هو أشق شىء على النفوس، ولحرمانكم من الثواب والوقوع فى العذاب، والمولى: الناصر والمعين، والرعب: شدة الخوف التي تملأ القلب، والسلطان: الحجة والبرهان وأصله القوة وسمى البرهان سلطانا لقوته على دفع الباطل، والمثوى: المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه من قولهم؟ ثوى يثوى ثويا إذا أقام. المعنى الجملي بعد أن رغب الله المؤمنين فى الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان مالهم من الفضل وعظيم الأثر وحسن العاقبة. نهاهم عن متابعة الكفار ببيان سوء مغبتها فى دينهم ودنياهم، والخطاب موجه إلى كل من سمع من المؤمنين مقالة أولئك القائلين من المنافقين- ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم، فإن الكفار لما أرجفوا أن النبي قد قتل دعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى الكفر فنهاهم الله عن الالتفات إلى كلامهم.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي إن تطيعوا الذين جحدوا نبوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم فتقبلوا رأيهم وتنتصحوهم فيما يزعمون أنهم لكم فيه ناصحون- يحملوكم على الردة بعد الإيمان والكفر بالله وآياته، ويرجعوكم عن إيمانكم ودينكم الذي هداكم الله له خاسرين للدنيا والآخرة، أما خسران الأولى فبخضوعكم لسلطانهم وذلتكم بينهم وحرمانكم من السعادة والملك والتمكين فى الأرض كما وعد الله المؤمنين الصادقين «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» . وأما خسران الثانية فيما يصيبكم من العذاب الأبدى فى النار وبئس القرار. (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) أي لا تفكروا فى ولاية أبى سفيان وشيعته، ولا عبد الله بن أبىّ وحزبه، ولا تأبهوا لإغوائهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرا، وإنما الله هو الذي ينصركم بعنايته التي وعدكم بها فى قوله: «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» فقد جرت سنته أن يتولى الصالحين ويخذل الكافرين كما قال: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» . (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي إنه سبحانه سيحكّم فى أعدائكم الكافرين سننه ويلقى فى قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله أصناما ومعبودات لم يقم برهان من عقل ولا نقل على ما زعموا من

ألوهيتها، وكونها واسطة بين الله وخلقه، وإنما قلدوا فى ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل، ومن ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب، واتباع خطوات الوهم، فهم يعدّون الوساوس أسبابا، والهواجس مؤثرات وعللا، ويرجون الخير مما لا يرجى منه الخير، ويخافون مما لا يخاف منه الضّير. وفى الآية إيماء إلى بطلان الشرك، وسوء أثره فى النفوس، إذ طبيعته تورث القلوب الرعب، باعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية، والأسباب العادية، فالمشركون الذين جاهدوا الحق، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف، بغيا وعدوانا- يرتابون فيما هم فيه ويتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين، ولا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلىء قلوبهم رعبا. والخلاصة- إن طبيعة المشركين إذا قاوموكم أيها المؤمنون، أن تكون نفوسهم مضطربة، وقلوبهم ممتلئة رعبا وهلعا منكم فلا تخافوهم، ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم والالتجاء إليهم. وبعد أن بين أحوال هؤلاء المشركين فى الدنيا من وقوع الخوف والهلع فى قلوبهم- ذكر أحوالهم فى الآخرة فقال: (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي إن مسكنهم النار بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود ومعاندة الحق ومقاومة أهله، وظلمهم للناس بسوء المعاملة وفى التعبير بالمثوى المنبئ عن المكث الطويل دليل على الخلود فيها.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 إلى 155]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 155] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) تفسير المفردات تحسونهم: أي تستأصلونهم بالقتل من قولهم: جراد محسوس: إذا قتله البرد، وسنة حسوس: إذا أتت على كل شىء، فكأن القاتل أبطل حسه بالقتل كما يقال بطنه أصاب بطنه، ورأسه أصاب رأسه، بإذنه: أي بعونه وتأييده، فشلتم: أي ضعفتم، فى الأمر: أي أمر الحرب، صرفكم عنهم: أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها، ليبتليكم: أي ليختبركم، والمراد ليعاملكم معاملة من يمتحن ويختبر،

المعنى الجملي

عفا عنكم: أي تاب عليكم، تصعدون: أي تذهبون فى الأرض وتبعدون، يقال أصعدنا من مكة إلى المدينة أي ذهبنا، ولا تلوون على أحد: أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، يقال فلان لا يلوى على شىء أي لا يعطف عليه ولا يبالى به، فى أخراكم: أي فى آخركم، يقال جئت فى آخر الناس، وفى أخراهم، وفى أخرياتهم، فأثابكم: أي جازاكم، الغم: ألم أو ضيق فى الصدر يكون من الأمر الذي يسوء الإنسان ولا يدرى المخرج منه، والأمنة: الأمن وهو ضد الخوف، يغشى: يغطى ويستر، يقال غشيه النعاس أو النوم أي غطاه كما يلقى الستر على الشيء: لبرز: أي لخرج لسبب من الأسباب، إلى مضاجعهم: أي مصارعهم التي قدر قتلهم فيها، وذات الصدور السرائر، والجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين، استزلهم أي أوقعهم فى الزلل والخطيئة، ببعض ما كسبوا: أي بسبب بعض الذنوب التي اقترفوها، فمنعوا من التأييد الإلهى. المعنى الجملي روى ابن جرير عن السّدى قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل فى وجوه خيل المشركين وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير، ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفى إلى الجنة، أو يعجلنى بسيفه إلى النار؟ فقام إليه على بن أبى طالب فقال: والذي نفسى بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفى إلى النار، أو يعجلنى بسيفك إلى الجنة، فضربه علىّ فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال: أنشدك الله والرحم يا ابن عم فتركه، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أصحاب علىّ له: ما منعك أن تجهز عليه؟ قال إن ابن عمى ناشدنى حين انكشفت عورته فاستحييت منه، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد

الإيضاح

ابن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع. ثم لما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة صاح فى خيله، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا، فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوا منهم نحو سبعين. ونستخلص من هذه الرواية أمرين: (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرماة ألا يبرحوا مكانهم، وأنه قال لهم لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم. (2) أن الذي عصى أمره من الرماة عامتهم، أما الذين بلغ الإيمان قرارة نفوسهم فقد ثبتوا. وروى الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد- قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله تعالى النصر؟ فأنزل الله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) الآية. الإيضاح (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي ولقد وفى لكم ربكم بوعده الذي وعدكم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من النصر على العدو حين تقتلونه قتلا ذريعا بتيسير الله ومعونته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره.

(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أي صدقكم الله وعده حتى ضعفتم فى الرأى والعمل، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة، وتنازعتم، فقال بعضكم: ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعصيتم رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهور المقاتلة بنصح المشركين بالنبل، من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر والظفر، فصبرتم على الضراء ولم تصبروا على السراء. وصفوة القول- إن الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع وعصيان أمر قائدكم صلى الله عليه وسلم، فانتهى النصر، لأن الله تعالى إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة. وفى قوله: من بعد ما أراكم ما تحبون- تنبيه إلى عظم المعصية، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا عن عصيانه، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم. (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشّعب من أحد وذهبوا وراء الغنيمة. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة قبلا نحو خمسين، والذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثون رجلا. (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي ثم كفكم عنهم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها، ليعاملكم معاملة من يمتحن، ليستبين أمركم وثباتكم على الإيمان. والخلاصة- إن الله صدقكم وعده، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حسّ واستئصال، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك: أي ليكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به، ويميز الصادقين من المنافقين.

(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم حتى صرتم كأنكم لم تفشلوا، وقد استبان أثر هذا العفو فيما بعد، كما حدث فى وقعة (حمراء الأسد) . (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي والله ذو فضل وطول على أهل الإيمان به وبرسوله، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصير يهبط بنفوس بعض، وضعف يلمّ بآخرين، بل يمحص ما فى صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين. (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي صرفكم عنهم حين أصعدتم أو ذهبتم منهزمين، لا تلتفتون من شدة الدهشة التي عرتكم، والذّعر الذي فجأكم. وبينا أنتم فى هذه الحال إذا بالرسول يدعوكم من ورائكم وينادى، هلمّ إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة، وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون، وقد كان لكم أسوة بالرسول، فتقتدون به فى الصبر والثبات. (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) قال فى الأساس: إنه لفى غمّة من أمره: إذا لم يهتد للخروج منه، ومنه قوله تعالى: «لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» والغم الأول ما حصل للصحابة رضوان الله عليهم بالهزيمة والقتل، والغم الثاني للرسول صلى الله عليه وسلم بمخالفة أمره، أي إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيانكم أمره، أذاقكم الله غم الانهزام وقتل الأحباب. والخلاصة- إنه أذاقكم هذا عوض هذا. وقد يكون المعنى- جازاكم غما متصلا بغم من الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الجرح والقتل وظفر المشركين بكم حتى صرتم من شدة الدهش يضرب بعضكم بعضا، وقد فاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها. (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) أي لأجل أن تمرنوا على تجرّع الغموم،

وتتعودوا احتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على ما يفوت من المنافع والمغانم. (وَلا ما أَصابَكُمْ) أي ولا تحزنوا على ما أصابكم من المضارّ، إذ التربية إنما تكون بالعمل والمران الذي يكمل به الإيمان وتثبت الفضائل. (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو عالم بجميع أعمالكم ومقاصدكم، والدواعي التي حفزتكم عليها، وقادر على مجازاتكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وفى هذا ترغيب فى الطاعة، وزجر عن الإقدام على المعصية. (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) أي ثم وهبكم من بعد الغم الذي اعتراكم أمنا أزال عنكم الخوف الذي كان بكم، حتى نعستم وغلبكم النوم، لتستردوا ما فقدتم من القوة بما أصابكم من القرح وما عرض لكم من الضعف. والنوم نعمة كبرى لمن يصاب بمثل تلك المصايب، وعناية من الله يخص بها بعض عباده فى مثل تلك المحن ليخفف وقعها على النفوس. وعن أبى طلحة رضي الله عنه غشينا النعاس ونحن فى مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه، وما من أحد إلا يميل تحت حجفته (ترسه) . وعن الزبير رضي الله عنه، لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف، فأرسل الله علينا النوم، والله إنى لأسمع معتّب بن قشير والنعاس يغشانى، ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا. (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار الذين كانوا على بصيرة فى إيمانهم. (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يقال همنى الشيء أي كان من همى وقصدى أي وجماعة من المنافقين كعبد الله بن أبىّ ومعتب بن قشير ومن لف لفهم، قد شغلوا بأنفسهم عن الرسول والدفاع عن الدين. وخلاصة هذا- إن المؤمنين بعد انتهاء الموقعة صاروا فريقين:

(1) فريق ذكروا ما أصابهم فعرفوا أنه كان بتقصير من بعضهم، وذكروا وعد الله بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم، ووثقوا بوعد ربهم، وأيقنوا أنهم إن غلبوا هذه المرة بسبب ما أصابهم من الفشل والتنازع وعصيان الرسول، فإن الله سينصرهم بعد، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة حتى يستردوا ما فقدوا من قوة، ويذهب عنهم ما عرض لهم من ضعف. (2) فريق أذهلهم الخوف حتى صاروا مشغولين عن كل ما سواهم، إذ الوثوق بوعد الله ووعد رسوله لم يصل إلى قرارة نفوسهم، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول فى قلوبهم، لا جرم عظم الخوف لديهم، وحق عليهم ما وصفهم الله به من قوله: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) غير الحق أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظنوه، إذ كانوا يقولون فى أنفسهم لو كان محمد نبيا حقا ما سلط الله عليه الكفار، وهذا مقال لا يقوله إلا أهل الشرك بالله. (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟) أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار: هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب؟ يعنون أنه ليس لهم من ذلك شىء، لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم قد فهموا أن النصر وحقية الدين متلازمان، فما حدث فى ذلك اليوم دليل على أن هذا الدين ليس بحق، وهذا خطأ كبير، فإن نصر الله رسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا ولكن العاقبة للمتقين. ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها. (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي إن كل أمر يجرى فهو بحسب سننه تعالى فى الخليقة، ووفق النظم التي وضعها، وربط فيها الأسباب بالمسببات. ومن ذلك نصر من ينصره من المؤمنين كما وعد بذلك فى قوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وقوله: َ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» . (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) أي يضمرون فى أنفسهم ما لا يستطيعون

إعلانه لك، فهم يظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) ويبطنون الإنكار والتكذيب. (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي يقولون لو كان أمر النصر والظفر بأيدينا كما ادعى محمد أن الأمر كله لله ولأوليائه، وأنهم الغالبون لما غلبنا، ولما قتل من المسلمين من قتل فى هذه المعركة. وهذا منهم تقرير لرأيهم واستدلال عليه بما وقع لهم، وقد غفلوا عن أن الآجال محدودة، والأعمار موقوتة بوقت لا تعدوه، ومن ثم أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي لو كنتم فى بيوتكم ولم تخرجوا للقتال- لخرج من بينكم من انتهت آجالهم وثبت فى علم الله أنهم يقتلون إلى حيث يقتلون ويسقطون فى البراز (الأرض المستوية) فتكون مصارع ومضاجع لهم. والخلاصة- إن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر عليهم القتل لا بد أن يقتلوا على كل حال، وإلا انقلب علم الله جهلا، فقتل من قتل إنما جاء لانتهاء آجالهم كما قدر ذلك فى اللوح المحفوظ، وكتب مع ذلك أنهم هم الغالبون، وأن العاقبة لهم، وأن دين الإسلام سيظهر على الدين كله. (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي وقد فعل ذلك ليكون القتل عاقبة من انتهت آجالهم، وليمتحن ما فى صدور المؤمنين من الإخلاص وعدمه، فيظهر ما انطوت عليه من ضعف وقوة، ويمحص ما فى قلوبهم من وساوس الشيطان، ويطهرها حتى تصل إلى الغاية القصوى من الإيقان. وقد قيل: لا تكرهوا الفتن، فإنها حصاد المنافقين. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عليم بالأسرار والضمائر، لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء. وفى هذا ترغيب وترهيب، وتنبيه إلى أن الله غنى عن الابتلاء والامتحان،

وإنما يظهر ذلك على هذه الصورة لحكم يعلمها كمران المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق وإظهار حال المنافقين، لأن الحقائق قد تخفى على أربابها، فينخدعون للشعور العارض بدون تمحيص ولا ابتلاء، كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه كما تقدم. (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي إن الرماة الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثبتوا فى أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين، ما تركوا هذه المواقع إلا بإيقاع الشيطان لهم فى الزلل واستجراره لهم بالوسوسة، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخّص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأوّل، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنائم فوات منفعة ولا وقوع فى ضرر، ولكن هذا التأويل كان سببا فى كل ما جرى من المصايب التي من أجلها ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا فى الغنيمة، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا. وفى هذا إيماء إلى سنة من سنن الله فى أخلاق البشر وأعمالهم، وهى أن المصايب التي تعرض لهم فى خاصة أنفسهم أو فى شئونهم العامة، إنما هى آثار طبيعية لبعض أعمالهم، ولكن الله قد يعفو عن بعض الأعمال التي لا أثر لها فى النفس وليست ملكة ولا عادة لها، بل صدرت هفوة غير متكررة، وهى التي عناها سبحانه بقوله: «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» وإليها الإشارة بقوله: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» . فهذه المصايب والعقوبات، سواء أكانت فى الدنيا أم فى الآخرة- آثار طبيعية للأعمال السيئة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 إلى 158]

(وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) أي إنّ ما صدر منهم من الذنوب فى هذا اليوم يستحق أن يعاقبوا عليه فى الدنيا والآخرة، لكن الله عفا عن عقوبتهم الأخروية، وجعل عقوبتهم فى الدنيا تربية وتمحيصا. وفى هذا دفع لاستيلاء اليأس على نفوسهم، وتحسين لظنونهم. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي إن الله يغفر الذنوب جميعا صغيرها وكبيرها بعد التوبة والاعتذار، حليم لا يعاجل بالعقوبة على الذنب. وقد جاءت هذه الجملة كالسبب للعفو عن هؤلاء المتولين وقد كانوا أكثر المقاتلين، فإنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلا، خمسة من المهاجرين وباقيهم من الأنصار، وقد بالغ بعض المنهزمين فى الفرار حتى إن بعضهم لم يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ثلاثة أيام، فقال لهم لقد ذهبتم بها عريضة، وبعضهم رجع فى ذلك اليوم واجتمعوا على الجبل كعمر بن الخطاب رضي الله عنه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) تفسير المفردات المراد بالذين كفروا هنا: المنافقون كعبد الله بن أبىّ وأصحابه، ضربوا فى الأرض: أي سافروا فيها للتجارة والكسب، لإخوانهم: أي فى شأنهم، والأخوة تشمل أخوة النسب وأخوة الدين والمودة، وغزّى: واحدهم غاز وهو المقاتل فى الحرب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا- حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) أي لا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك المنافقين الذين قالوا فى شأن إخوانهم حين سافروا فى الأرض للتجارة والكسب فماتوا، أو كانوا غزاة فى وطنهم أو فى بلاد أخرى فقتلوا: لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وعبر عن هؤلاء المنافقين بالكافرين، لبيان أن مثل هذا لا ينبغى أن يصدر من المؤمنين، بل إنما يصدر من الكافرين، إذ أن من مات أو قتل فقد انتهى أمره، فقولهم (لو كان كذا) عبث لأن ما وقع لا يرتفع، والحسرة عليه لا تفيد، ومن شأن المؤمنين أن يكونوا صحيحى العقل والإدراك. إلى أن فى هذا القول جهلا بالدين وجحدا له فإن الله يقول: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» . وعقيدة القضاء والقدر لا تجعل المسلم مجبورا على أفعاله التي تصدر منه، فإن القضاء تعلق العلم الإلهى بالشيء، والعلم انكشاف لا يفيد الإلزام، والقدر وقوع الشيء بحسب العلم، والعلم لا يكون إلا مطابقا للواقع وإلا كان جهلا. والله تعالى قد جعل للإنسان اختيارا فى أعماله، لكنه خلقه مع ذلك ناقص القدرة والإرادة والعلم، فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة

أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه، مع اعتقاده بأنه هو الموافق للمصلحة لمرض يلمّ به، أو مانع يحول بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه. وإنا لنرى هذا يحدث كل يوم، فليس الإنسان بقادر على أن يفعل كل ما يشاء كما يخيل إلى الناس اغترارا بما ينفذونه من عزائمهم، فاختياره فى أعماله وقدرته عليها ومعرفته الأسباب، كل ذلك له حدود لا يتعداها، فهو لا يحيط علما بأسباب الموت، ولا يقدر على اجتناب كل ما يعلم من أسبابه، وما كل ما يتعرض له يقع، فالذين يعرّضون أنفسهم لنار الحرب قد يسلم أكثرهم ويقتل أقلهم. ومن هذا تعلم أن الشيء متى وقع علم أن وقوعه لم يكن منه بد، وأن الإنسان إذا كان يؤمن بمعونة الله وتأييده، وأنه يوفقه إلى علم ما يجهل من أسباب سعادته، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط فى العمل، وأبعد عن اليأس والكسل. (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون عاقبة ذلك القول مع الاعتقاد حسرة فى قلوبهم على من فقد من إخوانهم تزيدهم ضعفا وتورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت، فإنكم إذا كنتم مثلهم فى ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون، فلا يكون لكم ميزة عنهم بالعقل الراجح الذي يهدى صاحبه إلى أن الذي وقع كان لا بد أن يقع، فلا يتحسر عليه، ولا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانا وتسليما بكل ما يجرى به القضاء (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي والله هو المؤثر وحده فى الحياة والموت بمقتضى سننه فى أسبابهما، وليس للإقامة والسفر مدخل فيهما، فإن الله قد يحيى المسافر والغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك، ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم. وقد أثر عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته: ما فىّ موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وهأنذا أموت كما يموت العير (الحمار) فلا نامت أعين الجبناء. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يخفى عليه شىء مما تكنّون فى أنفسكم من المعتقدات

التي لها أثر فى أقوالكم وأفعالكم، فاجعلوا نفوسكم طاهرة من وساوس الشيطان حتى لا يصدر منها ما يصدر من الكفار. وفى هذا تهديد للمؤمنين حتى لا يماثلوا الكفار فى أقوالهم وأفعالهم. ثم بشر من قتل أو مات فى سبيل الله بحسن المآل فقال: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الموت فى سبيل الله هو الموت فى عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان فى سبيل البر والخير التي هدى الله الإنسان إليها ويرضاها منه، فالمحارب قد يموت فى أثناء الحرب من التعب والإعياء، أو الإتيان بعمل من الأعمال التي تستدعيها الحروب فيكون هذا موتا فى سبيل الله. أي إن مغفرة الله ورحمته لمن يموت أو يقتل فى سبيل الله، خير لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال والمتاع فى هذه الدار الفانية، فإن هذا ظل زائل، وذاك نعيم خالد. والخلاصة- إن ما ينتظره المؤمن المقاتل فى سبيل الله من المغفرة التي تمحو ما كان من ذنوبه، والرحمة التي ترفع درجاته- خير له مما يجمع أولئك الحريصون على الحياة الذين يتمتعون باللذات والشهوات. فما أجدر المؤمنين أن يؤثروا مغفرة الله ورحمته على الحظوظ الفانية، وألا يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت فى سبيل الله فإن ما يلقونه بعدهما خير لهم مما كانوا فيه قبلهما. ثم حثهم على العمل فى سبيل الله، لأن المآل إليه فقال: (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) أي إنكم بأى سبب كان هلاككم فإنكم إلى الله تحشرون لا إلى غيره، فيجزى كلا منكم بما يستحق من الجزاء، فيجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ولا يرجى من غيره ثواب، ولا يتوقع منه دفع عقاب، فآثروا ما يقربكم إليه، ويجلب لكم رضاه من العمل بطاعته، وعليكم بالجهاد فى سبيله، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها، فإنها فانية، وتلك الحياة الأخرى باقية خالدة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 إلى 160]

والمراد من الحشر إلى الله فى مثل هذا مما جاء فى القرآن الكريم، أن الإنسان فى ذلك اليوم الذي يحشر فيه الناس يستقبل ما يلاقيه من الله جزاء عمله، لا يشغله عنه شىء، فيكون بذلك راجعا عن كل شىء فيه إلى الله، محشورا مع سائر الناس. أما الإنسان فى هذه الدار فقد يغفل عن الله وينسى هيبته وجلاله، وعظمته وسلطانه، لاشتغاله بدفع المكاره عن نفسه، وجلب اللذات والرغائب لها. وإذا كان هذا مصير كل حى مهما كان سبب موته أو قتله، فالاشتغال بذكر سبب المصير ومبدئه لا يفيد، وإنما الذي يجدر بالعاقل هو الاهتمام بالمستقبل والاستعداد له، والعمل لما به الفوز والسعادة فيه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 160] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) تفسير المفردات اللين فى المعاملة: الرفق والتلطف فيها، والفظ: الخشن الشّرس الأخلاق الجافي فى المعاشرة فى القول والفعل، والغليظ: القاسي الذي لا يتأثر قلبه من شىء، وانفضّ القوم: تفرقوا كما قال: «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» والمشاورة: من قولك شرت العسل إذا اجتنيتها واستخرجتها من موضعها، والمراد بالأمر سياسة الأمة فى الحرب والسلم والخوف إلى نحو ذلك من المصالح لدنيوية، والتوكل: إظهار العجز والاعتماد على غيرك والاكتفاء به فى فعل ما تحتاج إليه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين فى الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم فى معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم- زاد فى الفضل والإحسان إليهم فى هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم، وقد نزلت هذه الآيات عقب وقعة أحد التي خالف فيها النبىّ صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، وكان من جرّاء ذلك ما كان من الفشل وظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبي صلى الله عليه وسلم مع من أصيب، فضبر وتجلد ولان فى معاملة أصحابه وخاطبهم بالرفق ولم يعاتبهم، اقتداء بكتاب الله إذ أنزل فى هذه الواقعة آيات كثيرة بين فيها ما كان من ضعف بعض المسلمين وعصيانهم وتقصيرهم، حتى ذكر الظنون والهواجس النفسية، لكن مع العتب المقترن بذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة. الإيضاح (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي إنه قد كان من أصحابك ما يستحق الملامة والتعنيف بمقتضى الطبيعة البشرية، إذ صدروا عنك حين اشتداد الأهوال، وشمّروا للهزيمة والحرب قائمة على قدم وساق، ومع ذلك لنت لهم وعاملتهم بالحسنى بسبب الرحمة التي أنزلها الله على قلبك، وخصّك بها، إذ أمدك بآداب القرآن العالية، وحكمه السامية، حتى هانت عليك المصايب، وعلّمتك ما لها من المنافع وحسن العواقب. وقد مدح الله نبيه بحسن الخلق فى مواضع من كتابه فقال: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» وقال: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» وقال صلى الله عليه وسلم: «لا حلم

أحبّ إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه» . (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي ولو كنت خشنا جافيا فى معاملتهم لتفرقوا عنك، ونفروا منك، ولم يسكنوا إليك، ولم يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط السوىّ. ذاك أن المقصود من بعثة الرسل تبليغهم شرائع الله إلى الخلق، ولا يتم ذلك إلا إذا مالت قلوبهم إليهم، وسكنت نفوسهم لديهم، وذلك إنما يكون إذا كان الرسول رحيما كريما يتجاوز عن ذنب المسيء، ويعفو عن زلاته، ويخصه بوجوه البر والمكرمة والشفقة. (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي واسلك معهم سبيل المشورة التي اتبعتها فى هذه الواقعة ودم عليها- فإنهم وإن أخطئوا الرأى فيها، فإن فى تربيتهم عليها دون الانقياد لرأى الرئيس وإن كان صوابا نفعا فى مستأنف أمرهم ومستقبل حكومتهم ما حافظوا عليها. فالجماعة أبعد عن الخطإ من الفرد فى أكثر الحالات، وما ينشأ من الخطر على الأمة بتفويض أمرها إلى واحد مهما حصف رأيه، أشد من الخطر الذي يترتب على رأى الجماعة. ولما كانت الاستشارة سبيلا للنزاع ولا سيما إذا كثر المستشارون- أمر الله نبيه أن يقرر هذه السنة عملا، فكان يستشير صحبه بهدوء وسكينة ويصغى إلى كل قول ويرجح رأيا على رأى بما يرى فيه من المصلحة والفائدة بقدر المستطاع. وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالشّورى فى حياته، فكان يسيشير السواد الأعظم من المسلمين، ويخص بها أهل الرأى والمكانة فى الأمور التي يضر إفشاؤها. فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب ولم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون والأنصار بالموافقة، واستشارهم يوم أحد كما علمت، وهكذا كان

يستشيرهم فى كل مهمّ ما لم ينزل عليه فيه وحي، فإنه إذ ذاك لا بد من نفاذه، ولم يضع للنبى صلى الله عليه وسلم قواعد الشورى، لأنها تختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية، وبحسب الزمان والمكان، ولأنه لو وضع لها قواعد لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها فى كل زمان ومكان، ومن ثم قال الصحابة فى اختيار أبى بكر خليفة رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، إذ أمره بالإمامة فى الصلاة حين مرضه أفلا نرضاه لدنيانا؟ ولكن الخلفاء فيما بعد لم يتبعوا هذه السنة، ولا سيما زمن الدولة العباسية، إذ كان للأعاجم سلطان كبير فى ملكهم، ثم جرى على ذلك سائر الملوك من المسلمين فيما بعد، وجاراهم على ذلك علماء الدين، حتى ظن كثير من غير المسلمين أن السلطة فى الإسلام استبدادية، وأن الشورى اختيارية، ولكن هذا بعيد من الصواب، بعد أن صرح القرآن بالشورى وأمر نبيه بها وهو المعصوم عن الهوى وللشورى فوائد جمة منها: (1) إنها تبين مقادير العقول والأفهام، ومقدار الحب والإخلاص للمصالح العامة. (2) إن عقول الناس متفاوتة وأفكارهم مختلفة، فربما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيره وإن كان عظيما. (3) إن الآراء فيها تقلّب على وجوهها، ويختار الرأى الصائب من بينها. (4) إنه يظهر فيها اجتماع القلوب على إنجاح المسعى الواحد، واتفاق القلوب على ذلك مما يعين على حصول المطلوب، ومن ثم شرعت الاجتماعات فى الصلوات، وكانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة. وعن الحسن رضي الله عنه: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» وعن أبى هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي فإذا عقدت القلب على فعل شىء وإمضائه بعد المشاورة ومبادلة الرأى فيه، فتوكل على الله، وفوّض الأمر إليه بعد أخذ الاهبة واستكمال العدّة، ومراعاة الأسباب التي جعلها الله وسيلة للوصول إلى المسببات كما ورد فى الحديث «اعقلها وتوكل» . ولا تتكل على ما أوتيت من حول وقوة، ولا على إحكام الرأى وأخذ العدة، فذلك كله ليس بكاف فى النجاح ما لم تقرن به معونة الله وتوفيقه، لأن الموانع الخارجية والعوائق التي تحول دون الوصول إلى البغية، لا يحيط بها إلا علام الغيوب، فلا بد من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته. وفى الآية إيماء إلى وجوب إمضاء العزيمة متى استكملت شروطها التي من أهمها المشورة. وسر هذا أن نقض العزائم خور فى النفس، وضعف فى الأخلاق يجعل صاحبه غير موثوق به فى قول ولا فعل، ولا سيما إذا كان رئيس حكومة، أو قائد جيش، ومن ثم لم يصغ النبي صلى الله عليه وسلم إلى مشورة من رجع عن رأيه الأول وهو الخروج إلى أحد حين لبس لامته وخرج، إذ رأى أن هذا شروع فى العمل بعد أن أخذت الشورى حقها. وبذلك علمهم أن لكل عمل ميقاتا محدودا، وأن وقت المشورة متى انتهى جاء طور العمل، وأن الرئيس إذا شرع فى العمل تنفيذا للشورى لا يجوز أن ينقض عزيمته، ويبطل عمله، ولو كان يرى أن أهل الشورى أخطئوا الرأى والتدبير كما حدث فى مسألة أحد كما تقدم. ولا يزال أهل السياسة والحرب فى البلاد ذات الحضارة والمدنية يجرون على هذه القاعدة ويجعلونها دستورا لأعمال أممهم، ولا ينقضونها على أي حال، حتى قال أحد كبار الساسة الإنجليز: إن السياسة متى قررت شيئا وشرعت فيه وجب إمضاؤه وامتنع نقضه والرجوع عنه وإن كان خطأ.

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه الواثقين به، فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة. وفى الآية إرشاد للمكلفين، وترغيب لهم فى التوكل على الله، والرجوع إليه، والإعراض عن كل ما سواه. قال الرازي: دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل عليه أن يراعى الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحكمة اه. فالتوكل الصحيح إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وبدونها يكون دعوى التوكل جهلا بالشرع وفسادا فى العقل، قال تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» وقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ» وقال: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» وقال: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» وقال لنبيه لوط «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» وقال لموسى عليه السلام: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا» وقال حكاية عن نبيه يعقوب لابنه يوسف: «لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» وقال أيضا حاكيا عنه: «يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ففى هذا أمر بالحذر مع التنبيه إلى أنه متوكل على الله، ولا تنافى بينهما ولا غنى للمؤمن عنهما. روى أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن ابن عباس مرفوعا «يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب، الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون» وقد قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرها، إذ لم ينف من

الأعمال إلا الاستشفاء بالرّقية وهى إنما يطلبها الجاهلون بالأسباب الحقيقية، وإلا التطير وهو التيمن والتشاؤم بحركات الطير، وإلا الكي بالنار وكانوا يتداوون به فى الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه لأمته، ويعده من الأسباب المؤلمة التي تنافى التوكل، وقد روى أحمد «لم يتوكل من استرقى أو اكتوى» . وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» وهو ظاهر فى أن التوكل يكون مع السعى، لأنه ذكر للطير عملا وهو الذهاب صباحا فى طلب الرزق وهى فارغة البطن والرجوع وهى ممتلئتها. وأخرج ابن حبان فى صحيحه: «حديث الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته وقال: أأعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل» . وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: قلت لأبى هؤلاء المتوكلون يقولون: نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل، قال: ذا قول ردىء خبيث، يقول الله عز وجل: «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» وقال أيضا: سألت أبى عن قوم يقولون: نتكل على الله ولا نكتسب، قال: ينبغى للناس كلهم أن يتوكلوا على الله ولكن يعوّدون أنفسهم الكسب، هذا قول إنسان أحمق. وسر هذا أن الإنسان إذا توكل ولم يستعدّ للأمر ويأخذ له الأهبة بحسب ما سنه الله من الأسباب، أسف وندم وتحسر على ما فات، وعدّ ملوما عقلا وشرعا، كما أنه إذا أخذ الأهبة واعتمد عليها وغفل قلبه عن الله كان عرضة للهلع والجزع إذا خاب سعيه ولم ينل بغيته، وربما وقع فى اليأس الذي لا مطمع معه فى فلاح ولا نجاح. (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي إن أراد الله نصركم كما حدث يوم بدر حين عملتم بسنته، وثبتم فى مواقفكم، واتكلتم على توفيقه ومعونته، فلا غالب لكم

[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 إلى 164]

من الناس الذين جعلهم حرمانهم من التوكل عليه عرضة لليأس والقنوط. وفى هذا ترغيب فى التوكل على الله بعد المشورة والعزيمة الصادقة المترتبة على أخذ الاستعداد بما أوتيه من الحول والقوة. (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ؟) أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته بما كسبت أيديكم من الفشل والتنازع وعصيان القائد فيما أمركم به كما جرى يوم أحد، فلا أحد يملك لكم نصرا ولا يدفع عنكم الخذلان. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فليخصه المؤمنون بالتوكل، لأنه لا ناصر لهم سواه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 164] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) تفسير المفردات الغلّ: الأخذ خفية كالسرقة، ثم غلب استعماله فى السرقة من المغنم قبل القسمة، ويسمى الغلول أيضا، وتوفى كل نفس ما كسبت، أي تعطى جزاء ما عملت تاما وافيا، وباء: رجع، والسخط (بفتحتين وبضم فسكون) : الغضب العظيم، والمأوى: المصير، هم درجات أي ذوو درجات ومنازل، والبصير هو الذي يشاهد ويرى حتى

المعنى الجملي

لا يعزب عنه ما تحت الثرى، منّ: أي أنعم وتفضل، من أنفسهم أي من جنسهم من العرب ليفقهوا كلامه، ويزكيهم أي يطهرهم من أدران الوثنية والعقائد الفاسدة، من قبل: أي من قبل بعثة الرسول، ضلال مبين: أي ضلال بيّن لا ريب فيه. المعنى الجملي بعد أن حث عز اسمه فيما سلف على الجهاد، وبين مصير المجاهد فى سبيله- أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد، ومن جملتها الكف عن الغلول. روى الكلبي ومقاتل: أن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا من مغنم فهو له، وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى؟ فقالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال لهم: بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم. الإيضاح (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي ما كان من شأن أىّ نبى ولا من سيرته أن يغل، لأن الله عصم أنبياءه منه، فهو لا يليق بمقامهم ولا يقع منهم، لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية، فصاحبها لا يرغب فيما فيه دناءة وخسة. (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وكل من يقع منه غلول يأتى بما غل به يوم القيامة حاملا له، ليفتضح أمره ويزيد به فى عذابه. أخرج البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره ثم قال: ألا لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول له لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجىء

يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك» . وجعل بعض العلماء هذا الحديث من قبيل التمثيل، فشبهت حال الغالّ بما يرهقه من أثقال ذنبه وفضيحته به مع من فقد الناصر والمغيث- بحال من يحمل ذلك على عاتقه، ويقصد أرجى من يمكنه أن يغيثه فيخذله ويتنصل من إغاثته، وما زال الناس يشبهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية، ويعبرون عن ذلك بالحمل كما قال تعالى «اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ، وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» . وقال أبو مسلم الأصفهانى: إن الإتيان فى الآية معناه: أن الله يعلمه أتم العلم وينكشف له أوضح انكشاف، فالمراد أن كل غلول وخيانة خفية يعلمه الله مهما خفى، ويظهره يوم القيامة للغالّ حتى يعرفه كمعرفة من أتى بشىء يوصله إلى غيره، كما جاء فى قوله تعالى حكاية عن لقمان: «يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» فليس معنى الإتيان هنا أنه يحملها، بل يعلم بها مهما كانت مستترة، لأن من يأتى بالشيء لا بد أن يكون عالما به. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ثم بعد أن يأتى الغالّ بما غل فيتمثل له كأنه حاضر بين يديه، ينال جزاء ما كسب مستوفى تاما لا ينقص منه شىء كما قال تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» .

وجاء حكم التوفية فى الجزاء عاما لكل كاسب، وإن كان الكلام فى جزاء الغالّ فحسب- ليكون كالدليل على المقصود من استيفائه الجزاء، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيّا بعمله لا ينقص منه شىء وإن كان جرمه حقيرا، فالغالّ مع عظم جرمه أولى بذلك. وقد أردف الله توفية ما كسبته كل نفس بالتفصيل الآتي ليبين أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين، فقال: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ؟) أي أفمن اتقى وسعى فى تحصيل رضا الله بفعل الطاعات، وترك الغلول وغيره من الفواحش والمنكرات حتى زكت نفسه وصفا روحه- يكون جزاؤه كجزاء من انتهى أمره إلى سخط الله، وعظيم غضبه، بفعل ما يدسّى نفسه من الخطايا من سرقة وغلول وسلب وقتل، وترك ما يطهرها من فعل الخيرات وعمل الصالحات؟. ثم صرح بالفارق بينهما فقال: (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ومأواه الذي يأوى إليه، ولا مرجع له غيره، هى جهنم وساءت منقلبا ومرجعا ومآبا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» وقوله: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» . (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) أي إن كلا ممن اتبع رضوان الله ومن باء بغضب من الله طبقات مختلفة، ومنازل عند الله متفاوتة فى حكمه، وبحسب علمه بشئونهم وبما يستحقون من الجزاء «يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» . والخلاصة- إن الناس يتفاوتون فى الجزاء عند الله كما يتفاوتون فى الفضائل والمعرفة فى الدنيا، وما يترتب على ذلك من الأعمال الحسنة أو السيئة.

وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا ابتداء من الرفيق الأعلى الذي طلبه النبي صلى الله عليه وسلم فى مرض موته إلى الدرك الأسفل. وهذه الدرجات أثر طبيعى لارتقاء الأرواح أو تدليها بالأعمال الصالحة أو السيئة. (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه شىء من أعمالهم التي لها التأثير العظيم فى تزكية نفوسهم وفوزها وفلاحها وارتقائها إلى أرفع الدرجات- أو فى تدسيتها التي يترتب عليها الخيبة والخسران والهبوط إلى أسفل الدركات كما قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) . ولا يعلم هذه الدرجات إلا من أحاط بكل شىء علما، لأنه هو الذي لا يخفى عليه أثر من آثار الأعمال فى الأنفس، ولا ما يختلج القلوب من الخواطر والهواجس. وبعد أن نفى الغلول والخيانة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه أكد ذلك بهذه الآية. (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي إن هذا الرسول ولد فى بلدهم، ونشأ بين ظهرانيهم، ولم يروا منه طوال حياته إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا، فكيف يظن بمن هذه حاله خيانة وغلول؟. وقد وصفه الله بأوصاف كل منها يقتضى عظيم المنة: (1) إنه من أنفسهم أي إنه عربى من جنسهم، وبذا يكونون أسرع الناس إلى فهم دعوته والاهتداء بهديه، وأقرب إلى الثقة به من غيرهم، إلى أنهم إذا كانوا على كثب منه وقفوا على أحواله من الصدق والأمانة، إلى مالهم بذلك من شرف وجليل خطر كما قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقال: وكم أب علا بابن ذا شرف ... كما علت برسول الله عدنان وقد خطب أبو طالب فى تزويج خديجة رضي الله عنها للنبى صلى الله عليه وسلم بمحضر من بنى هاشم ورؤساء مضر، فقال:

الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضىء (أصل) معدّ، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن هذا ابن أخى محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. وتخصيص هذه المنة بالعرب مع أنه بعث للناس كافة لمزيد انتفاعهم به، على أن هذه النعمة الكبرى ذكرت فى آيات أخرى كقوله: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) . (2) إنه يتلو عليهم آياته الدالة على قدرة الله ووحدانيته وعلمه، ويوجه النفوس إلى الاستفادة منها، والاعتبار بها كما جاء فى قوله: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ» وقوله «وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها» وقوله «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» . (3) إنه يزكيهم ويطهرهم من العقائد الزائفة، ووساوس الوثنية وأدرانها إذ أن العرب وغيرهم قبل الإسلام كانوا فوضى فى أخلاقهم وعقائدهم وآدابهم، فكان محمد صلى الله عليه وسلم يقتلع منهم جذور الوثنية، ويدفع عنهم العقائد الباطلة كاعتقادهم أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى، ومضارّ تخشى من بعض المخلوقات، فيجب تعظيمها والالتجاء إليها، دفعا لشرها، وجلبا لخيرها، وتقربا إلى خالقها. ولا شك أن من يعتقد مثل هذا يكون أسير الأوهام، وعبد الخرافات، يخاف فى موضع الأمن، ويرجو حيث يجب الحذر والخوف. (4) إنه يعلمهم الكتاب والحكمة، فتعليم الكتاب اضطرهم إلى تعلم الكتابة،

[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 إلى 168]

وأخرجهم من الأمية إلى نور العلم والعرفان، فقد طلب إليهم كتابة القرآن، واتخذ كتبه للوحى، وكتب كتبا دعا بها الملوك والرؤساء إلى الإسلام فى سائر الأصقاع المعروفة، فانتشرت الكتابة بينهم، وعظمت مدنيتهم، وامتدت سلطتهم فملكوا الأمم التي كان لها السلطان والصّولة والنفوذ فى تلك الحقبة. كذلك علّمهم الحكمة وأرشدهم إلى البصر بفهم الأشياء، ومعرفة أسرارها، وفقه أحكامها، وبيان ما فيها من المصالح والحكم، وهداهم إلى طرق الاستدلال، ومعرفة الحقائق، ببراهينها، فكان ذلك من أكبر البواعث على العمل بها، والتمسك بأهدابها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. والخلاصة- إن تعليم الكتاب إشارة إلى معرفة ظواهر الشريعة، وتعليم الحكمة إشارة إلى فهم أسرارها وعللها وبيان منافعها. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإنهم كانوا قبل هذه البعثة فى ضلال بيّن واضح، ولا ضلال أظهر من ضلال قوم يشركون بالله ويعبدون الأصنام ويسيرون وراء الأوهام، وهم على ذلك أميون لا يقرءون ولا يكتبون حتى يعرفوا حقيقة ما هم فيه من الضلال. وإنما جعلها منة لكونها وردت بعد محنة، فكان موقعها أعظم، إذ أن بعثة الرسول جاءت بعد جهل وبعد عن الحق، فكانت أعم نفعا وأتم وقعا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المراد بالمصيبة: ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم، وقتل سبعين منهم، ومثليها أي ضعفها بقتل سبعين من المشركين، وأسر سبعين منهم يوم بدر، أنى هذا؟ أي من أين لنا هذا، وهو تعجب مما حل بهم من هذا المصاب، من عند أنفسكم أي بشؤم معصيتكم، الجمعان: جمع المؤمنين وجمع المشركين، فبإذن الله أي بإرادته الأزلية وقضائه السابق بارتباط بالمسببات بأسبابها، فادرءوا أي فادفعوا، إن كنتم صادقين أي فى دفع المكاره بالحذر. المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه عن المنافقين أنهم نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلول والخيانة، ثم برأه منه، وبين ما بعث لأجله- عاد هنا إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة قبل الواقعة وبعدها، وبين خطأهم وضلالهم فى أقوالهم وأفعالهم. الإيضاح (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا؟) أي لا ينبغى لكم أن تعجبوا مما حل بكم فى هذه الواقعة، فإن خذلانكم فيها لم يبلغ مبلغ ظفركم فى بدر، فقد كان نصركم فى تلك الواقعة ضعف انتصار المشركين فى هذه. فلماذا نسيتم فضل الله عليكم فى بدر فلم تذكروه، وأخذتم تعجبون مما أصابكم فى أحد وتسألون عن سببه.

وفائدة قوله قد أصبتم مثليها- التنبيه إلى أن أمور الدنيا لا تدوم على نهج واحد فأنتم هزمتموهم مرتين، فكيف تستبعدون أن يهزموكم مرة واحدة. وقد كان سبب تعجبهم أنهم قالوا: كيف ننصر الإسلام الذي هو الدين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك بالله، ومع ذلك ينصرون علينا؟. وقد أجاب الله عن هذه الشبهة بجوابين: (1) قوله قد أصبتم مثليها. (2) قوله (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي إن هذا الذي وقع إنما وقع بشؤم معصيتكم لأنكم عصيتم الرسول فى أمور كثيرة: (ا) إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: المصلحة فى البقاء فى المدينة، فلا نخرج إلى أحد، فأبيتم إلا الخروج، وكان الرأى ما رآه الرسول حتى إذا ما دخلها المشركون قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من سطوح المنازل. (ب) إنكم فشلتم وضعفتم فى الرأى. (ح) إنكم تنازعتم وحصلت بينكم مهاترة كلامية. (د) إنكم عصيتم الرسول صلى الله عليه وسلم وفارقتم المكان الذي أمركم بالوقوف فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكون من ورائكم. ولا شك أن العقوبات آثار لازمة للأعمال، والله تعالى إنما وعدكم النصر بشرط ترك المعصية كما قال: «إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» . (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو القادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، وهو القادر على التخلي عنكم إن خالفتم وعصيتم، وهو سبحانه قد ربط الأسباب بالمسببات، ولا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر.

فوجود الرسول بينكم وأنتم قد خالفتم سنن الله فى البشر لا يحميكم مما تقتضيه هذه السنن. (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين فى أحد، فهو بإذن الله وإرادته وقضائه السابق بجعل المسببات نتائج لأسبابها فكل عسكر يخطىء الرأى، ويعصى قائده، ويخلّى بين العدو وبين ظهره، يصاب بمثل ما أصبتم به، أو بما هو أشد وأنكى منه. وفى ذلك تسلية للمؤمنين وعبرة تشرح لهم ما تقدم من قوله: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» . (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي ليظهر علم الله بحال المؤمنين من قوة الإيمان وضعفه، واستفادتهم من المصايب حتى لا يعودوا إلى أسبابها، وليعرفوا سنن الله عند ما يظهر فيهم حكمها، كما يظهر حال المنافقين الذين أظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر، فيترتب على ذلك العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما واتقاء للمكروه، واحتياطا فى الأمر، كما تحدث العبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وكرهوا حصوله. (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) أي إن هؤلاء المنافقين دعوا إلى القتال، وقيل لهم: إن كان فى قلبكم حب الدين والذود عنه فقاتلوا لأجله، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم. والخلاصة- قاتلوا ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه، أو قاتلوا للدنيا ودافعوا عن أنفسكم وأهليكم ووطنكم، لكنهم راوغوا وقعدوا وتكاسلوا. (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ) أي قالوا: لو نعلم أنكم تلقون قتالا فى خروجكم ما أسلمناكم، بل كنا نتبعكم، لكنا نرى أن الأمر سينتهى بدون قتال. روى أن الآية نزلت فى عبد الله بن أبىّ ابن سلول وأصحابه الذين خرجوا من

المدينة فى جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين، ويوقعوا فيهم الفشل. ولا شك أن هذا الجواب منهم يدل على كمال النفاق، وأنه ما كان غرضهم منه إلا التلبيس والاستهزاء، إذ ذهاب المشركين وهم مدججون بسلاحهم إلى أحد من أقوى الأمارات على أنهم يريدون قتالا. (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي هم يوم قالوا هذه المقالة «لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان لظهور أماراته، بانخذالهم عن نصرة المؤمنين، واعتذارهم لهم على وجه الخديعة والاستهزاء، فإن الجهاد فى سبيل الله والدفاع عن الأهل والوطن عند هجوم الأعداء مما يجب على المؤمن، ولا ينبغى تركه بحال. يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» . وإنما قال: إنهم أقرب إلى الكفر، ولم يقل إنهم كفار- منعا للنبز بالكفر بالعلامات والقرائن، دون أن يكون هناك كفر صريح، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم معاملة المؤمنين، حتى إنه صلى على رئيسهم عبد الله بن أبىّ صلاة الجنازة بعد بضع سنين من وقعة أحد، إلى أن فضحهم الله بقوله: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» . والخلاصة- إنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر لعملهم عمل الكفار بتركهم الجهاد، لكنه لم يصرح به، بل أومأ إليه، تأديبا لهم عسى أن يتوب على من لم يتمكن الكفر فى قلوبهم، ومنعا للناس من الهجوم على التكفير بالظّنة ووجود الأمارات فحسب. (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي إن ما تقوله ألسنتهم مخالف لما تضمره

قلوبهم، فهم يظهرون الإيمان باللسان ويبطنون الكفر، فالكذب دأبهم ليستروا به ما يضمرون، ويؤيدوا ما يظهرون. وفى ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم، وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم. والخلاصة- إنهم يتفوهون بقول لا وجود لمنشئه فى قلوبهم كقولهم: لو نعلم قتالا، وقولهم: لاتبعناكم، وهم كاذبون فى كل من الأمرين، فإنهم كانوا عالمين به وقد أصروا على الانخذال وعزموا على الارتداد. ثم أكد كفرهم ونفاقهم وبين اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد فقال: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم، فهو فى كل حين يبين مخبآت أسرارهم، ويكشف أستارهم، ثم يعاقبهم على ذلك فى الدنيا والآخرة. والخلاصة- إنه لا ينفعهم النفاق، فالله أعلم بما تكنّه سرائرهم وقلوبهم. وبعد أن ذكر قولا قالوه قبل القتال وبين بطلانه- أردفه قولا قالوه بعده وبيّن فساده، قال: (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) أي هم الذين قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا فى هذه الواقعة، والحال أنهم قعدوا عن القتال: لو أطاعونا فى القعود ولم يخرجوا للقتال كما لم نخرج- لما قتلوا كما أنّا لم نقتل. وفى هذا إيماء إلى أنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا. أخرج ابن جرير عن السّدّى قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد الله بن أبىّ فى ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السّلمى يدعوهم، فقالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا، فنعى الله عليهم ذلك بقوله- الذين قالوا لإخوانهم- الآية. وقد دحض الله تعالى حجتهم، وأبان لهم كذبهم، ووبخهم على ما قالوا، فقال لنبيه:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 إلى 175]

(قُلْ: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم: إن صدور هذا القول الجازم منكم يدل على أنكم قد أحطتم علما بأسباب الموت فى هذه الواقعة، وإذا جاز فيها جاز فى غيرها، وحينئذ يمكنكم درء الموت ودفعه عن أنفسكم. والخلاصة- إنكم إن كنتم صادقين فى أن الحذر يغنى عن القدر، وأن سلامتكم كانت بسبب قعودكم عن القتال لا بغيره من أسباب النجاة، فادفعوا سائر صنوف الموت عن أنفسكم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) تفسير المفردات الاستبشار: السرور الحاصل بالبشارة، والذين لم يلحقوا بهم هم الذين بقوا فى الدنيا، استجابوا أي أجابوا وأطاعوا، والقرح الجراح فى يوم أحد، والإحسان

المعنى الجملي

أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة، والتقوى: أن يخاف الإساءة والتقصير فيه، حسبنا الله، أي الله كافينا، والوكيل: الكافي الذي توكل إليه الأمور، فانقلبوا، أي فرجعوا، والمراد بالنعمة: السلامة والثبات على الإيمان وطاعة الرسول، والفضل: هو الربح فى التجارة، والشيطان هنا: شيطان الإنس الذي غش المسلمين ليخذلهم، وهو نعيم بن مسعود، يخوّف أولياءه، أي يخوفكم أنصاره من المشركين. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين فى الجهاد بتحذيرهم عواقبه، وأنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد، والقتل بغيض إلى النفوس مكروه لها، ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله وقدره كما يحدث الموت، فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل، ومن لم يقدّر له لا خوف عليه من الجهاد. ذكر هنا ما يحبب الجهاد فى سبيل الله، فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ربهم قد خصهم الله بالقرب منه، والكرامة لديه، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور. أخرج الإمام أحمد فى جماعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلّقة فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، فقال الله تعالى: - أنا أبلغهم عنكم- فأنزل الله هؤلاء الآيات» . الإيضاح (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً) أي ولا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه، فيؤثرون الدنيا على الآخرة- أن من قتلوا فى سبيل الله أمواتا قد فقدوا الحياة وصاروا عدما.

(بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) أي بل هم أحياء فى عالم آخر غير هذا العالم، هو خير للشهداء، لما فيه من الكرامة والشرف عند الله، فليس القتل فى سبيله بضائرهم، إذا ما صاروا إليه خيرا مما كانوا فيه، فلو سلم أن الخروج للقتال سبب للقتل لما كان مثبّطا للمؤمنين عن الجهاد عند وجوبه، كما إذا هاجم المشركون المؤمنين فى مثل وقعة أحد، أو إذا فتن المسلمون عن دينهم ومنعوا من الدعوة إليه وإقامة شعائره، كما فعل مشركو العرب مع المسلمين زمن البعثة. كيف والخروج إلى القتال كثيرا ما يكون سببا للسلامة، فإن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع فيها غيرها، وإذا هاجمها ظفر بها ونال منها ما يريد. وهذه الحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية لا ندرك حقيقتها، ولا نزيد على ما جاء به الوحى. وقوله: يرزقون تأكيد لكونهم أحياء، وتحقيق لهذه الحياة. (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي مسرورين بشرف الشهادة، والتمتع بالنعيم العاجل، والزّلفى عند ربهم، والفوز بالحياة الأبدية. (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) أي ويسرّون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد فى سبيل الله، فيلحقوا بهم من خلفهم، أي أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. وقوله: من خلفهم إشارة إلى أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذون حذوهم قدما بقدم، وفى ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم حثّ للباقين بعدهم على زيادة الطاعة والجد فى الجهاد والرغبة فى نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، كما فيه إخماد لحال من يرى نفسه فى خير فيتمنى مثله لإخوانه فى الدين، وفيه بشرى للمؤمنين بالفوز بالمئاب. (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي هم يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء، وهى أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية

لا يكدرها خوف من وقوع مكروه من أهوالها، ولا حزن من فوات محبوب من نعيمها (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) النعمة هى الثواب الذي يلقاه العامل جزاء عمله، والفضل هو التفضل الذي يمنّ الله به على عباده الطائعين المخبتين إليه، والمراد بالمؤمنين الشهداء الذين وصفوا بالأوصاف الآتية بعد. وعبر عنهم يوصف الإيمان للاشارة إلى سموّ مكانته، ورفعة منزلته وكونه مناط السعادة. وفى ذلك تحريض على الجهاد، وترغيب فى الشهادة، وحثّ على ازدياد الطاعة وبشرى للمؤمنين بالفوز العظيم. وقد جاءت هذه الجملة كالبيان والتفسير لقوله- لا خوف عليهم ولا هم يحزنون- لأن من كان فى نعمة الله وفضله لا يحزن أبدا، ومن كانت أعماله مشكورة غير مضيعة لا يخاف العاقبة. ثم وصفهم بحسن أفعالهم الموجب لزيادة أجرهم فقال: (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي هؤلاء المؤمنون هم الذين أجابوا دعوته، ولبّوا نداءه، وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه، واتقوا عاقبة تقصيرهم، على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد، لهم أجر عظيم على ما قاموا به من جليل الأعمال. وفى قوله: منهم إشارة إلى أن من دعوا لبّوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا، ولكن عرض لبعضهم موانع فى أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا، وخرج الباقون. روى أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد، فبلغوا الرّوحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا وهمّوا بالرجوع حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج فى إثر أبى سفيان وقال: لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء

الأسد (موضع على ثمانية أميال من المدينة) وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين فنزلت الآية. وتسمى هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد، وهى متصلة بغزوة أحد. (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أي وهم الذين قال لهم نعيم بن مسعود الأشجعى ومن وافقه وأذاع قوله وهم أربعة: إن أبا سفيان وأعوانه جمعوا الجموع لقتالكم فاخشوهم ولا تخرجوا للقائهم. روى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أن الآية نزلت فى غزوة بدر الصغرى. ذاك أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك بيننا وبينك إن شاء الله، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل (مجنّة) من ناحية (مرّ الظهران) فألقى الله الرعب فى قلبه، فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: إنى واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقى بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لى أن أرجع، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيزيدهم ذلك جرأة، فالحق بالمدينة فثبطهم، ولك عندى عشرة من الإبل أضعها فى يدى سهيل بن عمرو، فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبى سفيان فقال لهم: ما هذا بالرأى، أتوكم فى دياركم وقراركم ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم، فو الله لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد فى نفوس قوم منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسى بيده لأخرجنّ ولو وحدي» فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حتى وافى بدرا الصغرى (بدر الموعد) فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان فلم يلق أحدا،

لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة وكان معه ألفا رجل فسماه أهل مكة جيش السّويق، وقالوا لهم إنما خرجتم لتشربوا السويق. ووافى المسلمون سوق بدر، وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيبا فربحوا وأصابوا بالدرهم در همين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. (فَزادَهُمْ إِيماناً) أي زادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة به، ولم يلتفتوا إلى تخويفهم بل حدث فى قلوبهم عزم وتصميم على محاربة هؤلاء الكافرين، وطاعة للرسول فى كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن أضناهم ذلك وثقل عليهم، لما بهم من جراحات عظيمة وقد كانوا فى حاجة إلى قسط من الراحة، وشىء من التداوى، لكن وثوقهم، بنصر الله وتغلبهم على عدوهم أنساهم كل هذه المصاعب فلبوا الدعوة سراعا. والخلاصة- إن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة الله وعظمته وسلطانه ويقينهم بوعد الله ووعيده، وتبع ذلك زيادة فى العمل، ودأب على إنفاذ ما طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك ما أقدموا على الاستجابة على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان. ونحو الآية قوله تعالى «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» . (وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي قالوا معبّرين عن صادق إيمانهم بالله: الله يكفينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا الجموع لنا، فهو لا يعجزه أن ينصرنا على قلّتنا وكثرتهم، أو يلقى فى قلوبهم الرعب، فيكفينا شر بغيهم وكيدهم، وقد كان الأمر كما ظنوا، فألقى الله الرعب فى قلب أبى سفيان وجيشه على كثرة عددهم وتوافر عددهم، فولّوا مدبرين، وكان فى ذلك عزة لله ولرسوله وللمؤمنين. أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» وأخرج ابن أبى الدنيا

عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته، ثم تنفس الصّعداء وقال: حسبى الله ونعم الوكيل» . وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حسبى الله ونعم الوكيل أمان كل خائف» . (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي فخرجوا للقاء عدوهم ولم يلقوا منهم كيدا ولا همّا، ولم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم وقد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم، وأطاعوا رسولهم، وربحوا فى تجارتهم، ولم يمسسهم قتل ولا أذى. روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت فى أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح ما لا فقسمه بين أصحابه، فذلك الفضل. وأخرج ابن جرير عن السدى قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج فى بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها فى الموسم فأصابوا ربحا كثيرا. (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ) أي واتبعوا فى كل ما أتوا من قول أو فعل رضا الله الذي هو وسيلة النجاة والسعادة فى الدنيا والآخرة، فأطاعوا رسوله فى كل ما به أمر، وعنه نهى. (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد، والجرأة على العدو، وحفظهم من كل ما يسوءهم. وفى هذا إلقاء للحسرة فى قلوب المتخلفين منهم، وإظهار لخطل رأيهم، إذ حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء. (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أي ليس ذلك الذي قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وأنصاره المشركين، ويوهمكم أنهم عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم، وتحبنوا عن مدافعتهم.

(فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فلا تخافوا أولئك الأولياء، ولا تحفلوا بقولهم (فَاخْشَوْهُمْ) فتخافوهم، بل خافونى فى مخالفة أمرى، لأنكم أوليائى وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخى الإيمان قائمين بحقوقه، فإن من حقه إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره، والأمن من شر الشيطان وأوليائه. وخلاصة ذلك- إنه إذا عرضت لكم أسباب الخوف، فاستحضروا فى نفوسكم قدرة الله الذي بيده كل شىء، وهو يجير ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم، وإظهار دينكم على الدين كله، وأن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق، واذكروا قوله: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ثم خذوا أهبتكم، وتوكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا فى قلوبكم. وفى هذه الآية من العبرة: (1) إن صادق الإيمان لا يكون جبانا، فالشجاعة وصف للمؤمن، لا يبلغ غيره فيها مداه، إذ أن العلة الحقيقية للجبن هى الخوف من الموت والحرص على الحياة، وقلب المؤمن لا يتسع لهما. ولا يزال العالم اليوم يشهد شجاعة الجيوش الإسلامية مع ما منى به المسلمون من ضعف فى إيمانهم، وجهل بكثير من شئون دينهم. (2) إن فى استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف، ويعوّد نفسه الاستهانة بها بالتمرين والتربية وتعوّد الإقدام إذا عرضت له تلك الأسباب. (3) إذا عرضت له أسباب الخوف فعليه ألا يسترسل لها حتى لا يتمكن أثرها فى نفسه، وتتجسم صورتها فى خياله، بل يغالبها بصرفها عن ذهنه، وشغله بما يضاده ويذهب بآثارها، أو يتبدلها بآثار مناقضة لها، وهذا يدخل فى اختيار الإنسان، وهو الذي نبط به التكليف.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 إلى 179]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 179] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) تفسير المفردات يسارعون فى الكفر، أي يسارعون فى نصرته والاهتمام بشئونه والإيجاف فى مقاومة المؤمنين، حظا فى الآخرة أي نصيبا من الثواب فيها، اشتروا الكفر أي أخذوا الكفر بدلا من الايمان كما يفعل المشترى من إعطاء شىء وأخذ غيره بدلا منه، والإملاء: الإمهال والتخلية بين العامل وعمله ليبلغ أقصى مداه، من قولهم: أملى لفرسه إذا أرخى له الطّول ليرعى كيف شاء، ومنه الملأ للأرض الواسعة، والملوان: الليل والنهار ليزدادوا إثما، أي أفرزته وأزلته، ومنه الحديث «من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة» . على ما أنتم عليه، أي من اختلاط المؤمن بالمنافق وأشباهه والخبيث والطيب أي المنافق بالمؤمن، ويجتبى: أي يصطفى ويختار. المعنى الجملي لما كان من فوز المشركين فى أحد ما كان، وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين شىء كثير من الأذى- أظهر بعض المنافقين كفرهم وصاروا يخوفون

الإيضاح

المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم، ويقولون لهم: إن محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام، فكان الرسول يحزن لذلك، ويسرف فى الحزن، فنزلت هذه الآيات تسلية له، كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان، أو طعنهم فى القرآن، أو فى شخصه عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» وقوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» . الإيضاح (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي ولا يحزنك أيها الرسول مسارعة المنافقين وطائفة من اليهود إلى نصرة الكافرين واهتمامهم بشأنهم، والإيجاف فى مقاومة الكافرين بكل ما أوتوا من الوسائل، ومن التثبيط للعزائم، والنيل من نبيهم ودعوته، وتأليب المشركين عليهم، إلى نحو ذلك مما يدور فى خلد العدو لإيذاء عدوه. ونحو الآية قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» . وتوجيه الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم تسلية له وإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشئونه. ثم علل هذا النهى وأكمل التسلية بتحقيق نفى ضررهم أبدا بقوله: (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) أي إنهم لن يضروا أولياء الله وهم النبي وصحبه، شيئا من الضر، فعاقبة هذه المسارعة فى الكفر وبال عليهم لا عليك ولا على المؤمنين، فإنهم لا يحاربونك فيضروك، وإنما هم يحاربون الله تعالى، ولا شك أنهم أعجز من

أن يفعلوا ذلك، فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم، وفى جعل مضرتهم مضرة لله تعالى تشريف لهم، ومزيد مبالغة فى تسليته صلى الله عليه وسلم. ثم بين أنهم لا يضرون إلا أنفسهم فقال: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي إن سر ابتلائهم ما هم فيه من الانهماك فى الكفر وقد قضى ذلك بحرمانهم من نعيم الآخرة وفق ما تقتضيه سنة الله وإرادته. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إنهم على حرمانهم من الثواب لهم عذاب عظيم لا يقدر قدره. وبعد أن بين حكم أولئك الذين يسارعون إلى نصرة الكفر والدفاع دونه ومقاومة المؤمنين لأجله، وأرشد إلى أنه لا يؤبه بهم، ولا يهتم بشأنهم، فهم إنما يحاربون الله والله غالب على أمره- أشار هنا إلى أن هذا حكم عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان واستبدله به فقال: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا، فلن يضروا الله شيئا، وإنما يضرون أنفسهم بما لهم من العذاب الأليم الذي لا يقدر قدره. وفى هذا إيماء إلى شيئين: (1) تأكيد عدم إضرارهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. (2) بيان سخف عقولهم وخطل آرائهم، إذ هم كفروا أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك، وهذا دليل على شدة اضطرابهم، وعدم ثباتهم، ومثل هؤلاء لا يخشى منهم شىء مما يحتاج إلى أصالة الرأى وقوة التدبير. ثم بين أن رغبة الكافرين عن الجهاد حبّا فى الحياة ليس من الخير لهم فقال: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ولا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم، فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملا صالحا ينتفعون به

فى أنفسهم بتزكيتها وتطهيرها من شوائب الأدران وسيىء الأخلاق، وينتفع به الناس فى تهذيبهم وتحسين معايشهم، ولكن هؤلاء لا يزدادون بجهلهم وسوء اختيارهم إلا إثما يضرهم فى أنفسهم، بالتمادى فى مكابرة الحق، وتأييد سلطان الشر فى الخلق. فحياة هؤلاء المتخلفين عن الجهاد ليست خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد إذ بقاؤهم صار وسيلة للخزى فى الدنيا والعقاب الدائم فى الآخرة، وقتل هؤلاء صار سبيلا للثناء الجميل فى الدنيا، والثواب الجزيل فى الآخرة. فترغيب أولئك المثبّطين عن الجهاد فى مثل هذه الحياة، وتزيينها لهم مما لا ينبغى أن يروج إلا عند الجهال الذين لا يفهمون قيمة الحياة الحقة التي يجب أن تكون نصب عين العاقل. والخلاصة- إن هذا الامهال والتأخير ليس عناية من الله بهم، وإنما هو قد جرى على سننه فى الخلق، بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فإنما هو ثمرة عمله، ومن مقتضى هذه السنة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره، وسببا لا سترساله فى فجوره، ونتيجة ذلك الإثم الذي يكسبه العذاب المهين. وفى الآية من العبرة: (1) إن من شأن الكافر أن يزداد كفرا بطول عمره، ويتمكن من العمل بحسب استعداده. (2) إن من شأن المؤمن إذا أنسأ الله أجله أن تكثر حسناته، وتزداد خيراته، فليجعل المؤمن هذا دستورا فيما بينه وبين ربه، ويحاسب نفسه على مقتضاه، فإذا فقهه وعمل به خرج من الظلمات إلى النور، وكان من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين. ثم بين أن الشدائد هى محكّ صدق الإيمان فقال: (ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي ما كان من سنن الله فى عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كانوا عليها

حين غزوة أحد، حتى يميز المؤمن من المنافق، ويظهر حال كل منهما، لأن الشدائد هى التي تميز قوىّ الإيمان من ضعيفه، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين. أما تكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة وغيرهما فيقبلها المنافق، كما يقبلها صادق الإيمان، لما فيها من حسن الأحدوثة، والتمتع بمزايا الإسلام. وفى الشدائد من الفوائد الشيء الكثير منها: (1) اتقاء المنافق إذا علم نفاقه، فقد يفضى صادق الإيمان ببعض أسرار الملة إلى المنافق، لما يغلب عليه من حسن الظن به، حين يراه يؤدى الواجبات الظاهرة، ويشارك الصادقين فى سائر الأعمال، فإذا هو أفشاها عرف حاله وحذره المسلمون الصادقون. (2) أن تروز الجماعة حالها، إذ بتكشف أمر المنافقين تعرف أنهم عليها لا لها، وكذلك تعرف حال ضعاف الإيمان الذين لم تربّهم الشدائد. (3) إنها تدفع الغرور عن النفس، إذ يغتر المؤمن الصادق فلا يدرك ما فى نفسه من ضعف فى الاعتقاد والأخلاق حتى تمحّصه الشدائد وتبيّن له حقيقة أمره. وقد يدور بخلد بعض الناس أن أقرب وسيلة لتمييز المؤمن الصادق من المنافق، أن يطلع الله المؤمنين على الغيب حتى يعرفوا حقائق أنفسهم وحقائق الناس الذين يعيشون بين ظهرانيهم، فيعرفوا أن فلانا من أهل الجنة، وفلانا من أهل النار، فأجاب الله عن هذا فقال: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب، إذ لو فعل ذلك لأخرج الإنسان من طبيعته، فإنه تعالى خلقه يحصّل رغائبه، ويدفع المكاره عنه بالعمل الكسبي الذي تهدى إليه الفطرة وترشد إليه النبوة. ومن ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس، ويميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد، والتضحية بالنفس وبذل المال فى سبيل الحق والخير، كما ابتلى المؤمنون

فى وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلتهم، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة، وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم، وابتلوا بظهور العدو عليهم، جزاء ما فعلوا من المخالفة، فظهر نفاق المنافقين، وزلزل ضعفاء المؤمنين زلزالا شديدا، وثبت كملة المؤمنين، وصاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح والأعاصير (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ولكن الله يختار من رسله من يشاء، فيطلعه على ما فى قلوب المنافقين من كفر ونفاق، وعلى ما ظهر منهم من أقوال وأفعال، كما حكى عنهم بعضه فيما سلف، ويفضحهم به على رءوس الأشهاد، ويخلصكم من كيدهم وخداعهم. ونحو الآية قوله: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» . وفى التعبير بالاجتباء إشارة إلى أن الوقوف على أسرار الغيب منصب جليل تتقاصر عنه الهمم، ولا يؤتيه الله إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم. وبعد أن ردّ على ما طعن به المنافقون فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وقوع الكوارث التي حصلت فى أحد، وبين أن فيه كثيرا من الفوائد كتمييز الخبيث من الطيب، أمرهم بالإيمان به فقال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أي فآمنوا بالله ورسله الذين ذكرهم الله فى كتابه وقص علينا قصصهم. وعمم الأمر بالإيمان بالرسل جميعا مع أن سوق الكلام فى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، للايماء إلى أن الإيمان به يقتضى الإيمان بهم، لأنه صلى الله عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل، وهم شهداء على صحة نبوته. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي وإن تؤمنوا بما جاءوا به من أخبار الغيب، مع تقوى الله بترك ما نهى عنه وفعل ما أمر به، فلكم أجر عظيم لا يستطاع الوصول إلى معرفة كنهه.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 180 إلى 184]

وقلّ أن ذكر القرآن الإيمان إلا إذا قرن به التقوى، كما قل أن ذكر الصلاة إلا قرن بها الزكاة حثا على عمل البر والرأفة بالفقراء والبائسين، وإشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إلّا بهما [سورة آل عمران (3) : الآيات 180 الى 184] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) تفسير المفردات ما أتاهم أي ما أعطاهم من المال والعلم والجاه، سيطوقون ما بخلوا به أي سيلزمون إثمه فى الآخرة كما يلزم الطوق الرقبة، وقد جاء فى أمثالهم: تقلدها طوق الحمامة، إذا جاء بما يسب به ويذم، ميراث السموات والأرض أي ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره سنكتب ما قالوا أي سنعاقب عليه ولا نهمله ونقول ذوقوا عذاب الحريق، أصل الذوق وجود الطعم فى الفم ثم استعمل فى إدراك سائر المحسوسات، والحريق المحرق

المعنى الجملي

المؤلم، وعذاب الحريق أي عذاب هو الحريق أي سننتقم منهم، عهد إلينا أي أمرنا فى التوراة وأوصانا، القربان: ما يتقرب به إلى الله من حيوان ونقد وغيرهما، والمراد من النار: النار التي تنزل من السماء، والبينات: هى المعجزات الواضحة، والزبر، واحدها زبور: وهو الكتاب، والمنير: الواضح. المعنى الجملي كان الكلام فيما مضى فى التحريض على بذل النفس فى الجهاد فى سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم فى جنات النعيم. وهنا شرع يحت على بذل المال فى الجهاد- والمال شقيق الروح- فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله فى هذه السبيل، وأرشد إلى أن المال ظل زائل، وأن مدى الحياة قصير، وأن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده. ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين. الإيضاح (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولا يظننّ أحد أن بخل الباخلين بما أعطاهم الله من فضله ونعمه هو خيرا لهم، لأنهم مطالبون بشكران النعم، والبخل بها كفران لا ينبغى أن يصدر من عاقل. والمراد من البخل بالفضل البخل به فى أداء الزكاة المفروضة، وفى الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد ويهدد استقلالها، ويصبح أهلها أذلة بعد أن كانوا أعزة، أو إنقاذ شخص من مخالب الموت جوعا. ففى كل هذه الأحوال يجب بذل المال، لأنه يجرى مجرى دفع الضرر عن النفس. وليس الذم والوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه، إذ أن الله أباح لنا الطيبات لنستمتع بها، ولأن العقل قاض بأن الله لا يكلف الناس بذل كل ما يكسبون ويبقون عراة جائعين، ومن ثم قال فى حق المؤمنين المهتدين «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ»

وجاءت الآية بطريق التعميم ترغيبا فى بذل المال بدون تحديد ولا تعيين، ووكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي فى قلبه، وما تحدثه فى النفس من أريحية بذل الواجب والزيادة عليه، إذا هو تذكر أن فى ماله حقا للسائل والمحروم. (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) أي هو شر عظيم لهم، وقد نفى أولا أن يكون خيرا ثم أثبت كونه شرا، لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن فى منعه خيرا له، لما فى بقاء المال فى يده من الانتفاع به فى التمتع باللذات، وقضاء الحاجات، ودفع الغوائل والآفات. (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي سيجعل ما بخلوا به من المال طوقا فى أعناقهم، ويلزمهم ذنبه وعقابه، ولا يجدون إلى دفعه سبيلا، كما يقال: طوقنى الأمر أي ألزمنى إياه. وخلاصة هذا- إن العقاب على البخل لازم لا بدّ منه. وقال مجاهد: إن المعنى سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يستطيعون ذلك، ويكون ذلك توبيخا لهم على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا ميسورا، ونظير هذا قوله تعالى: «وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ» . ويرى بعضهم أن التطويق حقيقى، وأنهم يطوّقون بطوق يكون سببا لعذابهم فتصير تلك الأموال حيات تلتوى فى أعناقهم، فقد روى البخاري والنسائي عن أبى هريرة قال: «من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له شجاع (ثعبان) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه (شدقيه) يقول أنا مالك، أنا كنزك ثم تلا الآية» . (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله وحده لا لأحد سواه، ما فى السموات والأرض ما يتوارث من مال وغيره، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر فى يد،

ولا يسلم التصرف فيه لأحد، إلى أن يفنى الوارثون والموروثون، ويبقى مالك الملك، وهو الله رب العالمين. فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه فى سبيله، وابتغاء مرضاته. وفى الآية إيماء إلى أن كل ما يعطاه الإنسان من مال وجاه وقوة وعلم فإنه عرض زائل، وصاحبه فإن غير باق، فلا ينبغى أن يستبقى الفاني ما هو مثله فى الفناء، بل عليه أن يضع الأشياء فى مواضعها التي تصلح لها، وبذا يكون خليفة لله فى أرضه محسنا للتصرف فيما استخلف. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، ولا ما تنطوى عليه جوانحكم، فيجازى كل عامل بما عمل بحسب تأثير عمله فى تزكية نفسه أو تدسيتها، ونيته فى فعله كما جاء فى الحديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي قد سمع الله قول هؤلاء الكافرين الذين قالوا هذه المقالة، ولم يخف عليه، وسيجزيهم عليه أشد الجزاء. وهذا أسلوب يتضمن التهديد والوعيد، كما يتضمن البشارة والوعد بحسن الجزاء فى نحو- سمع الله لمن حمده- ويتضمن مزيد العناية وإرادة الإغاثة وإزالة الشكوى فى نحو «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» إذ سمع الله لعباده يراد به مراقبته لهم فى أقوالهم، ويلزم من ذلك المعاني التي ذكرناها آنفا. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» فقالوا يا محمد: أفقير ربك يسأل عباده القرض ونحن أغنياء؟ فأنزل الله (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) الآية. (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي سنعاقبهم على ذلك عقابا لا شك فيه، إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه العقوبة عليه، وهذا استعمال شائع فى اللغة.

(وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي قتل سلفهم لهم، وإنما نسبه إليهم للاشارة إلى أنهم راضون بما فعلوه. وهذا يدل على أن الأمم متكافلة فى الأمور العامة، ويجب على أفرادها الإنكار على من يفعل المنكر وتغييره أو النهى عنه، لئلا يفشو فيها، فيصير خلقا من أخلاقها وعادة مستحكمة فيها، فتستحق العقوبة فى الدنيا بالضيق والفقر، والعقوبة فى الآخرة بتدنيس نفوسها، وأن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم ويطبقه على أحكام الشريعة فيستحسن منها ما تستحسنه، ويستهجن ما تستهجنه- عدّ شريكا له فى إثمه، ومستحقا لمثل عقوبته. (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي سننتقم منهم ونقول لهم هذه المقالة. ذاك أنهم لما قالوا ما قالوا وقتلوا من الأنبياء من قتلوا، فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء ألوانا من العذاب، وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب، فجوزوا بهذا العذاب الشديد وقيل لهم: ذوقوا عذاب الحريق، كما أذقتم أولياء الله فى الدنيا ما يكرهون. والخلاصة- ذوقوا ما أنتم فيه، فلستم بمتخلصين منه، وهذا قول يلقى للتشفى الدالّ على كمال الغيظ والغضب (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي إن هذا العذاب المحرق الذي تذوقون حرارته، بسبب أعمالكم فى الدنيا كقتل الأنبياء، ووصف الله بالفقر، وجميع ما كان منكم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان. وأضاف العمل إلى الأيدى، من قبل أن أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد وليفيد أن ما عذّبوا عليه هو من عملهم على الحقيقة، لا أنهم أمروا به ولم يباشروه. (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي إن ذلك العذاب أصابكم بعملكم، وبكونه تعالى عادلا فى حكمه وفعله، لا يجور ولا يظلم، فلا يعاقب غير المستحق للعقاب، ولا يجعل المجرمين كالمتقين، والكافرين كالمؤمنين كما قال: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا

السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» وقال: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» وقال: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟» . والخلاصة- إن ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن والمسيء ووضع للشىء فى غير موضعه، وهو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه. (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قال ابن عباس: نزلت هذه الآية فى كعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف وفنحاص ابن عازوراء فى جماعة آخرين، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد تزعم أنك رسول الله، وأنه تعالى أوحى إليك كتابا، وقد عهد إلينا فى التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون للنار دوىّ خفيف حين تنزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدقناك، فنزلت الآية. وروى ابن جرير أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة، فإذا تقبّل منه نزلت عليه نار من السماء فأكلت ما نصدق به. لكن دعواهم هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم، وأكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة، فهو وسائر المعجزات سواء، وما مقصدهم من تلك المفتريات إلا عدم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يأت بما قالوه، ولو أتى به لآمنوا فرد الله عليهم بقوله: (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي قل موبخالهم ومكذبا: قد جاءكم رسل كثيرون من قبلى كزكريا ويحيى وغيرهما بالمعجزات الدالة على صدق نبوتهم، وبما كنتم تقترحون وتطلبون، وأتوا بالقربان الذي تأكله النار، فما بالكم لم تؤمنوا بهم، بل اجترأتم على قتلهم؟

وهذا دليل على أنكم قوم غلاظ الأكباد، (وبذلك وصفوا فى التوراة) قساة القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له، وأنكم لم تطلبوا هذه المعجزة استرشادا، بل تعنتا وعنادا. وقد نسب هذا الفعل إلى من كان فى عصر التنزيل وقد وقع من أسلافهم، لأنهم راضون عما فعلوه، معتقدون أنهم على حق فى ذلك، والأمة فى أخلاقها العامة وعاداتها كالشخص الواحد، وقد كان هذا معروفا عند العرب وغيرهم، فتراهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته، ويؤاخذونها بها. والخلاصة- إن أسلافكم كانوا متعنتين، وما أنتم إلا كأسلافكم، فلم يكن من سنة الله إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان، إذ لا فائدة منه. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي فإن كذبوك بعد أن جئتهم بالبينات الساطعة، والمعجزات الواضحة، والكتاب الهادي إلى سواء السبيل، مع استنارة الحجة والدليل- فلا تأس عليهم، ولا تحزن لعنادهم وكفرهم، ولا تعجب من فساد طويّتهم، وعظيم تعنتهم، فتلك سنة الله فى خليقته، فقد كذّب رسل من قبلك جاءوا بمثل ما جئت به من باهر المعجزات وهزّوا القلوب بالزواجر والعظات، وأناروا بالكتاب سبيل النجاة، فلم يغن ذلك عنهم شيئا، فصبروا على ما نالهم من أذى، وما نالهم من سخرية واستهزاء. وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وبيان لأن طباع البشر فى كل الأزمنة سواء فمنهم من يتقبل الحق ويقبل عليه بصدر رحب ونفس مطمئنة، ومنهم من يقاوم الحق والداعي إليه، ويسفّه أحلام معتنقيه. فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك، ولا أن يفنّدوا حجتك، فإن نفوسهم منصرفة عن طلب الحق، وتحرّى سبل الخير.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 185 إلى 186]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 185 الى 186] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) تفسير المفردات توفون أجوركم: أي تعطونها وافية كاملة غير منقوصة، زحزح عن النار: نحّى عنها، فاز سعد ونجا، والمتاع: ما يتمتّع وينتفع به مما يباع ويشترى، والغرور: إصابة الغرّة والغفلة ممن تخدعه وتغشّه، لتبلونّ أي لتختبرن أي لتعاملنّ معاملة المختبرين لتظهر حالكم على حقيقتها، فى أموالكم أي بالبذل فى سبيل الله وبالجوائح والآفات، وفى أنفسكم أي بالقتل والأسر فى سبيل الله، وبالأمراض وفقد الأقارب، الذين أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، والذين أشركوا هم كفار العرب، أذى كثيرا كالطعن فى الدين والافتراء على الله ورسوله، والصبر: تلقى المكروه بالاحتمال وكظم النفس عليه مع دفعه برويّة ومقاومة ما يحدث من الجزع، والتقوى الابتعاد عن المعاصي، من عزم الأمور أي من صواب التدبير، وما ينبغى لكل عاقل أن يعزم عليه ويأخذ نفسه به، من قولك عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك إياه على وجه لا يجوز الترخص فيه. المعنى الجملي بعد أن سلّى نبيه فيما سلف عن تكذيب قومه له بأن كثيرا من الرسل قبلك قد كذّبوا كما كذّبت، ولاقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لاقيت، بل أشد

الإيضاح

مما لاقيت، فقد قتلوا كثيرا منهم كيحي وزكريا عليهما السلام- زاده هنا تسلية وتعزية أخرى، فأبان أن كل ما تراه من عنادهم فهو منته إلى غاية، وكل آت قريب فلا تضجر ولا تحزن على ما ترى منهم، وأنهم سيجازون على أعمالهم فى دار الجزاء كما تجازى، وحسبك ما تصيب من حسن الجزاء، وحسبهم ما أصيبوا به وما يصابون به من الجزاء فى الدنيا، وسيوفون الجزاء كاملا يوم القيامة. الإيضاح (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس تذوق طعم مفارقة البدن وتحس به، وفى هذا إيماء إلى أن النفس لا تموت بموت البدن، لأن الذي يذوق هو الموجود، والميت لا يذوق. فالذوق شعور لا يجس به إلا الحي. (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وإنما تعطون جزاء أعمالكم كاملا وافيا يوم القيامة، وفى ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور من خيرا وشر قد تصل إليهم فى الدنيا جزاء أعمالهم، ويؤيده ما أخرجه الترمذي والطبراني مرفوعا، «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» . (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) أي فمن خلص من العذاب ووصل إلى الثواب فقد فاز بالمقصد الأسمى والغاية التي لا مطلب بعدها، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» . والخلاصة- إن هناك جنة ونارا، وإن من الناس من يلقى فى هذه ومنهم من يلقى فى تلك، وإن هول النار عظيم، وعبر عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها، لأن أعمالهم سائقة لهم إلى النار، لأنها أعمال حيوانية تسوق إليها ولا يدخل الجنة أحد إلا إذا زحزح، فالزحزحة عنها فوز عظيم، وأولئك

المزحزحون هم الذين غلبت صفاتهم الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا فى إيمانهم، وجاهدوا فى الله حق جهاده، ولم يبق فى نفوسهم شائبة من إشراك غير الله معه فى عمل من أعمالهم. (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وما حياتنا القربى التي نحن فيها ونتمع بلذاتها الحسية من مأكل ومشرب، أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة إلا متاع الغرور لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها، تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها، فهو يتعب لما لا يستحق التعب، ويشقى لتوهم السعادة. والخلاصة- إن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغرّ الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف والأخلاق التي ترقى بروحه إلى سعادة الآخرة. فينبغى له أن يحذر من الإسراف فى الاشتغال بمتاعها عن نفسه وإنفاق الوقت فيما لا يفيد، إذ ليس للذاتها غاية تنتهى إليها فلا يبلغ حاجة منها إلا طلب أخرى. فما قضى أحد منها لبانته ... ولا انتهى أرب منها إلا إلى أرب وعليه أن يسعى لكسب علم يرقى به عقله، أو عمل صالح ينتفع به وينفع عباده، مع إصلاح السريرة، وخلوص النية، وقد قال بعض الصوفية: «عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك» . (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) بعد أن سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما سبق آنفا زاد فى تسليته بهذه الآية، وأبان له أنه كما لقى هو ومن معه من الكفار أذى يوم أحد فسيلقون منهم أذى كثيرا بقدر ما يستطيعون من الإيذاء فى النفس أو فى المال، والمقصد من هذا الإخبار أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع حتى لا يشق عليهم البلاء عند نزوله بهم. والابتلاء فى الأموال يكون بالبذل فى جميع وجوه البر التي ترفع شأن الامة الإسلامية وتدفع عنها أعداءها وتردّ عنها المكاره وتدفع عنها غوائل الأمراض والأوبئة

والابتلاء فى الأنفس يكون ببذلها فى الجهاد فى سبيل الله وبموت من تحب من الأهل والأصدقاء أو بالمدافعة عن الحق، وفائدة الابتلاء تمييز الخبيث من الطيب، وفائدة الإخبار به أن نعرف السنن الإلهية ونهيىء أنفسنا لمقاومتها، فإن من تقع به المصيبة فجأة على غير انتظار يعظم عليه الأمر ويحيط به الغمّ حتى ليقتله فى بعض الأحايين، لكنه إذا استعد لها اضطلع بها وقوى على حملها. وكذلك من تحدث له النعمة على غير توقع لها، فإنها تحدث له دهشة وتهيجا فى الأعصاب، وربما أصيب بشلل أو اضطراب عقلى أو موت فجائى، والحوادث المشاهدة فى هذا الباب كثيرة. (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) هذا سبيل آخر من الابتلاء فى الأنفس، وخصه بالذكر لأهميته أي إنكم ستسمعون إيذاء كثيرا من اليهود والنصارى والمشركين، ومن ذلك حديث الإفك (قذف أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها) وتألب اليهود عليهم ونقض عهودهم ومحاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أجلاهم عن المدينة فأمن شرهم، واتفاق اليهود مع أحزاب المشركين وزحفهم على المدينة لاستئصال المسلمين، فقد حاصروهم وأوقعوا بهم شديد البلاء وضيّقوا عليهم وفى ذلك يقول الله تعالى: «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» . (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي وإن تصبروا على ما سيحل بكم من البلاء فى أموالكم وأنفسكم، وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى وتتقوا ما يجب اتقاؤه، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور أي الأمور التي ينبغى أن يعزمها كل أحد، لما فيه من كمال المزية والشرف. روى الزهري أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش فى شعره وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة

[سورة آل عمران (3) : الآيات 187 إلى 189]

وأهلها أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فأراد النبي أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية [سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 189] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) تفسير المفردات الميثاق: العهد المؤكد، والذين أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، لتبيننه للناس أي لتظهرنّ جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تكتمونه: أي لا تؤولونه ولا تلقون الشبه الفاسدة والتأويلات المزيّفة، فنبذوه وراء ظهورهم: أي طرحوه ولم يعتدّوا به، ويقال للأمر المعتنى به جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه، واشتروا به ثمنا قليلا: أي شيئا من حطام الدنيا الفانية، بما أوتوا أي بما فعلوا، أن يحمدوا أي يحمدهم الناس، بمفازة من العذاب: أي بمنجاة منه، من قولهم: فاز فلان إذا نجا. المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه عن اليهود شبها ومطاعن فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأجاب عنها بما علمت فيما سلف، أردفه هذه الآية لبيان عجيب حالهم، وغريب أمرهم،

الإيضاح

وأنه لا يليق بهم أن يطعنوا فى نبوته، ولا أن يوجهوا شبها لدينه، ذاك أن اليهود والنصارى أمروا بشرح ما فى التوراة والإنجيل وبيان ما فيهما من الدلائل الناطقة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته، فكيف يليق بهم بعد هذا إيراد تلك المطاعن والشبه وكانوا أجدر الناس بدفعها وأحقهم بتأييده والذّود عن دينه لما فى كتابيهما من البشارة به وتوكيد دعوته، فالعقل قاض بأن يظاهروه، ودينهم حاكم بأن يؤيدوه، ومن العجب العاجب أن يطرحوا حكم العقل والنقل وراءهم ظهريا، وهل مثل هؤلاء يجدى معهم الحجاج والجدل، أو تقنعهم قوة الدليل والحجة. الإيضاح (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي واذكروا حين أخذ الله العهد والميثاق على الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى بلسان أنبيائهم، ليبيننّ كتابهم للناس غير كاتمين له، بأن يوضحوا معانيه كما هى، ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها، ويذكروا مقاصده التي أنزل لأجلها، حتى لا يقع اضطراب ولا لبس فى فهمه. فإن لم يفعلوا ذلك فإما أن يبينوه على غير وجهه ولا يكون هذا بيانا ولا كشفا لأغراضه ومقاصده، وإما ألا يبينوه بتاتا ويكون هذا كتمانا له. وهذه الآية وإن كانت لليهود والنصارى، فإن العبرة فيها تنطبق على المسلمين أيضا، فإنهم مع حفظهم لكتابهم وتلاوتهم إياه فى كل مكان، فى الشوارع والأسواق ومجتمعات الأفراح والأحزان- تركوا تبيينه للناس، ففقدوا هدايته وعميّت عليهم عظاته وزواجره، وحكمه وأسراره، واعترفوا بأنهم انحرفوا عنه وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر. وتبيين الكتاب على ضربين: (1) تبيينه لغير المؤمنين به لدعوتهم إليه (2) تبيينه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم بما أنزل إليهم من ربهم

وكل منهما واجب على العلماء لا هوادة فيه، وكفى بهذه الآية حجة عليهم وهى آكد من قوله: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي لم يبالوا به ولم يهتموا بشأنه، وقد كان من الواجب عليهم أن يجعلوه نصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهور لا ينظر إليه، ولا يفكّر فى أمره، فقد كان منهم الذين لا يستفيدون منه شيئا- ويحملونه كما يحمل الحمار الأسفار، ومنهم الذين يحرّفونه عن مواضعه، ومنهم الذين لا يعلمون منه إلا أمانى يتمنونها وقراءات يقرءونها. وإن هذا لينطبق على المسلمين اليوم أتم الانطباق، فهم قد اتبعوا سنن من قبلهم ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة، فما بالهم عن التذكرة معرضين، وكتاب الله بين أيديهم شاهد عليهم، وهو يتلى بين ظهرانيهم. (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أي أخذوا عوضا منه فائدة دنيوية حقيرة فغبنوا فى هذا البيع والشراء، وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرءوسين من حطام الدنيا ليتمتعوا بلذاتها الفانية، وشهواتها الفاسدة، وكانوا يؤولون الكتاب ويحرفونه لأغراض كثيرة كالخوف من الحكام أو الرجاء فيهم، فيصرفون نصوصه إلى معان توافق هوى الحاكم ليأمنوا شره، أو لإرضاء العامة أو الأغنياء بموافقة أهوائهم لاستفادة جاههم ومالهم. (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) أي إن ما يشترونه ذميم قبيح لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم الذي يحصل للأمة من اتباعها لكتابها وهديها بإرشاده، وتهذيب أخلاقها بآدابه وجمع كلمتها حول تعاليمه، وبذا تحول بينها وبين المستبدين فيها، وتصبح عزيزة الجانب متكافلة متضامنة، أمر أهلها بينها شورى.

وقد روى عن على كرم الله وجهه أنه قال: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا، وعن أبى هريرة أنه قال: لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا هذه الآية، وعن الحسن أنه قال: لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه. (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) كان الكلام قبل هذا مع أهل الكتاب وأنه قد أخذ عليهم الميثاق بتبيين كتابهم للناس فقصروا فى ذلك وتركوا العمل به واشتروا به ثمنا قليلا فاستحقوا العقاب من ربهم. وهنا ذكر حالا أخرى من أحوالهم، ليحذر المؤمنين منها، وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب، ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفّاظ الكتاب ومفسروه وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه من الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وأهواء العامة. ومن عجيب حالهم أنه قد اشتبه أمرهم على الناس، فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه وعلماء كتابه وأنهم أبعد الناس عن عذابه وأقربهم من رضوانه، فبين الله كذب هذا الحسبان ونهى عنه وسجل عليهم العذاب. والخلاصة- لا تظنن أيها المخاطب أن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك، ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه، ناجون من العذاب الدنيوي وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها وساءت أعمالها، وألفت الفساد والظلم وهو ضربان: (1) عذاب هو أثر طبيعى للحال التي يكون عليها المبطلون بحسب سنة الله فى الاجتماع البشرى بخذلان أهل الباطل والإفساد، وذهاب استقلالهم ونصرة أهل الحق عليهم وتمكينهم من رقابهم وديارهم وأموالهم ليحل الإصلاح محل الإفساد

والعدل مكان الظلم «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» . (2) عذاب يكون سخطا سماويا كالزلزال والخسف والطوفان وغير ذلك من الجوائح المدمّرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بربهم وكذبوهم وآذوهم عند اشتداد عتوّهم وإيذائهم لرسلهم. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شىء فى التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوا واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب عظيم فى الآخرة كفاء فساد أخلاقهم وسوء طويتهم وحبهم للحمد الكاذب، وقوله بما أوتوا أي بما فعلوا. قال صاحب الكشاف: أتى وجاء يستعملان بمعنى فعل قال تعالى: «إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» وقال: «لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» وقوله: فلا تحسبنهم تأكيد لقوله: لا تحسبن الذين، وقد عهد هذا فى الأساليب العربية من إعادة الفعل إذا طال الفصل بينه وبين معموله. قال الزجاج: العرب إذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول فتقول لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننه صادقا، فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا، والفاء زائدة كما فى قوله: فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعى (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لا تحزنوا أيها المؤمنون ولا تضعفوا، وبينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا، ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ولا تفرحوا بما عملتم، فإن الله يكفيكم ما أهمكم ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها فإن لله ملك السموات والأرض يعطى من يشاء، وهو على كل شىء قدير، لا يعز عليه نصركم على من يؤذونكم بأيديهم وألسنتهم من أهل الكتاب والمشركين.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 إلى 195]

وفى هذا إيماء إلى أن الخير فى اتباع ما أرشد إليه، وفيه تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ووعد له بالنصر، وفيه تعريض بذم أولئك المخالفين ووصفهم بأنهم لا يؤمنون إيمانا صحيحا يظهر أثره فى أخلاقهم وأعمالهم، إذ لو كانوا كذلك ما تركوا العمل بكتابه وآثروا عليه ما يستفيدونه من حطام الدنيا [سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 195] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) تفسير المفردات الخلق: التقدير والترتيب الدالّ على النظام والإتقان، والسموات: ما علاك مما تراه فوقك، والأرض: ما تعيش عليه، اختلاف الليل والنهار: تعاقبهما ومجىء كل منهما خلف

المعنى الجملي

الآخر، لآيات: لأدلة على وجود الله وقدرته، الألباب واحدها لب: وهو العقل، قياما وقعودا واحدهما قائم وقاعد، باطلا أي عبثا لا فائدة منه، سبحانك أي تنزيها لك عما لا يليق بك، قنا عذاب النار: أي اجعل العمل الصالح وقاية لنا من عذاب النار، ويقال أخزاه: أي أذله وأهانه، الذنب: هو التقصير فى المعاملة بين العبد وربه، والسيئة: هى التقصير فى حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم بعضا، وتوفنا: أي أمتنا، والأبرار وأحدهم بارّ: وهو المحسن فى العمل، على رسلك: أي على تصديق رسلك، والميعاد: الوعد، استجاب: أي أجاب، لا أضيع عمل عامل: أي لا أترك ثوابه، بعضكم من بعض: أي مختلطون متعاونون، فى سبيلى: أي بسبب طاعتى وعبادتى ودينى. المعنى الجملي قال الرازي: اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق فى معرفة الحق، فلما طال الكلام فى تقرير الكلام والجواب عن شبهات المبطلين، عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والألوهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآية. وروى الطبراني وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا بم جاءكم موسى من الآيات؟ فقالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى؟ قالوا كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه فنزلت هذه الآية: إن فى خلق السموات إلخ فليتفكروا فيها. الإيضاح (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي إن فى نظام السموات والأرض وبديع تقديرهما وعجيب صنعهما، وفى اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق طوال العام، نرى آثاره فى أجسامنا وعقولنا بتأثير

حرارة الشمس وبرد الليل، وفى الحيوان والنبات وغير ذلك- لآيات ودلائل على وحدانية الله وكمال علمه وقدرته. عن عائشة رضى الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل لك يا عائشة أن تأذنى لى الليلة فى عبادة ربى؟ فقلت: يا رسول الله إنى لأحب قربك وأحب هواك (ما تهوى وتريد) قد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء فى البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلى فقرأ من القرآن وجعل يبكى حتى بلغت الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكى ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟ ثم قال ومالى لا أبكى وقد أنزل الله علىّ فى هذه الليلة: إن فى خلق السموات والأرض إلخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وروى «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها» . (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي أولو الألباب هم الذين ينظرون ويستفيدون ويهتدون ويستحضرون عظمة الله ويتذاكرون حكمته وفضله وجليل نعمه فى جميع أحوالهم من قيام وقعود واضطجاع. والخلاصة- إنهم هم الذين لا يغفلون عنه تعالى فى عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره، واستغراق سرائرهم بمراقبته. وذكر الله وحده لا يكفى فى الاهتداء، بل لا بد معه من التفكر فى بديع صنعه وأسرار خليقته، ومن ثم قال: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ويتفكرون فى خلق السموات والأرض، وما فيهما من الأسرار والمنافع الدالة على العلم الكامل، والحكمة البالغة، والقدرة التامة. والخلاصة- إن الفوز والنجاة إنما يكون بتذكر عظمة الله والتفكر فى مخلوقاته

من جهة دلالتها على وجود خالق واحد له العلم والقدرة، ويتبع ذلك صدق الرسل وأن الكتب التي أنزلت عليهم مفصّلة لأحكام التشريع، حاوية لكامل الآداب، وجميل الأخلاق، ولما يلزم نظم المجتمع فى هذه الحياة، وللحساب والجزاء على الأعمال بدخول الجنة والنار. وإنما ذكر التفكر فى خلق الله، لورود النهى عن التفكر فى الخالق، لعدم الوصول إلى حقيقة ذاته وصفاته. فقد أخرج الأصبهانى عن عبد الله بن سلام قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال: «تفكروا فى الخلق ولا تفكروا فى الخالق» وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تفكروا فى آلاء الله ولا تفكروا فى الله تعالى» . (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ) أي يقول الذاكرون المتفكرون: ربنا ما خلقت هذا الذي نشاهده من العوالم العلوية والأرضية باطلا، ولا أبدعته عبثا، سبحانك ربنا تنزهت عن الباطل والعبث، بل كل خلقك حق مشتمل على حكم جليلة ومصالح عظيمة. والإنسان بعض خلقك لم يخلق عبثا، فإن لحقه الفناء، وتفرقت منه الأجزاء، بعد مفارقة الأرواح للأبدان، فإنما يهلك منه كونه الفاسد أي الجسم، ثم يعود بقدرتك فى نشأة أخرى كما بدأته فى النشأة الأولى، فريق أطاعك واهتدى، وفريق حقت عليه الضلالة فالأول يدخل الجنة بصالح أعماله والآخر يكبّ فى النار بما اجترح من السيئات، وما عمل من الموبقات، جزاء وفاقا. والخلاصة- إن المؤمن المتفكر يتوجه إلى الله بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال بعد أن رأى الدلائل على بديع الحكمة، وواسع العلم بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه. وفى هذا تعليم للمؤمنين كيف يخاطبون ربهم عند ما يهتدون إلى شىء من معانى إحسانه وكرمه فى بدائع خلقه.

(فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار. (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي إنهم بعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار يتوجهون إليه قائلين هذا القول، دلالة على عظم هذا العقاب وشدته وهو الخزي والفضيحة، ليكون موقع السؤال أعظم، لأن من طلب من ربه شيئا وشرح عظم المطلوب وقوّته، كانت الداعية إلى الدعاء أكمل والإخلاص فى الطلب أشد. (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الظالم هو الذي يتنكب الطريق المستقيم، وقد وصف من يدخل النار بالظلم للدلالة على أن سبب دخوله إياها هو جوره وظلمه، وللتشنيع عليه بهذا العمل القبيح. أي إن هؤلاء المتفكرين الذاكرين ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلىّ الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار والحكم، فيعلمون أنه لا يمكن أحدا أن ينتصر عليه، وأن من عاداه فلا ملجأ له إلا إليه. (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) المنادى هو الرسول، وذكره بوصف المنادى تعظيما لشأن هذا النداء، أي إنهم بعد أن عرفوا الله تعالى حق معرفته بالذكر والفكر عبروا عن وصول دعوة الرسول إليهم واستجابتهم دعوته سراعا بدون تلبّث بهذا القول، لأنه دعاهم إلى ما اهتدوا إليه من قبل وزادهم معرفة وبصيرة فى عالم الغيب والحياة الآخرة. وفى تقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى من عوّدهم الإحسان والإفضال. (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) الغفران: الستر والتغطية يقال: رجل مكفّر بالسلاح أي مغطى به، قال لبيد: «فى ليلة كفر النجوم ظلامها» . أي إنهم طلبوا من الله تعالى فى هذا الدعاء ثلاثة أشياء: غفران الذنوب المتقدمة، وتكفير السيئات المستقبلة، وأن تكون وفاتهم مع الأبرار بأن يموتوا على مثل أعمالهم

حتى يكونوا فى درجاتهم يوم القيامة كما يقال فلان فى العطاء مع أصحاب الألوف أي هو مشارك لهم فى أنه يعطى ألفا قال تعالى: «فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ» . وفى هذا رمز إلى أنهم كانوا يحبون لقاء الله «ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» . (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي ربنا أعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء كالنصر فى الدنيا والنعيم فى الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم. وخلاصة ذلك- إنهم قالوا أعطنا ذلك بتوفيقنا للثبات على ما نستحق ذلك به إلى أن تتوفانا مع الأبرار، وفى هذا استشعار بتقصيرهم وعدم الثقة بثباتهم إلا بتوفيق الله ومزيد عنايته. (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها. (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي لا تخلف ما وعدت به على الإيمان وصالح العمل، فقد وعدت بسيادة الدنيا فى قولك «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» وقلت «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ» ووعدت بسعادة الآخرة فقلت «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» . (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي فاستجاب لهم ربهم دعاءهم، لصدقهم فى إيمانهم وذكرهم وتفكيرهم وتنزيههم لربهم وتصديقهم للرسل وشعورهم بالضعف والتقصير فى الشكر واحتياجهم إلى المغفرة. وإنا لنستخلص من هذه الآية أمورا: (1) إن الاستجابة يصح أن تكون بغير ما طلب، فقد سألوه غفران الذنوب وتكفير السيئات والوفاة مع الأبرار، فأجابهم بأن كل عامل سيوفى جزاء عمله،

وفى ذلك تنبيه إلى أن العبرة فى النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب، إنما تكون بإحسان العمل والإخلاص فيه. (2) إن الذكر والأنثى متساويان عند الله فى الجزاء متى تساويا فى العمل حتى لا يغترّ الرجل بقوته ورياسته على المرأة فيظن أنه أقرب إلى الله منها. (3) إن الله قد بين علة هذه المساواة بقوله: بعضكم من بعض، فالرجل مولود من المرأة والمرأة مولودة من الرجل، فلا فرق بينهما فى البشرية ولا تفاضل إلا بالأعمال. (4) إنها رفعت قدر النساء المسلمات فى أنفسهن وعند الرجال المسلمين. (5) إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة واعترف لها بالكرامة، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخّرة لمصلحة الرجل، وبعضها يعدّها غير أهل للتكاليف الدينية، إذ زعموا أنه ليس لها روح خالد، فما زعمه الإفرنج من أنهم السبّاقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل ليس مبنيا على أساس صحيح، فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع فى هذا، ولا تزال شرائعهم الدينية والمدنية تميّز الرجل من المرأة، نعم إن المسلمين قصّروا فى تعليم النساء وتربيتهن، لكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه. (6) إن ما يفضل به الرجال النساء من العلم والعقل وما يقومون به من الأعمال الدنيوية التي جرى عرف المجتمع على إسنادها إلى الرجال، وجعل حظ الرجل فى الإرث مثل حظ الأنثيين لأنه يتحمل نفقة امرأته، فلا دخل لشىء منه فى التفاضل عند الله بثواب وعقاب (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) . بعد أن ربط الله الجزاء بالعمل، بيّن أن العمل الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات، ودخول الجنات، هو الهجرة من الوطن فى خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإخراج من الديار، بإلجاء الكافرين إياهم إلى الخروج والإيذاء فى سبيل الله والقتال والقتل وبذل

لمهجة لله عز وجل، كل أولئك يكفر الله به عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ولهذه الآية نظائر فى الكتاب الكريم كقوله «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وقوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ» وقوله «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» . وقد ذكر الله صفات المؤمنين هكذا، لينبهنا إلى أن نروز أنفسنا ونختبرها، فإن رأيناها تحتمل الأذى فى سبيل الله حتى القتل فلها الرضوان من ربها، وإلا فلنروّضها حتى تصل إلى هذه المنزلة، والسر فى هذا التكليف الشاق أن الحق لا يقوى إلا إذا وجد من ينصره ويؤيده، ويقاوم الباطل وأعوانه، حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الباطل هى السفلى، فيجب على أنصار الحق ألا يفشلوا ولا ينهزموا، بل يثبتوا مهما لاقوا من المحن والأرزاء، فقد كتب الله النصر لعباده المؤمنين. (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الثواب والمثوبة الجزاء، وقد جعله الدين أثرا طبيعيا للعمل، فللأعمال تأثير فى نفس العامل بتزكيتها فتكون منعمة فى الآخرة، أو تدسيتها فتكون معذبة فيها. وقد وعد الله تعالى من فعل ذلك بأمور ثلاثة: (1) محو السيئات وغفران الذنوب ودل على ذلك بقوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) وذلك ما طلبوه بقولهم (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) . (2) إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهذا ما طلبوه بقولهم: (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) . (3) أن يكون هذا الثواب عظيما مقرونا بالتعظيم والإجلال، وهو قوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وهذا ما طلبوه بقولهم (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) والمعنى لأكفرنّ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 إلى 200]

عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم الجنات ولأثيبنهم بذلك ثوابا من الله لا يقدر عليه غيره. (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي هو ثواب من عنده مختص به بحيث لا يقدر عليه غيره، وهذه الجملة تأكيد لشرف ذلك الثواب، لأنه تعالى قادر على كل شىء، غنى عن كل أحد، فهو لا محالة فى غاية الجود والكرم والإحسان. [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) تفسير المفردات تقول: غرّنى ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه، ويقال فى الثوب إذا نشر ثم أعيد إلى طيّه: رددته على غرّه، تقلّب الذين كفروا: تصرفهم فى التجارات والمكاسب، متاع قليل: أي ذلك الكسب والربح متاع قليل، وإنما وصفه بالقلة لأنه قصير الأمد، مأواهم: مصيرهم، جهنم هى الدار التي يجازى فيها الكافرون فى الآخرة، والمهاد: المكان الموطأ كالفراش، والنزل: ما يهيأ للضيف النازل، والأبرار: واحدهم بارّ وهو المتصف بالبر، خاشعين: أي خاضعين، اصبروا: أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها، وصابروا: أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله، ورابطوا: أي أقيموا فى الثغور رابطين خيولكم حابسين لها مترصدين للغزو، والتقوى: أن تقى نفسك من غضب الله وسخطه، والفلاح: هو الفوز والظفر بالبغية المقصودة من العمل.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا فى الدنيا فى غاية الفقر والشدة، والكفار كانوا فى رخاء ولين عيش ذكر فى هذه الآية ما يسليهم ويصبّرهم على تلك الشدة، فبين لهم حقارة ما أوتى هؤلاء من حظوظ الدنيا وذكر أنها متاع قليل زائل، فلا ينبغى للعاقل أن يوازن بينه وبين النعيم الخالد المقيم. الإيضاح (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) أي لا يغرنك يا محمد والمراد أمته، فكثيرا ما يخاطب سيّد القوم بشىء ويراد أتباعه، وهذا معنى ما روى عن قتادة أنه قال: والله ما غرّوا نبىّ الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله. وخلاصة المعنى- لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم فى البلاد كيف شاءوا، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محصورون، فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب، فعلى المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعده الله فهو النعيم الحقيقي الباقي. (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ذلك التقلب فى البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل، عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه فى الآخرة فيكونون خالدين فيه أبدا، بما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم. نزلت الآية فى مشركى مكة إذ كانوا يضربون فى الأرض، يتّجرون ويكتسبون حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد والإيقاع بهم أينما ثقفوهم، وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من ديارهم للتجارة أو غيرها. وقد روى من وجه آخر أن بعض المؤمنين قال: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية. وبعد أن بين حال الكافرين ومآل أمرهم، ذكر عاقبة المؤمنين ليعلموا أنهم فى القسمة غير مغبونين، فقال:

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات، لهم جنات النعيم خالدين فيها أبدا. ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا» وفى الآية إيماء إلى أن النازلين فيها ضيوف عند ربهم يحفهم بلطفه، ويخصهم بكرمه وجوده، وهذه الجنات نعيم جسمانى لهم، وهناك نعيم روحانى أعطاه الله بمحض الفضل والإحسان وإليه الإشارة بقوله: (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي وما عنده من الكرامة فوق ما تقدم خير وأفضل يتقلب فيه الذين كفروا من المتاع القليل الفاني. (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) بعد أن بين حال المؤمنين وما أعدّ لهم من الثواب وحال الكافرين وما هيأ لهم من العقاب، ذكر هنا حال فريق من أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن وكانوا من قبله مهتدين بما عندهم من هدى الأنبياء وقد وصفهم الله بصفات كلها تستحق المزية والشرف: الأولى: الإيمان بالله إيمانا لا تشوبه نزعات الشرك ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل، لا كمن قال الله فيهم «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» . الثانية: الإيمان بما أنزل إلى المسلمين، وهو ما أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. الثالثة: الإيمان بما أنزل إليهم وهو ما أوحاه الله إلى أنبيائهم، والمراد به الإيمان إجمالا وما أرشد إليه القرآن تفصيلا فلا يضير فى ذلك ضياع بعضه ونسيان بعضه الآخر. الرابعة: الخشوع وهو الثمرة للإيمان الصحيح فإن الخشوع أثر خشية الله فى القلب ومنه تفيض على الجوارح والمشاعر، فيخشع البصر بالانكسار، ويخشع الصوت بالخفوت والتهدج.

الخامسة: عدم اشتراء شىء من متاع الدنيا بآيات الله وهذا أثر لما قبله. روى النسائي من حديث أنس قال: «لما جاء نعى النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلّوا عليه، قالوا: يا رسول الله نصلى على عبد حبشى، فأنزل الله هذه الآية» : (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي هؤلاء المتصفون بحميد الصفات، وجليل الأعمال، لهم ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فهو يحاسب الناس جميعهم فى وقت قصير فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم، وانطوت عليه جوانحهم، وهو مكتوب فى صحائف أعمالهم، فما أحرانا أن نشبهها بالصور المتحركة (الأفلام) التي تعرض فيها الحوادث والوقائع فى عصرنا الحاضر. وقد ختم الله هذه السورة بوصية للمؤمنين إذا عملوا بها كانوا أهلا لاستجابة الدعاء وأحق بالنصر فى الدنيا وحسن المثوبة فى الآخرة فقال. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي اصبروا على شدائد الدنيا وآلامها من مرض وفقر وخوف، وصابروا: أي تحملوا المكاره التي تلحقكم من سواكم، ويدخل فى ذلك احتمال الأذى من الأهل والجيران وترك الانتقام ممن يسىء إليكم كما قال: «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» وإيثار غيركم على أنفسكم كما قال: «وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» والعفو عمن ظلمكم كما قال «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» ودفع شبه المبطلين وحلّ شكوكهم والإجابة عن شبههم، وقوله ورابطوا: أي اربطوا خيلكم فى الثغور كما يربط العدو خيله استعداد للقتال كما قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» ويدخل فى هذا كل ما ولّده العلم فى هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات وقاذفات للقنابل ودبابات ومدافع رشاشة وبنادق وأساطيل بحرية ونحو ذلك مما ضار

ضروريا من آلات الحروب الحديثة، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزل من السلاح وإن كان مدجّجا به، ويلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب والخطط العسكرية بارعين فى العلوم الطبيعية والرياضية، فكل ذلك واجب على المسلمين فى هذا العصر، لأن الاستعداد لايتم إلا به. ولقد أكثر الله فى كتابه من ذكر التقوى ويراد بها الوقاية من سخط الله وغضبه، ولا يكون هذا إلا بعد معرفته ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله، وعرف سنة نبيه، وسيرة السلف الصالح من الأمة الإسلامية. ومن فعل كل ما تقدم فصبر وصابر ورابط لحماية الحق وأهله ونشر دعوته واتقى ربه فى سائر شئونه فقد أفلح وفاز بالسعادة عند ربه. وهذا الفوز والفلاح بالبغية قد يكون فى شئون الدنيا كما جاء حكاية عن فرعون «وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» وقد يكون فى شئون الآخرة كقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف «وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» . وقد يكون فيهما معا، وأكثر ما جاء فى القرآن من هذا كالذى نحن فيه، فإن مصابرة الأعداء والمرابطة والتقوى كلها من وسائل الظفر على الأعداء فى الدنيا كما أنها من أسباب السعادة فى الآخرة بعد توافر حسن النية، وقصد إقامة الحق والعدل. وفقنا الله للعمل إلى ما يرضيه، حتى نصل إلى سعادة الدارين، بفضله وإحسانه، ومنّه وكرمه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

سورة النساء

سورة النساء آيها مائة وسبعون وست، نزلت بعد الممتحنة. وهى مدنية كلها، فقد روى البخاري عن عائشة أنها قالت: «ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد بنى النبي بعائشة فى المدينة فى شوال من السنة الأولى من الهجرة. ووجه المناسبة بينها وبين آل عمران: (1) إن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة بذلك، وهذا من آكد المناسبات فى ترتيب السور. (2) إن فى السابقة ذكر قصة أحد مستوفاة، وفى هذه ذيل لها وهو قوله: «فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» فإنه نزل فى هذه الغزوة على ما ستعرفه بعد. (3) إنه ذكر فى السالفة الغزوة التي بعد أحد وهى (غزوة حمراء الأسد) بقوله «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ» وأشير إليها هنا فى قوله: «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ» الآية. ما حوته السورة من الموضوعات (1) الأمر بتقوى الله فى السر والعلن. (2) تذكير المخاطبين بأنهم من نفس واحدة. (3) أحكام القرابة والمصاهرة. (4) أحكام الأنكحة والمواريث. (5) أحكام القتال. (6) الحجاج مع أهل الكتاب

[سورة النساء (4) : آية 1]

(7) بعض أخبار المنافقين. (8) الكلام مع أهل الكتاب إلى ثلاث آيات فى آخرها. [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) تفسير المفردات الناس: اسم للجنس البشرى، وهو الحيوان الناطق المنتصب القامة الذي يطلق عليه اسم (إنسان) . تساءلون به: أي يسأل به بعضكم بعضا، بأن يقول سألتك بالله أن تقضى هذه الحاجة، والأرحام: أي خافوا حق إضاعة الأرحام، والرقيب: المراقب وهو المشرف من مكان عال، والمرقب: المكان الذي يشرف منه الإنسان على ما دونه، والمراد هنا بالرقيب الحافظ لأن ذلك من لوازمه. المعنى الجملي يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أنشأكم من العدم، ورباكم وشملكم بالجود والكرم، واذكروا أنه خلقكم من نفس واحدة وجعلكم جنسا تقوم مصالحه على التعاون والتآزر، وحفظ بعضكم حقوق بعض. واتقوا الله الذي تعظمونه وتتساءلون فيما بينكم باسمه الكريم، وبحقه على عباده وبما له من السلطان والجبروت، وتذكّروا حقوق الرحم عليكم فلا تفرّطوا فيها، فإنكم إن فعلتم ذلك أفسدتم الأسر والعشائر، فعليكم أن تحافظوا على هاتين الرابطتين

الإيضاح

رابطة الإيمان ورابطة الرحم الوشيجة، والله رقيب عليكم يعلم ما تأتون وما تذرون، ويحاسبكم على النّقير والقطمير «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي أيها الناس احذروا عصيان من رباكم بإحسانه، وتفضل عليكم بجوده وإنعامه، وجعلكم أقرباء يجمعكم نسب واحد وأصل واحد. وجمهرة العلماء على أن المراد بالنفس الواحدة هنا آدم، وهم لم يأخذوا هذا من نص الآية، بل أخذوه تسليما وهو أن آدم أبو البشر. وقال القفّال: إن المراد أنه خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجا هو إنسان يساويه فى الإنسانية، أو أن الخطاب لقريش الذين كانوا فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم آل قصىّ، وأن المراد بالنفس الواحدة قصىّ اه. وقال بعض العلماء أبهم الله تعالى أمر النفس التي خلق الناس منها، فلندعها على إبهامها، فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من أن لكل صنف من أصناف البشر أبا كان ذلك غير مخالف لكتابنا، كما هو مخالف للتوراة التي نصت صراحة على أن آدم أبو البشر فحمل ذلك بعض الناس على الطعن فى كونها من عند الله ووحيه. وقال الأستاذ الإمام: إن ظاهر الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم لوجهين: (1) البحث العلمي والتأريخي المعارض لذلك. (2) إنه قال رجالا كثيرا ونساء، ولم يقل الرجال والنساء، ولكن ليس فى القرآن ما ينفى هذا الاعتقاد ولا ما يثبته إثباتا قاطعا لا يحتمل التأويل اه. وما جاء من مخاطبة الناس بقوله: «يا بَنِي آدَمَ» لا يعد نصّا فى كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفى فى صحة هذا الخطاب أن يكون من وجّه إليهم فى زمن التنزيل من أولاد آدم.

بحث فى حقيقة النفس أو الروح

بحث فى حقيقة النفس أو الروح اختلف المسلمون فى حقيقة النفس أو الروح الذي يحيا به الإنسان وتتحقق وحدة جنسه على اختلاف أصنافه، وأشهر آرائهم فى ذلك: الرأى القائل: إنها جسم نورانى علوىّ خفيف حىّ متحرك ينفذ فى جوهر الأعضاء، ويسرى فيها سريان الماء فى الورد والنار فى الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار التي تفيض عليها من هذا الجسم اللطيف، وجد الحسّ والحركة الإرادية والفكر وغيرها، وإذا فسدت هذه الأعضاء، وعجزت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح. ومما يثبت ذلك أن العقل والحفظ والتذكر وهى أمور ثابتة قطعا- ليست من صفات هذا الجسد، فلابد لها من منشأ وجودى عبر عنه الأقدمون بالنفس أو الروح وما مثلها إلا مثل الكهرباء، فالماديون الذين يقولون لا روح إلا هذه الحياة، يكون مثل الجسد عندهم مثل المستودع الكهربائى، فهو بوضعه الخاص، وبما يودع فيه من الموادّ تتولد فيه الكهرباء، فإذا زال شىء مما أودع فيه، أو أزيل تركيبه الخاص فقد الكهرباء، وهكذا حال الجسم تتولد فيه الحياة بتركيب مزاجه بكيفية خاصة، وبزوالها تزول الحياة، والذين يقولون إن للأرواح استقلالا عن الجسد، يكون مثل الجسد مثل الآلة التي تدار بكهرباء تأتى إليها من المولّد الكهربائى، فإذا كانت الآلة على وضع خاص فى أجزائها وأدوانها كانت مستعدة لقبول الكهرباء التي توجه إليها حتى تؤدى وظيفتها، وإن فقدت منها بعض الأجزاء الرئيسية، أو اختل وضعها الخاص تصبح غير قابلة للكهرباء، ومن ثم لا تؤدى وظيفتها الخاصة بها. (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) أي وخلق لتلك النفس التي هى آدم زوجا منها وهى حواء، قالوا إنه خلقها من ضلعه الأيسر وهو نائم، وقد صرح بهذا فى الفصل الثاني من سفر التكوين وورد فى بعض الأحاديث، فقد روى البخاري قوله صلى الله عليه وسلم

«إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها» . وخلاصة هذا- إنه شعّبكم من نفس واحدة أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء. ويرى أبو مسلم الأصفهانى: أن معنى (منها) أي من جنسها كما جاء مثل هذا فى قوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» وقوله: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» وقوله: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» فلا فرق بين أسلوب هذه الآية وأساليب الآيات الأخرى، والمعنى فى الجميع واحد. ومن ثبت عنده أن حواء خلقت من ضلع آدم فلا يكون مصدر الإثبات عنده هذه الآية، وإلا كان إخراجا لها عما جاء فى أمثالها اه. ثم فصل ما أجمله فى قوله: خلقكم من نفس واحدة، فقال: (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً) أي ونشر من آدم وحواء نوعى جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فجعل النسل من الزوجين كليهما، فجميع سلائل البشر متوالدة من زوجين ذكر وأنثى. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) أي واتقوا الله الذي يسأل به بعضكم بعضا، بأن يقول سألتك بالله أن تقضى هذه الحاجة، وهو يرجو بذلك إجابة سؤله، والمراد من سؤاله بالله سؤاله بإيمانه به وتعظيمه إياه، أي أسألك بسبب ذلك أن تفعل كذا. واتقوا إضاعة حق الأرحام، فصلوها بالبر والإحسان ولا تقطعوها. وكرر الأمر بالتقوى للحث عليها، وعبر أوّلا بلفظ (الربّ) الذي يدل على التربية والإحسان، ثم بلفظ (اللَّهِ) الذي يدل على الهيبة والقهر للترغيب أولا والترهيب ثانيا

[سورة النساء (4) : الآيات 2 إلى 4]

كما قال تعالى: «يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» كأنه قيل: إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته، لأنه شديد العقاب، عظيم السطوة. (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي إنه مشرف على أعمالكم ومناشئها من نفوسكم، وتأثيرها فى أحوالكم لا يخفى عليه شىء من ذلك، فلا يشرع لكم من الأحكام إلا ما فيه صلاحكم وسعادتكم فى الدنيا والآخرة. وفى ذلك تنبيه لنا إلى الإخلاص فى أعمالنا، إذ من كان متذكرا أن الله مراقب لأعماله كان جديرا أن يتقيه ويلتزم حدوده. [سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 4] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) تفسير المفردات اليتيم لغة: من مات أبوه مطلقا، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ مبلغ الرجال، ولا تتبدلوا: أي لا تستبدلوا، والخبيث: هو الحرام، والطيب: هو الحلال، حوبا كبيرا: أي إثما عظيما، القسط: النصيب، وقسط: جار. قال الله تعالى: َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» وأقسط: عدل. قال الله تعالى: «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» ما طاب لكم: أي مامال إليه القلب منهن، مثنى وثلاث ورباع: أي ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، ذلك أدنى ألا تعولوا: أي ذلك أقرب إلى عدم العول

المعنى الجملي

والجور، صدقاتهن: مهورهن، نحلة: أي عطية وهبة، هنيئا مريئا: الهنيء ما يستلزه الآكل، والمريء: ما تجمل عاقبته كأن يسهل هضمه وتحسن تغذيته. المعنى الجملي بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر ما يجب على العبد أن ينقاد له من التكاليف، ليبتعد عن سخطه وغضبه فى الدنيا والآخرة- شرع يذكر أنواعها، وأولها إيتاء اليتامى أموالهم، وثانيها حكم ما يحل عدده من الزوجات ومتى يجب الاقتصار على واحدة، ثم وجوب إيتاء الصداق لهن. الإيضاح (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) المراد بإيتاء الأموال إياهم: جعلها لهم خاصة وعدم أكل شىء منها بالباطل، أي أيها الأولياء والأوصياء احفظوا أموال اليتامى ولا تتعرضوا لها بسوء وسلموها لهم متى آنستم منهم الرشد، فاليتيم ضعيف لا يقدر على حفظ ماله والدفاع عنه. (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي اكتسبتموه من فضل الله. وخلاصة ذلك- لا تتمتعوا بمال اليتيم فى المواضع والحالات التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم، فاذا فعلتم ذلك فقد جعلتم مال اليتيم بدلا من مالكم. (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) المراد من الأكل سائر التصرفات المهلكة للأموال، وإنما ذكر الأكل لأن معظم ما يقع من التصرفات فهو لأجله، و (إِلى) بمعنى مع أي لا تأكلوا أموالهم مخلوطة ومضمومة إلى أموالكم حتى لا تفرقوا بينهما، لأن فى ذلك قلة مبالاة بما لا يحل وتسوية بين الحرام والحلال. (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) أي إن هذا الأكل ذنب عظيم وإثم كبير.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي وإن أحسستم من أنفسكم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم ألا تتزوجوا بها فان الله جعل لكم مندوحة عن اليتامى بما أباحه لكم من التزوّج بغيرهن واحدة أو ثنتين أو ثلاثا أو أربعا، وتقول العرب فى كلامها اقتسموا ألف الدرهم هذا درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة على معنى أن كل واحد يأخذ درهمين فحسب أو ثلاثة أو أربعة ولو أفردت وقلت اقتسموه درهمين وثلاثة وأربعة لم يسغ استعمالا. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) أي ولكن إن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجين أو الزوجات فعليكم أن تلزموا واحدة فقط، والخوف من عدم العدل يصدق بالظن والشك فى ذلك، فالذى يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو من يثق من نفسه بالعدل ثقة لا شك فيها. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي اقتصروا على واحدة من الحرائر وتمتعوا بمن تشاءون من السراري لعدم وجوب العدل بينهن، ولكن لهن حق الكفاية فى نفقات المعيشة بما يتعارفه الناس. (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي اختيار الواحدة أو التسرى أقرب من عدم الجور والظلم. والخلاصة- إن البعد من الجور سبب فى تشريع الحكم، وفى هذا إيماء إلى اشتراط العدل ووجوب تحرّيه، وإلى أنه عزيز المنال كما قال تعالى: «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ» . والعدل إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان كالتسوية فى المسكن والملبس ونحو ذلك، أما ما لا يدخل فى وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم فى آخر عهده يميل إلى عائشة أكثر من سائر نسائه، لكنه لا يخصها بشىء دونهن إلا برضاهن وإذنهن، وكان يقول

مزايا تعدد الزوجات عند الحاجة إليه

«اللهم إن هذا قسمى فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» يريد ميل القلب، وقد استبان لك مما سلف أن إباحة تعدد الزوجات مضيق فيها أشد التضييق، فهى ضرورة تباح لمن يحتاج إليها بشرط الثقة باقامة العدل والأمن من الجور. وإن من يرى الفساد الذي يدب فى الأسر التي تتعدد فيها الزوجات ليحكم حكما قاطعا بأن البيت الذي فيه زوجتان أو أكثر لرجل واحد لا تستقيم له حال ولا يستتب فيه نظام. فانك ترى إحدى الضرتين تغرى ولدها بعداوة إخوته، وتغرى زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها، وكثيرا ما يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد فى الأسرة كلها. إلى أن ذلك ربما جر إلى السرقة والزنا والكذب والقتل فيقتل الولد والده والوالد ولده والزوجة زوجها، والعكس بالعكس كما دونت ذلك سجلات المحاكم. فيجب على رجال القضاء والفتيا الذين يعلمون أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن من أصول الدين منع الضرر والضرار، أن ينظروا إلى علاج لهذه الحال ويضعوا من التشريع ما يكفل منع هذه المفاسد على قدر المستطاع. مزايا تعدد الزوجات عند الحاجة إليه الأصل فى السعادة الزوجية أن يكون للرجل زوج واحدة، وذلك منتهى الكمال الذي ينبغى أن يربى عليه الناس ويقنعوا به، لكن قد يعرض ما يدعو إلى مخالفة ذلك لمصالح هامة تتعلق بحياة الزوجين، أو حاجة الأمة فيكون التعدد ضربة لازب لا غنى عنه، ومن ذلك: (1) أن يتزوج الرجل امرأة عاقرا وهو يود أن يكون له ولد، فمن مصلحتها أو مصلحتهما معا أن تبقى زوجا له ويتزوج بغيرها، ولا سيما إذا كان ذا جاه وثروة كأن يكون ملكا أو أميرا.

(2) أن تكبر المرأة وتبلغ سن اليأس ويرى الرجل حاجته إلى العقب، وهو قادر على القيام بنفقة غير واحدة وكفاية الأولاد الكثيرين وتعليمهم. (3) أن يرى الرجل أن امرأة واحدة لا تكفيه لإحصانه لأن مزاجه الخاص يدفعه إلى الحاجة إلى النساء، ومزاجها بعكس هذا، أو يكون زمن حيضها طويلا يأخذ جزءا كبيرا من الشهر فهو حينئذ أمام أحد أمرين: إما التزوج بثانية، وإما الزنا الذي يضيع الدين والمال والصحة، ويكون هذا شرا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما كما هو شرط الإباحة فى الإسلام. (4) أن تكثر النساء فى الأمة كثرة فاحشة كما يحدث عقب الحروب التي تجتاح البلاد فتذهب بالألوف المؤلفة من الرجال، فلا وسيلة للمرأة فى التكسب فى هذه الحال إلا ببيع عفافها، ولا يخفى ما بعد هذا من شقاء على المرأة التي تقوم بالإنفاق على نفسها وعلى ولد ليس له والد يكفله، ولا سيما عقب الولادة ومدة الرضاعة. والمشاهد أن اختلاط النساء بالرجال فى المعامل ومحال التجارة وغيرها من الأماكن العامة قد جر إلى كثير من هتك الأعراض والوقوع فى الشقاء والبلاء حتى كتبت غير واحدة من الكاتبات الإنجليزيات، وأبانت أن هذا التدهور الخلقي لا علاج له إلا بتعدد الزوجات، مع أن هذا ضد مصلحة المرأة، وهى تنفر منه بمقتضى شعورها ووجدانها، وهاك ما قالته إحداهن فى بعض جرائدهن بإيجاز وتلخيص: لقد كثرت الشاردات من بناتنا وقل الباحثون عن أسباب هذا البلاء، وإنى لأنظر إليهن وقلبى ينفطر أسى وحزنا عليهن، وماذا يفيد بثي وحزنى وإن شاركنى فيه الناس جميعا، لا فائدة إلا العمل على ما يمنع هذه الحال، وهو كما رأى (تومس) إباحة التزوج بأكثر من واحدة وبهذه الوسيلة تصبح بناتنا ربات بيوت. إذ لم يجر إلى هذا البلاء إلا إجبار الأوربى على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى أعمال الرجال ولا بد أن يتفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، فأى ظن وحدس يحيط بعدد الرجال

حكمة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

المتزوجين الذين لهم أولاد من السفاح وقد أصبحوا عالة وعارا على المجتمع ولو أبيح التعدد لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من عذاب ولسلم عرضهن وعرض أولادهن من فداحة الحال التي نراها الآن. ونشرت كاتبة أخرى (مس إنى رود) فى جريدة أخرى تقول: لأن يشتغل بناتنا فى البيوت خوادم أو شبه خوادم خير لهن وللمجتمع من اشتغالهن فى المعامل حيث تلوّث البنت بأذران الرذيلة التي تبقى لا صقة بها مدى حياتها. ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة، والخادم والرقيق ينعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء، وإنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطتهن الرجال. فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها وتقوم بأعمال البيت وتترك أعمال الرجال للرجال فذلك أضمن لعفافها وهو الكفيل بسعادتها اه. وصفوة القول: إن تعدد الزوجات يخالف المودة والرحمة وسكون النفس إلى المرأة وهى أركان سعادة الحياة الزوجية، فلا ينبغى لمسلم أن يقدم عليه إلا ضرورة مع الثقة بما أوجبه الله من العدل، وليس وراء ذلك إلا ظلم المرء لنفسه وامرأته وولده وأمته. حكمة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم راعى النبي صلى الله عليه وسلم المصيحة فى اختيار كل زوجة من زوجاته، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم وعلم أتباعه احترام النساء وإكرام كرائمهن والعدل بينهن وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم الأحكام الخاصة بالنساء مما ينبغى أن يعلمنه منهن لامن الرجال، ولو كان قد ترك واحدة ما كان فيها الغناء كما لو ترك التسع.

وقصارى القول إنه عليه السلام ما أراد بتعدد الزوجات ما يريده الملوك والأمراء والمترفون من التمتع بالنساء، إذ لو كان قد أراد ذلك لاختارهن من حسان الأبكار لا من الكهلات الثيبات كما قال لمن اختار ثيبا «هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك» رواه الشيخان. (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الخطاب للأزواج أي وأعطوا النساء اللواتى تعقدون عليهن المهور عطاء هبة يكون رمزا للمودة التي ينبغى أن تكون بينكما، وآية من آيات المحبة، ودليلا على وثيق الصلة والرابطة التي تجب أن تكنفكما وتحيط بسماء المنزل الذي تحلان فيه، وقد جرى عرف الناس بعدم الاكتفاء بهذا العطاء فتراهم يردفونه بأصناف الهدايا والتحف من مآكل وملابس ومصوغات إلى نحو ذلك، مما يعبر عن حسن تقدير الرجل للمرأة التي يريد أن يجعلها شريكته فى الحياة. (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) أي فإن طابت نفوسهن باعطائكم شيئا من الصداق من غير ضرار ولا خديعة فكلوه هنيئا مريئا ولا ذنب عليكم ولا إثم فى أخذه. ومن ثم لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به فاذا طلب منها شيئا وحملها الخوف أو الخجل على إعطاء ما طلب فلا يحل له، ألا ترى أنّ الله تعالى نهى عن أخذ شىء من المرأة فى طور المفارقة فقال: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» فالتحذير من أخذه فى طور الرغبة والتحبب وإظهار القدرة على ما يجب عليه من أعباء الزوجية من كفالة المرأة والإنفاق عليها يكون أشد وآكد، ولكن حب المل جعل الرجال يماكسون فى المهر كما يماكسون فى سلع التجارة، وصار حبهم للمحافظة على الشرف والكرامة دون حبهم للدرهم والدينار.

[سورة النساء (4) : الآيات 5 إلى 6]

[سورة النساء (4) : الآيات 5 الى 6] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) تفسير المفردات السفهاء واحدهم سفيه: وهو المبذّر للمال المنفق له فيما لا ينبغى، وأصل السفه الخفة والاضطراب، ومنه قيل زمان سفيه: إذا كان كثير الاضطراب، وثوب سفيه: ردىء النسج، ثم استعمل فى نقصان العقل فى تدبير المال وهو المراد هنا، قياما: أي تقوم بها أمور معايشكم، وتمنع عنكم الفقر. قال الراغب: القيام والقوام ما يقوم به الشيء ويثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به، وارزقوهم: أي وأعطوهم، والقول المعروف: ما تطيب به النفوس وتألفه كإفهام السفيه أن المال ماله لا فضل لأحد عليه، آنستم منهم رشدا: أي أبصرتم منهم حسن التصرف فى الأموال، الإسراف: مجاوزة الحد فى التصرف فى المال، والبدار: المبادرة والمسارعة إلى الشيء، يقال بادرت إلى الشيء وبدرت إليه، فليستعفف: أي فليعفّ، والعفة: ترك ما لا ينبغى من الشهوات، والحسيب: الرقيب. المعنى الجملي بعد أن أمرنا الله تعالى فى الآيات السالفة بإيتاء اليتامى أموالهم، وبإيتاء النساء مهورهن أتى فى هذه الآية بشرط للإيتاء يشمل الأمرين معا وهو ألا يكون كل منهما سفيها، مع بيان أنهم يرزقون فيها، ويكسون مادامت فى أيديهم مع قول المعروف لهم حتى تحسن أحوالهم، وأنه لا تسلم إليهم الأموال إلا إذا أونس منهم الرشد، وأنه لا ينبغى الإسراف

الإيضاح

فى أكل أموال اليتامى، فمن كان من الأولياء غنيا فليعف عن الأكل من أموالهم، ومن كان فقيرا فليأكل بما يبيحه الشرع، ويستجيزه أرباب المروءة. الإيضاح (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً) هذا خطاب لمجموع الأمة، والنهى شامل لكل مال يعطى لأىّ سفيه، أي أعطوا كل يتيم ماله إذا بلغ، وكل امرأة صداقها إلا إذا كان أحدهما سفيها لا يحسن التصرف فى ماله فامنعوه منه لئلا يضيعه، واحفظوه له حتى يرشد. وإنما قال أموالكم ولم يقل أموالهم مع أن الخطاب للأولياء والمال مال السفهاء الذين فى ولايتهم، لينبهنا إلى أنه إذا ضاع هذا المال وجب على الولي أن ينفق عليه من مال نفسه، فإضاعته مفضية إلى إضاعة شىء من مال الولي فكأن ماله عين ماله، وإلى أن الأمة متكافلة فى المصالح، فمصلحة كل فرد فيها كأنها مصلحة للآخرين. ومعنى جعل الأموال قياما للناس، أن بها تقوم وتثبت منافعهم ومرافقهم، فمنافعهم الخاصة، ومصالحهم العامة لا تزال قائمة ثابتة مادامت أموالهم فى أيدى الراشدين المقتصدين منهم الذين يحسنون تثميرها وتوفيرها، ولا يتجاوزون حدود المصلحة فى الإنفاق، وفى هذا حث عظيم على الاقتصاد بذكر فوائده، وتنفير من الإسراف والتبذير ببيان مغبته، فإن الأموال إذا وقعت فى أيدى السفهاء المسرفين فات ما كان من تلك المنافع قائما، ومن ثم وصف الله المؤمنين بقوله: «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» . وقد ورد فى السنة النبوية حثّ كثير على الاقتصاد، من ذلك مارواه أحمد عن ابن مسعود: «ما عال من اقتصد» . ومارواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر: «الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن العقل نصف العلم» وإن من أشد العجب أن يكون حال المسلمين اليوم ما نرى من الإسراف والتبذير، وكتابهم يهديهم إلى ما للاقتصاد من فوائد، وما للتبذير من مضار، إلى ما للمال فى هذا الزمن من المنزلة التي لا يقدر قدرها حتى صارت جميع المرافق موقوفة

على المال، وأصبحت الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد وليس فى أيديها المال مستذلة مستعبدة للأمم الغنية ذات البراعة فى الكسب والإحسان فى الاقتصاد وجمع المال. ولا سبب لهذا إلا أنا نبذنا هدى القرآن وراء ظهورنا، وأخذنا بآراء الجاهلين الذين لبسوا على الناس ونفثوا سمومهم وبالغوا فى التزهيد والحث على إنفاق ما تصل إليه الأيدى، مع أن السلف الصالح كانوا من أشد الناس محافظة على ما فى أيديهم، وأعرف الناس بتحصيل المال من وجوه الكسب الحلال، وليت هذا التزهيد أتى بالغرض المسوق لأجله من الترغيب فى الآخرة والعمل لها، لكنهم زهدوهم فى الدنيا وقطعوهم عن الآخرة فخسروهما معا، وما ذاك إلا لجهلهم بهدى الإسلام وهو السعى للدنيا والعمل للآخرة كما ورد فى الأثر «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» . (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) الرزق يعم وجوه الإنفاق جميعها كالأكل والمبيت والزواج والكسوة، وإنما خص الكسوة بالذكر، لأن الناس يتساهلون فيها أحيانا، وقال (فيها) ولم يقل منها إشارة إلى أن الأموال تتخذ مكانا للرزق بالتجارة فيها فتكون النفقات من الأرباح لا من صلب المال حتى لا يأكلها الإنفاق، أي أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال السفهاء وتثميرها حتى كأنها أموالكم، عليكم أن تنفقوا عليهم فتقدموا لهم كفايتهم من الطعام والثياب ونحو ذلك. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) أي فليقل كل ولى للمولى عليه إذا كان صغيرا: المال مالك وما أنا إلا خازن له وإذا كبرت رد إليك وإذا كان سفيها وعظه ونصحه، ورغبه فى ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبة ذلك الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى نحو ذلك، كما يعلمه كل ما يوصله إلى الرشد، وبذا قد تحسن حاله، فربما كان السفه عارضا لا فطريا، فبالنصح والإرشاد والتأديب يزول ذلك العارض ويصبح رشيدا.

وأين هذا مما يفعله الأولياء والأوصياء من أكل أموال السفهاء ومدهم فى غيهم وسفههم حتى يحولوا بينهم وبين أسباب الرشد، وما مقصدهم من ذلك إلا بقاء الأموال تحت أيديهم يتمتعون بها، ويتصرفون فيها بحسب أهوائهم وشهواتهم. وبعد أن أمر سبحانه بإيتاء اليتامى أموالهم وكان هذا مجملا ذكر كيفية ذلك الإيتاء ووقته فقال: (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ابتلاء اليتيم واختباره يكون بإعطائه شيئا من المال يتصرف فيه، فإن أحسن كان راشدا، إذ لا معنى للرشد هنا إلا حسن التصرف وإصابة الخير فيه، وهو نتيجة صحة العقل وجودة الرأى. وبلوغ النكاح هو الوصول إلى السن التي يستعد فيها المرء للزواج وهو بلوغ الحلم، وهو فى هذه الحال تتوجه نفسه إلى أن يكون زوجا وأبا ورب أسرة، ولا يتم له ذلك إلا بالمال، ومن ثم وجب إيتاؤه إياه إلا إذا بلغ سفيها وخيف أن يضيعه. والمعنى- أيها الأولياء ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ وهو الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح، فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم، وإلا فاستمروا على الابتلاء حتى تأنسوه منهم، ويرى أبو حنيفة دفع مال اليتيم إليه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد. (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) أي ولا تأكلوا أموال اليتامى مسرفين فى الإنفاق منها ولو على اليتيم نفسه، ولا مبادرين كبرهم إليها أي ولا مسابقين الكبر فى السن التي بها يأخذونها منكم، فأنتم تطلبون أكل هذا المال كما يطلب كبر السن صاحبه فالسابق منكما هو الذي يظفر به، فبعض الأولياء الخربى الذمة يستعجلون ببعض التصرفات التي لهم فيها منفعة وليس لليتيم فيها ذلك حتى لا تفوتهم إذا كبر اليتيم وأخذ ماله. ولما كانت هاتان الحالان- الإسراف ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف- من مواطن الضعف التي تعرض للانسان نهى الله عنهما ونبه

الأولياء إلى خطرهما حتى يراقبوا ربهم إذا عرضتا لهم، فقد تخادع الإنسان نفسه فى حد الإسراف وخفاء وجه منفعة الولي فى المسابقة إلى بعض الأعمال فى مال اليتيم، ويغشّها إذا لم يمكن أن يمارى فى ذلك مراء ظاهرا تتضح فيه خيانته. أما الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوف أخذها عند البلوغ، فقد ذكر الله حكمه بقوله: «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» أي فمن كان منكم غنيا غير محتاج إلى شىء من مال اليتيم الذي تحت ولايته فليعفّ عن الأكل من ماله، ومن كان فقيرا لا يستغنى عن الانتفاع بشىء من مال اليتيم الذي يشغل بعض وقته فى تثميره وحفظه فليأكل منه بالمعروف، وهو ما يبيحه الشرع، ولا يستنكره أرباب المروءة، ولا يعدونه خيانة وطمعا. قال ابن جرير: إن الأمة مجمعة على أن مال اليتيم ليس مالا للولى، فليس له أن يأكل منه شيئا، ولكن له أن يستقرض منه عند الحاجة كما يستقرض له، وله أن يؤاجر نفسه لليتيم بأجرة معلومة إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك كما يستأجر له غيره من الأجراء غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر، وهكذا الحكم فى أموال المجانين والمعاتيه. وقد روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس لى مال وإنى ولىّ يتيم فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثّل مالا ومن غير أن تقى مالك بماله» . والحكمة فى هذا أن اليتيم يكون فى بيت الولي كولده، والخير له فى تربيته أن يخالط الولىّ وأهله فى المؤاكلة والمعاشرة، فإذا كان الولي غنيا ولا طمع له فى ماله كانت المخالطة مصلحة لليتيم، وإن كان ينفق فيها شىء من ماله فبقدر حاجته، وإن كان فقيرا فهو لا يستغنى عن إصابة بعض ما يحتاج إليه من مال اليتيم الغنى الذي فى حجره، فإن أكل من طعامه ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من صلب

[سورة النساء (4) : الآيات 7 إلى 10]

المال شيئا ولا متأثل لنفسه منه عقارا ولا مالا آخر ولا منفق ماله فى مصالحه ومرافقه كان بعمله هذا آكلا بالمعروف. (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) أي فإذا دفعتم أيها الأولياء والأوصياء إلى اليتامى أموالهم فأشهدوا عليهم بقبضها وبراءة ذممكم منها، كى لا يكون بينكم نزاع. وهذا الإشهاد واجب عند الشافعية والمالكية، إذ أن تركه يؤدى إلى التخاصم والتقاضي كما هو مشاهد، وجعله الحنفية مندوبا لا واجبا. (وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) أي وكفى الله رقيبا عليكم يحاسبكم على ما تسرّون وما تعلنون، وقد جاء هذا بعد الأمر بالإشهاد ليرشدنا إلى أن الإشهاد وإن أسقط الدعوى بالمال عند القاضي فهو لا يسقط الحق عند الله إذا كان الولي خائنا، فإن الله لا يخفى عليه ما يخفى على الشهود والحكام. وعلى الجملة فإنك ترى أن الله تعالى حاط أموال اليتامى بضروب من الصيانة والحفظ، فأمر باختبار اليتيم قبل دفع ماله إليه، ونهى عن أكل شىء منه بطرق الإسراف ومبادرة كبره، وأمر بالإشهاد عليه عند الدفع، ونبّه إلى مراقبة الله تعالى فى جميع التصرفات الخاصة به. [سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

تفسير المفردات

تفسير المفردات مفروضا: أي محتوما لا بد لهم أن يأخذوه. الخشية: الخوف فى محل الأمن، والسديد: العدل والصواب والسداد (بالكسر) ما يسد به الشيء كالثغر (موضع الخوف من العدو) والقارورة، وورد قولهم: فيها سداد من عوز بكسر السين: أي فيها الغناء والكفاية، وصلى اللحم صليا شواه، فإذا أراد إحراقه يقال أصلاه إصلاء وصلّاه تصلية، وصلى يده بالنار: أدفأها، واصطلى: استدفأ، والسعير: النار المستعرة المشتعلة، يقال سعرت النار وسعّرتها. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السابقة حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا، ومنع أكل مهور النساء أو تزويجهن بغير مهر. ذكر هنا أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء، وقد كانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء والأولاد الصغار، ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة، ثم أمر بإحسان القول إلى اليتامى، لأن اليتيم مرهف الحسّ يألم للكلمة تهينه، ولا سيما ذكر أبيه وأمه بسوء، وقلما يوجد يتيم لا يمتهن ولا يقهر بالسوء من القول، ثم طلب الإشفاق عليهم ومعاملتهم بالحسنى، فربما يترك الميت ذرية ضعافا يود أن غيره يعاملهم بمثل هذه المعاملة، وبعدئذ شدد فى الوعيد، ونفرّ من أكل أموال اليتامى ظلما وجعل أكله كأكل النار. وقد روى فى سبب نزول الآية «أن أوس بن الصامت الأنصاري توفّى وترك امرأته أم كحلة وثلاث بنات له منها فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية، فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد الفضيح (مسجد بالمدينة كان يسكنه أهل الصفّة) فشكت إليه أن زوجها أوسا قد مات وخلف ثلاث بنات وليس عندها ما تنفق عليهن منه، وقد ترك أبوهن مالا حسنا

الإيضاح

عند ابني عمه لم يعطياها منه شيئا، وهن فى حجرى لا يطعمن ولا يسقين، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلّا ولا ينكى عدوا، نكسب عليها ولا تكسب، فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث. فقال رسول الله لا تفرّقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين، فنزلت (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) إلخ فأعطى زوجه الثمن والبنات الثلثين والباقي لبنى العم» . الإيضاح (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي إذا كان لليتامى مال مما تركه لهم الوالدان والأقربون فهم فيه سواء، لا فرق بين الرجال والنساء، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا، وأتى بقوله نصيبا مفروضا، لبيان أنه حق معين مقطوع به ليس لأحد أن ينقص منه شيئا ولا أن يحابى فيه. (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) المراد بذوي القربى من لا يرث منهم كالأخ لأب مع الأخ الشقيق والعم مع الأب. أي إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوى القربى للوارثين فانفحوهم بشىء من الرزق الذي جاءكم من غير كدّ ولا نصب، فلا ينبغى أن تبخلوا به على المحتاجين من ذوى القربى واليتامى والمساكين وتتركوهم يذهبون منكسرى القلب مضطربى النفس، وقولوا لهم قولا تطيب به نفوسهم عند ما يعطون، حتى لا يثقل على أبىّ النفس منهم ما يأخذ، ويرضى الطامع فى أكثر مما أخذ بالتودد والتلطف فى القول وعدم التغليظ فيه. والسر فى إعطائهم شيئا من التركة أنه ربما يسرى الحسد إلى نفوسهم، فينبغى التودّد إليهم واستمالتهم بإعطائهم قدرا من هذا المال هبة أو هدية أو إعداد طعام لهم يوم القسمة، ليكون فى هذا صلة للرحم، وشكر للنعمة.

قال سعيد بن جبير: هذا الأمر (أمر الإعطاء) للوجوب وقد هجره الناس كما هجروا العمل بالاستئذان عند دخول البيوت. وقال الحسن والنخعي: إنّ ما أمرنا أن نرزقهم منه عند القسمة هو الأعيان المنقولة، وأما الأرضون والرقيق وما أشبه ذلك فلا يجب أن يعطوا منها شيئا بل يكتفى حينئذ بقول المعروف أو بإطعام الطعام. (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً) لا يزال الكلام مع الأوصياء والأولياء الذين يقومون على اليتامى والقول السديد منهم أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بنىّ ويا ولدي ونحو ذلك، وقوله تركوا أي قاربوا أن يتركوا، وقوله من خلفهم: أي من بعد موتهم، وقوله خافوا عليهم أي الإهمال والضياع. (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ظلما أي على سبيل الظلم وهضم الحقوق لا أكلا بالمعروف عند الحاجة إلى ذلك أو تقدير الأجرة العمل، وقوله فى بطونهم: أي ملء بطونهم، وقوله نارا: أي ما هو سبب لعذاب النار

[سورة النساء (4) : الآيات 11 إلى 12]

[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 12] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه حكم الميراث مجملا فى قوله: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، ذكر هنا تفصيل ذلك المجمل فبين أحكام المواريث وفرائضها لإبطال ما كان عليه العرب من نظام التوارث فى الجاهلية من منع الأنثى وصغار الأولاد، وتوريث بعض من حرمه الإسلام من الميراث. وقد كانت أسباب الإرث فى الجاهلية ثلاثة: (1) النسب، وهو لا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون العدو ويأخذون الغنائم وليس للضعيفين المرأة والطفل من ذلك شىء. (2) التبني- فقد كان الرجل يتبنى ولد غيره فيكون له أحكام الولد فى الميراث وغيره. (3) الحلف والعهد- فقد كان الرجل يقول لآخر دمى دمك وهدمى هدمك (أي إذا أهدر دمى أهدر دمك) وترثنى وأرثك وتطلب بي وأطلب بك، فإذا فعلا ذلك ومات أحدهما قبل الآخر كان للحى ما اشترط من مال الميت.

الإيضاح

فلما جاء الإسلام أقرهم على الأول والثالث دون الثاني فقال «وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» والمراد به التوارث بالنسب وقال: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) والمراد به التوارث بالعهد. وقال (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) والمراد به التوارث بالتبني. وزاد شيئين آخرين: (1) الهجرة، فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه إذا كان بينهما مخالطة وودّ ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه. (2) المؤاخاة- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخى بين كل اثنين من الرجال وكان ذلك سببا للتوارث ثم نسخ التوارث بهذين السببين بقوله: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» ثم استقر الأمر بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب والنكاح والولاء. وسبب نزول الآية ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث جابر قال: «جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك فى أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال يقضى الله فى ذلك فنزلت آية الميراث (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية، فأرسل رسول الله إلى عمهما فقال: أعط بنتي سعد الثلثين وأمها الثمن وما بقي فهو لك» قالوا وهذه أول تركة قسمت فى الإسلام. الإيضاح (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) الوصية: ما تعهد به إلى غيرك من العمل كما تقول أوصيت المعلم أن يراقب آداب الصبى ويؤدبه على ما يسىء فيه، وهى فى الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه له، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم.

(فِي أَوْلادِكُمْ) أي فى شأن أولادكم من بعدكم، أو فى ميراثهم ما يستحقونه مما تتركونه من أموالكم سواء كانوا ذكورا أو إناثا كبارا أو صغارا، ولا خلاف فى أن ولد الولد يقوم مقامه عند فقده أو عدم إرثه لمانع كقتل مورّثه، قال: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي للذكر منهم مثل نصيب اثنتين من إناثهم إذا كانوا ذكورا وإناثا، واختير هذا التعبير ولم يقل للأنثى نصف حظ الذكر إيماء إلى أن إرث الأنثى كأنه مقرر معروف وللذكر مثله مرتين، وإشارة إلى إبطال ما كانت عليه العرب فى الجاهلية من منع توريث النساء. والحكمة فى جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين، أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه فجعل له سهمان، وأما الأنثى فهى تنفق على نفسها فحسب، فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها. ويدخل فى عموم الأولاد: (1) الكافر لكن السنة بينت أن اختلاف الدين مانع من الإرث، قال عليه الصلاة والسلام «لا يتوارث أهل ملتين» . (2) القاتل عمدا لأحد أبويه ويخرج بالسنة والإجماع. (3) الرقيق وقد ثبت منعه بالإجماع، لأن المملوك لا يملك، بل كل ما يصل إلى يده من المال فهو ملك لسيده ومالكه، فلو أعطيناه من التركة شيئا كنا معطين ذلك للسيد يكون هو الوارث بالفعل. (4) الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم فقد استثنى بحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» . (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أي فإن كانت المولودات نساء ليس معهن ذكر زائدات على ثنتين مهما بلغ عددهن فلهن ثلثا ما ترك والدهن المتوفى أو والدتهن (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أي وإن كانت المولودة واحدة ليس معها أخ

ولا أخت فلها النصف مما ترك والباقي لسائر الورثة بحسب الاستحقاق كما يعلم من أحكام المواريث. وخلاصة ذلك- إنه إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا كان للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كان المولود أنثى واحدة كان لها النصف، وإن كن ثلاثا فصاعدا كان لهن الثلثان ولم يذكر حكم الثنتين، ومن ثم اختلفوا فيهما، فروى عن ابن عباس أن لهما النصف كالواحدة، والجمهور على أن لهما الثلثين كالعدد الكثير. وقد علم من ذلك أن البنات لا يستغرق فرضهن التركة، والولد الذكر إذا انفرد يأخذ التركة، وإذا كان معه أخ له فأكثر كانت قسمة التركة بينهما أو بينهم بالمساواة. (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) أي ولكل من أبوى الميت السدس مما ترك الولد على السواء فى هذه الفريضة إن كان لهذا الميت ولد فأكثر والباقي بعد هذا الثلث يقسمه الأولاد بحسب التفصيل المتقدم. (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما. والسر فى تساوى الوالدين فى الميراث مع وجود الأولاد، الإشارة إلى وجوب احترامهما على السواء، وفى أن حظ الوالدين من الإرث أقل من حظ الأولاد مع عظم حقهما على الولد، أنهما يكونان فى الغالب أقل حاجة إلى المال من الأولاد، إما لكبرهما وإما لتمولهما، وإما لوجود من تجب عليه نفقتهما من أولادهما الأحياء وأما الأولاد، فإما أن يكونوا صغارا لا يقدرون على الكسب، وإما أن يكونوا على كبرهم محتاجين إلى نفقات كثيرة فى الحياة كالزواج وتربية الأطفال ونحو ذلك. (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أي فإن كان للميت مع إرث أبويه له إخوة فلأمه السدس مما ترك، سواء كان الإخوة ذكورا أو إناثا من الأبوين أو أحدهما، فكل جمع منهم يحجب الأم من الثلث إلى السدس، وحكم الأخوين أو الأختين حكم الإخوة عند أكثر الصحابة، وخالف فى ذلك ابن عباس فقد أثر عنه أنه قال

لعثمان: بم صار الأخوان يردّان الأم من الثلث إلى السدس، وإنما قال الله تعالى: (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان فى لسان قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلى ومضى فى الأمصار (يريد عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أقاموا الاثنين مقام الجماعة فى اعتبار الشرع لا فى اعتبار اللغة) والخلاصة- إن الآية ذكرت حكم الأبوين مع الولد، وحكمهما منفردين ليس معهما وارث آخر، وحكمهما مع الإخوة، ولم يبق إلا حكمهما مع أحد الزوجين، وجمهور الصحابة على أن الزوج يأخذ نصيبه وهو النصف إن كان رجلا، والربع إن كان أنثى، والباقي للأبوين، ثلثه للأم وباقيه للأب. وقال ابن عباس يأخذ الزوج نصيبه، وتأخذ الأم ثلث التركة كلها، ويأخذ الأب ما بقي، وقال لا أجد فى كتاب الله ثلث الباقي. ومن هذا تعلم أن حقوق الزوجية فى الإرث مقدمة على حقوق الوالدين، إذ أنهما يتقاسمان ما يبقى بعد أخذ الزوج حصته، وسرّ هذا أن صلة الزوجية أشد وأقوى من صلة البنوة، ذاك أنهما يعيشان مجتمعين وجود كل منهما متمم لوجود الآخر حتى كأنه نصف شخصه، وهما حينئذ منفصلان عن الوالدين أشد الانفصال، فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد، ومن ثم جعل الشارع حق المرأة على الرجل فى النفقة هو الحق الأول، فإذا لم يجد الرجل إلا رغيفين سدّ رمقه بأحدهما ووجب عليه أن يعطى الثاني لامرأته لا لأحد أبويه ولا لغيرهما من أقاربه. (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) أي يوصيكم بأن لأولاد من يموت منكم كذا من التركة ولأبويه كذا منها من بعد وصية يقع الإيصاء بها من الميت، ويتحقق نسبتها إليه ومن بعد قضاء دين يتركه عليه. وقدمت الوصية على الدين فى الذكر مع أن الدين مقدم عليها وفاء كما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه علىّ كرم الله وجهه وأخرجه عنه جماعة، لأ تؤخذ كالميراث بلا عوض فتشق على الورثة.

وجاء عطف الدين على الوصية بأو دون الواو إشارة إلى أنهما متساويان فى الوجوب متقدمان على قسمة التركة مجموعين أو منفردين. ثم أتى بجملة معترضة للتنبيه إلى جهل المرء بعواقب الأمور فقال: (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي إنكم لا تدرون أىّ الفريقين أقرب لكم نفعا آباؤكم أو أبناؤكم، فلا تتبعوا فى قسمة التركات ما كان يتعارفه أهل الجاهلية من إعطائها للأقوياء الذين يحاربون الأعداء، وحرمان الأطفال والنساء لأنهم من الضعفاء، بل اتبعوا ما أمركم الله به، فهو أعلم منكم بما هو أقرب نفعا لكم مما تقوم به فى الدنيا مصالحكم وتعظم به فى الآخرة أجوركم (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) أي فرض الله ما ذكر من الأحكام فريضة لا هوادة فى وجوب العمل بها. (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إنه تعالى لعلمه بشئونكم ولحكمته العظيمة لا يشرع لكم إلا ما فيه المنفعة لكم، إذ لا تخفى عليه خافية من وجوه المصالح والمنافع- إلى أنه منزه عن الغرض والهوى اللذين من شأنهما أن يمنعا من وضع الشيء فى غير موضعه، ومن إعطاء الحق لمن يستحقه. وبعد أن بين سبحانه فرائض الأولاد والوالدين، وقدم الأهم منهما من حيث حاجته إلى المال المتروك وهم الأولاد- ذكر هنا فرائض الزوجين فقال: (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) أي ولكم نصف ما تركته الزوجات من المال إن لم يكن لهن ولد، سواء أكان منكم أم من غيركم، وسواء أكان ذكرا أم أنثى، وسواء أكان واحدا أم أكثر، وسواء أكان من بطنها مباشرة، أو صلب بنيها أو بنى بنيها، وباقى التركة لأولادها ووالديها على ما بينه الله فى الآية السالفة: ولا يشترط فى الزوجة أن يكون مدخولا بها، بل يكفى مجرد العقد. (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) والباقي من التركة للأقرب إليها من ذوى الفروض والعصبات أو ذوى الأرحام أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) أي لكم ذلك فى تركتهن فى الحالين السابقتين بعد نفاذ الوصية ووفاء الديون، إذ لا يأخذ الوارث شيئا إلا ما يفضل عنهما إذا وجدا أو وجد أحدهما. (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) بحسب التفصيل السابق فى أولادهن فإن كانت واحدة فلها هذا الربع وحدها، وإن كان له زوجان فأكثر اشتركتا أو اشتركن فيه على طريق التساوي والباقي يكون لمن يستحقه من ذوى القربى وأولى الأرحام. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) والباقي لأولادكم ووالديكم كما تقدم. (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) بالطريق التي علمتها فيما سلف، وبهذا تعلم أن فرض الرجل بحق الزواج ضعف فرض المرأة كما فى النسب، ولم يعط الله تعالى للزوجات فى الميراث إلا مثل ما أعطى للزوج الواحدة لإرشادنا إلى أن الأصل الذي ينبغى أن نسير عليه فى الزوجية أن تكون للرجل امرأة واحدة، وإنما يباح الأكثر بشروط مضيقة، وأن التعدد من الأمور النادرة التي تدعو إليها الضرورة فلم يراعها الشارع فى الأحكام، إذ الأحكام إنما توضع للأصل الذي عليه العمل والنادر لا حكم له. وبعد أن بين سبحانه حكم ميراث الأولاد والوالدين والأزواج ممن يتصل بالميت مباشرة شرع يبين من يتصل به بالواسطة وهو الكلالة. فقال: (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) الكلالة لغة: الإحاطة، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، وسمى من عدا الوالد والولد بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان وكالإكليل المحيط برأسه، أما قرابة الولادة ففيها يتفرع بعض من بعض كالشىء الذي يتزايد على نسق واحد. أي إن كان الميت رجلا أو امرأة موروثا كلالة أي ذا كلالة ليس له ولد ولا والد وله أخ أو أخت من أم، لأن الأخوين من العصبة سيأتى حكمهما فى آخر السورة (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) إلخ.

(فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) أي إن الأخ لأم يأخذ فى الكلالة السدس، وكذلك الأخت، لا فارق بين الذكر والأنثى، لأن كلا منهما حل محل أمه فأخذ نصيبها، فإذا تعددوا أخذوا الثلث وكانوا أيضا فيه سواء لا تفاضل بين ذكورهم وإناثهم. (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) أي من بعد وصية يوصى بها أو دين يقرّبه وهو غير مضارّ للورثة قال النخعي: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص، وقبض أبو بكر وقد وصى، فإن أوصى الإنسان فحسن، وإن لم يوص فحسن أيضا، ومن الحسن أن ينظر الإنسان فى قدر ما يخلف ومن يخلف ثم يجعل وصيته بحسب ذلك، فإن كان ماله قليلا وفى الورثة كثرة لم يوص، وإن كان فى المال كثرة أوصى بحسب ماله وبحسب حاجتهم بعده كثرة وقلة، وقد روى عن على أنه قال: لأن أوصى بالخمس أحب إلىّ من أن أوصى بالربع، ولأن أوصى بالربع أحب إلىّ من أن أوصى بالثلث. والضرار فى الوصية والدين يقع على وجوه: 1) أن يوصى بأكثر من الثلث، وهو لا يصح ولا ينفّذ، وعن ابن عباس أن الضرار فيها من الكبائر. 2) أن يوصى بالثلث فما دونه لا لغرض من القربة والتصدق لوجه الله بل لغرض تنقيص حقوق الورثة. 3) أن يقر بدين لأجنبى يستغرق المال كله أو بعضه، ولا يريد بذلك إلا مضارة الورثة، وكثيرا ما يفعله المبغضون للوارثين ولا سيما إذا كانوا كلالة، ومن ثم جاء ذكر هذا القيد (غير مضارّ) فى وصية ميراث الكلالة، لأن القصد إلى مضارة الوالدين أو الأولاد وكذا الأزواج نادر. 4) أن يقرّ بأن الدين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه. (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) أي يوصيكم بذلك وصية منه عز وجل، فهى جديرة أن يعتنى بها ويذعن للعمل بموجبها.

[سورة النساء (4) : الآيات 13 إلى 14]

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) أي والله عليم بما ينفعكم وبنيات الموصين منكم، حليم لا يعجل بعقوبتكم بمخالفة أحكامه ولا بالجزاء على مخالفتها عسى أن تتوبوا، كما لا يبيح لكم أن تعجلوا بعقوبة من تبغضونه فتضاروه فى الوصية، كما لا يرضى لكم بحرمان النساء والأطفال من الإرث. وفى هذا إشارة إلى أنه تعالى قد فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة لنا، فمن الواجب أن نذعن لوصاياه وفرائضه ونعمل بما ينزل علينا من هدايته، كما لا ينبغى أن يغرّ الطامع فى الاعتداء وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل، فيظن أنهم بمنجاة من العذاب فيتجرأ على مثل ما تجرءوا عليه من الاعتداء، فإنه إمهال يقتضيه الحلم لا إهمال من العجز وعدم العلم [سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) الإيضاح (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) حدود الشيء: أطرافه التي يمتاز بها من غيره، ومنه حدود الدار، سميت بها الشرائع التي أمر الله باتباعها ونهى عن تركها، فمدار الطاعة على البقاء فى دائرة هذه الحدود، ومدار العصيان على اعتدائها، والمشار إليه كل ما ذكر من أول السورة إلى هنا من بيان أموال اليتامى وأحكام الأزواج وأحوال المواريث. (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) طاعة الله: هى ما شرعه من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم،

وطاعة الرسول: هى اتباع ما جاء به من الدين عن ربه، فطاعته هى بعينها طاعة الله كما قال فى هذه السورة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) فهو إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله بما فيه منافع لنا فى الدنيا والآخرة، وإنما ذكرها مع طاعة الله للاشارة إلى أن الإنسان لا يستغنى بعقله وعلمه عن الوحى وأنه لا بد له من هداية الدين إذ لم يكن العقل وحده فى عصر من العصور كافيا لهداية أمة ولا مرقّيا لها بدون معونة الدين، فاتباع الرسل والعمل بهديهم هو أساس كل مدنية، والارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي، فالآداب والفضائل التي هى أسس المدنيات تستند كلها إلى الدين، ولا يكفى فيها بناؤها على العلم والعقل، والجنات التي تجرى من تحتها الأنهار تقدم تفسيرها، ونحن نؤمن ونعتقد أنها أرفع مما نرى فى هذه الدنيا، وليس لنا أن نبحث عن كيفيتها لأنها من عالم الغيب، والفوز العظيم: الظفر والفلاح الذي لا يذكر بجانبه الفوز بحظوظ الدنيا القصيرة المنغصة بالأكدار (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) وقال فى ذكر أهل الجنة خالدين، وفى ذكر أهل النار خالدا، إشارة إلى تمتع أهل الجنة بالاجتماع وأنس بعضهم ببعض، والمترفون يسرون بمثل هذا التمتع، وأما الذي فى النار فإن له من العذاب ما يمنعه من الأنس فكأنه وحيد لا يجد لذة فى الاجتماع بغيره ولا أنسابه. يرشد إلى ذلك قوله تعالى «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» وتعدى الحدود الموجب للخلود فى النار: هو الإصرار على الذنب وعدم التوبة عنه، فللمذنب حالان: 1) غلبة الباعث النفسي من الشهوة أو الغضب على الإنسان حتى يغيب عن ذهنه الأمر الإلهى، فهو يقع فى الذنب وقلبه غائب عن الوعيد لا يتذكره أو يتذكره ضعيفا كأنه نور ضئيل يلوح فى ظلمة ذلك الباعث المتغلب ثم لا يلبث أن يزول أو يختفى، حتى إذا سكنت الشهوة أو سكت الغضب وتذكر النهى والوعيد ندم وتاب ولام نفسه أشد اللوم، ومثل هذا جدير بالنجاة إذ هو من المسارعين إلى الجنة كما قال تعالى فى أوصافهم «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .

[سورة النساء (4) : الآيات 15 إلى 16]

2) أن يقدم المرء على الذنب جريئا عليه متعمدا فعله عالما بتحريمه مؤثرا له على الطاعة، لا يصرفه عنه تذكر النهى والوعيد عليه، ومثل هذا قد أحاطت به خطيئته فآثر شهوته على طاعة الله ورسوله، فدخل فى عموم قوله تعالى «بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . إذ من يصرّ على المعصية عامدا عالما بالنهى والوعيد لا يكون مؤمنا بصدق الرسول ولا مذعنا لشرعه الذي تنال الرحمة والرضا بالتزامه، والعذاب والنكال بتعدي حدوده، فالإصرار على العصيان وعدم استشعار الخوف والندم لا يجتمعان فى قلب المؤمن الإيمان الصحيح المصدّق بوعد الله ووعيده. (وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) المهين المذلّ له وهو عذاب الروح، فللعصاة عذابان: عذاب جسمانى للبدن العاصي باعتباره حيوانا يتألم، وعذاب روحانى باعتباره إنسانا يشعر بالكرامة والشرف ويتألم بالإهانة والخزي. [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) المعنى الجملي بعد أن أوصى سبحانه بالإحسان إلى النساء ومعاشرتهن بالمعروف والمحافظة على أموالهن وعدم أخذ شىء منها إلا إذا طابت نفسهن بذلك- ذكر هنا التشديد عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وهو فى الحقيقة إحسان إليهن، إذ الإحسان فى الدنيا تارة يكون بالثواب، وأخرى بالزجر والعقاب، لكف العاصي عن العصيان الذي يوقعه فى الدمار

الإيضاح

والبوار، ومبنى الشرائع على العدل والإنصاف والابتعاد عن طرفى الإفراط والتفريط. ومن أقبح العصيان الزنا، ولا سيما من النساء، لأن الفتنة بهن أكثر، والضرر منهن أخطر، لما يفضى إليه من توريث أولاد الزنا وانتسابهم إلى غير آبائهم. الإيضاح (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها إذا فعلها قال تعالى «لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» وفى التعبير عن الإقدام على الفواحش بهذه العبارات معنى دقيق وهو أن الفاعل لها ذهب إليها بنفسه واختارها بطبعه، والفاحشة الفعلة القبيحة والمراد بها هنا الزنا لزيادتها فى القبح على كثير من القبائح، وقوله من نسائكم أي من المؤمنات. (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي اطلبوا شهادة أربعة رجال أحرار منكم. قال الزهري «مضت السنة من رسول الله والخليفتين بعده ألا تقبل شهادة النساء فى الحدود» والحكمة فى هذا إبعاد النساء عن مواقع الفواحش والجرائم والعقاب والتعذيب رغبة فى أن يكنّ دائما غافلات عن القبائح لا يفكرن فيها ولا يخضن مع أربابها. والخطاب للمسلمين جميعا لأنهم متكافلون فى أمورهم العامة كما تقدم مرارا، فهم الذين يختارون لأنفسهم الحكام الذين ينفذون الأحكام ويقيمون الحدود. (فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) التوفى الاستيفاء وهو القبض، تقول توفيت مالى على فلان واستوفيته إذا قبضته، والسبيل الطريق للخروج من الحبس بما يشرعه الله من العقوبة لهن. والمعنى فان شهد الأربعة بفعلها فاحبسوهن فى بيوتهم وامنعوهن الخروج منها عقوبة لهن حتى لا يعدن إلى ارتكابها مرة أخرى إلى أن يمتن ويقبض أرواحهنّ الموت أو يجعل الله لهن طريقا بما يشرعه من حدّ الزنا.

وفى الآية إشارة إلى أن منع النساء عن الخروج عند الحاجة إليه فى غير هذه الحالة لمجرد الغيرة أو لمجرد الهوى والتحكم من الرحال لا يجوز، وكذلك فيها إيماء إلى أن هذه العقوبة مقرونة بما يدل على التوقيت. وقد روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خذوا عنى خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» ومن هذا تعلم أن السبيل كان مجملا فبينه الحديث وخصص عموم آية الجلد الآتية فى سورة النور (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) . ثم بين عقاب كل من الزانيين فقال: (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) أي والزاني والزانية اللذان يرتكبان جريمة الزنا آذوهما بالتأنيب والتوبيخ بعد ثبوت ذلك بشهادة أربعة من الرجال. وهذا العقاب كان أول الإسلام من قبيل التعزير وأمره مفوض إلى الأمة فى كيفيته ومقداره فلما نزلت آية النور التي تقدم ذكرها وجاء الحديث الشريف السابق بينا مقدار هذا الإيذاء وحدداه، وبهما استبان أن عقاب الثيب والرجل المتزوج الرجم بالحجارة حتى يموتا وعقاب البكر والرجل الذي لم يتزوج جلد مائة ونفيه سنة. ثم بين أن هذا العقاب إنما يكون إذا لم يتوبا فإن تابا وأصلحا رفع عنهما ذلك فقال: (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي فان رجعا عن فعل الفاحشة وندما على ما فات وأصلحا عملهما وغيّرا أحوالهما كما هو شأن المؤمن يطهر نفسه بالإقبال على الطاعة ويزكيها من أدران المعاصي التي فرطت منه ويقوى داعية الخير حتى تغلب داعية الشر فكفوا عن أذاهما بالقول والفعل. ثم علل الأمر بالإعراض عنهما بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) التواب الذي يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه، والرحيم واسع الرحمة، والجملة جاءت تعليلا للأمر بالإعراض، والخطاب هنا لأولى الأمر والحكام.

[سورة النساء (4) : الآيات 17 إلى 18]

[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) المعنى الجملي لما ذكر سبحانه أن من تاب وأصلح تركت عقوبته وأزيل الأذى عنه، وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده- ذكر هنا وقت التوبة وشرط قبولها ورغبته فى تعجيلها حتى لا يأتى الموت وهو مصرّ على الذنب فلا تنفعه التوبة، وأرشد أولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة فى معاقبتهم وتأديبهم، فأمرهنا بالإعراض عن أذى من تاب وأصلح العمل بعد أن فرض عقوبة مرتكبى الفواحش فى الآية السالفة فهذه شرح لذلك الإصلاح فى العمل. الإيضاح (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) السوء: هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلا سليم الفطرة، وهذا شامل للصغائر والكبائر، والجهالة: الجهل وتغلب السفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب حتى يذهب عنها الحلم وتنسى الحق، وكل من عصى الله سمى جاهلا وسمى فعله جهالة كما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقال تعالى لنوح: (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) . وسر هذا أن العاصي لربه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية، إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلا بحقيقة الوعيد، ومنتظر الاحتمال العفو والمغفرة، أو شفاعة الشفعاء التي تصد عنه العقاب.

والزمن القريب: هو الوقت الذي تسكن به ثورة الشهوة أو تنكسر به حدة الغضب ويثوب فاعل السيئة إلى حلمه ويرجع إليه دينه وعقله، إذ من كان قوىّ الإيمان لا تقع منه المعصية إلا عن بادرة غضب أو شهوة هفوة بعد هفوة، ثم لا يلبث أن يبادر إلى التوبة ومن ثم ذكر الله السوء بلفظ الإفراد هنا، وقال فيمن لا تقبل توبتهم (يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إشعارا بأن التوبة إنما تقبل ممن تقع منهم الذنوب آحادا ويلمّون بها إلماما، ولكنهم لا يصرّون عليها بل يبادرون إلى التوبة منها، فلا تتمكن من أنفسهم ظلمة المعصية ولا تحيط بهم الخطيئة. وما رواه أحمد عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» فالمراد منه أنه لا ينبغى لأحد أن يقنط من رحمة الله وييأس من قبول التوبة مادام حيا، وليس معناه أنه لا خوف على العبد من التمادي فى الذنوب إذا هو تاب قبل الموت بساعة، فان هذا مخالف لهدى الدين فى مثل قوله: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ولمثل قوله: «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ» . وقد قسموا التوابين طبقات: (1) من هو سليم الفطرة عظيم الاستعداد للخير، فهو إذا وقع فى خطيئة مرة كان له منها أكبر عبرة، فيندم بعدها ويحمل نفسه على الفضيلة ويصرفها عن كل رذيلة. (2) من تكون داعية الشهوة أقوى فى نفسه وأرسخ فى قلبه، فإذا أطاع نفسه وارتكب معصية قامت الخواطر الإلهية تحاربه وتوبخه حتى تنتصر عليه وتقهره قهرا تاما فلا يعود بعدها إلى اجتراح إثم ولا وقوع فى ذنب. (3) من تقوى نفسه بالمجاهدة على اجتناب كبار الإثم والفواحش، لا على صغار الذنوب والآثام وهناك تكون الحرب فى نفوسهم سجالا بين ما يلمّون به من الصغائر وبين الخواطر الإلهية التي هى جند الإيمان.

(4) من يقع فى الذنب فيتوب ويستغفر ثم يعرض له مرة أخرى فيعود إليه ثم يلوم نفسه ويندم ويستغفر وهلم جرا، وهؤلاء أدنى طبقات التوّابين، والنفس الباقية أرخص عندهم من النفس الفانية، وهم مع ذلك محل للرجاء، لأن لهم زاجرا من أنفسهم يذكرهم دائما بالرجوع إلى الله عقب كل خطيئة، وهكذا تكون الحرب سجالا بينهم وبين أنفسهم فإما أن تنتصر دواعى الخير فتصح توبتهم، وإما أن تنكسر أمام جند الشهوة فتحيط بهم خطيئتهم ويكونوا من المصرّين الهالكين. وخلاصة المعنى- إن التوبة التي أوجب الله على نفسه قبولها بوعده الذي هو أثر كرمه وفضله، ليست إلا لمن يجترح السيئة بجهالة تلابس نفسه من سورة غضب أو تغلب شهوة، ثم لا يلبث أن يندم على ما فرط منه وينيب إلى ربه ويتوب ويقلع عن ذنبه. (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي فأولئك الذين فعلوا الذنوب بجهالة وتابوا بعد قريب من الزمن، يتوب الله عليهم، لأن الذنوب لم ترسخ فى نفوسهم، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون. (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) وبهذا العلم بشئون عباده ومعرفة مصالحهم جعل التوبة مقبولة حتما، لأنه يعلم ضعف عباده وأنهم لا يسلمون من عمل السوء، فلو لم يشرع لهم التوبة لهلكوا باسترسالهم فى المعاصي والسيئات وتعمد اتباع الهوى وخطوات الشيطان لعلمهم أنهم هالكون لا مخالة فلا فائدة من جهاد النفس وتزكيتها. أما وقد شرع الله بحكمته قبول التوبة فقد فتح لهم باب الفضيلة وهداهم إلى محو السيئة بالحسنة، لكنه لا يقبل إلا التوبة النصوح دون حركات اللسان بالاستغفار والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات أو الأذكار مع الإصرار على الذنوب والأوزار، ومن ثم جمع الله فى الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل. وقد فعلت الأمم السالفة مثل هذا فاستثقلت التكاليف، وفسقت عن أمر ربها

واتبعت هواها وجعلت حظها من الدين مجموع حركات لسانية وبدنية لا تهذب خلقا ولا تصلح عملا ولا تمنع النفس من التمتع بشهواتها، وقد اتبع كثير من المسلمين سنن من قبلهم وحذوا حذوهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. وبعد أن بين حال من تقبل توبتهم، ذكر حال أضدادهم الذين لا تقبل منهم التوبة فقال: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي إن سنة الله قد مضت بأن التوبة لا تكون للذين يعملون السيئات منهمكين فيها إلى حضور الموت، وصدور ذلك القول منهم، لأن هؤلاء قد أحاطت بهم خطيئاتهم ولم تدع للأعمال الصالحة مكانا فى نفوسهم، فهم أصروا عليها إلى أنّ حضرهم الموت ويئسوا من الحياة التي يتمتعون بها، وحينئذ يقول أحدهم: إنى تبت الآن وما هو من التائبين بل من المدّعين الكاذبين. والخلاصة- إن التوبة لمثل هؤلاء ليست مقبولة حتما، فأمرهم مفوض إلى الله تعالى وهو العليم بحالهم، وحديث قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تبلغ روحه الحلقوم- المراد منه حصول التوبة النصوح، بأن يدرك المذنب قبح ما كان قد عمله من السيئات ويندم على مزاولتها ويزول حبه لها بحيث لو عاش لما عاد إليها، وقلما يحصل مثل هذا الإدراك للمصرّ على السيئات المستأنس بها فى عامة أيام الحياة، وإنما الذي يحصل له إدراك العجز عنها واليأس منها وكراهة ما يتوقعه من قرب العقاب عليها عند الموت. (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) أي لا تقبل توبة لهؤلاء ولا لهؤلاء، وقد سوّى الله بين الذين سوّفوا توبتهم إلى أن حضر الموت وبين الذين ماتوا على الكفر فى أن توبتهم لا تقبل، فكما أن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، كذلك المسوّف إلى حضرة الموت، فكل منهما جاوز الحد المضروب للتوبة، إذ هى لا تكون إلا عند التكليف والاختيار.

[سورة النساء (4) : الآيات 19 إلى 21]

(أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أعتدنا هيأنا وأعددنا، والأليم المؤلم الموجع: أي هذان الفريقان اللذان استعبدهما سلطان الشهوة وخرجا على سنة الفطرة وهداية الشريعة أعددنا لهم العذاب الموجع فى الدار الآخرة جزاء وفاقا لما اكتسبت أيديهم من السيئات مع إصرارهم عليها حتى الممات إذ أنهم أفسدوا قلوبهم، ودسّوا نفوسهم، فصارت تهبط بهم خطاياهم إلى الدرك الأسفل من الهوان، وتعجز عن الصعود إلى معاهد الكرامة والرضوان. [سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) تفسير المفردات العضل: التضييق والشدة، ومنه الداء العضال الشديد الذي لا نجاة منه، والفاحشة: الفعلة الشنيعة الشديدة القبح، والمبينة: الظاهرة الفاضحة، والمعروف: ما تألفه الطباع ولا يستنكره الشرع ولا العرف ولا المروءة، والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ويسكته متحيرا، والإثم: الحرام، أفضى: أي وصل إليها الوصول الخاص الذي يكون بين الزوجين، فيلابس كل منهما الآخر حتى كأنهما شىء واحد، والميثاق الغليظ: العهد المؤكد الذي يربطكم بهن أقوى رباط وأحكمه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه فيما تقدم عن عادات الجاهلية فى أمر اليتامى وأموالهم أعقبه بالنهى عن الاستنان بسنتهم فى النساء وأموالهن، وقد كانوا يحتقرون النساء ويعدونهن من قبيل المتاع حتى كان الأقربون يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله، فحرم الله عليهم هذا العمل، روى البخاري وأبو داود أنه كان إذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية فى ذلك. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: جاءت كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تحت أبى قيس بن الأسلت فتوّفى عنها فجنح عليها (ضَيْقٍ) ابنه وقالت له: لا أنا ورثت زوجى ولا أنا تركت فأنكح فنزلت الآية. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أي لا يحل لكم أيها الذين آمنوا بالله ورسوله أن تسيروا على سنة الجاهلية فى هضم حقوق النساء فتجعلوهن ميراثا لكم كالأموال والعبيد وتتصرفوا فيهن كما تشاءون، وهنّ كارهات لذلك، فإن شاء أحدكم تزوج امرأة من يموت من أقاربه، وإن شاء زوجها غيره، وإن شاء أمسكها ومنعها الزواج. (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) أي لا يحل لكم إرث النساء ولا التضييق عليهن ومضارتهن ليكرهنكم ويضطرون إلى الافتداء منكم بالمال من ميراث وصداق ونحو ذلك، فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حسنها ويزوجون من لا تعجبهم أو يمسكونها حتى تفتدى بما كانت ورثت من قريب الوارث. أو ما كانت أخذت من صداق ونحوه أو كل هذا، وربما كلفوها الزيادة إن علموا أنها تستطيعها.

أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيأتى بالشهود فيكتب ذلك عليها، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها، وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال. (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا تعضلوهن فى أي حال إلا فى الحال التي يأتين فيها بالفاحشة المبينة دون الظنة والشبهة، فإذا نشزن عن طاعتكم وساءت عشرتهن ولم ينفع معهنّ التأديب، أو تبين ارتكابهن للزنا أو السرقة أو نحو ذلك من الأمور الفاحشة الممقوتة عند الناس، فلكم حينئذ أن تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره من المال، لأن الفحش قد أتى من جانبها، وإنما اشترط فى الفاحشة أن تكون مبينة: أي ظاهرة فاضحة لصاحبها، لأنه ربما ظلم الرجل المرأة بإصابتها الهفوة الصغيرة أو بمجرد سوء الظن والتّهمة فمن الرجال الغيور السيّء الظن الذي يؤاخذ بأتفه الأمور ويعده عظيما، وإنما أبيح للرجل أن يضيق على امرأته إذا أتت بهذه الفاحشة المبينة، لأنها ربما كرهته ومالت إلى غيره، فتؤذيه بفاحش القول أو الفعل ليملها ويسأم معاشرتها فيطلقها فتأخذ ما كان أعطاها وتتزوج غيره وتتمتع بمال الأول، وربما فعلت مع الثاني ما فعلت مع الأول، فإذا علم النساء أن العضل والتضييق بيد الرجال ومما أبيح لهم إذا هنّ أهنّهم، فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها والاحتيال بها على أرذل أنواع الكسب. (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وعليكم أن تحسنوا معاشرة نسائكم فتخالطوهنّ بما تألفه طباعهن ولا يستنكره الشرع ولا العرف، ولا تضيقوا عليهن فى النفقة ولا تؤذوهن بقول ولا فعل ولا تقابلوهن بعبوس الوجه ولا تقطيب الجبين. وفى كلمة (المعاشرة) معنى المشاركة والمساواة أي عاشروهن بالمعروف وليعاشرنكم كذلك، فيجب أن يكون كل من الزوجين مدعاة لسرور الآخر وسبب هناءته وسعادته

فى معيشته ومنزله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» . (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) أي فإن كرهتموهن لعيب فى أخلاقهن أو دمامة فى خلقهن مما ليس لهن فيه كسب، أو لتقصير فى العمل الواجب عليهن كخدمة البيت والقيام بشئونه مما لا يخلو عن مثله النساء فى أعمالهن، أو لميل منكم إلى غيرهن، فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن، فربما كرهت النفس ما هو أصلح فى الدين وأوفى إلى الخير، ومن ذلك: 1) الأولاد النجباء فربّ امرأة يملّها زوجها ويود فراقها ثم يجيئه منها من تقرّبه عينه من الأولاد النجباء فيعلو قدرها عنده بذلك. 2) أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته، فتكون من أعظم أسباب سعادته وسروره فى انتظام معيشته وحسن خدمته، ولا سيما إذا أصيب بالأمراض أو بالفقر والعوز فتكون خير سلوى وعون فى هذه الأحوال، فيجب على الرجل أن يتذكر مثل ذلك، كما يذكر أنه قلما يخلو من عيب تصبر عليه امرأته فى الحال والاستقبال. وقد جاء قوله «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» فى سياق حديث النساء دستورا إذا نحن اتبعناه كان له الأثر الصالح فى جميع أعمالنا وهدانا إلى الرشد فى جميع شئوننا، فكثير مما يكرهه الإنسان يكون له فيه الخير، ومتى جاء ذلك الخير ظهرت فائدة ذلك الشيء المكروه، والتجارب أصدق شاهد على ذلك فالقتال لأجل حماية الحق والدفاع عنه يكرهه الطبع لما فيه من المشقة، لكن فيه إظهار الحق ونصره ورفعة أهله وخذلان الباطل وحزبه، إلى أن الصبر على احتمال المكروه يمرن النفس على احتمال الأذى ويعوّدها تحمل المشاق فى جسيم الأمور. والخلاصة- إن الإسلام وصىّ أهله بحسن معاشرة النساء والصبر عليهن إذا كرههن الأزواج، رجاء أن يكون فيهن خير، ولا يبيح عضلهن وافتداءهن أنفسهن بالمال

إلا إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببا فى مهانة الرجل واحتقاره، أو إذا خافا ألا يقيما حدود الله، وفيما عدا ذلك يجب عليه إذا أراد فراقها أن يعطيها جميع حقوقها وهذا ما أشار إليه بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) أي وإذا رغبتم أيها الأزواج فى استبدال زوج جديدة مكان زوج سابقة كرهتموها لعدم طاقتكم الصبر على معاشرتها وهى لم تأت بفاحشة مبينة، وقد كنتم أتيتموها المال الكثير مقبوضا أو ملتزما دفعه إليها فصار دينا فى ذمتكم فلا تأخذوا منه شيئا، بل عليكم أن تدفعوه لها، لأنكم إنما استبدلتم غيرها بها لأغراضكم ومصالحكم بدون ذنب ولا جريرة تبيح أخذ شىء منها، فبأى حق تستحلون ذلك وهى لم تطلب فراقكم ولم تسىء إليكم لتحملكم على طلاقها؟ وإرادة الاستبدال ليست شرطا فى عدم حلّ أخذ شىء من مالها إذا هو كره عشرتها وأراد الطلاق، لكنه ذكر لأنه هو الغالب فى مثل هذا الحال، ألا ترى أنه لو طلقها وهو لا يريد تزوج غيرها، لأنه اختار الوحدة وعدم التقيد بالنساء وحاجتهم الكثيرة فإنه لا يحل له أخذ شىء من مالها. ثم أنكر عليهم هذا الفعل ووبخهم عليه أشد التوبيخ فقال: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً؟) أي أتأخذونه باهتين آثمين، وقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشترى نفسها منه بالمهر الذي دفعه إليها. وزاده إنكارا آخر مبالغة فى التنفير من ذلك فقال: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أي إنّ حال هؤلاء الذين يستحلون أخذ مهور النساء إذا أرادوا مفارقتهن بالطلاق لا لذنب جنينه ولا لإثم اجترحنه من الإتيان بفاحشة مبينة أو عدم إقامة حدود الله، وإنما هو الرأى والهوى وكراهة معاشرتهن- عجيب أيّما عجب، فكيف يستسيغون أخذ ذلك منهنّ بعد أن تأكدت الرابطة بين الزوجين بأقوى رباط حيوىّ بين البشر، ولابس كل منهما الآخر

حتى صار أحدهما من الآخر بمنزلة الجزء المتمم لوجوده، فبعد أن أفضى كل منهما إلى الآخر إفضاء ولابسه ملابسة يتكون منها الولد، يقطع تلك الصلة العظيمة ويطمع فى مالها وهى المظلومة الضعيفة، وهو القادر على اكتساب المال بسائر الوسائل التي هدى الله إليها البشر. (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قال قتادة: هذا الميثاق هو ما أخذ الله للنساء على الرجال بقوله (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وقال الأستاذ الإمام: إن هذا الميثاق لا بد أن يكون مناسبا للإفضاء فى أن كلا منهما شأن من شئون الفطرة السليمة وهو الذي أشارت إليه الآية الكريمة «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» فهذه آية من آيات الفطرة الإلهية هى أقوى ما تعتمد عليها المرأة فى ترك أبويها وإخوتها وسائر أهلها والاتصال برجل غريب عنها تساهمه السراء والضراء وتسكن إليه ويسكن إليها ويكون بينهما من المودة أقوى مما يكون بين ذوى القربى، ثقة منها بأن صلتها به أقوى من كل صلة وعيشتها معه أهنأ من كل عيشة. هذه الثقة وذلك الشعور الفطري الذي أودع فى المرأة وجعلها تحسّ بصلة لم تعهد من قبل لا تجد مثلها لدى أحد من الأهل، وبها تعتقد أنها بالزواج مقبلة على سعادة ليس وراءها سعادة فى الحياة، هذا هو المركوز فى أعماق النفوس، وهذا هو الميثاق الغليظ، فما قيمة من لا يفى بهذا الميثاق، وما هى مكانته من الإنسانية؟ اه بتصرف. وقد استدلوا بذكر القنطار على جواز التغالى فى المهور. وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى على المنبر أن يزاد فى الصداق على أربعمائه درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت الله يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال: اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: إنى كنت نهيتكم أن تزيدوا فى صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطى من ماله فله ما أحبّ.

[سورة النساء (4) : الآيات 22 إلى 23]

هذا، وإن الشريعة لم تحدد مقدر الصداق بل تركت ذلك للناس لتفاوتهم فى الغنى والفقر فكلّ يعطى بحسب حاله، ولكن جاء فى السنة الإرشاد إلى اليسر فى ذلك وعدم التغالى فيه، فمن ذلك ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها» . وإن التغالى فى المهور الآن قد صار من أسباب قلة الزواج، وقلة الزواج تفضى إلى كثرة الزنا والفساد، والغبن أخيرا على النساء أكثر، وإنك لترى هذه العادة متمكنة لدى بعض الناس، حتى إن ولى المرأة ليمتنع عن تزويج بنته للكفء الذي لا يرجى من هو خير منه إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقا بكرامته، ويزوجها لمن هو دونه دينا وخلقا ومن لا يرجو لها سعادة عنده إذا هو أعطاه الكثير الذي يراه محققا لأغراضه وهكذا تتحكم التقاليد والعادات حتى تفسد على الناس سعادتهم وتقوّض نظم بيوتهم وهم لها منقادون بلا تفكير فى العواقب. [سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

تفسير المفردات

تفسير المفردات سلف: أي مضى، فاحشة: أي شديد القبح، مقتا: أي ممقوتا مبغوضا عند دوى الطباع السليمة، ومن ثم كانوا يسمونه نكاح المقت، ويسمى الولد منه مقيتا: أي مبغوضا محتقرا، وساء سبيلا: أي بئس طريقا ذلك الطريق الذي اعتادوا سلوكه فى الجاهلية وبئس من يسلكه، لم يزده السير فيه إلا قبحا، والجناح الإثم والتضييق. المعنى الجملي بعد أن بيّن فى أوائل السورة حكم نكاح اليتامى وعدد من يحل من النساء والشرط فى ذلك، وبين حكم استبدال زوج مكان زوج وما يجب من المعروف فى معاشرتهن- وصل هذا ببيان ما يحرم نكاحه منهن. الإيضاح (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) ذكر الله هذا النكاح أوّلا ولم يذكره مع سائر المحرمات فى الآية التالية لأنه كان فاشيا فى الجاهلية، وقد ذمه الله أقبح ذمّ فسماه فاحشة وجعله مبغوضا أشد البغض. أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان الرجل إذا توفّى عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمّه أو ينكحها من شاء، فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورّثها من المال شيئا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت (وَلا تَنْكِحُوا) الآية، ونزلت أيضا (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) إلخ. والمراد بالنكاح العقد كما قال ابن عباس، فقد روى ابن جرير والبيهقي عنه أنه قال: كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهى حرام، والمراد من الآباء ما يشمل الأجداد إجماعا

(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي لكن ما سلف من ذلك لا مؤاخذة عليه. والخلاصة- إنكم تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفوّ عنه. (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا) أي إن نكاح أزواج الآباء تمجّه الأذواق السليمة، وتؤيد ذلك الشريعة التي هدى الله الناس بها، فهو قبيح محتقر والسالك فى طريقه مزدرى عند ذوى العقول الراجحة. قال الإمام الرازي- القبح ثلاثة أصناف: عقلىّ وشرعى وعادى، وقد وصف الله النكاح بكل ذلك، فقوله سبحانه (فاحِشَةً) إشارة إلى الأول، وقوله (مَقْتاً) إشارة إلى الثاني، وقوله (وَساءَ سَبِيلًا) إشارة إلى الثالث. بعد هذا بين الله أنواع المحرمات لأسباب وعلل تنافى ما فى النكاح من الصلة بين بعض البشر وبعض، وهى عدة أقسام: القسم الأول منها ما يحرم من جهة النسب، وهو أنواع: 1) نكاح الأصول وإليه الإشارة بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) والمراد بالأم ما يشمل الجدات: أي إن الله قد حرم عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم والمراد أنه حكم الآن بهذا التحريم والمنع. 2) نكاح الفروع وذلك قوله: (وَبَناتُكُمْ) والمراد بهن ما يشمل بنات أصلابنا أو بنات أولادنا ممن كنا سببا فى ولادتهن وأصولا لهن. 3) نكاح الحواشي القريبة، وذلك ما عناه سبحانه بقوله: (وَأَخَواتُكُمْ) سواء أكن شقيقات لكم، أم كن لأم أو لأب. (4 و 5) نكاح الحواشي البعيدة من جهة الأب والأم وإليهما الإشارة بقوله:

(وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) والمراد بهما الإناث من جهة العمومة ومن جهة الخئولة فيشمل أولاد الأجداد وإن علوا، وأولاد الجدات وإن علون. 6) نكاح الحواشي البعيدة من جهة الإخوة، وذلك قوله: (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) من جهة أحد الأبوين أو كليهما. القسم الثاني ما حرم من جهة الرضاعة، وإليه الإشارة بقوله: (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة، أمّا للرضيع، وبنتها أختا له فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاع كجهة النسب، وقد وضحت السنة ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة «إنها لا تحل لى، إنها ابنة أخى من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم النسب» رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعلى ذلك جرى المسلمون جيلا بعد جيل فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله وفروعه ولو من غير المرضعة لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه الرضيع، وقد روى البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما بنتا والأخرى غلاما، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ (قال لا، اللقاح واحد) . وقد غلب على الناس التساهل فى أمر الرضاعة فيرضعون الولد من امرأة أو من عدة نسوة ولا يهتمون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم فى ذلك من الأحكام كحرمة النكاح وحقوق القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته أو عمته أو خالته من الرضاعة وهو لا يدرى. وظاهر الآية أن قليل الرضاعة ككثيرها ويروى ذلك عن على وابن عباس والحسن والزهري وقتادة، وبه أخذ أبو حنيفة ومالك. وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«لا تحرّم المصّة والمصّتان» وقد روى العمل به عن الإمام أحمد، وذهب جماعة آخرون إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات ويروى هذا عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وهو مذهب الشافعي وأحمد فى ظاهر مذهبه. ولا يحرم الرضاع إلا فى سنه ومدته المحدودة بقوله تعالى «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» وهو مذهب عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه أخذ الشافعي وأحمد وصاحبا أبى حنيفة: أبو يوسف ومحمد، وقد روى الدار قطنى عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم «لا رضاع إلا ما كان فى الحولين» وروى عن ابن عباس فى رواية أخرى والزهري والحسن وقتادة أن الرضاع المحرّم ما كان قبل الفطم، فإن فطم الرضيع ولو قبل السنتين امتنع تأثير رضاعه فى التحريم، وإن استمر رضاعه إلى ما بعد السنتين ولم يفطم كان رضاعه محرما. القسم الثالث محرمات المصاهرة التي تعرض بسبب الزواج وتحته الأنواع الآتية: 1) (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ويدخل فى الأمهات الجدات، ولا يشترط فى تحريم أم المرأة دخوله بالبنت بل يكفى مجرد العقد، وبهذا قال جمهور الصحابة ومن بعدهم وعليه الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة. 2) (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) الربائب جمع ربيبة، وربيب الرجل ولد امرأته من غيره، سمى ربيبا لأن الرجل يربّه ويسوسه ويؤدبه كما يؤدب ولده، وقوله: اللاتي فى حجوركم وصف لبيان الحال الغالب فى الربيبة وهى أن تكون فى حجر زوج أمها، وللاشعار بالمعنى الذي يوضح علة التحريم ويحرك عاطفة الأبوة فى الرجل وهى كونها فى حجره يحنو عليها حنوّه على بنته، ويدخل فى التحريم كل بنات امرأة الرجل إذا كان قد دخل بها وبنات بناتها وبنات أبنائها، لأنهن من بناتها فى عرف اللغة. (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي إن الرجل إذا عقد نكاحه على امرأة ولم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها، وقال الحنفية: إن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها، وكذلك إذا لمسها بشهوة أو قبّلها أو نظر إلى ما هنالك منها بشهوة،

وكذلك أيضا إذا لمس يد أمّ امرأته بشهوة فإن امرأته تحرم عليه تحريما مؤبدا، ولم يوافقهم على ذلك كثير من الأئمة، لأنه لم يؤثر فيه خبر ولا أثر عن الصحابة فيه شىء وقد كانوا قريبى العهد بالجاهلية التي كان الزنا فاشيا فيها بينهم، فلو كانوا فهموا لذلك مدركا من الشرع وعلله لسألوا عنه وتوافرت الدواعي على نقل ما أفتوا به. 3) (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) الحلائل واحدها حليلة وهى الزوجة ويقال أيضا للرجل حليل إذ أن الزوجين يحلّان معا فى مكان واحد وفراش واحد. ويدخل فى الأبناء أبناء الصلب مباشرة أو بواسطة كابن الابن وابن البنت، فحلائلهما تحرم على الجد، كما يدخل الابن من الرضاعة فتحرم حليلته لما تقدم من قوله «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . القسم الرابع ما حرم بسبب عارض إذا زال يزول التحريم وهو ما ذكر، سبحانه بقوله: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي وحرّم عليكم الجمع بين الأختين فى الاستمتاع الذي يراد به الولد، والمذاهب الأربعة متفقة على تحريم الاستمتاع بالأختين بملك اليمين أو بالنكاح، أو بالنكاح والملك كأن يكون مالكا لإحداهما ومتزوجا للأخرى، فيحرم عليه أن يستمتع بهما ويجب عليه أن يحرم إحداهما على نفسه كأن يعتق المملوكة أو يهبها ويسلمها للموهوبة له. ومثل هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، لأن العلة موجودة فيه أيضا وهى إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصله، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» . والضابط لذلك أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه بها نكاح الأخرى. (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي لكن ما قد سلف قبل التحريم لا تؤاخذون عليه،

وقد كانوا يجمعون بين الأختين، أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم طلّق أيتهما شئت وعن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. (إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فلا يؤاخذكم بما سلف منكم فى زمن الجاهلية إذا أنتم عملتم بشريعة الإسلام، ومن مغفرته أن يمحو من نفوسكم آثار الأعمال السيئة ويغفر لكم ذنوبكم إذا أنبتم إليه، ومن رحمته أن شرع لكم من أحكام النكاح ما فيه المصلحة لكم وتوثيق الروابط بينكم، لتتراحموا وتتعاونوا على البر والتقوى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله. وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة فى شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وله الحمد أولا وآخرا. تم بحمد الله الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس، أوله: (والمحصنات)

فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 دفع شبهتين من شبهات اليهود. 5 الإجابة عن أولى الشبهتين. 7 الإجابة عن الشبهة الثانية. 8 اتفاق العرب فى الجاهلية والإسلام على تعظيم البيت الحرام وأمن من دخله. 9 آراء العلماء فى المراد من الاستطاعة لوجوب الحج. 11 إيقاد اليهود نار الفتنة بين الأوس والخزرج. 17 الدين نهى عن العصبية الجنسية وأمر بالتمسك بالرابطة الدينية. 18 الاختلاف الذي بين البشر ضربان. 22 ما يجب توافره فى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. 32 ضرب الذلة والمسكنة على اليهود. 35 صفات المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب. 40 ما يفعله الكافر من وجوه البر فى الدنيا لا أثر له فى الآخرة فلا يفيده شيئا. 44 شروط النهى عن اتخاذ بطانة من الكافرين. 51 وقعة بدر. 51 وقعة أحد، وذكر السبب فى انخذال المؤمنين. 58 الحكمة فى الإمداد بالملائكة. 59 حكمة ما حصل من خذلان المؤمنين فى أحد. 65 ربا الجاهلية ما يسمى فى عصرنا بالربا الفاحش.

الصفحة المبحث 65 الربا نوعان. 67 المحرمات فى الإسلام ضربان. 69 أوصاف المتقين. 83 الجهاد أقسام. 87 لئن مات محمد لقد مات قبله سائر الأنبياء. 90 من يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها. 91 للانسان طوران عاجل وآجل. 96 طاعة الكافرين توجب الخسران فى الدنيا والآخرة. 97 أثر الشرك فى النفوس. 99 سبب ما أصاب المسلمين فى وقعة أحد. 103 انقسام المسلمين بعد وقعة أحد إلى فريقين. 106 انخذال المؤمنين أثر طبيعى لما اجترحوه من المخالفات. 113 الشورى فى الإسلام وفوائدها. 115 التردد خور وضعف فى العزائم. 115 وجوب التوكل على الله بعد أخذ الأهبة. 116 التوكل الصحيح إنما يتم مع الأخذ بالأسباب، وبدون ذلك يكون جهلا. 121 الناس يتفاوتون فى الجزاء عند الله على حسب تفاوتهم فى الفضائل والمعرفة فى الدنيا والأعمال الصالحة. 122 صفات الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقتضى طاعته. 126 العقوبات آثار لازمة للأعمال. 127 معاذير المنافقين حين تخلفهم عن القتال.

الصفحة المبحث 131 الشهداء أحياء عند ربهم فى دار الكرامة. 133 غزوة حمراء الأسد. 135 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: «حسبى الله ونعم الوكيل» . 137 صادق الإيمان لا يكون جبانا، وإذا عرض له أسباب الخوف قاوم ذلك. 138 تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن مسارعة قومه إلى الكفر. 141 من شأن المؤمن إذا أنسأ الله أجله أن تكثر حسناته وتزداد خيراته. 142 فى الشدائد كثير من الفوائد. 145 الحث على بذل المال فى الجهاد. 150 ليس قومك ببدع من الأمم، ولا أنت ببدع من الرسل. 153 الابتلاء فى الأموال يكون بالبذل فى وجوه البر، وفى الأنفس ببذلها فى الجهاد فى سبيل الله. 155 كيف يطعن اليهود فى النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو مذكور فى كتابهم. 156 تبيين الكتاب على ضربين. 158 العذاب أثر طبيعى للذنوب وهو ضربان. 161 استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم من عائشة فى عبادة ربه. 163 ما يقول الذاكرون المتفكرون فى ابتهالهم إلى ربهم. 165 استجابة الدعاء قد تكون بغير ما يطلب المرء. 166 الإسلام أصلح معاملة الرجل للمرأة واعترف لها بالكرامة. 167 صفات المؤمن وجزاؤه على إحسانه. 170 فضائل مؤمنى أهل الكتاب.

الصفحة المبحث 173 تفسير سورة النساء. 175 البحث العلمي والتأريخي لا يؤيد أن آدم أبو البشر. 176 حقيقة النفس أو الروح. 180 العدل بين الزوجات إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان. 181 قد تدعو الحاجة إلى تعدد الزوجات. 183 الحكمة فى تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. 184 مال المرأة ليس بملك للرجل فلا يحل له إلا بإذنها. 186 الدين حث على الاقتصاد ومنع الإسراف والتبذير. 189 مال اليتيم ليس بمال للولى فليس له أن يأكل منه شيئا بلا حق. 191 كانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء والأولاد الصغار. 194 أسباب الإرث فى الجاهلية. 196 الحكمة فى جعل حظ الولد كحظ الأنثيين. 196 الموانع التي تمنع ميراث الولد. 197 السر فى تساوى الوالدين فى الميراث مع وجود الأولاد. 198 حقوق الزوجية فى الميراث مقدمة على حقوق الوالدين. 200 حكمة جعل الزوجات الكثيرات فى الميراث كزوجة واحدة. 200 ميراث الكلالة. 201 الضرار فى الوصية على وجوه. 203 السر فى التعبير بخالدين فى أهل الجنة، وبخالدا فى أهل النار 203 للمذنب حالان.

الصفحة المبحث 206 كان عقاب الزاني والزانية فى بدء الإسلام الإيذاء والتأنيب. 207 العاصي يسمى جاهلا. 208 التوابون طبقات. 210 من لا تقبل توبته. 212 نهى المؤمنين أن يسيروا على سنة الجاهلية فى هضم حقوق النساء. 213 الأمر بمعاشرة النساء بالمعروف. 214 ربما يكره الإنسان شيئا وفيه الخير الكثير. 215 نهى الزوج عن أخذ شىء من صداق المرأة إذا أراد أن يستبدل بها زوجا غيره. 218 من يحرم التزوج بهن.

تتمة سورة النساء

الجزء الخامس [تتمة سورة النساء] تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الخامس

[سورة النساء (4) : الآيات 24 إلى 25]

الجزء الخامس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النساء (4) : الآيات 24 الى 25] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المحصنات واحدتهن محصنة (بفتح الصاد) يقال حصنت المرأة (بضم الصاد) حصنا وحصانة: إذا كانت عفيفة فهى حاصن وحاصنة وحصان (بفتح الصاد) ويقال أحصنت المرأة: إذا تزوجت، لأنها تكون فى حصن الرجل وحمايته، وأحصنها أهلها زوّجوها، ما ملكت أيمانكم أي بالسبي فى حروب دينية وأزواجهن كفار فى دار الحرب فينفسخ عند ذلك نكاحهن ويحل الاستمتاع بهن بعد وضع الحامل حملها وحيض غيرها ثم طهرها، والإحصان: العفة، والمسافح: الزاني، والاستمتاع بالشيء: هو التمتع به، والأجور واحدها أجر: وهو فى الأصل الجزاء الذي يعطى فى مقابلة شىء ما من عمل أو منفعة والمراد به هنا المهر، فريضة: أي حصة مفروضة محدودة مقدرة، ولا جناح: أي لا حرج ولا تضييق، الاستطاعة: كون الشيء فى طوعك لا يتعاصى عليك، والطّول الغنى والفضل من مال أو قدرة على تحصيل الرغائب، والمحصنات هنا الحرائر، والفتيات الإماء، محصنات: أي عفيفات، مسافحات مستأجرات للبغاء، والأخدان: واحدهم حدن وهو الصاحب ويطلق على الذكر والأنثى، وهو أن يكون للمرأة حدن يزنى بها سرا فلا تبذل نفسها لكل أحد، والفاحشة الفعلة القبيحة وهى الزنا، والمحصنات: هنا الحرائر، والعذاب: هو الحد الذي قدره الشارع وهو مائة جلدة، فنصفها خمسون، ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف، العنت: الجهد والمشقة المعنى الجملي هاتان الآيتان من تتمة ما قبلهما من جهة المعنى فقد ذكر فى أولاهما بقية ما يحرم من النساء وحلّ سوى من تقدم، ووجوب إعطاء المهور، وذكر فى الآية الثانية حكم نكاح الإماء وحكم حدهن عند ارتكاب الفاحشة، لكن من قسموا القرآن

الإيضاح

ثلاثين جزءا جعلوهما أول الجزء الخامس، مراعاة للفظ دون المعنى إذ لو راعوه لجعلوا أول الخامس «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» . الإيضاح (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي وحرم عليكم نكاح المتزوجات إلا ما ملكت الأيمان بالسبي فى حروب دينية تدافعون بها عن دينكم، وأزواجهن كفار فى دار الكفر، وقد رأيتم من المصلحة ألا تعاد السبايا إلى أزواجهن، فحينئذ ينحل عقد زوجيتهن ويكنّ حلالا لكم بالشروط المعروفة فى كتب الفقه وحكمة هذا أنه لما كان الغالب فى الحروب أن يقتل بعض أزواجهن ويفرّ بعضهم الآخر ولا يعود إلى بلاد المسلمين، وكان من الواجب كفالة هؤلاء السبايا بالإنفاق عليهن ومنعهن من الفسق- كان من المصلحة لهن وللمجتمع أن يكون لكل واحدة منهن أو أكثر كافل يكفيها البحث عن الرزق أو بذل العرض، وفى هذا ما لا يخفى من الشقاء على النساء. والإسلام لم يفرض السبي ولم يحرمه، لأنه قد يكون من الخير للسبايا أنفسهنّ فى بعض الأحوال كما إذا استأصلت الحرب جميع الرجال من قبيلة محدودة العدد. فإن رأى المسلمون أن من الخير أن تردّ السبايا إلى قومهن جازلهم ذلك عملا بقاعدة (درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح) فإن كانت الحرب لمطامع الدنيا وحظوظ الملوك فلا يباح فيها السبي. وقوله: من النساء قيد جىء به لإفادة التعميم، وبيان أن المراد كل متزوجة لا العفيفات ولا المسلمات. وقد جاء الإحصان فى القرآن لأربعة معان: 1) التزوج كما فى هذه الآية. 2) العفة كما فى قوله: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) .

3) الحرية كما فى قوله: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) : 4) الإسلام كما فى قوله: (فَإِذا أُحْصِنَّ) أي: أسلمن. أخرج مسلم عن أبى سعيد الخدري أنه قال أصبنا سبيا يوم (أو طاس) ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فاستحللناهن. وقال الحنفية إن من سبى معها زوجها لا تحل لغيره، إذ لا بد من اختلاف الدار بين الزوجين دار الإسلام ودار الحرب. (كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) أي كتب عليكم تحريم هذه الأنواع كتابا مؤكدا وفرضه فرضا ثابتا محكما لا هوادة فيه، لأن مصلحتكم فيه ثابتة لا يدخلها شك ولا تغيير (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي وأحل الله لكم ما وراء ذلكم مما هو خارج من مدلول اللفظ وإفادته ولا يتناوله بنص أو دلالة، فيدخل بطريق الدلالة فى الأمهات الجدات، وفى البنات بنات الأولاد، وفى الجمع بين الأختين الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها كما يؤخذ بعض المحرمات من آيات أخرى كتحريم المشركات، والمطلقة ثلاثا على مطلّقها فى سورة البقرة. (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تبتغوه وتطلبوه بأموالكم التي تدفعونها مهرا للزوجة أو ثمنا للأمة، محصنين أنفسكم وما نعين لها من الاستمتاع بالمحرم باستغناء كل منكما بالآخر، إذ الفطرة تدعو الرجل إلى الاتصال بالأنثى، والأنثى إلى الاتصال بالرجل ليزدوجا وينتجا. فالإحصان هو هذا الاختصاص الذي يمنع النفس أن تذهب أىّ مذهب، فيتصل كل ذكر بأى امرأة وكل امرأة بأى رجل، إذ لو فعلا ذلك لما كان القصد من هذا إلا المشاركة فى سفح الماء الذي تفرزه الفطرة إيثارا للذة على المصلحة، إذ المصلحة تدعو إلى اختصاص كل أنثى بذكر معين، لتتكوّن بذلك الأسرة ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما.

فإذا انتفى هذا المقصد انحصرت الداعية الفطرية فى سفح الماء وصبه، وذلك هو البلاء العام الذي تصطلى بناره الأمة كلها، فإن بعض الدول الأوربية التي كثر فيها السفاح وقل النكاح بضعف الدين وقف نموها وقل نسلها وضعفت حتى اضطرت إلى الاعتزاز بمخالفة بعض الدول الأخرى. والاسترقاق المعروف فى هذا العصر فى بلاد السودان وبلاد الحجاز وبلاد الجراكسة غير شرعى، وهو محرم لأن أولئك اللواتى تسترفقن حرائر من بنات المسلمين الأحرار، فلا يجوز الاستمتاع بهن بغير عقد النكاح، والإسلام برىء من كل هذا، (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) أي وأىّ امرأة من النساء اللواتى أحللن لكم، تزوجتموها فأعطوها الأجر، وهو المهر بعد أن تفرضوه فى مقابلة ذلك الاستمتاع. وسر هذا أن الله لما جعل للرجل على المرأة حق القيام وحق رياسة المنزل الذي يعيشان فيه وحق الاستمتاع بها- فرض لها فى مقابلة ذلك جزاء وأجرا تطيب به نفسها ويتم به العدل بينها وبين زوجها. والخلاصة- إن أي امرأة طلبتم أن تتمتعوا وتنتفعوا بتزوجها فأعطوها المهر الذي تتفقون عليه عند العقد، فريضة فرضها الله عليكم، وذلك أن المهر يفرض ويعين فى عقد النكاح ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء، ويقال عقد فلان على فلانة وأمهرها ألفا كما يقال فرض لها ألفا، ومن هذا قوله تعالى: «وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً» وقوله: «ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» فالمهر يتعين بفرضه فى العقد ويصير فى حكم المعطى، وقد جرت العادة بأن يعطى كله أو أكثره قبل الدخول، ولكن لا يجب كله إلا بالدخول، فمن طلق قبله وجب عليه نصفه لا كله، ومن لم يعط شيئا قبل الدخول وجب عليه كله بعده. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي ولا تضييق عليكم إذا تراضيتم على النقص فى المهر بعد تقديره أو تركه كله أو الزيادة فيه، إذ ليس الغرض

من الزوجية إلا أن يكونا فى عيشة راضية يستظلان فيها بظلال المودة والرحمة والهدوء والطمأنينة، والشارع الحكيم لم يضع لكم إلا ما فيه سعادة الفرد والأمة، ورقي الشؤون الخاصة والعامة. (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) وقد وضع لعباده من الشرائع بحكمته ما فيه صلاحهم ما تمسكوا به، ومن ذلك أنه فرض عليهم عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب، وفرض على من يريد الاستمتاع بالمرأة مهرا يكافئها له على قبولها قيامه ورياسته عليها، ثم أذن للزوجين أن يعملا ما فيه الخير لهما بالرضا فيحطا المهر كله أو بعضه أو يزيدا عليه. ونكاح المتعة (وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر) كان مرخّصا فيه فى بدء الإسلام، وأباحه النبي لأصحابه فى بعض الغزوات لبعدهم عن نسائهم، فرخص فيه مرة او مرتين خوفا من الزنا فهو من قبيل ارتكاب أخفّ الضررين، ثم نهى عنه نهيا مؤبدا، لأن المتمتّع به لا يكون مقصده الإحصان، وإنما يكون مقصده المسافحة، وللأحاديث المصرّحة بتحريمه تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، ولنهى عمر فى خلافته وإشادته بتحريمه على المنبر وإقرار الصحابة له على ذلك. ومنع نكاح المتعة يقتضى منع النكاح بنية الطلاق، ولكن الفقهاء أجازوه إذا نواه الرجل ولم يشترطه فى العقد، وإن كان كتمانه يعد حداعا وغشا وعبثا بهذه الرابطة العظيمة التي هى أعظم الروابط البشرية، وإيثارا للتنقل فى مراتع الشهوات، إلى ما يترتب على ذلك من العداوة والبغضاء، وذهاب الثقة بين الزوجين حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج الإحصان والتعاون على تأسيس البيت الصالح والعيشة السعيدة. (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ، فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) المحصنات: هنا الحرائر خاصة بدليل مقابلتها بالإماء، والحرية كانت عندهم داعية الإحصان، كما كان البغاء من شأن الإماء، ومن ثم قالت هند للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التعجب: أو تزنى الحرّة؟ وعبر عن الإماء بالفتيات

تكريما لهن وإرشادا لنا إلى ألا ننادى بالعبد والأمة بل بلفظ الفتى والفتاة، وقد روى البخاري قوله صلى الله عليه وسلم «لا يقولنّ أحدكم عبدى أمي، ولا يقل المملوك ربى، ليقل المالك فتاى وفتاتى، وليقل المملوك سيدى وسيدتى، فإنكم المملوكون، والرب هو الله عز وجل» . والمعنى- ومن لم يستطع منكم طولا فى الحال أو المآل نكاح المحصنات اللواتى أحلّ لكم أن تتغوا نكاحهن بأموالكم وتقصدوا بنكاحهن الإحصان لهن ولانفسكم فلينكح أمة من الإماء المؤمنات، والطّول (هو السعة المعنوية أو المادية) تختلف باختلاف الأشخاص، فقد يعجز الرجل عن التزوج بحرة وهو ذو مال يقدر به على المهر لنفور النساء منه لعيب فى خلقه أو خلقه، وقد يعجز عن القيام بغير المهر من حقوق المرأة الحره، فإن لها حقوقا كثيرة من النفقة والمساواة وغير ذلك، وليس للأمة مثل هذه الحقوق. وقد قدّر الحنفية المهر بدراهم معدودة، فقال بعضهم: ربع دينار، وقال بعضهم: عشرة دراهم. وليس فى الكتاب ولا فى السنة ما يؤيد هذا التحديد، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن يريد الزواج «التمس ولو خاتما من حديد» وروى أن بعض المسلمين تزوج امرأة وجعل المهر تعليمها شيئا من القرآن. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي فأنتم أيها المؤمنون إخوة فى الإيمان بعضكم من بعض كما قال: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» فلا ينبغى أن تعدوا نكاح الأمة عارا عند الحاجة إليه. وفي هذا إشارة إلى أن الله قد رفع شأن الفتيات المؤمنات وساوى بينهن وبين الحرائر، وهو العليم بحقيقة الإيمان ودرجة قوته وكماله، فرب أمة أكمل إيمانا من حرة فتكون أفضل منها عند الله «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» . (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) الأهل هنا الموالي المالكون لهن، أي فإذا أحببتم نكاحهن ورغبتم فيه، لأن الإيمان قد رفع من قدرهن فانكحوهن بإذن موالهن

وقال بعض الفقهاء: المراد من الأهل من لهم عليهن ولاية التزويج ولو غير المالكين كالأب والجد والقاضي والوصي، إذ لكل منهم تزويج أمة اليتيم. (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وأدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن، إذ أن المهر هو حق المولى، لأنه بدل عن حقه فى إباحة الاستمتاع بها، وقال مالك: المهر حق للزوجة على الزوج وإن كانت أمة فهو لها لا لمولاها، وإن كان الرقيق لا يملك شيئا لنفسه لأن المهر حق الزوجة تصلح به شأنها ويكون تطييبا لنفسها فى مقابلة رياسة الزوج عليها، وسيد الأمة مخير بين أن يأخذه منها بحق الملك، أو يتركه لها لتصلح به شأنها وهو الأفضل والأكمل. ومعنى قوله: (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالمعروف بينكم فى حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل. (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أي أعطوهن أجورهن حال كونهن متزوجات منكم لا مستأجرات للبغاء جهرا وهن المسافحات، ولا سرّا وهن متخذات الأخدان والأصحاب. وقد كان الزنا فى الجاهلية قسمين: سرى وعلنى، فالسرى يكون خاصا فيكون للمرأة خدن يزنى بها سرا ولا تبذل نفسها لكل أحد، والعلنى يكون عاما وهو المراد بالسفاح قاله ابن عباس. وكان البغايا من الإماء ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن، ولا تزال هذه العادة متبعة إلى الآن فى بلاد السودان، فتوجد بيوت خاصة لشراب الذرة (المريسة) وفيها البغاء العلنى. وروى عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون ما ظهر من الزنا ويقولون إنه لؤم، ويستحلون ما خفى ويقولون: إنه لا بأس به، وقد نزل فى تحريم هذين النوعين قوله تعالى «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» .

وهذان النوعان فاشيان الآن فى بلاد الإفرنج والبلاد التي تقلدهم فى شرورهم كمصر والآستانة وبعض بلاد الهند. وقصارى القول: إن الله فرض فى نكاح الإماء مثل ما فرض فى نكاح الحرائر من الإحصان والعفة لكل من الزوجين، لكن جعل الإحصان وعدم السفاح فى نكاح الحرائر من قبل الرجال أولا وبالذات فقال (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) لأن الحرائر ولا سيما الأبكار أبعد من الرجال عن الفاحشة وأقل انقيادا لطاعة الشهوة، إلى أن الرجال هم الطالبون للنساء والقوّامون عليهن. وجعل قيد الإحصان فى جانب الإماء، فاشترط على من يريد أن يتزوج أمة أن يتحرى فيها أن تكون محصنة مصونة فى السر والجهر فقال (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) وذلك أن الزنا كان غالبا فى الجاهلية على الإماء وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن حتى إن عبد الله بن أبىّ كان يكره إماءه على البغاء بعد أن أسلمن فنزل فى ذلك: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» . إلى أنهن لذلّهن وضعفهن وكونهن مظنّة للانتقال من يد إلى أخرى- لم تمرّن نفوسهن على الاختصاص برجل واحد يرى لهن عليه من الحقوق ما تطمئنّ به نفوسهن فى الحياة الزوجية التي هى من شؤون الفطرة. (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) أي إن الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزواج فعليهن من العقاب نصف ما على المحصنات الكاملات وهن الحرائر إذا زنين، وهذا العقاب ما بينه سبحانه بقوله «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة، وتجلد الحرة مائة. والسر فى هذا ما قدمناه فيما سلف وهو كون الحرة أبعد عن داعية الفاحشة، والأمة ضعيفة عن مقاومتها، فرحم الله ضعفها، وخفف العقاب عنها، وقد قيدوا المحصنات

هنا بكونهن أبكارا، لأن من تزوجت تسمى محصنة بالزواج وإن آمت بطلاق أو بموت زوجها وحينئذ ترجم بالحجارة إذا زنت. وفى الصحيحين وغيرهما عن عمر رضي الله عنه: أن الرجم فى كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم ماعز الأسلمىّ والغامديّة لاعترافهما بالزنا، لكنه أرجأ المرأة حتى وضعت وأرضعت وفطمت ولدها رواه مسلم وأبو داود (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي ذاك الذي ذكر لكم من إباحة نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر جائز لمن خشى عليه الضرر من مقاومة دواعى الفطرة، والتزام الإحصان والعفة، ففى كثير من الأحيان تفضى هذه المقاومة إلى أعراض عصبية وغير عصبية إذا طال العهد على مقاومتها كما أثبت ذلك الطبّ الحديث. (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهن لما فى ذلك من تربية قوة الإرادة، وتنمية ملكة العفة، وتغليب العقل على عاطفة الهوى ومن عدم تعريض الولد للرقّ، وخوف فساد أخلاقه، بإرثه منها المهانة والذلة، إذ هى بمنزلة المتاع والحيوان، فربما ورث شيئا من إحساسها ووجدانها وعواطفها الخسيسة. وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه، وإذا نكح الحر الأمة فقد أرقّ نصفه، ورحم الله القائل: إذا لم تكن فى منزل المرء حرة ... تدبّره ضاعت مصالح داره وسر هذا ما شرحناه من قبل من أن معنى الزوجية حقيقة واحدة مركبة من ذكر وأنثى، كل منهما نصفها، فهما شخصان صورة، واحد اعتبارا بالإحسان والشعور والوجدان والمودة والرحمة، ومن ثم ساغ أن يطلق على كل منهما لفظ (زوج) لاتحاده بالآخر وإن كان فردا فى ذاته ومستقلا فى شخصه. (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهو غفار لمن صدرت منه الهفوات، كاحتقار الإماء المؤمنات، والطعن فيهن عند الحديث فى نكاحهن، وعدم الصبر على معاشرتهن بالمعروف، وسوء

[سورة النساء (4) : الآيات 26 إلى 28]

الظن بهن، رحيم بعباده، إذ رخص لهم فيما رخص فيه ببيان أحكام شريعته، فلا يؤاخذنا بما لا نستطيعه منها [سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) المعنى الجملي بعد أن ذكر أحكام النكاح فيما سلف على طريق البيان والإسهاب، ذكر هنا عللها وأحكامها كما هو دأب القرآن الكريم أن يعقب ذكر الأحكام التي يشرعها العباد ببيان العلل والأسباب، ليكون فى ذلك طمأنينة للقلوب، وسكون للنفوس لتعلم مغبة ما هى مقدمة عليه من الأعمال، وعاقبة ما كلفت به من الأفعال، حتى تقبل عليها وهى مثلجة الصدور عالمة بأن لها فيها سعادة فى دنياها وأخراها، ولا تكون فى عماية من أمرها فتتيه فى أودية الضلالة، وتسير قدما لا إلى غاية. الإيضاح (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) جاءت هذه الآيات كأجوبة لأسئلة من شأنها أن تدور بخلد السامع لهذه الأحكام، فيطوف بخاطره أن يسأل- ما الحكمة في هذه الأحكام وما فائدتها للعباد، وهل كان من قبلنا من الأمم السالفة كلف بمثلها، فلم يبح لهم أن يتزوجوا كل امرأة، وهل كان ما أمرنا الله به أو نهانا عنه تشديدا علينا أو تخفيفا عنا؟

والمعنى: يريد الله بما شرعه لكم من الأحكام أن يبين لكم ما فيه مصالحكم ومنافعكم، وأن يهديكم مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين، لتقتفوا آثارهم وتسيروا سيرتهم، فالشرائع والتكاليف وإن اختلفت باختلاف أحوال الاجتماع والأزمان كما قال «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» فهى متفقة فى مراعاة المصالح العامة للبشر، فروح الديانات جميعا توحيد الله وعبادته والخضوع له على صور مختلفة، ومآل ذلك تزكية النفس بالأعمال التي تقوم بها وتهذيب الأخلاق لتبعد عن سيىء الأفعال والأقوال. (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي ويريد أن يجعلكم بالعمل بتلك الأحكام تائبين راجعين عما كان قبلها من تلك الأنكحة الضارة التي كان فيها انحراف عن سنن الفطرة، إذ كنتم تنكحون ما نكح آباؤكم، وتقطعون أرحامكم، ولا تلتفتون إلى المعاني السامية التي فى الزوجية، من تقوية روابط النسب وتجديد قرابة الصهر، والسعادة التي تثلج قلوب الزوجين، والمودة والرحمة اللتين تعمر بهما نفوسهما. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فبعلمه المحيط بما فى الأكوان شرع لكم من الدين ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم، وبحكمته لم يكلفكم بما يشق عليكم، وبما فيه الأذى والضرر لكم وبها يتقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات. (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي إنه تعالى بما كلفكم به من تلك الشرائع يريد أن يطهرّكم ويزكى نفوسكم فيتوب عليكم. (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) متبعو الشهوات هم الفسقة الذين يدورن مع شهوات أنفسهم وينهمكون فيها، فكانها أمرتهم باتباعها فامتثلوا أمرها، فلا يبالون بما قطعوا من وشائج الأرحام، ولا بما أزالوا من أواصر القرابة، فليس مقصدهم إلا التمتع باللذة، أما اللذين يفعلون ما يأمر به الدين فليس غرضهم إلا امتثال أوامره، لا اتباع شهواتهم، ولا الجري وراء لذاتهم. (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) فأباح لكم عند الضرورة نكاح الإماء قاله مجاهد

وطاوس، وقيل بل خفف عنكم التكاليف كلها، ولم يجعل عليكم فى الدين من حرج، فشريعتكم هى الحنيفية السمحة كما ورد فى الحديث. (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) يستميله الهوى والشهوات، ويستشيطه الخوف والحزن، ولا يقدر على مقاومة الميل إلى النساء، ولا يقوى على الضيق عليه فى الاستمتاع بهن. وقد رحم الله عباده فلم يحرّم عليهم منهن إلا ما فى إباحته مفسدة عظيمة وضرر كبير، ولا يزال الزنا ينتشر حيث يضعف وازع الدين، ولا يزال الرجال هم المعتدين فهم يفسدون النساء ويغرونهن بالأموال ويحجر الرجل على امرأته ويحجبها بينما يحتال على امرأة غيره ويخرجها من خدرها، وإنه لغرّ جاهل، أفيظن أن غيره لا يحتال على امرأته كما احتال هو على امرأة سواه؟ فقلما يفسق رجل إلا يكون قدوة لأهل بيته فى الفسق والفجور، وفى الحديث: «عفوا تعفّ نساؤكم وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم» رواه الطبراني من حديث جابر. وقد بلغ الفسق فى هذا الزمن حدّا صار الناس يظنونه من الكياسة، وزالت غيرتهم، وأسلسوا القياد لنسائهم كما يسلسن لقيادتهن، فوهت الروابط الزوجية، ونخر السوس فى سعادة البيوت، ووجدت الرذيلة لها مرتعا خصيبا فى أجواء الأسر، حتى أصبح الرجل لا يثق بنسله، وكثرت الأمراض والعلل بشتى مظاهرها. أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ثمانى آيات نزلت فى سورة النساء هى خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، وعدّ هذه الآيات الثلاث: يريد الله ليبين لكم إلى قوله وخلق الإنسان ضعيفا، والرابعة إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم، والخامسة: إن الله لا يظلم مثقال ذرة، والسادسة: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، والسابعة: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، والثامنة: والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم. الآية.

[سورة النساء (4) : الآيات 29 إلى 30]

[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف كيفية معاملة اليتامى وإيتاء أموالهم إليهم عند الرشد وعدم دفع الأموال إلى السفهاء، ثم بين وجوب دفع المهور للنساء وأنكر عليهم أخذها توجه من الوجوه، ثم ذكر وجوب إعطاء شىء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة، ذكر هنا قاعدة عامة للتعامل فى الأموال تطهيرا للأنفس فى جمع المال المحبوب لها فقال: الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) الباطل من البطل والبطلان وهو الضياع والخسار، وفي الشرع أخذ المال بدون عوض حقيقى يعتد به، ولا رضا ممن يؤخذ منه، أو إنفاقه في غير وجه حقيقى نافع، فيدخل في ذلك النصب والغش والخداع والربا والغبن وإنفاق المال في الوجوه المحرمة والإسراف بوضع المال فيما لا يرضى به العقلاء. قوله «بَيْنَكُمْ» رمز إلى أن المال المحرم يكون عادة موضع التنازع في التعامل بين الآكل فالمأكول منه كل منهما يريد جذبه إليه، والمراد بالأكل الأخذ على أي وجه، وعبر عنه الأكل لأنه أكثر أوجه استعمال المال وأقواها، وأضاف الأموال إلى الجميع ولم يقل لا يأكل بعضكم مال بعض، تنبيها إلى تكافل الأمة في الحقوق والمصالح كأن مال كل واحد منها هو مال الأمة جميعها، فإذا استباح أحدهم أن يأكل مال الآخر بالباطل كان

كأنه أباح لغيره أن يأكل ماله فالحياة قصاص، وإرشادا إلى أن صاحب المال يجب عليه بذل شىء منه للمحتاج وعدم البخل عليه به، إذ هو كأنما أعطاه شيئا من ماله. وبهذا قد وضع الإسلام قواعد عادلة للأموال لدى من يعتنق مبادئه وهى: 1) أن مال الفرد مال الأمة مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها، فهو يوجب على ذى المال الكثير حقوقا معينة للمصالح العامة، وعلى ذى المال القليل حقوقا أخرى للبائسين وذوى الحاجات من سائر أصناف البشر، ويحث على البر والإحسان والصدقات فى جمييع الأوقات. وبهذا لا يوجد فى بلاد الإسلام مضطر إلى القوت أو عريان، سواء أكان مسلما أم غير مسلم، لأن الإسلام فرض على المسلمين إزالة ضرورة المضطر، كما فرض فى أموالهم حقوقا للفقراء والمساكين. وكل فرد يقيم فى بلادهم يرى أن مال الأمة هو ماله، فإذا اضطر إليه يجده مذخورا له، كما جعل المال المفروض فى أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة حتى لا يمنعه من فى قلبه مرض، وحثهم على البذل ورغبهم فيه، وذمهم على البخل ووكل ذلك إلى أنفسهم، لتقوى لديهم ملكة السخاء والمروءة والرحمة. 2) أنه لم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج إليه من أيدى أربابه إلا بإذنهم، حتى لا تنتشر البطالة والكسل بين أفراد الأمة، وتوجد الفوضى فى الأموال، والضعف والتواني فى الأعمال، ويدبّ الفساد فى الأخلاق والآداب. ولو أقام المسلمون معالم دينهم، وعملوا بشرائعه، لضربوا للناس الأمثال واستبان لهم أنه خير شريعة أخرجت للناس، ولأقاموا مدنية صحيحة فى هذا العصر يتأسى بها كل من يريد سعادة الجماعات، ولا يجعلها تئنّ تحت أثقال العوز والحاجة، كما هو حادث الآن من التنافر العام والنظر الشزر من العمال إلى أصحاب رءوس الأموال: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي لا تكونوا من ذوى الأطماع الذين

يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة، ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي، وذلك هو اللائق بأهل المروءة والدين إذا أرادوا أن يكونوا من أرباب الثراء. وفى الآية إيماء إلى وجوه شتى من الفوائد: 1) أن مدار حل التجارة على تراضى المتبايعين، فالغشّ والكذب والتدليس فيها من المحرمات. 2) أن جميع ما فى الدنيا من التجارة وما فى معناها من قبيل الباطل الذي لا بقاء له ولإثبات، فلا ينبغى أن يشغل العاقل عن الاستعداد للآخرة التي هى خير وأبقى. 3) الإشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها الأكل بالباطل، فإن تحديد قيمة الشيء وجعل ثمنه على قدره بالقسطاس المستقيم يكاد يكون مستحيلا، ومن ثم يجرى التسامح فيها إذا كان أحد العوضين أكبر من الآخر، أو إذا كان سبب الزيادة براعة التاجر فى تزيين سلعته، وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع، فكثيرا ما يشترى الإنسان الشيء وهو يعلم أنه يمكنه شراؤه من موضع آخر بثمن أقلّ، وما نشأ هذا إلا من خلابة التاجر وكياسته فى تجارته، فيكون هذا من باطل التجارة الحاصلة بالتراضي فيكون حلالا. والحكمة فى إباحة ذلك، الترغيب فى التجارة، لشدة حاجة الناس إليها، والتنبيه إلى استعمال ما أوتوا من الذكاء والفطنة فى اختيار الأشياء، والتدقيق فى المعاملة، حفظا للأموال حتى لا يذهب شىء منها بالباطل، أي بدون منفعة تقابلها. فإذا ما وجد فى التجارة الربح الكثير بلا غش ولا تغرير، بل بتراض من الطرفين لم يكن فى هذا حرج، ولولا ذلك ما رغب أحد فى التجارة، ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين، على شدة حاجة العمران إليها، وعدم الاستغناء عنها.

ولما كان المال عديل الروح وقد نهينا عن إتلافه بالباطل- كنهينا عن إتلاف النفس، لكون أكثر إتلافهم لها بالمغامرات لنهب الأموال وما كان متصلا بها، وربما أدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل، قال: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا، وعبر بذلك للمبالغة فى الزجر، وللإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها، وقد جاء فى الحديث «المؤمنون كالنفس الواحدة» ولأن قتل الإنسان لغيره يفضى إلى قتله قصاصا أو ثأرا، فكأنه قتل نفسه. وبهذا علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره جناية على نفسه، وجناية على البشر جميعا، لا على المتصلين به برابطة الدين أو الجنس أو السياسة كما قال تعالى: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» كما أنه أرشدنا باحترام نفوس الناس بعدّها كنفوسنا- إلى أن نحترم نفوسنا بالأولى فلا يباح بحال أن يقتل أحد نفسه، ليستريح من الغم وشقاء الحياة، فمهما اشتدت المصايب بالمؤمن، فعليه أن يصبر ويحتسب ولا ييأس من الفرج الإلهىّ، ومن ثم لا يكثر بخع النفس (الانتحار) إلا حيث يقل الإيمان ويفشو الكفر والإلحاد. (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي إنه بنهيكم عن أكل الأموال بالباطل، وعن قتلكم أنفسكم، كان رحيما بكم، إذ حفظ دماءكم كما حفظ أموالكم التي عليها قوام المصالح واستمرار المنافع، وعلمكم أن تتراحموا وتتوادّوا ويكون كل منكم عونا للآخر، يحافظ على ما له ويدافع عن نفسه، إذا جد الجدّ، ودعت الحاجة إلى الدفاع عنه. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) العدوان هو التعدي على الحق، وهو يتعلق بالقصد بأن يتعمد الفاعل الفعل وهو عالم أنه قد تعدى الحق وجاوزه إلى الباطل، والظلم يتعلق بالفعل نفسه، بألا يتحرى الفاعل عمل ما يحل، فيفعل ما لا يحل والوعيد مقرون بالأمرين معا، فلا بد من قصد الفاعل العدوان، وأن يكون فعله ظلما حقا، فإذا وجد أحدهما دون الآخر لم يستحق الفاعل هذا التهديد الشديد، فإذا قتل الإنسان رجلا كان قد قتل أباه أو ابنه، فهنا قد وحد العدوان ولم يوجد الظلم، وإذا سلب

[سورة النساء (4) : آية 31]

امرؤ مال آخر ظانّا أنه ماله الذي كان قد سرقه أو اغتصبه ثم تبين له أن المال ليس ماله، وأن هذا الرجل لم يكن هو الذي أخذ ماله، فها هنا قد وجد الظلم دون العدوان (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الإصلاء فى النار يسيرا على الله، هينا لا يمنعه منه مانع، ولا يدفعه عنه دافع، ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع، فلا يغترنّ الظالمون المعتدون بحلمه عليهم فى الدنيا، وعدم معاجلتهم بالعقوبة، فيظنوا أنهم بمنجاة من عقابه فى الآخرة، ولا يكوننّ كأولئك المشركين الذين قالوا «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» . [سورة النساء (4) : آية 31] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) تفسير المفردات الاجتناب: ترك الشيء جانبا، والكبائر واحدتها كبيرة، وهى المعصية العظيمة، والسيئات واحدتها سيئة، وهى الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا، والمراد بها هنا الصغيرة، ونكفر: نغفر ونمح، ومدخلا كريما: أي مكانا كريما وهو الجنة. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل وعن قتل النفس، وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد، وتوعد فاعل ذلك بأشد العقوبات- نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها، وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها، ووعد من تركها بالمدخل الكريم.

الإيضاح

الإيضاح (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي إن تتركوا جانبا كبائر ما ينهاكم الله عن ارتكابه من الذنوب والآثام نمح عنكم صغائرها فلا نؤاخذكم بها. وقد اختلف فى عدد الكبائر فقيل هى سبع لما ورد فى الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هى يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولّى يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» وفى رواية لهما عن أبى بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين- وكان متكئا فجلس وقال- ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» . وفيهما أيضا من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قالوا وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» . والأحاديث الصحيحة مختلفة فى عددها، ومجموعها يزيد على سبع، ومن ثم قال ابن عباس لما قال له رجل: الكبائر سبع: قال: هى إلى سبعين أقرب، إذ لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، ومراده أن كل ذنب يرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب أو ثورة شهوة، وصاحبه متمكن من دينه، يخاف الله ولا يستحل محارمه، فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى، إذ لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونا بالدين، إذ هو بعد اجتراحه يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله تعالى، ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله، فهو إذ ذاك أهل لأن يتوب الله عليه، ويكفر عنه.

[سورة النساء (4) : آية 32]

وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة بنظر الله إليه، ورؤيته إياه حيث نهاه، فهو مهما كان صغيرا فى صورته، أو فى ضرره، يعدّ كبيرا من حيث الإصرار والاستهتار، فتطفيف الكيل والميزان ولو حبّة لمن اعتاده، والهمز واللمز (عيب الناس والطعن فى أعراضهم) لمن تعوّده- كل ذلك كبيرة ولا شك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فى كل مقام ما تمس إليه الحاجة، ولم يرد الحصر والتحديد. وقال بعض العلماء: الكبيرة كل ذنب رتّب عليه الشارع حدا أو صرح فيه بوعيد. (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً) أي وندخلكم مكانا لكم فيه الكرامة عند ربكم وهى الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار، والعرب تقول: أرض كريمة، وأرض مكرمة، أي طيبة جيدة النبات، قال تعالى: «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ» . [سورة النساء (4) : آية 32] وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) تفسير المفردات التمني: تشهى حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. من فضله: أي إحسانه ونعمه المتكاثرة: المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن القتل، وتوعد فاعلهما بالويل والثبور، وهما من أفعال الجوارح، ليصير الظاهر طاهرا عن المعاصي الوخيمة

الإيضاح

العاقبة- نهى عن التمني، وهو التعرض لها بالقلب حسدا، لتطهر أعمالهم الباطنة، فيكون الباطن موافقا للظاهر، ولأن التمني قد يجرّ إلى الأكل، والأكل قد يقود إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه. الإيضاح (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ، لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) أي إن الله كلف كلا من الرجال والنساء أعمالا، فما كان خاصا بالرجال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال، وليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر وقد أراد الله أن يختص النساء بأعمال البيوت، والرجال بالأعمال الشاقة التي فى خارجها ليتقن كل منهما عمله، ويقوم بما يجب عليه مع الإخلاص. وعلى كل منهما أن يسأل ربه الإعانة والقوّة على ما نيط به من عمل، ولا يجوز أن يتمنى ما نيط بالآخر، ويدخل فى هذا النهى تمنى كل ما هو من الأمور الخلقية كالعقل والجمال، إذ لا فائدة فى تمنيها لمن لم يعطها، ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور الكسبية، إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخرون ويتمنّوا لأنفسهم مثله أو خيرا منه بالسعي والجدّ. والخلاصة- إنه تعالى طلب إلينا أن نوجه الأنظار إلى ما يقع تحت كسبنا، ولا نوجهها إلى ما ليس فى استطاعتنا، فإنما الفضل بالأعمال الكسبية، فلا تتمنوا شيئا بغير كسبكم وعملكم، قاله الأستاذ الإمام محمد عبده بتصرّف. فعلى المسلم أن يعتمد على مواهبه وقواه فى كل مطالبه، بالجد والاجتهاد مع رجاء فضل الله فيما لا يصل إليه كسبه، إما للجهل به، وإما للعجز عنه، فالزارع يجتهد فى زراعته

[سورة النساء (4) : آية 33]

ويتبع السنن والأسباب التي سنها الله لعمله، ويسأل الله أن يمنع الآفات والجوائح عنه، ويرفع أثمان غلاته إلى نحو أولئك مما هو بيد الله. روى عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن: وددنا أن الله جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت. (وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تتمنوا نصيب غيركم، ولا تحسدوا من فضّل عليكم واسألوا الله من إحسانه وإنعامه، فإن خزائنه مملوءة لا تنفد، روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سلوا الله من فضله، فالله يحب أن يسأل، وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج» . (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) وبذا فضّل بعض الناس على بعض بحسب مراتب استعدادهم، وتفاوت اجتهادهم فى معترك الحياة، ولا يزال العاملون يستزيدونه ولا يزال ينزل عليهم من جوده وكرمه ما يفضلون به القاعدين الكسالى حتى بلغ التفاوت بين الناس فى الفضل حدا بعيدا، وكاد التفاوت بين الشعوب يكون أبعد من التفاوت بين بعض الحيوان وبعض الإنسان. [سورة النساء (4) : آية 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) تفسير المفردات الموالي: من يحق لهم الاستيلاء على التركة، مما ترك أي وارثين مما ترك، والذين عقدت أيمانكم هم الأزواج، فإن كلا من الزوجين له حق الإرث بالعقد، والمتعارف عند الناس فى العقد أن يكون بالمصافحة باليدين، قاله أبو مسلم الأصفهانى.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن تمنّى أحد ما فضل الله به غيرة عليه من المال، حتى لا يسوقه التمني إلى التعدي، وهو وإن كان نهيا عاما فالسياق يعين المراد منه، وهو المال، لأن أكثر التمني يتعلق به، ثم ذكر القاعدة العامة فى حيازة الثروة وهى الكسب- انتقل إلى نوع آخر تأتى به الحيازة، وهو الإرث. الإيضاح (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ) أي إن لكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا، ومن النساء اللواتى لهن نصيب مما اكتسبن، موالى لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم. ثم بين هؤلاء الموالي فقال: (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أي إن هؤلاء الموالي هم جميع الورثة من الأصول والفروع والحواشي والأزواج. (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم المقدّر لهم ولا تنقصوهم منه شيئا. (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) » أي إن الله رقيب شاهد على تصرفاتكم فى التركة وغيرها، فلا يطمعنّ من بيده المال أن يأكل من نصيب أحد الورثة شيئا، سواء أكان ذكرا أم أنثى، كبيرا أم صغيرا. وجاءت هذه الآية لمنع طمع بعض الوارثين فى بعض.

[سورة النساء (4) : الآيات 34 إلى 35]

[سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) تفسير المفردات يقال هذا قيّم المرأة وقوّامها إذا كان يقوم بأمرها ويهتم بحفظها، وما به الفضل قسمان: فطرىّ وهو قوة مزاج الرجل وكماله فى الخلقة، ويتبع ذلك قوة العقل وصحة النظر فى مبادئ الأمور وغاياتها، وكسبىّ وهو قدرته على الكسب والتصرف فى الأمور، ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء والقيام برياسة المنزل، والقنوت: السكون والطاعة لله وللأزواج، والحافظات للغيب: أي اللاتي يحفظن ما يغيب عن الناس، ولا يقال إلا فى الخلوة بالمرأة، وتخافون: أي تظنون، ونشزت الأرض: ارتفعت عما حواليها، ويراد بها هنا معصية الزوج والترفع عليه، والبغي: الظلم وتجاوز الحد، والشقاق: الخلاف الذي يجعل كلّا من المختلفين فى شقّ: أي جانب، وخوفه توقع حصوله بظهور أسبابه، والحكم من له حق الحكم والفصل بين الخصمين، وبعث الحكمين: إرسالهما إلى الزوجين لينظرا فى شكوى كل منهما ويتعرفا ما يرجى أن يصلح بينهما: المعنى الجملي لما نهى سبحانه كلّا من الرجال والنساء عن تمنى ما فضل الله به بعضهم على بعض، وأرشدهم إلى الاعتماد فى أمر الرزق على كسبهم وأمرهم أن يؤتوا الوارثين

الإيضاح

أنصبتهم، وفى هذه الأنصبة يستبين تفضيل الرجال على النساء- ذكر هنا أسباب التفضيل. الإيضاح (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي إن من شأن الرجال أن يقوموا على النساء بالحماية والرعاية، وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهنّ، لأن ذلك من أخص شئون الحماية، والرعاية، وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهنّ، لأن ذلك من أخص شئون الحماية، وجعل حظهم من الميراث أكثر من حظهن، لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن. وسبب هذا أن الله فضّل الرجال على النساء فى الخلقة، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة، كما فضلهم بالقدرة على الإنفاق على النساء من أموالهم، فإن فى المهور تعويضا للنساء ومكافأة لهن على الدخول تحت رياسة الرجال وقبول القيامة عليهن، نظير عوض مالىّ يأخذونه كما قال تعالى: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» . والمراد بالقيام الرياسة التي يتصرف فيها المرءوس بإرادة الرئيس واختياره، إذ لا معنى للقيام إلا الإرشاد والمراقبة فى تنفيذ ما يرشد إليه، وملاحظة أعماله، ومن ذلك حفظ المنزل وعدم مفارقته إلا بإذنه ولو لزيارة القربى، وتقدير النفقة فيه، فهو الذي يقدرها بحسب ميسرته، والمرأة هى التي تنفذ على الوجه الذي يرضيه، ويناسب حاله سعة وضيقا. ولقيام الرجل بحماية المرأة وكفايتها مختلف شئونها، يمكنها أن تقوم بوظيفتها الفطرية، وهى الحمل والولادة وتربية الأطفال، وهى آمنة فى سربها، مكفيّة ما يهمها من أمور أرزاقها. ثم فصل حال النساء فى الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل فذكر أنها قسمان، وأشار إلى معاملتها فى كل حال منهما فقال:

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ) أي فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج حافظات لما يجرى بينهن وبينهم فى الخلوة من الرفث والشئون الخاصة بالزوجية، لا يطلعن أحدا عليها ولو قريبا، وبالأولى يحفظن العرض من يد تلمس، أو عين تبصر، أو أذن تسمع. وقوله: بما حفظ الله، أي بسبب أمر الله بحفظه، فهن يطعنه ويعصين الهوى. وفى الآية أكبر عظة وزجر لمن تتفكه من النساء بإفشاء الأسرار الزوجية ولا تحفظ الغيب فيها. وكذلك عليهن أن يحفظن أموال الرجال وما يتصل بها من الضياع، روى ابن جرير والبيهقي عن أبى هريرة قال «خير النساء التي إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك فى مالك ونفسها، وقرأ الآية» وهذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن سلطان التأديب، إذ لا يوجد ما يدعو إليه وإنما سلطانهم على القسم الثاني الذي ذكره الله وذكر حكمه بقوله: (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) أي واللاتي تأنسون منهن الترفع وتخافون ألا يقمن بحقوق الزوجية على الوجه الذي ترضونه فعليكم أن تعاملوهن على النهج الآتي: (1) أن تبدءوا بالوعظ الذي ترون أنه يؤثر فى نفوسهن، فمن النساء من يكفيها التذكير بعقاب الله وغضبه، ومنهن من يؤثر فى أنفسهن التهديد والتحذير من سوء العاقبة فى الدنيا كشماتة الأعداء، ومنعها بعض رغباتها كالثياب والحلي ونحو ذلك، وعلى الجملة فاللبيب لا تخفى عليه العظات التي لها المحل الأرفع فى قلب امرأته. فإن لم يجد ذلك فله أن يجرّب: (2) الهجر والإعراض فى المضجع، ويتحقق ذلك بهجرها فى الفراش مع الإعراض والصدّ (وقد جرت العادة بأن الاجتماع فى المضجع يهيج شعور الزوجية،

فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر، ويزول ما كان فى نفوسهما من اضطراب أثارته الحوادث قبل ذلك) . فإذا هو فعل ذلك دعاها هذا إلى السؤال عن أسباب الهجر والهبوط بها من نشز المخالفة إلى مستوى الموافقة، فإن لم يفد ذلك فله أن يجرب: (3) الضرب غير المبرّح: أي غير المؤذى إيذاء شديدا كالضرب باليد أو بعصا صغيرة. وقد روى عن مقاتل فى سبب نزول الآية أن سعد بن الربيع- وكان من النقباء- نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير، فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرشته كريمتى فلطمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لتقتصّ من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعوا هذا جبرائيل أتانى وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلى الله عليه وسلم وقال: أردنا أمرا وأراد الله أمرا، والذي أراده الله خير» . وقد يستعظم بعض من قلد الإفرنج من المسلمين مشروعية ضرب المرأة الناشز، ولا يستعظمون أن تنشز وتترفع هى عليه، فتجعله وهو الرئيس مرءوسا محتقرا وتصرّ على نشوزها، فلا تلين لوعظه ونصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، فإن كان قد ثقل ذلك عليهم فليعلموا أن الإفرنج أنفسهم يضربون نساءهم العالمات المهذبات، بل فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم وماوكهم وأمراؤهم، فهو ضرورة لا يستغنى عنها ولا سيما فى دين عام للبدو والحضر من جميع أصناف البشر، وكيف يستنكر هذا والعقل والفطرة يدعوان إليه إذا فسدت البيئة، وغلبت الأخلاق الفاسدة، ولم ير الرجل مناصا منه ولا ترجع المرأة عن نشوزها إلا به. لكن إذا صلحت البيئة وصارت النساء يستجبن للنصيحة، أو يزدجرن بالهجر وجب الاستغناء عنه، إذ نحن مأمورون بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن، وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بمعروف. والأخبار التي وردت فى الوصية بالنساء كثيرة، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم

عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يضاجعها فى آخر اليوم» يعنى أنه إذا لم يكن بدّ للرجل من هذا الاتصال الخاص بامرأته، وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين اثنين من البشر وقد قضت به الفطرة، فكيف يليق به بعدئذ أن يجعل امرأته، وهى كنفسه مهينة كمهانة عبده يضربها بسوطه أو بيده، فالرجل الكريم يأبى عليه طبعه مثل هذا الجفاء. والخلاصة- إن الضرب علاج مرّ قد يستغنى عنه الخيّر الكريم، ولكنه لا يزول من البيوت إلا إذا عم التهذيب الرجال والنساء، وعرف كلّ ماله من الحقوق وكان للدين سلطان على النفوس يجعلها تراقب الله فى السر والعلن وتخشى أمره ونهيه. ثم رغب فى حسن المعاملة الزوجية فقال: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) أي فإن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيرها، فابدءوا بما بدأ الله من الوعظ، فإن لم يجد فبالهجر، فإن لم يفد فبالضرب، فإذا لم يغن فليلجأ إلى التحكيم، ومتى استقام لكم الظاهر فلا تبحثوا عما فى السرائر. ثم هدّد وتوعد من يظلم النساء ويبغى عليهن فقال: (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) يذكّر سبحانه عباده بقدرته وكبريائه عليهم، ليتعظوا ويخشوه فى معاملتهن، فكأنه يقول لهم: إن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم، فإذا بغيتم عليهن عاقبكم، وإن تجاوزتم عن هفواتهن كرما تجاوز عنكم وكفر عنكم سيئاتكم: وليس بخاف أن الرجال الذين يستذلّون نساءهم إنما يلدون عبيدا لغيرهم، إذ هم يتربون على الظلم ويستسيغونه، ولا يكون فى نفوسهم شىء من الكرامة ولا من الشمم والإباء، وأمة تخرج أبناء كهؤلاء إنما تربى عبيدا أذلاء لا يقومون بنصرتها، ولا يغارون لكرامتها، فما أحراهم بأن يكونوا قطعانا من الغنم تزدجر من كل راع وتستجيب لكل ناعق!.

ثم بين الطريق السوىّ الذي يتبع عند حدوث النزاع وخوف الشقاق فقال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما) هذا الخطاب عام يدخل فيه الزوجان وأقاربهما، فإن قاموا بذلك فذاك، وإلا وجب على من بلغه أمرهما من المسلمين أن يسعى فى إصلاح ذات بينهما، والخلاف بينهما قد يكون بنشوز المرأة، وقد يكون بظلم الرجل، فإن كان بالأول فعلى الرجل أن يعالجه بأقرب أنواع التأديب التي ذكرت فى الآية التي سلفت، وإن كان بالثاني وخيف من تمادى الرجل فى ظلمه أو عجز عن إنزالها عن نشوزها وخيف أن يحول الشقاق بينهما دون إقامتها لأركان الزوجية الثلاث: من السكون والمودة والرحمة، وجب على الزوجين وذوى القربى أن يبعثوا الحكمين، وعليهم أن يوجهوا إرادتهم إلى إصلاح ذات البين، ومتى صدقت الإرادة وصحت العزيمة فالله كفيل بالتوفيق. بفضله وجوده. وبهذا تعلم شدة عناية الله بأحكام نظام الاسر والبيوت، وكيف لم يذكر مقابل التوفيق وهو التفريق، لأنه يبغضه ولأنه يود أن يشعر المسلمين بأنه لا ينبغى أن يقع. ولكن وأسفا لم يعمل المسلمون بهذه الوصية الجليلة إلا قليلا حتى دبّ الفساد فى البيوت، ونخر فيها سوس العداوة والبغضاء، ففتك بالأخلاق والآداب، وسرى من الوالدين إلى الأولاد. ثم ذكر أن ما شرع من الأحكام جاء وفق الحكمة والمصلحة لأنه من حكيم خبير بأحوال عباده فقال: (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) أي إن هذه الأحكام التي شرعت لكم كانت من لدن عليم بأحوال العباد وأخلاقهم، خبير بما يقع بينهم وبأسبابه ما ظهر منها وما بطن، ولا يخفى عليه شىء من وسائل الإصلاح بينهما. وفى الآية إرشاد إلى أن ما يقع بين الزوجين من خلاف وإن ظنّ أنه مستعص

[سورة النساء (4) : الآيات 36 إلى 39]

يتعذر علاجه فقد يكون فى الواقع على غير ذلك من أسباب عارضة يسهل على الحكمين الخبيرين بدخائل الزوجين لقربهما منهما أن يمحّصا ما علق من أسبابه بقلوبهما، فيزيلاها متى حسنت النية وصحت العزيمة، ولتعلم أيها المؤمن أن رابطة الزوجية أقوى الروابط التي تربط بين اثنين من البشر، فبها يشعر كل من الزوجين بشركة مادّية ومعنوية، بها يؤاخذ كل منهما شريكه على أدق الأمور وأصغرها، فيحاسبه على فلتات اللسان، وبالظّنّة والوهم، وخفايا خلجات القلب، فيغريهما ذلك بالتنازع فى كل ما يقصر فيه أحدهما من الأمور المشتركة بينهما، وما أكثرها وأعسر التوقي منها! وكثيرا ما يفضى التنازع إلى التقاطع، والعتاب إلى الكره والبغضاء، فعليك أن تكون حكيما فى معاملة الزوجة، خبيرا بطباعها، وبذا تحسن العشرة بينكما. وقد صرح علماء الاجتماع بأن السعادة الزوجية قلما تمتع بها زوجان، وإن كانت أمنية كل الأزواج، ومن ثم اكتفوا بالمودة العملية، واجتهدوا فى تربية رجالهم ونسائهم على الاحترام المتبادل جهد المستطاع. [سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 39] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)

تفسير المفردات

تفسير المفردات عبادة الله: الخضوع له والاستشعار بتعظيمه فى السر والعلن بالقلب والجوارح، والإخلاص له بالاعتراف بوحدانيته إذ لا يقبل عملا بدونها، والإحسان إلى الوالدين: قصد البر بهما بالقيام بخدمتهما، والسعى فى تحصيل مطالبهما، والإنفاق عليهما بقدر الاستطاعة، وعدم الخشونة فى الكلام معهما، وذى القربى: صاحب القرابة من أخ وعمّ وخال وأولاد هؤلاء، والجار ذى القربى هو الجار القريب الجوار، والجار الجنب: هو البعيد القرابة، والصاحب بالجنب: الرفيق فى السفر أو المنقطع إليك الراجي نفعك ورفدك، وابن السبيل هو المسافر أو الضيف، ما ملكت أيمانكم: عبيدكم وإماؤكم، والمختال: ذو الخيلاء والكبر، والفخور: الذي يعدد محاسنه تعاظما وتكبرا، أعتدنا: هيأنا وأعددنا، والمهين: ذو الإهانة والذلة، ورئاء الناس: أي للمراءاة والفخر بما فعل، والقرين: الصاحب والخليل، وماذا عليهم: أي أىّ ضرر يحيق بهم لو آمنوا وأنفقوا؟ المعنى الجملي كان الكلام من أول السورة فى وصايا ونصائح، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، والنهى عن إيتاء الأموال للسفهاء، وعن قتل النفس، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء، وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة مع مراقبة الله عز وجل فى كل ذلك. فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له فى الطاعة، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس، وعدم الضن عليهم بالمال فى أوقات الشدة، مع قصد التقرب إلى الله لا لقصد الفخر والخيلاء، لأن ذاك عمل من لا يرجو ثواب الله، ولا يخشى عقابه. الإيضاح (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) عبادة الله هى الخضوع له وتمكين هيبته وعظمته من النفس، والخشوع لسلطانه فى السر والجهر، وأمارة ذلك العمل بما به أمر، وترك ما عنه نهى، وبذا تصلح جميع الأعمال من أقوال وأفعال.

والعبادة هى الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب المعروفة يرجى خيرها ويخشى شرها، وهذه السلطة لا تكون لغير الله، فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه، فمن اعتقد أن غيره يشركه فيها كان مشركا، وإذا نهى الله عن إشراك غيره معه، فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته أولى. والإشراك ضروب مختلفة: منها ما ذكره سبحانه عن مشركى العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله يقربون المتوسل بهم إليه ويقضون الحاجات عنده، وقد جاء ذكر هذا فى آيات كثيرة كقوله: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» . ومنها ما ذكره عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام، قال تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» . وأقوى أنواعه ما سماه الله دعاء واستشفاعا، وهو التوسل بغيره له وتوسيطه بينه وبين الله، ولا ينفع مع هذا صلاة ولا صوم ولا أي عبادة أخرى، وقد فشا هذا النوع بين المسلمين فتراهم يستشفعون ويقولون (يا شيخ العرب- يا سيد يا بدوي، يا سيدى إبراهيم الدسوقى) إلى غير ذلك. ويعتذر بعض الناس لمثل هؤلاء، وغاية ما تصل إليه المعذرة أن يحولوهم من شرك جلىّ واضح إلى شرك أقل منه وضوحا، ولكنه شرك على كل حال. وبعد أن أمر الله بعبادته وحده لا شريك له أعقبه بالوصية بالوالدين فقال: (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أحسنوا بهما ولا تقصّروا فى شىء مما يطلبانه، لأنهما السبب الظاهر فى وجودكم وتربيتكم بالرحمة والإخلاص، وقد فصّلت هذه الوصية فى سورة الإسراء بقوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ

إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» والخلاصة- إن العبرة بما فى نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه، بشرط ألا يحدّ الوالدان من حرية الولد واستقلاله فى شئونه الشخصية أو المنزلية ولا فى الأعمال الخاصة بدينه ووطنه، فإذا أراد أحدهما الاستبداد فى شىء من ذلك، فليس من البر العمل برأيهما اتباعا لهواهما. (وَبِذِي الْقُرْبى) أي وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين، وإذا أدى المرء حقوق الله فصحت عقيدته وصلحت أعماله، وقام بحقوق الوالدين، صلح البيت وحسن حال الأسرة، وإذا صلح البيت كان قوة كبيرة، فإذا عاون أهله ذوى القربى الذين ينسبون إليهم كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الأسرة، وبذا تتعاون الأمة جمعاء، وتمدّ يد المعونة لمن هو فى حاجة إليها ممن ذكروا بعد فى قوله: (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) لأن اليتيم قد فقد الناصر والمعين وهو الأب، وقلّما تستطيع الأم مهما اتسعت معارفها أن تقوم بتربيته تربية كاملة، فعلى القادرين أن يعاونوا فى تربيته، وإلا كان وجوده جناية على الأمة لجهله وفساد أخلاقه وكان خطرا على من يعاشرهم من لداته وجرثومة فساد بينهم. وكذلك المساكين لا ينتظم حال المجتمع إلا بالعناية بهم وصلاح حالهم، وإلا كانوا وبالا عليه. وهم ضربان: مسكين معذور تجب مواساته، وهو من كان سبب عدمه الضعف والعجز أو نزول آفات سماوية ذهبت بماله، ومثل هذا يجب عونه بمساعدته بالمال الذي يسدّ عوزه ويستعين به على الكسب.

ومسكين غير معذور فى تقصيره، وهو من عدم المال بإسرافه وتبذيره، ومثل هذا يبذل له النصح ويدل على طرق الكسب، فإن اتعظ وقبل النصح فبها، وإلا ترك أمره إلى أولى الأمر فهم أولى بتقويم معوجّه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه. (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) الجوار ضرب من ضروب القرابة فهو قرب بالمكان والسكن، وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب، فيحسن أن يتعاون الجاران، ويكون بينهما الرحمة والإحسان، فإذا لم يحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس، وقد حث الدين على الإحسان فى معاملة الجار ولو غير مسلم فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم ابن جاره اليهودي، وذبح ابن عمر شاة فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي، أهديت لجارنا اليهودي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه» وروى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» . وحدد الحسن البصري الجوار بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة، والأولى عدم التحديد بالدور وجعل الجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه فى غدوك أو رواحك إلى دارك. وإكرام الجار من شيم العرب قبل الإسلام وزاده الإسلام توكيدا بما جاء فى الكتاب والسنة، ومن إكرامه إرسال الهدايا إليه، ودعوته إلى الطعام، وتعاهده بالزيارة والعيادة إلى نحو ذلك. (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) روى عن ابن عباس أنه الرفيق فى السفر والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، وقيل من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا، فيشمل صاحب الحاجة الذي يمشى بجانبك، يستشيرك أو يستعين بك. (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو السائح الرّحالة فى غرض صحيح غير محرم، والأمر بالإحسان إليه يتضمن الترغيب فى السياحة والإعانة عليها، ويشمل اللقيط أيضا وهو أجدر بالعناية من

اليتيم وأحق بالإحسان إليه، وقد عنى الأوروبيون بجمع اللقطاء وتربيتهم وتعليمهم، ولولا ذلك لاستطار شرهم، وعمّ ضرّهم، وقد كنا أحق بهذا الإحسان منهم، لأن الله قد جعل فى أموالنا حقا معلوما للسائل والمحروم. (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم ويشمل هذا تحريرهم وعتقهم وهو أتم الإحسان وأكمله، ومساعدتهم على شراء أنفسهم دفعة واحدة أو نجوما وأقساطا، وحسن معاملتهم فى الخدمة بألا يكلفوا ما لا يطيقون ولا يؤذون بقول ولا بفعل، وقد روى الشيخان قوله صلى الله عليه وسلم «هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» . وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم الوصية بهم فى مرض موته، وكان ذلك من آخر وصاياه، فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت «الصلاة وما ملكت أيمانكم» . وقد أوصانا سبحانه بهؤلاء حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم ويجعلهم كالحيوانات المسخرة. ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) المختال: المتكبر الذي تظهر آثار الكبر فى حركاته وأعماله، والفخور: المتكبر الذي تظهر آثار الكبر فى أقواله، فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوا بنفسه، واحتقارا لغيره. والمختال الفخور مبغوض عند الله، لأنه احتقر جميع الحقوق التي أوجبها للناس وأوجبها لنفسه من الشعور بعظمته وكبريائه، فهو كالجاحد لصفات الألوهية التي لا تليق إلا لها. فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام، لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب، ومن خشع قلبه خشعت جوارحه، ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوى القربى،

لأنه لا يشعر بحق لغيره عليه، وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو لجار قريب أو بعيد، فهو لا يرجى منه برّ ولا إحسان، وإنما يتوقع منه إساءة وكفران، ومن الكبر والخيلاء إطالة الثوب وجر الذيل بطرا ومرحا، قال تعالى: «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» . وليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورا فى غير غلظة، عزيز النفس مع الأدب والرقة. روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال صلى الله عليه وسلم «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس» بطر الحق: رده استخفافا وترفعا، وغمص الناس احتقارهم والازدراء بهم. ثم بين المختال الفخور فقال: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) روى ابن اسحق وابن جرير عن ابن عباس- كان جماعة من اليهود يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر فى ذهابها ولا تسارعوا فى النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلى قوله- وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) : والمراد بالبخل فى الآية البخل بالإحسان الذي أمر به فيما تقدم، فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح فى التعليم وإنقاذ المشرف على التهلكة، وكتمان ما آتاهم الله من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم. ثم بين عاقبة أمرهم وعظيم نكالهم فقال: (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهيهم ويذلهم، فهو عذاب جامع بين الألم والذلة جزاء لهم على ما اقترفوا،

وسماهم الله كفارا للإيذان بأن هذه أخلاق وأعمال لا تصدر إلا من الكفور، لا من المؤمن الشكور. (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) الرئاء والرياء والمراءاة سواء، أي إن مانعى الإحسان من أهل الفخر والخيلاء فريقان: فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم، وفريق يبذل المال لا شكرا لله على نعمه ولا اعترافا لعباده بحق، بل ينفقونها مرائين الناس: أي يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم ويحمدوا فعلهم. والكبرياء كما تكون من شىء فى نفس الشخص، تكون أيضا بما يكون له من المال والنسب، والمرائى أقل شرا من البخيل، إذ هو يحمل الناس على قبول فخره واختياله فى مقابلة ما يبذله لهم من مال، فكأنه رأى لهم عليه حقا عوضا من التعظيم والثناء الذي يطلبه بريائه، وأما البخيل فقد بلغ من احتقاره للناس أنه لا يرى لهم عليه شيئا من الحقوق، فهو يكلفهم تعظيمه، وأمواله مدّخرة فى الصناديق. والمرائى بخيل فى الحقيقة إذ هو إنما يبذل المال لمن لا حق لهم عنده، ويبخل على أرباب الحقوق كالزوجة والولد والخادم والأقربين كالوالدين، ولا يتحرى فى إنفاقه النفع العام ولا الخاص، وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح، وإن كان الإنفاق ضارا كالمساعدة على فسق أو فتنة، فهو تاجر يشترى تعظيم الناس له وتسخيرهم للقيام بخدمته. (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إن المؤمنين المرائين فى إنفاقهم يثقون بما عند الناس من المدح والثناء والتعظيم والإطراء، ولا يثقون بما أعد الله لعباده من الثواب والجزاء، ويفضلون التقرب إليهم على التقرب إليه، فالله فى نظرهم أهون من الناس، فمثل هؤلاء لا يعدّون مؤمنين إيمانا حقيقيا بالله ولا باليوم الآخر، بل إيمانهم ضرب من التخيل ليس له ما يؤيده من أثر فى القلب ولا إذعان للنفس، فهم لا يعرفون الله، وإنما يسمعون الناس يقولون قولا فيقلدونهم فيما يحفظونه منهم، فهم لا يعرفون أنه موجد الكائنات النافذ علمه وقدرته فيما فى الأرض والسموات، ولو كانوا مؤمنين باليوم الآخر وأن هناك حياة أبدية لما فضلوا عليها عرض هذه الحياة القصيرة.

ومن أمارات التفرقة بين المخلص والمرائى، أن الأول قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كترغيب بعض الناس في البذل كأن يقول إنى على ما بي من فقر قد أعطيت كذا درهما فى مصلحة كذا فاللائق بمثلك أن يبذل كذا وكذا درهما. أما الثاني فهو يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل، كما لا يبذل المال ولا يعمل العمل الصالح إلا بقصد الرياء والسمعة، إذ ليس له وراء حظوظ الدنيا أمل ولا مطلب. (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ، لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) أي إن هؤلاء المتكبرين ما حملهم على ما فعلوا إلا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والخليل- والمقصد من هذا أن حالهم فى الشر كحال الشيطان. وفى الآية إيماء إلى تأثير قرناء المرء فى سيرته وأن الواجب اختيار القرين الصالح على قرين السوء، وتعريض بتنفير الأنصار من معاشرة اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق فى سبيل الله، وبيان أنهم شياطين يعدون الفقر وينهون عن العرف. أما القرين الصالح فهو عون على الخير مرغّب فيه، منفر بسيرته ونصحه عن الشر مبعد عنه، مذكر بالتقصير مبصر بالعيوب، وكم أصلح القرين الصالح فاسدا، وكم أفسد قرين السوء صالحا. (وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ؟) أي وما الذي كان يصيبهم من الضرر لو آمنوا بالله إيمانا صحيحا يظهر أثره فى العمل؟ وفى هذا الأسلوب إثارة تعجيب الناس من حالهم، إذ هم لو أخلصوا لما فاتتهم منفعة الدنيا، ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى. فكثيرا ما يفوت المرائى ما يرمى إليه من التقرّب إلى الناس وامتلاك قلوبهم، ويظفر بذلك المخلص الذي لم يكن من همه أن أحدا يعرف ما عمل، فيكون الأول قد رجع بخفّى حنين، بينما الثاني فاز بسعادة الدارين فجهله جدير بأن يتعجب منه، لأنه جهل بالله وجهل بأحوال الناس، ولو آمن وأخلص ووثق بوعد الله ووعيده لكان فى هذا سعادته، فالإيمان سلوى من كل

[سورة النساء (4) : الآيات 40 إلى 42]

فائت، وفقده عرضة لليأس من كل خير، ومن ثم يكثر الانتحار من فاقدى الإيمان. وأما المؤمن فأقل ما يؤتاه فى المصايب الصبر الذي يخفف وقعها على النفس، وأكثره رحمة الله التي بها تتحول النقمة إلى نعمة بما يستفيد من الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب. وقد يبتلى الله المؤمن ويمتحن صبره فيعطيه إيمانه من الرجاء به ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها، وقد يأنس أحيانا بها لعظم رجائه وصبره، وهذا وإن كان نادرا فهو واقع حاصل. (وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) فينبغى للمؤمن أن يكتفى بعلم الله فى إنفاقه ولا يبالى بعلم الناس، فهو الذي لا ينسى عمل العاملين ولا يظلمهم من أجرهم شيئا. وفى هذه الآيات الكريمة الهداية الكافية فى معاملة الناس لربهم ولبعضهم بعضا ولكن المسلمين قصّروا فى اتباع هذه الأوامر، وأعرضوا عن مساعدة ذوى القربى والجيران واليتامى والمساكين، والشواهد على هذا كثيرة. [سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) تفسير المفردات المثقال: أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره، والذرة أصغر ما يدرك من الأجسام ومن ثم قالوا إنها النملة أو رأسها أو الخردلة أو الهباء (ما يظهر فى نور الشمس الداخل من الكوّة) ولذلك روى عن ابن عباس

المعنى الجملي

رضي الله عنهما أنه أدخل يده فى التراب ثم نفخ فيه فقال كل واحدة من هؤلاء ذرة، والظلم: النقص كما قال تعالى: «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» ومن لدنه: من عنده، والحديث الكلام. المعنى الجملي بعد أن بيّن عز اسمه صفات المتكبرين وسوء أحوالهم وتوعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد- زاد الأمر توكيدا وتشديدا فذكر أنه لا يظلم أحدا من العاملين بوصاياه لا قليلا ولا كثيرا، بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، وفى هذا أعظم الترغيب لفاعلى البر والإحسان وحفز لهممهم على العمل، وفى معنى الآية قوله: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» . الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي إنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله، والجزاء عليه شيئا ما وإن صغر كذرة الهباء بل يوفيه أجره، كما لا يعاقبه بغير استحقاق للعقوبة، إذ أن الثواب والعقاب تابعان لتأثير الأعمال فى النفس بتزكيتها أو تدسيتها، فالعمل يرفعها إلى أعلى عليين أو يهبط بها إلى أسفل سافلين، ولذلك درجات ومثاقيل مقدّرة فى نفسها لا يحيط بدقائقها إلا من أحاط بكل شىء علما. والخلاصة- إن الظلم لا يقع من الله تعالى لأنه من النقص الذي يتنزه عنه وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم، وقد خلق للناس مشاعر يدركون بها ما لا يدركه الحس، وشرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله فى هدايتهم وحفظ مصالحهم، وهى تسوق إلى الخير وتصرف عن الشر وأيدها بالوعد والوعيد، فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه كان هو الظالم لنفسه لأن الله لا يظلم أحدا.

(وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) أي إنه تعالى مع كونه لا ينقص أحدا من أجر عمله مثقال ذرة يزيد للمحسن فى حسناته، فالسيئات جزاؤها بقدرها، والحسنات يضاعف الله تعالى جزاءها عشرة أضعاف أو أضعافا كثيرة كما قال فى آية أخرى: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» وقال: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» . (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) إي إنه تعالى لواسع فضله لا يكتفى بجزاء المحسنين على إحسانهم فحسب، بل يزيدهم من فضله ويعطيهم من لدنه عطاء كبيرا، وسمى هذا العطاء أجرا ولا مقابل له من الأعمال، لأنه لما كان تابعا للأجر على العمل سمى باسمه لمجاورته له. وفى ذلك إيماء إلى أنه لا يكون لغير المحسنين، إذ هو علاوة على أجور أعمالهم، فلا مطمع للمسيئين فيه. (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً؟) أي إذا كان الله لا يضيع من عمل العاملين مثقال ذرة، فكيف يكون الناس إذا جمعهم الله وجاء بالشهداء عليهم وهم أنبياؤهم، فما من أمة إلا لها بشير ونذير. وهذه الشهادة عبارة عن عرض أعمال الأمم على أنبيائهم (لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين) ومقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم، فمن شهد لهم نبيهم بأنهم على ما جاء به وما أمر الناس بالعمل به فهم ناجون ومن تبرأ منهم أنبياؤهم لمخالفة أعمالهم وعقائدهم لما جاءوا به فأولئك هم الخاسرون وإن ادّعوا اتباعهم والانتماء إليهم. وقوله: وجئنا بك على هؤلاء شهيدا، يراد به شهادة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين على أمته كما قال تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» أي إن هذه الأمة بحسن سيرتها تكون شهيدة على الأمم السالفة

وحجة عليها فى انحرافها عن هدى المرسلين، والرسول صلى الله عليه وسلم بسيرته وأخلاقه الغالية وسننه المرضية يكون حجة على من تركها وتساهل فى اتباعها، وعلى من تغالى فيها وابتدع البدع المحدثة من بعده. روى البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقرأ علىّ. قلت: يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال نعم أحب أن أسمعه من غيرى فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) إلخ فقال (حسبك الآن) فإذا عيناه تذرفان» . فانظر كيف اعتبر بهذه الشهادة الشهيد الأعظم صلى الله عليه وسلم فبكى لتذكر هذا اليوم، وهل نعتبر كما اعتبر ونستعد لهول ذلك اليوم باتباع سنته ونجتهد فى اجتناب البدع والتقاليد التي لم تكن فى عهده، وبذا نكون أمة وسطا لا تفريط عندها فى الدين ولا إفراط لا فى الشؤون الجسمية ولا فى الشؤون الروحية، أو نظل فى غوايتنا تقليدا للآباء فنكون كما قال الكافرون «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي إذا جاء ذلك اليوم الذي نأتى فيه بشهيد على كل أمة، يتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يتبعوا ما جاء، أن يصيروا ترابا تسوّى بهم الأرض فيكونوا وإياها سواء كما قال فى سورة النبأَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» . (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) أي إنهم يودون لو يكونون ترابا فتسوّى بهم الأرض ولا يكونون قد كتموا الله وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكار شركهم وضلالهم كما قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» أي فهم حينئذ يكذبون وينكرون شركهم إما اعتقادا منهم أنّ ما كانوا عليه ليس بشرك وإنما هو استشفاع

[سورة النساء (4) : آية 43]

وتوسل وإما مكابرة وظنا أن ذلك يجديهم ويدفع عنهم العذاب، فيشهد عليهم الأنبياء المرسلون أنهم لم يكونوا متبعين لهم فيما أحدثوا من شركهم، بل كانوا مبتدعين ذلك من عند أنفسهم، فقد قاسوا ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين، فإذا شهدوا عليهم تمنوا لو كانوا قد سوّيت بهم الأرض وما افتروا ذلك الكذب. [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) تفسير المفردات الغائط: المنخفض من الأرض كالوادى، وأهل البادية والقرى الصغيرة يقصدونه عند قضاء الحاجة للستر والاستخفاء عن الناس، وملامسة النساء: الإفضاء إليهن، تيمموا: اقصدوا، والصعيد: وجه الأرض، والطيب: الطاهر، العفوّ: ذو العفو، والعفو عن الذنب: محوه وجعله كأن لم يكن، والغفور: ذو المغفرة، والمغفرة: ستر الذنوب بعدم الحساب عليها. المعنى الجملي بعد أن وصف سبحانه الوقوف بين يديه يوم العرض والأهوال التي تؤدى إلى تمنى الكافر العدم فيقول: يا ليتنى كنت ترابا، والتي تجعله لا يستطيع أن يكتم

الإيضاح

الله حديثا، وذكر أنه لا ينجو فى ذلك اليوم إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله- وصف فى هذه الآية الوقوف بين يديه فى مقام الأنس، وحضرة القدس، المنجى من هول الوقوف فى ذلك اليوم، وطلب فيه استكمال القوى العقلية وتوجيهها إلى جانب العلى الأعلى بألا تكون مشغولة بذكرى غيره، طاهرة من الأنجاس والأخباث، لتكون على أتم العدّة للوقوف فى ذلك الموقف الرهيب، مستشعرة تلك العظمة والجلال والكبرياء. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) أي لا تصلّوا حال السكر حتى تعلموا قبل الشروع فيها ما ستقرءونه وما ستعملونه، ذاك أن حال السكر لا يتأتى معها الخشوع والخضوع والحضور مع الله بمناجاته بكتابه وذكره ودعائه. وهذا الخطاب موجه إلى المسلمين قبل السكر بأن يجتنبوه إذا ظنوا أنهم سيصلّون، ليحتاطوا فيجتنبوه فى أكثر الأوقات، وقد كان هذا تمهيدا لتحريم السكر تحريما باتا لا هوادة فيه، إذ من يتقى أن يجىء عليه وقت الصلاة وهو سكران يترك الشرب عامة النهار وأول الليل لتفرّق الصلوات الخمس فى هذه المدة. فلم يبق للسكر إلا وقت النوم من بعد العشاء إلى السحر فيقلّ الشراب لمزاحمة النوم له، وأول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة وقت الكسب والعمل لأكثر الناس، ويقل أن يسكر فيه إلا أصحاب البطالة والكسل. وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال السكر وصاروا يعلمون ما يقولون. روى أبو داود والترمذي عن على كرم الله وجهه قال «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدّمونى فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فنزلت الآية.

وروى ابن جرير عن علىّ أن الإمام كان يومئذ عبد الرحمن وأن الصلاة صلاة المغرب- وكان ذلك قبل أن تحرّم الخمر. ويفترق المعنى بين الأسلوبين (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ولا تقربوا الصلاة سكارى إذ الأول يتضمن النهى عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة فيفضى إلى أدائها فى أثنائه وخلاصة المعنى عليه احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة فتصلوا وأنتم سكارى، فامتثال هذا النهى إنما يكون بترك السكر فى وقت الصلاة وفيما يقرب منها، والثاني يتضمن النهى عن الصلاة حال السكر فحسب. وأما نهيهم عن الصلاة جنبا فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة، لأنها من سنن الفطرة وإنما ينهاهم عن الصلاة فى أثنائها حتى يغتسلوا ولهذا قال جنبا ولم يقل وأنتم جنب. (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي ولا تقربوا الصلاة جنبا فى أي حال إلا حال كونكم عابرى سبيل: أي مجتازين الطريق، وقد روى أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يحدون ممرّا إلا فيه فرخّص لهم فى ذلك ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسد تلك الأبواب والكوى إلا فى آخر عمره الشريف ولم يستثن إلا خوخة أبى بكر رضي الله عنه (الخوخة الكوّة والباب الصغير) . (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلى أن تغتسلوا، إلا ما رخص لكم فيه من عبور السبيل فى المسجد. وحكمة الاغتسال من الجنابة أن الجنابة تحدث تهيجا فى الأعصاب فيتأثر البدن كله ويحدث فتور وضعف فيه يزيله الاغتسال بالماء، ومن ثم ورد فى الحديث «إنما الماء من الماء» رواه مسلم: والخلاصة- إن الذين طلب الصلاة حال العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر، وذلك يتوقف على الصحو وترك السكر، كما طلب أن يكون الجسم نظيفا نشيطا وذلك لا يكون إلا بإزالة الجنابة.

ولما كانت الصلاة فريضة موقوتة لا هوادة فيها لأنها تذكّر المرء ربه وتعدّه للتقوى، وكان الاغتسال من الجنابة يتعسر فى بعض الحالات ويتعذر فى بعضها الآخر، رخص سبحانه لنا فى ترك استعمال الماء والاستعاضة عنه بالتيمم، فقال: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) المراد بالمرض المرض الذي يخاف زيادته باستعمال الماء كبعض الأمراض الجلدية والقروح كالحصبة والجدرىّ أو نحو ذلك، والسفر يشمل الطويل والقصير، والمراد بالمجيء من الغائط الحدث الأصغر بخروج شىء من أحد السبيلين (القبل والدبر) وملامسة النساء: غشيانهن. ففى هذه الحالات (المرض. السفر. فقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل) اقصدوا وتحروا صعيدا طيبا: أي وجها طاهرا من الأرض لا قذارة فيه ولا أوساخ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلّوا. والخلاصة- إن حكم المريض والمسافر إذا أرادا الصلاة كحكم المحدث حدثا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء فعلى كل هؤلاء التيمم فقط قاله الأستاذ الإمام. لكن المعروف فى المذاهب الأربعة أن شرط التيمم فى السفر فقد الماء فلا يجوز مع وجوده، وهذا بخلاف ظاهر الآية. ومن تأمل فى رخص السفر التي منها قصر الصلاة وإباحة الفطر فى رمضان لا يستنكر أن يرخص للمسافر فى ترك الغسل والوضوء مع وجود الماء وهما دون الصلاة والصيام فى نظر الدين، فالمشاهد أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء فى هذا الزمان الذي سهلت فيه وسائل السفر فى السكك الحديدية والبواخر، فكيف تكون المشقة للمسافرين على ظهور الإبل فى مفاوز الحجاز وجبالها، فأشق ما يشق فى السفر الغسل والوضوء وإن كان الماء حاضرا مستغنى عنه، ففى البواخر يوجد الماء وتوجد الحمامات للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يركبون فى الدرجة

الأولى والثانية، وهؤلاء الأغنياء منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر معه الاغتسال، أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر، فإذا كانت هذه السفن التي يوجد فيها الماء على هذه الحال يتعسر فيها الاغتسال أو يتعذر فكيف يكون الاغتسال فى قطر السكك الحديدية أو فى قوافل الجمال والبغال؟. روى أن هذه الآية نزلت فى بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وقد انقطع عقد لعائشة، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسه والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فلما نزلت وصلّوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول 6 ما أكثر بركتكم يا آل أبى بكر!، وفى رواية: يرحمك الله يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا. ثم ذكر منشأ السهولة واليسر فقال: (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) العفو هنا التيسير والسهولة، ومنه قوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ» وقوله صلى الله عليه وسلم «قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق» أي أسقطتها تيسيرا عليكم، ومن عفوه وتسهيله أن أسقط فى حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل. وفى ذلك إيماء إلى أن ما كان من الخطأ فى صلاة السكارى كقولهم: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون- مغفور لهم لا يؤاخذون عليه. قال السيد حسن صديق خان فى شرحه ل [لروضة الندية] : قد كثر الاختباط فى تفسير هذه الآية: وإن كنتم مرضى أو على سفر إلخ، والحق أن قيد عدم وجود الماء راجع إلى قوله (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) فتكون الأعذار ثلاثة: السفر والمرض وعدم وجود الماء فى الحضر، وهذا ظاهر على قول من يقول: إن القيد إذا وقع بعد جمل متصلة كان قيدا لآخرها، وأما على قول من يقول إنه يكون قيدا للجميع إلا أن يمنع مانع فكذلك أيضا لأنه قد وجد المانع هنا من تقييد السفر والمرض بعدم وجود الماء- وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل فى غير هذا الباب

[سورة النساء (4) : الآيات 44 إلى 46]

كالصوم، ويؤيد هذا أحاديث التيمم التي وردت مطلقة وغير مقيدة بالحضر اه. ومنه تعلم أن رأيه كرأى الأستاذ الإمام من أن السفر وحده عذر كاف فى التيمم وجد الماء أو لم يوجد. [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) تفسير المفردات ألم تر: أي ألم تنظر، نصيبا: حظا، السبيل: الطريق القويم، وليا: أي يتولى شؤونكم، نصيرا: معينا يدفع شرهم عنكم، من الذين هادوا: هم اليهود، غير مسمع: يحتمل أن يكون المعنى غير مسمع مكروها، وأن يكون غير مقبول منك ولا مجاب إلى ما تدعو إليه، وراعنا: إما بمعنى ارقبنا وانظرنا نكلمك، وإما بمعنى كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها، وهى (راعينا) . ليّا بألسنتهم: أي فتلا بها وتحريفا، طعنا فى الدين: قدحا فيه، أقوم: أعدل وأسدّ، إلا قليلا: أي إلا قليلا من الإيمان لا يعبأ به. المعنى الجملي بعد أن ذكر الله سبحانه فى سابق الآيات كثيرا من الأحكام الشرعية ووعد فاعلها بجزيل الثواب، وأوعد تاركها بشديد العقاب، انتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم

الإيضاح

الذين تركوا أحكام دينهم وحرّفوا كتابهم واشتروا الضلالة بالهدى، لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن الله مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم، فإذا هم قصّروا أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه فى الدنيا والآخرة، والمؤمنون بالله حقا بعد أن سمعوا الوعد والوعيد المتقدمين لا بد أن يأخذوا بهذه الأحكام على الوجه الموصّل إلى إصلاح الأنفس، وذلك هو الأثر المطلوب منها، ولن يكون ذلك إلا إذا أخذت بصورها ومعانيها، لا بأخذها بصورها الظاهرة فحسب. وقد اكتفى بعض الأمم من الدين ببعض رسومه الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين كانوا يكتفون ببعض القرابين وأحكام الدين الظاهرة، وهذا لا يكفى فى اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراده الله. فأرشدنا سبحانه إلى أن عمل الرسوم الظاهرة فى الدين كالغسل والتيمم لا يغنى عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته، ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي ألم تنظر إلى هؤلاء الذين أعطوا طائفة من الكتاب الإلهى، كيف حرموا هدايته واستبدلوا بها ضدها، فهم يختارون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أيها المؤمنون طريق الحق القويم كما ضلوا هم، فهم دائبون على الكيد لكم، ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا. والتعبير بالشراء دون الاختيار للإيماء إلى أنهم كانوا فرحين بما عملوا، ظانين أن الخير كل الخير فيما صنعوا، والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله، إذ هم لم يستظهروه زمن التنزيل كما حفظ القرآن ولم يكتبوا منه نسخا متعددة فى العصر الأول كما فعلنا حتى إذا ما فقد بعضها قام مقامه بعض آخر، بل كان عند اليهود نسخة

من التوراة هى التي كتبها موسى عليه السلام ففقدت، ويؤيد هذا قوله تعالى «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» . والخلاصة- إنهم لم يأخذوا الكتاب كله، بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعملوا بها وزادوا عليها، والزيادة فيه كالنقص منه، فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا وكانوا يفعلون ذلك، وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم الدينية فتمسكوا بها وهى ليست من التوراة ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام. فالذى لم يعملوا به من التوراة قسمان: أحدهما ما أضاعوه ونسوه، وثانيهما ما حفظوا حكمه وتركوا العمل به، وهو كثير أيضا. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) أي والله أعلم منكم بمن هم أعداؤكم فأنتم تظنون فى المنافقين أنهم منكم وما هم منكم، فهم يكيدون لكم فى الخفاء ويغشّونكم فى الجهر، فيبرزون الخديعة فى معرض النصيحة، ويظهرون لكم الولاء والرغبة والنصرة، والله أعلم بما فى قلوبهم من العداوة والبغضاء. (وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً) فهو الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلا حكم، وهو الذي ينصركم على أعدائكم بتوفيقكم لصالح العمل والهداية لأسباب النصر من الاجتماع والتعاون وسائر الوسائل التي تؤدى إلى القوة، فلا تطلبوا الولاية من غيره ولا النصرة من سواه، وعليكم باتباع السنن التي وضعها فى هذه الحياة، ومنها عدم الاستعانة بالأعداء الذين لا يعملون إلا لمصالحهم الخاصة كاليهود وغيرهم. (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) هذا بيان للمراد من الذين أوتوا الكتاب بأنهم يهود ونصارى، وقوله (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) وقوله (وَكَفى بِاللَّهِ) جملتان معترضتان بين البيان والمبيّن. ثم بين المراد من اشترائهم الضلالة بالهدى فقال: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) التحريف يطلق على معنيين: أحدهما تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له، كما يؤوّلون البشارات التي وردت فى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤولون ما ورد فى المسيح ويحملونه على شخص آخر ولا يزالون ينتظرونه

إلى اليوم. وثانيهما أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها فى موضع آخر، وقد حصل هذا فى كتب اليهود، خلطوا ما يؤثر عن موسى بما كتب بعده بزمن طويل، وكذلك ما وقع فى كلام غيره من أنبيائهم. اعترف بهذا بعض العلماء من أهل الكتاب، وقد كانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح فى زعمهم، وسبب هذا النوع من التحريف أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة بعد فقد النسخة التي كتبها موسى عليه السلام وأرادوا أن يؤلفوا بينها فجاء فيها ذلك الخلط بالزيادة والتكرار، كما أثبت ذلك بعض الباحثين من المسلمين كالشيخ رحمة الله الهندي فى كتابه [إظهار الحق] وأورد له من الشواهد ما لا يحصى. (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا) أي ويقول هؤلاء اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وقد روى عن مجاهد أنهم قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم، سمعنا قولك ولكن لا نطيعك، وكذلك كانوا يقولون له (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) يدعون عليه، على معنى لا أسمعك الله، فى الموضع الذي يقول فيه المتأدبون للمخاطبين «لا سمعت أذى أو لا سمعت مكروها» . وكذلك كانوا يقولون له: راعنا، وقد روى أن اليهود كانوا يتسابون بكلمة (راعينا) العبرانية فسمعوا بعض المؤمنين يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم: راعنا من المراعاة فافترصوها، وصاروا يلوون ألسنتهم بالكلمة ويصرفونها إلى المعنى الآخر. (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) أي هم يلوون ألسنتهم فيجعلونها فى الظاهر راعنا وبلىّ اللسان وإمالته (راعينا) قصدا منهم للسّباب والشتم والسخرية، أو جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة، ومن تحريف اللسان وليّه خطابهم للنبى صلى الله عليه وسلم وتحيته بقولهم (السام- الموت- عليكم) يوهمون بفتل اللسان وجمجته أنهم يقولون له (السلام عليكم) وقد ثبت هذا فى صحيح الأحاديث، كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علم عنهم ذلك كان يحيهم بقوله (وعليكم) أي كل أحد يموت. (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) أي ولو أنهم

[سورة النساء (4) : آية 47]

قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك، لعلمهم بصدقك ولوجود الأدلة والبينات المتظاهرة على ذلك، وكذلك لو قالوا: اسمع منا ما نقول وانظرنا: أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل علينا حتى نتفهم عنك ما تقول، لكان ذلك خيرا لهم وأصوب مما قالوه، لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة. ثم بين عاقبة أمرهم فقال: (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ولكن خذلهم الله وأبعدهم عن الطاعة بسبب كفرهم، إذا مضت سنة الله فى البشر بأن الكفر يمنع صاحبه من التفكر والتروّى والأدب فى الخطاب، ويجعله بعيدا من الخير والرحمة، فلا يمتّ إليهما بسبب، ولا يصل إليهما برحم ولا نسب. (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي فهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يعتدّ به، فهو لا يصلح عملا ولا يطهر نفسا ولا يرقى عقلا، ولو كان إيمانهم بنبيهم وكتابهم إيمانا كاملا لهداهم إلى التصديق بمن جاء مصدقا لما معهم من الكتاب، وبين لهم ما نسوا منه وما حرفوا فيه، كما جاءهم بمكارم الأخلاق والنظم الكاملة فى الاجتماع والتشريع، وبما إن اتبعوه كانوا على الهدى والرشاد، وعلى الحق والسداد. [سورة النساء (4) : آية 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) تفسير المفردات الكتاب: التوراة، الطمس: إزالة الأثر بمحوه أو إخفائه كما تطمس آثار الدار وأعلام الطرق، إما بأن تنقل حجارتها، وإما بأن تسفوها الرياح، ومنه الطمس على الأموال فى قوله «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» أي أزلها وأهلكها، والطمس على

المعنى الجملي

الأعين فى قوله «وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ» إما إزالة نورها وإما محو حدقتها، والوجه تارة يراد به الوجه المعروف، وتارة وجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد كما قال تعالى «أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ» وقال «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ» وقال «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» والأدبار واحدها دبر، وهو الخلف والقفا، والارتداد: هو الرجوع إلى الوراء، إما فى الحسيات وإما فى المعاني، ومن الأول الارتداد والفرار فى القتال، ومن الثاني قوله «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ» ونلعنهم: نهلكهم، كما لعنا أصحاب السبت، أي كما أهلكنا أصحاب السبت، وقيل مسخهم الله وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن جرير عن الحسن. المعنى الجملي بعد أن نعى على أهل الكتاب فى الآية السالفة اشتراءهم الضلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعضه الآخر- ألزمهم هنا بالعمل بما عرفوا وحفظوا بأن يؤمنوا بالقرآن، ذلك أن إيمانهم بالتوراة يستدعى الإيمان بما يصدّقها، وحذّرهم من مخالفة ذلك، وتوعدهم بالويل والثبور، وعظائم الأمور. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي أيها اليهود والنصارى آمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معكم، من تقرير التوحيد والابتعاد عن الشرك، وما يقوّى ذلك الإيمان من ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتلك هى أصول الدين وأركانه، والمقصد الأسمى من إرسال جميع الرسل، ولا خلاف بينهم فى ذلك، وإنما الخلاف فى التفاصيل وطرق حمل الناس عليها، وهدايتهم بها، وترقيتهم فى معارج الفلاح بحسب السنن التي وضعها الله فى ارتقاء البشر، بتعاقب الأجيال، واختلاف الأزمان.

انظر إلى الحكومات المختلفة المتعاقبة تجد أن رائدها العدل، ولكن الوسائل الموصلة إليه تختلف باختلاف الأمم والبيئة والزمان والمكان، فتغيير الحاكم الجديد لبعض ما كان عليه من قبله ليس ببدع ولا مستنكر إذا كان مقصده إقامة ميزان العدل فيما بين الناس، وحينئذ يسمى مصدقا لما قبله، لا مكذبا ولا مخالفا. والقرآن قرر نبوة داود وسليمان وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام فيما جاءوا به ووبّخ المدعين اتباعهم على إضاعتهم بعض ما جاءوا به وتحريف بعضه الآخر، وعلى عدم الاهتداء والعمل بما هو محفوظ عندهم، حتى إن أكثرهم هدموا الأسس التي جاء بها الأنبياء، ومن أعظمها التوحيد، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا. (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) أي آمنوا قبل أن يحل بكم العقاب من طمس الوجوه والرد على الأدبار: أي من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم بها من كيد الإسلام، ونردها خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وقد كان لهم عند نزول الآية شىء من المكانة والقوة والعلم والمعرفة. وجعل بعضهم الرد على الأدبار حسيا فقال: نردهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام، وهى بلادهم التي جاءوا منها. وخلاصة المعنى- آمنوا قبل أن نعمّى عليكم السبيل بما نبصّر المؤمنين بشؤونكم ونغريهم بكم، فتردّوا على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى غير الخير لكم. (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أي آمنوا قبل أن تقعوا فى الخيبة والخذلان وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم وإجلائكم من دياركم كما حدث لطائفة منكم، أو بالهلاك كما وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها. ثم هددهم وتوعدهم فقال: (وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) المراد من الأمر الأمر التكوينىّ المعبر عنه بقوله عز من قائل «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» أي إنما أمره بإيقاع شىء ما

[سورة النساء (4) : الآيات 48 إلى 50]

نافذ لا محالة، ومن هذا ما أوعدتم به، قال ابن عباس: يريد لا رادّ لحكمه ولا ناقض لأمره، فلا يتعذر عليه شىء يريد أن يفعله، كما تقول فى الشيء الذي لا شك فى حصوله: هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد. والخلاصة- إنه يقول لهم: أنتم تعلمون أن وعيد الله للأمم السالفة قد وقع ولا محالة، فاحترسوا وكونوا على حذر من وعيده لكم. [سورة النساء (4) : الآيات 48 الى 50] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) تفسير المفردات يقال افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلقه، وأصله من الفري بمعنى القطع، وتزكية النفس مدحها، قال تعالى «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» والظلم النقص، والفتيل: ما يكون فى شق نواة التمر مثل الخيط، وبه يضرب المثل فى الشيء الحقير كما يضرب بمثقال الذرة، قال الراغب: الإثم والآثام اسم للأفعال المبطّئة عن الثواب: أي عن الخيرات التي يثاب المرء عليها، وقد يطلق الإثم على ما كان ضارّا. المعنى الجملي بعد أن هدد سبحانه اليهود على الكفر وتوعدهم عليه بأشد الوعيد كطمس الوجوه والرد على الأدبار، ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محالة بقوله: وكان أمر الله مفعولا. ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر، فأما سائر الذنوب سواه فالله قد يغفرها ويتجاوز عن زلاتها.

الإيضاح

أخرج ابن المنذر عن أبى مجلز قال: لما نزل قوله تعالى «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله، فسكت، ثم قام إليه فقال يا رسول الله والشرك بالله تعالى فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية. الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الشرك بالله ضربان: 1) شرك فى الألوهية، وهو الشعور بسلطة وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى. 2) شرك فى الربوبية، وهو الأخذ بشىء من أحكام الدين بالتحليل والتحريم عن بعض البشر دون الوحى، وهذا ما أشار إليه الكتاب الكريم بقوله «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم فى أحكام الحلال والحرام. وقد سرى الشرك فى الألوهية والربوبية إلى بعض المسلمين منذ قرون كثيرة. وفى الآية إيماء إلى تسمية أهل الكتاب بالمشركين، وكأنه يقول لهم: لا يغرّنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء، وقد هدمتم أساس الدين بالشرك الذي لا يغفره الله بحال. والحكمة فى عدم مغفرة الشرك أن الدين إنما شرع لتزكية النفوس وتطهير الأرواح وترقية العقول، والشرك ينافى كل هذا، لأنه منتهى ما تهبط إليه العقول، ومنه تتولد سائر الرذائل التي تفسد الأفراد والجماعات، فبه يرفعون من دونهم أو من هم مثلهم إلى مرتبة التقديس والخضوع لهم، باعتبار أن السلطة العليا بأيديهم، وأن إرضاءهم وطاعتهم هو إرضاء لله وطاعة له.

وبالتوحيد يعتق المرء من رق العبودية لأحد من البشر أو لشىء من الأشياء السماوية أو الأرضية، ويكون حرا كريما لا يخضع إلا لمن خضعت لسننه الكائنات، بما أقامه من ربط الأسباب بالمسببات. والخلاصة- إن أرواح الموحدين تكون راقية لا تهبط بها الذنوب إلى الحضيض الذي تهوى إليه أرواح المشركين، إذ مهما عمل المشرك من الطيبات، فإن روحه تبقى مظلمة بالعبودية والخضوع لغير الله، ومهما أذنب الموحدون، فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، إذ خيرهم يغلب شرهم، ولا يبعد بهم الأمد وهم فى غفلة عن ربهم كما قال تعالى «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» فهم يسرعون إلى التوبة ويتبعون السيئة بالحسنة حتى يذهب أثرها من النفس، وذلك هو غفرانها. (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده الذين أذنبوا، ومشيئة الله تعالى تكون وفق حكمته، وعلى مقتضى سنته فى خليقته، وقد جرت سنته بألا يغفر الذنوب التي لا يتوب صاحبها، ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل آثارها من نفس فاعلها. وقصارى ذلك- إن الشرك لإفساده للنفوس يترتب عليه العقاب حتما فى الدنيا والآخرة، وما عداه لا يصل إلى درجته فى إفساد النفوس، فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية، فمنه ما يكون تأثيره السيء فى النفوس قويا، ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير بصالح العمل. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أي ومن يجعل لغير الله شركة مع الله قيّوم السموات والأرض- سواء أكانت الشركة بالإيجاد أو بالتحليل والتحريم- فقد اخترع ذنبا عظيم الضرر، تستصغر فى جنب عظمته جميع الذنوب والآثام، فهو جدير بألا يغفر، وما دونه قد يمحى بالغفران. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) أي انظر واعجب من الذين يدّعون أنهم أزكياء

بررة عند الله، مع ما هم عليه من الكفر وعظيم الذنب، زعما منهم أن الله يكفر لهم ذنوبهم التي عملوها، والله لا يغفر لكافر شيئا من كفره ومعاصيه. وتزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة كثيرة الخير والبركة بتنمية فضائلها وكمالاتها، ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام التي تعوقها عن الخير وهذه التزكية محمودة، وهى التي عناها الله سبحانه بقوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» . وتارة تكون بالقول بادعاء الكمال والزكاة، وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقا، ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور، ومن آثاره السيئة الاستكبار عن قبول الحق، والانتفاع بالنصح. روى ابن جرير عن الحسن أن الآية نزلت فى اليهود والنصارى حيث قالوا «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» وقالوا «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» وقالت اليهود «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» وروى عن السدى أنه قال: نزلت فى اليهود حيث قالوا: إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كفّر عنا بالليل. وقد رد الله عليهم دعواهم الزكاة والطهارة فقال: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي لا عبرة بتزكيتكم أنفسكم بأن تقولوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وبأنكم لا تعذبون فى النار، لأنكم شعب الله المختار، وتتفاخروا بنسبكم وبدينكم، بل الله يزكى من يشاء من عباده، من أي شعب كان، ومن أي قبيلة كانت، فيهديهم إلى صحيح العقائد، وفاضل الآداب، وصالح الأعمال. (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا ينقص الله هؤلاء الذين يزكون أنفسهم شيئا من الجزاء على أعمالهم. فخذلانهم فى الدنيا بالعبودية لغيرهم، وفى الآخرة بالعذاب والحرمان من النعيم والثواب، ما كان بظلم من الله عز اسمه، بل كان بنقصان درجات أعمالهم، وعجزها

عن الصعود بأرواحهم إلى مستوى الرفعة والكرامة، لتزكيتهم إياها بالقول الباطل دون الفعل، فلم تصل بهم نفوسهم إلى مراتب الفوز والفلاح. وفى الآية موضعان من العبرة: 1) أن الله يجزى عامل الخير بعمله ولو مشركا، لأن لعمله أثرا فى نفسه يكون مناط. الجزاء، فيخفف عذابه عن عذاب غيره كما ورد فى الأحاديث، إن بعض المشركين يخفف عنهم العذاب بعمل لهم، فحاتم الطائي بكرمه، وأبو طالب بكفالته النبي صلى الله عليه وسلم ونصره إياه، وأبو لهب لعتقه جاريته ثوبة حين بشرته بمولد النبي صلى الله عليه وسلم. 2) أن يحذر المسلمون الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب فى عصر التنزيل وما له، وأن يبتعدوا عن تزكية أنفسهم بالقول، واحتقار من عداهم من المشركين، وأن يعلموا أن الله لا يحابى فى نظم الخليقة أحدا لا مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا، ألا ترى أن خاتم النبيين قد شجّ رأسه، وكسرت سنّه، وردّى فى حفرة من جراء تقصير عسكره فيما يجب من اتباع أمر القائد وعدم مخالفته، وأن يهتدوا بكتاب الله وبسنته فى الأمم، وأن يتركوا وساوس الدجالين الذين يصرفونهم عن الاهتداء بهدى كتابهم، ويشغلونهم بما لم ينزل الله به عليهم سلطانا، فإنه ما زال ملكهم وما ذهب عزهم إلا بتركهم لهدى دينهم، واتباعهم لأولئك الدجالين والمشعوذين. ثم أكد التعجيب من حالهم الذي فهم من الآية السابقة فقال: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) أي انظر كيف يكذبون على الله بتزكية أنفسهم وزعمهم أن الله يعاملهم معاملة خاصة بهم، لا كما يعامل سائر عباده. (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) أي إن تزكية النفس، والغرور بالدين والجنس، مما يبطّىء عن نافع العمل الذي يثاب عليه الناس، وكفى بهذا إثما ظاهرا، لأنه لا أثر له من حق، ولا سمة عليه من صواب، فالله لا يعامل شعبا معاملة خاصة تغاير سننه التي وضعها فى الخليقة، وما مصدر هذه الدعوى إلا الغرور والجهل، وكفى بذلك شرا مستطيرا.

[سورة النساء (4) : الآيات 51 إلى 55]

[سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 55] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) تفسير المفردات الجبت: أصله الجبس، وهو الرديء الذي لا خير فيه، ويراد به هنا الأوهام والخرافات والدّجل، والطاغوت ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج من الحق، من مخلوق يعبد، ورئيس يقلّد، وهوى يتّبع، وروى عن عمر ومجاهد أنه الشيطان، والنقير: النقرة التي فى ظهر النواة، ومنها تنبت النخلة يضرب بها المثل فى الشيء الحقير التافه، كما يضرب المثل بالقطمير وهو القشرة الرقيقة التي على النواة بينها وبين التمرة، والحسد تمنى زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها، والناس هنا محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه، والفضل النبوة والكرامة فى الدين والدنيا، والكتاب العلم بظاهر الشريعة، والحكمة العلم بالأسرار المودعة فيها، والملك العظيم ما كان لأنبياء بنى إسرائيل كداود وسليمان عليهما السلام، وصدّ عن الشيء: أعرض عنه، ونار مسعرة: موقدة، ويقال أوقدت النار وأسعرتها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبنى قريظة، هم حيّ بن أخطب، وسلّام بن أبى الحقيق، وأبو عمارة، وهوذة بن قيس، وباقيهم من بنى النّضير، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار اليهود وأهل العلم بالكتب الأولى، فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ- إلى قوله- مُلْكاً عَظِيماً) قاله السيوطي فى لباب النقول. وقد تكون هذه الآيات نزلت بعد غزوة الأحزاب أو فى أثنائها، إذ نقض اليهود عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا مع المشركين على استئصال شأفة المسلمين حتى لا يظهروا عليهم، ومن ثم فضلوهم على المؤمنين، كما أن هذا التفضيل ربما كان عند النداء بالنفير للحرب. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ؟) أي ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، كيف حرموا هدايته وهداية العقل والفطرة، وآمنوا بالدجل والخرافات، وصدقوا بالأصنام والأوثان، ونصروا أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم والمعترفين بحقية كتبهم؟. (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) أي ويقولون إن المشركين أرشد طريقة فى الدين من المؤمنين الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم. قال ابن جرير: إن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة، والإذعان له بالطاعة فى الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، وأنهم قالوا إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وأن دين أهل التكذيب لله ورسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ورسوله اه.

وروى عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يغزوه، وقال إنا معكم نقاتله، فقالوا إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهدين الصنمين وآمن بهما ففعل، ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء (الناقة الضخمة السّنام) ونسقى اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقرى الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه، وخرج من من بلده، فقال: بل أنتم خير وأهدى. ثم بين عاقبة أمرهم وشديد نكالهم فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أي أولئك الذين اقتضت سنن الله فى خلقه أن يكونوا بعيدين عن رحمته، مطرودين من فضله وجوده. (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) أي ومن يبعده الله من رحمته فلن ينصره أحد من دونه، إذ لا سبيل لأحد إلى تغيير سننه تعالى فى خليقته، وهو قد جعل الخذلان نصيب من يؤمنون بالجبت والطاغوت، إذ هم قد تجاوزوا سنن الفطرة واتبعوا الخرافات والأوهام، لأنه إنما ينصر المؤمنين باجتنابهم ذلكَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» . ثم انتقل من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت، وتفضيلهم المشركين على المؤمنين، إلى توبيخهم على البخل والأثرة، وطمعهم فى أن يعود إليهم الملك فى آخر الزمان، وأنه سيخرج منهم من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم فقال: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أي إنهم لا حظ لهم من الملك، إذ هم فقدوه بظلمهم وطغيانهم، وإيمانهم بالجبت والطاغوت. (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) أي إنه لو كان لهم نصيب من الملك لا تبعوا طريق. البخل والأثرة، وحصروا منافعه فى أنفسهم، فلا يعطون الناس منه نقيرا. والخلاصة- إن اليهود ذوو أثرة وشحّ يشق عليهم أن ينتفع منهم غير اليهودي، فإذا صار لهم ملك حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره، ومن كانت هذه حاله

حرص أشد الحرص على ألا يظهر نبى من العرب يكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل، ولا تزال هذه حالهم إلى اليوم، فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة ولا يعطونهم منها نقيرا. ولكن هل يعود الملك كما يريدون؟ ليس فى الآية ما يثبت ذلك ولا ما ينفيه، وإنما الذي فيها بيان طباعهم فيه لو حصل. ثم انتقل من توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد فقال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي إن هؤلاء يريدون أن يضيق فضل الله بعباده، ولا يحبون أن يكون لأمة فضل أكثر مما لهم أو مثله، لما استحوذ عليهم من الغرور بنسبهم وتقاليدهم مع سوء حالهم. وهم قد رأوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطى النبوة جعله الله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أعوانا وأنصارا من أجل هذا حسدوه حسدا عظيما. وبعد أن ذكر أن كثرة نعمه عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود، بين ما يدفع ذلك الحسد فقال: (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) أي إن يحسدوا محمدا على ما أوتى فقد أخطئوا، إذ ليس هذا ببدع منا، لأنا قد آتينا مثل هذا من قبل لآل إبراهيم والعرب منهم فإنهم من ذرية ولده إسماعيل، فلم لم تعجبوا مما آتى آل إبراهيم وتعجبون مما آتى محمدا صلى الله عليه وسلم؟ ولم لا يكون مستبعدا فى حق هؤلاء ومستبعدا فى حق محمد صلى الله عليه وسلم؟ وفى الآية رمز إلى أنه سيكون للمسلمين ملك عظيم يتبع النبوة والحكمة، وقد ظهرت تباشيره عند نزول الآيات بالمدينة، فقد قويت شوكتهم وأخذ أمرهم يعظم رويدا رويدا. والخلاصة- إن اليهود إما مغرورون مخدوعون يظنون أن فضل الله لا يعدوهم، ورحمته تضيق بغيرهم، وإما حاسبون أن ملك الكون فى أيديهم، فهم لا يعطون

[سورة النساء (4) : الآيات 56 إلى 57]

أحدا منه ولو حقيرا كالنقير، وإما حاسدون للعرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادئه ومقدماته. (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) قوله به أي بمن تقدم من الأنبياء كإبراهيم وآله، أي إن أولئك الأنبياء مع ما اختصوا به من النبوة والملك لم تؤمن أممهم جميعا بهم بل منهم من آمن بهم ومنهم من بقي على كفره، فلا تعجب أيها الرسول مما عليه قومك فإن هذه حال جميع الأمم مع أنبيائهم. وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، ليكون أشد صبرا على ما يناله من قبلهم من الأذى والجحود والإنكار «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» . (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي إن انصرف عنهم بعض العذاب فى الدنيا فكفاهم ما أعدّ لهم من سعير جهنم فى العقبى، لأنهم آثروا اتباع الباطل والعمل بما يزينه لهم على اتباع الحق، ولا يزال ذلك دأبهم حتى يرديهم فى دار الشقاء والنكال وهى جهنم وبئس القرار. [سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) تفسير المفردات نصليهم: نشويهم بالنار، يقال شاة مصلية، أي مشوية، ونضجت: احترقت وتهرأت وتلاشت، من قولهم نضج الثمر واللحم نضحا: إذا أدركا، ليذوقوا العذاب:

المعنى الجملي

أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كما تقول للعزيز: أعزك الله: أي أدام لك العز وزادك فيه والعزيز هو القادر الغالب على أمره، والحكيم: هو المدبر للأشياء وفق الحكمة والصواب، ومطهرة: أي من العيوب والأدناس الحسية والمعنوية، وقوله: ظلا ظليلا كقوله ليل أليل وصف للمبالغة والتأكيد فى المعنى: أي ظل وارف لا يصيب صاحبه حر ولا سموم، ودائم لا تنسخه الشمس، وقد يعبر بالظل عن العزة والمتعة والرفاهية فيقال «السلطان ظل الله فى أرضه» . ولما كانت بلاد العرب غاية فى الحرارة كان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة، وكان ذلك عندهم رمزا للنعيم المقيم، والآيات: الأدلة التي ترشد إلى أن هذا الدين حق، ومن أجلّها القرآن لأنه أول الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها، والكفر بها يعم إنكارها والغفلة عن النظر فيها وإلقاء الشبهات والشكوك مع العلم بصحتها عنادا وحسدا، والخلود: الدوام، وقد أكده بقوله أبدا، ومطهرة: أي بريئات من المعايب الجسمانية والطباع الردية. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه فى الآية السالفة أن ممن دعوا إلى التصديق بالأنبياء فريقا نأى وأعرض عن اتباع الحق، ثم توعد من أعرض بسعير جهنم. فصل هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) أي طن الله تعالى قد أعد لمن جحد بآياته التي أنزلها على أنبيائه نارا مسعرة تشويهم وتحرق أجسامهم حتى تفقدها الحس والإدراك. (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) أي كلما فقدت التماسك الحيوى وبعدت عن الحس والحياة بدلها جلودا أخرى حية تشعر بالألم وتحس بالعذاب. قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا عليه سحائب الرحمة فى كتابه [الإسلام

والطب الحديث] والحكمة فى تبديل جلود الكفار، أن أعصاب الألم هى فى الطبقة الجلدية، وأما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية فالإحساس فيها ضعيف، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألما شديدا، بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة، لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألما كثيرا، فالله يقول لنا إن النار كلما أكلت الجلد الذي فيه الأعصاب نجدده كى يستمر الألم بلا انقطاع، ويذوقوا العذاب الأليم، وهنا تظهر حكمة الله قبل أن يعرفها الإنسان، وكان الله عزيزا حكيما اه. ثم ذكر السبب فيما تقدم فقال: (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ليدوم لهم ذوق العذاب، لأن الإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة فى الجلد، وفى هذا إزالة لوهم ربما يعرض لبعض الناس قياسا على ما يعهدون فى أنفسهم فى الدنيا من أن الذي يتعود الألم يقلّ شعوره به ويصير عاديا عنده، كما يشاهد فى كثير من الآلام والأمراض التي يطول أمدها. وفى التعبير بيذوقوا إيماء إلى أن إحساسهم بذلك العذاب يكون كإحساس الذائق المذوق لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق. ثم أكد سابق الكلام وبين علته فقال: (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) أي إنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شىء مما توعد به أو وعد، حكيم يعاقب من يعاقبه وفق الحكمة، ومن حكمته أن ربط الأسباب بالمسببات فلا يستطيع أحد أن يغلبه على أمره فيبطل اطرادها، فهو كما جعل الكفر والمعاصي سببا للعذاب كما تقدم فى الآية، جعل الإيمان والعمل الصالح سببا للنعيم، وذلك ما بينه بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله سيدخلون جنات يتمتعون بنعيمها العظيم كفاء ما أخبتوا إلى ربهم وقدّموا من عمل صالح، لأن الإيمان وحده

[سورة النساء (4) : الآيات 58 إلى 59]

لا يكفى لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء، بل لا بد معه من عمل صالح يشعر به المرء بالقرب من ربه والشعور بهيبته وجلال سلطانه. (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي لهم أزواج مبرآت من العيوب الجسمانية والعيوب الخلقية، فليس فيهن ما يوحشهم منهن ولا ما يكدر صفوهم، وبذا تكمل سعادتهم ويتم سرورهم فى تلك الحياة التي لا نعرف كنهها، وإنما نفهمها على طريق التمثيل وقياس الغائب على الشاهد. (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) أي ونجعلهم فى مكان لا حرّ فيه ولا قرّ. وفى ذلك إيماء إلى تمام النعمة والتمتع برغد العيش وكمال الرفاهية. [سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) تفسير المفردات الأمانة: الشيء الذي يحفظ ليؤدّى إلى صاحبه، ويسمى من يحفظها ويؤديها حفيظا وأمينا ووفيّا، ومن لا يحفظها ولا يؤديها خائنا، والعدل: إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه، والتأويل بيان المآل والعاقبة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السابقة الأجر العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات وكان من أجلّ تلك الأعمال أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس- لا جرم أمر بهما فى هذه الآية.

الإيضاح

روى عن ابن عباس قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان ابن طلحة، فلما أتاه قال أرنى المفتاح (مفتاح الكعبة) فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله بأبى أنت وأمي اجمعه لى مع السقاية، فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هات المفتاح يا عثمان، فقال هاك أمانة الله، فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) حتى فرغ من الآية) الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) الأمانة على أنواع: 1) أمانة العبد مع ربه، وهى ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقرّبه من ربه، وقد ورد فى الأثر: إن المعاصي كلها خيانة لله عز وجل. 2) أمانة العبد مع الناس، ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك مما يجب للأهل والأقربين وعامة الناس والحكام. ويدخل فى ذلك عدل الأمراء مع الرعية وعدل العلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم فى دنياهم وأخراهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال، ومن المواعظ والأحكام التي تقوّى إيمانهم وتنقذهم من الشرور والآثام وترغبهم فى الخير والإحسان، وعدل الرجل مع زوجه بألا يفشى أحد الزوجين سرا للآخر ولا سيما السر الذي يختص بهما ولا يطلع عليه عادة سواهما. 3) أمانة الإنسان مع نفسه، بألا يختار لنفسه إلا ما هو الأصلح والأنفع له فى الدين والدنيا، وألا يقدم على عمل يضره فى آخرته أو دنياه، ويتوقى أسباب الأمراض والأوبئة بقدر معرفته وما يعرف من الأطباء، وذلك يحتاج إلى معرفة علم الصحة ولا سيما فى أوقات انتشار الأمراض والأوبئة.

(وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أمر الله بالعدل فى آيات كثيرة: منها هذه الآية، ومنها «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وقوله «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» وقوله «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» والحكم بين الناس له طرق: منها الولاية العامة والقضاء وتحكيم المتخاصمين لشخص فى قضية خاصة. والحكم بالعدل يحتاج إلى أمور: 1) فهم الدعوى من المدّعى والجواب من المدّعى عليه، ليعرف موضوع التنازع والتخاصم بأدلته من الخصمين. 2) خلوّ الحاكم من التحيز والميل إلى أحد الخصمين. 3) معرفة الحاكم الحكم الذي شرعه الله ليفصل بين الناس على مثاله من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة. 4) تولية القادرين على القيام بأعباء الأحكام. وقد أمر المسلمون بالعدل فى الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق، قال تعالى «وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» . ثم بين حسن العدل وأداء الأمانة فقال: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي نعم الشيء الذي يعظكم به أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس، إذ لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم فى الدارين. (إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) أي عليكم أن تعملوا بأمر الله ووعظه، فإنه أعلم منكم بالمسموعات والمبصرات، فإذا حكمتم بالعدل فهو سميع لذلك الحكم، وإن أديتم الأمانة فهو بصير بذلك. وفى هذا وعد عظيم للمطيع، ووعيد شديد للعاصى، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه السلام «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وفيه أيضا إيماء إلى الاهتمام بحكم القضاة والولاة لأنه قد فوض إليهم النظر فى مصالح العباد.

وبعد أن أمر سبحانه برد الأمانات إلى أهلها، وبالحكم بين الناس بالعدل مخاطبا بذلك جمهور الأمة، أمر بطاعة الله والرسول وطاعة أولى الأمر، إذ لا تقوم المصالح العامة إلا بذلك، فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أي أطيعوا الله واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول لأنه يبين للناس ما نزل إليهم، فقد جرت سنة الله بأن يبلغ عنه شرعه رسل منهم تكفل بعصمتهم وأوجب علينا طاعتهم. وأطيعوا أولى الأمر، وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس فى الحاجات والمصالح العامة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر وحكم وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا أمناء وألا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله التي عرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين فى بحثهم فى الأمر واتفاقهم عليه. وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد بل إنما يؤخذ عن الله ورسوله فحسب، وليس لأحد رأى فيه إلا ما يكون فى فهمه. فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع وكانوا مختارين فى ذلك غير مكرهين بقوة أحد ولا نفوذه فطاعتهم واجبة، كما فعل عمر حين استشار أهل الرأى من الصحابة فى الديوان الذي أنشأه وفى غيره من لمصالح التي أحدثها برأى أولى الأمر من الصحابة ولم تكن فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعترض عليه أحد من علمائهم فى ذلك. (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) أي فإذا لم يوجد نص على الحكم فى الكتاب ولا فى السنة ينظر أولو الأمر فيه، لأنهم هم الذين يوثق بهم، فإذا اتفقوا وأجمعوا وجب العمل بما أجمعوا عليه، وإن اختلفوا وتنازعوا وجب عرض ذلك على الكتاب والسنة وما فيهما من القواعد العامة، فما كان موافقا لهما علم أنه صالح لنا ووجب الأخذ به، وما كان مخالفا لهما علم أنه غير صالح ووجب تركه، وبذا يزول التنازع وتجتمع

الكلمة، وهذا الرد واستنباط الفصل فى الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس والأول هو الإجماع الذي يعتدّ به. ومما تقدم تعلم أن الآية مبينة لأصول الدين فى الحكومة الإسلامية، وهى: 1) الأصل الأول القرآن الكريم، والعمل به هو طاعة الله تعالى. 2) الأصل الثاني سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل به طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. 3) الأصل الثالث إجماع أولى الأمر وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء فى الجيش والمصالح العامة كالتجار والصناع والزراع، ورؤساء العمال والأحزاب ومديرى الصحف ورؤساء تحريرها- وطاعتهم حينئذ هى طاعة أولى الأمر. 4) الأصل الرابع عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة المعلومة فى الكتاب والسنة، وذلك قوله: فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول. فهذه الأربعة الأصول هى مصادر الشريعة، ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل المتنازع فيها على الكتاب والسنة ممن يختارهم أولو الأمر من علماء هذا الشأن. ويجب على الحكام الحكم بما يقرّونه، وبذلك تكون الدولة الإسلامية مؤلفة من جماعتين: الأولى الجماعة المبينة للأحكام الذين يسمون الآن (الهيئة التشريعية) والجماعة الثانية جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يسمون (الهيئة التنفيذية) . وعلى الأمة أن تقبل هذه الأحكام وتخضع لها سرا وجهرا، وهى بذلك لا تكون خاضعة لأحد من البشر، لأنها لم تعمل إلا بحكم الله تعالى أو حكم رسوله صلى الله عليه وسلم بإذنه، أو حكم نفسها الذي استنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد والعلم والخبرة من أفرادها الذين وثقت بإخلاصهم وعدم اتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فإن المؤمن لا يقدم شيئا على حكم الله، كما أنه يهتم باليوم الآخر أشد من اهتمامه بحظوظ الدنيا.

[سورة النساء (4) : الآيات 60 إلى 63]

وفى هذا دليل على أن من لا يقدم اتباع الكتاب والسنة على أهوائه وحظوظه فإنه لا يكون مؤمنا حقا. (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي ذلك الردّ للشىء المتنازع فيه إلى الله ورسوله خير لكم، لأنه أقوى الأسس فى حكومتكم، والله أعلم منكم بما هو الخير لكم، ومن ثم لم يشرع لكم فى كتابه وعلى لسان رسوله إلا ما فيه مصالحكم ومنافعكم وما هو أحسن عاقبة لما فيه من قطع عرق التنازع وسد ذرائع الفتن. [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) تفسير المفردات الزعم فى أصل اللغة: القول حقا كان أو باطلا ثم كثر استعماله فى الكذب، قال الراغب: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب، وقد جاء فى القرآن فى كل موضع ذم القائلين به كقوله «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ» وقوله «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا» . والطاغوت: بمعنى الطغيان الكثير، ضلالا بعيدا: أي بعيدا صاحبه

المعنى الجملي

عن الحق، إذ هو لا يهتدى إلى الطريق الموصلة إليه، صدودا: أي إعراضا متعمدا عن قبول حكمك، إحسانا: أي فى المعاملة بين الخصوم، وتوفيقا: أي بينهم وبين خصومهم بالصلح، فأعرض عنهم: أي اصرف وجهك عنهم، وعظهم: أي ذكرهم بالخير على الوجه الذي ترقّ له قلوبهم، قولا بليغا: أي يبلغ من نفوسهم الأثر الذي تريد أن تحدثه فيها. المعنى الجملي بعد أن أوجب سبحانه فى الآية السالفة على جميع المؤمنين طاعة الله وطاعة الرسول ذكر فى هذه الآية أن المنافقين والذين فى قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه بل يريدون حكم غيره. أخرج الطبراني عن ابن عباس قال «كان أبو برزة الأسلمىّ كاهنا يقضى بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا؟ - إلى قوله- إلا إحسانا وتوفيقا» . وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك أو قال إلى النبي لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة فى الحكم فاختلفا ثم اتفقا على أن يأتيا كاهنا فى جهينة فنزلت. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أي انظر إلى عجيب أمر هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بك وآمنوا بمن قبلك من الأنبياء ويأتون بما ينافى الإيمان، إذ الإيمان الصحيح بكتب الله ورسله يقتضى العمل بما شرعه الله على ألسنة أولئك الرسل وترك العمل مع الاستطاعة دليل على أن الإيمان غير راسخ فى نفس مدّعيه فكيف إذا عمل بضد ما شرعه الله؟ فهؤلاء المنافقون إذ هربوا من التحاكم إليك

وقبلوا التحاكم إلى مصدر الطغيان والضلال من أولئك الكهنة والمشعوذين- سواء أكان أبا برزة الأسلمى أم كعب بن الأشرف- دليل على أن الإيمان ليس له أثر فى نفوسهم، بل هى كلمات يقولونها بأفواههم لا تعبر عما تلجلج فى صدورهم، وكيف يزعمون الإيمان بك وكتابك المنزل عليك يأمرهم بالكفر بالجبت والطاغوت فى نحو قوله «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» وقوله «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» وهم يتحاكمون إليه؟ فألسنتهم تدّعى الإيمان بالله وبما أنزله على رسله، وأفعالهم تدلّ على كفرهم بالله وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم لحكمه. ويدخل فى هؤلاء كل من يتحاكم إلى الدّجالين كالعرّافين وأصحاب المندل والرمل ومدّعى الكشف والولاية. وفى الآية إيماء إلى أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد، ومن أجل هذا حكم الصحابة بردّة الذين منعوا الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم. (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً) أي ويريد الشيطان أن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة، فهم لشدة بعدهم عن الحق لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه. والخلاصة- إن الواجب على المسلمين ألا يقبلوا قول أحد ولا يعملوا برأيه فى شىء له حكم فى كتاب الله أو سنة رسوله، وما لا حكم له فيهما فالعمل فيه برأى أولى الأمر، لأنه أقرب إلى المصلحة. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) أي وإذا قيل لأولئك الزاعمين للإيمان الذين يريدون التحاكم إلى الطاغوت: تعالوا إلى ما أنزل الله فى القرآن لنعمل به ونحكّمه فيما بيننا، وإلى الرسول ليحكم بيننا

بما أراه الله، رأيتهم يعرضون عنك ويرغبون عن حكمك إعراضا متعمدا منهم، وهذه الآية مؤكدة لما دلت عليه الآية التي قبلها من نفاق هؤلاء الذين يرغبون عن حكم الله وحكم رسوله إلى حكم الطاغوت من أصحاب الأهواء، لأن حكم الرسول لا يكون إلا حقا متى بينت الدعوى على وجهها وأما حكم غيره بشريعته فقد يقع فيه الخطأ بجهل القاضي بالحكم، أو بجهل تطبيقه على الدعوى. وهى أيضا دالة على أن من أعرض عن حكم الله متعمدا، ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقا لا يعتقد ما يزعمه من الإيمان، ولا ما يدّعيه من الإسلام. (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) أي فكيف يفعلون إذا أطلعك الله على شأنهم فى إعراضهم عن حكم الله وعن التحاكم إليك، وتبين أن عملهم يكذب دعواهم، وأن تلك الحال التي اختاروا فيها التحاكم إلى غير الرسول لا تدوم لهم، وأنه يوشك أن يقعوا فى مصاب بسبب ما قدمت أيديهم من هذه الأعمال وأمثالها، ثم اضطروا إلى الرجوع إليك لتكشفه عنهم، واعتذروا عن صدودهم بأنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا فى المعاملة وتوفيقا بينهم وبين خصومهم بالصلح أو بالجمع بين منفعة الخصمين ويحلفون بالله على ذلك وهم مخادعون. وفى الآية وعيد شديد لهم على ما فعلوا، وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون ولا يغنى عنهم الاعتذار. (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) هذا أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر، مسرة أو حزن، فيقول الرجل لمن يحبه ويحفظ وده: الله يعلم ما فى نفسى لك، أي إنه لكثرته وقوته لا يقدر على معرفته إلا الله تعالى، ويقول فى العدو الماكر المخادع: الله يعلم ما فى قلبه، أي إن ما فى قلبه من الخبث والخديعة بلغ حدا كبيرا لا يعلمه إلا علام الغيوب.

فالمعنى هنا أن ما فى قلوبهم من الكفر والحقد والكيد وتربص الدوائر بالمؤمنين بلغ من الفظاعة مقدارا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً) طلب إليه سبحانه أن يعاملهم بثلاثة أشياء. 1) الإعراض عنهم وعدم الإقبال عليهم بالبشاشة والتكريم، إذ هذا يحدث فى نفوسهم الهواجس والخوف من سوء العاقبة، وهم لم يكونوا على يقين من أسباب كفرهم ونفاقهم، وكانوا يحذرون أن تنزل عليه سورة تنبئهم بما فى قلوبهم، وإذا استمر هذا الإعراض عنهم ظنوا الظنون، وقالوا لعله عرف ما فى نفوسنا، لعله يريد أن يؤاخذنا بما فى بواطننا. 2) النصح والتذكير بالخير على وجه ترقّ له قلوبهم ويبعثهم على التأمل فيما يلقى إليهم من العظات والزواجر. 3) القول البليغ المؤثر فى النفس الذي يغتمون به ويستشعرون منه الخوف بأن يتوعدهم بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق، ويخبرهم بأن ما فى نفوسهم من مكنونات الشر والنفاق غير خاف على العليم بالسر والنجوى، وأنه لا فرق بينهم وبين الكفار، وإنما رفع الله عنهم السيف لأنهم أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر وأضمروه، فإن فعلوا ما ينكشف به غطاؤهم لم يبق إلا السيف، وفى الآية شهادة للنبى صلى الله عليه وسلم بالقدرة على بليغ الكلام وتفويض أمر الوعظ والقول البليغ إليه، لأن لكل مقام مقالا، والكلام يختلف تأثيره باختلاف أفهام المخاطبين، كما أن فيها شهادة له بالحكمة ووضع الكلام فى مواضعه، وهذا نحو ما وصف الله به نبيه داود «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» . قال القاضي عياض فى كتابه [الشفاء] فى وصف بلاغته صلى الله عليه وسلم: أما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل

[سورة النساء (4) : الآيات 64 إلى 65]

الأرفع، والموضع الذي لا يجهل، قد أوتى جوامع الكلم، وحص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها ... حتى كان كثير من أصحابه يسألونه فى غير موضع عن شرح كلامه وتفسير قوله ... وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونحد ككلامه مع ذى المعشار الهمداني وطهفة النّهدى والأشعث بن قيس ووائل بن حجر الكندي وغيرهم من أقيال حضر موت وملوك اليمن اه. [سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 65] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) تفسير المفردات إذن الله: إعلامه الذي نطق به وحيه وطرق آذانكم- كقوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول- استغفروا الله: أي طلبوا مغفرته وندموا على ما فعلوا، واستغفر لهم الرسول: أي دعا الله أن يغفر لهم، يحكموك: يجعلوك حكما ويفوضوا الأمر إليك، وشجر: اختلف واختلط الأمر فيه، مأخوذ من التفاف الشجر، فإن الشجر تتداخل بعض أغصانه فى بعض، حرجا: ضيقا، قضيت: حكمت، التسليم: الانقياد والإذعان. المعنى الجملي بعد أن أوجب سبحانه فيما سلف طاعة الله وطاعة الرسول وشنع على من رغب عن التحاكم إلى الرسول وآثر عليه التحاكم إلى الطاغوت- ذكر هنا ما هو كالدليل على استحقاق الرسول للطاعة، وعلى استحقاق المنافقين الذين لم يقبلوا التحاكم للمقت والخذلان، لأنهم لم يرضوا بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم.

الإيضاح

الإيضاح (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي إن سنتنا فى هذا الرسول كسنتنا فى الرسل قبله، فما نرسلهم إلا ليطاعوا بإذن الله، فمن خرج عن طاعتهم أو رغب عن حكمهم، خرج عن حكمنا وسنتنا وارتكب أكبر الآثام. وجىء بقوله: بإذن الله، لبيان أن الطاعة الذاتية لا تكون إلا لله رب العالمين، لكنه قد أمر أن تطاع رسله فطاعتهم واجبة بإذنه وإيجابه. (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أي ولو أن أولئك القوم حين ظلموا أنفسهم ورغبوا عن حكمك إلى حكم الطاغوت- جاءوك فاستغفروا الله من ذنبهم وندموا على ما فرط منهم وتابوا توبة نصوحا ودعا لهم الرسول بالمغفرة، لتقبل الله توبتهم وغمرهم بإحسانه، فرحمته وسعت كل شىء. وإنما قرن استغفار الرسول باستغفار الله، لأن ذنبهم لم يكن ظلما لأنفسهم فحسب بل تعدى إلى إيذاء الرسول من حيث إنهم أعرضوا عن حكمه وهو صاحب الحق فى الحكم وحده، فكان لا بد فى توبتهم وندمهم على ما فرط منهم أن يظهروا ذلك للرسول ليصفح عنهم، لأنهم اعتدوا على حقه، وليدعو لهم بالمغفرة، إذ أعرضوا عن حكمه. وفى الآية إيماء إلى أن التوبة الصحيحة تقبل حتما إذا استكملت شرائطها، ومنها أن تكون عقب الذنب مباشرة، وقد سمى الله ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس، أي إفسادا لها، لأن الرسول هو الهادي إلى مصالح الناس فى الدنيا والأخرى، وهذا الظلم شامل للاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك. والاستغفار لا يكون مقبولا إلا إذا ناجى العبد ربه عازما على اجتناب الذنب وعدم العودة إليه مع الصدق والإخلاص لله فى ذلك- أما الاستغفار باللسان عقب

الذنب دون أن يوجد هذا التوجه بالقلب فلا يكون استغفارا معتدّا به عند الله، إذ لا بد أن يشعر القلب أوّلا بألم المعصية وسوء مغبتها، وبالحاجة إلى التزكى من دنسها، مع العزم القوىّ على اجتناب هذا الدنس، ومتى أخلص الداعي أجاب الله دعاءه بإعطائه ما طلب أو بغيره من الأجر والثواب. (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أقسم سبحانه بربوبيته لرسوله بأن أولئك الذين رغبوا عن التحاكم إليك هم ومن ماثلهم من المنافقين، لا يؤمنون إيمانا حقا وهو إيمان الإذعان والانقياد إلا إذا كملت لهم ثلاث خصال: (1) أن يحكموا الرسول فى القضايا التي يختصمون فيها ويشتجرون ولا يتبين لهم وجه الحق فيها (2) ألا يجدوا حرجا وضيقا فيما يحكم به: أي أن تذعن نفوسهم لقضائه وحكمه فيما شجر بينهم بلا امتعاض من قبوله والعمل به، إذ المؤمن الكامل ينشرح صدره لحكم الرسول لأول وهلة، لأنه الحق وأن الخير والسعادة فى الإذعان له. (3) الانقياد والتسليم لذلك الحكم، فكثيرا ما يعرف الشخص أن الحكم حق، لكنه يتمرد عن قبوله عنادا أو يتردد فى ذلك. وفى هذه الآية إشارة إلى شيئين: (1) عصمة النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى أنه لا يحكم إلا بالحق المطابق لصورة الدعوى وظاهرها لا بحسب الواقع فى نفسه، إذ الحكم فى شريعته على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال صلى الله عليه وسلم «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن، ومن ثم كانوا يسألونه إذا أمر بأمر لم يظهر لهم أنه الرأى، أعن وحي هو أم عن رأى؟ فإن كان عن وحي

[سورة النساء (4) : الآيات 66 إلى 68]

أطاعوا وسلموا، وإن كان عن رأى ذكروا ما عندهم، وربما يرجع إليهم كما حدث يوم بدر. (2) أنهم لا يكونون مؤمنين إيمانا صحيحا مستحقا للفوز بالثواب والنجاة من العقاب إلا إذا كانوا موقنين بقلوبهم مذعنين فى بواطنهم بصدق الرسول فى كل ما جاء به الدين. ومن أمارة ذلك أن يحكّموه فيما شجر بينهم من خلاف، وألا يجدوا ضيقا وحرجا فى حكمه، إذ الضيق إنما يلازم قلب من لم يخضع، وأن ينقادوا انقيادا كاملا بلا تمرد ولا عناد فى قبوله. [سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) تفسير المفردات كتبنا: أي فرضنا، ما يوعظون به: أي من الأوامر والنواهي المقرونة بذكر حكمها وأحكامها، والوعد لمن عمل بها، والوعيد لمن صدّ عنها، والتثبت: التقوية وجعل الشيء ثابتا راسخا. المعنى الجملي بعد أن بين عز اسمه فيما سلف أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم من خلاف مع التسليم والانقياد لحكمه- ذكر هنا قصور كثير من الناس فى ذلك، لوهن إسلامهم وضعف إيمانهم.

الإيضاح

الإيضاح (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) أن اقتلوا أنفسكم: أي اقتلوها ببخع النفس (الانتحار) - كما أمر بنو إسرائيل بذلك ليتوبوا من عبادة العجل، وقوله أو اخرجوا من دياركم بالهجرة إلى بلاد أخرى، وقوله ما فعلوه: أي المأمور به من القتل والهجرة من الوطن. بين الله لنا فى هذه الآية أن صادق الإيمان هو الذي يطيع الله فى كل ما يأمر به، فى السهل والصعب، والمحبوب والمكروه، ولو كان ذلك بقتل النفس والخروج من الديار (الجسم دار الروح والوطن دار الجسم) أما المنافق فيعبد الله على ما يوافق هواه وشهواته، فإن أصابه خير اطمأن به ورضى، وإن ناله أذى انقلب على وجهه وارتد على عقبه وباء بالخسران فى الدنيا والآخرة. (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أي ولو أنهم فعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه لكان ذلك خيرا لهم فى مصالحهم، وأشد تثبيتا لهم فى إيمانهم، إذ الأعمال هى التي تطبع الأخلاق والفضائل فى نفس العامل، وتبدد الأوهام والمخاوف من نفسه فبذل المال مثلا آية من آيات الإيمان وقربة من أعظم القرب، فمن فعله كان مؤمنا إيمانا صادقا، ومن آمن بذلك ولم يفعله كان علمه بمنافعه ومزاياه له وللأمة والدين علما ناقصا، فكلما دعا الداعي إلى البذل طاف به طائف البخل والإمساك، وعرض له شبح الفقر والإملاق، أو نقصان المال عن مال بعض الأقران، لكنه إذا اعتدل البذل صار السخاء خلقا له وسجية، وقلما امتنع عن فعله حين تدعو الحاجة إليه، إذ الطاعة تدعو إلى مثلها، فالمرء يطلب الخير أوّلا حتى إذا حصّله طلب أن يكون الحاصل ثابتا قويا. (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً، وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ولو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم وامتثلوا ما أمروا به وأخلصوا العمل لأعطيناهم الثواب العظيم من عندنا، وكيف لا يكون عظيما وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «فيها ما لا عين رأت

[سورة النساء (4) : الآيات 69 إلى 70]

ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ولهديناهم إلى طريق العمل الصالح على الوجه المرضى الموصل إلى الفوز بالسعادة فى الدنيا والآخرة، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين كما ذكر ذلك سبحانه بقوله: [سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) تفسير المفردات الصدّيق: من غلب عليه الصدق، وقيل من صدق فى قوله واعتقاده كما قال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) والشهيد: هو الذي يشهد بصحة الدين تارة بالحجة والبرهان، وأخرى بالسيف والسنان، والصالح: من صلحت نفسه وصلح عمله وغلبت حسناته سيئاته. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بطاعته وطاعة الرسول، ثم شنّع على الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول، ثم رغب فى تلك الطاعة بقوله: لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، حث على الطاعة وشوّق إليها بذكر مزاياها وبيان حسن عواقبها وأنها منتهى ما تصل إليه الهمم، وأرفع ما تشرئبّ إليه الأعناق. الإيضاح (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) أي إن كل من يطيع الله ورسوله على الوجه المبين فى الآيات

السالفة ويفعل الأوامر ويترك النواهي يكون يوم القيامة مرافقا لأقرب عباد الله وأرفعهم درجات عنه، وهم الأصناف الأربعة الذين ذكروا فى الآية وهم صفوة الله من عباده، وقد وجدوا فى كل أمة، ومن أطاع الله ورسوله من هذه الأمة كان منهم وحشر يوم القيامة معهم. (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) أي إن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء له من شدة محبتهم إياه وسرورهم برؤيته. روى الطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك لأحب إلىّ من نفسى، وإنك لأحب إلىّ من ولدي، وإنى لأكون فى البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتى فانظر إليك، وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنى إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) الآية» . وأخرج ابن أبى حاتم عن مسروق أن سبب نزولها قول الصحابة: يا رسول الله ما ينبغى لنا أن نفارقك فى الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ولم نرك. وقال الكلبي: إن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له قليل الصبر عنه، وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد الموت، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ويؤيد هذه الروايات ما رواه الطبراني مرفوعا «من أحب قوما حشره الله معهم» وما أخرجه الشيخان عن أنس «المرء مع من أحب» وآية المحبة الطاعة كما قال تعالى «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» . (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ) أي إن هذا الذي ذكر من الجزاء لمن يطيع الله والرسول هو الفضل الذي لا يعلوه فضل، فإن السموّ إلى إحدى تلك المنازل فى الدنيا ومرافقة أهلها فى الآخرة هو منتهى ما يأمله المرء من السعادة، وبه يتفاضل الناس فيفضل بعضهم بعضا.

[سورة النساء (4) : الآيات 71 إلى 73]

(وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً) أي كفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين، والمنافقين والمخلصين ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء. وليحذر المنافقون المراءون لعلهم يتذكرون فيتوبوا، وليطمئن المؤمنون الصادقون لعلهم ينشطون ويزدادون فى الطاعة، ويبتعدون عن التقصير. [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) تفسير المفردات حذركم، الحذر والحذر كالمثل والمثل: الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو، النفر: الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء كالنزوع عن الشيء وإلى الشيء، ومن الأول «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» ومن الثاني النفر إلى الحرب، والثبات: واحدها ثبة: وهى الجماعة المنفردة، والتبطؤ: يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء، والبطء: التأخر عن الانبعاث فى السير، مصيبة كقتل وهزيمة شهيدا: أي حاضرا معهم، فضل: كفتح وغنيمة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فى هذه السورة كثيرا من الأمور الدينية من عبادته تعالى وعدم الشرك به، والمدنية كمعاملة ذوى القربى والجيران واليتامى والمساكين، والشخصية كأحكام الزواج والمصاهرة والمواريث، بيّن فى هذه الآيات بعض الأحكام الحربية والسياسية، ورسم لنا الطريق التي نسير عليها فى حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول من الأعداء. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي احترسوا واستعدوا لاتقاء شر العدوّ، بأن تعرفوا حاله ومبلغ استعداده وقوته، وإذا كان لكم أعداء كثيرون فاعرفوا ما بينهم من وفاق وخلاف، واعرفوا الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا، واعملوا بتلك الوسائل، ويدخل فى ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده وأسلحته واستعمالها وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال، وعلى الجملة اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرّعة ومدافع مضادة للطائرات إلى نحو ذلك حتى لا يهاجمكم على غرّة أو يهددكم فى دياركم، وحتى لا يعارضكم فى إقامة دينكم أو دعوتكم إليه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة على علم بأرض عدوهم، كما كان لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار (قلم مخابرات) ولما أخبروه بنقض قريش للعهد (إخلالهم بشروط المعاهدة فى صلح الحديبية) استعد لفتح مكة ولم يفلح أبو سفيان فى تجديد العهد مرة أخرى، وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له. وقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد فى حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف والرمح بالرمح.

وما رواه الحاكم عن عائشة «لا يغنى حدر من قدر» لا يناقض أخذ الحذر، لأن الأمر بالحذر داخل فى القدر، فالأمر به لندفع عنا شر الأعداء، لا لندفع القدر ونبطله، إذ القدر هو جريان الأمور بنظام تأتى فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده. (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي فانفروا جماعة إثر جماعة بأن تكونوا فصائل وفرقا- إذا كان الجيش كبيرا أو موقع العدو يستدعى ذلك- أو تنفر الأمة كلها جميعا إذا اقتضت الحال ذلك بحسب قوة العدو. والخلاصة- إنكم إما أن تنفروا جماعات جماعات، وإما أن ينفر جميع المؤمنين على الإطلاق بحسب حال العدو. وامتثال هذا الأمر يقتضى أن تكون الأمة على استعداد دائم للجهاد بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب ويتمرن عليها، وأن تقتنى السلاح الذي تحتاج إليه فى هذا النضال، وتعلم كيفية استعماله فى كل زمان بما يناسبه. ومن هذا تعلم أن الحكومة الإسلامية يجب عليها أن تقيم هذا الواجب بنفسها لا أن تبقى عالة على غيرها، وعلى الأمة أن تساعدها عليه، بل تلزمها إياه إذا قصرت فيه، بعكس ما نراه الآن من تراخى الأمم الإسلامية وضعفها وتوانيها فى ذلك، حتى طمعت فيها كل الدول التي تجاورها واجتاحتها من أطرافها واجتثت كثيرا من كورها وأقاليمها. وقد شدد الدين أيما تشديد فى هذا الأمر فجاء مثل هذا فى قوله تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى. (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) أي ليتثاقلن ويتأخرنّ عن الجهاد، والخطاب لجماعة المؤمنين بحسب الظاهر، ومنهم المنافقون وضعفة الإيمان والجبناء فالمنافقون يرغبون عن الحرب، لأنهم لا يحبون أن يبقى الإسلام وأهله ولا أن يدافعوا عنه، ويحموا بيضته

فهم يبطّئون عن القتال ويبطئون غيرهم عن النفر إليه، والجبناء وضعفة الإيمان يبطئون بأنفسهم عن القتال خورا وخوفا من صليل السيوف ومن الكرّ والفر ومقابلة العدو وهو شاكى السلاح. ثم فصل أحوال هؤلاء الضعفاء فقال: (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أي قال ذلك المبطّئ فرحا بما فعل حامدا رأيه شاكرا ربه، إذا أصابتكم المصيبة من قتل أو هزيمة- إن الله قد أنعم علىّ بالقعود فلم أكن حاضرا معهم فيصيبنى مثل ما أصابهم من البلاء والشدة. (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أي ولئن منّ الله عليكم بالظفر وفتح البلاد فغنمتم وأخذتم السبايا والأسرى ليقولن قول من ليس منكم ومن لم تجمعه مودة بكم- ليتنى كنت معهم فأفوز كما فازوا، فهو قد نسى ما يجب عليه من مدّ يد المعونة إليكم وبذل كل ما يمكنه من نفس أو مال ليتمّ ذلك الظفر. ولكن ضعف إيمانه أو جبنه منعه عن هذا، إذ هذا التمني بعد فوات الفرصة دليل على ضعف العقل وكونه ممن يشرى الحياة الدنيا بالآخرة، وفى قوله: كأن لم تكن بينكم وبينه مودة تقريع وتوبيخ بألطف القول وأرقّ العبارة، إذ أن قليلا من المودة كان ينبغى أن يمنع مثل هذا التمني وأن يعد هذا الإحجام نعمة، فهذا يشعر بأن صاحبه لا يرى نعمة الله على المؤمنين نعمة وفضلا عليه، ولا ما يصيبهم من جهد وبلاء كأنه يصيبه هو، مع أن القرآن يصرح بأن المؤمنين إخوة، والحديث يدل على أنهم كأعضاء الجسم الواحد وكالبنيان يشد بعضه بعضا. ومن فوائد هذا الأسلوب أنه يؤثر فى نفس سامعه تأثيرا لا يدنو من مثله الطعن بهجر القول، إذ يدعو صاحبه إلى التأمل والتفكر فى حقيقة حاله ومعاتبة نفسه، والتوبة إلى ربه، والرجوع إلى أوامر دينه.

[سورة النساء (4) : الآيات 74 إلى 76]

[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 76] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) تفسير المفردات سبيل الله: هى تأييد الحق والانتصار له، بإعلاء كلمة الدين ونشر دعوته، ودفاع الأعداء إذا هددوا أمتنا، أو أغاروا على أرضنا، أو نهبوا أموالنا، أو صدونا عن استعمال حقوقنا مع الناس، ويشرون: يبيعون كما جاء فى قوله «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ» وقوله «وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» وقوله «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» . والطاغوت: من الطغيان، وهو مجاوزة الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشر، والكيد: السعى فى الفساد على وجه الحيلة. المعنى الجملي بعد أن بين عز اسمه حال ضعفاء الإيمان الذين يبطئون عن القتال فى سبيله دلهم بهذه الآية على طريق تطهير نفوسهم من ذلك الذنب العظيم ذنب القعود عن القتال، وأمر به إيثارا لما عند الله من الأجر والثواب على ما فى الدنيا من نعيم زائل، وعرضي يفنى.

الإيضاح

الإيضاح (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي فليقاتل فى سبيل الله من أراد أن يبيع الحياة الدنيا ويبذلها ويجعل الآخرة ثمنا لها وعوضا منها، لأنه يكون قد أعز دين الله وجعل كلمته هى العليا، وكلمة الذين كفروا هى السفلى، والله عزيز ذو انتقام. ثم رغّب فى القتال بعد الأمر به بذكر الثواب عليه فقال: (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن يقاتل فى سبيله فيظفر به عدوه أو يظفر هو بعدوه، فإن الله سيؤتيه أجرا عظيما من عنده خالدا أبدا فى دار الجزاء. وفى الآية إيماء إلى شرف الجهاد، لأنه إنما كان فى سبيل الحق والعدل والخير لا فى سبيل الهوى والطمع، كما أن فيها إيماء إلى أنه ينبغى للمقاتل أن يوطن نفسه على أحد الأمرين: إما أن يقتله العدو ويكرم نفسه بالشهادة، وإما أن يظفر به فيعزّ كلمة الحق والدين، ولا يحدّث نفسه بالهرب بحال، لأنه إن فعل ذلك فما أسرع ما يقع فى ذلك الفخّ الذي نصبه لنفسه. ثم زاد ترغيبا فيه فقال: (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وأىّ عذر لكم يمنعكم أن تقاتلوا فى سبيل الله لتقيموا التوحيد مقام الشرك، وتحلّوا الخير محل الشر، وتضعوا العدل والرحمة موضع الظلم والقسوة. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي وفى سبيل المستضعفين إخوانكم فى الدين الذين استذلهم أهل مكة الأقوياء الجبابرة وآذوهم أشد الإيذاء، ليمنعوهم من الهجرة ويفتنوهم عن دينهم ويردوهم فى ملتهم. وقد جعل الله هؤلاء سبيلا لإثارة النخوة وهزّ الأريحية، وإيقاظ شعور الرحمة والأنفة، فوصفهم بما يجعل نفس الحر تشتعل حماسة وغيرة على إنقاذهم والسعى فى رفع الظلم عنهم فقال:

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) أي إن هؤلاء المستضعفين فقدوا النصير والمعين، وتقطعت بهم أسباب الرجاء، فاستغاثوا بربهم ودعوه ليفرّج كربهم ويخرجهم من تلك القرية (مكة) لظلم أهلها لهم ويسخّر لهم بعنايته من يتولى أمرهم وينصرهم على من ظلمهم فيتمكنوا بذلك من الهجرة إليكم ويرتبطوا بكم بأقوى الروابط وهى رابطة الإيمان فهى أقوى من رابطة الأنساب والأوطان، وما كل أحد من المسلمين قدر على الهجرة، فقد كانوا يصدونهم عنها ويعذبون مريديها عذابا شديدا، وما شرع القتال إلا لعدم حرية الدين، وظلم المشركين للمسلمين، فالقتال قبيح ولا يجيزه العقل السليم إلا لإزالة قبيح أشد منه ضررا، والأمور بمقاصدها وغاياتها كما قال: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أي إن المؤمنين إنما يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الحق، والكافرين إنما يقاتلون اتباعا لوسوسة الشيطان وتزيينا للكفر، فلو ترك المؤمنون القتال لغلب الطغيان وعم الفساد «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» . ثم حث مرة أخرى على القتال وبين لهم ضعف عدوهم فقال: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء الرحمن- أولياء الشيطان الذين زين لهم الشيطان بوسوسته وخداعه أن فى الظلم وإهلاك الحرث والنسل شرفا لهم أيّما شرف. وقد جرت سنة الله أن الحق يعلو والباطل يسفل، وأن الذي يبقى هو الأصلح والأمثل فالذين يقاتلون فى سبيل الله يطلبون ما تقتضيه سنة العمران، والذين يقاتلون فى سبيل الشيطان يطلبون الانتقام والاستعلاء فى الأرض بغير الحق، وتسخير الناس لأغراضهم وشهواتهم، وسنن العمران تأبى ذلك فلا يكون لذلك قوة ولا بقاء، إلا لنومة أهل الحق عن حقهم، فإذا هم أفاقوا من غفوتهم تغلب الحق على الباطل ورده خاسئا محسورا

[سورة النساء (4) : الآيات 77 إلى 79]

إلى أن الذين يقاتلون فى تأييد الحق تتوجه هممهم إلى إتمام الاستعداد ويكونون أجدر بالثبات والصبر، وفى ذلك من القوة ما ليس فى كثرة العدد والعدد. وهذا فى الحروب الدينية التي قد تركها المسلمون منذ أزمان طويلة، ولو وجدت فى الأرض حكومة إسلامية تقيم القرآن وتحوط الدين وأهله بما أوجبه من إعداد العدّة للحرب لاتخذها أهل المدنية قدوة لهم وإماما فى أعمالهم. [سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 79] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) تفسير المفردات كفوا أيديكم: أي عن القتال، كتب عليهم: أي أمروا به، يخشون الناس: أي يخافون أن يقتلهم المشركون، كخشية الله: أي كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه

المعنى الجملي

وعذابه، لولا أخرتنا إلى أجل قريب: أي هلا تركتنا حتى نموت حتف أنوفنا بآجالنا القريبة، متاع الدنيا: ما يستمتعون به من لذاتها، قليل: أي سريع الزوال، أينما تكونوا يدرككم الموت: أي فى أي مكان كنتم يلحقكم الموت، البروج المشيدة: القصور العالية المطلية بالشيّد، وهو الجص، أو الحصون والقلاع المتينة التي تعتصم فيها حامية الجند، حسنة: أي شىء يحسن عند صاحبه كالرضاء والخصب والظفر بالغنيمة، سيئة: هى ما تسوء صاحبها كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل، يفقهون حديثا: يفهمون كلاما يوعظون به. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بأخذ الحذر والاستعداد للقتال والنفر له، وذكر حال المبطئين الذين ضعفت قلوبهم، وأمرهم بالقتال فى سبيله وفى سبيل إنقاذ المستضعفين. ذكر هنا أن الإسلام كلفهم ترك ما كانوا عليه فى الجاهلية من تخاصم وتلاحم وحروب مستمرة ولا سيما بين قبيلتى الأوس والخزرج، فإن الحروب بينهم لم تنقطع إلا بمجىء الإسلام، وأمرهم بكف أيديهم عن القتال والعدوان على غيرهم، وطلب إليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما فيهما من تهذيب النفوس والعطف والرحمة حتى خمدت من نفوس كثير منهم حمية الجاهلية وحل محلها شريف العواطف الإنسانية، إلى أن اشتدت الحاجة إلى القتال للذود عن بيضة الإسلام ودفع العدوان من أولئك المشركين الذين آذوا المسلمين وأحبوا فتنتهم فى دينهم وردهم إلى ما كانوا عليه، ففرضه عليهم فكرهه المنافقون والضعفاء فنعى ذلك عليهم ووبخهم أشد التوبيخ. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الخطاب لجماعة المسلمين وفيهم المنافقون والضعفاء، أي ألم تر إلى أولئك الذين أمرهم الله بحقن الدماء

وكف الأيدى من الاعتداء، وإقامة الصلاة والخشوع لله، وإيتاء الزكاة التي تمكّن الإيمان فى القلوب، وتشد أواصر التراحم بين الخلق، وقد كانوا من قبل ذوى إحن وأحقاد وتخاصم وتلاحم وحروب مستمرة، فلما جاء الإسلام أحبوا أن يكتب عليهم القتال ليسيروا على ما تعودوه، ولكن حين كتب عليهم كرهه الضعفاء منهم وخافوا أن يقاتلهم الكفار وينزلوا بهم النكال والوبال، كما خافوا أن ينزل الله بهم بأسه وعقابه بل رجح خوفهم من الناس على خوفهم من الله. ثم بين شدة هلعهم من القتال فقال حكاية عنهم: (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي وقالوا ربنا لماذا كتبت علينا القتال فى هذا الوقت؟ هلا أخرتنا حينا من الدهر نموت حتف أنوفنا موتا طبيعيا، وربما لا يكونون قد قصدوا وقتا معينا بل قصدوا من ذلك الهرب والتفصى عن القتال كما تقول لمن يرهقك عسرا فى أمره: أمهلنى قليلا، أنظرنى إلى أجل. وقد أمر الله رسوله أن يردّ عليهم شبهتهم فقال: (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) أي إن طلبكم للإنظار إنما هو خشية الموت والرغبة فى متاع الدنيا ولذاتها، مع أن كل ما يتمتع به فى الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة، لأنه محدود فان، ومتاع الآخرة كثير باق ولا يناله إلا من اتقى الله وابتعد عن الأسباب التي تدنس النفس بالشرك والأخلاق الذميمة، فحاسبوا أنفسكم واعلموا أنكم ستجزون بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر. (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا تنقصون من الجزاء على أعمالكم مقدار فتيل- والفتيل ما يكون فى شق نواة التمر مثل الخيط، وبه يضرب المثل فى القلة والحقارة-. ثم رغهم فى القتال وبين لهم أن الموت مصير كل شىء فقال: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي إن الموت أمر محتم لا مهرب منه، فهو لا بد أن يدرككم فى أي مكان ولو تحصنتم فى شواهق القصور التي يسكنها ذوو الثراء والنعمة أو فى القلاع والحصون التي تقطنها حامية الجند، وإذا كان الموت لا مفر منه، وكان المرء قد يقتحم غمار الوغى، ولا يصاب بالأذى، وقد يموت

المعتصم فى البروج والحصون وهو فى غضارة العيش فلا عذر لكم أيها المثبطون المبطئون ولماذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم؟ ولماذا لا تدافعون عن الحق وتمنعون الشر أن يفشو حتى تستحقوا مرضاة الله وسعادة الآخرة؟ ولماذا تكرهون القتال وتجبنون وتخافون الناس وتتمنون البقاء، أليس هذا بضعف فى الدين وركّة فى العقل وخور فى العزيمة تؤاخذون بها وتقوم عليكم بها الحجة. ثم ذكر سبحانه شأنا آخر من شئونهم أشد دلالة على الحمق وضعف العقل ومرض القلب فقال (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي إن أصابهم رخاء ونعمة قالوا إن الله أكرمهم بها عناية بهم وليس لهداية الرسول أثر فى ذلك، وإن أصابهم شدة وجهد قالوا هذا من شؤم محمد علينا، وهذه مقالة اليهود والمنافقين حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأصابهم القحط والجدب، وهذا زعم باطل منهم، فكل من النعمة والبلية من عند الله خلقا وإيجادا يقع فى ملكه بحسب السنن التي وضعها والأسباب والمسببات التي أوجدها (فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي ماذا أصاب هؤلاء القوم وماذا دهاهم فى عقولهم؟ فهم لا يعقلون حقيقة ما يلقونه من الحديث ولا ما يلقى إليهم، وإنما يأخذون بما يطفو من المعنى بادىء الرأى دون تمحيص ولا تحقيق، وإذا كانوا قد حرموا هذا الفقه من كل حديث، فما أحراهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن ربه فى الإخبار عن نظم الاجتماع وارتباط الأسباب بالمسببات، وعما أحاط الله به المصطفين الأخيار من وافر الفضل وخصهم به من جميل الرعاية، فتلك الحكم العالية لا تنال إلا بفضل الروية وطول الأناة والتدبير، ومن وصل إلى هذا القدر من الفهم لا يقول إن السيئة لا تقع بشؤم أحد، بل ينسب كل شىء إلى سببه. وفى الآية إيماء إلى أن حصيف الرأى يجب أن يطلب فقه القول دون الأخذ بالجمل والظواهر، إذ من قنع بذلك بقي فى عماية ويظل طوال دهره غرّا جاهلا بما يحيط به من نظم هذا العالم.

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود منه من أرسل إليهم. أي إن كل حسنة تصيبك أيها المؤمن فهى من فضل الله وجوده، فهو الذي سخر لك المنافع التي تتمتع بها وتحسن لديك، فقد سخر لك الهواء الذي يحفظ الحياة، والماء العذب الذي يمد كل الأحياء، وأزواج النبات والحيوان وغيرهما من موادّ الغذاء وأنعم عليك بوسائل الراحة والهناء، وكل سيئة تصيبك فهى من نفسك فإنك بما أوتيت من قدرة على العمل، واختيار فى درء المفاسد وجلب المنافع، وترجيح لبعض المقاصد على بعض، قد تخطىء فى معرفة ما يسوء وما ينفع، لأنك لا تضبط إرادتك وهواك، ولا تحيط علما بالسنن والأسباب، فأنت ترجح بعضا على بعض إما بالهوى أو قبل أن تحيط خبرا بمعرفة النافع والضار فتقع فيما يسوء. والخلاصة- إن هاهنا شيئين لا بد من معرفتهما: 1) إن كل شىء من عند الله على معنى أنه خالق الأشياء وواضع النظم والسنن للوصول إلى هذه الأشياء بسعى الإنسان وكسبه، وكل شىء حسن بهذا الاعتبار لأنه مظهر الإبداع والنظام. 2) إن الإنسان لا يقع فيما يسوءه إلا بتقصير منه فى معرفة السنن والأسباب، فالسوء إنما ينسب إلى الأشياء بتصرف الإنسان باعتبار أنها تسوءه وليس بذاتىّ لها، ومن ثم ينسب ذلك إلى الإنسان، فالمرض مثلا يسوءه، وهو إنما يكون بتقصيره فى السير على نهج الفطرة فى التغذية، فقد يكون من تخمة قادته إليها شهوته أو من إفراط فى تعب أو راحة أو من تعرض للبرد القارس أو للحر الشديد أو نحو أولئك من لأسباب التي ترجع كلها إلى سوء الاختيار، كما أن الأمراض الموروثة هى من جناية الإنسان على الإنسان فهى من نفسه أيضا، لا من أصل الفطرة والطبيعة التي هى محض خلق الله دون اختيار الإنسان لنفسه، فالوالدان قد يجنيان على المرء بتعريض أنفسهما

للمرض الذي ينتقل إلى نسلهما بالوراثة، كما يجنيان عليه فى صغره بعدم وقايته من أسبابه حين يكون اختيارهما له تاما قائما مقام اختياره لنفسه. وأحيانا تسند الأشياء جميعها إلى الله ويقال إنها من عنده بمعنى أنه هو الخالق لها والواضع لسنن الأسباب والمسببات فيها. ويسند إلى الإنسان منها كل ماله فيه كسب وعمل اختياري سواء كان من الحسنات والسيئات، وقد مضى بهذا كلام الناس وأيدته نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» . وبهذا الاعتبار يقال إصابة الحسنة من فضل الله تعالى مطلقا، وإصابة السيئة من نفس الإنسان مطلقا، ولكل من الإطلاقين مقام يقال فيه، والمقام الذي سيقت له الآية فى بيان نفى الشؤم والتطير وإبطالهما، ليعلم الناس أن ما يصيبهم من السيئات لا يكون بشؤم أحد، وكانوا يتشاءمون ويتطيرون فى الجاهلية، وقد أبطل ذلك الإسلام لكنه لا يزال فاشيا إلى الآن. وينبغى للإنسان حينما تصيبه سيئة أن يبحث عن سببها من نفسه، لأنها إنما تصيبه لجهله بالسنن التي وضعها الله من التماس المنافع من أسبابها، واتقاء المضار بالبعد عن أسبابها، بترجيحه فعل ما ينفع على فعل ما يضر. وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم، وأن عصيانه مما يجلب النقم وطاعته إنما تكون باتباع سنته وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله، وهذه الآية أصل من أصول الاجتماع وعلم النفس، وفيها شفاء للناس من خرافات الوثنية، وارتفاع وتكريم للنفس الإنسانية. (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) والرسول ليس عليه إلا البلاغ، وليس له دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات، لأنه لم يرسل إلا للتبليغ والهداية، لا للتصرف فى نظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها، فما زعمه أولئك الجاهلون من أن السيئة

[سورة النساء (4) : الآيات 80 إلى 82]

تصيبهم بشؤمه، محض خرافة لا مستند لها من عقل أو نقل ومخالف لما بينه الله تعالى من وظيفة الرسل. (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) أنك أرسلت للناس كافة بشيرا ونذيرا لا مسيطرا ولا جبارا ولا مغيّرا لنظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» . [سورة النساء (4) : الآيات 80 الى 82] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه فيما تقدم بطاعة الله وطاعة الرسول وبين جزاء المطيع وأحوال الناس فى هذه الطاعة بحسب قوة الإيمان وضعفه، ثم أمر بالقتال وبين مراتب الناس فى الامتثال له، أعاد هنا الأمر بالطاعة وبين أنها أولا وبالذات لله، ولغيره بالتبع، وبين ضروب مراوغة الضعفاء والمنافقين. الإيضاح (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) أي إن من أطاع الرسول فقد أطاع الله لأنه الآمر والناهي فى الحقيقة، والرسول إنما هو مبلّغ للأمر والنهى فليست الطاعة له

بالذات وإنما هى لمن بلغ عنه، إذ قد جرت سنته سبحانه ألا يأمر الناس ولا ينهاهم إلا بواسطة رسل منهم يفهمون عنهم ما يوحيه إليهم ليبلغوه عنه. أما ما يقوله الرسول من تلقاء نفسه وما يأمر به مما يستحسنه باجتهاده ورأيه من أمور المعيشة كتأبير النخل (تلقيحه بطلع الذكر) ونحوه مما يسميه العلماء أمر إرشاد، فطاعته فيه ليست من الفرائض التي فرضها الله، لأنه ليس دينا ولا شرعا عنه تعالى، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكيل الطعام كالقمح وغيره من الحبوب عند طحنه وعند عجنه وهو من التدبير والاقتصاد فى البيوت، وأكثر المسلمين أهملوه إلا من تعوّد منهم التدبير وحسن التقدير فى المنازل، وكذلك أمر بأكل الزيت والادّهان به. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا شكّوا فى الأمر أمن عند الله هو أم من رأى الرسول واجتهاده؟ وكان لهم فى ذلك رأى آخر سألوه، فإن أجابهم بأنه من الله أطاعوه بلا تردّد، وإن قال إنه من رأيه ذكروا رأيهم، وربما رجع النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيه إلى رأيهم كما فعل فى بدر وأحد. روى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول «من أحبنى فقد أحب الله ومن أطاعنى فقد أطاع الله، فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟ لقد قارف الشرك، قد نهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فأنزل الله هذه الآية» . فالمؤمن حقا لا يكون خاضعا إلا لخالقه وحده دون أحد من خلقه، والخروج عن ذلك شرك، وهو نوعان: 1) أن ترى لبعض المخلوقات سلطة غيبية وراء الأسباب العادية، ومن ثم ترجو نفعها وتخاف ضرها وتدعوها وتذل لها، وذلك هو الشرك فى الألوهية. 2) أن ترى لبعض المخلوقين حق التشريع والتحليل والتحريم، كما فسر النبىّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» بطاعتهم فيما يحللون ويحرمون، وذلك هو الشرك فى الربوبية.

ذاك أن المؤمن يحب أن يكون أعز الناس نفسا وأعظمهم كرامة، فلا يرضى أن يستعبده سلطان ظالم ولا حاكم مستعبد، إذ هو يعلم علم اليقين أن الكل عبيد مسخرون لله تعالى يخضعون لأمره، وأن ذلك منتهى سعادتهم فى الدارين. (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي ومن أعرض عن طاعتك التي هى طاعة الله فليس لك أن تكرهه عليها، لأنك ما أرسلت إلا مبشرا ونذيرا ولم ترسل مسيطرا أو رقيبا تحفظ على الناس أفعالهم وأقوالهم، فالإيمان والطاعة إنما يكونان بالاختيار بعد الإقناع والاختبار. (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) أي ويقول ذلك الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، إذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر: أمرك طاعة- أي أمرك مطاع، إظهارا لكمال الانقياد والخضوع. (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) البراز- بفتح الباء- الأرض الفضاء، والتبييت ما يدبر فى الليل من رأى ونية وعزم على عمل، ومنه تبييت العدو للإيقاع به ليلا، أي إذا خرجوا من المكان الذي يكونون معك فيه إلى البراز وهم منصرفون إلى بيوتهم، دبر جماعة منهم ليلا غير الذي قالوا لك وأظهروه من الطاعة نهارا. روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: هم ناس يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، وإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعاتبهم الله على ذلك. (وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي يبينه لك فى كتابه ويفضحهم بمثل هذه الآيات، وفى هذا من التهديد الشيء الكثير. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تهتمّ بما يبيتون ولا تؤاخذهم بما أسروا ولم يعلنوا. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي فوّض الأمر إليه، وثق به فى جميع أمورك، فإن الله يكفيك شرهم وينتقم لك منهم.

(وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) لمن توكل عليه، فهو قادر على إيقاع الجزاء بهم، وعليم بمقدار ما يستحقون منه، لا يعجزه منه شىء. (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أصل التدبر التأمل فى أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل فى كل تأمل سواء كان نظرا فى حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر فى غاياته ومقاصده التي يرمى إليها، وعاقبة من يعمل به ومن يخالفه. أي أجهل هؤلاء القوم حقيقة الرسالة وكنه هذه الهداية فلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها؟ ولو تدبروه لعرفوا أنه الحق من ربهم وأن ما وعد به المتقين الصادقين وما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع لا محالة، فهو إذ صدق فى الإخبار عما يبيتون فى أنفسهم من القول يصدق كذلك فيما أخبر عن سوء مصيرهم والوبال والنكال فى عاقبتهم. (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) أي ولو كان من عندك لا من عند الله الذي أرسله به لوجدوا فيه اختلافا كثيرا لأسباب كثيرة: 1) أن أي مخلوق لا يستطيع تصوير الحقائق كما صورها القرآن بلا اختلاف ولا تفاوت فى شىء منها. 2) أنه حكى عن الماضي الذي لم يشاهده محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقف على تاريخه، وعن الآتي فوقع كما أنبأ به، وعن الحاضر فأخبر عن خبايا الأنفس ومكنونات الضمائر كما أخبر عما بيتته هذه الطائفة مخالفا لما تقول للرسول أو ما يقوله لها فتقبله فى حضرته وترفضه فى غيبته. 3) أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله فى بيان أصول العقائد وقواعد الشرائع وسياسة الشعوب والقبائل مع عدم الاختلاف والتفاوت فى شىء من ذلك. 4) أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله فى سنن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الملل والأقوام مع إيراد الشواهد وضرب الأمثال وتكرار القصة الواحدة بالعبارات

لبليغة تنويعا للعبرة وتلوينا للموعظة، واتفاق كل ذلك وتواطئه على الصدق، وبراءته من الاختلاف والتناقض. 5) أن أحدا لا يستطيع أن يأتى بمثله فيما جاء به من فنون القول وألوان العبر فى أنواع المخلوقات فى الأرض أو فى السموات، فقد تكلم على الخلق والتكوين ووصف جميع الكائنات كالكواكب ونظامها والرياح والبحار والحيوان والنبات وما فيها من الحكم والآيات، وكان فى كل ذلك يؤيد بعضه بعضا لا تفاوت فيه، ولا اختلاف بين معانيه. 6) أنه أخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة وما فيها من الحساب على الأعمال والجزاء العادل، وكان فى كل ذلك جاريا على سنة الله تعالى فى تأثير الأعمال الاختيارية فى الأرواح، مع الالتئام بين الآيات الكثيرة، وهو غاية الغايات فى ذلك عند من أوتى الحكمة وفصل الخطاب. هذا إلى أنه نزل منجما بحسب الوقائع والأحوال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية أو الآيات يأمر بأن توضع فى محلها من سورة كذا، وهو يحفظه حفظا، وقد جرت العادة بأن من يأتى بكلام من عنده فى مناسبات مختلفة لا يتذكر جميع ما سبق له فى السنين الطوال ولا يستحضره حتى يجعل الآخر موافقا للأول مع أن بعض الآيات كان ينزل فى أيام المحن والكروب، وبعضها عند تنازع الأقوام حين الخصام. إلى أنّ كر الغداة ومر العشى لا يزيده إلا جدّة، ولا يزيد أحكامه إلا ثباتا ورسوخا، وكلما اتسعت دائرة العلوم والمعارف ونمت أحوال العمران زاد إيمان الناس به، إذ تتوثق روابط الصلة بين الدين والعلم وتتظاهر أحكامه مع نواميس الاجتماع وشؤون الكون. والخلاصة- إن تدبر القرآن وتأمل ما امتاز به هو طريق الهداية القويم، وصراط الحق المستقيم، فإنه يرشد إلى كونه من عند الله، وإلى وجوب الاهتداء به،

[سورة النساء (4) : آية 83]

وإلى أنه معقول فى نفسه موافق للفطرة ملائم للمصلحة، وفيه سعادة الخلق فى الدنيا والآخرة. ولو تدبر المسلمون القرآن واهتدوا به فى كل زمان لما فسدت أخلاقهم وآدابهم، ولما ظلم واستبد حكامهم، ولما زال ملكهم وسلطانهم، ولما صاروا عالة فى معايشهم على سواهم. وهذا التدبر لا يمنع أن يستنبط أولو الأمر الأحكام العامة فى السياسة والقضاء والإدارة، وتتبعهم فيها سائر الأمة. [سورة النساء (4) : آية 83] وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) تفسير المفردات أذاع الشيء وأذاع به. نشره وأشاعه بين الناس، وردّ الشيء: أرجعه وأعاده، والاستنباط: استخراج ما كان مستترا عن الأبصار، فضل الله: هو هدايتكم بطاعة الرسول، إلا قليلا: أي قليلا منكم ممن أوتوا صفاء الفطرة وسلامتها. المعنى الجملي قال ابن جرير: إن هذه الآية نزلت فى الطائفة التي كانت تبيّت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له اه. ولا يبعد أن تكون فى جمهور المسلمين بلا تعيين، لأن المشاهد فى أحوال الناس أن الإذاعة بمثل أخبار الأمن والخوف لا تكون من دأب المنافقين خاصة، بل هى مما يلهج به الناس فى مختلف البيئات بحسب المناسبات وإن كانت

الإيضاح

تختلف نياتهم، فالمنافق قد يذيع ما يذيعه لأجل الضرر، وضعيف الإيمان قد يذيع استشفاء مما فى صدره من الإحن والبغضاء، وغيرهما قد يذيع رغبة فى كشف الأسرار وابتلاء الأخبار، وهذا أمر معتاد بين الناس وهو كثير الضرر إذا شغلوا به عن أعمالهم، وضرره أكثر إذا أذاعوه وعلمه جواسيس العدوّ، لما يكون لذلك من العواقب الوخيمة. على الأمة، ومثل ذلك سائر الأمور السياسية والشؤون العامة التي لا ينبغى أن تعدو الخاصة وتصل إلى العامة. الإيضاح (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) أي إن هؤلاء الضعفة من المسلمين الذين لا خبرة لهم بالشئون العامة قد بلغ من طيشهم وخفة أحلامهم أن كل خير يصل إليهم يستفزهم ويطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس، سواء أكان من ناحية الجيش الذي يغزو ويقاتل العدو، أو من ناحية المركز العام للسلطة، ولا ينبغى أن تشيع العامة أخبار الحرب وأسرارها، ولا أن تخوض فى السياسة العامة للدولة، لأن ذلك مضرّة لها ومفسدة لشؤونها ومرافقها العامة وعلاقاتها مع غيرها من الأمم إلى أن فى ذلك مشغلة لهم عن شؤونهم الخاصة وضياع زمن كانوا فيه أحوج إلى العمل بما يفيدهم ويفيد الأمة. وهذا بيان لجناية ضعفاء الإيمان إثر بيان جناية المنافقين. ثم بين ما ينبغى أن يفعل فى مثل هذه الحال فقال: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي ولو أن أولئك المذيعين فوضوا الكلام فى الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم والقائد العام فى الحرب، وإلى أولى الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشّورى، لوجدوا علم ذلك عندهم، لأنهم هم الذين يستنبطون مثله، ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم، إذ لكل طائفة منهم استعداد للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة دون بعض

[سورة النساء (4) : آية 84]

فهذا أخصائي فى المسائل المالية، وذاك فى الأمور القضائية، وذاك فى بناء القناطر والجسور ورابع فى شؤون الحرب، وكل هذه المسائل يدرسها رجال الشورى [مجلس الوزراء بالاصطلاح العصرى] ويستنبطون منها ما يكون فيه المصلحة للدولة وينفذونه، ولا ينبغى أن تذيعه العامة لما فى ذلك من الضرر بها من سائر الوجوه والاعتبارات. ثم امتنّ سبحانه على صادقى الإيمان من عباده فقال: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم، إذ هداكم لطاعته وطاعة رسوله ظاهرا وباطنا، ورد الأمور العامة إلى الرسول وإلى أولى الأمر منكم، لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعته تلك الطائفة التي تقول للرسول: طاعة لك وتبيت غير ذلك، والتي تذيع أمر الأمن والخوف وتفسد على الأمة سياستها، ولأخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون، ولم تهتدوا إلى الصواب، إلا قليلا منكم ممن استنارت عقولهم بنور الإيمان وعرفوا الأحكام بالاقتباس من مشكاة النبوة كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى، فهى كقوله تعالى «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً» . [سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) تفسير المفردات التحريض: الحث على الشيء بتزيينه وتسهيل الأمر فيه، والبأس القوة، وكان بأس الكافرين متجها إلى إذلال المؤمنين لإيمانهم، والتنكيل: معاقبة المجرم بما يكون فيه عبرة ونكال لغيره بحيث يمنعه أن يفعل مثل فعله.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب، وذكر قلة رغبة المنافقين فيه، وسعيهم فى تثبيط المسلمين عنه، عاد هنا إلى الأمر به مرة أخرى. الإيضاح (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وإذا أردت الفوز والظفر على الأعداء فقاتل فى سبيل الله امتثالا لأمره، وأنت لا تكلف إلا أفعال نفسك دون أفعال الذين قالوا: لم كتبت علينا القتال؟ والذين يقولون: لك طاعة ويبيتون غير ذلك، فمن أطاع الله لا يضيره عصيان من عصاه، وعليك أن تحث غيرك على القتال وتحرضه عليه، لا أن تلزمه ذلك بالقهر والجبروت. وفى الآية إيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم كلّف قتال الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده، كما أنها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من الشجاعة ما لم يعط أحد من العالمين، وفى سيرته الشريفة أصدق الأدلة على ذلك، فقد تصدى لمقاومة الناس جميعا بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال، وحين قاتلوه قاتلهم، وقد انهزم عنه أصحابه فى أحد فبقى ثابتا كالجبل لا يتزلزل. (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عسى هنا للتهيئة والإعداد فهى بمعنى الخبر والوعد، وخبره تعالى حق فإنه لا يخلف الميعاد. والمعنى- إن تحريض النبي للمؤمنين على القتال معه هو الذي يحملهم بباعث الإيمان والإذعان النفسي على الاستعداد له وتوطين النفس عليه، بينما هو يعدّ الكافرين لترك الاعتداء على المؤمنين وكف بأسهم عنهم، إذ لا شىء أدعى إلى ترك القتال من الاستعداد للقتال كما قال أبو تمام: وأخافكم كى تغمدوا أسيافكم ... إن الدم المغبرّ يحرسه الدم

[سورة النساء (4) : الآيات 85 إلى 87]

وعلى هذا النحو جرى عمل الممالك الكبيرة فى هذا العصر، فكل دولة منها تبذل منتهى ما فى وسعها من اتخاذ العدّة والعتاد فى البر والبحر وتنظيم الجيوش لتكون القوى بينها متوازنة ولا تطمع القوية فى الضعيفة، إذ يغريها ضعفها بالإقدام على حربها (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا) أي لا تخافوا بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم ولا يصدنكم ذلك عن طاعة الرسول والعمل بتحريضه، فإن الله الذي وعد الرسول بالنصر أشد منهم بأسا وأشد منهم تنكيلا، وقد جرت سنته أن تكون العاقبة للمتقين ما استمسكوا بأوامره وتركوا نواهيه وأعدوا العدّة مع الصبر والثبات والتباعد عن أسباب الخذلان والفشل. [سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 87] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) تفسير المفردات قال الراغب: الشفع ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصرا له وسائلا عنه، نصيب: حظ، كفل: نصيب، مقيتا: أي مقتدرا أو حافظا أو شاهدا. قال الراغب: وحقيقته قائما عليه يحفظه ويعينه، فهو مأخوذ من القوت وهو ما يمسك الرمق من الرزق وتحفظ به الحياة، يقال قاته يقوته إذا أطعمه قوته، وأقاته يقيته إذا جعل له ما يقوته، والتحية: مصدر حيّاه إذا قال له حيّاك الله، وهى فى الأصل الدعاء بالحياة ثم صار اسما لكل دعاء وثناء كقولهم: أنعم صباحا وأنعم مساء، وعم صباحا

المعنى الجملي

وعم مساء، وجعل الشارع تحية المسلمين (السلام عليكم) إشارة إلى أن الدين دين سلام وأمان، الحسيب: المحاسب على العمل، كالجليس بمعنى المجالس وقد يراد به المكافئ والكافي، من قولهم: حسبك كذا إذا كان يكفيك. المعنى الجملي بعد أن أمر الله تعالى نبيه أن يحرض المؤمنين على الجهاد وذكر أنه ليس عليه وزر من تمرد وعصى- بين فى هذه الآية أنهم حين أطاعوك ولبّوا دعوتك أصابهم من هذه الطاعة خير كثير، وأن لك من هذا الخير نصيبا تستحق عليه الأجر، لأنك قد بذلت الجهد فى ترغيبهم فيه بجعل نفسك شفيعا ونصيرا لهم فى الوصول إلى تحصيل هذه الأغراض الشريفة. الإيضاح (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أي من يجعل نفسه شفيعا لك ويناصرك فى القتال- وقد أمرت به وحدك- يكن له من شفاعته نصيب بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة فى الدنيا عند ما ينتصر الحق على الباطل، وبما يناله من الثواب فى الآخرة فى جميع الحالات، سواء أدرك النصر فى الدنيا أم لم يدركه. ووصف الشفاعة بالحسنة لأنها تأييد ونصر للحق، ومثل هذا كل من يعاون فاعل الخير ويساعده. (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي ومن ينضم إلى عدوك فيقاتل معه أو يخذل المؤمنين عن قتاله يكن له نصيب من سوء العاقبة بما يناله من الخذلان فى الدنيا والعقاب فى الآخرة، وهذه هى الشفاعة السيئة لأنها إعانة على السيئات، وسمى هذا النصيب كفلا، لأنه نصيب مكفول للشافع، إذ هو أثر عمله، أو محدود لأنه على قدره.

والخلاصة- إن من ينضم إلى غيره معينا له فى فعل حسن يكن له منه نصيب، ومن ينضم إلى غيره معينا له فى فعل سيىء ينله منه سوء وشدة. ويدخل فى الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض، وهى قسمان: حسنة، وسيئة فالحسنة أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم أو جر منفعة إلى مستحق ليس فى جرها إليه ضرر ولا ضرار والسيئة أن يشفع فى إسقاط حد، أو هضم حق، أو إعطائه لغير مستحق، أو محاباة فى عمل بما يوصل إلى الخلل والزلل، ولأجل هذا قال العلماء: الشفاعة الحسنة ما كانت فيما استحسنه الشرع، والسيئة: فيما كرهه أو حرّمه. وفى الآية من العبرة لنا أن نتذكر أن الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإخباره بما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له أو استحقاقه لما يطلب له، ولا يقبل الشفاعة لإرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل ويخالف المصلحة العامة. أما الحاكم الظالم فتروج عنده الشفاعات، لأنه يحابى أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له فى استبداده ليثبتوا على خدمته وإخلاصهم له، والحكومات التي تروج فيها الشفاعات وتعتمد عليها الرعية فى كل ما تطلب تضيع فيها الحقوق، ويحل الظلم محل العدل، ويسرى من الدولة إلى الأمة، فيعم فيها الفساد ويختل نظام الأعمال. (وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي وكان الله مقتدرا على كل شىء فلا يعجزه أن يعطى الشافع نصيبا وكفلا من شفاعته على قدرها فى النفع والضر، ويجازى كلّا بما يستحق، لأن سننه قد قضت بأن يربط الجزاء بالعمل. وبعد أن علّم سبحانه المؤمنين طريق الشفاعة الحسنة والسيئة وهى من أسباب التواصل بين الناس، علّمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم ليؤدبهم بأدب دينه ويزكيهم ويطهر نفوسهم من الغل والحسد فقال: (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) أي وإذا حياكم أحد بتحية فردوها بتحية مثلها، أو بتحية أحسن منها، فقولوا لمن قال: السلام عليكم- وعليكم السلام، أو وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا قال هذا فى تحيته فالأحسن أن تقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر.

وقد يكون حسن الجواب بمعناه أو كيفية أدائه وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية أو مساويه فى الألفاظ أو أخصر منه، فمن قال لك: السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية، فقلت له: وعليكم السلام بصوت أرفع وبإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته فى صفتها، وإن كانت مثلها فى لفظها. والخلاصة- إن الجواب عن التحية له مرتبتان: أدناهما ردها بعينها، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها، والمجيب مخير بينهما، وقد روى ابن جرير عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا فإن الله يقول (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمنه على نفسه، وكانت العرب تقصد هذا المعنى والوفاء من شيمتها، وبعض المسلمين الآن يكره أن يحييهم غيرهم بلفظ السلام، كما يكرهون رد السلام على غير المسلم، وكأنهم غفلوا عن أن الآداب الإسلامية إذا ألفت عرفوا فضل الإسلام وجذبهم ذلك إليه. والسنة أن يسلم القادم على من يقدم عليه، وإذا تلاقى الرجلان يبدأ الكبير فى السن أو القدر بالسلام، وقد جاء فى الصحيحين أنه «يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» وروى «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بصبيان فسلم عليهم» وروى الترمذي «أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم» وقد ورد فى الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم «إن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» وروى الحاكم قوله صلى الله عليه وسلم «أفشوا السلام تسلموا» : (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أي إنه تعالى رقيب عليكم فى مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية ويحاسبكم على ذلك. وفى هذا إشارة إلى تأكيد أمر هذه الصلة بين الناس، ووجوب رد التحية على من بسلم علينا ويحيينا.

[سورة النساء (4) : الآيات 88 إلى 91]

وبعد أن حث رسوله صلى الله عليه وسلم على الجهاد وأمر المسلمين بمشاركته فيه، وأمرهم بإظهار المودة وقت السلم، بين أنهم مجزيون على كل هذا فى يوم لا ريب فيه فقال: (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) جمعت هذه الآية التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فى الدار الآخرة، وهما الركنان الأساسيان للدين، وقد أرسل الرسل جميعا لتبليغ الناس ما يجب عليهم من إقامتهما وتأييدهما بصالح الأعمال، والقرآن قد يصرح بهما تارة معا، وبالأول منهما تارة أخرى أثناء ذكر الأحكام، إذ هما العون الأكبر والباعث الأقوى على العمل بها ولا سيما أحكام القتال الذي يبذل المرء فيه نفسه ونفيسه للدفاع عن حرية الدين ونشر هدايته وتأمين دعاته وأهله. والمعنى- الله لا إله إلا هو، فلا تقصّروا فى عبادته والخضوع لأمره ونهيه، فإن فى ذلك سعادتكم وارتقاء أرواحكم وعقولكم وتحريركم من رق العبودية لأمثالكم من البشر، بل من دونهم من المعبودات التي ذل لها المشركون، وهو سبحانه سيجمعكم ويحشركم إلى يوم القيامة، وهو يوم لا ريب فيه ولا فيما يكون فيه من الجزاء على الأعمال. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً؟) أي لا أحد أصدق منه عز وجل، إذ كلامه تعالى عن علم محيط بسائر الكائنات كما قال تعالى «لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» فلا يمكن أن يكون خبره غير صادق بسبب النقص فى العلم أو الغرض أو الحاجة، لأنه تعالى غنىّ عن العالمين. أما كلام غيره فهو محتمل للصدق والكذب عن عمد وعلم أو عن سهو وجهل، وقد دل الدليل على أن القرآن كلام الله، فلم يبق عذر لمن قام عليه الدليل إذا آثر على قوله أقوال المخلوقين كما هو دأب الضالين. [سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الفئة: الجماعة، والركس بوزن النصر: إرجاع الشيء منكوسا على رأسه إن كان له رأس، أو متحولا عن حال إلى أردأ منها كتحول الطعام والعلف إلى الرجيع والروث والمراد به هنا تحولهم إلى الغدر والقتال بعد أن أظهروا الولاء والتحيز إلى المسلمين، والسبيل: الطريق، والولي: النصير والمعين، يصلون: أي يتصلون بهم، الميثاق: العهد، حصرت: ضاقت، السلم: الاستسلام والانقياد، الفتنة: الشرك، ثقفتموهم: وجدتموهم، السلطان المبين: الحجة الواضحة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أحكام القتال وختمها ببيان أنه لا إله غيره يخشى ضره، أو يرجى خيره فتترك هذه الأحكام لأجله- ذكر هنا أنه لا ينبغي التردد فى أمر المنافقين وتقسيمهم فئتين، مع أن دلائل كفرهم ظاهرة جلية، فيجب أن تقطعوا بكفرهم وتقاتلوهم حيثما وجدوا. روى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت فى قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون فى شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية. الإيضاح (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي فما لكم صرتم فى المنافقين فئتين واختلفتم فى كفرهم مع تظاهر الأدلة عليه، فليس لكم أن تختلفوا فى شأنهم، بل عليكم أن تقطعوا بثبوته. وهؤلاء فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين والولاء لهم وهم كاذبون فيما يظهرون فضلهم، مع أمثالهم من المشركين، لكنهم يحتاطون ويظهرون الولاء للمسلمين إذا رأوا منهم القوة، فإذا ما ظهر لهم منهم ضعف انقلبوا عليهم وأظهروا لهم العداوة. وكان المؤمنون فى أمرهم فرقتين، فرقة ترى أنهم يعدّون من الأولياء ويستعان بهم على سائر المشركين المجاهرين لهم بالعداوة، وفرقة ترى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المشركين المعلنين العداوة. (وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) أي كيف تفترقون فى شأنهم والله قد صرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشرك واجترحوا من المعاصي، حتى إنهم لا ينظرون إليكم نظرة المودة والإخاء، بل نظرة العداوة والبغضاء، ويتربصون بكم الدوائر.

وقد جعلهم الله مركسين كأنهم قد نكسوا على رءوسهم وصاروا يمشون على وجوههم كما قال تعالى «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟» لأنهم قد فسدت فطرتهم وأحاطت بهم خطيئاتهم، فأوغلوا فى الضلال، وبعدوا عن الحق، حتى لم يعد يجول فى أذهانهم إلا الثبات على ما هم فيه ومقاومة ما عداه. وقد نسبه الله تعالى إليه لأنه ما كان سببا إلا بسنته فى تأثير الأعمال الاختيارية فى نفوس العالمين. (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟) أي إنه ليس فى استطاعتكم أن تبدلوا سنن الله فى نفوس الناس فتريدوا أن تحصلوا على مقاصد وغايات ضد ما انطبع فيها من الأخلاق والصفات، بتأثير ما كسبته طوال عمرها من الأعمال. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) أي ومن تقضى سننه فى خلقه أن يكون ضالا عن طريق الحق فلن تجد له سبيلا يصل بسلوكها إليه، فإن للحق سبيلا واحدة هى صراط الفطرة المستقيم، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وعن شمالها، كل من سلك منها سبيلا بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله فى السبيل التي سلكها كما قال تعالى «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم معنى الآية بالخطوط الحسية، فخط فى الأرض خطا وجعله مثالا لسبيل الله، وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان، وهذه الخطوط المستقيمة لا تلتقى مع الخط الأول بحال. وسبيل الفطرة تقتضى أن يعرض الإنسان جميع أعماله على سنن العقل ويتّبع ما يظهر له أنه الحق الذي فيه منفعته عاجلا وآجلا، وفيه كماله الإنسانى. وأكثر ما يصده عن هذه السبيل التقليد والغرور وظنه أنه ليس هناك ما هو أكمل مما هو فيه، وبهذا يقطع على نفسه طريق العقل والنظر فى النفع والضر والحق والباطل. وشبهته فى ترك صراط الفطرة أن عقله قاصر عن التمييز بين الحق والباطل والخير

والشر، فعليه أن يتبع ما وجد عليه الآباء والأجداد من زعماء عصره ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. ثم ذكر سبحانه ما يجول فى صدور أولئك المنافقين من أمانىّ فقال: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) أي إن هؤلاء لا يقنعون بما هم عليه من الضلال والغواية، بل يطمعون أن تكونوا أمثالهم وتحذوا حذوهم حتى يقضى على الإسلام الذي أنتم عليه، وهذا منتهى ما يكون من الغلوّ والتمادي فى الكفر، حيث لا يكتفون بضلالهم بل يرجون إضلال غيرهم. ثم حذر المؤمنين من غوائل نفاقهم فقال: (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وإذا كانت هذه حالهم فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين حتى يؤمنوا ويهاجروا ويشاركوكم فى سائر شئونكم، فإن الصادقين فى إيمانهم لا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه عرضة للخطر، ولا يتركون الهجرة إلا إذا عجزوا عنها، وإذا فتركهم لها علامة على نفاقهم الذي اختلفتم فيه. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي فإن أعرضوا عن الهجرة فى سبيل الله ولزموا مواضعهم فى خارج المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم واقتلوهم أينما وجدتموهم فى الحلّ أو فى الحرم، ولا تتخذوا منهم وليا يتولى شيئا من مهامّ أموركم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم. وقد استثنى منهم من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين: (1) (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إلا الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين فيدخلون فى عهدهم ويرضون بحكمهم فيمتنع قتالهم مثلهم. (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي أو جاءوكم قد ضاقت صدورهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين. وخلاصة ذلك- أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم

بل يكونون على الحياد، فهم لا يقاتلون المسلمين حفظا للعهد ولا يقاتلون قومهم، لأنهم قومهم، وقبول معذرة الفريقين موافق لما بنى عليه الإسلام من التسامح والسماحة وعدم الاعتداء كما قال «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا» . (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) أي إن الله تعالى رحمكم بأن كف بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم وقذف الرعب فى قلوبهم، ولو شاء لسلطهم عليكم بأن يلهمهم من الآراء ويسوق إليهم من الأخبار ما به يرجحون ذلك فيقاتلوكم، ولكنه بتوفيقه ونظامه فى الأسباب والمسببات، وسننه فى الأفراد والجماعات، جعل الناس فى ذلك العصر أصنافا ثلاثة: 1) سليمو الفطرة الذين حصفت آراؤهم فسارعوا إلى الإيمان واستناروا بنور الإسلام. 2) المسالمون الذين رجحوا أن يكونوا على الحياد لا مع المشركين ولا مع المؤمنين. 3) الموغلون فى الضلال والشرك والمحافظون على القديم وهم المحاربون. (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) أي فإن اعتزلتكم إحدى هاتين الفئتين ولم تقاتلكم بل ألقت إليكم السلم وأعطتكم زمام أمرها، فما جعل الله لكم من سبيل تسلكونها للاعتداء عليها، إذ من قواعد ديننا ألا نعتدى إلا على من يعتدى علينا ولا نقاتل إلا من قاتلنا. روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال «لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومى من بنى مدلج فأتيته فقلت أنشدك النعمة، فقالوا مه، فقال دعوه، ما تريد؟ قلت بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومى وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد فقال (اذهب معه فافعل ما يريد) فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، ومن وصل إليهم من الناس كان له مثل عهدهم، فأنزل الله تعالى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ- حتى بلغ- إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ) فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم» .

وقال الرازي: إن النبي صلى الله عليه وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمى على ألا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال. ثم بين سبحانه حال جماعة آخرين وبالغ فى ذمهم فقال: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) هؤلاء فريق ممن لم يهتدوا بالإسلام ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله وقتالهم فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين، فهم قد غلت عليهم أرواحهم، ورخصت عليهم عقولهم، يظهرون لكل من الفئتين أنهم منهم أو معهم وقد روى عن مجاهد أن ناسا كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون فى الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا. (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) أي كلما دعوا إلى الشرك (كما روى عن السدى) أركسوا فيه وتحولوا إليه أقبح تحول، فهم يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين. إما بإظهار الإسلام، وإما بالعهد على السلم وترك القتال ثم يفتنهم المشركون أي: يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين، فيرتكسون ويتحولون شر التحول معهم، وهكذا يفعلون ذلك المرة بعد المرة، فهم قد مردوا على النفاق. وقد بين الله حكمهم بقوله: (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي فإن لم يعتزلوكم ويتركوكم وشأنكم ويلتزموا الحياد ويلقوا إليكم السلم: أي زمام المسالمة على الطريق التي ترونها نافعة لكم، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس- فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فلا علاج لهم غير ذلك كما ثبت بالتجارب والاختبار. (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة، وبرهانا ظاهرا على قتالهم.

[سورة النساء (4) : الآيات 92 إلى 93]

قال الرازي: قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن قتالنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم. ونظيره قوله «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا» إذ خص فيها الأمر بقتال من يقاتلنا دون من لم يقاتلنا. [سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أحكام قتال المنافقين الذين يظهرون الإسلام خداعا ويسرّون الكفر ويساعدون أهله على قتال المؤمنين، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ويحالفونهم على الولاء والنصر، ثم يغدرون ويكونون عونا لأعدائهم عليهم- ذكر هنا قتل من لا يحل قتله من المؤمنين والمعاهدين والذميين وما يقع منهم من ذلك عمدا أو خطأ. روى ابن جرير فى سبب نزول الآية عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد من بنى عامر بن لؤى يعذب عيّاش بن أبى ربيعة مع أبى جهل. ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه عياش بالحرّة من أرباض المدينة، فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له قم فحرّر.

الإيضاح

الإيضاح (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أي ليس من شأن المؤمن ولا من خلقه أن يقتل أحدا من المؤمنين، إذ الإيمان وهو صاحب السلطان على النفس والحاكم على الإرادة والمصرّف لها يمنعه أن يجترح هذه الكبيرة عمدا، لكنه قد يفعل ذلك خطأ (والخطأ ما لا يقارنه قصد إلى الفعل أو الشخص أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا) . ذلك أنه لا يكمل إيمان المؤمن إلا إذا شعر بحقوق الإيمان عليه وهى حقوق لله وحقوق للعباد ومن الثانية القصاص لما فى ذلك من الزجر عن القتل، ولما فى تركه من الاستهزاء بحقوق الدماء، ومن استهزأ بها كان قد انتهك أكبر حق من حقوق الأمة، وهدّ ركنا من أركان الإيمان، يرشد إلى ذلك قوله «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» . وسبب العقوبة على الفعل الخطأ كالقتل أن الخطأ لا يخلو من التهاون وعدم العناية ومثله النسيان، إذ من شأنهما أن يعاقب الله عليهما، ومن ثم أمرنا الله تعالى أن ندعوه ألا يؤاخذنا عليهما بقوله «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» كما ثبت بنص القرآن أن آدم نسى وسمى مخالفته معصية وعوقب عليها لكن ورد فى السنة قوله صلى الله عليه وسلم «وضع الله عن هذه الأمة ثلاثا: الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه» رواه ابن ماجه. (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) تحرير الرقبة عتقها من الرقّ: أي ومن قتل مؤمنا خطأ بأن أراد رمى صيد أو غرض فأصاب مؤمنا، أو ضربه بما لا يقتل عادة كأن صفعه باليد أو ضربه بعصا فمات وهو لم يكن يقصد قتله، فعليه عتق رقبة من أهل الإيمان، لأنه لما أعدم نفسا مؤمنة كان كفارته أن يوجد نفسا (والعتق كالإيجاد من العدم) . (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) الدية: هى المال الواجب بالجناية على الحر فى النفس أو فيما دونها ويعطى إلى ورثة المقتول عوضا عن دمه: أي وعليه من الجزاء مع عتق الرقبة دية

يدفعها إلى أهل المقتول، وقد بينتها السنة وحددتها على الوجه الذي كان مقبولا عند العرب وهى مائة بعير مختلفة فى السن أو قيمتها إذا حصل التراضي بين الدافع والمستحق، ودية المرأة نصف دية الرجل، لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها. وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه «إن من اعتبط (قتل بغير سبب شرعى) مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود (أي قصاص يقتل به) إلا أن يرضى أولياء المقتول- وإن فى النفس الدية مائة من الإبل- ثم قال وعلى أهل الذهب ألف دينار» وفى هذا دليل على أن دية الإبل على أهلها إذا كانت هى رأس أموالهم، وأن الذين يتعاملون بالذهب كأهل المدن تكون من الذهب أو الفضة، وعلى أن هذا أصل لا قيمة للإبل. (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي إن الدية تجب على القاتل قتلا خطأ لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويسقطوها باختيارهم، لأنها إنما وجدت تطييبا لقلوبهم حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل، وتعويضا عما يفوتهم من المنفعة بقتله، فإذا هم عفوا فقد طابت نفوسهم وانتفى المحذور وكانوا هم ذوى الفضل على القاتل، وقد سمى الله هذا العفو تصدقا ترغيبا فيه. (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فإن كان المقتول من أعدائكم وهو مؤمن كالحارث بن يزيد كان من قريش وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فى حرب معهم ولم يعلم المسلمون إيمانه لأنه لم يهاجر وقد قتله عياش حين خروجه مهاجرا وهو لم يعلم بذلك، ومثله كل من آمن فى دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله- فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء يحاربون المسلمين فلا يعطون من أموالهم ما يستعينون به على قتالهم والتنكيل بهم.

(وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) وهم الذين عاهدوكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما هو حال الدول فى العصر الحاضر يعقد بعضهم معاهدات ومواثيق مع بعض آخر ألا يقاتلوهم ولا يساعدوا عليهم عدوا. (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي فالواجب فى قتل المعاهد كالواجب فى قتل المؤمن دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم، وعتق رقبة مؤمنة تكون كفارة عن حق الله الذي حرم قتل المعاهد كما حرم قتل المؤمن، ولم يعين هذه الدية للإشارة إلى أن للعرف العام والخاص حكمه ولا سيما إذا ذكر ذلك فى عقد الميثاق الذي بينهما، لأن هذا النص يكون أقطع لعرق النزاع وأجدر بالتراضي. وقد اختلف الفقهاء فى دية غير المسلمين لاختلاف الرواية فى ذلك، روى أحمد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عقل (دية) الكافر نصف دية المسلم» وروى عن أحمد «أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف ديته» وذهب الزهري وأبو حنيفة إلى أن ديته كدية المسلم لظاهر الآية فى أهل الميثاق وهم المعاهدون وأهل الذمة وعلى الجملة فالروايات متعارضة ومن ثم اختلف فيها الفقهاء. وظاهر الآية يدل على أن الدية على القاتل ولكن السنة بينت أن العاقلة (العائلة) وهم عصبته الأقربون هم الذين يدفعون الدية. وحكمة هذا تقرير التضامن بين الأقربين، وإذا عجزت العاقلة عن دفعها جعلت فى بيت المال (وزارة المالية) . (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي فمن لم يجد رقبة يعتقها بأن لم يجد مالا يشتريها به من مالكها ليحررها من الرق، أو لم يجد رقيقا (وهذا مقصد من مقاصد الإسلام) فعليه صيام شهرين متتابعين قمريين لا يفصل بين يومين منهما إفطار فى النهار، فإن أفطر يوما بغير عذر شرعى استأنفه وكان ما صامه قبل كأن لم يكن. (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) أي قد شرعها لكم، ليتوب عليكم ويطهر نفوسكم من التهاون وقلة التحري التي تفضى إلى القتل الخطأ.

(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي وكان الله عليما بأحوال النفوس وما يطهرها، حكيما فيما شرعه من الأحكام والآداب التي بها هدايتكم وإرشادكم إلى ما فيه سعادتكم فى الدنيا والآخرة. (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) خالدا فيها أي ماكثا إلى الأبد أو ما كثا مكثا طويلا، غضب الله عليه أي انتقم منه، لعنه: أبعده عن رحمته، أعد له: أي هيأ له. وللعلماء فى توبة قاتل المؤمن عمدا آراء ثلاثة: 1) يرى ابن عباس وفريق من السلف أن قاتل المؤمن عمدا لا تقبل له توبة وهو خالد فى النار أبدا، ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى» وروى عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله من قتل مؤمن، ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا فى دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار» وعن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال «لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبّهم الله تعالى على مناخرهم فى النار وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر به» . وهؤلاء يرون أن التائب من الشرك وقد كان قاتلا زانيا تقبل توبته ولا تقبل توبة المؤمن الذي ارتكب القتل وحده، إذ الأول لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور فله شبه عذر إذا هو كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ولم يكن ظهر له صدق النبوة فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه كفر وضلال وتاب وأناب وعمل صالحا كان جديرا بالعفو.

وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وحرمة القتل فلا عذر له، إذ هو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير، فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته، ومن ثم يهن المسلمون ويضعفون ويكون بأسهم بينهم شديدا. وإنك لترى أنه ما انحلت الرابطة بين المسلمين وانفصمت عروة الوفاق بينهم إلا بعد أن أقدم بعضهم على سفك دماء بعض ورجحوا شهوة الغضب والانتقام على أمر الله تعالى، ومن رجح شهوات نفسه الضارة على أمر الله وعلى مصلحة المؤمنين بغير شبهة فهو جدير بالخلود فى النار والغضب واللعنة، إذ هؤلاء قد تجرءوا على حدود دينه ولم يبق للشرع حرمة فى قلوبهم. قال فى الكشاف: هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد، والإبراق والإرعاد، أمر عظيم، وخطب جليل، ومن ثم روى عن ابن عباس أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة ... والعجب من قوم يقرءون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث (الأحاديث التي تقدم ذكرها) وقول ابن عباس بمنع التوبة ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم منالهم أن يطمعوا فى العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟» اه. 2) يرى فريق آخر أن المراد بالخلود المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص القاطعة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وما فى الآية إخبار من الله بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه ذلك كما جاء فى قوله عز اسمه «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» فإنه لو كان المراد منها أنه سبحانه يجزى كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ومن ثم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا أنه قال هو جزاؤه إن جازاه ، وبهذا قال جمع من العلماء وقالوا هو كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلت فجزاؤك القتل والضرب، وهو إن لم يجازه لم يكن كذابا، وقد روى عن ابن عباس جواز المغفرة بلا توبة أيضا، وقال فى الآية هى جزاؤه، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

[سورة النساء (4) : آية 94]

3) ويرى فريق ثالث أن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل، وحكمه مما لا شك فيه، وعكرمة وابن جريج فسرا متعمدا مستحلا فى الآية. أي: ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا له، فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا. [سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) تفسير المفردات الضرب فى الأرض: السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد، لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته، فى سبيل الله: أي لجهاد أعدائكم، فتبينوا أي تثبتوا وتأنّوا، ألقى إليكم السلام: أي انقاد واستسلم لكم فلم يقاتلكم، عرض الحياة الدنيا: أي متاعها الحاضر الذي يأخذ منه البر والفاجر، مغانم كثيرة: أي رزق وفضل كثير. المعنى الجملي بعد أن بين عز اسمه فى الآيات السابقة أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا على سبيل الخطأ، وأن من قتل مؤمنا متعمدا فلا جزاء له إلا جهنم خالدا فيها أبدا. أراد هنا أن ينبه المؤمنين إلى ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل فى ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين حين انتشر الإسلام ولم يبق مكان فى بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين أو ممن يميل إلى الإسلام ويتحينون الفرص للاتصال

بأهله، فأعلمهم ألا يحسبوا كل من يجدونه فى دار الكفر كافرا، وأن يتبينوا من تظهر عليهم علامات الإسلام كالشهادة والسلام الذي هو تحية المؤمنين، وألا يحملوا مثل هذا على الخداع، إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألمّ بها إن لم يكن قد تمكن فيها، ومن ثم أمر بالتثبت ونهى عن إنكار إسلام من يدعى الإسلام ولو بإلقاء تحيته، فما بالك بمن ينطق بالشهادتين، وأبان أن الذي يدعوه إلى ظن هذا الظن إنما هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا؟ وبهذا أرشد المؤمن إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه ولا يبنى الظن على ميله وهواه، بل عليه أن يتقبل الظاهر حتى يستبين له خلافه. وفى سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة: منها ما أخرجه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال «مر رجل من بنى سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم، فقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوّذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية» . وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلّم بن جثامة، فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعى فسلم علينا فحمل عليه محلم فقتله، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآية» . وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة فيها المقداد، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرّقوا وبقي رجل له مال كثير فقال أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف لك بلا إله إلا الله غدا؟ وأنزل الله هذه الآية» . ولا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقروها على أصحاب كل واقعة فيرون أنهم سبب نزولها.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) أي يا أيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله واتبعوا الأوامر وتركوا النواهي، إذا سرتم للغزو وجهاد الأعداء رفعة لدينه وإعلاء لكلمته، تأنوا فى قتل من اشتبه عليكم أمره فلم تعلموا أمسلم هو أم كافر؟ ولا تعجلوا فى قتل أحد إلا إذا علمتم يقينا أنه حرب لكم ولله والرسول (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ولا تقولوا لمن انقاد لكم واستسلم ولم يقاتلكم وأظهر أنه من أهل ملتكم- إنك لست بمؤمن حقا فتقتلوه ابتغاء متاع الدنيا وحطامها الزائل السريع التحول والانتقال، فعند الله أرزاق كثيرة ونعم لا تحصى ولا تعد، يغنّمكموها فيغنيكم إذا شاء. (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أي إنكم أول ما دخلتم فى الإسلام حقنت دماؤكم وأموالكم بالنطق بكلمة الشهادة من غير انتظار لمعرفة أن ما فى القلب موافق لما فى اللسان، ومنّ الله عليكم بذلك، فعليكم أن تعملوا مع الداخلين فى الإسلام كما عمل معكم وأن تعتبروا بظاهر القول ولا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة إنما كان لأجل الخوف من السيف. (فَتَبَيَّنُوا) أي فكونوا على بينة من الأمر الذي تقدمون عليه ولا تأخذوا بالظن، بل تدبروا ليظهر لكم أن الإيمان العاصم من حقن الدماء يكفى فيه ظاهر الحال كما كفى معكم من قبل. وفى إعادة التبيين مرة أخرى المبالغة فى التحذير من ذلك الفعل والوعيد عليه. (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي إنه تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شىء من البواعث التي حفزتكم على الفعل، فإن كانت ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو يجازيكم على ذلك فلا تفعلوا بل تثبتوا وتبينوا، وإن كان محض الدفاع عن الحق فهو مثيبكم على ذلك. وفى هذا وعيد وتحذير شديد من الوقوع فى مثل هذا الخطأ.

[سورة النساء (4) : الآيات 95 إلى 96]

وكذلك فيه إرشاد إلى ألا نحكم بتكفير من يخالفنا من أهل القبلة والعلم الصحيح والدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله بمجرد المخالفة لنا فى رأى أو عقيدة، فإن مثل هذا لا يقدم عليه المسلم جزافا. وعلينا أن ننظر بعد هذا كله إلى أن الإسلام منع قتل من يلقى السلم ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق إما على النصر وإما على ترك القتال، ورغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال، ليكون لمحض رفع العدوان والبغي وتقرير الحق والإصلاح. وأين هذا مما تفعله الدول الآن من القتال للربح وجمع الأموال وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء؟. [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) تفسير المفردات الضرر: المرض والعلل التي يعجز صاحبها معها عن الجهاد كالعمى والعرج، المثوبة الحسنى: هى الجنة. المعنى الجملي بعد أن عاتب الله المؤمنين على ما صدر منهم من قتل من تكلم بالشهادة- ذكر فضيلة الجهاد وأن من نصب نفسه له فقد فاز فوزا عظيما، فعليه أن يحترز من الوقوع فى الهفوات التي تخلّ بهذا المنصب العظيم.

الإيضاح

روى أن الآية نزلت فى كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة بدر. الإيضاح (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها وحرصا عليها، وبأنفسهم إيثارا للراحة والنعيم على التعب وركوب الأخطار- مساوين للمجاهدين الذين يبذلون أموالهم فى الاستعداد للجهاد بالسلاح والخيل والمئونة، ويبذلون أنفسهم بتعريضها للقتل فى سبيل الحق ومنع تعدى حزب الطاغوت، لأن المجاهدين هم الذين يحمون الأمة والبلاد، والقاعدين لا يأخذون حذرهم ولا يعدّون عدّتهم للدفاع ويكونون عرضة لتعدى غيرهم عليهم كما قال تعالى «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» أي بغلبة أهل الطاغوت عليها، ولكن النكوص عن الجهاد لا يكون مذمة وبخلا إلا مع القدرة، أما مع العجز والضرر كالعمى والزمانة والمرض فلا تبعة فيه حينئذ. ثم بين ما أجمله أولا من التفاضل الذي بين الفريقين وعدم تساويهما فقال: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) أي إن الله تعالى رفع المجاهدين على القاعدين درجة لا يقدر قدرها ولا يدرك كنهها، وهى ما خوّلهم الله عاجلا فى الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل ودفع شر الأعداء عن الأمة والبلاد. (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) أي ووعد الله كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد عجزا منه مع تمنى القدرة عليه المثوبة الحسنى وهى الجنة، فكل منهما كامل الإيمان مخلص لله فى العمل.

[سورة النساء (4) : الآيات 97 إلى 100]

(وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) أي وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولى الضرر أجرا عظيما. ثم بين هذا الأجر العظيم فقال: (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) هذه الدرجات هى ما ادخره الله لعباده من المنازل الرفيعة التي يقصر الحصر عن عدها كما قال تعالى «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» ودرجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا من قوة الإيمان بالله، وإيثار رضاه على الراحة والنعيم، وترجيح المصلحا العامة على الشهوات الخاصة. والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هى المغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا تكفّرها سائر الحسنات التي يأتى بها القاعدون. والرحمة هى ما يخصهم به الرحمن زيادة على ذلك من فضله وإحسانه، وقد صح من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة قال «إن فى المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه، قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» . (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان شأن الله وصفته الغفران لمن يستحق المغفرة، والرحمة لمن يؤتميه ذلك تفضلا منه وإحسانا. [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)

تفسير المفردات

تفسير المفردات توفى الشيء: أخذه وافيا تاما، وتوفى الملائكة للناس: قبض أرواحهم حين الموت والمأوى: المسكن، مراغما: مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فيرغم بذلك أنوف من كانوا مستضعفين له، وقع أجره على الله: أي وجب، والوقوع والوجوب يتواردان على معنى واحد. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة فضل المجاهدين فى سبيل الله على القاعدين بغير عجز- ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصرة الدين، وعذروا أنفسهم بأنهم فى أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم، ولكنهم فى الحقيقة غير معذورين، لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم، إذ هم بحبهم لبلادهم وإخلادهم إلى أرضهم وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ضعفاء فى الحق لا مستضعفون، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا مما أفاء الله به على المؤمنين، ومن خير الآخرة بإقامة الحق وإعلاء كلمة الدين. وظلمهم لأنفسهم: هو تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند ذوى قرابتهم من المبطلين. وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم فى عصرنا الحاضر بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمداراة المبطلين، وذلك عذر لا يعتد به، إذا الواجب

الإيضاح

عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى فى سبيل الله، أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم. أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال «إن سبب نزول الآية أن قوما من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يخفون الإسلام فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا فنزلت «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ» فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا» الآية فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل» . الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي إن الذين تتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمى أنفسهم برضاهم بالإقامة فى دار الذل والظلم حيث لا حرية لهم فى أعمالهم الدينية، ولا يتمكنون من إقامة دينهم ونصره وتأييده. (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟) أي تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم فى أىّ شىء كنتم من أمر دينكم؟ أي إنهم لم يكونوا فى شىء منه، إذ هم قدروا على الهجرة ولم يهاجروا. (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) هذا اعتذار عن تقصيرهم الذي وبخوا عليه: أي إننا لم نستطع أن نكون فى شىء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا فعجزنا عن القيام بواجبات الدين بين أهل مكة، وهذه حجة لم تتقبلها الملائكة، ومن ثم ردوا عليهم المعذرة فقالوا لهم: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟) وترحلوا إلى قطر آخر من الأرض،

تقدرون فيه على إقامة الدين وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن، ولا هو من خصاله. (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي إن أولئك الذين فصّلت حالهم الفظيعة نسكنهم فى الآخرة جهنم لتركهم ما كان مفروضا عليهم، إذ كانت الهجرة واجبة فى صدر الإسلام. (وَساءَتْ مَصِيراً) أي وقبحت جهنم مصيرا لهم، لأن كل ما فيها يسوءهم، وفى هذا إيماء إلى أن الرجل إذا كان فى بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب لبعض الأسباب، أو علم أنه فى غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة وجبت عليه الهجرة. أما المقيم فى دار الكفر ولا يمنع ولا يؤذى إذ هو عمل بدينه وأقام أحكامه بلا نكير فلا يجب عليه أن يهاجر، كما هو مشاهد من المسلمين المقيمين فى بلاد الإنكليز الآن، إلى أن الإقامة فيها ربما كانت سببا من أسباب ظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه. (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي إن أولئك الذين اعتذروا عن عدم إقامة دينهم وعدم الفرار به هجرة إلى الله ورسوله غير صادقين فى اعتذارهم. أما الاستضعاف الحقيقي فهو عذر مقبول كأولئك الشيوخ الضعفاء والعجزة كعياش بن أبى ربيعة وسلمة بن هشام، والنساء كأم الفضل أم عبد الله بن عباس، والولدان كعبد الله المذكور وغيره. (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) أي إنهم قد ضاقت بهم الحيل فلم يستطيعوا ركوب واحدة منها، وعمّيت عليهم الطرق فلم يهتدوا طريقا منها، إما للعجز كمرض وزمانة، وإما للفقر، وإما للجهل بمسالك الأرض ومضايقها بحيث لو خرجوا لهلكوا كما قالوا فى أمثالهم «قتلت أرض جاهلها» وقد أثر عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا، والمراد بالولدان هنا المراهقون الذين قربوا من البلوغ وعقلوا ما يعقل

الرجال والنساء فيلحقون بهم فى التكليف بوجوب الهجرة معهم، أو أن تكليفهم هو تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر. (فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أي إن أولئك المستضعفين الذين لم يهاجروا للعجز وتقطع الأسباب يرجى أن يعفو الله عنهم ولا يؤاخذهم بالإقامة فى دار الكفر. وفى هذا إيماء إلى أن العفو مطموع فيه غير مجزوم به، وإلى أن أمر الهجرة مشدّد فيه ولو باستعمال الحيل والبحث عن مضايق السبل، وبذا لا يخدع أحد ممن يحب وطنه نفسه، فيعدّ ما ليس بمانع مانعا. وهذا الرجاء الذي تفيده (عسى) بالنسبة إلى المخاطب، أو إنها هنا للتهيئة والإعداد: أي إنه تعالى يعدّهم ويهيئهم لعفوه، وفى هذا رمز إلى تعظيم أمر الهجرة، وإلى أن تركها جرم عظيم، وإلى أنه ينبغى أن يترصد لها الفرصة السانحة ويعلّق قلبه بها. (وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً) أي وكان شأن الله تعالى العفو عن الذنوب التي لها أعذار صحيحة بعدم المؤاخذة عليها، ومغفرتها بسترها وعدم فضيحة صاحبها فى الآخرة. ثم رغب سبحانه فى أمر الهجرة ونشط المستضعفين لما جرت به العادة من أن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به، ويتخيل مصاعب ومشقات لا توجد إلا فى خياله، وأن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له وأن عسرها إلى يسر فقال: (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) أي إن من يهاجر فى سبيل الله: أي لقصد رضاه وإقامة دينه كما يجب وكما يحب الله تعالى، يجد فى الأرض سبيلا يرغم به أنوف من كانوا مستضعفين له، ومأوى يصيب فيه الخير والسعة فوق النجاة من الاضطهاد والذل. وفى هذا وعد للمهاجرين فى سبيله بتسهيل سبل العيش لهم وإرغامهم أعداءهم والظفر بهم.

وبعد أن وعد سبحانه من يهاجر بالظفر بما يحب، ومن وجدان السبل ميسورة أمامه، ومن سعة العيش- وعد من يموت فى الطريق قبل وصوله دار الهجرة بالأجر العظيم الذي ضمنه له عز وجل إذا كان يقصد بهجرته رضا الله ونصرة رسوله فى حياته، وإقامة سننه بعد وفاته، وكان مستحقا لهذا الأجر ولو مات بعد أن تجاوز عتبة الباب ولو لم يصب تعبا ولا مشقة، فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه له كما فى الحديث «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» فقال: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) وفى إبهام هذا الأجر وجعله حقا واجبا عليه تعالى إيذان بعظم قدره وتأكيد ثبوته ووجوبه، ولله تعالى أن يوجب على نفسه ما يشاء، وليس لغيره أن يوجب عليه شيئا، إذ لا سلطان فوق سلطانه. وما أعظم الفارق بين هذا الوعد المؤكد وبين وعد تاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنهم محل رجاء وطمع عند الله. (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان شأن الله الغفران أزلا وأبدا لأمثال هؤلاء المهاجرين الذين دعاهم إيمانهم لترك أوطانهم لإقامة دينه واتباع سبيله، والرحمة الشاملة لهم بعطفه وإحسانه. روى ابن جرير عن ابن جبير «أنها نزلت فى جندب بن ضمرة وكان بلغه قوله تعالى- إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم- الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسلميها فقال لبنيه: احملوني فإنى لست من المستضعفين وإنى لأهتدى إلى الطريق، وإنى لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير وتوجهوا به إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم (موضع قرب المدينة) ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم، أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا لبنيه مات بالمدينة فنزلت» وروى غير ذلك.

السبب فى شرع الهجرة فى صدر الإسلام

وقد ذكر غير واحد من العلماء أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال ومات قبل الوصول إلى المقصد فله هذا الحكم. أخرج البيهقي عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خرج حاجّا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا فى سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» . السبب فى شرع الهجرة فى صدر الإسلام شرعت الهجرة فى صدر الإسلام لأسباب ثلاثة تتعلق بحال الفرد وحال الجماعة: 1) البعد عن الاضطهاد فى أمور الدين بإقامة شعائره بحيث يكون المسلم حرا فى تصرفه كما يعتقد، فكل شخص يظن أنه ربما يفتن عن دينه أو يكون ممنوعا من إقامته، يجب عليه أن يهاجر منه إلى مكان لا خطر فيه على نفسه ولا على دينه، فإن لم يفعل ذلك فقد ارتكب إثما كبيرا، وحمل وزرا عظيما. 2) تلقى الدين والنفقة فيه، وقد كان ذلك فى عصر النبي صلى الله عليه وسلم حين كان إرسال الدعاة والمرشدين من قبله متعذرا لتصدى المشركين لهم وحرمانهم من أداء وظائفهم لما لهم من القوة والبطش، وهذا الحكم فى كل من يقيم ببلد ليس فيه علماء يقيمون أحكام الدين، عليه أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه أمور دينه وأحكام شريعته. 3) أنه يجب على جماعة المسلمين أن تكون لهم دولة قوية تنشر دعوة الإسلام وتقيم أحكامه وحدوده وتحمى دعاته وأهله من عدوان العادين، فإذا خيف على هذه الدولة من غارة الأعداء وجب على المسلمين أينما كانوا أن يشدوا أزرها حتى تقوى وتقوم بما يجب عليها، مهما بعدت دارهم وشط مزارهم، وإلا كانوا راضين بضعفها ومعينين لأعداء الإسلام على إبطال الدعوة وتشريد الدعاة. وقد كانت هذه الأسباب موفورة قبل فتح مكة، فلما يسرّ الله فتحها وقوى

[سورة النساء (4) : الآيات 101 إلى 103]

الإسلام على الشرك فى جزيرة العرب كلها ودخل الناس فى دين الله أفواجا وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أطراف الجزيرة وغيرها من يعلّم الناس شرائع الإسلام زالت هذه الأسباب، وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» رواه أحمد والشيخان، وإذا وجد أحد الأسباب الثلاثة المتقدمة فى أي عصر وجبت الهجرة وأهمها اعتداء الكفار على بلاد المسلمين وخوف استيلائهم عليها. [سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 103] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) تفسير المفردات ضربتم فى الأرض: أي سافرتم فيها، لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته، والقصر بالفتح من القصر (كعنب) ضد الطول، وقصرت الشيء:

المعنى الجملي

جعلته قصيرا، والجناح: التضييق من جنح البعير إذا انكسرت جوانحه (أضلاعه) لثقل حمله، يفتنكم: يؤذوكم بقتل أو غيره، إقامة الصلاة: الذكر الذي يدعى به للدخول فيها، والأسلحة: واحدها سلاح، وهو كل ما يقاتل به كالسيف والخنجر والمسدس والبندقية من أسلحة العصر الحاضر، قضيتم الصلاة: أي أديتموها، فأقيموا الصلاة: أي ائتوا بها مقوّمة تامة الأركان والشروط، كتابا موقوتا: فرضا منجما فى أوقات محدودة لا بد من أدائها فيها. المعنى الجملي كان الكلام فى سابق الآيات فى الجهاد والحثّ عليه لإقامة الدين وحفظه وإيجاب الهجرة لأجل ذلك، وتوبيخ من لم يهاجر من أرض لا يقدر على إقامة دينه فيها، والجهاد يستلزم السفر، وذكر هنا أحكام من سافر للجهاد أو هاجر فى سبيل الله إذا أراد الصلاة وخاف أن يفتن عنها، فبين أنه يجوز له أن يقصر منها وأن يصلى جماعتها بالطريقة التي ذكرت فى الآية الثانية من هذه الآيات. الإيضاح (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وإذا سافرتم أىّ سفر فليس عليكم تضييق ولا ميل عن محجة الدين إذا قصرتم الصلاة: أي تركتم شيئا منها فتكون قصيرة، بشرط أن تخافوا فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما، وليس هذا خاصا بزمن الحرب بل إذا خاف المصلى قطاع الطريق كان له أن يقصر هذا القصر، وليس هذا هو قصر الصلاة الرباعية فى السفر المبين فى كتب الفقه، إذ هذا مأخوذ من السنة المتواترة بل المراد هنا القصر فى صلاة الخوف المذكور فى الآية الأولى والمبين في الآية التي بعدها وفى سورة البقرة بقوله تعالى «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً» . فالآية التي هنا بصدد القصر من عدد الركعات بأن تصلى طائفة مع الإمام ركعة

صلاة القصر فى السفر وشرطها

واحدة فإذا أتمتها تأتى الطائفة الأخرى وهى التي كانت تحرس الأولى فتصلى معه الركعة الثانية، وآية البقرة فى القصر من هيئة الصلاة بالترخيص فى عدم إقامة صورتها، بأن يكتفى المشاة والركبان بالإيماء عن الركوع والسجود. صلاة القصر فى السفر وشرطها كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الظهر والعصر والعشاء فى السفر ركعتين ركعتين وكذلك فعل أبو بكر وعمر وسائر الصحابة، ففى صحيح البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فى السفر لا يزيد على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان- يعنى فى صدر خلافته، وإلا فعثمان قد أتم فى آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه، وقد خرّج لفعله تأويلات اه. قال ابن القيم وأحسن ما اعتذر به عن عثمان أنه قد تزوج بمنى، والمسافر إذا أقام فى موضع وتزوج فيه أتم صلاته فيه وهو قول الحنفية والمالكية. وقد روى الشيخان عن عائشة قالت «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد فى صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر» . وقال عمر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى، وكان قد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . وقال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف فى القرآن ولا نجد صلاة السفر فى القرآن (يعنى صلاة الرباعية ركعتين) فقال له ابن عمر: يا أخى إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل. فالحق ما عليه الحنفية وغيرهم من وجوب القصر فى السفر خلافا للشافعية الذين أجازوا الإتمام.

كيفية صلاة الخوف

وشرط القصر فى الصلاة والإفطار فى رمضان أن يكون السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشى الأقدام بالاقتصاد فى البر وجرى السفينة والريح معتدلة فى البحر، لحديث أنس أنه قال حين سئل عن قصر الصلاة «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين» رواه أحمد ومسلم وأبو داود، وقدره الشافعي بمسيرة يومين، وحقق المرحوم أحمد الحسيني بك فى كتابه [دليل المسافر] أن هذه المسافة تقدر بنحو 81 ك م عند الحنفية، وبنحو 89 ك م لدى الشافعية والمالكية والحنابلة، وعلى هذا فالمسافر من القاهرة إلى طنطا فما فوقها يقصر الصلاة عند الحنفية لأن المسافة بينهما 87 ك م وإلى المحطة التي تليها (شبر النملة) لدى المذاهب الثلاثة لأن المسافة بينهما 93 ك م. كيفية صلاة الخوف ثم بين سبحانه ما قبله من النص المجمل الوارد فى مشروعية القصر وبيان كيفيته عند الضرورة، وذكر هذا البيان فى القرآن واكتفى فيما عداه بالبيان بطريق السنة لمزيد الحاجة إليه، لما فيه من كثرة التغيير عن الهيئة الأصلية فقال: (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي وإذا كنت أيها الرسول فى جماعتك من المؤمنين وأردت أن تقيم بهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك بعد أن تجعلهم طائفتين، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدوّ يحرسون المصلين خوفا من الاعتداء، وليحمل الذين يقومون معك فى الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة، لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها. (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أي فإذا سجد الذين يقومون معك فى الصلاة فليكن الذين يحرسونكم من خلفكم، إذ أحوج ما يكون المصلّى للحراسة حين السجود لأنه لا يرى من يهمّ به.

ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم كما صلوا، وهو قوله: (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) أي ولتأت الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا كما صلت الطائفة الأولى، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فى الصلاة كما فعل الذين من قبلهم. وحكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية أن العدوّ قلّما يتنبه أول الصلاة لبدء المسلمين فيها، إذ هو إذا رآهم صفا ظن أنهم قد اصطفوا للقتال واستعدوا للحرب والنزال، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم فى صلاة، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها فى الصلاة كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة. وقد بين الله تعالى علة الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى فى الصلاة بقوله: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم فى سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم ويحملون حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون السلاح تاركون حماية المتاع والزاد فيصيبون منكم غرّة فيقتلون من استطاعوا قتله وينتهبون ما استطاعوا نهبه فلا تغفلوا عنهم. وقد يعرض لبعض المحاربين أعذار يشق فيها حمل السلاح ومن ثم رخص فى تركه لصاحب العذر فقال: (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أي ولا إثم عليكم فى وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله فى ثيابكم، وربما أفسد الماء السلاح إذ يجعله يصدأ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل، ولكن يجب عليكم فى جميع الأحوال أن تأخذوا حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم، والضرورات تقدر بقدرها.

(إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) بما هداكم إليه من أسباب النصر بأخذ الأهبة والحذر والاعتصام بالصبر والصلاة رجاء ما عند الله من المثوبة والأجر. فهذا العذاب المهين هو عذاب غلب المسلمين وانتصارهم عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به، ويؤيده قوله تعالى «فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ» وقوله: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ» . روى البخاري أن هذه الرخصة التي فى الآية نزلت فى عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا، وروى أحمد والحاكم والبيهقي عن ابن عياش الزرقي قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عسفان فاستقبلنا المشركون وعليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم ثم قالوا يأتى عليهم الآن صلاة هى أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآيات (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) » الحديث، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع «أن طائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة وجاه العدو (اتجاهه مراقبة له) فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت من صلاته فأتموا فسلم بهم» وسميت هذه الغزوة ذات الرقاع، لأنها نقبت أقدامهم فلفوا على أرجلهم الرقاع والخرق. وقد قال بهذه الصلاة أفقه الصحابة عليهم الرضوان على وابن عباس وابن مسعود وابن عمرو وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو موسى، ومن فقهاء الأمصار مالك والشافعي وغيرهما. (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي فإذا أديتم الصلاة على هذه الصورة فاذكروا الله تعالى فى أنفسكم بتذكر وعده بنصر من ينصرونه

فى الدنيا ونيل الثواب فى الآخرة، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء وعلى كل حال تكونون عليها من قيام فى المسابقة والمقارعة، وقعود للرمى أو المصارعة، واضطجاع من الجراح أو المخادعة، فذكر الله مما يقوّى القلوب ويعلى الهمم، ويجعل متاعب الدنيا حقيرة ومشاقها سهلة، والثبات والصبر يعقبهما الفلاح والنصر كما قال تعالى فى سورة الأنفال «إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» . والخلاصة: إننا أمرنا بالذكر على كل حال نكون عليها فى الحرب كما يدل على ذلك السياق، فأجدر بأن نؤمر به فى حال السلم، إلى أن المؤالنين فى جهاد مستمر وحروب دائمة، فهم تارة يجاهدون الأعداء، وأخرى يجاهدون الأهواء، ومن ثم أمرهم الله بالذكر فى كثير من الآي كقوله «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ» لما فى ذلك من تربية النفس وصفاء الروح وتذكر جلال الله وعظمته، وأن كل شىء هيّن فى سبيله وابتغاء مرضاته. وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما، ثم عذر أهلها فى حال العذر، غير الذكر فإن الله لم يجعل له حدا ينتهى إليه ولم يعذر أحدا فى تركه، إلا مغلوبا على عقله فقال: فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم: أي بالليل والنهار فى البر والبحر، وفى السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال اه. (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الاطمئنان: السكون بعد اضطراب وانزعاج: أي فإذا سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد أن تضع الحرب أوزارها فأدوا الصلاة بتعديل أركانها ومراعاة شرائطها ولا تقصروا من هيئتها كما أذن لكم حال الخوف. ثم علل وجوب المحافظة على الصلاة حتى فى وقت الخوف ولو مع القصر منها فقال (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) يقال وقت العمل يقته ووقته توقيتا إذا جعل له وقتا يؤدّى فيه: أي إن الصلاة كانت فى حكم الله فرضا مؤكدا فى أوقات

[سورة النساء (4) : آية 104]

محدودة لا بد من أدائها فيها بقدر الإمكان، فأداؤها فى أوقاتها مع القصر بشرطه خير من تأخيرها لتؤدى تامة كاملة. والحكمة فى توقيتها فى تلك الأوقات المعلومة أن الأشياء إن لم يكن لها وقت معين لا يحافظ عليها الجم الغفير من الناس. إلى ما فى هذا النوع من الذكر المهذب للنفس من التربية العملية للأمة الإسلامية، بأن تلتزم أداء أعمالها فى أوقات معينة مع عدم الهوادة فيها، ومن قصر فيها فى تلك الأوقات الخمسة فى اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه ويغرق فى بحار الغفلة. ومن قوى إيمانه وزكت نفسه لا يكتفى بهذا القدر القليل من ذكر الله ومناجاته بل يزيد عليه من النوافل ما شاء الله أن يزيد. والخلاصة: إن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مذكرة للمؤمن بربه فى الأوقات المختلفة، لئلا تحمله الغفلة على الشر أو التقصير فى الخير، ولمن يريد الكمال فى النوافل والأذكار أن يختار الأوقات التي يرى أنها أوفق بحاله. [سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) تفسير المفردات الوهن: الضعف، والابتغاء: الطلب. المعنى الجملي كان الكلام فيما سلف فى شأن الحرب وما يقع فيها، وبيان كيفية الصلاة فى أثنائها، وما يلاحظ فيها إذا كان العد ومتأهبا للحرب من اليقظة وأخذ الحذر وحمل

الإيضاح

السلاح فى أثنائها، وبين فى أثناء السياق شدة عداوة الكفار لهم وتربصهم غفلتهم وإهمالهم ليوقعوا بهم. وهنا نهى عن الضعف فى لقائهم، وأقام الحجة على كون المشركين أجدر بالخوف منهم، لأن ما فى القتال من الألم والمشقة يستوى فيه المؤمن والكافر، ويمتاز المؤمن بأن له من الرجاء فى ربه ما ليس عند الكافر، فهو يرجو منه النصر والمعونة، ويعتقد أنه قادر على إنجاز وعده، كما يرجو منه المثوبة على حسن بلائه فى سبيله وقوة الرجاء تخفف الآلام، وتنسيه التعب والنّصب. الإيضاح (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي ولا تضعفوا فى طلب القوم الذين ناصبوكم العداوة بل عليكم أن تستعدوا لقتالهم بعد الفراغ من الصلاة مع أخذ الحذر وحمل السلاح عند أدائها، وذلك فى معنى الأمر بالهجوم. وسرّ هذا أن الذي يوجه همته إلى المهاجمة تشتد عزيمته وتعلو همته، أما الذي يلتزم الدفاع فحسب فإنه يكون خائر العزيمة ضعيف القوة. (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) أي إن ما ينالكم من الآلام ينالهم منه مثله، فهم بشر مثلكم، وهم مع هذا يصبرون، فما لكم لا تصبرون وأنتم أولى منهم بالصبر؟ وبين سبب هذا بقوله: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ) من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم فى الآخرة. إلى أنه تعالى قد وعدكم إحدى الحسنيين النصر: أو الجنة بالشهادة إذا نصرتم دينه ودافعتم عن حماه، وهذا الوعد من الرحمن مع خلوص الإيمان يدعوان إلى الرجاء والأمل ويضاعفان العزيمة، ويحثان صاحبهما على العمل بصبر وثبات. أما اليائس من هذا الوعد الكريم فإنه يكون ضعيف العزيمة ميت الهمة،

[سورة النساء (4) : الآيات 105 إلى 113]

يغلب عليه الجزع والفتور، فإن تساويتم فى الآلام فقد فضلتموهم فى الثقة بحسن العاقبة، فأنتم أجدر منهم بالإقدام والجرأة. (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) وقد ثبت فى واسع علمه ومضت به سننه أن العاقبة للمتقين والنصرة لهم على الكافرين، ماداموا عاملين بهديه سائرين على الطريق التي وضعها لنصرة الحق على الباطل من الأخذ بالأسباب وكثرة العدد والغدد، فإذا هم فعلوا ذلك كانوا أشد منهم قتالا وأحسن منهم نظاما، وبذا يفوزون بالمطلوب وبحسن العاقبة. [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)

تفسير المفردات

تفسير المفردات بما أراك الله: أي بما عرّفك وأوحى به إليك، خصيما: أي تخاصم وتناضل عنهم، يختانون أنفسهم: يخونونها ويتكلفون ما يخالف الفطرة مما يعود عليهم بالضرر، والمجادلة أشد المخاصمة، والوكيل: هو الذي يوكل إليه الأمر فى الحفظ والحماية، والمراد بالسوء هنا: ما يسوء الإنسان به غيره، وبالظلم: ما كان ضرره خاصا بالعامل كالحلف الكاذب، والاستغفار: طلب المغفرة من الله مع الشعور بقبح الذنب والتوبة منه، والكسب: ما يجرّ منفعة أو يدفع مضرة، والإثم الذنب، والخطيئة: الذنب غير المتعمد، والإثم ما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب، يرم به: أي يقذفه به ويسنده إليه، احتمل: كلف نفسه أن تحمل، والبهتان: الكذب على غيرك بما يبهت منه ويتحير عند سماعه. المعنى الجملي بعد أن حذر الله المؤمنين من المنافقين أعداء الحق وأمرهم أن يستعدوا لمجاهدتهم خوف أن يطمسوا معالم الحق ويهلكوا أهله- أمرهم هنا أن يقوموا بحفظ الحق وألا يحابوا فيه أحدا. روى ابن جرير عن قتادة: أن هؤلاء الآيات أنزلت فى شأن طعمة بن أبيرق وكان رجلا من الأنصار، ثم أحد بنى ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده، ثم قذفها على يهودى كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين، فجاء اليهودي إلى نبى الله صلى الله عليه وسلم يهتف، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاءوا إلى نبى الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبى الله عليه الصلاة السلام قد همّ بقبول عذره حتى أنزل

الإيضاح

الله فى شأنه (وَلا تُجادِلْ) إلخ وكان طعمة قذف بها بريئا، فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكة فأنزل الله فيه (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) الآية» . الإيضاح (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ) أي إنا أنزلنا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه، لأجل أن تحكم بين الناس بما أعلمك الله به من الأحكام. (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أي ولا تكن لمن خان خصما: أي مخاصما ومدافعا تدافع عنه من طالبه بحقه الذي خان فيه. وخلاصة ذلك- إن عليك ألا تتهاون فى تحرى الحق اغترارا بلحن الخائنين وقوة جدلهم فى الخصومة، لئلا تكون خصيما لهم وتقع فى ورطة الدفاع عنهم، ويؤيد هذا حديث أم سلمة «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلىّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» . (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) مما يعرض لك من شؤون البشر وأحوالهم بالميل إلى من تراه ألحن بحجته، أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به، فهذا ونحوه صورته صورة من أتى ذنبا يوجب الاستغفار وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل، والتحيز للخصم. وفى هذا من زيادة الحرص على الحق والتشديد فيه ما لا يخفى، حتى كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع يجب الاحتراس منه. كما أن فيه إيماء إلى أن الاعتقاد الشخصي والميل الفطري والديني لا ينبغى أن يظهر لهما أثر فى مجلس القضاء، وإلى أن القاضي لا يساعد من يظن أنه صاحب الحق، بل عليه أن يساوى بين المتخاصمين فى كل شىء. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم فى هذه القضية قبل نزول الآيات ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق، لكنه أحسن الظن فى أمر بيّن له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه، وما ينبغى له أن يعامل به ذويه.

ثم رغبهم فى المغفرة فقال: (إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنه تعالى مبالغ فى المغفرة والرحمة لمن استغفره. (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) هذا الخطاب وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعدل الناس وأكملهم مبالغة فى التحذير من هذه الخلة المعهودة فى كثير من الحكام، وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم، لأن ضررها عائد إليهم، والذين يختانون هم هذا السارق ومن عاونه، لأنه شريك له فى الإثم والخيانة، ولهم نظراء فى كل زمان ومكان. وخلاصة المعنى- لا تدافع عن هؤلاء الخونة ولا تساعدهم عند التخاصم. (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) المراد بعدم الحب البغض والسخط: أي إن الله يبغض من اعتاد الخيانة وألفت نفسه اجتراح السيئات وضريت عليها ولم يعدّ للعقاب الإلهىّ الرهبة والخشية التي ينبغى أن يفكّر مثله فيها، وإنما يحب الله أهل الأمانة والاستقامة. ثم بين أحوال الخائنين، ونعى عليهم أفعالهم فقال: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) أي إن شأن هؤلاء الخوانين أنهم يستترون من الناس عند اجتراحهم الآثام إما حياء وإما خوفا من ضررهم، ولا يستترون من الله ولا يستحيون منه بتركها لضعف إيمانهم، إذ الإيمان يمنع من الإصرار وتكرار الذنب ولا تقع الخيانة من صاحبه إلا عن غفلة أو جهالة عارضة لا تدوم، فمن يعلم أن الله يراه فى حنادس الظلمات لا بد أن يترك الذنب والخيانة حياء منه تعالى وخوفا من عقابه، وهو تعالى شاهدهم حين يدبرون ليلا ما لا يرضى من القول، تبرئة لأنفسهم ورمى غيرهم بجريمتهم. ثم توعدهم على عظيم جرمهم فقال: (وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) أي حافظا لأعمالهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، فلا سبيل إلى نجاتهم من عقابه. ثم حذر المؤمنين من مساعدة هؤلاء الخوانين والحدب عليهم فقال:

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أي يا هؤلاء أنتم جادلتم عنهم وحاولتم تبرئتهم فى الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة، يوم يكون الخصم والحاكم هو الله تعالى المحيط بأعمالهم وأحوالهم وأحوال الخلق كافة؟ أي فلا يمكن أن يجادل هناك أحد عنهم ولا أن يكون وكيلا بالخصومة لهم، فعلى المؤمنين أن يراقبوا الله تعالى فى مثل ذلك ولا يظنوا أن من أمكنه أن ينال الفوز والحكم له وأخذه من قضاة الدنيا بغير حق، يمكنه أن يظفر به فى الآخرة «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» . فى الآية إيماء إلى أن حكم الحاكم فى الدنيا لا يجيز للمحكوم له أن يأخذ به إذا علم أنه حكم له بغير حقه، كما أن فيها توبيخا وتقريعا لأولئك الذين أرادوا مساعدة بنى أبيرق على اليهودي. ثم رغب فى التوبة من الذنوب وحث عليها فقال: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) أي ومن يعمل قبيحا يسوء به غيره، أو يظلم نفسه بفعل معصية تختص به كالحلف الكاذب يجد الله غفارا لذنوبه، رحيما متفضلا عليه بالعفو والمغفرة. وفى ذلك حث وترغيب لطعمة وقومه فى التوبة والاستغفار، كما أن فيها بيانا للمخرج من الذنب بعد وقوعه، وفيها تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدمهما، وهما أسس الشرائع. والمراد بوجدان الله غفورا رحيما: هو أن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة فى نفسه بكراهة الذنب وذهاب داعيته ويجد أثر الرحمة بالرغبة فى الأعمال الصالحة التي تطهر النفس وتزيل الدّرن منها. ثم حذر من فعل الذنوب والآثام وذكر عظيم ضرها فقال: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) أي ومن يعمل الإثم وير أنه قد كسبه وانتفع به فإنما كسبه وبال على نفسه وضرر لا نفع له فيه، كما يخطر على بال من يجهل عواقب الآثام فى الدنيا والآخرة، من فضيحة للآثم ومهانة له بين الناس وعند الحاكم

العادل كما وقع لأصحاب هذه القصة الذين نزلت فى شأنهم هذه الآيات، ومن خزى فى الآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي إنه تعالى بعلمه الواسع حدد للناس شرائع يضرهم تجاوزها، وبحكمته جعل لها عقابا يضر المتجاوز لها، فهو إذا يضر نفسه ولا يضر الله شيئا. (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي ومن يكسب ذنبا خطأ بلا تعمد أو إثما يصدر عنه مع ملاحظة أنه ذنب ثم يبرئ نفسه وينسبه إلى برىء ويزعم أنه هو الذي كسبه فقد كلف نفسه وزر البهتان بافترائه على البريء واتهامه إياه. وقد فشا هذا بين المسلمين فى هذا الزمان، ولم يكن لهذا من سبب إلا ترك هداية الدين وقلة الوازع النفسي والغفلة عن الأوامر والنواهي التي جاءت بها الشريعة. وبعد أن ذكر المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول صلوات الله عليه عن الحق، بين فضله ونعمته عليه فقال: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) أي إنه تعالى بفضله ورحمته عليك صرف نفوس الأشرار عن الطمع فى إضلالك والهمّ بذلك، لأنه إذا توجهت همتهم إلى التلبيس على شخص ومحاولة صرفه عن الحق، احتاج إلى طائفة من الوقت لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم حتى تمحص الحقائق وينجلى الرشد من الغىّ، فيضيع وقت هو فى أشد الحاجة إليه لصرفه فى عمل نافع، ومن ثم تفضل على نبيه صلى الله عليه وسلم ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه. والخلاصة- إنه لولا فضل الله عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة ورحمته لك ببيان حقيقة الواقع لهمت طائفة منهم أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية فى نفسها، ولكنهم قبل أن يطمعوا فى ذلك ويهموا به جاءك الوحى ببيان الحق وإقامة أركان العدل والمساواة فيه بين جميع الخلق.

[سورة النساء (4) : الآيات 114 إلى 115]

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بانحرافهم عن الصراط السوىّ الذي هداهم الإسلام إليه (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) وقد عصمك الله من الناس ومن اتباع الهوى فى الحكم بينهم. (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) علمت مما سلف أن الكتاب هو القرآن، والحكمة: فقه مقاصد الدين وأسراره ووجه موافقتها للفطرة وانطباقها على ستن الاجتماع البشرى ومصالح الناس فى كل زمان ومكان. (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من الكتاب والشريعة، وخصوصا ما تضمنته هذه الآيات من العلم بحقيقة الواقعة التي تخاصم فيها بعض المسلمين مع اليهودي. (وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) إذ أرسلك للناس كافة، وجعلك خاتم النبيين، واختصك بنعم كثيرة ومزايا لا تدخل تحت حصر، فيجب أن تكون أعظم الناس شكرا له، كما يجب على أمتك مثل ذلك ليكونوا خير أمة أخرجت للناس قدوة لغيرهم فى جميع الخيرات. [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) تفسير المفردات النجوى: المسارّة بالحديث، أو هو جمع واحده نجىّ بمعنى المتناجين: أي المتسارّين المعروف: ما تعرفه النفوس وتقره وتتلقاه بالقبول، وبغى الشيء: طلبه، والمشاقّة: المعاداة

المعنى الجملي

والمخالفة مأخوذة من الشّق كأن كل واحد من المتعاديين يكون فى شق غير الذي فيه الآخر. المعنى الجملي لا يزال الحديث فى الذين يختانون أنفسهم ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، وهم طعمة بن أبيرق ومن أراد مساعدته من بنى جلدته. الإيضاح (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) أي لا خير فى كثير من تناجى أولئك الذين يسرّون الحديث من جماعة طعمة الذين أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي وبهته ومن سائر الناس، ولكن الخير كل الخير فى نجواى، من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، وإنما قال فى كثير لأن من النجوى ما يكون فى الشؤون الخاصة كالزراعة والتجارة مثلا فلا توصف بالشر ولا هى مقصودة من الخير، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي عنها الخير هى النجوى فى شؤون الناس ومن ثم استثنى منها الأشياء الثلاثة التي هى جماع الخير للناس. والكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنّة الإثم والشر، ومن ثم خاطب الله المؤمنين بقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» . والسرّ فى كون النجوى مظنة الشر فى الأكثر أن العادة قد جرت بحب إظهار الخير والتحدث به فى الملأ. وأن الشر والإثم هو الذي يذكر فى السر والنجوى، وفى الأثر «الإثم ما حاك فى النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس» . وقد استثنى الله من النجوى التي لا خير فى أكثرها أمورا ثلاثة، لأن خيريتها أو كمالها تتوقف على الكتمان وجعل التعاون عليها سرا والحديث فيها نجوى.

فالصدقة وهى من الخير قد يؤذى إظهارها المتصدّق عليه ويضع من كرامته، ومن ثم قال عز من قائل «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» . وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة من إيتائه إياها جهرا ولومع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله. وكذلك الأمر بالمعروف على مسمع من الناس فكثيرا ما يستاء منه المأمور به ولا سيما إذا كان الآمر من أقرانه لأنه يرى فى أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل وإبهاما له بالتقصير أو الجهل، فمن ثم كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء، ومثله الإصلاح بين الناس، فإنه ربما ترتب على إظهاره والتحدث به كثير من الشر، ألا ترى أن بعض الناس إذا علم أن ما يطالب به من الصلح كان بأمر فلان من الناس لا يستجيب ولا يقبل، أو يصده عن الرضا به ذكره بين الناس وعلمه بأنه كان بسعى وتواطؤ. أخرج البيهقي عن أبى أيوب الأنصاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا أبا أيوب، ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النّعم؟ فقال بلى يا رسول الله، قال تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقرّب بينهم إذا تباعدوا» وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» . (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة من الطاعات لوجه الله وطلب مرضاته فإن الله سيؤتيه الثواب العظيم والأجر الجزيل، وإنما تنال مرضاة الله بالشيء إذا فعل على الوجه الذي يحصل به الخير ويتم به النفع الذي شرع لأجله، وبذا ترقى روح الفاعل له ارتقاء تصل به إلى ذلك الفضل وتنال قربا معنويا من الله وتصير أهلا للجزاء الأوفى فى حياة أشرف من هذه الحياة وأرقى.

والخلاصة- إن ابتغاء مرضاته إنما تطلب بالإخلاص وعدم إرادة السمعة والرياء كما يفعل المتفاخرون من الأغنياء (تصدقنا. أعطينا منحنا. عملنا وعملنا) فهؤلاء إنما يبتغون الربح بما يبذلون أو يعملون لا مرضاة لله تعالى. ولذلك يشق عليهم أن بكون خفيا، وأن يخلصوا فى الحديث عنه نجيّا، لأن الاستفادة منه بجذب القلوب إليهم، وتسخير الناس لخدمتهم، ورفعهم لمكانتهم، إنما تكون بإظهاره لهم ليتعلق الرجاء فيهم. وبعد أن وعد الله بالجزاء الحسن من يتناجون بالخير ويبتغون نفع الناس مرضاة الله عز وجل- أوعد الذين يتناجون بالشر ويبيّتون ما يكيدون به للناس فقال: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي ومن يشاقق الرسول بارتداده عن الإسلام وإظهار عداوته له من بعد ما ظهرت له الهداية على لسانه وقامت عليه الحجة ويتبع سبيلا غير سبيل أهل الهدى- نوله ما تولى: أي نتركه وما اختار لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه. وفى هذا بيان لسنة الله فى عمل الإنسان، وإيضاح لما أوتيه من الإرادة والاستقلال والعمل بالاختيار، فالوجهة التي يتولاها ويختارها لنفسه يوليه الله إياها: أي يجعله واليا لها وسائرا على طريقها، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختار لنفسه بحسب الاستعداد والإدراك وعمل ما يرى أنه خير له وأنفع فى عاجله أو آجله أو فيهما معا، ثم ندخله جهنم ونعذبه أشد العذاب، لأنه استحب العمى على الهدى وعاند الحق واتبع الهوى، وما أقبحها عاقبة لمن تفكر وتدبر! وقد اشترط فى هذا الوعيد أن يتبين له الهدى أما من لم يتبين له فلا يدخل فيه وهم أصناف: فمنهم من نظر فى الدليل ولم يظهر له الحق وبقي متوجها إلى طلبه بتكرار النظر والاستدلال مع الإخلاص وهذا معذور غير مؤاخذ، ومنهم من لم تبلغه الدعوة الإسلامية أو بلغته مشوهة معكوسة ككثير من أهل أوربا فى العصر الحاضر، وحال هؤلاء كحال من سبقهم، ومنهم من اتبع الهدى تقليدا لمن يثق به كآبائه وخاصة أهله،

[سورة النساء (4) : الآيات 116 إلى 122]

وهذا لم يتبين له الهدى، ولذلك يتركه إلى كل ما يقره عليه أهله ورؤساؤه من البدع والضلالات. [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) تفسير المفردات يدعون: أي يتوجهون ويطلبون منها المعونة لهيبة غيبية لا يعقل الإنسان معناها، إلا إناثا: أي أمواتا، والعرب تطلق على الميت أنثى لضعفه وعجزه، والشيطان هو الخبيث المؤذى من الجن والإنس، والمريد والمارد من مرد على الشيء إذا مرن عليه حتى صار يأتيه بلا تكلف، والمراد أنه مرد على الإغواء والإضلال أو تمرد واستكبر عن الطاعة، واللعن: هو الطرد والإبعاد مع السخط والإهانة، والنصيب: الحصة والسهم من الشيء، والمفروض: المعيّن، والأمانى: جمع أمنية، يقال تمنى الشيء إذا أحب أن يكون له وإن لم يتخذ له أسبابه، والتمني: تقدير شىء فى النفس وتصويره فيها سواء أكان عن تخمين وظن أم كان عن رؤية وبناء على أصل، ولكنه يغلب فيما يبنى على الحدس والتخمين وما لا حقيقة له،

المعنى الجملي

البتك: القطع، وسيف باتك: أي قاطع والتبتيك: التقطيع، والغرور: الباطل، والمحيص المهرب والمخلص، يقال: وقعوا فى حيص بيص وفى حاص باص: أي فى أمر يعسر التخلص منه. المعنى الجملي علمت فيما سلف أن قوله تعالى: إنا أنزلنا إليك إلخ نزلت فى شأن طعمة بن أبيرق سارق الدرع ورميه اليهودي بسرقته، وأن قوله: ومن يشاقق الرسول إلخ نزلت فى ارتداده عن الدين ولحوقه بالمشركين، وهنا ذكر أنه لو لم يرتد لم يكن محروما من رحمة الله ولكنه بارتداده صار بينه وبين رحمته حجاب أيما حجاب فإن كل ذنب يجوز أن يغفره الله للناس إلا ذنب الشرك، فإن صاحبه مطرود من عفوه ورحمته. الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) / 116 تقدم هذا النص بعينه فى غرض آخر من هذه السورة، وأعاد هنا مرة أخرى، لأنه إنما ترجى الهداية والموعظة بإبراز المعاني التي يراد إيداعها فى نفوس السامعين فى كل سياق يقصد فيه توجيها إليها وإعدادها لقبولها، ولن يتم ذلك إلا بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني حتى تتمكن فى النفوس بذلك التكرار، ومن ثم نرى رجال الدين والسياسة الذين عرفوا سنن الاجتماع وفهموا طبائع البشر وأخلاقهم يكررون فى خطبهم ومقالاتهم، أغراضهم ومقاصدهم التي ينشرونها فى الصحف والكتب، فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء أو ذمه أثر فيه. المعنى- أكد الله لعباده أنه لا يغفر البتة لأحد أشرك به سواه، وأنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين مادون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه. ذاك أن الشرك هو منتهى فساد الأرواح وضلال العقول، فكل خير يلابسه لا يقوى على إضعاف مفاسده وآثامه والعروج بها إلى جوار ربها، إذ أنها تكون

موزعة بين شركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل، والله لا يقبل إلا ما كان خالصا له. وبعض الناس ممن يسمون أنفسهم بالموحدين يفعلون كما يفعل سائر المشركين، فيدعون حين يشتد الكرب ويعظم الخطب غير الله وحده أو مع الله ولا يسمون عملهم دعاء، بل يسمونه توسلا واستشفاعا، ويسمون من يدعونهم أولياء وشفعاء، ولو لم يكن منهم إلا هذا الدعاء لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، لكفى ذلك عبادة وشركا بالله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» رواه أبو داود : أي إن العبادة جدّ العبادة إنما تكون فى الدعاء الذي يفيض على اللسان من قرارة النفس حين وقوع الخطب، واشتداد الكرب، وهذا ما تسمعه من أصحاب الحاجات، عند حدوث الملمات، وفى هياكل العبادات، ولدى قبور الأموات، فكل ذلك يمثل الخشوع والخضوع، ويذرف من العين الدموع «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» . وما عدا هذا الدعاء من العبادات، جلّه يفعل بالتعليم، ويكون فى الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو الفعل عبادة، إذ هو خال من معنى العبادة وروحها وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هى وراء الأسباب العادية، ولا سيما الأدعية التي تكون فى الصلوات أو فى غير الصلوات، إذ نرى الحافظ لها يحرك بها لسانه وقلبه مشغول بشواغل أخرى، فمثل هذا لا يمثّل العبادة الحقة التي تملأ القلب نورا، والنفس استسلاما وخضوعا، والروح طهارة وزكاء. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً) أي ومن يشرك بالله شيئا فيدعوه معه ويذكر اسمه مع اسمه، أو يدعوه وحده ملاحظا أنه يقر به إليه زلفى- فقد ضل عن القصد، وبعد عن سبيل الرشد ضلالا بعيدا فى سبيل الغواية، لأنه ضلال يفسد العقل، ويكدّر صفاء الروح ويجعله يخضع لعبد مثله، ويخضع أمام مخلوق يحاكيه ويكون عبدا للخرافات والأوهام.

وخلاصة ما تقدم: 1) إن الشرك فى العبادة الذي يتجلى فى الدعاء، هو أقوى أنواع الشرك، لأنه يكون باعتقاد ناشىء عن وجدان حاكم على النفس مستعبد لها. 2) إن دون هذا- الشرك المبنى على الفكر والنظر الذي يحاجك فيه صاحبه بالشبهات، المنتزعة من تشبيه الخالق بالمخلوق، وقياسه على ظلمة الملوك، كقولهم: إن الإنسان الخاطئ لا يليق أن يخاطب الإله العظيم مباشرة، بل عليه أن يتخذ له وليا يكون واسطة بينه وبينه، كما يتخذ آحاد الرعية الوسائط إلى الملوك والأمراء من المقربين إليهم. ومثله من يشرك فى ربوبية الله باتخاذ بعض المخلوقين شارعين يحلّون له ما يرون تحليله ويحرّمون عليه ما يرون تحريمه فيتبعهم فى ذلك 3) إن الجزاء فى الآخرة يكون تابعا لما تكون عليه النفس فى الدنيا من سلامة العقيدة، ومقدار درجة الفضيلة، التي يلازمها فعل الخيرات، أو فساد الفطرة وخطأ العقيدة، والتدنس بالرذيلة، التي يلازمها فعل السيئات. 4) إن الناس متفاوتون فيما بين ذلك من درجات ودركات، أخسها الشرك وأعلاها التوحيد، ولكل منهم صفات تناسبها، فلو جاز أن يغفر الشرك ويجعل صاحبه مع النبيين والصديقين والملائكة المقربين لكان ذلك نقضا لسنة الله التي لا تبديل فيها ولا تغيير. (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي هؤلاء المشركون لا يدعون لقضاء حاجتهم وتفريج كربهم إلا أمواتا فقد كانوا يعظمون الموتى ويدعونها كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب ومسلمى هذه القرون، أو إلا إناثا كاللات والعزّى، وقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بنى فلان (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي وما يعبدون بعبادتها إلا شيطانا مريدا، إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم بها، فكانت طاعتهم له عبادة.

(لَعَنَهُ اللَّهُ) أي أبعده الله عن رحمته وفضله، فإنه داعية الشر والباطل فى نفس الإنسان بما يوسوس فى صدره ويعده ويمنّيه. (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) النصيب المفروض هو ما للشيطان فى نفس كل أحد من الاستعداد للشر، إذ ما من إنسان إلا يشعر من نفسه بوسوسة الشيطان، فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار عليها أو الرياء فى العبادة، لكن الله أخبر أنه ليس له سلطان على عباده المخلصين، وقد جاء فى القرآن والحديث ما يدل على هذا. والخلاصة- إن الشيطان خلق متمردا على الحق، بعيدا من الخير، مغرى بإغواء البشر وإضلالهم. (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) إضلال الشيطان لمن يضلهم هو صرفهم عن العقائد الصحيحة، وشغلهم عن الدلائل الموصلة إلى الحق والهدى، وتمنيته لهم: تزيينه لهم الاستعجال باللذات الحاضرة والتسويف بالتوبة والعمل الصالح. والخلاصة- إن من شأن الشيطان ومقتضى طبعه إضلال العباد وشغلهم بالأمانى الباطلة، كرحمة الله للمجرمين بغير توبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، وتزيين لذّات الحياة العاجلة على ثواب الآجلة ونعيمها. (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي ولآمرنهم بالضلال فليقطّعنّ آذان الأنعام بموجب أمرى، والمراد به ما كانوا يفعلونه من قطع آذان بعض الأنعام لأصنامهم كالبحائر التي كانوا يقطعون آذانها أو يشقونها شقا واسعا ويتركون الحمل عليها، وهذا من سخيف أعمالهم الوثنية الدالة على ضعف عقولهم. (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) تغيير خلق الله وسوء التصرف فيه شامل للتغيير الحسى كالخصاء، وروى ذلك عن ابن عباس وأنس بن مالك، وللتغيير المعنوي. وروى أيضا عن ابن عباس وغيره، وعلى هذا فالمراد بخلق الله دينه، لأنه دين الفطرة وهى

الخلقة قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» أي إنه يراد به تغيير الفطرة الإنسانية عما فطرت عليه من الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها وتعويدها الأباطيل والرذائل والمنكرات، فالله قد أحسن كل شىء خلقه، وهؤلاء يفسدون ما خلق الله ويطمسون عقول الناس. والخلاصة- إن الدين الفطري الذي هو من خلق الله وآثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل ليبلغوها للناس، بل هو ما أودعه الله فى فطرة البشر من توحيده والاعتراف بقدرته وجلاله، وهو ما أشار إليه فى الحديث «كل مولود يولد على الفطرة» . ومن أهم أسس هذا الدين الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهى إليها الأسباب، وتقف دون الوصول إلى حقيقتها العقول. (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي ومن يتبع الشيطان ووسوسته وإغواءه وهو البعيد من أسباب رحمة الله وفضله، فقد خسر خسرانا ظاهرا فى الدنيا والآخرة إذ أنه يكون أسير الأوهام والخرافات، يتخبط فى عمله على غير هدى، ويفوته الانتفاع التام بما وهبه الله من العقل والمواهب الكسبية التي أوتيها الإنسان وميّز بها من بين أصناف الحيوان. (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) فيعد الناس الفقر إذا هم أنفقوا شيئا من أموالهم فى سبيل الله، ويوسوس لهم بأن أموالهم تنفد أو تقلّ ويصبحون فقراء أذلاء، ويعدهم الغنى والثروة حين الإغراء بالقمار، ويعد من يغريه بالتعصب لرأيه وإيذاء مخالفه فيه من أهل دينه للجاه والشهرة وبعد الصيت. ويؤيد هذه الوعود بالأمانى الباطلة يلقيها إليهم.

ويدخل فى وعد الشيطان وتمنيته ما يكون من أوليائه من الإنس، وهم قرناء السوء الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي ويمدونهم فى الطغيان وينشرون مذاهبهم الفاسدة وآراءهم الضالة التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال، وهؤلاء يوجدون فى كل زمان ومكان. (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي وما يعدهم الشيطان إلا باطلا يغترون به ولا يملكون منه ما يحبون، فيزين لهم النفع فى بعض الأشياء وهى مشتملة على كثير من الآلام والمضارّ فالزانى أو المقامر أو شارب الخمر يخيل إليه أنه يتمتع باللذات بينما هو فى الحقيقة يتمتع بلذائذ وقتية تعقبها آلام دنيوية طويلة المدى، وخيمة العواقب، إلى عذاب أخروى لا يعلم كنهه إلا من أحاط يكل شىء علما. وبعد أن بين حال أولياء الشيطان وما يعدهم به الشيطان- ذكر عاقبتهم فقال: (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي أولئك الذين يعبث بهم الشيطان بوسوسته، أو بإغواء دعاة الباطل من أوليائه، مأواهم جهنم لا يجدون عنها مهربا يفرّون إليه، إذ هم بطبيعتهم ينجذبون إليها ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار، فتصلى وجوههم وجنوبهم وظهورهم. ثم بعدئذ ذكر عاقبة من لا يستجيب دعوة الشيطان ولا يصيخ لأمره ونهيه فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إنهم سيتمتعون بالنعيم المقيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وذلك هو الفوز العظيم لمن سمت نفسه عن دنس الشرك، فلم تجعل لله أندادا ولم تحط بها الخطيئة فى صباحها ومسائها فى غدوّها ورواحها. ثم ذكر أن ما وعدهم به هو الوعد الحق الذي لا شك فيه فقال: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا؟) أي ذلك الذي وعدكم الله به هو الوعد الحق، فهو القادر على أن يعطى ما وعد بفضله وجوده، وواسع كرمه ورحمته، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور، إذ هو عاجز عن الوفاء فهو يدلى إلى

[سورة النساء (4) : الآيات 123 إلى 126]

أوليائه بباطله، فحقه ألا يستجاب له أمر ولا نهى، ولا تتّبع له نصيحة، فوساوسه أباطيل، وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. [سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) تفسير المفردات الأمانى، واحدها أمنية: وهى الصورة التي تحصل فى النفس، من تمنى الشيء وتقديره، وكثيرا ما يطلق التمني على ما لا حقيقة له، ومن ثم يعبرون به عن الكذب كما قال عثمان رضي الله عنه: ما تعنّيت ولا تمنّيت منذ أسلمت. وليا: أي يلى أمره ويدفع العقاب عنه، ولا نصيرا: أي ينصره وينقذه مما يحل به، والنقير والنقرة: النكتة التي تكون فى ظهر النواة، وبها يضرب المثل فى القلة، الحنيف: المائل عن الزيغ والضلال، والخليل: المحب لمن يحبه، من الخلة (بالضم) وهى المودة والمحبة التي تتخلل النفس وتمازجها قال شاعرهم: قد تخللّت مسلك الروح منى ... وبذا سمى الخليل خليلا محيطا: أي عالما بالأشياء قادرا عليها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فى الآيات السالفة أن الشيطان يعدهم ويمنيهم، ويدخل فى تلك الأمانى ما كان يمنّيه أهل الكتاب من الغرور بدينهم، إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص، ويقولون: إنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، وقد سرى لهم هذا الغرور من اتكالهم على الشفاعات وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء، فهم يدخلون الجنة بكرامتهم لا بأعمالهم. حذّرنا فى هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم، وكانت هذه الأمانى قد دبّت إلى المسلمين فى عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما دل على ذلك قوله «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ» الآية، فلضعفاء الإيمان من المسلمين فى الصدر الأول ولأمثالهم فى كل زمان أنزلت هذه الموعظة، ولو تدبروها لما كان لهذه الأمانى عليهم من سلطان. أخرج ابن أبى شيبة عن الحسن موقوفا. «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر فى القلب وصدّقه العمل» وقال الحسن: إن قوما غرّتهم المغفرة فخرجوا من الدنيا وهم مملوءون بالذنوب، ولو صدقوا لأحسنوا العمل. وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدّى قال «التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم وكتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم ونبينا بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق

الإيضاح

ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فأنزل الله ليس بأمانيكم إلخ الآية» فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان الأخرى. الإيضاح (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) أي ليس فضل الدين وشرفه ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم: إن دينى أفضل وأكمل، بل عليه أن يعمل بما يهديه إليه، فإن الجزاء إنما يكون على العمل، لا على التمني والغرور: فليس أمر نجاتكم ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطا بالأمانى فى الدين، فالأديان لم تشرع للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بالانتساب إليها دون العمل بها. ثم أكد ذلك وبيّنه بقوله: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) أي إن من يعمل سوءا يلق جزاءه، لأن الجزاء بحسب سننه تعالى أثر طبيعى للعمل، لا يتخلف فى اتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم كما يتوهم أصحاب الأمانى والظنون، فعلى الصادق فى دينه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله، ويجعل ذلك المعيار فى سعادته، لا أن يجعل تكأته أن هذا الكتاب أكمل، ولا أن ذلك الرسول أفضل. روى «أنه لما نزل قوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) راع ذلك أبا بكر وأخافه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من ينج مع هذا يا رسول الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما تحزن، أما تمرض، أما يصيبك البلاء؟ قال بلى يا رسول الله قال هو ذاك» . وأخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «سدّدوا وقاربوا، فإن فى كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنّكبة ينكبها» والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، ومن ثم يرى عامة العلماء أن الأمراض والأسقام ومصايب الدنيا وهمومها يكفر الله بها الخطايا.

ويرى بعضهم أن المصايب لا تكفّر إلا إذا أثرت فى النفس تأثيرا صالحا وكانت سببا فى قوة الإيمان وترك السوء والتوبة منه والرغبة فى صالح العمل بما تحدثه من العبرة فتكون مربّية لعقله ونفسه، أما إذا ضاعفت الذنوب كالمصايب التي تحمل صاحبها على الجزع ومهانة النفس وضعف الإيمان إلى ذنوب أخرى لم يكونوا ليقترفوها لولا المصيبة فلا تكفر شيئا من الخطايا بل تزيدها. (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي من يعمل السوء ويستحق العقاب عليه لا يجد له وليا غير الله يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحلّ به لا من الأنبياء الذين تفاخر بهم ولا من غيرهم من المخلوقات التي اتخذها بعض البشر آلهة وأربابا، فكل تلك الأمانى تكون أضغاث أحلام، وإنما يكون المدار فى ذلك على الإيمان والأعمال كما قال: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي ومن يعمل كل ما يستطيع عمله من الأعمال التي تصلح بها النفوس فى أخلاقها وآدابها وأحوالها الاجتماعية، سواء كان العامل ذكرا أو أنثى وهو مطمئن القلب بالإيمان- فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر يدخلون الجنة بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئا ولو حقيرا كالنقير. وفى هذه الآية وما قبلها من العبرة والموعظة ما يهدم صروح الأمانى التي يأوى إليها الكسالى وذوو الجهالة من المسلمين الذين يظنون أن الله يحابى من يسمى نفسه مسلما ويفضله على اليهودي والنصراني لأجل هذا اللقب، فالذين يفخرون بالانتساب إليه وقد نبذوه وراء ظهورهم وجرموا الاهتداء بهديه، هم فى ضلال مبين. وبعد أن بين سبحانه أن النجاة والسعادة منوطان بصالح الأعمال مع الإيمان أردف ذلك ذكر درجات الكمال فقال: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي لا أحد أحسن ممن جعل قلبه خالصا لله وحده، فلا يتوجه إلى غيره فى دعاء ولا رجاء، ولا يجعل بينه وبينه حجابا

من الوسطاء والشفعاء، ولا يرى فى الوجود إلا هو، ويعتقد أنه سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، فلا يطلب شيئا إلا من خزائن رحمته، ولا يأتى بيوت هذه الخزائن إلا من مسالكها، وهى السنن والأسباب التي سنها فى الخليقة. وهو مع هذا الإيمان الكامل والتوحيد الخالص، محسن للعمل متحلّ بأحسن الأخلاق والفضائل. وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه، لأن الوجه أعظم مظهر لما فى النفس من إقبال وإعراض، وسرور وكآبة، وما فيه هو الذي يدل على ما فى السريرة. (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي واتبع إبراهيم فى حنيفيته التي كان عليها، بميله عن الوثنية وأهلها، وتبريه مما كان عليه أبوه وقومه منها، قال تعالى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» . (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا) أي اصطفاه الله لإقامة دينه فى بلاد غلبت عليها الوثنية، وأفسد الشرك عقول أهلها، وقد بلغ من الزلفى عند ربه ما صح به أن يسمى خليلا، فقد اختصه بكرامة ومنزلة تشبه الخليل لدى خليله، ومن كانت له هذه المنزلة كان جديرا أن تتّبع ملّته وتأتسي طريقته. والخلاصة- إنه منّ عليه بسلامة الفطرة وقوة العقل وصفاء الروح وكمال المعرفة وفنائه فى التوحيد. ثم ذكر ما هو كالعلة لما سبق بقوله: (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن كل ما فى السموات والأرض ملك له ومن خلقه، مهما اختلفت صفات المخلوقات، فجميعها مملوكة عابدة له خاضعة لأمره. (وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) إحاطة قهر وتسخير، وإحاطة علم وتدبير، وإحاطة وجود، لأن هذه الموجودات ليس وجودها من ذاتها ولا هى ابتدعت نفسها بل وجودها

[سورة النساء (4) : الآيات 127 إلى 130]

مستمد من ذلك الوجود الأعلى، فالوجود الإلهى هو المحيط بكل موجود، فوجب أن يخلص له الخلق، ويتوجه إليه العباد. وقد جاءت هذه الآية خاتمة لما تقدم لفوائد: 1) بيان الدليل على أنه المستحق وحده لإسلام الوجه له والتوجه إليه فى كل حال لأنه هو المالك لكل شىء، وغيره لا تملك لنفسه شيئا. 2) نفى ما يتوهم فى اتخاذ الله إبراهيم حليلا من أن هناك شيئا من المقاربة فى حقيقة الذات والصفات. 3) التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده فى الآيات التي قبلها، إذ من له ما فى السموات والأرض خلقا وملكا فهو أكرم من وعد. [سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يستفتونك: أي يطلبون منك الفتيا، يفتيكم: يبين لكم ما أشكل عليكم، يقال: أفتاء إفتاء وفتيا وفتوى، وأفتيت فلانا رؤياه عبّرتها له، ما كتب لهن: أي ما فرض لهن من الميراث، وأن تقوموا: أي تعنوا عناية خاصة، بالقسط: أي بالعدل، خافت: أي توقعت ما تكره بوقوع بعض أسبابه، أو ظهور بعض أماراته، نشوزا: ترفعا وتكبرا، إعراضا: ميلا وانحرافا، فلا جناح: أي لا إثم ولا حرج، أحضرت الأنفس الشحّ: أي إن الشح حاضر لها لا يغيب عنها، المعلّقة التي ليست مطلّقة ولا ذات بعل، من سعته: من غناه، واسعا: غنيّا. المعنى الجملي كان الكلام أول السورة فى الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن قوله: واعبدوا الله إلى هنا فى أحكام عامة فى أسس الدين وأصوله وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال- ثم عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء لشعور الناس بالحاجة إلى زيادة البيان فى تلك الأحكام، فالآيات السالفة أوجبت مراعاة حقوق الضعيفين: المرأة واليتيم وجعلت للنساء حقوقا مؤكدة فى المهر والإرث، وحرمت ظلمهن، وأباحت تعدد الزوجات وحددت العدد الذي يحل منهنّ حين الخوف من عدم الظلم، ولكن ربما يحدث لهم الاشتباه فى بعض الوقائع المتعلقة بها كأن يقع الاشتباه فى حقيقة العدل الواجب بين النساء، هل يدخل العدل فى الحب أو فى لوازمه من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط فى الاستمتاع بها أولا، وهل يحل للرجل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث حين يرغب فى نكاحها؟ وبماذا يصالح امرأته إذا أرادت أن تفتدى منه؟ - كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فمن ثم جاءت هذه الآيات مبينة أتم البيان لذلك.

الإيضاح

أخرج ابن جرير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم فى المال ويعمل فيه، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت آيات المواريث فى سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم فى المال والمرأة التي هى كذلك فيرثان كما يرث الرجل، فرجوا أن يأتى فى ذلك حدث من السماء فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتى حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ، ثم قالوا سلوا، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية. الإيضاح (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي يطلبون منك الفتيا فى شأنهن ببيان ما غمض وأشكل من أحكامهن، من جهة حقوقهن المالية والزوجية، كالعدل فى المعاملة حين العشرة، وحين الفرقة والنشوز. (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) بما يوحيه إليك من الأحكام فى كتابه. (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) أي ويفتيكم فى شأنهن ما يتلى عليكم فى الكتاب مما نزل قبل هذا الاستفتاء فى أحكام معاملة يتامى النساء اللاتي قد جرت عادتكم ألا تعطوهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان فى أيديكم، لولايتكم عليهن وترغبون فى أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن، أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن فلا تنكحوهن ولا تنكحونهن غيركم حتى يبقى ما لهن فى أيديكم، وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها، وما يتلى عليكم أيضا فى شأن المستضعفين من الولدان الذين لا تعطونهم نصيبهم من الميراث، وقد كانوا إنما يورّثون الرجال دون الأطفال والنساء. والخلاصة- إن الذي يتلى عليهم فى الضعيفين: المرأة واليتيم هو ما تقدم فى أول

السورة وأن الله يذكرهم بتلك الآيات المفصلة ليتدبروها ويتأملوا معانيها ثم يعملوا بها، إذ قد جرت طباع البشر أن يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي ترجعهم عن أهوائهم وتؤنبهم على اتباع شهواتهم. (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي يفتيكم أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان المستضعفين بالقسط، بأن تهتموا بهم اهتماما خاصا وتعنوا بشأنهم ويجرى العدل فى معاملتهم على أكمل الوجوه وأتمها، فإن ذلك هو الواجب الذي لا هوادة فيه، ولا خيرة فى شأنه. ثم رغبهم فى العمل بما فيه فائدة لليتامى، وحبب إليهم النّصفة فقال: (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) أي وما تفعلوه من الخير لليتامى فهو مما لا يعزب عن علمه، وهو مجازيكم به ولا يضيع عنده شىء منه. (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) أي وإن توقعت من بعلها نشوزا وترفعا عليها بما لاح لها من مخايل ذلك وأماراته، بأن منعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي تكون بين الرجل والمرأة، أو آذاها بسبّ أو ضرب أو نحو ذلك، أو إعراضا عنها بأن قلل من محادثتها ومؤانستها لبعض أسباب من طعن فى سن أو دمامة أو شىء فى الأخلاق أو الخلق أو ملال لها أو طموح إلى غيرها أو نحو ذلك. والواجب عليها أن تتثبت فيما تراه من أمارات الإعراض فربما كان الذي شغله عن مسامرتها والرغبة عن مباعلتها، مسائل من مشاكل الحياة الدنيوية أو الدينية، وهى أسباب خارجية لا دخل له فيها، ولا تعلق لها بكراهتها والجفوة عنها، وحينئذ عليها أن تعذره، وتصبر على ما لا تحب من ذلك، أما إذا استبان لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) أي فلا بأس بهما فى أن يصلحا بينهما صلحا كأن تسمح له ببعض حقها عليه فى النفقة أو المبيت معها، أو بحقها كله فيهما أو فى أحدهما، لتبقى فى عصمته مكرّمة، أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق أو بكل

ذلك ليطلقها كما جاء فى قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» وإنما يحل له ذلك إذا كان برضاها، لاعتقادها أن فى ذلك الخير لها بلا ظلم لها ولا إهانة. وقد روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد فقالت له: لا تطلقنى ودعنى أقوم على ولدي وتقسم لى فى كل شهرين، فقال إن كان هذا يصلح فهو أحبّ إلىّ، فأقرها على ما طلبت. (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من التسريح والفراق، لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقها بالحفظ، وميثاقها من أغلظ المواثيق. وعروض الخلاف بين الزوجين وما يترتب عليه من نشوز وإعراض وسوء معاشرة من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها من البشر. وأجمل ما جاء فى الإسلام لمنعه هو المساواة بينهما فى كل شىء إلا القيام برياسة الأسرة، لأنه أقوى من المرأة بدنا وعقلا وأقدر على الكسب وعليه النفقة كما جاء فى قوله «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» . فيجب على الرجل أن يعاشرها بالمعروف وأن يتحرى العدل بقدر المستطاع. (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) أي إن النفوس عرضة له، فإذا عرض لها داع من دواعى البذل ألمّ بها الشح والبخل ونهاها أن تبذل ما ينبغى بذله لأجل الصلح، فالنساء حريصات على حقوقهن فى القسم والنفقة وحسن العشرة، والرجال حريصون على أموالهم أيضا، فينبغى أن يكون التسامح بينهما كاملا، إذ هما قد ارتبطا ارتباطا وثيقا بذلك الميثاق العظيم وأفضى بعضهما إلى بعض. ثم رغب فى بقاء الرابطة الزوجية جهد المستطاع فقال: (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي وإن تحسنوا العشرة فيما بينكم وتتقوا أسباب النشوز والإعراض وما يترتب عليهما من الشقاق، فإن الله كان خبيرا بذلك لا يخفى عليه شىء منه، فهو يجازى من أحسن الحسنى ويثيبه على ذلك. ثم بين أن العدل بين النساء فى حكم المستحيل، فعلى الرجل أن يعمل جهد المستطاع قال

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أي مهما حرصتم على العدل والمساواة بين المرأتين، حتى لا يقع ميل إلى إحداهما ولا زيادة ولا نقص، فلن تستطيعوا ذلك ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائها به، ومن ثم رفع الله ذلك عنكم وما كلفكم إلا العدل فيما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم، لأن الباعث على الكثير من هذا الميل هو الوجدان النفسي والميل القلبي الذي لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ولا يملك آثاره الطبيعية، ولهذا خفف الله ذلك عنكم وبين أن العدل الكامل غير مستطاع ولا يتعلق به تكليف. (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي وإذا كان ذلك غير مستطاع فعليكم ألا تميلوا كل الميل إلى من تحبون منهن وتعرضوا عن الأخرى. (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي فتجعلوها كأنها ليست بالمتزوجة ولا بالمطلقة، فإن الذي يغفره لكم من الميل هو ما لا يدخل فى اختياركم ولا يكون فيه تعمد التقصير أو الإهمال، أما ما يقع تحت اختياركم فعليكم أن تقوموا به، إذ لا هوادة فيه. (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي وإن تصلحوا فى معاملة النساء وتتقوا ظلمهن وتفضيل بعضهن على بعض فيما يدخل فى اختياركم كالقسم والنفقة فإن الله يغفر لكم ما دون ذلك مما لا يدخل فى اختياركم كالحب وزيادة الإقبال وغير ذلك. وفى الآية عظة وعبرة لمن يتأملها من عبّاد الشهوات الذين لا يقصدون من الزوجية إلا التمتع باللذات الحيوانية دون مراعاة أهم أسس الحياة الزوجية التي ذكرها الله فى قوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ولا يلاحظون أمر النسل وإصلاح الذرية، هؤلاء السفهاء الذوّاقون الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا، ولا باعث لهم إلا حب التنقل والملل من السابقة، ولا يخطر لهم أمر العدل فى بال- عليهم أن يتقوا الله ويكفروا فى ميثاق الزوجية وفى حقوقها المؤكدة وفى عاقبة نسلهم وشؤون ذريتهم وفى حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على أسس الشهوات والأهواء وفى حال ذريتهم التي تنشأ بين أمهات متعاديات.

[سورة النساء (4) : الآيات 131 إلى 134]

ثم بين أن الفراق قد يكون فيه الخير إذا لم يمكن الوفاق فقال: (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) أي وإن يتفرق الزوجان اللذان يخافان ألا يقيما حدود الله، بأن كره الرجل امرأته لدمامتها أو كبرها وأراد أن يتزوج غيرها أو كان عنده زوجان ولم يقدر على العدل بينهما- يغن الله كلا منهما عن صاحبه بسعة فضله ووافر إحسانه وجوده، فقد يسخّر للمرأة رجلا خيرا منه، كما يهيىء له امرأة أخرى تحصنه وترضيه وتقوم بشؤون بيته وأولاده، ولن يكون كل منهما جديرا بعناية الله وإغنائه عن الآخر، إلا إذا التزما حدود الله، بأن اجتهدا فى الوفاق والصلح وظهر لهما بعد التفكير والتروّى فى الأسباب أنه غير مستطاع، فافترقا وهما حافظان لكرامتهما عما يجعلهما عرضة للنقد ونهش العرض، فإن ذلك مما يرغب الناس فيهما، لما يرونه فيهما من الأخلاق الفاضلة وعدم التلاحي والتنابذ والتهاجى واختلاق الأكاذيب، فالرجل ذو الخلق الكريم إذا علم أن امرأة اختلفت مع بعلها لأنها لم تقبل أن تعيش مع من يعرض عنها أو يترفع عليها بل أحبت أن تعيش معه بطريق عادلة- رأى فيها أفضل صفات الزوجية. وكذلك كرائم النساء وأولياؤهن يرغبون فى الرجل إذا علموا أنه يمسك المرأة بمعروف أو يسرحها بإحسان ولا يلجئه إلى الطلاق إلا الخوف من عدم إقامة حدود الله. (وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً) أي وكان الله ولا يزال واسع الفضل والرحمة، حكيما فيما شرعه من الأحكام التي جعلها وفق مصالح العباد. [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين، بين أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد، لأن كل ما فى السموات والأرض ملكه فهو مستغن عنهم وقادر على إثابتهم على طاعته فيما شرعه لخيرهم ومصلحتهم، بل ليزدادوا بتدبرها إيمانا يحملهم على العمل بها والوقوف عند حدودها. الإيضاح (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا، فهو وحده مدبر الأكوان، فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفقر ولا الإيناس بعد الوحشة إلى نحو هذا مما ينبىء بعظيم القدرة وكمال الجود والإحسان. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) أي ولقد أمرنا من قبلكم من اليهود والنصارى وغيرهم من سالف الأمم كما أمرناكم بتقوى الله فى إقامة سننه وإقامة شريعته، فبالأولى ترقى معارفكم، وبالثانية تزكو نفوسكم وتنتظم مصالحكم الدينية والدنيوية. (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي وإن تكفروا أنعم الله وتجحدوا فضله وإحسانه فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم كما لا ينفعه شكركم وتقواكم، وقد وصاكم وإياهم بهما لرحمته لا لحاجته. ثم زاد ما سلف توكيدا فقال: (وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً) أي وكان الله غنيا عن كل شىء بذاته. محمودا بذاته

وكمال صفاته، فهو لا يحتاج إلى شكركم لتكميل نفسه «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» وفى الحديث القدسي «يا عبادى إنّكم لن تبلغوا ضرّى فتضرونى، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك فى ملكى شيئا، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل فى البحر، يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» رواه مسلم. ثم أعاد ما سلف لزيادة التوكيد فقال: (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي له سبحانه ما فيهما خلقا وملكا يتصرف فيهما كيفما شاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة، وكفى به قيّما وكفيلا يوكّل به أمر العباد فى أرزاقهم وأقواتهم وسائر شؤونهم. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي إن يرد إفناءكم واستئصالكم من الوجود وإيجاد قوم آخرين من البشر يحلون محلكم فى الحكم والتصرف فهو قادر على ذلك، لأن كل ما فى السموات والأرض فهو تحت قبضته وخاضع لسلطانه. والخلاصة- إن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولأن مشيئته لم تتعلق بهذا الإفناء لحكم ومصالح أرادها سبحانه، لا لعجز عن ذلك، تعالى الله علوا كبيرا. ومثل هذه الآية قوله تعالى «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» وقوله «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» . وفى هذه الآيات تهديد للمشركين الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقاومون دعوته، وتنبيه للناس إلى التأمل فى سنن الله التي جرت فى حياة الأمم وموتها، وإن هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة وقعت لا محالة.

[سورة النساء (4) : الآيات 135 إلى 136]

(وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) أي وكان الله قديرا على ذلك الإفناء وإيجاد خلق آخر، إذ بيده ملكوت كل شىء، لكنه لحكم يعلمها لم تتعلق إرادته بذلك. (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي من يرد منكم بسعيه وجهاده فى حياته نعيم الدنيا بالمال والجاه ونحوهما، فعند الله ثواب الدارين معا بما أعطاكم من العقل والشعور وهداية الحواس، فعليكم أن تطلبوهما معا، ولا تكتفوا بما هو أدناهما وهو ما يفنى وتتركوا أغلاهما وهو ما يبقى، مع أن الجمع بينهما هيّن ميسور لكم وهو تحت قدرتكم وسلطانكم، فمن خطل الرأى أن تتركوا ذلك وترغبوا عنه، بل عليكم أن تقولوا- ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار-. وفى الآية إيماء إلى أن الدين يهدى أهله إلى السعادتين، وإلى أن ثواب الدنيا والآخرة من فضله تعالى ورحمته. (وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي وكان الله سميعا لأقوال عباده حين مخاطباتهم ومناجاتهم، بصيرا بجميع أمورهم فى سائر حالاتهم، فعليهم أن يراقبوه فى الأقوال والأفعال، وبذا تزكو نفوسهم وتقف عند حدود الفضيلة التي بها تستقيم أمورهم فى دنياهم ويستعدون لحياة أبدية فى آخرتهم يكون فيها نعيمهم وثوابهم. [سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بالقسط فى اليتامى والنساء فى سياق الاستفتاء فيهن، لأن حقهن آكد وضعفهن معهود- عمم الأمر هنا بالقسط بين الناس، لأن قوام أمور الاجتماع لا يكون إلا بالعدل، وحفظ النظام لا يتم إلا به وبما فيه من الشهادة لله بالحق ولو على النفس والوالدين والأقربين وعدم محاباة أحد لغناه أو لفقره، لأن العدل مقدم على حقوق النفس وحقوق القرابة وغيرها، وقد كانت سنة الجاهلية محاباة ذوى القربى، لأنه يعتزّ بهم كما كانوا يظلمون النساء واليتامى لضعفن وعدم الاعتزاز بهن. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) القوام: هو المبالغ فى القيام بالشيء والإتيان به مستوفيا تاما لا نقص فيه، وقد أمر الله بإقامة الصلاة وإقامة الشهادة وإقامة الوزن بالقسط تأكيدا للعناية بهذه الأشياء. أي فلتجعلوا العناية بإقامة القسط على وجهه صفة ثابتة لكم راسخة فى نفوسكم، والعدل كما يكون فى الحكم بين الناس ممن يوليه السلطان أو يحكّمه الناس فيما بينهم، يكون فى العمل كالقيام بما يجب بين الزوجات والأولاد من النّصفة والمساواة بينهم، ولو سار المسلمون على هدى القرآن لكانوا أعدل الأمم وأقومهم بالقسط، وقد كانوا كذلك ردحا من الدهر حين كانوا مهتدين بهديه، ولكن قد خلف من بعدهم خلف نبذوا تلك الهداية وراء ظهورهم فصارت تضرب بهم الأمثال فى ظلم حكامهم وسوء أحوالهم. (شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي كونوا شهداء لله بأن تتحرّوا الحق الذي يرضاه ويأمر به من غير مراعاة أحد ولا محاباته، ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن يثبت بها الحق عليكم (ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها،

لأن الشهادة إظهار الحق) أو على والديكم وأقرب الناس إليكم كأولادكم وإخوتكم، إذ ليس من بر الوالدين ولا من صلة ذوى الرحم أن يعانوا على ما ليس لهم بحق الإعراض عن الشهادة عليهم أوليّها والتحريف فيها، بل البر والصلة فى الحق والمعروف. وليس من شك فى أن الحياة قصاص، فالذين يتعاونون على الظلم وهضم حقوق الناس، يتعاون الناس على ظلمهم وهضم حقوقهم، فتكون المحاباة من أسباب فشوّ الظلم والعدوان والمفاسد التي لا يؤمن شرها. (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) أي إن يكن المشهود عليه من الأقارب أو غيرهم غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، وشرعه أحق أن يتبع فيهما، فحذار أن تحابوا غنيا طمعا فى برّه، ولا خوفا من أذاه وشره، ولا فقيرا عطفا عليه وشفقة به، فمرضاة كل منهما ليست خيرا لكم ولا لهما من مرضاة الله، ولستم أعلم بمصلحتهما من ربهما، ولولا أنه يعلم أن العدل وإقامة الشهادة بالحق خير للشاهد والمشهود عليه لما شرع ذلك ولا أوجبه. وروى ابن جرير عن السّدى فى سبب نزول الآية: أن رجلين فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان حلفه (ميله القلبي) مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغنى، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط فى الغنى والفقير. وقال قتادة فى هذه الآية: هذا فى الشهادة، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك أو الوالدين أو على ذوى قرابتك وأشراف قومك، فإنما الشهادة لله وليست للناس، والعدل ميزان الله فى الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الصادق على الكاذب، ومن المبطل على المحق اه. (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) أي فلا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل، إذ فى الهوى الزلل. (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرّفوها أو تعرضوا عنها فلا تؤدوها فالله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه قصدكم فهو مجازيكم بما تعملون.

وعبر بالخبير ولم يعبر بالعليم، لأن الخبرة العلم بدقائق الأمور وخفاياها، والشهادة يكثر فيها الغشّ والاحتيال حتى لقد يغش الإنسان فيها نفسه ويلتمس المعاذير فى كتمان الشهادة أو تحريفها. فليتدبر المسلمون ذلك، وليعملوا بهدى كتابهم، ويقيموا الشهادة بالحق، ففى ذلك فلاحهم فى دينهم ودنياهم. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) هذا خطاب لمؤمنى اليهود فقد روى عن ابن عباس «أن هذه الآية نزلت فى عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام بن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين، إذ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله- فقالوا لا نفعل، فنزلت، قال فآمنوا كلهم» وقيل: إن الخطاب فيها للمؤمنين كافة، والمعنى ازدادوا فى الإيمان طمأنينة ويقينا وآمنوا برسوله خاتم النبيين وبالقرآن الذي نزّله عليه وبالكتب التي نزّلها على رسله من قبله، فإنه لم يترك عباده فى زمن ما محرومين من البينات والهدى. وبعد أن أمر بالإيمان بما ذكر توعد من كفر بذلك فقال: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً) أي ومن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله أو اليوم الآخر (وهى أسس الدين وأركانه) فقد ضل عن صراط الحق الذي ينجّى صاحبه فى الآخرة من العذاب الأليم، ويمتعه بالنعيم المقيم. ومن فرّق بين كتب الله ورسله فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى

[سورة النساء (4) : الآيات 137 إلى 141]

فلا يعتدّ بإيمانه، لأنه إما يتبع الهوى، أو يقلد عن جهل وعمى، ذاك أن سر الرسالة هى الهداية ولم يكن بعض النبيين فيها بأكمل من بعض، فإذا كفر ببعض الكتب أو الرسل كان كفره بها دليلا على أنه لم يؤمن بشىء منها إيمانا صحيحا مبنيا على فهم حقيقتها والبصر بحكمتها، وكل ذلك من الضلال البعيد عن طرق الهداية. [سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 141] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) المعنى الجملي ذكر الله تعالى فى هذه الآيات حال قوم من أهل الضلال البعيد- آمنوا فى الظاهر نفاقا وكان الكفر قد استحوذ على قلوبهم ولم يجعل فيها مكانا للاستعداد للفهم، ومن ثم لم يمنعهم ذلك من الرجوع إلى الكفر مرة بعد أخرى، إذ هم لم يفقهوا

الإيضاح

حقيقة الإيمان ولا ذاقوا حلاوته، ولا أشربت قلوبهم حبه، ولا عرفوا فضائله ومناقبه. ثم أوعد بعدئذ المنافقين بالعذاب الأليم وذكر أنهم أنصار الكافرين على المؤمنين، فلا ينبغى للمؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء، ولا أن يبتغوا عندهم جاها ولا منزلة. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) أي إن هؤلاء قد استبان من ذبذبتهم واضطراب أحوالهم من إيمان إلى كفر، ثم من كفر إلى إيمان وهكذا دواليك- أنهم قد فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان وفقه مزاياه وفضائله ومثلهم لا يرجى لهم- بحسب سنن الله فى خليقته- أن يهتدوا إلى الخير ولا أن يسترشدوا إلى نافع ولا أن يسلكوا سبيل الله، فجدير بهم أن يمنع الله عنهم رحمته ورضوانه، ومغفرته وإحسانه، لأن أرواحهم قد دنّست، وقلوبهم قد عميت، فلم تكن محلا للمغفرة ولا للرجاء فى ثواب. والله أرحم الراحمين واسع المغفرة لم يكن ليحرم أحدا المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة، وإنما مشيئته مقترنة بحكمته، وقد جرت سنة الله وحكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرا فى نفوسهم، فمن طال عليه أمد التقليد حجب عن عقله نور الدليل، ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان حرم من أسباب الغفران التي ذكرها سبحانه فى قوله «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» . ولا شك أن المغفرة وهى محو أثر الذنب من النفس إنما تكون بتأثير التوبة والعمل الصالح الذي يزيل ما علق فى النفس من تلك الآثام كما قال تعالى «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» . (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) البشارة لا تستعمل غالبا إلا فى سارّ الأخبار، إذ هى مأخوذة من انبساط بشرة الوجه، فاستعمالها فى الأخبار السيئة يكون من باب

التهكم والتوبيخ، أي بشر المنافقين بالعذاب المؤلم الذي لا يقدر قدره، ولا يحيط بكنهه إلا علام الغيوب. ثم بين بعض صفاتهم التي تستوجب الذم فقال: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي هؤلاء المنافقون هم الذين يتخذون الكافرين المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارا، ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها، ويمالئون الكافرين عليهم، اعتقادا منهم أن الدّولة ستكون لهم، فيجعلون لهم يدا عندهم ثم وبخهم على ما فعلوا فقال: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) العزة: القوة والمنعة: أي إن كانوا هم بذلك يطلبون عندهم الغلبة والمنعة، فإن العزة لله يؤتيها من يشاء، فعليهم أن يطلبوها منه تعالى بصادق إيمانهم واتباعهم هدايته التي أرشد إليها أنبياءه، وبيّنوا لهم أسبابها، وقد آتاها المؤمنين حينما اهتدوا بكتابه، وساروا على سننه ونهجوا نهجه، فلما أعرضوا عن هذه الهداية التي اعتز بها أسلافهم ذلوا وخنعوا لعدوهم وصار منهم منافقون يوالون الكافرين يبتغون عندهم عزة وشرفا وما هم لها بمدركين. وبعدئذ نهى المؤمنين أن يجلسوا مع من يتنقص الدين ويزدرى بأحكامه فقال: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الخطاب موجه إلى كل من يظهر الإيمان سواء أكان مؤمنا حقا أم منافقا، وما نزله فى الكتاب هو قوله فى سورة الأنعام المكية «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» وقد كان بعض المسلمين يجلسون مع المشركين وهم يخوضون فى الكفر وذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن ولا يستطيعون الإنكار عليهم لضعفهم وقوة المشركين، فأمروا بالإعراض عنهم وعدم الجلوس معهم فى هذه الحال. ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركى مكة، وكان المنافقون يجلسون معهم ويستمعون إليهم فنهى الله المؤمنين عن ذلك.

والخلاصة- إنكم إذا سمعتم الكلام الذي يتضمن جعل الآيات فى موضع السخرية والاحتقار فابتعدوا عنهم، ولا ترجعوا إليهم حتى يعودوا إلى حديث آخر. وفى الآية دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يدل على التنقص والاستهزاء بالأدلة الشرعية والأحكام الدينية كما يقع من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء العلماء بالكتاب والسنة ولم يبق فى أيديهم إلا قال إمام مذهبنا كذا وقال فلان من أتباعه كذا، وإذا استدل أحد بآية قرآنية أو بحديث نبوى سخروا منه وظنوا أنه قد جاء بخطب شنيع، وجعلوا رأى إمامهم مقدما على ما نطق به الكتاب، وأرشدت إليه السنة. (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) أي إنكم إن قعدتم معهم تكونوا شركاء لهم فى الكفر، لأنكم رضيتم به ووافقتموهم عليه. وفى الآية إيماء إلى أن من يقر المنكر ويسكت عليه يقع فى الإثم، وإلى أن إنكار الشيء يمنع من انتشاره بين الناس. وقد وقع فى هذا المنكر كثير من المسلمين، فإنهم يرون الملحدين فى البلاد يخوضون فى آيات الله ويستهزئون بالدين وهم يسكتون عن ذلك ولا يبدون إنكارا، ولا اشمئزازا ولا صدا ولا إعراضا. (إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) أي إنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله فى الدنيا سيجتمعون فى العقاب يوم القيامة. ولا يخفى ما فى هذا من الوعيد للكفار والمنافقين ثم بين بعض أحوال المنافقين فقال: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) يتربصون ينتظرون ما يحدث من خير أو شر: أي إن هؤلاء المنافقين ينتظرون ما يحدث لكم من كسر أو نصر، وشر أو خير. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟) أي فإن نصركم الله وفتح عليكم ادّعوا أنهم كانوا معكم فيستحقون مشاركتكم فى النعمة وإعطاءهم من الغنيمة. (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الاستحواذ: الاستيلاء على الشيء والتمكن من تسخيره أو التصرف فيه: أي وإن كان

للكافرين نصيب من الظفر منّوا عليهم بأنهم كانوا عونا لهم على المؤمنين، بتخذيلهم والتواني فى الحرب معهم وإلقاء الكلام الذي تخور به عزائمهم عن قتالكم، فاعرفوا لنا هذا الفضل وهاتوا نصيبنا مما أصبتم. والسر فى التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح وأنه من الله، وعن ظفر الكافرين بالنصيب- الإيماء إلى أن العاقبة للحق دائما، وأن الباطل ينهزم أمامه مهما كان له أول أمره من صولة ودولة، وقد يقع أثناء ذلك نصيب من الظفر للباطل ولكن تنتهى بغلبة الحق عليه كما قالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» مادام أهله متبعين لسنة الله بأخذ الأهبة وإعداد العدّة كما أمر بذلك الكتاب العزيز بقوله «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» . وإنما غلب المسلمون فى هذه العصور على أمرهم وفتح الكافرون بلادهم التي فتحوها من قبل بقوة إيمانهم، لأنهم تركوا أخذ الأهبة وإعداد العدة، وقام أعداؤهم بكل ما تستدعيه الحروب الحاضرة فأنشئوا البوارج والمدافع والدبابات المدرعة، والغواصات المهلكة، والطائرات المنقضّة، إلى نحو ذلك من آلات التدمير والهلاك فى البر والبحر والجور ووسائل ذلك من علوم طبيعية أو آلية (ميكانيكية) أو رياضية. (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي فالله يحكم بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر حكما يليق بشأن كل من الثواب والعقاب، فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، أما فى الدنيا فأنتم وهم سواء فى عصمة الأنفس والأموال كما جاء فى الحديث «فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم» . (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) أي إن المؤمنين ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأمره ونهيه قائمين بعمل ما يستدعيه الدفاع عن بيضة الدين من أخذ الأهبة وإعداد العدّة لن يغلبهم الكافرون، ولن يكون لهم عليهم سلطان، وما غلب المسلمون على أمرهم إلا بتركهم هدى كتابهم وتركهم أوامر دينهم وراءهم

[سورة النساء (4) : الآيات 142 إلى 143]

ظهريّا، فذلوا بعد عزة، وأجلب الكفار عليهم بخيلهم ورجلهم ودخلوا عليهم فى عقر دارهم، وامتلكوا بلادهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد. [سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) تفسير المفردات الخداع: إيهام غيرك أن الشيء على ما يحب ويريد بتزيينك له وهو على غير ذلك. كسالى: واحدهم كسلان، وهو المتثاقل المتباطئ، المراءاة: من الرؤية، وهى أن يكون من يرائيك بحيث تراه كما يراك، فالمرائى يريهم عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل الذبذبة: حكاية صوت الحركة للشىء المعلق ثم استعملت فى كل اضطراب وحركة. المعنى الجملي لا يزال الحديث فى المنافقين وبيان أحوالهم بعد أن ذكر طرفا منها قبل ذلك. الإيضاح (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ) أي يخادعون رسول الله فيظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر، ونسب ذلك إلى الله من جهة أن معاملة الرسول بذلك كمعاملة الله به كما قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» . وفى جعل ذلك خداعا لله تنبيه إلى شيئين، فظاعة فعلهم فيما تحرّوه من الخديعة،

إذ هم بمخادعتهم للرسول إنما يخادعون الله، وعظم شأن المقصود بالخداع، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وأن معاملته بذلك كمعاملة الله به. (وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي مجازيهم على خداعهم، وسمى ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول، ونظيره «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ» وإنما جعل كذلك لأنه قد استعمل فى المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه غالبا. وخلاصة المعنى- إنه عبر عن سنة الله فى عاقبة أمرهم فى العاجل والآجل من حيث إنها جاءت على غير ما يحبون بلفظ مأخوذ من المخادعة، إذ أنهم بمخادعتهم للرسول والمؤمنين يسيرون فى طريق يضلّون فيه وينتهون إلى الخزي والوبال من حيث هم يطلبون السلامة والنجاة، فمخادعتهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو مخادعة الله لهم، إذ جرت سنته تعالى فيمن يعمل مثل عملهم أن يلاقى الخزي فى الدنيا والنكال فى الآخرة، وهكذا حال المنافقين فى كل أمة وملة يخادعون ويكذبون، ويكيدون ويغشّون، ويتولون أعداء أمتهم يبتغون بذلك يدا عندهم يمتون بها إليهم إذا دالت دولتهم، وكتب التاريخ ملأى بأخبار هؤلاء الأشرار، ويكثر عددهم فى الأمم فى أطوار الضعف وقوة الأعداء، إذ هم طلاب منافع يلتمسونها من كل فج، ويسلكون لها كل طريق، ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين، وقد روى عن ابن عباس أنه قال: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا فى ظلمة، ودليله قوله تعالى «كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ» . (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) أي متباطئين متثاقلين ليست لديهم رغبة تبعثهم على عمل، ولا نشاط يدفعهم على فعل، لأنهم لا يرجون ثوابا فى الآخرة، ولا يخشون عقابا إذ لا إيمان لهم، وإنما يخشون الناس، فإذا كانوا بمعزل عن المؤمنين

[سورة النساء (4) : الآيات 144 إلى 147]

تركوها، وإذا كانوا معهم سايروهم بالقيام بها، ومن كانت هذه حاله وقع عمله على وجه الكسل والفتور. (يُراؤُنَ النَّاسَ) بها، أي يبتغون بذلك أن يراهم المؤمنون فيعدوهم منهم. (وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) أي لا يصلّون إلا قليلا، فإذا لم يرهم أحد لم يصلوا وإذا كانوا مع الناس راءوهم وصلّوا معهم. (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين، وتارة إلى الكافرين، لا يخلصون إلى أحد الفريقين، لأنهم طلاب منافع، ولا يدرون لمن تكون العاقبة، فمتى ظهرت الغلبة لأحدهما ادعوا أنهم منه كما بين الله ذلك فيما سلف. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) أي ومن قضت سنته أن يكون ضالا عن الحق موغلا فى الباطل، بما قدم من عمل، وتخلق به من خلق، فلن تجد له سبيلا للهداية باجتهادك والمبالغة فى إقناعه بالحجة والدليل، فإن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول. [سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذم سبحانه المنافقين بأنهم مذبذبون لا يستقر لهم قرار، فهم تارة مع المؤمنين، وأخرى مع الكافرين، حذر المؤمنين أن يفعلوا فعلهم وأن يوالى بعض ضعفائهم الكافرين دون المؤمنين، يبتغون عندهم العزة ويرجون منهم المنفعة كما فعل حاطب بن أبى بلتعة، إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فى شأنهم لأنه كان له عندهم أهل ومال. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) المراد بالولاية هنا النصرة بالقول أو بالفعل بما يكون فيه ضرر للمسلمين، وهذا كقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» . أما استخدام الذميين منهم فى الحكومة الإسلامية فليس بمحظور، والصحابة رضوان الله عليهم استخدموهم فى الدواوين الأميرية، وأبو إسحاق الصابي جعل وزيرا فى الدولة العباسية. (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) السلطان: الحجة والبرهان، والمبين هنا بمعنى البين فى نفسه. والمعنى- أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة فى استحقاقكم للعقاب إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين؟ فإن عملا كهذا لا يصدر إلا من منافق. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الدرك والدرك بالسكون والتحريك: الطبقة أسفل من الأخرى، فإذا كانت أعلى منها كانت درجة، والنار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة، وفى الآية إشارة إلى أن دار العذاب فى الآخرة ذات دركات بعضها أسفل من بعض، كما أن دار النعيم درجات بعضها أعلى من بعض.

وإنما كان المنافقون فى الدرك الأسفل من النار، لأنهم شر أهلها، إذ هم جمعوا بين الكفر والنفاق ومخادعة الرسول والمؤمنين وغشهم، فأرواحهم أسفل الأرواح، ونفوسهم أحط النفوس، ومن ثم كانوا أجدر الناس بالدرك الأسفل منها. أما أكثر الكفار فقد غلب عليهم الجهل بحقيقة التوحيد، فهم مع إيمانهم بالله يشركون به غيره، من صنم أو وثن يتخذونه شفيعا عنده ووسيطا بينه وبينه، وقد قاسوا ذلك على معاملة الملوك المستبدين، والأمراء الظالمين. (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ينقذهم من ذلك العذاب أو يخففه عنهم فيرفعهم من الطبقة السفلى إلى ما فوقها. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) أي هذا الجزاء الشديد الذي أعده الله للمنافقين لا يكون للذين تابوا من النفاق والكفر وندموا على ما فرط منهم وأتبعوا ذلك بأمور ثلاثة: (1) اجتهادهم فى صالح الأعمال التي تغسل أدران النفاق، بأن يلتزموا الصدق فى القول والعمل مع الأمانة والوفاء بالوعد، ويخلصوا النصح لله ورسوله، ويقيموا الصلاة مع الخشوع والخضوع ومراقبة الله فى السر والعلن. (2) اعتصامهم بالله بأن يكون غرضهم من التوبة وصلاح العمل مرضاة الله، مع التمسك بكتابه، والتخلق بآدابه، والاعتبار بمواعظه، والرجاء فى وعده، والخوف من وعيده، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، كما قال تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً» . (3) إخلاصهم لله بأن يدعوه وحده ولا يدعوا من دونه أحدا لكشف ضر ولا لجلب نفع، بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة خالصا له وحده كما قال:

«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وكما جاء فى قوله: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» . (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي فأولئك التائبون يكونون مع المؤمنين، لأنهم يؤمنون كإيمانهم ويعملون كعملهم فيجزون جزاءهم. (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) أي وسوف يعطيهم الله الأجر العظيم الذي لا يقدر قدره، كما قال تعالى: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» . ثم بين أن تعذيبهم إنما كان لكفرهم بأنعم الله عليهم فقال: (ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ؟) الاستفهام للإنكار. أي إنه تعالى لا يعذب أحدا من خلقه انتقاما منه، ولا طلبا لنفع ولا دفعا لضر، لأنه تعالى غنى عن كل أحد، منزه عن جلب منفعة له، وعن دفع مضرة عنه، بل ذلك جزاء كفرهم بأنعم الله عليهم، فهو قد أنعم عليهم بالعقل والحواس والجوارح والوجدان، لكنهم استعملوها فى غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها لتكميل نفوسهم بالفضائل والعلوم والمعارف، كما كفروا بخالق هذه القوى فاتخذوا له شركاء، ولا ينفعهم تسميتهم شفعاء أو وسطاء، حتى فسدت فطرتهم، ودنست أرواحهم، ولو آمنوا وشكروا لطهرت أرواحهم، وظهرت آثار ذلك فى عقولهم وسائر أعمالهم التي تصلحهم فى معاشهم ومعادهم، واستحقوا بذلك رضوان الله «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» . (وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً) أي يجعل ثواب المؤمنين الشاكرين بحسب علمه بأحوالهم، ونيلهم من الدرجات أكثر مما يستحقون، جزاء على شكرهم وإيمانهم كما قال: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ

عَذابِي لَشَدِيدٌ» فهو يجزى بيسير الطاعات، رفيع الدرجات، ويعطى بالعمل فى أيام معدودة، نعما فى الآخرة غير محدودة. وفقنا الله لصالح العمل، وجعلنا من المؤمنين الشاكرين. وصلى الله على محمد وصحبه وسلم. وكان الفراغ من كتابة مسوّدة هذا الجزء فى اليوم الثاني من المحرم سنة اثنتين وستين وثلاثمائة بعد الألف، بمدينة حلوان من أرباض القاهرة بالديار المصرية.

فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 5 جاء الإحصان فى القرآن لعدة معان 7 الاسترقاق المعروف الآن فى بلاد الحجاز، والسودان، وبلاد الجراكسة ليس بشرعى 8 نكاح المتعة (النكاح المؤقت) حرام كالنكاح بنية الطلاق. 10 كان الزنا فى الجاهلية قسمين سرّى وعلنى كما هو الآن فى كثير من البلاد الإفرنجية ومن قلدهم فى البلاد الإسلامية. 17 مال الفرد مال الأمة مع احترام الحيازة والملكية، ولا يباح للمحتاج أن يأخذه إلا بإذن صاحبه. 18 مدار حل التجارة على التراضي فلا ينبغى أن يكون فيها غش ولا تدليس. 19 الدين قد جعل قتل غيرك قتلا لنفسك. 27 أسباب قوامة الرجال على النساء. 28 النهج القويم فى معاملة المرأة. 30 الرجال الذين يستذلون نساءهم يلدون عبيدا لغيرهم. 31 علاج الشقاق بين الزوجين إرسال حكمين حكم من أهله وحكم من أهلها. 37 أمرنا بحسن معاملة الخادم والمولى.

الصفحة المبحث 39 المرائى بخيل فى الحقيقة- الفارق بينه وبين المخلص فى عمله. 40 القرين الصالح عون على الخير. 44 يوم القيامة يود الكافر لو تسوى به الأرض ويكون ترابا. 47 حكمة الاغتسال من الجنابة. 51 أهل الكتاب اشتروا الضلالة بالهدى فحرفوا الكلم عن مواضعه. 55 اتفق الرسل جميعا فى أسس الدين واختلفوا فى التفاصيل. 58 ضروب الشرك- الحكمة فى عدم مغفرته. 61 تحذير المسلمين من الغرور بدينهم كما فعل أهل الكتاب. 65 هل يعود الملك إلى اليهود؟. 68 الحكمة فى تبديل جلود الكفار- رأى الطلب فى ذلك. 69 أزواج الجنة مبرآت من العيوب الجسمية والنفسية. 70 الأمانة ضروب وأنواع. 73 الأصول التي بنى عليها التشريع فى الإسلام. 76 التحاكم إلى الدجالين وأصحاب المندل والرمل ومدعى الكشف والولاية 77 المنافقون يصدون عن التحاكم إلى الرسول. 83 صادق الإيمان من يطيع الله فى المحبوب والمكروه. 92 جرت سنة الله أن الحق يعلو على الباطل وأن البقاء للأصلح. 97 كل شىء من عند الله، فهو خالق الأشياء وواضع نظمها. 98 طاعة الله من أسباب النعم، وعصيانه مما يجلب النقم. 102 لو كان القرآن من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. 117 الناس فى عصر التنزيل كانوا ثلاث فرق بالنسبة إلى هذا الدين 123 للعلماء فى توبة قاتل المؤمن عمدا آراء ثلاثة.

الصفحة المبحث 131 لا تقبل مسايرة أهل البدع والأهواء خوفا من الأذى 133 إذا لم يستطع الرجل إقامة دينه فى بلد وجبت عليه الهجرة منه إلى بلد آخر. 135 من سافر لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج ومات قبل الوصول إلى مقصده كتب له أجر فعل ذلك. 136 السبب فى شرع الهجرة فى صدر الإسلام. 139 صلاة القصر فى السفر وشرطها. 144 الحكمة فى توقيت الصلاة. 148 لا ينبغى أن يظهر الميل الفطري أو الديني فى مجلس القضاء. 149 من شأن العاصين أن يستتروا من الناس حين اجتراح السيئات، ولا يستحيون من الله. 153 النجوى مظنة الشر ولا خير فيها إلا فى الأمر بصدقة أو معروف. أو إصلاح بين الناس. 155 من يرتد عن الإسلام بعد ما ظهرت له الهداية على لسان رسله فمأواه جهنم وبئس المصير. 157 لا يغفر الله الشرك لأحد ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. 159 الشرك أصناف. 161 من يتبع وساوس الشيطان فقد خسر خسرانا مبينا. 162 وعد الشيطان غرور من القول وزور. 165 كل ما أصاب المسلم كفارة له حتى الشوكة يشاكها. 166 النجاة والسعادة فى الآخرة منوطان بصالح العمل مع الإيمان. 170 فى الكتاب ما يجب من معاملة الضعيفين المرأة واليتيم.

الصفحة المبحث 171 إذا خافت المرأة من الزوج نشوزا وإعراضا فلا بأس فى أن تتسامح فى بعض. حقوقها عليه أو كلها لتبقى فى عصمته. 172 العدل غير مستطاع بين الأزواج فيجب مراعاته على قدر الإمكان. 173 ميثاق الزوجية ميثاق مؤكد يجب احترامه. 174 إذا افترق الزوجان وراعيا حدود الله يسر الله لهما من فضله وجوده خير العوض من صاحبه. 178 تحرى الحق والعدل فى الشهادة ولو على النفس أو الوالدين والأقربين. 182 المغفرة إنما تكون بتأثير التوبة والعمل الصالح فى النفس حتى يزيل ما علق بها من الآثام. 183 نهينا عن الجلوس فى الأماكن التي فيها ذم الإسلام والاستهزاء بالقرآن. 185 ما غلب المسلمون فى هذه العصور ولا فتح الكفار بلادهم إلا بترك الأهبة. وإعداد العدة. 185 لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأوامره. 187 المنافقون فى كل أمة وملة يخادعون ويكذبون ويتولون أعداء أمتهم يبتغون بذلك يدا عندهم. 190 المنافق إذا تاب واجتهد فى صالح الأعمال واعتصم بالله وأخلص له العمل يعفو الله عنه. 191 العذاب جزاء على الجرائم التي تصدر عن الفاعل لها.

تتمة سورة النساء

الجزء السادس [تتمة سورة النساء] تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء السادس

[سورة النساء (4) : الآيات 148 إلى 149]

بسم الله الرحمن الرحيم [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه كثيرا من عيوب المنافقين ومفاسدهم لإقامة الحجة عليهم، وحذّر المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم كما قال: «وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» . بين هنا حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه، حتى لا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين فى القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك، وفى هذا من الضرر ما سنذكره.

الإيضاح

الإيضاح (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) حب الله لشىء هو الرضا به والإثابة عليه، والجهر يقابل السر والإخفاء، والسوء من القول ما يسوء من يقال فيه كذكر عيوبه. ومساويه التي تؤذى كرامته. والمعنى- أنه تعالى لا يحب من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات لما فى ذلك من المفاسد الكثيرة التي أهمها: 1) إنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهر بالسوء ومن ينسب إليه هذا السوء، وقد يصل الأمر إلى هضم الحقوق وسفك الدماء. 2) إنه يؤثر فى نفوس السامعين تأثيرا ضارا بهم، فقد جرت العادة بأن الناس يقتدى بعضهم ببعض، فمن رأى إنسانا يسبّ آخر لضغائن بينه وبينه، أو لكراهته إياه قلده فى ذلك، ولا سيما إذا كان من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد أو من طبقة دون طبقته، إذ عامة الناس يقلدون خواصهم، فإذا ظهرت المنكرات فى الخاصة لا تلبث أن تصل إلى العامة وتفشو بينهم. ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة يجترئ على ارتكابهما إذا علم أن له سلفا وقدوة فيهما، فسماع السوء كعمل السوء فذاك يؤثر فى نفس السامع وهذا يؤثر فى نفس الرائي والناظر، وأقل هذه الأضرار أنه يضعف فى النفس استقباحه واستبشاعه خصوصا إذا تكرر السماع أو النظر. وكثير من الناس يجهل مبلغ تأثير الكلام فى القلوب، فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إليه. والخلاصة- إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا الإسرار به، إذ هو قد نهى عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، لكنه خص الجهر هنا بالذكر لمناسبة بيان مفاسد الكفار والمنافقين فى هذا السياق.

والجهر بالسوء أشد ضرارا من الإسرار به، لأن ضرره وفساده يفشو فى جمهرة الناس ويعم سائر الطبقات. (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحا ظلامته لحاكم أو غيره ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة هذا الظلم فلا حرج عليه فى ذلك، فإن الله لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظلم، ولا أن يخضعوا للضيم، بل يحب لهم العزة والإباء. فها هنا تعارضت مفسدتان: مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم بقول السوء، ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوّه والتمادي فيه، وذاك مما يؤدى إلى هلاك الأمم وخراب العمران، وكانت ثانيتهما أخف الضررين فأجيزت للضرورة التي تقدّر بقدرها وإذا فلا يجوز للمظلوم أن يتمادى فى الجهر بالسوء بما لا دخل له فى دفع الظلم وفى الحديث «إن لصاحب الحق مقالا» رواه الإمام أحمد. (وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) فلا يفوته قول من أقوال من يجهر بالسوء ولا يعزب عن علمه البواعث التي أدت إليه، إذ لا يخفى عليه شىء من أقوال العباد ولا من أفعالهم ونياتهم فيها، فمن جهر بالسوء الذي لا يحبه الله لعباده لضرره ومفسدته لظلم وقع عليه فالله لا يؤاخذه، بل ربما أثابه على ذلك لإراحة الناس من شر فاعله، فإن الظالم إن لم يؤاخذ على ظلمه يزدد فيه ضراوة وإصرارا. (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أي إن فاعلى الخير سرا وجهرا والعافين عمن يسىء إليهم يجزيهم ربهم من جنس ما عملوا، فيعفو عن سيئاتهم ويجزل مثوبتهم، والله من شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل.

[سورة النساء (4) : الآيات 150 إلى 152]

[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) المعنى الجملي بين سبحانه فى هذه الآيات أن للإيمان ركنين يبنى عليهما ما عداهما، ولا يقبل الإيمان بدونهما، وهما الإيمان به وبجميع رسله بدون تفرقة بين رسول وآخر. ومن أنكرهما أو أحدهما فقد كفر وعاقبته العذاب الأليم فى جهنم وبئس القرار. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) ليس المراد أنهم يصرحون بالكفر بل هو ما تقتضيه آراؤهم ومذاهبهم، وقوله: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بيان لتفريقهم بين الله ورسله. والخلاصة- إن الكافرين بالرسل فريقان: فريق لا يؤمن بأحد منهم، لإنكارهم النبوات وزعمهم أن ما أتى به الأنبياء من الهدى والشرائع هو من عند أنفسهم لا من عند الله، وأكثر الملحدين فى هذا العصر من ذلك الفريق. وفريق آخر يؤمن ببعض الرسل دون بعض كقول اليهود نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد فهما ليسا برسولين، وقول النصارى نؤمن بموسى وعيسى ونكفر بمحمد، والفريقان كافرون مستحقون للعذاب، ولا عبرة بما يدعونه إيمانا. (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي وأعددنا لكل كافر سواء أكان منهم

أم من غيرهم عذابا فيه ذل وإهانة لهم جزاء كفرهم الذي ظنوا فيه العزة والكرامة. ذاك أن من يؤمن بالله ولا يؤمن بوحيه إلى رسله لا يكون إيمانه صحيحا ولا يهتدى إلى ما يجب له من الشكر ولا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه، ومن ثم نرى أمثال هؤلاء ماديين لاتهمهم إلا شهواتهم كما أن من يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون. ببعض كأهل الكتاب لا يعتدّ بقولهم، لأن الإيمان بالرسالة على الوجه الحق إنما يكون بفهمها وفهم صفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم. ومن فهم هذا حق الفهم علم أن صفات الرسل قد ظهرت بأكملها فى محمد صلى الله عليه وسلم، فهو قد جاء بكتاب حوى ما لم يحوه كتاب آخر مع أنه نشأ بين قوم أميين، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون غيره من الكتب. وبعد أن ذكر حال الفريقين السالفى الذكر ذكر حال فريق ثالث فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي والذين آمنوا بالله وجميع الرسل وعملوا بشريعة آخرهم، علما منهم بأن جميعهم مرسل من عند الله، وما مثلهم إلا مثل ولاة يرسلهم السلطان إلى البلاد ومثل الكتب التي جاءوا بها مثل القوانين التي يصدر السلطان مراسيم للعمل بها، فكل وال منهم إنما ينفذ أوامر السلطان وكل قانون يعمل به لأنه منه، وكل قانون جديد ينسخ ما قبله ويمنع العمل به. وأولئك يؤتيهم الله أجورهم بحسب حالهم فى العمل، لأنهم وقد صح إيمانهم به وبرسله يهديهم إلى العمل الصالح، إذ هو الأثر اللازم لذلك الإيمان الصحيح. ولم يقل فى هؤلاء إنهم هم المؤمنون حقا كما قال فى أولئك هم الكافرون حقا، لئلا يدور بخلد أحد أن كمال الإيمان يوجد بدون العمل الصالح فيغتر بذلك ويترك العمل النافع وهذا مما لا يتلاءم مع نصوص الدين، فلقد وصف الله المؤمنين حقا بقوله: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» .

[سورة النساء (4) : الآيات 153 إلى 159]

(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله غفورا لهفوات من صح إيمانه ولم يشرك بربه أحدا، ولم يفرّق بين أحد من رسله، رحيما به يعامله بالإحسان ويضاعف حسناته ويزيد على ما وعد تفضلا منه ورحمة. [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فى سابق الآيات حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بين الله ورسله فيقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم أهل الكتاب، بين فى هذه الآيات بعض حوادث لليهود تدل على شديد تعنتهم وجهلهم بحقيقة الدين. الإيضاح (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) فقد قالوا إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند الله فائتنا بألواح من عنده تكون بخط سماوى يشهد أنك رسول الله إلينا. أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: إن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله يكون فيه (من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله، وهكذا ذكروا أسماء معينة من أحبارهم، وما مقصدهم من ذلك إلا التعنت والتحكم لا طلب الحجة لأجل الاقتناع) وقال الحسن لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) أي عيانا ننظر إليه ونشاهده: أي لا تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، وكل من السؤالين يدل على جهل أو عناد. ذاك أن سؤال الرؤية جهرة دليل على الجهل بالله، إذ هم ظنوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار، وأما سؤال إنزال الكتاب فهو دليل إما على العناد لأنهم اقترحوا ما اقترحوا تعجيزا ومراوغة، وإما على الجهل بمعنى النبوة والرسالة مع ما ظهر فيهم من أنبياء، إذ هم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المخالفة للعادة، وكتبهم قد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي

يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق لا بمجرد أعجوبة يعملها كما نصت على ذلك التوراة فى سفر تثنية الاشتراع وغيره. وأيا ما كان فلا فائدة فى إجابتهم إلى ما طلبوا كما قال تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» . ونسب سؤال موسى إليهم والذين سألوا إنما هم سلفهم، لأن الخلف والسلف سواسية فى الأخلاق والصفات، فالأبناء يرثون الآباء ولا سيما اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء، ولأن سنة القرآن قد جرت على أن الأمة تعد كالشخص الواحد فى اتباع خلفها لسلفها، فينسب إلى المتأخر ما فعله المتقدم كما سبق هذا فى سورة البقرة فى مخاطبة اليهود وغيرهم. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) الصواعق نيران جوية تنشأ من اتحاد الكهرباء الموجبة بالكهرباء السالبة، وقوله بظلمهم: أي بسبب ظلمهم: أي إن الله تعالى عاقبهم على جهلهم بإنزال الصاعقة عليهم عذابا لهم، إذ شبهوا الخالق بالمخلوق ورفعوا أنفسهم فوق أقدارها كما قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» . (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) تقدم هذا فى سورة البقرة: أي وبعد أن جاءتهم المعجزات على يد موسى عليه السلام من قلب العصا حية واليد بيضاء وفلق البحر وغيرها، اتخذوا العجل إلها وعبدوه، فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا، فتوبوا أنتم مثلهم حتى نعفو عنكم مثلهم. (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) السلطان هنا بمعنى السلطة: أي إننا أعطيناه سلطة ظاهرة فأخضعناهم له على تمردهم وعنادهم حتى فى قتل أنفسهم. وفى هذا بشارة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندون فإنك ستتغلب عليهم آخرا وتقهرهم. ثم حكى عز اسمه عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم وقد تقدم بعضها فى سورة البقرة فقال:

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) الطور الجبل المعروف رفع فوقهم كأنه ظلة وقد كانوا فى واديه، وقوله بميثاقهم: أي بسبب ميثاقهم أن يأخذوا ما أنزل إليهم بقوة ويعملوا به مخلصين ثم امتنعوا من العمل بما جاء به فرفع عليهم الجبل فخافوا وقبلوا العمل به. (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) الباب هو باب المدينة وهى بيت المقدس وقيل أريحا، وقوله سجدا: أي خاضعى الرءوس مائلى الأعناق ذلة وانكسارا لعظمته: أي وقلنا لهم على لسان يوشع عليه السلام ادخلوا باب هذه القرية بذلة وانكسار. (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) والاعتداء تجاوز الحد، والاعتداء فى السبت هو اصطياد الحيتان فيه: أي وقلنا لهم على لسان داود عليه السلام لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدنيوي، وقد خالفوا فى السبت وفى دخول الباب. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) الميثاق الغليظ العهد المؤكد: أي وأخذنا منهم عهدا مؤكدا ليأخذنّ التوراة بقوة، وليقيمنّ حدود الله ولا يتعدونها، ويتبع ذلك البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام وهو موجود إلى الآن فى الفصل التاسع والعشرين وما بعده من سفر تثنية الاشتراع وهو آخر التوراة التي بأيديهم. (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي فبسبب نقض أهل الكتاب للميثاق الذي واثقهم الله به فأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله، وكفرهم بآياته وحججه الدالة على صدق أنبيائه، وقتل الأنبياء الذين أرسلوا لهدايتهم كزكريا ويحيى عليهما السلام. (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف وهو ما عليه غلاف: أي لا ينفذ إليها شىء مما جاء به الرسول ولا يؤثر فيها وهذا كقوله حكاية عن المشركين «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» وغير ذلك من سيئاتهم التي ستذكر بعد- فعلنا بهم ما فعلنا من لعن إلى غضب إلى ضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال، لأن هذه الذنوب فرقت شملهم وذهبت بقوتهم وأفسدت أخلاقهم إلى غير ذلك من أنواع البلاء التي سببها الكفر والعصيان.

(بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) طبع الله عليها جعلها كالسكة المطبوعة (الدراهم مثلا) فى قساوتها وجعلها بوضع خاص لا تقبل غيره: أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع، بل لأن الله ختم عليها بسبب كفرهم الكسبي وماله من الأثر القبيح فى أعمالهم وأخلاقهم، فهم باستمرارهم على ذلك الكفر لا ينظرون فى شىء آخر نظر استدلال واعتبار، مع أنه من الأمور التي يصل إليها اختيارهم، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا. (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به، لأنه تفريق بين الله ورسله، فالكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم، وهم قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام. (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) المراد بالكفر هنا الكفر بعيسى عليه السلام بدليل ما بعده، وبالكفر الذي قبله الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم بقرينة قوله: وقالوا قلوبنا غلف، والبهتان: الكذب الذي يبهت من يقال فيه: أي يدهشه ويحيّره لبعده وغرابته، والمراد به هنا رميها بالفاحشة. والمعنى- إن الله طبع على قلوبهم بكفرهم بعيسى وأمه ورميهم إياها بالكذب العظيم، وأي بهتان تبهت به العذراء التقية أعظم من هذا؟. والخلاصة- إن هذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب الله. (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) أي وبسبب قولهم هذا القول المؤذن بالجرأة على الباطل والاستهزاء بآيات الله. وذكروه بوصف الرسالة تهكما واستهزاء بدعوته، بناء على أنه إنما ادعى النبوة والرسالة فيهم لا الألوهية كما ادعت النصارى، إذ جاء فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) . (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي والحال أنهم ما قتلوه كما ادعوا، وما صلبوه كما زعموا وشاع بين الناس، ولكن وقع لهم الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى

وهم إنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه يحدث كثيرا فى كل زمان وتحكى عنه نوادر وحوادث غاية فى الغرابة لكنها قد وقعت فعلا. فقد ذكر بعض المؤلفين فى الطب الشرعي من الإنجليز حادثة وقعت سنة 1539 فى فرنسا استحضر فيها 150 شخصا لمعرفة شخص يدعى (مارتين جير) جزم أربعون منهم بأنه هو هو وقال خمسون انه غيره والباقون ترددوا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون وعاش مع زوجته مارتين محوطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه ثلاث سنوات وكلهم مصدق أنه مارتين، ولما حكمت المحكمة عليه بظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم فى محكمة أخرى فأحضر ثلاثون شاهدا أقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين، وقال سبعة إنه غيره وتردد الباقون. على أن هذا الحادث من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى بن مريم وأنقذه من أعدائه فألقى شبهه على غيره وغيّر شكله، فخرج من بينهم وهم لا يشعرون، وفى أناجيلهم وكتبهم نصوص متفرقة تؤيد هذا الوجه وإذا قال قائل: وإذا كان المسيح قد نجا من أعدائه فأين ذهب؟ والجواب أنا إذا قلنا إنه رفع بروحه وجسده إلى السماء فلا ترد هذه الشبهة، وإذا قلنا إن الله توفاه فى الدنيا ثم رفعه إليه كما رفع إدريس عليهما السلام فلا غرابة فى ذلك، فإن أخاه موسى عليه السلام قد انفرد عن قومه فى مكان لم يعرفه أحد منهم، وكانوا ألوفا عدة خاضعين لأمره ونهيه، فكيف يستغرب أن يفرّ عيسى عليه السلام من قوم هم أعداء له، لا ولى له فيهم ولا نصير إلا أفراد من الضعفاء قد انفضّوا من حوله وقت الشدة، وقد أنكره أمثلهم بطرس الحوارى ثلاث مرات؟. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) قال فى لسان العرب: الشك ضد اليقين، فالشك فى صلب المسيح هو التردد فيه أهو المصلوب أم غيره؟

والمعنى- وإن الذين اختلفوا فى شأن عيسى من أهل الكتاب لفى تردد من حقيقة أمره، إذ ليس لهم به من علم قطعىّ الثبوت، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن التي ترجح بعض الآراء على بغض، وقد جاء فى بعض الأناجيل التي يعوّلون عليها أنه قال لتلاميذه (كلكم تشكّون فى هذه الليلة) أي الليلة التي يطلب فيها للقتل (إنجيل متى من 26- 31 ومرقس من 14- 27) . وإذا كانت أناجيلهم تنطق بأنه أخبر تلاميذه أو عرف الناس له بأنهم سيشكون فيه فى ذلك الوقت، وخبره صادق قطعا، فهل من العجيب اشتباه غيرهم وشكّ من دونهم فى أمره؟. (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أي وما قتلوا عيسى بن مريم وهم متيقنون أنه هو بعينه، إذ هم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة، والأناجيل التي يعوّل عليها صريحة فى أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الاسخريوطي وقد جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو المسيح فلما قبّله قبضوا عليه، وإنجيل برنابا يصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الاسخريوطي نفسه ظنا أنه هو المسيح، لأنه ألقى عليه شبهه، ومن هذا تعلم أن الجند ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية. والخلاصة- إن روايات المسلمين جميعها متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أعدائه ومريدى قتله فقتلوا آخر ظنا منهم أنه هو. (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) هذه الآية كآية آل عمران «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» وقد روى عن ابن عباس أنه فسر التوفى بالإماتة، وعن ابن جريج تفسيره بالأخذ والقبض والمراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله بعد أن اصطفاه إليه وقربه. وقال ابن جرير نقلا عن ابن جريج: فرفعه إياه توفيه إياه وتطهيره من الذين كفروا أي فليس المراد الرفع إلى السماء بالروح والجسد ولا بالروح فقط، وفى تفسير ابن عباس

معنى الرفع رفع الروح، ولكن المشهور بين جمهرة المفسرين وغيرهم أن الله تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء بدليل حديث المعراج، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه هو وابن خالته يحيى فى السماء الثانية، وأنت ترى أنه لا دليل لهم فى ذلك إذ لو دل هذا على ما يقولون لدل على رفع يحيى وسائر من رآهم من الأنبياء فى سائر السموات ولا قائل بذلك. وقال الرازي- المعنى رافعك إلى محل كرامتى، وجعله رفعا للتفخيم والتعظيم كقوله حكاية عن إبراهيم «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي» وهو إنما ذهب من العراق إلى الشام، والمراد رفعه إلى مكان لا يملك الحكم فيه عليه إلا الله اه. (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي إن الله عزيز يغلب ولا يغلب، وبهذه العزة أنقذ عبده ورسوله من اليهود الماكرين وحكام الروم الظالمين، وبحكمته جازى كل عامل بعمله، ومن ثم أحل باليهود ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد فى الأرض، وسيوفيهم جزاءهم يوم القيامة «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» . (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي وإن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق فى أمر عيسى وسواه من أمور الدين فيؤمن بعيسى إيمانا حقا لا زيغ فيه ولا ضلال، فاليهودى يعلم أنه رسول صادق فى رسالته ليس بالكذاب، والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسوله وليس بإله وليس هو بابن لله. وفائدة إخبارهم بذلك- بيان أنه لا ينفعهم حينئذ فعليهم أن يبادروا به قبل أن يضطرّوا إليه مع عدم الجدوى والفائدة. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي ويوم القيامة يشهد عيسى عليهم بما تظهر به حقيقة حاله معهم كما حكى الله عنه من قوله: «ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ» فهو يشهد

[سورة النساء (4) : الآيات 160 إلى 162]

للمؤمنين منهم بالإيمان حال التكليف والاختيار وعلى الكافر بالكفر، إذ هو مرسل إليهم وكل نبى شهيد على قومه كما قال تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) وقد ورد فى الآثار ما يدل على اطلاع الناس قبل موتهم على منازلهم من الآخرة، فيبشّرون برضوان الله أو بعذابه وعقوبته، روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته» وروى ابن مردويه عن ابن عباس «ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار» . وهذا يؤيد ما روى عن ابن عباس فى تفسير الآية من أن الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح، مع الإنكار الشديد والتقبيح. [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فضائح اليهود وقبيح أعمالهم، ذكر هنا تشديده عليهم فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فبتحريم طيبات كانت محللة لهم، وأما فى الآخرة فبما

الإيضاح

بينه الله بقوله (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ثم بين أن فريقا منهم آمنوا إيمانا صادقا وعملوا الصالحات فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة الإيضاح (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي فبسبب ظلمهم استحقوا تحريم طيبات كانت محلّلة لهم ولمن قبلهم عقوبة وتربية لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم، وكانوا كلما ارتكبوا معصية يحرم عليهم نوع من الطيبات وهم مع ذلك كانوا يفترون على الله الكذب، ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه، بل كانت محرمة على نوح وإبراهيم فكذبهم الله فى مواضع كثيرة كقوله: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» . أما الطيبات التي حرمها عليهم فهى ما بيّن فى قوله عز اسمه «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» الآية. وقد أبهمها الله هنا، لأن الغرض من السياق العبرة بكونها عقوبة، لا بيانها فى نفسها، كما أبهم الظلم الذي كان سببا فى العقوبة، ليعلم أن أىّ نوع منه يكون سببا للعقاب فى الدنيا قبل الآخرة. والعقاب إما دنيوى كالتكاليف الشاقة زمن التشريع، والجزاء الوارد فى الكتب على الجرائم كالحد والتعزير وما اقتضته السنن التي سنها الله فى نظم الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها واستيلاء الأمم الأخرى عليها، وإما أخروىّ وهو ما بيّنه فى الكتاب الكريم من العذاب فى النار. ثم بين هذا الظلم وفصله بعد ذكره إجمالا، ليكون أوقع فى النفس، وأبلغ فى الموعظة. (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) الصدّ والصدود: المنع، وهو يشمل صدهم أنفسهم عن سبيل الله بما كانوا يعصون به موسى ويعاندونه مرارا، وصدّهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة، أو بالأمر بالمنكر والنهى عن المعروف.

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي وبسبب أخذهم الربا وقد نهوا عنه على ألسنة أنبيائهم، والتوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم أخذهم الربا من شعبهم ومن إخوتهم دون الأجانب، فقد جاء فى سفر الخروج (إن أقرضت فضة لشعبى الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابى، لا تضعوا عليه ربا) وفى سفر تثنية الاشتراع (لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة أو ربا شىء ما مما يقرض بربا، للأجنبى تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا) وهذه عبارة التوراة التي كتبت بعد السبي، وثبت تحريفها بالشواهد الكثيرة، أما النسخة التي كتبها موسى فقد فقدت باتفاق اليهود والنصارى. وبعض أنبيائهم قد نهوا عن الربا إطلاقا فلم يقيدوه بشعب إسرائيل كقول داود فى المزمور الخامس عشر: فضته لا يعطيها بالربا، ولا يأخذ الرشوة من البريء، وقول سليمان فى سفر الأمثال (المكثر ماله بالربا والمرابحة، فلن يرحم الفقراء بجمعه) (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بالرشوة والخيانة ونحوهما مما أخذ فيه المال بلا مقابل يعتدّ به. ونحو الآية قوله تعالى: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» والسحت: الكسب الحرام فقد كانوا يأخذون أثمان الكتب التي يكتبونها بأيديهم ثم يقولون هى من عند الله. وبعد أن ذكر وجوه الذنوب التي اقترفوها، والجرائم التي ارتكبوها، بين جزاءهم عليها فى الآخرة فقال: (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي وأعددنا للذين كفروا منهم برسل الله عذابا مؤلما فى نار جهنم خالدين فيها أبدا. وبعد أن بين فى هذا السياق سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم وأطلق القول فى ذلك، وكان هذا مما يوهم أنه شامل لكل أفرادهم، جاء الاستدراك عقبه ببيان حال خيارهم الذين لم يذهب عمى التقليد بنور عقولهم فقال: (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ

[سورة النساء (4) : الآيات 163 إلى 166]

قَبْلِكَ) أي لكن أهل العلم الصحيح بالدين منهم المستبصرون فيه غير التابعين للظن الذين لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه، والمؤمنون من أمتك إيمان إذعان لا إيمان عصبية وجدل، يؤمنون بما أنزل إليك من البينات والهدى وما أنزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل، ولا يفرقون بين الله ورسله بهوى ولا عصبية. روى ابن إسحق والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس أن الآية نزلت فى عبد الله بن سلام وأسيد بن سعية وثعلبة بن سعية حين فارقوا يهود وأسلموا. (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) أي وأخص منهم المقيمين الصلاة الذين يؤدونها على وجه الكمال، فهم أجدر المؤمنين بالرسوخ فى الإيمان، إذ إقامتها بإتمام أركانها علامة كمال الإيمان واطمئنان النفس به. (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر مثل المقيمين الصلاة فى استحقاق المدح بالتبع، إذ إقامتها تستدعى إيتاء الزكاة، فإن الذي يقيمها على الوجه الذي طلبه الدين لا يمنع الزكاة، إذ هى مما تزكى النفس وتعلى الهمة وتهوّن على النفس المال، قال تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ» الآية. (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) أي هؤلاء الذين وصفوا بما ذكر كله سنعطيهم أجرا عظيما لا يدرك وصفه إلا علّام الغيوب. [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)

المعنى الجملي

المعنى الجملي لا يزال الحديث مع أهل الكتاب، فإنه ذكر عنهم أوّلا أنهم يفرقون بين الله ورسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ثم انتقل إلى ذكر شىء من عنادهم وإعناتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وطلبهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وبيّن أنه لا غرابة فى ذلك فقد شاغبوا موسى من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك، ثم ذكر كفرهم بعيسى عليه السلام وبهتهم أمّه ومحاولتهم قتله وصلبه، وفى كل هذا دليل على تأصل العناد فيهم، ولولا ذلك لما شاغبوك، فإن الدليل على نبوتك أوضح مما يدّعون الإيمان بمثله ممن قبلك- وهنا ختم الكلام فى محاجتهم ببيان أن الوحى جنس واحد، ولو كان إيمانهم بالرسل السابقين صحيحا لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. الإيضاح (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الوحى لغة: الإيماء والإشارة كما قال تعالى: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» والإلهام الذي يقع فى النفس كما قال: «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ» وما يكون غريزة دائمة كما قال: «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» والإعلام فى خفاء بأن تعلم إنسانا بأمر تخفيه على غيره كما قال: «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ» . ووحي الله إلى أنبيائه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت، ويفرق بينه

وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى؟ وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور. والمعنى- إنا قد أوحينا إليك هذا القرآن كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ممن يؤمن بهم، والله لم ينزل على أحد منهم كتابا من السماء كما سألوك للتعجيز والعناد، لأن الوحى ضرب من الإعلام السريع الخفىّ، وليس هو بالأمر المشاهد الحسىّ. وقد بدأ سبحانه بذكر نوح لأنه أقدم الأنبياء، وقصص بعثته فى سفر التكوين وهو أحد الأسفار الخمسة التي تتضمنها التوراة. (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) . الأسباط واحدهم سبط، وهو ولد الولد، وأسباط بنى إسرائيل اثنا عشر سبطا، وهم أبناء يعقوب العشرة وولدا ابنه يوسف، والأسباط فى بنى إسرائيل كالقبائل فى ولد إسماعيل. (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الزبور: الكتاب وكل كتاب زبور، وهو هنا اسم للكتاب المنزل على داود، وقد أفرد بالذكر لأن له شأنا خاصا عند أهل الكتاب. (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه السورة، وهم الذين ذكرت أسماؤهم فى السور المكية كقوله فى سورة الأنعام فى سياق الكلام عن إبراهيم «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ» . وأجمع السور لقصص الأنبياء هود والشعراء.

(وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) كالذين أرسلوا إلى الأمم المجهول تاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك كالصين واليابان والهند وأوروبا وأمريقا. وإنما لم يقص الله علينا خبرهم لأن القصد من القصص العبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته صلى الله عليه وسلم كما أشار إلى ذلك فى قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» وقوله: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» وكل هذا يثبت بذكر من قصهم الله علينا من الرسل، وعلينا أن نعلم أن الله أرسل رسلا فى كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا مختصة بشعب معين كما يزعم أهل الكتاب، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» وقوله: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» وهذه حقيقة دل عليها الدين السماوىّ ولم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعمون أن القرآن مقتبس من كتبهم، وكم فيه من حقائق جلّاها للناظرين بجميل بيانه، واهتدى العلم الصحيح بعد قرون خلت إلى معرفتها، وما كان العقل وحده يكشف عنها لولا أن هدى إليها الكتاب الكريم. (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً) خاصا له ميزه عن غيره من ضروب الوحى العام لأولئك النبيين، وليس لنا أن نخوض فى معرفة حقيقته، لأنا لم نكن من أهله، على أنا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا بعضا، وكيف تحمل ذرّات الهواء الأصوات إلى الآذان فضلا عن أن نعرف حقيقة كلام الباري. والوحى إلى الأنبياء يسمى تكليما، والتكليم لهم يسمى وحيا كما قال تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» . والحكمة فى الحجاب الاستعداد بالتوجه إلى شىء واحد تتحد فيه هموم النفس وأهواؤها المتفرقة كما كان شأن موسى إذ رأى النار فى الشجرة

والرسول الذي يرسله الله فيوحى بإذنه ما يشاء هو ملك الوحى المعبر عنه بالروح الأمين. (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي أرسلنا رسلا قد قصصنا بعضهم عليك ولم نقصص بعضا آخر، ليكونوا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالثواب العظيم، وينذروا من كفر وأجرم بالعذاب الأليم، إذ لو لم يرسلهم لكان للناس أن يحتجوا إذا هم أجرموا أو كفروا بأنهم ما فعلوا ذلك إلا لجهلهم ما يجب من الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى» وقال «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» . والخلاصة- إن من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل عند ما يحاسبهم الله ويقضى بعقابهم، فلولا إرسالهم لكان لهم أن يحتجوا فى الآخرة على عذابهم فيها وعلى عذاب الدنيا الذي كان قد أصابهم بظلمهم. والدّين وضع إلهىّ لا يستقل العقل بالوصول إليه ولا يعرف إلا بالوحى وهو موافق لسنن الفطرة فى تزكية النفوس وإعدادها للحياة الأبدية فى عالم القدس، ويترتب على العمل به أو تركه جزاء حدده الله فى الدنيا والآخرة، ولن يكون هذا الجزاء إلا لمن بلغته الدعوة على الوجه الصحيح. (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي وكان الله عزيزا لا يغالب فى أمر يريده، ومن عزته ألا يجاب المتعنت إلى مطلوبه، حكيما فى جميع أفعاله، وحكمته تقضى هذا الامتناع عن الإجابة لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك لأصرّوا على لجاجهم كما فعلوا مع موسى بعد أن جاءهم بما طلبوا. (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) هذا استدراك على ما علم من السياق من إنكارهم نبوته صلى الله عليه وسلم وعدم شهادتهم بها، وهى واضحة عندهم فى مرتبة المشهود به، لكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان، فسألوه أن

[سورة النساء (4) : الآيات 167 إلى 170]

ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه، ويكون شاهدا له، فكأنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: إنهم مع وضوح نبوتك لا يشهدون بما أنزل إليك، لكن الله يشهد به. ثم أكد هذه الشهادة فقال: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي فإنه أنزله بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك بتأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وبما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية والاجتماعية، ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل وهو بهذه المزايا مثبت لشهادة الله به وأنه وحي من عنده. والخلاصة- كأن الله تعالى يقول لنبيه إن جحود هؤلاء اليهود وعدم شهادتهم لك لا يضرك بشىء، فالله يشهد بما أنزل إليك من الوحى وأنت على يقين منه، وقد أيد الله شهادته لك بما أودعه فيه مما عجز عنه البشر فكان بذلك مثبتا لكونه أنزل عليك من لدنه، كما أيده بتصديق ما أنزله فيه من الوعد بالفلاح والنصر لمن اتبعك والوعيد لمن عاداك بالخذلان والخسران. (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أي والملائكة يشهدون بذلك أيضا، لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين، وهو منهم كما يؤيدك بجند منهم يثبّتونك ويثبّتون المؤمنين فى القتال كما فى غزوة بدر، قال تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» . (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) على ما شهد به لك، حيث نصب الدليل، وأوضح السبيل، فشهادته أصدق، وقوله الحق «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» . [سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 170] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أزال سبحانه فى الآيات السالفة ما كان لليهود من شبهة، فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة الله بما أنزل عليه مما لم يستطع البشر أن يأتوا بمثله- أنذر فى هذه الآيات من يصرّ منهم على الكفر، ويستمر على الإعراض والظلم، وبيّن لهم سوء العاقبة. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً) أي إن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وصدوا غيرهم عن سبيل الله بإلقاء الشبهات فى قلوبهم كقولهم: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر فى التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، قد ضلوا ضلالا بعيدا، لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالّا ويعتقد فى نفسه أنه محق، ويتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال، فهو قد سار فى سبيل الشيطان، وبعد عن سبيل الله، فلم يعد يفقه أنها هى الموصلة إلى خير العاقبة. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أي إن الذين كفروا بما أنزل إليك، وظلموا أنفسهم بإعراضهم عن الطريق الموصل إلى الخير والسعادة وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم، وسوء سيرتهم، وصدهم عن الصراط المستقيم-

ليس من سنته تعالى أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء، لأن الكفر والظلم قد أفسدا فطرتهم وأثرا فى نفوسهم وأعميا قلوبهم وجعلاها تستمرئ قبيح الأفعال، وتهوى شر الخلال والأعمال- ولا يزول هذا إلا إذا اتجهت نفوسهم إلى ما يضادّ ذلك، من إيمان صحيح وعمل صالح يزكى النفوس مما ران عليها ويطهرها وينشئها نشأة أخرى، ولا سبيل إلى ذلك يوم الجزاء والحساب، ومن ثم قال تعالى. (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي وليس من شأنه أن يهدى أمثالهم طريقا يوصلهم إلى الجزاء على أعمالهم إلا طريق جهنم، فهى الطريق التي ينتهى إليها من دسى نفسه بالكفر والظلم، وأوغل فى السير فيها طول عمره، واستمرأ الشرور والمفاسد، حتى هوت به إلى واد سحيق. فانتظار المغفرة ودخول الجنات لأمثال هؤلاء انتظار لإبطال نظام العالم ونقضى لسنن الله وحكمته فى خلق الإنسان. ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجرى على اليبس (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الخلود بقاء الشيء مدة طويلة على حال واحدة لا يطرأ عليه فيها تغيير ولا فناء، والأبد: الزمن الممتد، وتأبد الشيء: بقي أبدا وأبد بالمكان أبودا: أقام به ولم يبرحه، أي يدخلونها ويذوقون عذابها حال كونهم خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره، لأنه مقتضى حكمته وسننه، وليس بالعزيز على قدرته. وفى هذا تحقير لأمرهم وبيان لأن الله لا يعبأ بهم ولا يبالى بشأنهم. (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب وردّ شبهاتهم واقتراحهم ما اقترحوا تعنتا وعنادا- خاطب جميع الناس وأمرهم بالإيمان وشفعه بالوعد على عمل الخير والوعيد على عمل الشر، للإيماء إلى أن

المحجة قد وضحت، والحجة قد لزمت، فلم تبق معذرة فى الإعراض والصدّ عن اتباع الدعوة وقبول الحق من هذا الرسول الكريم، وقد كان اليهود ينتظرون من الله مسيحا ونبيّا بشر بهما أنبياؤهم، فقد جاء فى الفصل الأوّل من إنجيل يوحنا- أنهم أرسلوا بعض الكهنة والأحبار إلى يوحنا (يحي عليه السلام) ليسألوه من هو؟ وكانت قد ظهرت عليه أمارات النبوة- فسألوه أأنت المسيح؟ قال: لا، قالوا: أأنت النبي؟ قال: لا- من هذا تعلم أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية زمن التنزيل فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى صلى الله عليه وسلم فى التوراة فى سفر تثنية الاشتراع، وعيسى فى الإنجيل وغيرهما من الأنبياء. (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) أي فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم، لأنه يزكيكم ويطهركم من الدنس والرجس ويؤهلكم للسعادة الأبدية. (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وإن تكفروا فإن الله غنىّ عن إيمانكم وقادر على جزائكم بما يقتضيه كفركم وسوء عملكم، فإن له ما فى السموات والأرض ملكا وخلقا، وكلهم عبيده ينقادون لحكمه طوعا أو كرها، فعبادة الكره وعدم الاختيار تكون بالخضوع لقدرته وسننه فى الأكوان، وهى عامة فى جميع الخلق سواء منها العاقل وغيره، وعبادة الاختيار خاصة بالمؤمنين الأخيار والملائكة الأبرار. (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي وكان شأنه تعالى العلم المحيط والحكمة الكاملة فى جميع أفعاله وأحكامه، فهو لا يخفى عليه أمركم فى إيمانكم وكفركم وسائر أحوالكم، ومن حكمته أن يجازيكم على ما تجترحون من الآثام والموبقات، فإنه لم يخلقكم عبثا ولن يترككم سدى، فطوبى لمن نهى النفس عن الهوى، وآثر الآخرة على الدنيا، وويل لمن أعرض عن ذكر ربه، وأعرض عن أمره ونهيه، وحالف الشيطان وحزبه.

[سورة النساء (4) : الآيات 171 إلى 173]

[سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) تفسير المفردات الغلوّ: مجاوزة الحد، وكلمته: أي لأنه حدث بكلمة «كن» من غير مادة معتادة، ألقاها إلى مريم: أي أوصلها وأبلغها إياها، وروح منه: أي لأنه خلق بنفخ من روح الله، وهو جبريل، الاستنكاف: الامتناع عن الشيء أنفة وكبرا، والاستكبار أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هى عليه غرورا وإعجابا بها. المعنى الجملي بعد أن انتهى من محاجة اليهود وإقامة الحجة عليهم، وهم قد غلوا فى تحقير عيسى وإهانته وكفروا به- ذكر هنا محاجة النصارى خاصة ودحض شبهاتهم، وهم قد غلوا فى تعظيم عيسى وتقديسه، كما دحض شبهات اليهود فيما سلف.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي لا تتجاوزوا الحدود التي حدها الله، فإن الزيادة فى الدين كالنقص فيه، ولا تعتقدوا إلا القول الحق الثابت بنصّ دينىّ متواتر، أو برهان عقلىّ قاطع، وليس لكم على ما زعمتم من دعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد شىء منها. (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ) إلى بنى إسرائيل، وقد أمرهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، وزهدهم فى الدنيا، وحثهم على التقوى، وبشرهم بمحمد خاتم النبيين، وأرشدهم إلى الاعتدال فى كل شىء، فهداهم إلى الجمع بين حقوق الأبدان وحقوق الأديان. (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) وهو مكوّن بكلمته وأمره الذي هو «كن» من غير وساطة أب ولا نطفة، فإنه لما أرسل إليها الروح الأمين جبريل بشرها بأنه مأمور بأن يهب لها غلاما زكيا، فاستنكرت ذلك، إذ هى عذراء لم تتزوج فقال لها: «كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فكلمة (كن) هى الكلمة الدالة على التكوين بمحض القدرة عند إرادة خلق الشيء وإيجاده. وهو أيضا مؤيد بروح منه كما قال تعالى: «وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» وكما قال فى صفات المؤمنين «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» . وآية الله فى خلق عيسى بكلمته وجعله بشرا سويّا بما نفخ فيه من روحه كآيته فى خلق آدم بكلمته وما نفخ فيه من روحه، فخلقهما كان بغير السنة العامة فى خلق الناس من ذكر وأنثى «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . وزعم بعض النصارى أن كلمة (منه) تدل على أن عيسى جزء من الله بمعنى أنه ابنه، فقد نقل بعض المفسرين أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر على بن حسين الواقدي

المروزي ذات يوم فقال له: إن فى كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلا الآية، فقرأ له الواقدىّ قوله تعالى «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» فلئن صح ما تقول لزم أن تكون جميع هذه الأشياء جزءا منه تبارك وتعالى- فأفحم النصراني وأسلم ففرح بذلك الرشيد ووصل الواقدىّ بصلة عظيمة وقد جاء فى إنجيل متى (أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا، لما كانت أمه مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس) . وفى إنجيل لوقا تفصيل لظهور الملك جبريل لها وتبشيره إياها بولد ومحاورتهما فى ذلك، ومنها أنها سألته عن كيفية ذلك فقال لها (الروح القدس يحلّ عليك) . وفى هذا الفصل أن اليصابات أم يحيى امتلأت من الروح القدس، وبذلك حملت بيحيى، وكانت عاقرا، وأن زكريا أباه امتلأ من الروح القدس. ومن هذا تعلم أن روح القدس عندهم وعندنا واحد وهو ملك من ملائكة الله الذين لا يحصى عددهم، وأن عيسى خلق بوساطته، وكذلك يحيى، وكان خلقه من وجه آخر، إذ كان أبوه شيخا كبيرا وأمه عاقرا ولكن الواسطة والسبب واحد، وهو الملك المسمى بروح القدس، أيدهم الله به رجالا ونساء، فلا يستفاد إذا من قوله: وروح منه، أنه جزء من الله، تعالى الله عن التركيب والتجزؤ والحلول والاتحاد بخلقه. (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي فآمنوا بالله إيمانا يليق به، وهو أنه واحد أحد تنزه عن صفات الحوادث، وأن كل ما فى الكون مخلوق له، وهو الخالق له، وأن الأرض فى مجموع ملكه أقل من حبة رمل بالنسبة إلى اليابس منها، ومن نقطة ماء بالنسبة إلى بحارها وأنهارها، وآمنوا برسله كلهم إيمانا يليق بشأنهم وهو أنهم عبيد له خصهم بضروب من التكريم والتعظيم، وألهمهم بضرب من العلم والهداية بالوحى ليعلموا الناس كيف يوحّدون ربهم ويعبدونه ويشكرونه، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة:

الآب والابن وروح القدس، أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر، وكل منها إله كامل، ومجموعها إله واحد. فإن فى هذا تركا للتوحيد الذي هو ملة إبراهيم وسائر الأنبياء، واتباعا لعقيدة الوثنيين، والجمع بين التثليث والتوحيد تناقض تحيله العقول، ولا يقبله أولو الألباب. (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) أي انتهوا عنه وقولوا قولا آخر خيرا لكم منه، وهو قول جميع النبيين والمرسلين الذين جاءوا بتوحيد الله وتنزيهه، فإن المسيح الذي سميتموه إلها يقول كما فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) . (إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ) بالذات منزه عن التعدد، فليس له أجزاء ولا أقانيم، ولا هو مركب ولا متحد بشىء من المخلوقات. (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي تقدس عن أن يكون له ولد كما قلتم فى المسيح إنه ابنه، أو إنه هو عينه، فإنه تبارك وتعالى ليس له مماثل فيكون له منه زوج يتزوجها فتلد له ولدا. والتعبير بالولد دون الابن الذي يعبرون به فى كلامهم، لبيان أنهم إذا كانوا يريدون الابن الحقيقي الذي يفهم من هذا اللفظ فلا بد أن يكون ولدا أي مولودا من تلقيح أبيه لأمه، وهذا محال على الله تعالى، وإن أرادوا الابن المجازى لا الحقيقي فلا خصوصية لعيسى فى ذلك، لأنه قد أطلق فى كتب العهد العتيق والعهد الجديد على إسرائيل وداود وغيرهما من الأخيار. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إنه ليس له ولد يصح أن يسمى ابنا له حقيقة، بل له كل ما فى السموات وما فى الأرض خلقا وملكا، والمسيح من جملتها كما قال تعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» . ولا فرق فى هذا بين الملائكة والنبيين، ولا بين من خلقه ابتداء من غير أب

عقيدة التثليث - منشؤها

ولا أمّ كالملائكة وآدم، ومن خلقه من أصل واحد كحواء وعيسى، ومن خلق من الزوجين الذكر والأنثى، فكل هؤلاء عبيده يحتاجون إلى فضله وكرمه وجوده، وهو يتصرف فيهم كما يشاء. (وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي كفى به حافظا ووكيلا إذا وكلوا أمورهم إليه، فهو غنى عن الولد، فإن الولد إنما يحتاج إليه أبوه ليعينه فى حياته، ويقوم مقامه بعد وفاته، والله تعالى منزه عن كل ذلك. عقيدة التثليث- منشؤها اعلم أن عقيدة التثليث وثنية نقلها الوثنيون المتنصرون إلى النصرانية واعتمدوا فيها على بعض ألفاظ فى الكتب اليهودية جعلوها تكأة لهم على ما أرادوا وحرّفوا فيها وأوّلوا، لتفيد ما ادّعوا، وبذا هدموا آيات التوحيد، وقد فصل ذلك علماء أوروبا وأتوا عليه بشواهد كثيرة من الآثار القديمة والتاريخ، فقال البحاثة موريس فى كتابه (الآثار الهندية القديمة) كان عند أكثر الأمم البائدة تعاليم دينية جاء فيها القول باللاهوت الثلاثي أو الثالوثى. وقال مستر فابر فى كتابه (أصل الوثنية) كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من برهما وفشنو وسيفا، نجد عند البوذيين ثالوثا فإنهم يقولون إن (بوذه) إله ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود. وقال مستر دوان فى كتابه (خرافات التوراة) وكان قسيسو هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس فى تعليمهم المبتدئين بقولهم إن الأول خلق الثاني وهما خلقا الثالث، وبذلك تم الثالوث المقدس، وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكى- هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه؟ فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كل شىء ثم الكلمة ومعهما روح القدس، ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية، فاذهب يا فانى، يا صاحب الحياة القصيرة، ثم قال المؤلف: لا ريب أن تسمية الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس (كلمة) هو من أصل وثنى مصرى دخل فى غيره من الديانات المسيحية و (أبولوّ)

المدفون فى (دهلى) يدعى الكلمة، وفى علم اللاهوت الإسكندرى الذي كان يعلمه (بلاتو) قبل المسيح بسنين عدة (الكلمة هى الإله الثاني) ويدعى أيضا ابن الله البكر وقال هيجين فى كتابه (الانكلوسكسون) كان الفرس يسمون (متروسا) الكلمة والوسيط ومخلص الفرس، وقال دوان: كان الفرس يعبدون إلها مثلث الأقانيم مثل الهنود ويسمون الأقانيم (أو زمرد مترات. أهرمن) . فأوزمرد الخلاق ومترات ابن الله المخلص والوسيط. وأهرمن الملك، والمشهور عن مجوس الفرس التثنية دون التثليث فكانوا يقولون بإله هو مصدر النور والخير وإله هو مصدر الظلمة والشر. وقال صاحب كتاب (ترقى الأفكار الدينية) إن اليونانيين كانوا يقولون إن الإله مثلث الأقانيم وكان قساوستهم إذا شرعوا فى تقديم الذبائح يرشّون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات (إشارة إلى الثالوث) ويرشون المجتمعين حول المذبح ثلاث مرات، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع، ويعتقدون أن الحكماء قالوا إنه يجب أن تكون جميع الأشياء المقدسة مثلثة، ولهم اعتناء بهذا العدد فى جميع شعائرهم الدينية. وقد اقتبست الكنيسة بعد دخول نصرانية قسطنطين فيهم هذه الشعائر كلها، ونسخت بها شريعة المسيح التي هى التوراة، وظلموا المسيح بنسبتها إليه. والخلاصة- إن الديانة النصرانية بنيت على أساس التوحيد الخالص، فحوّلها الكهنة إلى ديانة وثنية تقول بتثليث غير معقول أخذوه من تثليث اليونان والرومان المقتبس من تثليث المصريين والبراهمة اقتباسا مشوّها، ونسخوا شريعة سماوية برمّتها، واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها، فقد كانت ديانة زهد وتواضع، فجعلوها ديانة طمع وجشع وكبرياء وترف وأثرة واستعباد للبشر، ديانة نسبوها إلى المسيح وليس عندهم نص فيها يدل على التثليث، بل عندهم نصوص من كلامه تدل على التوحيد وإبطال التثليث، ولو لم يكن عندهم من النصوص فى هذه العقيدة إلا ما رواه يوحنا فى إنجيله لكفى من قوله عليه السلام (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحيققى

وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فهذا نص واضح فى أنه هو الإله وحده وأنه هو رسوله. وقال مرقص فى الفصل الثاني عشر من إنجيله: إن أحد الكتبة سأل يسوع عن أول الوصايا فأجابه، أول الوصايا: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد إلخ، فقال له الكاتب (جيدا) يا معلّم بالحق قلت، لأنه واحد وليس آخر سواه، فلما رأى يسوع أنه أجاب بعقل قال له (لست بعيدا عن ملكوت السموات) ومن هذا النص يعلم أن التوحيد الخالص هو العقيدة المعقولة التي تؤخذ على ظاهرها بلا تأويل «1» . َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي لن يأنف المسيح ولن يترفع عن أن يكون عبد الله لعلمه بعظمة الله وما يجب له من العبودية والشكر، ولا الملائكة المقربون يستنكف أحد منهم أن يكون عبدا له. ومن هذه الآية يفهم أن الملائكة أعظم من المسيح خلقا وأفعالا، ومنهم روح القدس الذي بنفخة منه خلق المسيح، ومن ثم استدل بها كثير من العلماء على تفصيل الملائكة المقربين على الأنبياء. إذ السياق فى ردّ غلوّ النصارى فى المسيح باتخاذه إلها ورفعه عن مقام العبودية فالرد عليهم يقتضى الترقي من الرفيع إلى الأرفع كما تقول إن فلانا التقى لا يستنكف من تقبيل يد الوزير ولا الأمير، فإذا بدأت بذكر الأمير لم يعد لذكر الوزير فائدة، بل يكون لغوا لأنه يندمج فى الأول بالطريق الأولى. وقال آخرون إن الآية لا تدل على ذلك لأنها فى معرض تفضيل هؤلاء الملائكة فى عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة وهو المناسب للرد على من استكبروا خلق المسيح من غير أب وصدور بعض الآيات عنه فجعلوه إلها، مع أن الملائكة خلقوا من غير أب ولا أم ويعملون ما هو أعظم من آيات المسيح فهم بهذا أفضل منه وأعظم.

_ (1) كل ما تقدم فى هذا الفصل مقتبس من تفسير المنار.

[سورة النساء (4) : الآيات 174 إلى 175]

وأيا كان فالتفاضل فى هذا من الرجم بالغيب، إذ لا يعلم إلا بنص مع أنه ليس له فائدة فى إيمان ولا عملَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) . أي ومن يترفع عن عبادته تعالى أنفة وكبرا فيرى أنه لا يليق به ذلك فسيجزيه أشد الجزاء، إذ يحشر الناس جميعا للجزاء، المستنكفين منهم والمستكبرين مع غيرهم فى صعيد واحد كما ورد فى الحديث ثم يحاسبهم ويجزيهم على أعمالهم. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي فهؤلاء الذين عملوا الصالحات سيعطيهم أجورهم وافية كاملة على إيمانهم وعملهم الصالح بحسب سنته سبحانه فى ترتيب الجزاء على مقدار تأثير الإيمان والعمل الصالح فى النفس وتزكيتها وطهارتها من أدران الشرور والآثام. (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي فهؤلاء يعذبون عذابا مؤلما يستحقونه بحسب سنته أيضا، لكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا لأن رحمته سبقت غضبه، فهو يجازى المحسن على إحسانه بالعدل والفضل، ويجازى المسيء على إساءته بالعدل. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلى أمورهم ويدبر مصالحهم، ولا نصيرا ينصرهم من بأسه ويرفع عنهم العذاب، إذ لا عاصم اليوم من أمر الله «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» . [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن حاجّ أهل الزيغ والضلال جميعا، فحاجّ النصارى فى الآية السابقة، وحاج اليهود فى الآية التي قبلها، وحاج المنافقين والمشركين أثناء السورة وفى سور كثيرة غيرها، وأقام الحجة عليهم جميعا وظهرت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ظهور الشمس فى رائعة النهار- نادى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه والاهتداء بنوره. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءكم من قبل ربكم برهان جلىّ يبين لكم حقيقة الإيمان به وبجميع ما أنتم فى حاجة إليه من أمر دينكم مؤيد بالدلائل والبينات، ألا وهو النبي الأمى الذي هو برهان على حقية ما جاء به بسيرته العملية، ودعوته التشريعية، فإن أمّيّا لم يتعلم فى مدرسة ولم يعن فى طفولته بما كان يسمى عند قومه علما كالشعر والنسب وأيام العرب بل ترك ولدان المشركين وشأنهم ولم يحضر سمّار قومه ولا معاهد لهوهم، ولم يحظ من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعى فى أول نشأته ما يؤهله للمنصب الذي تصدّى له فى كهولته، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية، وهو مع هذا قد قام به على أتم وجه وأكمل طريق- لهو برهان على عناية الله به، وتأييده إياه بوحيه وهديه. (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) أي وأنزلنا إليكم بما أوحينا إليه كتابا هو كالنور فى الهداية للناس، مبينا لكل ما أنزل لبيانه من توحيد الله وربوبيته وهو المقصد الأعلى الذي بعث به جميع الرسل وكان كل منهم يدعو أمته إليه ويستجيب له الناس بقدر استعدادهم لفهم حقيقته، ثم لا يلبثون أن يشوّهوه بالشرك وضروب الوثنية التي تدنس النفوس وتهبط بها من أوج العزة والكرامة إلى المهانة والذلة بالخضوع لبعض مخلوقات من جنسهم أو من أجناس أخرى.

ولما تغلغلت الوثنية فى جميع الأديان المعروفة وأفسدتها على أهلها، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين وهو القرآن، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية مع ضرب الأمثال وذكر شىء من القصص لكشف ما ران على هذه العقيدة من شهات المضلين وأوهام الضالين التي مزجتها بالشرك. هذا البيان الذي جاء به القرآن لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية لم يكن معهودا مثله من الحكماء ولا من الأنبياء، فمن ثم وجب أن يكون من رب العالمين «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» . والخلاصة- إن محمدا النبي الأمى صلى الله عليه وسلم كان برهانا على حقية دينه، وكتابه القرآن أنزل من العلم الإلهى ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتى بمثله، وأنزل نورا مبيّنا لجميع الناس ما هم فى حاجة إليه فى معاشهم ومعادهم ليتدبروا آياته ويسعدوا به فى حياتهم الدنيا وينالوا به الخير فى العقبى. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) الاعتصام التمسك بما يعصم ويحفظ، أي فأما الذين يعتصمون بهذا القرآن فيدخلهم الله فى رحمة خاصة منه لا يدخل فيها سواهم، وفضل خاصّ لا يتفضل به على غيرهم، ولكنه يختص من يشاء بما شاء من أنواعهما. وقال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويهديهم طريقا قويما وهداية خاصة تبلّغهم السعادة فى الدنيا بالعزة والكرامة وفى الآخرة بالجنة والرضوان، وهذا الصراط المستقيم لا يهدى إليه إلا الاعتصام بالقرآن الكريم واتباع سنة سيد المرسلين، والمراد أنه يوقفهم ويثبّتهم على تلك الهداية إلى الصراط المستقيم وسكت عن القسم الآخر المقابل لهؤلاء المؤمنين المعتصمين للإيذان بأنه بعد ظهور البرهان لا ينبغى أن يوجد، وإن وجد لا يؤبه له ولا يهتمّ بشأنه.

[سورة النساء (4) : آية 176]

[سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) المعنى الجملي بعد أن تكلم فى أول السورة فى أحكام الأموال، ختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلا للأول، والوسط مشتمل على المناظرة مع فرق المخالفين للدين. روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال: «دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صبّ علىّ فعقلت، فقلت إنه لا يرثنى إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الميراث (يريد هذه الآية) » . وروى ابن عبد الرزاق وابن جرير عن ابن سيرين قال نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والنبي صلى الله عليه وسلم فى مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبىّ صلى الله عليه وسلم حذيفة، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه، فلما استخلف عمر سأل عنها حذيفة ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني على أن أحدثك ما لم أحدّثك يومئذ فقال عمر لم أرد هذا رحمك الله» قال الخطابي: أنزل الله فى الكلالة آيتين إحداهما فى الشتاء وهى التي فى أول سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الأخرى فى الصيف وهى التي فى آخرها وفيها من زيادة البيان ما ليس فى آية الشتاء، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها اه.

الإيضاح

الإيضاح (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الكلالة: ما عدا الوالد والولد من القرابة وقيل الإخوة من الأم، قال فى لسان العرب- وهو المستعمل- والمعنى يطلبون منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة كجابر بن عبد الله ليس له والد ولا ولد وله أخوات من العصبة لم يفرض لهم شىء فى التركة من قبل، وإنما فرض للإخوة من الأم، السدس للواحد منهم والثلث لما زاد على الواحد وهم شركاء فيه مهما كثروا لأنه ميراث أمهم ليس لها سواه، فقل لهم جوابا عما سألتم عنه. (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) هلك مات- أي إن هلك امرؤ غير ذى ولد والحال أن له أختا من أبويه معا أو من أبيه فقط فلها نصف ما ترك. (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي والأخ يرث أخته إذا ماتت إن لم يكن لها ولد ذكر ولا أنثى، ولا والد يحجبه عن إرثها، وإنما أطلق الإرث ولم يبين النصيب لأن الأخ ليس صاحب فرض معين بحيث لا يزيد ولا ينقص بل هو عصبة يحوز كل التركة عند عدم وجود أحد من أصحاب الفروض، وعند وجود أحد منهم يرث هو معه كلالة جميع ما بقي. (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) فإن كان من يرث بالأخوّة أختين فلهما الثلثان مما ترك أخوهما كلالة، وكذا إن كن أكثر من ثنتين كأخوات جابر فقد كن سبعا أو تسعا والباقي لمن يوجد من العصبة إن لم يكن هناك أحد من أصحاب الفروض كالزوجة وإلا أخذ كل ذى فرض فرضه أوّلا. (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي وإن كان من يرثون بالأخوّة كلالة ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كما هى القاعدة

فى كل صنف اجتمع منه أفراد فى درجة واحدة إلا أولاد الأم فإنهم شركاء فى سدس أمهم لحلولهم محلها، ولولا ذلك لم يرثوا، إذ هم ليسوا من عصبة الميت. (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي يبين الله لكم أمور دينكم التي من أولها تفصيل هذه الأحكام كراهة أن تضلوا: أي لتتقوا بمعرفتها الضلال فى قسمة التركات وغيرها. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو لم يشرع لكم من الأحكام إلا ما علم أن فيه الخير لكم لصلاح أنفسكم، وذلك شأنه فى جميع أفعاله وأحكامه، فكلها موافقة للحكمة، دالة على واسع العلم وعظيم الرحمة.

سورة المائدة

سورة المائدة هذه السورة تسمى سورة المائدة وسورة العقود وسورة المنقذة، وهى مدنية بناء على المشهور من أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو فى مكة، وقد روى فى الصحيحين عن عمر: أن قوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم إلخ نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع» . وآياتها مائة وعشرون فى العدّ الكوفي، ومائة وثنتان وعشرون فى العد الحجازي، ومائة وثلاث وعشرون فى العدّ البصري ووجه التناسب بينها وبين ما قبلها من وجوه: 1) إن سورة النساء اشتملت على عدّة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة والصداق والحلف والمعاهدة والأمان، والضمنى عقود الوصية والوديعة والوكالة والإجارة. 2) إن سورة النساء مهدت لتحريم الخمر، وسورة المائدة حرّمتها البتة فكانت متممة لشىء مما قبلها. 3) إن معظم سورة المائدة فى محاجة اليهود والنصارى مع ذكر شىء عن المنافقين والمشركين، وقد تكرر ذكر ذلك فى سورة النساء وأطيل به فى آخرها. ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة أن الأولى بدئت بيا أيها الناس وفيها الخطاب بذلك فى مواضع، وهذا أشبه بالتنزيل المكي، والثانية بيا أيها الذين آمنوا وفيها الخطاب بذلك فى مواضع، وهذا أشبه بالتنزيل المدني المتأخر عن الأول. [سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الوفاء والإيفاء: الإتيان بالشيء وافيا لا نقص فيه، قال تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ» والعقود واحدها عقد، وهو فى الأصل ضد الحلّ ثم أطلق على الجمع بين أطراف الشيء وربط بعضها ببعض، ويستعمل فى الأجسام الصّلبة كعقد الحبل وعقد البناء، ويقال عقد اليمين وعقد النكاح: أي أبرمه كما قال تعالى «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» والبهيمة: ما لا نطق له، لما فى صوته من الإبهام، وخص فى العرف بما عدا السباع والطير، والأنعام: البقر والإبل والغنم. الحرم: جمع حرام، وهو المحرم بالحج أو العمرة، وشعائر الله معالم دينه، وغلب فى مناسك الحج واحدها شعيرة، والهدى ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ليذبح هناك، وهو من النسك، والقلائد: واحدها قلادة وهو ما يعلق فى العنق، وكانوا يقلدون الإبل من الهدى بنعل أو حبل أو لحا شجر ليعرف فلا يتعرض له أحد، آمّين: أي قاصدين، وفضلا: أي ربحا فى التجارة ورضوانا: أي رضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته فى الدنيا، يجرمنكم: من جرمه الشيء أي حمله عليه وجعله يجرمه: أي يكسبه ويفعله، وأصل الجرم قطع النمرة من الشجرة، والشنآن: البغض مطلقا، أو الذي يصحبه التقزّز من المبغوض.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) روى عن ابن عباس: أن المراد بالعقود عهود الله التي عهد بها إلى عباده: أي ما أحلّ وما حرم، وما فرض وما حدّ فى القرآن كله، لا غدر فيها ولا نكث، وقال الراغب: العقود ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر. وكل واحد منها إما أن يوجبه العقل الذي أودعه الله فى الإنسان ويتوصل إليه بديهة العقل أو بأدنى نظر ويدل على ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى» وإما أن يوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وأساس العقود فى الإسلام هو هذه الجملة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي إنه يجب على كل مؤمن أن يفى بما عقده وارتبط به من قول أو فعل كما أمر الله ما لم يحرّم حلالا أو يحلل حراما كالعقد على أكل شىء من أموال الناس بالباطل كالربا والميسر (القمار) والرّشوة ونحو ذلك. ثم شرع يفصل الأحكام التي أمر بالإيفاء بها وبدأ بما يتعلق بضروريات معايشهم فقال: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي أحل الله لكم أكل البهيمة من الأنعام وهى الأزواج الثمانية المذكورة فى سورة الأنعام، وألحق بها الظباء وبقر الوحش ونحوهما، إلا ما حرم فيما سيتلى عليكم فى الآية السالفة من هذه السورة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) إلخ. (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي أحلت لكم بهيمة الأنعام حال كونكم غير محلى الصيد الذي حرمه الله عليكم: أي لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه وأنتم محرمون بالحج أو العمرة أو كليهما أو داخلون فى أرض الحرم، فلا يحل الصيد لمن كان

فى أرض الحرم ولو لم يكن محرما ولا للمحرم بالحج أو العمرة وإن كان فى خارج حدود الحرم بأن نوى الدخول فى هذا النسك وبدأ بأعماله كالتّلبية ولبس المخيط. والخلاصة- أحلّت لكم هذه الأشياء غير محلى الاصطياد ولا أكل الصيد فى الإحرام. (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) الحكم القضاء: أي إن الله جل ثناؤه يقضى فى خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه كما شاء بحسب الحكم والمصالح التي يعلمها سبحانه، فأوفوا بعقوده وعهوده ولا تنكثوها ولا تنقضوها. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) شعائر الله ما أراد جعله أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال كمناسك الحج وسائر فرائض دينه من حلال وحرام وحدود حدّها لكم. والمعنى- يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا شعائر دين الله حلالا لكم تتصرفون فيها كما تشاءون بل اعملوا بما بيّنه لكم، ولا تتهاونوا بحرمتها وتحولوا بينها وبين المتنسكين بها وتصدوا الناس عن الحج فى أشهر الحج. (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) المراد به هنا ذو القعدة وذو الحجة والمحرم: أي ولا تحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة. (وَلَا الْهَدْيَ) أي ولا تحلوا الهدى الذي يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إلى الله، وذلك بأن تمنعوا بلوغه محله من بيت الله بأخذه غصبا وذبحه أو سرقته أو حبسه عند من أخذه. (وَلَا الْقَلائِدَ) ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدى وهى البدن، وكأنه قال لا تحلوا الهدى مقلّدا ولا غير مقلد، وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدى وأشرفه. (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي ولا تحلوا قتال قاصدى البيت الحرام لزيارته، فتصدوهم عن ذلك بأيّ وجه كان.

(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي يطلبون ربحا فى التجارة ورضا من الله يحول بينهم وبين عقوبته فى الدنيا، لئلا يحل بهم ما حل بغيرهم فى عاجل دنياهم. وهذا كلام مع المشركين، كما روى عن قتادة أنه قال: هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم، وفى رواية أخرى عنه: والرضوان الذي يبتغون أن يصلح لهم معايشهم فى الدنيا وألا يعجّل لهم العقوبة. ثم صرح بما فهم من قوله: غير محلى الصيد وأنتم حرم فقال: (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة أو من أرض الحرم فاصطادوا إن شئتم، فإنما حرم عليكم الصيد فى أرض الحرم وفى حال الإحرام فقط. (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي ولا يحملنّكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم، لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام، وقد كان المشركون صدّوا المؤمنين عن العمرة عام الحديبية، فنهى المؤمنون أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع وهو العام الذي نزلت فيه هذه السورة لأجل اعتدائهم السابق. ولما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون قفّى على النهى عن الاعتداء بقوله: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) البر: التوسع فى فعل الخير، والتقوى: اتقاء ما يضر صاحبه فى دينه أو دنياه، والإثم كل ذنب ومعصية، والعدوان: تجاوز حدود الشرع والعرف فى المعاملة والخروج عن العدل فيها، وفى الحديث «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك فى النفس وكرهت أن يطّلع عليه الناس» رواه مسلم وأصحاب السنن ، وروى أحمد والدارمي عن وابصة بن معبد الجهني أنه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت نعم» وكان قد جاء لأجل ذلك، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما فى نفسه وأجابه فقال:

«استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس وتردّد فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك» . والأمر بالتعاون على البر والتقوى من أركان الهداية الاجتماعية فى القرآن، إذ يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضا على كل ما ينفع الناس أفرادا وجماعات فى دينهم ودنياهم وعلى كل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم. وقد كان المسلمون فى الصدر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى ارتباط بعهد كما تفعله الجماعات اليوم، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره، ولكن لما نكثوا ذلك العهد صاروا فى حاجة إلى تأليف هذه الجماعات لجمع طوائف المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب (التعاون على البر والتقوى) . وقلما ترى أحدا الآن يعينك على عمل من أعمال البر إلا إذا كان مرتبطا بعهد معك لغرض معين ومن ثم كان تأليف الجماعات مما يتوقف عليه أداء هذا الواجب غالبا. (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي واتقوا الله بالسير على سننه التي بينها لكم فى كتابه وفى نظم خلقه، حتى لا يصيبكم عقابه بالإعراض عن هدايته، فهو شديد العقاب لمن لم يتقه باتباع شرعه ومراعاة سننه فى خلقه، إذ لا محاباة ولا هوادة فى عقابه، فهو لم يأمر بشىء إلا إذا كان نافعا ولم ينه عن شىء إلا إذا كان ضارا، وكذلك بعدم مراعاة السنن، لأن لذلك تأثيرا فى خلق الإنسان وعقائده وأعماله وكل ذلك مما يوقعه فى الغواية وينتهى به إلى سوء العاقبة. وهذا العقاب يشمل عقاب الدنيا والآخرة كما جاء فى بعض الآيات التصريح بذلك، وفى بعضها التصريح بأحدهما كقوله فى عذاب الأمم فى الدنيا «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» .

[سورة المائدة (5) : آية 3]

[سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) الإيضاح هذا شروع فى بيان المحرمات التي أشير إليها فى أول السورة بقوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وهى عشرة أنواع: (الأول الميتة) ويراد بها عرفا ما مات حتف أنفه: أي بدون فعل فاعل، ويراد بها فى عرف الشرع ما مات ولم يذكه الإنسان لأجل أكله. والحكمة فى التحريم: 1) استقذار الطباع السليمة لها. 2) أن فى أكلها مهانة تنافى عزة النفس وكرامتها. 3) الضرر الذي ينشأ من أكلها سواء كانت قد ماتت بمرض أو شدة ضعف أو بجراثيم (ميكروبات) انحلت بها قواها. 4) تعويد المسلم ألا يأكل إلا مما كان له قصد فى إزهاق روحه. (الثاني الدم) والمراد به الدم المسفوح: أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك، بخلاف المتجمد طبيعة كالطحال والكبد وما يتخلل اللحم عادة فإنه لا يسمى مسفوحا. وحكمة تحريم الدم الضرر والاستقذار أيضا، أما الضرر فلأنه عسر الهضم جدّ العسر، ويحمل كثيرا من الموادّ العفنة التي تنحلّ من الجسم، وهى فضلات لفظتها

الطبيعة كما تلفظ البراز ونحوه واستعاضت عنها بموادّ جديدة من الدم، وقد يكون فيه جراثيم بعض الأمراض المعدية وهى تكون فيه أكثر مما تكون فى اللحم ومن أجل هذا اتفق الأطباء على وجوب غلى اللبن قبل شربه، لقتل ما عسى أن يكون قد علق به من جراثيم الأمراض المعدية. (الثالث لحم الخنزير) لما فيه من الضرر والاستقذار لملازمته للقاذورات ورغبته فيها، أما ضرره فقد أثبته الطب الحديث، إذ أثبت أن له ضررا يأتى من أكله القاذورات، فإن أكله يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية وهى تنشأ من أكله الفيران الميتة، كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم فى أليافه العضلية، وأن الموادّ الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام فيعسر هضم الموادّ الزلالية وتتعب معدة آكله ويشعر بثقل فى بطنه واضطراب فى قلبه، فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة خفّ ضرره، وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال، ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلا وشر با وتدخينا ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره لما أمكن الناس أن يأكلوه ولا سيما أهل البلاد الحارة. (الرابع ما أهلّ لغير الله به) الإهلال رفع الصوت، يقال أهلّ فلان بالحج إذا رفع صوته بالتّلبية له (لبيك اللهم لبيك) واستهلّ الصبىّ إذا صرخ عند الولادة والمراد به ما ذبح على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم باسم اللات أو باسم العزّى. وحكمة التحريم فى هذا أنه من عبادة غير الله، فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره. ويدخل فى ذلك ما ذكر عند ذبحه اسم نبى أو ولىّ كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم وساروا على نهجهم باعا فباعا وذراعا فذراعا.

(الخامس المنخنقة) وقد روى ابن جرير فى تفسيرها أقوالا فعن السدى أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وعن ابن عباس والضحاك هى التي تختنق فتموت، وفى رواية عن الضحاك هى الشاة توثق فيقتلها خناقها، ثم قال: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: هى التي تختنق إما فى وثاقها أو بإدخال رأسها فى الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت. وهى بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله فهى داخلة فى الميتة، وإنما خصها بالذكر لأن بعض العرب فى الجاهلية كانوا يأكلونها، ولئلا يشتبه فيها بعض الناس لأن لموتها سببا معروفا. والعبرة فى الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان لأجل الأكل حتى يكون واثقا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها. (السادس الموقوذة) الوقذ: شدة الضرب، وشاة وقيذ وموقوذة، والموقوذة هى التي تقتل بعصا أو بحجارة لاحدّ لها فتموت بلا ذكاة، وكانوا يأكلونها فى الجاهلية. والوقذ يحرم فى الإسلام، لأنه تعذيب للحيوان، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن. ولما كان الوقذ محرما حرم ما قتل به، وهى تدخل فى عموم الميتة على الوجه الذي ذكرنا، فإنها لم تذكّ تذكية شرعية، ويدخل فى الموقوذة ما رمى بالبندق (وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها) لما روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف (الرمي بالحصا والخزف وكل يابس غير محدد سواء رمى باليد أو المخذفة أو المقلاع) وقال. إنه لا يفقأ العين ولا ينكى العدوّ ولا يحرز صيدا» ففى هذا الحديث نص على العلة وهو أنه تعذيب للحيوان وليس سببا مطردا ولا غالبا للقتل. أما بندق الرّصاص المستعمل الآن وما فى حكمه فإنه يصيد وينكأ، ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به.

(السابع المتردّية) وهى التي تقع من مكان مرتفع كجبل، أو منخفض كبئر ونحوها فتموت، وهى فى حكم الميتة، لأنه لم يكن للإنسان عمل فى إماتتها ولا قصد به إلى أكلها. (الثامن النطيحة) وهى التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النّطاح من غير أن يكون للإنسان عمل فى أمانتها. (التاسع ما أكل السبع) وهو ما قتله بعض سباع الوحوش كالاسد والذئب والنمر ليأكله، وأكله منه ليس بشرط للتحريم، إذ يكفى فرسه إياه وقتله فى تحريمه. وكان العرب فى الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع، ولكنه مما تأنفه أكثر الطباع، وأكثر الناس يعدّ أكله ذلة ومهانة وإن كانوا لا يخشون منه ضررا. (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله- وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع، وذلك هو- ما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وخلاصة المعنى- ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية، ويكفى فى صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة بأن يطرف بعينه أو يضرب بذنبه، وقد قال على كرم الله وجهه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهى تحرك يدا أو رجلا فكلها. (العاشر ما ذبح على النصب) والنصب واحد الأنصاب، وهى حجارة كانت حول الكعبة عددها ثلاثمائة وستون حجرا وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة. ومن هذا تعلم أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهلّ به لغير الله من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله تعالى، وخص بالذكر لإزالة وهم من يتوهم أنه قد يحل

لقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه، وهو من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها. وخلاصة ما تقدم- إن الله تعالى أحلّ أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان، ما دبّ منها على الأرض، وما طار فى الهواء، وما سبح فى البحر، ولم يحرم إلا الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله. وقد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله وهو شرك وفسق، وبعضهم يأكل الميتة ويقول لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ ولكن الفارق بينهما ما فى هذا من مظنة الضرر، وفيه مهانة للنفس، ومن ثم جعل الله حل أكل المسلم لذلك منوطا بإتمام موته والإجهاز عليه بفعله هو ليذكر اسم الله عليه فلا يكون من عمل الشرك، ولئلا يقع فى مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفريسة السبع- إلى ما فى الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة وظلم الحيوان وذلك محرم شرعا. ثم أضاف إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملا آخر من أعمالهم وخرافاتهم فقال: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) الأزلام واحدها زلم: وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم، لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره وكانت الأزلام ثلاثة، كتب على أحدها «أمرنى ربى» وعلى الثاني «نهانى ربى» والثالث غفل ليس عليه شىء، فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك أجال «حرّك» هذه الأزلام، فإن خرج له الزلم المكتوب عليه «أمرنى ربى» مضى لما أراد، وإن خرج المكتوب عليه «نهانى ربى» أمسك عن ذلك ولم يمض فيه، وإن خرج الغفل الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام، وهو: طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم بواسطة الأزلام.

أي وحرّم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام كما كانت تفعل العرب فى الجاهلية. وحكمة هذا التحريم أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك كذلك، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسّدنة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم، ومن ثمّ أبطل ذلك دين العقل والبصيرة كما أبطل التطيّر والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية، إلى أن فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم «أمرنى ربى» الله عز وجل، وجهلا وشركا إن أرادوا به الصنم، إلى أن فيه طلبا لعلم الغيب الذي استأثر الله به. وقد استنّ بعض جهال المسلمين بسنة مشركى الجاهلية، أو بما يشبهها فتراهم يستقسمون بالسّبح وغيرها ويسمون ذلك استخارة أو فألا فيقتطعون طائفة من حب السّبحة ويحركونها حبة بعد أخرى، يقولون: «افعل» على واحدة «لا تفعل» على الثانية، ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة، وما هذا بالاستخارة التي ورد الإذن بها، بل قد ورد ما يؤيد تحريمها. ومنهم من يستقسم أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم فيصبغون عملهم بصبغة الدين ويلبسون الباطل ثوب الحق، ولم يرد فى هذا نص يجوّز العمل به، ولكن الإلف والعادة جعلا هذا البدع مستحسنة وتأولوا لها اسم الفأل الحسن ورووا فى ذلك حديث أبى هريرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يعجبه الفأل الحسن» وليس هذا من الفأل الحسن، بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث. والعجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن وحرموه على أنفسهم واكتفوا من الإيمان به والتعظيم له بالاستقسام به كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته فى كاغد أو جام (فنجان) وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شىء منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح.

وأعجب من ذلك جعل بعض الدجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة، وكل ذلك ضلال، إذ لا بينة فيه ولا سلطان. والاستخارة التي وردت بها السنة هى التوجه إلى الله والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل عن المستخير الحيرة ويرشده إلى ما فيه الفائدة فيما تتعارض فيه الدلائل والبينات، فلا يستبين له إن كان الخير فى الإقدام أو فى الترك، فإذا شرح الله صدره لشىء أمضاه. وقد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة كما يعلمنا سورة من القرآن يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إنى أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاجل أمرى وآجله فاقدره لى ويسره لى ثم بارك لى فبه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ومعاشى وعاجل أمرى وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لى الخير حيث كان ثم أرضنى به» قال ويسمى حاجته. والقرعة تشبه هذا بل أمرها أظهر، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعا كالقسمة بين اثنين، إذ لا وجه لإلزام من تقسم بينهما بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعمرو الأخرى، فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة. (ذلِكُمْ فِسْقٌ) أي كل محرم مما سلف فسق وخروج من طاعة الله ورغبة عن شرعه إلى معصيته. (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) اليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة وكان يوم جمعة، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما يقر من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها

وأوهامها، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم فى زواله، ولا حاجة معه إلى شىء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم. روى البيهقي فى كتاب شعب الإيمان عن ابن عباس فى قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» يقول يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم، وهو عبادة الأوثان أبدا (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فى اتباع محمد (واخشون) فى عبادة الأوثان وتكذيب محمد. والخلاصة- إن الله أخبر المؤمنين بأن الكفار قد يئسوا من زوال دينهم، وأنه ينبغى لهم- وقد بدّلهم بضعفهم قوة، وبخوفهم أمنا، وبفقرهم غنى- ألّا يخشوا غيره، وقد عرفوا فضله وإعزازه لهم. وإجمال المعنى- اليوم انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه، لما شاهدوا من فضل الله عليكم، إذ وفّى بوعده، وأظهره على الدين كله. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فى الآية بشارات ثلاث فسرها السلف بما سنذكره بعد: روى عن ابن عباس أنه قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي حلالكم وحرامكم، فلم ينزل بعده حلال ولا حرام (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي منّتى فلم يحج معكم مشرك (وَرَضِيتُ) أي اخترت (لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) . وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية واحدا وثمانين يوما ثم قبضه الله إليه. وروى ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا أنه قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقص أبدا، وقد رضيه فلا يسخط أبدا: وقال صاحب الكشاف: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) كفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك، وكمل لنا ما نريد. إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومنافعهم.

(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية وإبطال مناسكها وأن لم يحج معكم مشرك ولم يطف بالبيت عريان. (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يعنى اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» اه. (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) الاضطرار: حمل الإنسان على ما يضره وإلجاؤه إليه، والمخمصة: المجاعة تخمص لها البطون: أي تضمر، والمتجانف للإثم: المائل المنحرف إليه المختار له، أي فمن وقع فى ضرورة تناول شىء من المحرمات بسبب مجاعة تخمص لها البطون ويخاف منها الموت أو مبادئه حال كونه غير مختار للإثم، بأن يأكل منه ما يزيد على ما يمسك به رمقه، فإن ذلك حرام كما روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضى الله عنهم. وفى معنى الآية ما جاء فى سورة البقرة «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» أي فمن اضطر غير طالب له ولا متعدّ ومتجاوز قدر الضرورة فلا إثم عليه. وإنما اشترط هذا لأن الإباحة للضرورة وهى تقدّر بقدرها، وذلك نافع للمضطر أدبا وطبعا لأنه يمنعه أن يتجرأ على ما تعود فيه مهانة له وضرر. (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن اضطر إلى أكل شىء مما ذكر فأكل فى مجاعة لا يجد فيها غيره وهو غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه متجاوز قدر الضرورة، فإن الله غفور لمثله لا يؤاخذه عليه، وهو رحيم به يرحمه ويحسن إليه. ولما كان الأصل فى الأشياء الحلّ، لأن الله سخر لنا ما فى الأرض جميعا لننتفع به، والمحظور علينا هو ما يضرنا، ولكن الناس يتصدّون أحيانا لفعل ما يضرهم وترك ما ينفعهم، كما كانت تفعل العرب إذا استباحت أكل الميتة والدم ونحوها من الخبائث وحرمت على نفسها بعض الطيبات من الأنعام بخرافات وأوهام باطلة كالبحيرة والسائبة ونحوهما- كانت الحاجة ماسة إلى بيان ما يحله الله تعالى مما حرموه بعد بيان ما حرمه مما أحلوه فقال:

[سورة المائدة (5) : الآيات 4 إلى 5]

[سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) تفسير المفردات الطيب: ضد الخبيث، والجوارح: واحدها جارحة، وهى الصائدة من الكلاب والفهود والطيور، من الجرح بمعنى الكسب قال تعالى «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» أي ما كسبتم، ومكلبين من التكليب وهو تعليم الكلاب وإضراؤها بالصيد، ثم استعمل فى تعليم الجوارح مطلقا، والمحصنات هنا الحرائر، وقيل العفيفات عن الزنا، والأجور: المهور، والمراد بالمحصنين الأعفّاء عن الزنا، مسافحين مجاهرين بالزنا، متخذى أخدان: مسرّين به، والخدن: الصديق يقع على الذكر والأنثى، حبط عمله: بطل ثواب عمله. المعنى الجملي روى ابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا رافع بقتل الكلاب فى المدينة جاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله الآية فقرأها» .

الإيضاح

وروى ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير أن عدى بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا؟ فنزلت الآيات. الإيضاح (يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ) أي يسألك المؤمنون ماذا أحل الله لهم من الطعام؟ (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) الطيبات ما تستطيبها النفوس السليمة الفطرة، المعتدلة المعيشة بمقتضى طبعها فتأكلها باشتهاء وما أكله الإنسان كذلك يسيغه ويهضمه بسهولة ويتغذى به غذاء صالحا، وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ويضره غالبا، فما حرمه الله فى الآية السابقة خبيث بشهادة الله الموافقة للفطرة المعتدلة، وأصحاب الفطر السليمة يعافون أكل الميتة حتف أنفها وما ماثلها من فرائس السباع والمترديات والنطائح والدم المسفوح، وكذلك الخنزير يعافه من يعرف ضرره وانهما كه فى أكل القاذورات. والخلاصة- أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهى دون ما يخبث أو يعاف، وأحل لكم صيد الجوارح بشرط أن يكون الجارح الذي صاده مما أدّبه الناس وعلموه الصيد حتى يصح أن ينسب الصيد إليهم ويكون قتل الجارح له كتذكية مرسله إياه. أما الطيبات فهى ما عدا المنصوص على تحريمه كبهيمة الأنعام وصيد البر والبحر أي ما من شأنه أن يصاد منهما، فالبحر كل حيوانه يصاد، والبر يصاد منه ما يؤكل ما عدا سباع الوحش والطير، لحديث ابن عباس «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير» وحديث أبى ثعلبة الخشني «كل ذى ناب من السباع فأكله حرام» رواهما أحمد ومسلم وأصحاب السنن. (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي فكلوا من الصيد ما تمسكه الجوارح عليكم،

أي تصيده لأجلكم فتحبسه وتقفه عليكم بعدم أكلها منه فإن أكلت منه فلا يحل أكل ما فضل عنها عند الجمهور، لأنه مثل فريسة السبع المحرمة فى الآية السالفة. (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) أي وسمّوا عليه عند إرساله كما روى ذلك عن ابن عباس لحديث عدىّ بن حاتم «إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل» والتسمية واجبة عند أبى حنيفة، ومستحبة عند الشافعي. (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي واتقوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، ولا تقدموا على مخالفته فتأكلوا من صيد الجوارح غير المعلّمة، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على نفسها، أو تطعموا ما لم يسمّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صاده أهل الأوثان، فإن الله قد حرم ذلك عليكم فاجتنبوه، واعلموا أن الله لا يضيع شيئا من أعمالكم، بل تحاسبون عليها وتجازون فى الدنيا والآخرة، وهو يحاسب الناس كلهم يوم القيامة فى وقت واحد، فما أجدر حسابه أن يكون سريعا!. وبعد أن بين وجوب التذكية للذبائح لإبعاد المسلمين مما كان عليه المشركون من أكل الميتة. وشدد فى التسمية على الطعام من صيد أو ذبيحة، لإبعادهم عما كانوا عليه من الذبح لغير الله بالإهلال به لأصنامهم، ليطهرهم من كل ما كانوا عليه من أدران الشرك. بيّن حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم، لأنهم لما كانوا فى الأصل أهل توحيد ثم سرت إليها نزعات الشرك ممن دخل فى دينهم من المشركين كان هذا مظنّة التشديد فى مؤاكلتهم ومنا كحتهم، كما شدد فى أكل ذبائح مشركى العرب ونكاح نسائهم، فذكر أنا لا نعاملهم معاملة المشركين فى ذلك، بل تحل لنا مؤاكلتهم ونكاح نسائهم فقال: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي اليوم أحلّت لكم الطيبات على سبيل التفصيل بعد أن كانت حلالا بالإجمال، وصار حكمها مستقرا ثابتا. (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) الطعام هنا الذبائح لأن غيرها حلال بأصله، والذين أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى أي وذبائح أهل الكتاب ممن

أوتوا التوراة والإنجيل ودانوا بهما أو بأحدهما حلال لكم دون ذبائح أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من عبدة الأصنام والأوثان. وروى ابن جرير عن أبى الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس فأفتيا بأكله، قال ابن زيد: أحل الله طعامهم ولم يستثن منه شيئا، وقال أبو الدرداء- وقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجيس أهدوه لها. أنأكل منه؟ اللهم عفوا، إنما هم أهل كتاب، طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم، وأمره بأكله. (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي وذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب، فلا جناح عليكم أن تطعموهم من طعامكم أو تبيعوهم منه. وفائدة ذكر ذلك بيان أن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، وليس كذلك إباحة المناكحة، فذكره للتميز بين النوعين. (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) . المحصنات هنا الحرائر: أي وأحل لكم أيها المؤمنون نكاح الحرائر من المؤمنات ونكاح الحرائر من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم مهورهن. وتقييد الحل بإتيان المهور لتأكيد الوجوب لا لاشتراطه فى الحل، وتخصيص الحرائر بالذكر للحث على ما هو الأولى منهن، لا لأن من عداهن لا يحل، إذ نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق. وكذا نكاح الإماء الكتابيات عند أبى حنيفة. (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) المحصنون: الأعفاء عن الزنا، والمسافحون الذين يأتون الفاحشة مجاهرين بها، والمتخذو الأخدان: الذين يأتونها سرّا بالاختصاص بخدن من الأخدان، والخدن يطلق على الصاحب والصاحبة: أي هن حل لكم إذا آتيتموهن أجورهن فعلا والتزمتم به حال كونكم أعفّاء عن الزنا جهرا وسرا،

إذ المقصد من الزواج أن يكون الرجل محصنا والمرأة محصنة يعف كل منهما الآخر ويجعله فى حصن يمنعه من الفاحشة على أىّ وجه كانت، فلا يزنى الرجل جهرة ولا سرا باتخاذ صاحبة خاصة به، ولا تكون المرأة كذلك. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ومن ينكر شرائع الإسلام التي من جملتها ما بيّن هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها فقد حبط عمله الصالح الذي عمله قبل ذلك وبطل ثوابه وخسر فى الآخرة ما أعده الله للمؤمنين من الجزاء العظيم على الإيمان الصحيح، وهو إيمان الإذعان والعمل. روى ابن جرير عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن ناسا من المسلمين قالوا كيف نتزوج نساءهم: يعنى نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره: ومن يكفر بالإيمان إلخ. فأحل الله تزويجهن على علم اه. والمغزى من الآية تعظيم شأن ما أحله الله وما حرمه والتغليظ على من خالف ذلك.

[سورة المائدة (5) : الآيات 6 إلى 7]

[سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) المعنى الجملي اعلم أن بين العبد وربه عهدين: عهد الربوبية والإحسان، وعهد العبودية والطاعة، وبعد أن وفى له سبحانه بالعهد الأول وبيّن له ما يحل وما يحرم من لذات الحياة فى الطعام والنكاح، طلب إليهم الوفاء بالعهد الثاني، وهو عهد الطاعة، وأعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ الله بذكر فرائض الوضوء. وبعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات والعبادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق لنقوم به مخلصين. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة على حد قوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» أي إذا أردت قراءته، وجمهور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثا. أي إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا إلخ. وهذا التقييد مستفاد من السنة العملية فى الصدر الأول، فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفّيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال: عمدا فعلته يا عمر» وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو

ابن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث» وروى أحمد والشيخان من حديث أبى هريرة مرفوعا «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا فى عهد النبي يتوضئون لكل صلاة، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة غالبا، وصلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد أمام الناس لبيان جواز ذلك. ومن ذلك يعلم أن الوضوء لكل صلاة عزيمة وهو الأفضل، وإنما يجب على من أحدث. وآخر الآية يدل على ذلك، فإنه ذكر الحدثين ووجوب التيمم على من لم يجد الماء بعدهما فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما، ولو كانت الطهارة واجبة لكل صلاة لما كان لهذا معنى. والخلاصة- إن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وإنما يستحب تجديده لكل صلاة (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) الغسل (بالفتح) إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ ونحوه، والوجوه واحدها وجه، وحدّه من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللّحيين طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا، والأيدى واحدها يد، وحدّها فى الوضوء من رءوس الأصابع إلى المرفق، وهو أعلى الذراع وأسفل العضد. روى مسلم من حديث أبى هريرة: أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع فى العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع فى العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع فى الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع فى الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) الرأس معروف ويمسح ما عدا الوجه منه وقد اختلف فقهاء الأمصار فى أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس، فقال الشافعي يكفى أقل ما يصدق عليه اسم المسح ولو شعرة، وقال مالك يحب مسح الكل أخذا بالاحتياط، وأوجب

أبو حنيفة مسح الربع، لأن المسح إنما يكون باليد وهى تستوعب مقدار الربع فى الغالب. ولما روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته» (وهى مقدار الربع) . (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، ويؤيده عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة فقد روى مسلم عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال: «ويل للأعقاب من النار» وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: تخلّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفرة فأدركنا وقد وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا. ويقوم المسح على الخفين عند لبسهما مقام غسل الأرجل، وقد روى ذلك خلائق لا يحصون من الصحابة، قال الحسن: حدثنى سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يمسح على الخفين) وقال الحافظ بن حجر: قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير ، فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له: تفعل هكذا؟ قال نعم. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. والخلاصة- إن غسل الرجلين المكشوفتين ومسح المستورتين هو الثابت بالسنة لمتواترة المبينة للقرآن، والموافق لحكمة هذه الطهارة. (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الجنب: لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، والمراد به المضاجعة والوقاع: أي وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى

صلاتكم فقمتم إليها فتطهروا منها بغسل البدن كله قبل دخولكم فى صلاتكم التي قمتم إليها وفى معنى الوقاع خروج المنىّ بالاحتلام فهو جنابة شرعا، وفى الحديث «إنما الماء من الماء» رواه مسلم ، أي إنما يجب ماء الغسل من الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بأى سبب كان خروجه. ولما بين سبحانه وجوب الطهارتين، وكان المسلم لا بدّ له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر من ذلك فى اليوم، ولا بد له من الغسل فى كل أسبوع أو أكثر مرة غالبا- بين الرخصة فى تركهما عند المشقة أو العجز، لأن الدّين يسر لا حرج فيه ولا عنت فقال: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) أي وإن كنتم مرضى مرضا جلديا كالجدرىّ والجرب وغيرهما القروح والجروح أو أىّ مرض يشقّ فيه استعمال الماء أو يضر. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) طال أو قصر مهما كان السبب فيه، ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل. (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) الغائط المكان المنخفض من الأرض، ويراد به شرعا قضاء الحاجة من بول وغائط، أي أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها كالطواف، ويسمى الحدث الأصغر. (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) المراد بالملامسة المباشرة المشتركة بين الرجال والنساء، والحدث الموجب للغسل يسمى الحدث الأكبر. (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي إذا كنتم على حال من هذه الأحوال الثلاث: المرض أو السفر أو فقد الماء عند الحاجة إليه لإحدى الطهارتين فاقصدوا ترابا أو مكانا من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة عليه فاضربوا بأيديكم عليه وألصقوها بوجوهكم وأيديكم إلى الرسغين بحيث يصيبها أثر منه. (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي ما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم فى هذه الآية وفى غيرها حرجا ما، أي أدنى ضيق وأقل مشقة، لأنه تعالى غنىّ

الحكمة فى شرع الوضوء والغسل

عنكم رحيم بكم، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم. (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الأقذار والرذائل والمنكرات والعقائد الفاسدة فتكونوا أنظف الناس أبدانا، وأزكاهم نفوسا، وأصحهم أجسادا، وأرقاهم أرواحا. (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) فيجمع لكم بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح، والإنسان إنما هو روح وجسد، والصلاة تطهر الروح وتزكى النفس، فهى تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعوّد المصلى مراقبة ربه فى السر والعلن، وخشيته حين الإساءة والرجاء فيه لدى الإحسان، والطهارة التي جعلها الله شرطا للدخول فى الصلاة ومقدمة لها تطهر البدن وتنشطه، فيسهل بذلك العمل من عبادة وغيرها، فما أجلّ نعم الله على عباده، وما أجدر من هدى بهداه بدوام الشكر عليه، ومن ثم ختم الآية الكريمة بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدكم بذلك لدوام شكرهم على تلك النعم الظاهرة والباطنة. الحكمة فى شرع الوضوء والغسل للوضوء والغسل فوائد أهمها: (1) أن غسل البدن كله وغسل الأطراف يفيد صاحبه نشاطا وهمة ويزيل ما يعرض للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث أو بغيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره، وبذا يقيم الصلاة على وجهها ويعطيها حقها من الخشوع ومراقبة الله تعالى. إذ المشاهد أنه إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسمية غايتها بالوقاع أو الإنزال حصل تهيج عصبى كبير يعقبه فتور شديد بحسب سنة رد الفعل، ولا يعيد نشاطه إلا غسل البدن كله. (2) أن النظافة ركن الصحة البدنية، فإن الوسخ والأقذار مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة، ومن ثم نرى الأطباء يشددون فى أيام الأوبئة والأمراض المعدية فى المبالغة فى النظافة، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصح الناس أجسادا وأقلهم أمراضا،

لأن دينهم مبنى على المبالغة فى نظافة الأبدان والثياب والأمكنة، فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفى الأسباب التي تولد جراثيم الأمراض عند الناس. (3) تكريم المسلم نفسه لدى نفسه وأهله وقومه الذين يعيش معهم، إذ من كان نظيف البدن للثياب كان جديرا بحضور كل مجتمع ولقاء أشراف الناس وفضلائهم، ومن كان وسخا قذرا فإنه يكون محتقرا عند كرام الناس ولا يعدونه أهلا لأن يحضر مجالسهم ويشعر فى نفسه بالضعة والهوان. ولأجل هذا ورد الأمر بالغسل والطيب ولبس الثياب النظيفة يوم الجمعة لأنه يوم يجتمع فيه الناس فى المساجد لعبادة الله تعالى، روى مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم من طرق عدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» أي بالغ مكلف. وبعد أن بين سبحانه هذه الأحكام وذكر رفع الحرج الذي تم به الإنعام ذكّرنا بنعمه التي أنعم بها علينا فقال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وتذكروا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارا متباغضين فأصبحتم بهداية الدين إخوانا متحابين وتذكروا العهد الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى المنشط والمكره (المحبوب- والمكروه) والعسر واليسر حين قلتم له سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأطعناك فيه فلا نعصيك فى معروف، وكل ما جئتنا به فهو معروف. وكل نبى بعث فى قوم أخذ عليهم ميثاق الله بالسمع والطاعة وقبول الدعوة. والدخول فى الدين يعدّ قبولا لهذا العهد، فعلينا أن نعد هذا التذكير خطابا لنا كما عده السلف من الصحابة خطابا لهم. واتقوا الله فلا تنقضوا عهده وتخالفوا ما أمركم به وما نهاكم عنه سواء أكان فى هذه الآيات أم فى غيرها.

[سورة المائدة (5) : الآيات 8 إلى 11]

(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليه الميثاق من نية الوفاء به أو عدم الوفاء، وما تنطوى عليه السرائر من الإخلاص أو الرياء. [سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) تفسير المفردات القوّام بالشيء: هو القائم به حق القيام، شهداء بالقسط: أي شهداء بالعدل بلا محاباة، ولا يجرمنكم. أي ولا يحملنكم، والشنآن: العداوة والبغضاء، الخبير: العالم بالشيء على وجه الدقة والضبط، والجحيم: النار العظيمة، وهى هنا دار العذاب وأصحابها هم ملازموها، بسط إليه يده: بطش به، وبسط إليه لسانه: شتمه، والتقوى: هى اتقاء عقاب الله وسخطه بترك معاصيه. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه عباده بالوفاء بالعقود عامة، ثم امتن عليهم بإباحة كثير من الطيبات لهم وتحريم ما يضرهم من الطعام إلا فى حال الضرورة، ثم ذكر حل طعام

الإيضاح

أهل الكتاب ونسائهم إذا كن محصنات، ثم أمرهم بالطهارة مع رفع الحرج عنهم- ذكر هنا ما ينبغى أن يكون من معاملتهم سواهم سواء أكانوا أعداء أم أولياء، ثم ذكر وعده لعباده الذين يعملون الصالحات ووعيده لمن كفر وكذب بالآيات، وختمها بذكر المنة الشاملة، والنعمة الكاملة، إذ أنقذهم من أعدائهم وأظهرهم عليهم، وكانوا على وشك الإيقاع بهم، ولكن رحمهم وكبت أعداءهم وردّهم صاغرين، ليكون الشكر أتم، والوفاء ألزم. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي ليكن من دأبكم وعادتكم القيام بالحق فى أنفسكم بالإخلاص لله فى كل ما تعملونه من أمر دينكم وأمر دنياكم، بأن تريدوا بعملكم الخير والتزام الحق بدون اعتداء على أحد، وفى غيركم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ابتغاء مرضاة الله. (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) الشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به، أو إظهاره هو له بالحكم به أو الإقرار به لصاحبه، وفى كل حال تكون بالعدل بلا محاباة لمشهود له ولا لمشهود عليه، لأجل قرابة أو مال أو جاه، ولا تركه لفقر أو مسكنة. فالعدل هو ميزان الحقوق، إذ متى وقع الجور فى أمة لأى سبب زالت الثقة من الناس وانتشرت المفاسد، وتقطعت روابط المجتمع، فلا يلبث أن يسلط الله عليهم بعض عباده الذين هم أقرب منهم إلى العدل فيذيقوهم الوبال والنكال، وتلك سنة الله فى حاضر الأمم وغابرها، ولكن الناس لا يعتبرون. (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي ولا تحملنكم العداوة والبغضاء لقوم على عدم العدل فى أمرهم بالشهادة لهم بحقهم إذا كانوا أصحاب حق، أو الحكم لهم بذلك فالمؤمن يؤثر العدل على الجور والمحاباة، ويجعله فوق الأهواء وحظوظ الأنفس وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما.

(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) هذه الجملة توكيد للجملة السالفة للعناية بأمر العدل وأنه فريضة لا هوادة فيها، لأنه أقرب لتقوى الله والبعد عن سخطه. وتركه من أكبر المعاصي، لما ينشأ عنه من المفاسد التي تقوّض نظم المجتمعات، وتقطع الروابط بين الأفراد، وتجعل بأسهم بينهم شديدا. (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي واتقوا سخطه وعقابه لأنه لا يخفى عليه شىء من أعمالكم ظاهرها وباطنها، واحذروا أن يجازيكم بالعدل على ترككم للعدل، وقد مضت سنته فى خلقه بأن يجعل جزاء ترك العدل فى الدنيا الذلة والمهانة للأمم والأفراد، وفى الآخرة الخزي يوم الحساب. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال التي يصلح بها أمر العباد فى أنفسهم وفى روابطهم الاجتماعية، ومن أهمها العدل فيما بينهم وتقوى الله فى جميع أحوالهم. ثم بين سبحانه ما وعدهم به بعد أن ذكره أوّلا مجملا لتتوجه النفس للسؤال عنه حتى إذا جاء تأكد فى النفس وتقرر هذا الوعد فقال: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) المغفرة الستر، والإيمان والعمل الصالح يستران ويمحوان من النفس ما يكون فيها من سوء أثر الأعمال السالفة فيغلب عليها حب الحق والخير وتكون أهلا للوصول إلى عالم القدس والطهر، والأجر العظيم هو الجزاء المضاعف على الإيمان والعمل الصالح فضلا من الله ورحمة من لدنه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الكفر هنا هو الكفر بالله ورسله، لا فارق فى ذلك بين كفر بالجميع وكفر بالبعض. وآيات الله قسمان آياته المنزلة على رسله وآياتها التي أقامها فى الأنفس والآفاق للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته وإرادته، وعلى صدق رسله فيما يبلغون عنه، والجحيم النار العظيمة كما قال تعالى حكاية عن قوم إبراهيم «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ»

أي إن هؤلاء الكفار المكذبين سيصلون العذاب فى نار عظيمة أعدها الله لمن كفر وكذب بآياته، لأن نفوسهم قد فسدت، وسوء أعمالهم قد ران على قلوبهم، فأصبحوا صمّا عميا لا يبصرون. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» . روى من طرق عدة أن الآية نزلت فى رجل من قبيلة محارب همّ بقتل النبي صلى الله عليه وسلم أرسله قومه لذلك وكان بيده سيف وليس مع النبي صلى الله عليه وسلم سلاح وكان منفردا. روى الحاكم من حديث جابر قال: «قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك؟ قال الله، فوقع السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك؟ قال كن خير آخذ، قال تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله قال: أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فجاء إلى قومه وقال جئتكم من عند خير الناس» . وفى رواية أخرى «إن السيف الذي كان بيد الأعرابى كان سيف النبي صلى الله عليه وسلم علّقه فى شجرة وقت الراحة، فأخذه الرجل وجعل يهزه ويهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سقط من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال من يمنعك منى؟ قال لا أحد، ثم صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه» . وعلى هذا فالمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، فإنه لو حصل ذلك لكان من المحن الكبرى التي تصيب المسلمين. وقيل إن المراد تذكيرهم بما أنعم الله عليهم من قوة الإسلام وعظمة شوكة المسلمين، فبعد أن كانوا أذلاء مغلوبين على أمرهم بدّل الله الحال غير الحال وأصبحوا أعزة بعد الذلة وغالبين بعد أن كانوا مقهورين، فهو سبحانه يذكر المسلمين بوقائع الاعتداء كلها

سواء فى ذلك حادثة المحاربي وأمثالها، لأن حفظه لأولئك السلف هو حفظه لذلك الدين القويم، فالنبى صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه وأدّوها لمن بعدهم قولا وعملا. ومن فوائد هذا التذكير للمتأخر ترغيبه فى التأسى بالسلف فى القيام بما جاء به الدين من الحق والعدل والبر. ومعنى قوله: إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم، أي شارفوا أن يمدوا أيديهم إليكم بصنوف البلاء من قتل ونهب فكفّ الله تعالى بلطفه ورحمته أيديهم عنكم فلم يستطيعوا تنفيذ ما همّوا به. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي واتقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم، وتوكلوا عليه وحده فقد أراكم عنايته بمن يكلون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره وتسوء عاقبته، لا على أوليائكم وحلفائكم، لأن الأولياء قد تنقطع بهم الأسباب ويجيبون داعى اليأس إذا اشتد البأس، والحلفاء قد يغدرون كما غدر بنو النضير وغيرهم، ولكن المؤمن المتوكل على الله إذا همّ أن ييأس تذكر أن الله وليه وهو الذي بيده ملكوت كل شىء، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، فتتجدد قوته ويفرّ منه اليأس فينصره الله ويخذل أعداءه كما حدث لأولئك الكملة المتوكلين مع سيد المرسلين أيام ضعفهم وقلتهم وفقرهم وتألب الناس كلهم عليهم.

[سورة المائدة (5) : الآيات 12 إلى 14]

[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) تفسير المفردات نقيب القوم: من ينقّب عن أحوالهم ويبحث عن شئونهم، ونقب عليهم نقابة صار نقيبا عليهم، والتعزيز: النصرة مع التعظيم، وأقرضتم الله: أي بذلتم المال فوق ما أوجبه عليكم، والقرض الحسن: ما كان عن طيب نفس. سواء السبيل: وسطه، لعناهم: طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا. وقاسية: يابسة غليظة تنبو من قبول الحق. والتحريف: إمالة الشيء عن موضعه إلى أي جانب من الجوانب. والخائنة: الخيانة. الإغراء. أصله التجريش، يقال أغرى الشيء بالشيء والمراد هنا تفرق الأهواء الموجب للعداوة والبغضاء. المعنى الجملي بعد أن ذكّرنا الله بميثاقه الذي واثقنا به على السمع والطاعة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم- بين لنا فى هذه الآيات أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم له، ومن عقابه لهم على ذلك، فى الدنيا بضروب الذلة والمسكنة، وفى الآخرة بالخزي والعذاب، لنعتبر بحالهم، ونبتعد أن نكون على مثالهم، وليشرح لنا العلة فى كفرهم

الإيضاح

بالنبي صلى الله عليه وسلم وسبب تصدّيهم لإيذائه وعداوة أمته، وليقيم الحجة عليهم بما تراه من ذكر المحاجة، وبيان أنواع كفرهم وضلالهم. الإيضاح (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ولقد أخذ الله العهود والمواثيق على بنى إسرائيل ليعملنّ بما فى التوراة، وفيها شريعتهم التي اختارها لهم، ولا يزال هذا الميثاق فى آخر الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام. (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) نقباء بنى إسرائيل زعماء أسباطهم الاثني عشر، والمراد ببعثهم إرسالهم لمقاتلة الجبارين الذين سيأتى ذكرهم بعد. روى أنه لما نجابنو إسرائيل بعد هلاك فرعون، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم إنى جعلتها لكم وطنا ودار هجرة فاخر جوا إليها وجاهدوا من فيها وإنى ناصركم، وأمر نبيه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بالوفاء بتنفيذ ما أمروا به فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل وتكفل له به النقباء وسار بهم، فلما دنا من الأرض المقدسة بعث النقباء يتحسسون الأخبار فرأوا أجساما قوية وشوكة وقوة فهابوهم ورجعوا وحدّثوا قومهم بما رأوا، وقد كان موسى نهاهم عن ذلك فنكثوا الميثاق إلا نقيبين، وهما اللدان قال فيهما «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ» الآية، وسيأتى الكلام فى ذلك بعد. (وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي وقال الله هذا لموسى، وهو بلّغه عنه، ومعنى كونه معهم أنه ناصرهم ومعينهم ما داموا محافظين على الميثاق، وهو راء لأفعالهم، سميع لأقوالهم عليم بضمائرهم، وقادر على مجازاتهم. (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لئن

أدّيتم الصلاة على وجهها، وأعطيتم ما فرض عليكم من الصدقات التي تتزكى بها نفوسكم وآمنتم برسلى الذين أرسلهم إليكم بعد موسى، كداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد ونصرتموهم معظّمين لهم، وبذلتم من المال زيادة على ما أوجبه الله عليكم بالزكاة فكنتم بذلك بمثابة من أقرض ماله لغنىّ ملىء وفىّ لا يضيع عليه، بل يجده أمامه عند شدة الحاجة إليه- لئن فعلتم كل هذا لأزيلنّ بتلك الحسنات تأثير سيئاتكم التي سلفت منكم من نفوسكم، فلا يبقى فيها رجس ولا خبث يقتضى العقاب، فإن الحسنات يذهبن السيئات كما يغسل الماء الأدران والأوساخ، ولأدخلنكم تلك الجنات التي لا يدخلها إلا من كان طاهرا من الشرك وما يتبعه من المعاصي والآثام التي تفسد الفطرة. (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي فمن جحد منكم شيئا مما أمرته به فتركه، أو عمل شيئا مما نهيته عنه بعد أخذ الميثاق عليه بالوفاء لى بطاعتي واجتنابه معصيتى- فقد أخطأ الطريق الواضح وضلّ الصراط المستقيم الذي يوصل سالكه إلى إصلاح قلبه وتزكية نفسه ويجعله أهلا لجوار ربه فى تلك الجنات. ثم بيّن أنهم لم يوفوا بهذا العهد فجازاهم على سوء صنيعهم فقال: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي فبسبب نقضهم للميثاق الذي أخذ عليهم- ومن ذلك الإيمان بمن يرسلون من الرسل ونصرهم وتبجيلهم وتعظيمهم- استحقوا مقتنا وغضبنا والبعد من ألطافنا، فإن نقض الميثاق أفسد فطرتهم ودنس نفوسهم، وقسّى قلوبهم، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق وافتروا على مريم وأهانوا ولدها الذي أرسل إليهم، ولإصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم، وحاولوا قتله وافتخروا بذلك- فبكل هذا بعدوا عن رحمة الله، إذ جرت سنته أن الأعمال السيئة تؤثر فى النفوس آثارا سيئة، فتجعل القلوب قاسية لا تؤثر فيها الحجة والموعظة، ومن ثم تستحق مقت الله وغضبه والبعد من فضله ورحمته، وما مثل هذا إلا مثل من يهمل العناية بنفسه، ولا يراعى القوانين الصحية فهو لا شك سيصاب بالأمراض والأسقام، ولا يلومنّ حينئذ إلا نفسه، إذ كان هو السبب فى ذلك بإهماله.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) تحريف الكلم عن مواضعه يكون: إما بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان، وإما بتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له، وكل منهما قد وقع فى التوراة وغيرها من كتبهم، فإن التوراة التي كتبها موسى، وأخذ العهد والميثاق على بنى إسرائيل بحفظها كما نص على ذلك فى الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع، قد فقدت باتفاق مؤرخى اليهود والنصارى عند سبى البابليين لليهود ولم يكن عندهم إلا هذه النسخة ولم يكونوا يستظهرونها، كما كان المسلمون يستظهرون القرآن فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك أسفار خمسة ينسبونها إلى موسى- فيها خبر كتابته التوراة وأخذه للعهد عليهم بحفظها، ولا شك أن هذا ليس منها قطعا، وفيها خبر موته وأنه لم يقم بعده أحد مثله إلى ذلك الوقت، أي الوقت الذي كتب فيه سفر تثنية الاشتراع، وفى هذا أكبر دليل على أن الكاتب كان بعد موسى بردح طويل من الزمن كما أن فيها كثيرا من الكلمات البابلية الدالة على أنها كتبت بعد السبي. لكل هذا حقق كثير من مؤرخى الفرنجة أن هذه التوراة التي بين أيديهم كتبت بعد موسى ببضعة قرون، كتبها عزرا الكاهن بعد أن أذن لبنى إسرائيل بالعودة إلى بلادهم. (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) روى عن ابن عباس أنه قال: نسوا الكتاب وعن مجاهد أنه قال: نسوا كتاب الله إذ أنزل عليهم، ومرادهما أنهم نسوا طائفة من أصل الكتاب، وقال بعضهم: نسوا الكتاب بترك العمل به. وفى الحق أنهم أضاعوا كتابهم وفقدوه عند ما أحرق البابليون هيكلهم وخرّبوا عاصمتهم وسبوا من بقي منهم حيا، فلما عادت إليهم الحرية جمعوا ما كانوا قد حفظوه من التوراة ووعوه وعملوا به. وهذا من أعظم الأدلة على أن القرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم أثبتها التاريخ بعد بعثة النبي بعدة قرون من موت موسى.

(وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) الخائنة بمعنى الخيانة كالقائلة بمعنى القيلولة والخاطئة بمعنى الخطيئة أي إنك أيها النبي لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود على خيانة إثر خيانة، فلا تظننّ أنك أمنت كيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم، فهم قوم لا وفاء لهم ولا أمان، فمن نقض عهد الله وميثاقه فكيف يرجى منه وفاء؟ وكيف يطمع منه فى أمانة؟ (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) كعبد الله بن سلام وإخوانه ممن أسلموا وصدقوا الله ورسوله فلا تظننّ بهم سوءا ولا تخف منهم خيانة ولا خداعا. (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي فاعف عما فرط من هؤلاء القليل، واصفح عمن أساء منهم، وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى، فأنت أحق الناس باتباع ما يحبه الله ويرضاه، وهذا رأى أبى مسلم، وقال غيره: فاعف عن هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم، فانى أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه، إيثارا للاحسان والفضل على ما يقتضيه العدل. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب عند ما دخل المدينة فى مصالحة اليهود وموادعتهم فعقد معهم العهد على ألا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه ولا يمالئوا عليه عدوّا له، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم، وكان إذ ذاك منهم ثلاث طوائف حول المدينة وهم بنو قينقاع وبنو النّضير وبنو قريظة فنقضوا العهد وهمّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فحلّ له قتالهم، ولكنه رجح السلم على الحرب واكتفى بطردهم من جواره وبعث إليهم «أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنونى وقد أجّلتكم عشرا فمن وجدته بها بعد ذلك ضربت عنقه» فأقاموا يتجهزون أياما ثم ثبّط عزيمتهم عبد الله بن أبىّ وأرسل إليهم ألا تخافوا إن معى ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وكان رئيسهم المطاع حيىّ بن أخطب

شديد العداوة للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو الذي زين لهم قتله والغدر به فركن إلى قول ابن أبىّ، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنا لن نخرج من المدينة فافعل ما بدا لك. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون الحرب فخرج هو والمسلمون للقائهم يحمل لواءه على بن أبى طالب كرم الله وجهه، فلما وصلوا إليهم أقاموا على حصونهم يرمونهم بالنبل والحجارة، ولما اشتد عليهم الحصار ورأوا ألا سبيل لهم إلى المقاومة رضوا بالخروج سالمين وعلموا أن وعد ابن أبىّ كان هو الغدر والخيانة بعينها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قادرا حينئذ على استئصالهم والقضاء عليهم ولكنه اختار العفو والإحسان واكتفى بإبعادهم عن المدينة على أن يخرجوا منها، وليس معهم إلا أولادهم وما حملت الإبل إلا السلاح، ورحلوا إلى خيبر. وهذه الآية نزلت بعد هذا كله لأنها من آخر ما نزل، ولم يعاقب اليهود بعدها على خيانة ولا غدر، ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب. (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي وكذلك أخذنا من النصارى الثبات على طاعتنا وأداء فرائضنا واتباع رسلنا والتصديق بهم، فسلكوا فى ميثاقنا الذي أخذناه عليهم طريق اليهود الضالين، فبدلوا دينهم ونقضوا الميثاق الذي أخذناه عليهم بالوفاء بعهدنا. (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لأن نسيان حظ عظيم من كتابهم كان سببا فى تفرقهم فى الدين واتباع أهوائهم، وتبع هذا أن وقعت بينهم العداوة والبغضاء بمقتضى سننه تعالى فى هذه الحياة، ومن أجل هذا نسبه سبحانه إلى نفسه مع أنه من أعمالهم الاختيارية، لأنه كان نتيجة حتمية لتلك السنن التي وضعت فى الخليقة (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي وسينبئهم الله عند الحساب فى الآخرة بما كانوا صنعوا فى الدنيا من نقض للميثاق، ونكث للعهد، وتبديل للكتاب،

[سورة المائدة (5) : الآيات 15 إلى 16]

وتحريف للأوامر والنواهي، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون، ليعلموا أنه حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة بين الله فى هذه الآية أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كما نسى اليهود، وسرّ هذا أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكّرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتنزيهه وطرق الإرشاد إلى عبادته، وكان الذين اتبعوه من العامة، وأمثلهم حواريّه، وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود فى مطاردتهم فى كل مكان، ومن ثم لم تكن لهم جماعات ذات نفوذ وقوة وعلم تدوّن ما حفظوه من الإنجيل إلى أن كثيرا من الناس كانوا يبثون تعاليم باطلة عن المسيح، ومنهم من كتب مثل هذا حتى إن الكتب التي سمّوها الأناجيل كانت كثيرة جدا، ولم تظهر الأناجيل الأربعة التي عليها المعوّل عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح، عند ما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين فى النصرانية، وإدخاله إياها فى طور جديد من الوثنية وهى تاريخ ناقص للمسيح، على ما بها من تعارض وتناقض، مع كونها مجهولة الأصل والتاريخ، وقد أقاموا بناء دينهم وكتبهم التي يسمونها (العهد الجديد) على أساس كتب اليهود التي يسمونها كتب العهد العتيق وقد علمت شأنها فيما سلف. [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بيّن سبحانه أنه أخذ الميثاق على اليهود والنصارى، كما أخذه على هذه الأمة وأنهم نقضوا العهد والميثاق، وتركوا ما أمروا به، وأنهم أضاعوا حظا عظيما مما أوحاه إليهم ولم يقيموا ما حفظوا منه- دعاهم عقب ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي جاء به. وهذا البيان من دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم، وهو من معجزات القرآن الكثيرة المنبثة فى تضاعيفه. الإيضاح (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال ابن عباس: أخفوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأخفوا أمر الرجم، وعفا عن كثير مما أخفوه، فلم يفضحهم ببيانه اه. أي يا أهل الكتاب إنا أرسلنا إليكم محمدا رسول الله وخاتم النبيين يبيّن لكم كثيرا من الأحكام التي كنتم تخفونها، وقد أنزلها الله عليكم كحكم رجم الزاني وهو مما حفظتموه من أحكام التوراة كما هو ثابت فى سفر التثنية، لكنكم لم تلتزموا العمل به وأنكره عالمكم ابن صوريا أمام النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم عليه وناشده الله فاعترف به، وكذلك أخفى اليهود والنصارى صفات النبي صلى الله عليه وسلم والبشارات به وحرفوها بالحمل على معان أخرى، إلى ما أضاعوه من كتبهم ونسوه كنسيان اليهود ما جاء فى التوراة من أخبار الحساب والجزاء فى الآخرة، وأظهره الرسول لهم، وكانت الحجة عليهم فيه أقوى، إذ هم يعلمون أنه نبىّ أمي لم يطلع على شىء من كتبهم، ومن ثم آمن به من آمن من علمائهم المنصفين، واعترفوا بعد إيمانهم بما بقي عندهم من البشارات وصفات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا البيان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزات القرآن التي لا ينبغى أن يمترى أحد فيها، ومع هذا فقد كان يعفو عن كثير مما كانوا

يخفونه، ولا يظهر الكثير مما يكتمونه، وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره فى الدين، والفائدة فى ذكر بعضه إعلامهم بأن الرسول عالم بكل ما يخفونه، فيكون ذلك داعيا لترك الإخفاء حتى لا يفتضحوا ومن شأن علماء السوء فى كل أمة أن يكتموا من العلم ما يكون حجة عليهم وكاشفا عن سوء حالهم، أو يحرّفوه بحمله على غير ظاهر معناه. (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) النور هو النبي صلى الله عليه وسلم، وسمى بذلك لأنه للبصيرة كالنور للبصر، فكما أنه لولا النور ما أدرك البصر شيئا من المبصرات، كذلك لولا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة من أهل الكتاب ولا من غيرهم حقيقة الدين الحق، ولا ما طرأ على التوراة والإنجيل من ضياع بعضها أو نسيانه، وعبث الرؤساء بالبعض الآخر بإخفاء شىء منه أو تحريفه، ولظلّوا فى ظلمات الجهل والكفر لا يبصرون. والكتاب المبين: هو القرآن الكريم وهو بيّن فى نفسه، مبيّن لما يحتاج إليه الناس لهدايتهم. (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قوله: من اتبع رضوانه، أي من كان همه من الدين ابتغاء رضوان الله، لا تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذه من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال، والسلام بمعنى السلامة: أي طرق السلامة من كل مخافة، وقوله من الظلمات إلى النور: أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وقوله: بإذنه أي بإرادته أو بتوفيقه بالجري على سننه تعالى فى تأثير الأعمال الصالحة والعقائد الصحيحة فى النفوس وإصلاحها إياها، وقوله: إلى صراط مستقيم، أي إلى الدين الحق لأنه واحد ومتفق من جميع جهاته أما الباطل فمتعدد الطرق، وكلها معوجة ملتوية. وقد ذكر سبحانه للكتاب ثلاث فوائد: 1) إن المتبع لما يرضى الله بالإيمان بهذا الكتاب- يهديه إلى الطرق التي يسلم بها فى الدنيا والآخرة من كل ما يبعده عن الشقاء والهلاك، فيقوم فى الدنيا بحقوق الله

[سورة المائدة (5) : الآيات 17 إلى 19]

والحقوق الواجبة عليه لنفسه (روحية كانت أو جسدية) وللناس، ويكون فى الآخرة منعما نعيما روحيا وجسديا. وخلاصة ذلك: إنه يتبع دينا يجد فيه ما يوصله إلى السلامة من الشقاء فى الدنيا والآخرة، لأنه دين الإخلاص والعدل والمساواة. (1) إنه يخرج معتنقيه من ظلمات الوثنية والأوهام والخرافات التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان- إلى نور التوحيد الخالص الذي يجعل صاحبه حرا كريما بين يدى الخلق خاضعا للخاللق وحده. (2) إنه يهدى إلى الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين إذا اعتصم به من اتبعه على الوجه الصحيح الذي أنزل لأجله، كما عمل بذلك أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان [سورة المائدة (5) : الآيات 17 الى 19] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) المعنى الجملي بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب عامة بين ما كفر به النصارى خاصة

الإيضاح

الإيضاح (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) المسيحيون فى هذا العصر فرق ثلاث: الكاثوليك والأرثوذ كس والبروتستانت (أي إصلاح النصرانية) وهذا المذهب الأخير حدث من نحو أربعة قرون وصار هو المذهب السائد فى أعظم الأمم مدنية وارتقاء كالولايات المتحدة وانجلترا وألمانيا، وقد أزال هذا المذهب كثيرا من التقاليد والخرافات النصرانية التي كانت قبله واستبدل بها تقاليد أخرى، ومع كل هذا فهؤلاء المصلحون لم يستطيعوا أن يرجعوا المسيحية إلى التوحيد الصحيح الذي هو دين المسيح ودين سائر الأنبياء، فلا يزالون يقولون بالتثليث ويعدون الموحّد غير مسيحى كما تقول بذلك الفرقتان الكبيرتان الأخريان. وجميع فرق النصارى فى هذا العصر تقول: إن الله هو المسيح بن مريم وإن المسيح ابن مريم هو الله، ولكن النصارى القدماء لم يكونوا متفقين على هذه العقيدة إذ كان بعضهم يفسر الآب والابن وروح القدس بأنها الوجود والعلم والحياة والقول بها لا ينافى توحيد الخالق كما أنه يوجد الآن فى نصارى أوربا وغيرهم موحدون يعتقدون أن المسيح نبى ورسول لا إله. قال الدكتور بوست البروتستانتى فى تاريخ الكتاب المقدس (طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفدى، وإلى الروح المقدس التطهير. غير أن هذه الثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء) . والعمدة عندهم فى هذه العقيدة عبارة جاءت فى إنجيل يوحنا وهى (فى البدء كانت الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله هو الكلمة) وقد فسروا الكلمة بالمسيح فيصير معنى الفقرة الثالثة من إنجيل يوحنا (والله هو المسيح بن مريم) وهذا عين ما أسنده القرآن إليهم.

ولا شك أن هذه العقيدة وثنية أخذت عن قدماء المصريين والبراهمة والبوذيين وغيرهم من وثنى الشرق والغرب. (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً؟) أي قل أيها النبي الكريم لهؤلاء النصارى: من يقدر على دفع الهلاك والموت عن المسيح وأمه، بل عن سائر الخلق جميعا إن أراد أن يهلكهم ويبيدهم؟ وخلاصة هذا- إن المسيح وأمه من المخلوقات القابلة للفناء والهلاك كسائر أهل الأرض، فإذا أراد الله أن يهلكهما ويهلك أهل الأرض جميعا لا يستطيع أحد أن يردّ إرادته، لأنه هو مالك الملك الذي يصرّفه بمقتضى مشيئته وإرادته، وإذا كان المسيح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولا عن أمه الهلاك كما لا يستطيع أن يدفعه عن غيره، فكيف يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شىء؟ ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي فمن يملك من الله شيئا إن أراد إهلاك المسيح وأمه وأهل الأرض قاطبة؟ فهو صاحب الملك المطلق والتصرف فى السموات والأرض وما بينهما أي وما بين العالمين العلوي والسفلى بالنسبة إليكم. ثم دفع شبهة تحوك فى صدورهم من كيفية خلق عيسى فقال: (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي إن تلك الشبهة التي عرضت لكم وجعلتكم تزعمون أن المسيح بشر وإله- هو أنه خلق على غير السنة العامة وأنه عمل أعمالا عجيبة لا تصدر من عامة البشر، فالله له ملك السموات والأرض، ويخلق الخلق على مقتضى مشيئته، فقد يخلق بعض الأحياء من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة كأصول أنواع الحيوان، ومن ذلك أبو البشر آدم عليه السلام، وقد يخلق بعضها من أنثى فقط، وقد يخلق بعضها من ذكر وأنثى، وشكل الخلق وسببه لا يدل على امتياز لبعضها عن بعض، ولا على ألوهية لبعضها، ولا حلول الإله الخالق فيها، فسنة الله فى خلق المسيح ومزاياه لا تدل على كونه إلها وربّا، لأن هذه المزايا فى الخلق كلها بمشيئة الخالق ولا يخرج بها المخلوق عن كونه مخلوقا.

(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وبقدرته يخلق ما يشاء، فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى، وتارة بدون أب ولا أم كما فى آدم، وأخرى من أم ولا أب له كما فى عيسى عليه السلام. والخلاصة- إن كل ما تعلقت به مشيئته ينفذ بقدرته، وإنما يعدّ بعضه غريبا بالنسبة إلى علم البشر الناقص لا بالنسبة إليه تعالى، وكذلك غرابة بعض أفعالهم قد تكون عن علم كسبىّ يجهله غيرهم، أو عن تأييد ربانىّ لا صنع لهم فيه ولا تأثير روى ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبىّ وبحرىّ بن عمرو وشاس بن عدى من اليهود فكلمهم وكلموه ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته فقالو: ما تخوفنا يا محمد؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كما قالت النصارى ذلك فأنزل الله فيهم: (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) إلى آخر الآية، وقد جاء إطلاق هذا اللفظ (أبناء لله) فى الإنجيل على الملائكة وعلى المؤمنين الصالحين كما حكاه متّى فى وعظ المسيح على الجبل من قوله: (طوبى لصانعى السلام، لأنهم أبناء الله يدعون) وكقول بولس فى رسالته إلى أهل رومية (لأن كل الذين ينقادون بروح الله فألئك هم أبناء الله) ومن هذا يعلم أن (ابْنُ اللَّهِ) يستعمل فى كتبهم بمعنى حبيب الله الذي يعامله معاملة الأب لابنه من الرحمة والإحسان والتكريم، ولكن النصارى تحكموا فى هذا اللقب فجعلوه بمعنى الابن الحقيقي للمسيح، وبالمعنى المجازى بالنسبة إلى غيره من الصالحين. وقد رد الله عليهم بقوله لنبيه: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي قل لهم أيها النبي إذا كان الأمر كما زعمتم، فلم يعذبكم الله بذنوبكم فى الدنيا كما ترون؟ من تخريب الوثنيين لمسجدكم الأكبر، ولبلدكم المرة بعد المرة، ومن إزالة ملككم من الأرض، والأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يعذب حبيبه، فلستم إذا

أبناء الله ولا أحباؤه، بل أنتم بشر من جملة ما خلق، والله سبحانه لا يحابى أحدا، وإنما يغفر لمن يعلم أنه مستحق للمغفرة، ويعذب من يعلم أنه مستحق للعذاب، فارجعوا عن غروركم بأنفسكم وسلفكم وكتبكم، فكل هذا لا يجزيكم فتيلا ولا قطميرا وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان الصحيح وصالح الأعمال، فالجزاء إنما يكون عليها، لا على الأسماء والألقاب: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إنه تعالى الخالق ذو التصرف المطلق فى كل شىء بمقتضى علمه وحكمته وعدله وفضله، وجميع المخلوقات عبيد له، لا أبناء ولا بنات «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» وفى ختمها بقوله «وإليه المصير» إشارة إلى أنه سيعذبهم فى الآخرة على هذا الكفر والدعاوى الباطلة، وأنهم عند ما يصيرون إليه يعلمون أنهم عبيد آبقون يجازون، لا أبناء ولا أحباء يحابون. وقد كان اليهود يعتقدون أنهم شعب الله الخاص ميّزهم عن سائر البشر، فليس لشعب آخر أن يطلب مساواته بهم وإن كان أصح منهم إيمانا وأصح أعمالا، ولا ينبغى أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم، لأنه عربى لا إسرائيلى، والفاضل لا يتبع المفضول، والله لا يعاملهم إلا معاملة الوالد لأبنائه الأعزاء، والنصارى قد زادوا عليهم غرورا فهم قد ادّعوا أن المسيح فداهم بنفسه وأنهم أبناء الله بولادة الروح، والمسيح ابنه الحقيقي ويخاطبون الله تعالى بلقب الأب. وقد جاهد النبي صلى الله عليه وسلم غرور اليهود جهادا عظيما ولم يجد ذلك فيهم شيئا فرفضوا دعوته وردوا ما جاءهم به من أن العمل مرضاة الله وبه تنال تزكية النفس وإصلاحها كما جاهد صلف النصارى وكبرهم، وكانوا زمن التنزيل أشد من اليهود فسادا وظلما وعدوانا بشهادة المؤرخين، ومع كل هذا يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم ليسوا فى حاجة إلى إصلاح دينهم ولا دنياهم كما فعل اليهود مثل ذلك

والخلاصة- إن هذه الآيات تبين لنا سنة الله فى البشر، وأن الجزاء إنما يكون على الأعمال لا على الأسماء والألقاب. (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي قد جاءكم رسولنا الذي بشّرتم به فى كتبكم وأخبركم به أنبياؤكم، فقد جاء على لسان موسى (أنه سيقيم نبيا من بنى إسماعيل إخوتكم) وعلى لسان عيسى (أنه سيجيئ البارقليط روح الحق الذي يعلمكم كل شىء) وفى الإنجيل الرابع إن اليهود أرسلوا كهنة ولاويين (أحبارا) فسألوا يوحنا عليه السلام: أأنت المسيح؟ قال: لا. أأنت إيليا؟ قال: لا. أأنت النبىّ؟ قال: لا. هذا الرسول هو محمد بن عبد الله النبي الأمى يبين لكم على فترة من الرسل أي على انقطاع منهم وطول عهد بالوحى- جميع ما أنتم فى حاجة إليه من أمور دينكم ودنياكم من عقائد أفسدتها عليكم نزغات الوثنية، وأخلاق وآداب صحيحة أفسدها عليكم إفراطكم فى الأمور المادية والروحية، وعبادات وأحكام تصلح أمور الأفراد والمجتمع. ويدخل فى ذلك ما بينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب لإقامة الحجة عليكم، ولولا أنه رسول من عند الله لما تسنى له أن يعرف شيئا مما جاء به. وقد أرسل- صلوات الله عليه- وقد فشا التغيير والتحريف فى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها، فاختلط فيها الحق بالباطل والصدق بالكذب، وصار ذلك عذرا ظاهرا فى إعراض الخلق عن العبادات، إذ لهم أن يقولوا: يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك، ولكن كيف نعبدك؟ فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فى ذلك الحين لإزالة هذا العذر الذي بينه سبحانه بقوله: (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أي إننا إنما بعثناه إليكم كراهة أن تقولوا ما جاءنا من بشير يبشرنا بحسن العاقبة للمؤمنين، وينذرنا بسوء عاقبة المفسدين الضالين

[سورة المائدة (5) : الآيات 20 إلى 26]

ثم بين أنه أزال هذا العذر فقال: (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) يبين لكم أمر النجاة والخلاص والسعادة الأبدية، وأنها منوطة بالإيمان والأعمال، وأن الله لا يحابى أحدا. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن دلائل قدرته نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته فى الدنيا، وفى ذلك رمز لكم إن كنتم من ذوى الأحلام إلى ما يكون له من المنزلة فى الدار الآخرة. روى ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام فرغّبهم فيه وحذّرهم، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله فو الله لتعلمن أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع ابن حريملة ووهب بن يهودا: إنا ما قلنا لكم هذا، وما أنزل من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل الله بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله الآية. [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أقام سبحانه الحجة على بنى إسرائيل، وأثبت لهم رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم بما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال غرورهم، وهم مع كل هذا لم يزدادوا إلا كفرا وعنادا- قص علينا فى هذه الآيات خبرا من أخبارهم مع موسى عليه السلام، وهو المنقذ لهم من الرقّ والعبودية واضطهاد المصريين لهم إلى الحرية والاستقلال، لكنهم مع هذا كله كانوا يخالفونه ويعصون أوامره- ليعلم الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن مكابرتهم للحق خلق من أخلاقهم، توارثوها من أسلافهم، وتأصلت فى طباعهم، فلا بدع إذا هم أعرضوا عن دعوتك، وصدوا عن هديك- وفى هذا من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى، إلى ما فيه من زيادة معرفة طبائع الأمم، وسنن الاجتماع البشرى. الإيضاح (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي واذكر أيها الرسول الكريم لبنى إسرائيل وسائر من تبلغهم دعوتك حين قول موسى لقومه بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه وأخرجهم من ذلك البلد الظالم أهله: يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم واشكروه على ذلك بالطاعة له، لأن ذلك يوجب مزيدها كما قال تعالى: «لَئِنْ

شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» وتركها يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد كما قال تعالى «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» . وقد بين لهم موسى أصناف هذه النعم التي منحها لهم مولاهم وحصرها فى ثلاثة أشياء: (1) وهو أرفعها قدرا وأعلاها ذكرا، أنه جعل كثيرا منهم أنبياء كموسى وهرون ومن كان قبلهما، وقد حكى ابن جرير أن السبعين الذين اختارهم موسى ليصعدوا معه الجبل حين يصعده لمناجاة ربه صاروا كلهم أنبياء، والمعروف أن النبوة عند أهل الكتاب المراد منها الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع فى المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل، وقد كان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بما فى التوراة ويعملون بها حتى المسيح عليه السلام. (2) أنه جعلهم ملوكا، والمراد من الملك هنا الحرية فى تدبير أمورهم وأمور أسرهم بأنفسهم، وفى هذا من تعظيم هذه النعمة ما لا يخفى، يؤيد هذا ما رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا» وما رواه أبو داود عن زيد بن أسلم «من كان له بيت وخادم فهو ملك» . ولا شك أن من كان متمتعا بمثل هذا كان متمتعا بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية فى التصرف فى سياسة بيته، والناس يقولون إلى الآن لمن كان مخدوما مع عشيرته هانئا فى معيشته مالكا لمسكنه (هذا ملك- أو ملك زمانه) يريدون أنه يعيش عيشة الملوك. (3) أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، أي عالمى زمانهم وشعوبه التي كانت مستعبدة للطغاة من الملوك فقد خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام، فقد فلق البحر لهم وأهلك عدوهم، وأورثهم أموالهم، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأظل فوقهم الغمام. وبعد أن ذكّرهم موسى بهذه النعم وشرحها لهم- أمرهم بمجاهدة العدو، وأبان لهم أن الله ناصرهم ما نصروه فقال:

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) المقدسة المطهرة من الوثنية، لما بعث الله فيها من الأنبياء الدعاة إلى التوحيد، روى ابن عساكر عن معاذ بن جبل أن الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات، وبعضهم يسمى القسم الشمالي من هذا القطر باسم سورية، والباقي باسم فلسطين، أو بلاد المقدس، أو الأرض المقدسة، أو أرض الميعاد، لأن الله وعد بها ذرية إبراهيم، ويدخل فيما وعد الله به إبراهيم الحجاز وما جاوره من بلاد العرب. فقول موسى: كتب الله لكم، يريد به ما وعد الله به إبراهيم من حق السكنى فى تلك البلاد المقدسة، لا أن المراد أنها تكون كلها ملكا لهم لا يزاحمهم فيها أحد، لأن هذا مخالف للواقع، ولن يخلف الله وعده، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح. ونص هذا الوعد فى سفر التكوين من التوراة إنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب وقال: (لنسلك أعطى هذه الأرض) وجاء فيه أيضا فى ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: (لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات) . (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي لا نرجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى والرشاد إلى الوثنية والفساد فى الأرض، بالظلم والبغي واتباع الأهواء، فإن فى هذا الرجوع خسرانا لكم، إذ تخسرون فيه هذه النعم، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء شكركم، فتحرمون من خيراتها وبركاتها، وقد جاء فى بعض أوصافها (إنها تفيض لبنا وعسلا) وتعاقبون بالتيه أربعين سنة ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم. (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) الجبار لغة: الطويل القوىّ المستكبر العاتي المتمرد الذي يجبر غيره

على ما يريد من قولهم: نخلة جبارة، أي طويلة لا ينال ثمرها بالأيدى. إن سكان تلك البلاد فى ذلك الحين هم بنى عناق، وكانوا أولى قوة وبأس، طوال القامة ضخام الأجسام، وقد ورد فى وصفهم فى الإسرائيليات من الخرافات التي كان يبثها اليهود فى المسلمين ما لا يصدقه العقل ولا ينطبق على ما عرف من سنن الله فى خلقه كقولهم: إن العيون (الجواسيس) الاثنى عشر الذين بعثهم موسى إلى ما وراء الأردن ليتجسسوا ويخبروه بحال تلك الأرض ومن فيها قبل أن يدخلها قومه، رآهم أحد الجبارين فوضعهم كلهم فى كسائه، وفى رواية أخرى إن أحدهم كان يجنى الفاكهة فكان كلما أصاب واحدا من هؤلاء العيون وضعه فى كمّه مع الفاكهة- إلى نحو أولئك من روايات بعيدة عن الصدق، فالمصريون هم هم، ونسل الكنعانيين مشاهد معروف لا يمكن أن تكون أصوله على ما وصفوا. وهذه القصة مبسوطة فى السفر الرابع من أسفار التوراة ففيها: إن الجواسيس تجسسوا أرض كنعان كما أمروا وأنهم قطعوا فى عودتهم زرجونة فيها عنقود عنب واحد حملوه بعتلة بين اثنين منهم مع شىء من الرمان والتين، وقالوا لموسى وهو فى ملأ بنى إسرائيل: قد صرنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها فإذا هى بالحقيقة تدرّ لبنا وعسلا وهذا ثمرها، غير أن الشعب الساكنين فيها أقوياء، والمدن حصينة عظيمة جدا، ورأينا ثمّ أيضا بنى عناق- إلى أن قال: وقد رأينا ثمّ من الجبابرة، جبابرة بنى عناق، فصرنا فى عيوننا كالجراد، وكذلك كنا فى عيونهم- وذكر فى فصل آخر: تذمّر بنى إسرائيل من أمر موسى لهم بدخول تلك الأرض، وأنهم بكوا وتمنّوا لو أنهم ماتوا فى أرض مصر أو فى البرّيّة وقالوا: لماذا أتى الرب إلى هذه الأرض حتى نسقط تحت السيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة، أليس خيرا لنا أن نرجع إلى مصر؟ إلخ. والخلاصة- إن موسى لما قرب بقومه من حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلة أمرهم بدخولها مع الاستعداد لقتال من يقاتلهم من أهلها، وإنهم لما غلب عليهم من

الضعف والذل واضطهاد المصريين لهم وظلمهم إياهم، أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم وقوة أهل تلك البلاد وحاولوا الرجوع إلى مصر وقالوا لموسى: إنا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها، وقولهم (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) تأكيد لما فهم مما قبله مشعر بأنه لا علة لا متناعهم إلا ما ذكروه. وفى إجابتهم هذه دليل على منتهى الضعف وحور العزيمة، وعلى أنهم لا يريدون أن يأخذوا شيئا باستعمال قواهم البدنية ولا العقلية، ولا أن يدفعوا الشر عن أنفسهم ولا أن يجلبوا لها الخير، بل يريدون أن يعيشوا بالخوارق والآيات ماداموا فى هذه الحياة ولا شك أن أمة كهذه لا تستحق أن تتمتع بنعيم الاستقلال، وتحيا حياة العز والكرامة، وتكون ذات تصرف مطلق فى شئونها، ومن ثمّ لم تفم لها دولة بعد «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) قوله: يخافون أي يخافون الله تعالى، وقوله: أنعم الله عليهما أي بالطاعة والتوفيق لما يرضيه، حتى فى حال الخوف والذّعر، والتوراة وتبعها المفسرون قاطبة على أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يفنة، وأنهما كانا يحثّان القوم على الطاعة ودخول أرض الجبارين، ثقة بوعد الله بالنصر وتأييده إياهم. (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ادخلوا عليهم باب المدينة فإذا فعلتم ذلك نصركم الله وأيدكم بروح من عنده، بعد أن تعملوا ما فى طاقتكم من طاعة ربكم وتثقوا به فيما لا يصل إليه كسبكم، إن كنتم مؤمنين بأن وعد الله حق، وأنه قادر على الوفاء به، وإنما جزم هذان الرجلان بأنهم سيغلبون إذا دخلوا، ثقة بنبوّة موسى، وهو قد أخبرهم بأن الله أمرهم بدخول الأرض المقدسة التي كتبها لهم، لا جرم قطعا بالنصر والغلبة على العدو. (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أي إنهم أصروا على العناد والتمرد، ولم تغن عنهم عظات الرجلين

شيئا، فأكدوا لموسى أنهم لا يدخلون هذه الأرض مدى حياتهم ما دام فيها الجبارون، لأنهم لا طاقة لهم بالحرب والقتال، إذ ليسوا من أهله، فإن صحت عزيمتك على ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك فقاتلا الجبارين وأخرجاهم من هذه الأرض وإنا هاهنا قاعدون منتظرون. وهذا القول الذي صدر منهم بدل على منتهى الجفاء والبعد عن الأدب، وليس هذا بالغريب من أمثال هؤلاء الذين عبدوا العجل وكان دأبهم الشّغب مع أنبيائهم وقتلوا كثيرا منهم كإشعيا وزكريا، وقص القرآن كثيرا من فساد طباعهم وقسوتهم وغلظتهم. (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) أي قال موسى باثا شكواه إلى ربه، معتذرا من فسق قومه عن أمره الذي يبلّغه عنه- إنى لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسى وأمر أخى ولا أثق بغيرنا أن يطيعك فى اليسر والعسر والمنشط والمكره (المحبوب والمكروه) . وفى هذا إيماء إلى أنه لم يكن موقنا بثبات يوشع وكالب ورغبتهما فى الطاعة إذا أمر الله بدخول أرض الجبارين والتصدّى لقتالهم، فإن من يجرؤ على القتال مع الجيش الكبير فربما لا يجرؤ عليه مع العدد القليل، فلما رأى من بلائه معه فى مقاومة فرعون وقومه، ولسياسة أمور بنى إسرائيل عند مناجاة ربه، ولما يعلم من تأييد الله له بمثل ما أيده به (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفرق: الفصل بين الشيئين أو الأشياء أي فافصل بيننا (يريد نفسه وأخاه) وبين القوم الفاسقين عن طاعتك بقضاء تقضيه بيننا، فتحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، فقد صرنا خصما لهم وصاروا خصما لنا، وقيل إن المعنى: إنك إذا أخذتهم بالعقاب على قسوتهم فلا تعاقبنا معهم فى الدنيا. (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) التيه: الحيرة، يقال تاه يتيه: إذا تحيّر ومفازة تيهاء إذا تحير فيها سالكها لعدم الأعلام التي يهتدى بها،

والتحريم: المنع أي قال الله لموسى مجيبا دعوته: إن الأرض المقدسة محرمة على بنى إسرائيل تحريما فعليا لا تكليفا شرعيا، مدة أربعين سنة يتيهون فيها فى الأرض: أي يسيرون فيها فى برّية تائهين متحيرين لا يدرون أين مصيرهم. (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الأسى: الحزن، يقال أسيت عليه أسى وأسيت له أي فلا تحزن عليهم، لأنهم فاسقون متمردون مستحقون لهذا التأديب الإلهىّ جاء فى الفصل الرابع من سفر العدد أن بنى إسرائيل لما تمردوا وعصوا أمر ربهم، سقط موسى وهرون على وجوههما أمامهم، وأن يوشع وكالب مزّقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد وعن الخوف من الجبارين ليطيع، فهمّ الشعب برجمهما وطهر مجد الرب لموسى فى خيمة الاجتماع (وقال الرب لموسى: حتى متى يهيننى هذا الشعب؟ حتى متى لا يصدقوننى بجميع الآيات التي عملت فى وسطهم؟ إنى أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيّرك شعبا أكبر وأعظم منهم) فشفع موسى فيهم لئلا يشمت بهم المصريون وبه، فقبل الرب شفاعته ثم قال (إن جميع الرجال الذين رأوا مجدى وآياتي التي عملتها فى مصر وفى البرية وجربونى الآن عشر مرات ولم يسمعوا قولى، لن يروا الأرض التي خلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانونى لا يرونها) واستثنى الرب كالبا فقط، ثم قال (أنا الرب قد تكلمت، لأفعلنّ هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علىّ، فى هذا القفر يفنون، وفيه يموتون) . وإن فى هذا العقاب الإلهىّ لعبرة لأولى الألباب، يستفيدون منها أن الشعوب التي تنشأ فى مهد الاستعباد تذهب أخلاقها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة وتأنس بالمهانة، وإذا طال عليها الأمد أصبحت تلك الصفات غرائز وطباعا خلقية لها، فإذا خرجوا من بيئتهم ورفع عنهم نير الظلم والاستعباد حنّوا إلى ما كانوا فيه، وتاقت نفوسهم إلى الرجوع إليه، وهذا شأن البشر فى جميع ما يألفون، ويجرون عليه من خير وشر.

[سورة المائدة (5) : الآيات 27 إلى 32]

وقد أفسد ظلم الفراعنة فطرة بنى إسرائيل فى مصر وطبع عليهم بطابع الذلة والمهانة، وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من العبودية إلى نعيم الحرية، ومع هذا كله كانوا إذا أصابهم نصب أو جوع أو كلّفوا أمرا يشق عليهم يتطيرون بموسى، ويذكرون مصر ويحنّون إلى العودة إليها، وحين غاب عنهم لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليّهم وعبدوه، وكان الله يعلم أن نفوسهم ميتة لا تطيعهم على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ فى الوثنية، ونشأ بعده جيل جديد يعيش فى حرية البداوة وعدل الشريعة. وعلى هذه السّنّة العادلة أمر الله بنى إسرائيل بدخول الأرض المقدسة بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله، لكنهم أبوا واستكبروا فأخذهم بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوما آخرين جعلهم الأئمة الوارثين بهممهم الموافقة لسنته فى الاجتماع. [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

تفسير المفردات

تفسير المفردات التلاوة: القراءة، ولا تكاد تستعمل إلا فى قراءة كلام الله تعالى، والنبأ: الخبر الذي يهتمّ به لفائدة ومنفعة عظيمة، والقربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها، وهو فى الأصل مصدر، فلهذا يستوى فيه الواحد وغيره، وبسط اليد إليه: مدها ليقتله، البوء. اللزوم، وفى النهاية لابن الأثير: أبوء بنعمتك علىّ، وأبوء بذنبي: أي ألتزم وأقر، فطوعت: أي فشجعت وزيّنت، والسوءة: ما يسوء ظهوره، والويل: حلول الشر، والويلة: الفضيحة والبلية: أي وافضيحتاه، والأجل: فى الأصل الجناية، يقال أحل عليهم شرا: أي جنى عليهم جناية، ثم استعمل فى تعليل الجنايات، ثم اتّسع فيه فاستعمل فى كل سبب، والبينات: الآيات الواضحة، والإسراف: البعد عن حد الاعتدال مع عدم المبالاة. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه حسد اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم، وإعراضهم عن دعوته مع وضوح البرهانات الدالة على صدقه وكثرة الآيات المثبتة لنبوته حتى همّ قوم منهم أن يبسطوا أيديهم لقتله وقتل كبار أصحابه، كما ذكر ذلك فى قوله: «إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» ذكر هنا قصة ابني آدم بيانا لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحملهم على عداوته عريقا فى الآدميين وأثرا من آثار سلفهم كان لهؤلاء منه الحظ الأوفر،

الإيضاح

فلا تعجب من حالهم بعد هذا، فإن لهم أشباها ونظائر فى البشر كابنى آدم، وقد حدث بينهم من أجل التحاسد سفك الدماء وقتل الأخ أخاه وبذر تلك البذور السيئة فى بنى آدم إلى قيام الساعة. الإيضاح (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) جمهرة العلماء على أن هذين الابنين هما ابنا آدم من صلبه، وفى سفر التكوين أنهما أول أولاد آدم، اسم أحدهما قاين أو قايين وهو البكر، وسماه المفسرون والمؤرخون من المسلمين قابيل وهو القاتل، واسم الثاني هابيل وهو المقتول، وقد ذكروا روايات غريبة عنهما لا تعرف إلا من الوحى، وفى وصف الله تعالى ما قاله «بالحق» دليل على أن ما يلوكه الناس سوى ذلك فباطل. أي واتل أيها الرسول على أهل الكتاب وغيرهم من الناس ذلك النبأ العظيم نبأ ابني آدم تلاوة كاشفة للحق، مظهرة له مبينة لغرائز البشر وطبائعهم، وهى أنهم جبلوا على التباين والاختلاف الذي يفضى إلى التحاسد والبغي والقتل، ليعلموا الحكمة فيما شرعه الله فى عقاب البغاة من الأفراد والجماعات، ويفقهوا أن بغى اليهود على الرسول والمؤمنين ليس من دينهم فى شىء، وإنما ذاك للحسد والبغضاء، فما مثلهم إلا مثل ابني آدم، إذ حسد شرّهما خيرهما، فبغى عليه فقتله، وكان مآله ما بينه الله فى الآيات بعد: (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) أي اتل عليهم نبأهما وقت تقديم كل منهما القربان وما تبعه من البغي والعدوان، فتقبل الله من أحدهما قربانه لتقواه وإخلاصه وطيب نفسه به، ولم يتقبل من الآخر لعدم التقوى والإخلاص، ولم يبين لنا سبحانه كيف علما أنه تقبّل من أحدهما دون الآخر، وربما كان ذلك بوحي من الله لأبيهما آدم عليه السلام. روى عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث وزرع

فقرب شر ما عنده وأرداه، غير طيّبة به نفسه، وكان الآخر صاحب غنم وقرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها، طيّبة به نفسه، كما روى عن بعضهم أن القربان المقبول كانت تجىء النار من السماء لتأكله ولا تأكل غير المقبول، وكل هذا من الأخبار الإسرائيلية التي ليس لها مستند يوثق به. والقرابين عند اليهود أنواع: (منها) المحرّقات للتكفير عن الخطايا بذبح ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب. (ومنها) التقدمات من الدقيق والزيت والألبان. (ومنها) ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى. والقربان عند النصارى ما يقدسه الكاهن من الخبز والخمر فيتحول فى اعتقادهم إلى لحم المسيح ودمه حقيقة. والقربان عند المسلمين اسم لذبائح النسك كالأضاحى وغيرها. (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أي إنّ من لم يتقبل منه توعّد أخاه وحلف ليقتلنه، فأجابه الآخر أحسن جواب. (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي لا يقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال إلا ممن يتصف بتقوى الله والخوف من عقابه باجتنابه الشرك وسائر المعاصي كالرياء والشح واتباع الأهواء. وخلاصة جوابه- إننى لم أذنب إليك ذنبا تقتلنى به، فطن كان الله لم يتقبل قربانك فحاسب نفسك لتعرف سبب ذلك، فإن الله إنما يتقبل من المتقين، فاحمل نفسك على تقوى الله والإخلاص له فى العمل، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك، قال تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» وفى الحديث: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب» . وفى هذا من العبرة ما كان ينبغى أن يتعظ به المراءون الذين يبغون بما يتصدقون به الصيت واجتلاب الثناء من الناس وحسن الأحدوثة.

ثم بين سبحانه ما يجب للناس من احترام الدماء وحفظ الأنفس ولا سيما بين الإخوة فقال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي إن مددت يدك لتقتلنى فما أنا بالمجازي لك على السيئة بسيئة مثلها فذاك لا يتفق مع شمائلى وصفاتى، إذ لست ممن يتصف بهذه الصفة المنكرة التي تنافى تقوى الله والخوف من عذابه وهذا ما عناه بقوله: ثم بين علة امتناعه عن قتله فقال: (إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إنى أخاف الله وأخشى أن يرانى باسطا يدى إلى الإجرام وسفك الدماء بغير حق، وهو رب العالمين الذي يغذّيهم بنعمه، ويربّيهم بفضله وإحسانه، فالاعتداء على أرواحهم أكبر مفسدة لهذه التربية. ولا شك أن هذا الجواب يتضمن أبلغ الموعظة والاستعطاف لأخيه العازم على الجناية، وليس فى الكلام ما يدل على عدم الدفاع البتة، ولكن فيه التصريح بعدم الإقدام على القتل، وقد روى أحمد والشيخان وغيرهم قوله صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول فى النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل! فما بال المقتول؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه» . ثم قفّى على عظته البالغة، ونصائحه النافعة بالتذكير بعذاب الآخرة، من قبل أن الوعظ لا يؤثر فى كل نفس فقال: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي إنى أريد بالابتعاد من مقابلة الجريمة بمثلها أن ترجع إن فعلتها ملتبسا بإثمى وإثمك أي بإثم قتلك إياى، وإثمك الخاص بك الذي كان من آثاره عدم قبول قربانك، وروى هذا عن ابن عباس. وقيل إن المراد- أن القاتل يحمل فى الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق العباد لا يغفر الله منها شيئا حتى يأخذ لكل ذى حق حقه فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوى حقه إن كانت له حسنات توازى ذلك،

أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازى ذلك إن كان له آثام وأوزار، وما نقص من هذا أو ذاك يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء فى الجنة أو النار. (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فتكون بما حملت من الإثمين من أهل النار فى الآخرة جزاء ظلمك، والنار جزاء كل ظالم. وقد سلك فى عظته وجوها تأخذ بمجامع اللب، ويرعوى لها فؤاد المنصف، فقد تبرأ من كونه سببا فى حرمانه من تقبل القربان، لأن سبب التقبل عند الله هو التقوى. ثم انتقل إلى تذكيره بما يجب من خوف الله، ثم إلى تذكيره بأن المعتدى يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه، ثم إلى تذكيره بعذاب النار لأنها مثوى الظالمين. ثم أبان سبحانه أن المواعظ لم تجد فيه فتيلا ولا قطميرا، فماذا تغنى الزواجر والعظات فى نفس الحاسد الظالم؟ فقال: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) أي إنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه، وما زالت نفسه الأمارة تشجعه عليه حتى تجرأ وقتله عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر فى العاقبة، والمشاهد بالاختبار من أعمال الناس أن من تحدثه نفسه بالقتل يجد من نفسه صارفا أو عدة صوارف تنهاه عن القتل حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح الفعل على الترك، فحينئذ يقتل إن قدر. (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من الذين خسروا أنفسهم فى الدنيا والآخرة، فهو فى الدنيا قد قتل أبر الناس به وهو الأخ التقى الصالح، وخسر لآخرة لأنه لم يصر أهلا لنعيمها الذي أعد للمتقين. ثم بين أن الإنسان قد يستفيد من تجارب سواه فقال: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) لما كان الإنسان فى أعماله موكولا إلى كسبه واختياره، وكان هذا القتل أول قتل وقع من بنى آدم- لم يعرف القاتل كيف يوارى حثه أخيه مقتول الذي يسوؤه أن يراها

بارزة للعيان، وفى ذلك دليل على أن الإنسان فى نشأته الأولى كان ساذجا قليل المعرفة، لكن لما فيه من الاستعداد والعقل كان يستفيد من كل شىء علما واختبارا وتنمية لمعارفه وعلومه، وقد أعلمنا الله أن القاتل تعلم دفن أخيه من الغراب فإنه تعالى بعث غرابا إلى ذلك المكان الذي هو فيه فبحث فى الأرض أي حفر برجليه فيها يفتش عن شىء كالطعام ونحوه فأحدث حفرة فى الأرض فلما رآها القاتل- وقد كان متحيرا فى مواراة أخيه زالت الحيرة واهتدى إلى دفنه فى حفرة مثلها. وقوله ليريه: أي إنه تعالى ألهم الغراب ذلك ليتعلم ابن آدم منه الدفن، وحين رأى القاتل الغراب يبحث فى الأرض، تعلم منه سنة الدفن وظهر له جهله وضعفه، كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنه: (قالَ: يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي قال وا فضيحتى أقبلى فقد آن الأوان لمجيئك، فهل بلغ من عجزى أن كنت دون الغراب علما وتصرفا؟ والندم الذي أظهره من الأمور التي تعرض لكل من يفعل شيئا ثم يتبين له خطأ فعله وسوء عاقبته. روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضى الله عنه «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل (نصيب) من دمها لأنه أول من سن القتل» . والندم الذي يكون توبة هو ما يصدر من الشخص خوفا من الله وحسرة على تعدى حدوده، وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الندم توبة» رواه أحمد والبخاري والحاكم والبيهقي. ثم ذكر نتائج هذا القتل فقال: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) أي إنه بسبب هذا الجرم الفظيع والقتل الشنيع الذي فعله أحد هذين الأخوين ظلما وعدوانا فرضنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه فى قوله «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها

أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» الآية، أو قتل نفسا بغير سبب فساد فى الأرض يسلب الأمن والطمأنينة وإهلاك الحرث والنسل كما تفعله عصابات اللصوص المسلحة المستعدة لقتل الأنفس ونهب الأموال أو إفساد الأمر على الدولة التي تقوم بتنفيذ حدود الله تعالى من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا، إذ الواحد يمثل النوع، فمن استحل دمه بغير وجه حق استحل دم كل واحد كذلك لأنه مثله، والمقصد من ذلك تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه، أي فكما أن قتل كل الخلق مستعظم مستبشع لدى الناس كلهم فكذلك قتل الواحد مستفظع مستعظم، وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» . (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أي ومن كان سببا فى حياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه فكأنما أحيا الناس جميعا، لأن الباعث له على الإنقاذ- وهو الشفقة والرحمة واحترام الحياة الإنسانية والوقوف عند حدود الشرائع- دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من الهلاك لا يدخر وسعا ولا ينى فى ذلك. وفى الآية إرشاد إلى ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع والابتعاد عن ضرر كل فرد، فانتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع، والقيام بحق الفرد بمقدار ما قرر له فى الشرع قيام بحق الجميع، وتقدم أن قلنا إن القرآن كثيرا ما يشير إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها حتى إنه ليسند أعمال المتقدمين منها إلى المتأخرين ويشير إلى أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم. وقد وردت قصة ابني آدم فى الفصل الرابع من سفر التكوين، فقد جاء فيه: إن قايين لما قدّم للرب من ثمرات الأرض وقدم هابيل قربانا من أبكار غنمه ونظر الرب إلى هابيل وقربانه دون أخيه اغتاظ قايين وقتل هابيل فسأله الرب عنه: أين هو فأجاب: لا أعلم، هل أنا حارس لأخى، فلعنه الرب وطرده عن وجه الأرض، فندم

[سورة المائدة (5) : الآيات 33 إلى 34]

واسترحم الرب وخاف أن يقتله كل من وجده، فقال له الرب لذلك: كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه وجعل الرب لقايين علامة لكى لا يقتله كل من وجده، فخرج قايين من لدن الرب وسكن فى أرض نود شرقى عدن. ثم ذكر أن بنى إسرائيل غلاظ القلوب مسرفون فى القتل وفى غيره مع كثرة مجىء الرسل لهم فقال: (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي ولقد جاءتهم الرسل بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم، المؤكدة لوجوب مراعاته والمحافظة عليه، فلم تغن عن الكثير منهم شيئا، إذ لم تهذب نفوسهم ولم تطهّر أخلاقهم، فكانوا بعد كل هذا التشديد عليهم فى أمر القتل يسرفون فيه وفى سائر ضروب البغي والعدوان. والعبرة فى قصة ابني آدم أن الحسد كان مثار أول جناية فى البشر، ولا يزال هو أسّ المفاسد فى المجتمع، فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه نسبا أو جنسا أودينا فيبغى عليه ولو بما فيه ضرر له ولهذا المحسود. والأمة التي تنتشر بين أفرادها هذه الرذيلة قلما تتوجه همم أبنائها إلى ما يرقى شأنهم بين الأمم الأخرى، وقلما يتعاونون على ما فيه صلاحهم وتقدمهم فى سائر مرافق الحياة فيصبحون عبيدا لسواهم بعد أن كانوا سادة، وأذلاء بعد أن كانوا فى عزة وبلهنية من العيش. [سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المحاربة: من الحرب ضد السلم، والسلم: السلامة من الأذى والضرر والآفات والأمن على النفس والمال، والأصل فى معنى كلمة الحرب التعدي وسلب المال، وحربية الرجل: ماله الذي يعيش به، والفساد: ضد الصلاح، وكل ما يخرج عن وضعه الذي يكون به صالحا نافعا يقال إنه فسد، ومن كان سببا لفساد شىء يقال إنه أفسده، فإزالة الأمن على الأنفس أو الأموال أو الأعراض ومعارضته تنفيذ الشريعة العادلة كل ذلك إفساد فى الأرض، والتقتيل: المبالغة فى القتل بكونه حتما لا هوادة فيه ولا عفو من ولى الدم، والتصليب المبالغة فى الصلب أو تكرار الصلب كما قال الشافعي: يصلب بعد القتل ثلاثة أيام بأن يربط على خشبة ونحوها منتصب القامة ممدود اليدين، وربما طعنوا المصلوب ليعجلوا موته، وتقطيع الأيدى والأرجل من خلاف: معناه إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، والعكس بالعكس، والنفي من الأرض: النقل من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الإسلام إذا كانوا مسلمين، فإن كانوا كفارا جاز نفيهم إلى بعض بلاد الإسلام أو بعض بلاد الكفر، والخزي: الذل والفضيحة، ومن قبل أن تقدروا عليهم: أي من قبل التمكن من عقابهم. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فظاعة جرم القتل، وشدّد فى تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا- ذكر هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون فى الأرض حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم، وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أن الآيتين نزلتا فى عكل وعرينة، فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أنس «أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة (وجدوها رديئة المناخ) فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذود

الإيضاح

(بضع من الإيل) وراع وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعى النبي واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب فى آثارهم، فأمر بهم فسّمروا أعينهم (كحلوها بمسامير الحديد المحماة) وقطعوا أيديهم وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم» زاد البخاري أن قتادة الذي روى الحديث عن أنس قال: «بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحثّ على الصدقة وينهى عن المثلة» وروى أبو داود والنسائي عن أبى الزناد «أن رسول الله لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله فى ذلك فأنزل: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) الآية. الإيضاح (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أي إن جزاء الذين يفعلون ما ذكر- عقابهم ما سيذكر بعد على سبيل الترتيب والتوزيع على جناياتهم ومفاسدهم لكل منها ما يليق بها من العقوبة. وقد جعل هذا النوع من العدوان محاربة لله ورسوله، لأنه اعتداء على الحق والعدل الذي أنزل الله على رسوله، ولما فيه من عدم الإذعان لدينه وشرعه فى حفظ الحقوق كما قال تعالى فى المصرّين على أكل الربا «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . فمن لم يذعنوا لأحكام الشريعة يعدوا محاربين لله والرسول، ويجب على الإمام الذي يقيم العدل ويحفظ النظام أن يقاتلهم على ذلك كما فعل أبو بكر بمانعى الزكاة، حتى يفيئوا ويرجعوا إلى أمر الله، ومن رجع منهم فى أي وقت يقبل منه ويكفّ عنه، وقوله: ويسعون فى الأرض فسادا أي يسعون فيها سعى فساد أي مفسدين لما صلح من أمور الناس فى نظم الاجتماع وأسباب المعاش.

وجمهور العلماء على أن الآية نزلت فى قطاع الطريق من المسلمين كما تدل على ذلك حادثة العرنيّين الذين خدعوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإظهار الإسلام حتى إذا تمكنوا من الإفساد بالقتل والسلب عادوا إلى قومهم وأظهروا شركهم معهم، وقد عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بمثل عقوبتهم عملا بقوله تعالى «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» . ويشترط فى المحاربين ثلاثة شروط: (1) أن يكون معهم سلاح وإلا كانوا غير محاربين. (2) أن يكون ذلك فى الصحراء فإن فعلوا ذلك فى البنيان لم يكونوا محاربين كما قال أبو حنيفة والثّورى وإسحق. (3) أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال، فإن أخذوه خفية فهم سرّاق، وإن اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم، وكذا إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا، لأنهم لا يرجعون إلى قوة ومنعة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق. والجزاء الذي يعاقب به أمثال هؤلاء المفسدين أحد أنواع أربعة: إما القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض، وفوض لأولى الأمر الاجتهاد فى تقدير العقوبة بقدر الجريمة. والحكمة فى عدم التعيين والتفصيل أن المفاسد كثيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان وضررها يختلف كذلك، فمنها القتل ومنها السلب ومنها هتك الأعراض ومنها إهلاك الحرث والنسل أي قطع الشجر وقلع الزرع وقتل المواشي والدواب أو الجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد، فللإمام أن يقتلهم إن قتلوا، أو يصلبهم إن جمعوا بين أخذ المال والقتل، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا من الأرض إن أخافوا الناس وقطعوا عليهم الطرق.

وهؤلاء المفسدون ضوعفت لهم العقوبات، فالقتل العمد العدوان يوجب القتل، ويجوز لولى الأمر العفو وترك القصاص، فغلظ ذلك فى قاطع الطريق وصار القتل حتما لاهوادة فيه ولا يجوز العفو عنه، وأخذ المال يتعلق به قطع اليد اليمنى فى غير قاطع الطريق فغلظ فى قاطع الطريق بقطع الطرفين، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال جمع فى حقهم بين القتل والصلب، لأن بقاءهم مصلوبين فى ممر الطرق يكون سببا لاشتهار إيقاع هذه العقوبة، فيصير ذلك زاجرا لغيرهم على الإقدام على مثل هذه المعصية، وإن اقتصروا على مجرد الإخافة عوقبوا بعقوبة خفيفة وهى النفي من الأرض. ثم بين آثار هذه العقوبة فى الدنيا والآخرة فقال: (لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ذلك الذي ذكر من عقابهم- ذل لهم وفضيحة فى الدنيا ليكونوا عبرة وعظة لغيرهم من المسلمين، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم بقدر تأثير إفسادهم فى تدنيس نفوسهم وتدسيتها وظلمة أرواحهم بما اجترحت من الذنوب والآثام. ثم استثنى ممن يستحقون العقوبة من تاب فقال: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أي لكم أن تعاقبوا هذا العقاب الذي تقدم ذكره من قطعوا الطريق وعاثوا فى الأرض فسادا إلا من تابوا إلى الله وأنابوا من قبل أن يتمكن منهم الحاكم ويقدر على عقوبتهم، فإن توبتهم حينئذ وهم فى قوة ومنعة جديرة بأن تكون توبة خالصة لله صادرة عن اعتقاد بقبح الذنب والعزم على عدم العودة إلى فعل مثله وليس سببها الخوف من عقاب الدنيا، وإذا فهم قد تركوا الإفساد ومحاربة الله ورسوله، ومن ثم لا يجمع لهم بين أشد العقاب فى الدنيا والعذاب فى الآخرة بل يصيرون لمغفرة الله ورحمته كما قال: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فاعلموا أن الله غفور لما فرط من ذنوبهم، رحيم بهم يرفع العقاب عنهم، وهذه التوبة ترفع عنهم حق الله كله من عقاب فى الدنيا والآخرة، ولكن تبقى حقوق العباد فلمن سلبهم التائب أموالهم أيام إفساده أن يطالبوه بها، ولمن قتل منهم أحدا أن يطالبوه بدمه، وهم مخيرون بين القصاص والدية والعفو،

[سورة المائدة (5) : الآيات 35 إلى 37]

فقد ثبت عن الصحابة إسقاط الحد عمن تاب، ولم يثبت أن أحدا تقاضى التائب حقا ولم يسمع له الحاكم. وإذا فتوبته لا تصح إلا إذا أعاد الأموال المسلوبة إلى أربابها، فإذا رأى ولىّ الأمر إسقاط حق مالىّ عن المفسد مراعاة للمصلحة العامة وجب أن يضمنه من بيت المال (وزارة المالية) : والخلاصة- إن هانين الآيتين تضمنتا عقاب المحاربين المفسدين فى الأرض الذين يعملون أعمالا مخلّة بالأمن على الأنفس والأموال والأعراض فى بلاد الإسلام معتصمين فى ذلك بقوتهم مع عدم الإذعان لأحكام الشريعة باختيارهم، وهو أن يطاردهم الحكام ويتتبعوهم حتى إذا قدروا عليهم عاقبوهم بتلك العقوبات بعد تقدير كل مفسدة بقدرها ومراعاة المصلحة العامة، ومن تاب قبل القدرة عليه لا يعاقب بما هنا من العقوبات، بل حكمه حكم سائر المسلمين. [سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه فيما سلف أن اليهود قد هموا ببسط أيديهم إلى الرسول حسدا منهم له، وغرورا بدينهم، واعتقادا منهم أنهم أبناء الله وأحباؤه- أمر المؤمنين بأن يتقوه ويبتغوا إليه الوسيلة بالعمل الصالح ولا يفتتنوا بدينهم كما فعل أهل الكتاب. ثم أكد ذلك فبين أن الفوز والفلاح لا يكون إلا بهما، فمن لم ينلهما لا قى من الأهوال يوم القيامة ما لا يستطاع وصفه.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) اتقاء الله هو اتقاء سخطه وعقابه بعدم مخالفة دينه وشرعه، والوسيلة ما يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه واستحقاق مثوبته فى دار الكرامة. روى ابن جرير عن قتادة أنه قال فى تفسير الآية أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وروى أحمد والبخاري وأصحاب السنن من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء- الآذان- اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلت له شفاعتى يوم القيامة» وروى أحمد ومسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىّ فإنه من صلى علىّ صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لى الوسيلة، فإنها منزلة فى الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة» . وبهذا يعلم أن هذه الوسيلة هى أعلى منازل الجنة، فمن دعا الله تعالى أن يجعلها للنبى صلى الله عليه وسلم كافأه النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة، وهى دعاء أيضا والجزاء من جنس العمل. (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) الجهاد من الجهد وهو المشقة والتعب، وسبيل الله هى طريق الحق والخير والفضيلة، وكل جهد فى الدفاع عن الحق وحمل الناس عليه فهو جهاد فى سبيل الله. أي جاهدوا أنفسكم بكفها عن أهوائها، وحملها على النّصفة والعدل فى جميع الأحوال، وجاهدوا أعدائى وأعداءكم، وأتبعوا أنفسكم فى قتالهم ومنعهم من مقاومة الدعوة.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي افعلوا كل هذا رجاء الفوز والفلاح، والسعادة فى المعاش والمعاد والخلود فى جنات النعيم. وبعد فلم يؤثر عن صحابى ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أن الوسيلة هى التقرب إلى الله تعالى بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل كالدعاء ونحوه. ولكن جدّ فى القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين أي جعلهم وسائل إلى الله تعالى والإقسام بهم على الله، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو بعيدا عنها، وكثر هذا حتى أصبح الناس يدعون مع الله أصحاب القبور فى الحاجات أو يدعونهم من دون الله، وألّف بعض الناس كتبا فى هذا، وزعم أنهم يسمعون ويستجيبون للداعى، وشغف العامة بمثل هذا القول المخالف لقول الله تعالى: «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» وقوله: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» والذي عليه المعول فى ذلك أن لفظ التوسل يراد به أحد معان ثلاثة: (1) التوسل إلى الله بطاعته والتقرب إليه بفعل ما يرضيه، وهذا فرض حتم وبه جاءت الشرائع وهو أس كل دين. (2) التوسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدعائه وشفاعته كما كان الصحابة يفعلون، وهذا كان فى حال حياته، ولهذا قال عمر بن الخطاب: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» أي بدعائه وشفاعته، ويوم القيامة يتوسل المؤمنون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته. (3) التوسل بالله بمعنى الإقسام بذاته، وهذا لم تكن الصحابة تفعله فى الاستسقاء ونحوه لا فى حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعد مماته لا عند قبره ولا بعيدا عنه،

ولا يعرف هذا فى شىء من الأدعية المأثورة عندهم، وإنما ينقل شىء من ذلك فى أحاديث ضعيفة أو عمن ليس قوله حجة، وقد قال أبو حنيفة وأصحابه: إن مثل هذا لا يجوز، وقالوا لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك، ولا ينبغى لأحد أن يدعو الله إلا به، وكرهوا أن يقال بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك لأنه لا حقّ للخلق على الخالق. والخلاصة- إن الوسيلة ما تتقرب به إلى الله وترجو أن تصل به إلى مرضاته، بما شرّعه لتزكية نفسك، وقد دل كتاب الله فى جملته وتفصيله على أن مدار النجاة والفلاح هو الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» وقال: «لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» وقال: «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . نعم دلت السنة على أن دعاء المؤمن لغيره قد ينفعه، وثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إيمان عمه أبى طالب فأنزل الله عليه «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» . والخلاصة- إن العمدة فى تقرب الإنسان إلى الله وابتغاء مرضاته هو إيمانه وعمله لنفسه، فإذا لم يعمل لنفسه ما شرعه الله وجعله سبب فلاحه، فهل يكون قد ابتغى إليه الوسيلة بطلب الدعاء من بعض عباده المكرمين أو طلبه منهم بعد موتهم أن يشفعوا له أي يدعوا له. كلا إن الطلب من الميت غير مشروع فضلا عن أنه لا يعلم إن كان مقبولا أو غير مقبول، فإن ذلك من أمور الآخرة «وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» . وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك كله ضعيف بل موضوع، وحديث الأعمى الذي علّمه أن يقول: «أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة» لا يصلح حجة فى هذا الباب، لأنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وقد أمره

النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: «اللهم شفّعه فىّ» وقد رد الله عليه بصره حين دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم. والحلف بالمخلوقات حرام عند أبى حنيفة والشافعي، وحكى إجماع الصحابة على ذلك حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلىّ من أن أحلف بغير الله صادقا، وقد جاء فى الصحيحين أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله» وقال: «لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» . والحلف بالأنبياء ليس بيمين عند مالك وأبى حنيفة والشافعي فلا كفارة فيه، وكذلك الحلف بالمخلوقات المحترمة كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين. ثم أكد ما سبق من أن مدار الفوز والفلاح تقوى الله وتزكية النفس فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وعبدوا غيره من عجل أو صنم أو وثن وهلكوا وهم على هذه الحال قبل التوبة، لو أن لهم ملك ما فى الأرض كلها وضعفه معه ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمره وعبادتهم غيره فافتدوا بذلك كله يوم القيامة ما تقبل الله منهم ذلك فداء وعوضا من عذابهم وعقابهم، بل هو معذبهم عذابا موجعا مؤلما لهم لأن سنته تعالى قد مضت بأن سبب الفلاح والنجاة إنما يكون من نفس الإنسان لا من خارج عنها «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» . وهذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم وسعادتهم يكون بالمسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم، والمسلمون يعتقدون أن العمدة فى النجاة تزكية النفس بالفضائل والأعمال الصالحة.

[سورة المائدة (5) : الآيات 38 إلى 40]

ثم ذكر ما يلاقونه من الأهوال حينئذ فقال: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) المقيم هو الثابت الذي لا يرتحل أبدا، أي يتمنون الخروج من النار دار العذاب والشقاء بعد دخولهم فيها وما هم بخارجين منها البتة [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه عقاب المحاربين الذين يفسدون فى الأرض ويأكلون أموال الناس بالباطل جهرة، وأمر بتقوى الله وابتغاء الوسيلة والجهاد فى سبيله، وهى الأعمال التي يكمل بها الإيمان وتتهذب بها النفوس حتى تنفر من الحرام وتبتعد عن المعاصي. ذكر هنا عقاب اللصوص الذين يأكلونها كذلك خفية، وجمع فى هذه الآيات بين الوازع الداخلى وهو الإيمان والصلاح، والوازع الخارجي وهو الخوف من العقاب والنكال. الإيضاح (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا يا ولاة الأمور والقضاة والحكام يده من الكف إلى الرّسغ، لأن السرقة تحصل بالكف

مباشرة، والساعد والعضد يحملان الكف كما يحملهما معهما البدن، والتي تقطع أولا هى اليمنى لأن التناول غالبا يكون بها. وقد اختلف الأئمة فى المقدار الذي يوجب قطع اليد فى السرقة، فروى عن الحسن البصري وداود الظاهري أنه يثبت القطع بالقليل والكثير لظاهر الآية وللحديث «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده» رواه الشيخان عن أبى هريرة ، وجمهور العلماء من السلف والخلف على أن القطع لا يكون إلا فى سرقة ربع دينار «ربع مثقال من الذهب» أو ثلاثة دراهم من الفضة لحديث عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدا» رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ، ولحديث ابن عمر فى الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع فى مجنّ (ترس) ثمنه ثلاثة دراهم. ويرى الحنفية أن القطع لا يكون إلا فى عشرة دراهم فأكثر لا ما دونها، ولا بد أن يكون المال محفوظا فى حرز وإلا فلا قطع. وتثبت السرقة بالإقرار أو البينة، ويسقط الحد بالعفو عن السارق قبل رفع أمره إلى الامام. (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ) النكال من النكل (بالكسر) وهو قيد الدابة، ونكل عن الشيء امتنع لمانع صرفه عنه، فالنكال ما ينكل الناس ويمنعهم أن يسرقوا. أي اقطعوا أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيّء نكالا وعبرة لغيرهما، ولا عبرة أعظم من قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم العار والخزي، ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم، فالأرواح كثيرا ما تتبع الأموال إذا قاوم أهلها السّراق، وحاولوا منعهم من أخذها. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز فى انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل المعاصي، حكيم فى صنعه فهو يضع الحدود والعقوبات بحسب الحكمة التي توافق

المصلحة، فما أمر بأمر إلا وهو صلاح، ولا نهى عن أمر إلا وهو فساد، وكأنه يقول: اشتدوا على السرق فاقطعوهم يدا يدا ورجلا رجلا. (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن تاب من السرّاق ورجع عن السرقة بعد ظلمه لنفسه بعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس وأصلح نفسه وزكاها بأعمال البر فإن الله يقبل توبته ويرجع إليه بالرضا ويغفر له ويرحمه. ولا يسقط الحد عن التائب ولا تصح التوبة إلا بإعادة المال المسروق بعينه إن كان باقيا وإلا فدفع قيمته إن قدر. ثم بين أن عقاب السراق والعفو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله له ملك السموات والأرض يدبر الأمر فيها بحكمته وعدله ورحمته وفضله، ومن حكمته أنه وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين فى الأرض، وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء ويرحمهم إذا صدقوا فى التوبة وأصلحوا عملهم، وأنه يعذب من يشاء تعذيبه من العصاة تربية له وتأمينا لعباده من أذاه وشره، كما أنه يرحم من يشاء من التائبين برحمته وفضله، ترغيبا لهم فى تزكية أنفسهم، وهو القادر على كل شىء من التعذيب والرحمة لا يعجزه شىء فى تدبير ملكه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 إلى 43]

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) تفسير المفردات الحزن: ألم يجده الإنسان عند فوت ما يحب، وسارع إلى الشيء: إذا أسرع إليه من خارج ليصل إليه، وأسرع فيه: إذا أسرع فيه وهو داخل فيه، وهنا كان الكفار داخلين فى ظرف الكفر، محيطا بهم سرادقه، والفتنة: الاختبار كما يفتن الذهب بالنار فيظهر مقدار ما فيه من الغش والزغل، والسّحت: ما خبث من المكاسب وحرّم، فلزم عنه العار وقبح الذكر كثمن الكلب والخنزير والخمر والرشوة فى الحكم، والقسط: العدل. المعنى الجملي أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن البراء بن عازب قال: «مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بيهودى محمّما «1» مجلودا، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم؟ قالوا: نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم؟ قال: اللهم لا، ولولا

_ (1) التحميم وضع الحمة أي الفحمة فى الوجه، وهو كالتسخيم الذي جاء فى الرواية الأخرى من السخام: وهو سواد القدر

الإيضاح

أنك نشدتنى بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني فى كتابنا الرجم، ولكنه كثر فى أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شىء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذ أماتوه وأمر به فرجم فأنزل الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ- إلى قوله- إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ» . وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عمر قال: «إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال: ما تجدون فى كتابكم؟ قالوا نسخّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إن فيها الرجم (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فجاءوا بالتوراة وجاءوا بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا فقرأ حتى إذا أتى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك فرفع يده فإذا هى تلوح (أي آية الرجم) فقالوا: يا محمد إن فيها الرجم، ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فلقد يجأ عليها (ينحنى) يقيها الحجارة بنفسه» . الإيضاح (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خاطب الله محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله يا أيها النبي فى مواضع كثيرة وما خاطبه بيا أيها الرسول إلا فى هذا الموضع وموضع آخر بعده «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهذا الخطاب للتشريف والتعظيم وتأديب المؤمنين وتعليمهم أن يخاطبوه بوصفه كما كان يفعل بعض أصحابه بقولهم (يا رسول الله) وجهل هذا بعض الأعراب لخشونتهم وسذاجة فطرتهم فكانوا ينادونه (يا محمد) حتى أنزل الله «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» فكفّوا عن ندائه باسمه.

أي لا تهتمّ أيها الرسول بهؤلاء المنافقين الذين يسارعون فى إظهار الكفر والتحيز إلى أعدائه المؤمنين عند ما يرون الفرصة سانحة، فالله يكفيك شرهم، ويقيك ضرّهم، وينصرك عليهم وعلى من شايعهم وناصرهم. والنهى عن الحزن وهو أمر طبعى وليس للإنسان اختيار فيه يراد به النهى عن لوازمه التي يفعلها الناس مختارين من تذكر المصايب وتعظيم شأنها، وبذا يتجدد الألم ويبعد أمد السلوى. ثم بين أن أولئك المسارعين فى الكفر من المنافقين ومن اليهود فقال: (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من المنافقين الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم. (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) الذين هادوا هم اليهود، والمراد بالسماع سماع القبول والاعتقاد بصحة ما يقال، والمراد بالكذب ما يقوله رؤساؤهم فى النبي صلى الله عليه وسلم وفى أحكام دينهم التي يتلاعبون فيها بأهوائهم. أي إن هؤلاء القوم كثيرو الاستماع لكلام الرسول صلوات الله عليه والإخبار عنه لأجل الكذب عليه بالتحريف واستنباط الشبهات، فهم جواسيس بين المسلمين لأعدائهم يبلغون الرؤساء أعداء الإسلام كل ما يقفون عليه، ليكون ما يفترون عليه من الكذب متقبلا، لأنه مبنى على وقائع معينة، يزيدون فى روايتها وينقصون، ويحرفون منها ما يحرفون وقد جرت العادة بأن الكذب لا يجد له نفوقا بين الناس إلا ممن يشاهد ويرى، أما البعيد فيظهر اختلاق كذبه سريعا، ولهذا كانوا ينقلون تلك الأكاذيب لمن لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤساء وذوى الكيد، ليسمعوا منه بآذانهم إما كبرا وتمردا وإما خوفا على أنفسهم وهذا معنى قوله: سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، أي سماعون لأجلهم. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه

فى مواضعه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بإخفائه وكتمانه أو بالزيادة فيه أو بالنقص منه، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له. (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم وأرادوا أن يحابوهما بعدم رجمهما، إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها وارضوا بها، وإن حكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك ولا ترضوا به. وقد سبق أن ذكرنا أنهم جاءوا فسألهم عن حد الزناة فى التوراة فقالوا: نفضحهم ويجلدون، وجاءوا بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها، وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع فإذا هى آية الرجم فاعترفوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر كذبهم وعبثهم بشريعتهم وكتابهم. (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي ومن يرد الله أن يختبر فى دينه فيظهر الاختبار كفره وضلاله فلن تملك له أيها الرسول من الله شيئا من الهداية والرشد فهؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة الله واختباره إياهم مقدار فسادهم، فهم يقبلون الكذب دون الحق وهم محرفون كاتمون لأحكام كتابهم، اتباعا لأهؤائهم ومرضاة لرؤسائهم، وذوى الجاه فيهم: فلا تحزن بعد هذا على مسارعتهم فى الكفر، ولا تطمع فى جذبهم إلى الإيمان، فإنك لا تملك لأحد نفعا، وإنما عليك البلاغ والبيان، ولا تخف عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين من أهل الإيمان، ولهم الخزي والهوان. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي إن أولئك الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يريد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق، لأن إرادته إنما تتعلق بما اقتضته سننه العادلة فى نفوس البشر، من أنها إذا دأبت على الباطل ومرنت على الكيد والشر، وألفت الخلاف والضر، تحيط بها خطيئتها، وتطبق عليها ظلمتها، فلا يبقى لديها لنور الحق منفذ، وتصبح غير قابلة للاستبصار والاعتبار الذي

جعله الله وسيلة للاتعاظ والهداية فهؤلاء الرؤساء من اليهود وأعوانهم لا تقبل طباعهم سواها، فلا تتعلق إرادته سبحانه بتطهيرهم، وإلا كان ذلك خلافا لما اقتضته سننه وتبديلا لنظمه فى خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فخزى المنافقين فى الدنيا هتك أستارهم باطلاع الرسول على كذبهم وخوفهم من القتل، وخزى اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم فى كتمان نصوص كتابهم فى إيجاب الرجم، وعلوّ الحق على باطلهم، وقد صدق الوعيد على كل يهود الحجاز، كما يصدق على كل من يفسدون كفسادهم ولا يغنى عنهم الانتساب إلى نبىّ لم يتبعوه ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكل نبى لم يتبعوه وعذابهم فى الآخرة نجزم بحصوله ولا نعلم مقدار كنهه، وحقيقة أمره. (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب للتأكيد وتقرير المعنى، وإفادة اهتمام المتكلم بأمره وبيان أن أمرهم كله مبنى على الكذب الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد، وهكذا شأن الأمم الذليلة تلوذ بالكذب وتدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر بما يلحقها. وكذلك انتشر بين أفرادها أكل السحت، لأنها كانت تعيش بالمحاباة والرشا فى الأحكام، ففسدت بينها أمور المعاملات وكذلك استبدلت الطمع بالعفة وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات، كما هو دأب سائر الأمم عهد فسادها، وأزمان انحطاطها. (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم، وهذا التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة، فلا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم فى بلادهم وإن تحاكموا إليهم، بل هم مخيرون يرجحون فى كل حال ما يرونه من المصلحة.

وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا، لأن من أخذت منه الجزية تجرى عليه أحكام الإسلام فى البيوع والمواريث وسائر العقود إلا فى بيع الخمر والخنزير، فإنهم يقرّون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه ولا يرجمون، إذ من شروط الرجم الإسلام. (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي وإن اخترت الإعراض عنهم ولم تحكم بينهم فلن يضروك شيئا من الضرر فالله حافظك من ضرهم. (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي وإن اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام. (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي وكيف يحكمونك فى قضية كقضية الزانيين وعندهم التوراة وهى شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته إياها. وخلاصة ذلك- إن أمرهم لمن أعجب العجب، وما سبب ذلك إلا أنهم ليسوا مؤمنين بالتوراة إيمانا صحيحا ولا هم مؤمنين بك، إذ المؤمن بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك. ولكن هؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها لأنه لم يوافق أهواءهم وجاءوك يطلبون حكمك، رجاء أن يوافق أهواءهم ثم يتولون ويعرضون عنه، إذ لم يأت وفق مرادهم. وقد جاء فى سفر التثنية بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها (وإذا وجد رجل مضطجع مع امرأة زوج بعل يقتل الاثنان، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنزع الشر من إسرائيل، وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة

[سورة المائدة (5) : الآيات 44 إلى 47]

لرجل فوجدها رجل فى المدينة فاضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ فى المدينة والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنزع الشر من وسطك) . [سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 47] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) تفسير المفردات التوراة: الكتاب الذي أنزل على موسى، والذين هادوا: هم اليهود، والربانيون: هم المنسوبون إلى الرب بمعنى الخالق المدبر لأمر الملك، والأحبار: واحدهم حبر وهو العالم، بما استحفظوا من كتاب الله أي بما طلب إليهم حفظه منه، وشهداء

المعنى الجملي

أي رقباء على الكتاب وعلى من يريد العبث به: قفّاه به تقفية: جعله يقفو أثره كما قال: «وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ» والفاسقون أي الخارجون من حظيرة الدين المتجاوزون لأحكامه وآدابه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه عجب حال اليهود من تركهم حكم التوراة وهم يعلمونه، وطلبهم من النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم ورضاهم به إذا وافق أهواءهم وتركهم له إذا جاء على غير ما يريدون. ذكر أمر التوراة وأنها أنزلت هداية لبنى إسرائيل ثم أعرضوا عن العمل بها، لما عرض لهم من الفساد، وفى ذلك من العبرة أن الانتماء إلى الدين لا ينفع أهله إذا لم يقيموه ويهتدوا بهديه، وأن إيثار أهل الكتاب أهواءهم على هدى دينهم هو الذي أعماهم عن نور القرآن والاهتداء به. الإيضاح (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) أي إنا أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى وإرشاد للناس إلى الحق، ونور وضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم، وبهذا الهدى خرج بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم، وبذلك النور أبصروا طريق الاستقلال فى أمر دينهم ودنياهم. (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا) أي أنزلناها قانونا يحكم به النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين- موسى ومن بعده من أنبياء بنى إسرائيل إلى عيسى عليه السلام، للذين هادوا أي لليهود خاصة، لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة، ولم يكن لداود وسليمان وعيسى شريعة دونها. (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ) أي ويحكم بها الربانيون والأحبار فى الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء معهم أو يحكمون مع وجودهم بإذنهم بسبب

ما أودعوه من الكتاب وائتمنوا عليه وطلب منهم أنبياؤهم حفظه، كالعهد الذي أخذه موسى بأمر الله على شيوخ بنى إسرائيل بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يحيدوا عنها. ويروى عن أمير المؤمنين على كرم الله وجهه أنه قال: أنا ربانى هذه الأمة، وأطلق لقب حبر الأمة فى الإسلام على ابن عباس رضى الله عنهما، وأطلق لقب الرباني على علىّ المرتضى عليه الرحمة. وقال ابن جرير: الربانيون جمع ربانى وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم، والأحبار جمع حبر وهو العالم المحكم للشىء اه. (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي وكان السلف الصالح منهم رقباء على الكتاب وعلى من تحدّثه نفسه العبث به كما فعل عبد الله بن سلام فى مسألة الرجم، لا كما فعل الخلف من كتمان بعض أحكامه اتباعا للهوى، أو خوفا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده، وطمعا فى صلاتهم إذا هم حابوهم. ومما كتموه صفة النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به. ثم خاطب الله تعالى رؤساء اليهود الذين كانوا زمن التنزيل لا يخافون الله فى الكتمان والتبديل بعد أن قص سيرة السلف الصالح من بنى إسرائيل لعلهم يعتبرون ويرعوون عن غيّهم فقال: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) أي وإذا كان الحال كما ذكر أيها الأحبار ولا شك أنكم لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله من سير أسلافهم- فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خشية أحد، أو طمعا فى منفعة عاجلة منه، واخشوني واقتدوا بمن كان قبلكم من الربانيين والأحبار واحفظوا التوراة ولا تعدلوا عن ذلك، فإن النفع والضر بيدي. (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا) أي ولا تتركوا بيانها للناس والعمل بها لقاء منفعة دنيوية قليلة تأخذونها من الناس كرشوة أو جاه أو غيرهما من الحظوظ العاجلة التي تصدكم

عن الاهتداء بآيات الله وتمنعكم عن الخير العظيم الذي تنالونه من ربكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) أي وكل من رغب عن الحكم بما أنزل الله وأخفاه وحكم بغيره كحكم اليهود فى الزانيين المحصنين بالتحميم، وكتمانهم الرجم وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفى بعضها بنصف الدية، والله قد سوى بين الجميع فى الحكم فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه، وغطوه وأظهروا لهم غيره وقضوا به. قال الرازي نقلا عن عكرمة: إن الحكم بالكفر على من حكم بغير ما أنزل الله- إنما يكون فيمن أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقرّ بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله ولكنه تارك له فلا يدخل تحت هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن أبى صالح قال: الثلاثة الآيات التي فى المائدة ومن لم يحكم بما أنزل الله إلخ. ليس فى الإسلام منها شىء هى فى الكفار، وعن الشعبي أنه قال: الثلاث الآيات التي فى المائدة أولها فى هذه الأمة والثانية فى اليهود والثالثة فى النصارى. وخلاصة المعنى- ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينا به منكرا له كان كافرا لجحوده به واستخفافه بأمره. (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) أي إن الجروح ذوات قصاص يعتبر فى جزائها المساواة بقدر الاستطاعة. وقد جاء فى التوراة فى الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج (وإن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس، وعينا بعين، وسنا بسن، ويدا بيد، ورجلا برجل، وكيّا بكى، وجرحا بجرح، ورضّا برضّ) . وجاء فى الفصل الرابع والعشرين من سفر اللاويين (وإذا أمات أحد إنسانا

فإنه يقتل، ومن أمات بهيمة يعوّض عنها نفسا بنفس، وإذا أحدث إنسان فى قريبه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به، كسر بكسر، وعين بعين، وسن بسن، كما أحدث عيبا فى الإنسان كذلك يحدث فيه) (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص وعفا عن الجاني فهذا التصدق كفارة له، يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه كما عفا عن أخيه. وهذا كقوله تعالى «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من تصدق من جسده بشىء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه، ويقرب منه قوله صلى الله عليه وسلم «أيعجز أحدكم أن يكون كأبى ضمضم؟ كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس» . (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي إن كل من أعرض عما أنزل الله من القصاص المبنى على قاعدة العدل والمساواة بين الناس وحكم بغيره فهو من الظالمين، إذ العدول عن ذلك لا يكون إلا بتفضيل أحد الخصمين على الآخر وغمص حق المفضّل عليه وظلمه. (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) أي وبعثنا عيسى بن مريم بعد هؤلاء النبيين الذين كانوا يحكمون بالتوراة متبعا طريقهم جاريا على هديهم مصدقا للتوراة التي تقدمته بقوله وعمله، فشريعة عيسى عليه السلام هى التوراة، وقد نقلوا عنه فى أناجيلهم أنه قال ما جئت لأنقض الناموس (شريعة التوراة) وإنما جئت لأتمم- أي لأزيد عليها ما شاء الله أن أزيد من الأحكام والمواعظ، ولكن النصارى نسخوها وتركوا العمل بها اتباعا لبولس. (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي وأعطيناه الإنجيل حال كونه مشتملا على الهدى ومنقذا من

الضلال فى العقائد والأعمال، كالتوحيد والتنزيه النافي للوثنية التي هى مصدر الخرافات والأباطيل. وعلى النور الذي يبصر به طالب الحق طريقه الموصل إليه، وهو مصدق للتوراة التي تقدمته، أي إنه مشتمل على النص بتصديقها زيادة على تصديق المسيح لها بقوله وعمله. وقد وصف القرآن الإنجيل بمثل ما وصف به التوراة، وبكونه مصدقا لها، وجعله هدى وموعظة للمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداه، لحرصهم عليه وعنايتهم به: والسر فى ذلك أن أسرار الشريعة وبيان حكمتها والمقصد منها، ومعرفة أن بعد هذه التوراة، وهذا الإنجيل هداية أعم وأشمل وهى التي يجىء بها النبي الأخير (البارقليط) الأعظم. (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) أي وقلنا لهم: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الأحكام، والمراد وأمرناهم بالعمل به، فهو كقوله فى أهل التوراة «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها» . وخلاصة ذلك- زجرهم عن تحريف ما فى الإنجيل وتغييره، مثل ما فعل اليهود من إخفاء أحكام التوراة. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي المتمردون الخارجون عن حكمه. والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بشرع، مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلّت أو كثرت، لا بما فى التوراة خاصة، ويشهد لذلك حديث البخاري «أعطى أهل التوراة التوراة، فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به» وقال الشّهرستانى فى الملل والنحل (جميع بنى إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام، مكلّفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على عيسى عليه السلام

[سورة المائدة (5) : الآيات 48 إلى 50]

لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا ولا حراما، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة) . [سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) تفسير المفردات المهيمن على الشيء: القائم على شئونه وله حق مراقبته وتولى رعايته، والشّرعة والشريعة: مورد الماء من النهر ونحوه، وكل ما شرعت فيه من شىء فهو شريعة. ومن ذلك شريعة الإسلام لشروع أهلها فيها، والمنهاج: السبيل والسنة، والابتلاء: الاختبار، استبقوا: ابتدروا وسارعوا، أن يفتنوك: أي يميلوا بك من الحق إلى الباطل

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بنى إسرائيل، وذكر ما أودعه فيهما من الهدى والنور وما ألزمهم به من إقامتهما وما أوعدهم به من العقاب على ترك الحكم بهما. ذكر هنا إنزاله القرآن على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من الكتب قبله، وأن الحكمة اقتضت تعدد الشرائع والمناهج لهداية البشر. الإيضاح (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي وأنزلنا إليك أيها الرسول الكتاب (القرآن الكريم) الذي أكملنا به الدين مشتملا على الحق مقررا له «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» مصدقا لما تقدمه من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل، ومهيمنا وشهيدا عليها بما بيّنه من حقيقة أمرها، وما كان من حال من خوطبوا بها من نسيان حظ عظيم منها وتحريف كثير مما بقي وتأويله والإعراض عن العمل به. روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) يعنى أمينا عليه يحكم على ما كان قبله من الكتب. (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) أي وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته مما قبله من الكتب الإلهية، وهو أنه رقيب وشهيد عليها، فاحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله إليك فيه من الأحكام، دون ما أنزله إليهم، إذ شريعتك ناسخة لشريعتهم. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) أي ولا تتبع ما يريدون، وهو الحكم بما يسهل عليهم ويخفف احتماله مائلا بذلك عما جاءك من الحق الذي لا شك فيه ولا ريب.

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أي لكل أمة منكم أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها، ومنهاجا وطريقا فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاح سرائرهم من قبل أن الشرائع العملية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع وطبائع البشر واستعداداتهم وإن اتفق الرسل جميعا فى أصل الدين، وهو توحيد الله والإخلاص له فى السر والعلن وإسلام الوجه له. روى عن قتادة أنه قال فى تفسيرها: أي سبيلا وسنة، والسنن مختلفة، للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، كى يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل وروى عنه أنه قال: الدين واحد والشريعة مختلفة. ومن هذا يفهم أن الشريعة هى الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ اللاحق منها السابق وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء. وهذا هو العرف الجاري الآن إذ يخصون الشريعة بما يتعلق بالقضاء وما يتخاصم فيه إلى الحكام. والخلاصة- إن الشريعة اسم للأحكام العملية، وإنها أخص من كلمة (الدين) وتدخل فى مسمى الدين من جهة أن العامل بها يدين لله تعالى بعمله. ويخضع له ويتوجه إليه، مبتغيا مرضاته وثوابه بإذنه. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء تعالى أن يجعلكم أمة واحدة ذات شريعة واحدة ومنهاج واحد تسيرون عليه وتعملون به، بأن يخلقكم على استعداد واحد، وأخلاق واحدة، وطور واحد فى معيشتكم، فتصلح لكم شريعة واحدة فى كل الأزمان، فتكونون كسائر أنواع المخلوقات التي يقف استعدادها عند مستوى معين كالطير أو كالنحل- لفعل ذلك إذ هو داخل تحت قدرته تعالى لا يستعصى عليه.

(وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ولكن لم يشأ ذلك، بل شاء أن يجعلكم نوعا ذا عقل وفكر واستعداد للفهم والعلم، يرتقى فى أطوار الحياة بالتدريج ويخضع لسنة الارتقاء، فلا تصلح له شريعة واحدة فى كل أطواره وفى سائر جماعاته، فكانت الشرائع فى أطوار الطفولة من نوع يغلب عليه المادة، وفى طور التمييز تغلب عليه العواطف والوجدانات النفسية، وفى طور الرشد واستقلال العقل ختمت الشرائع والمناهج بالدين المحمدي المبنى على فتح باب الاجتهاد الفكرى وجعل أمره شورى فى القضاء والسياسة وأصول الاجتماع بين أولى العلم والرأى. والخلاصة- إنه سبحانه عاملنا معاملة المختبر لاستعدادنا فيما آتانا من المناهج والشرائع لتظهر حكمته فى تمييز نوعنا عن غيره من الأنواع التي تدب على وجه البسيطة، بأن جمع لنا بين الحيوانية والملكية. وإنك لو نظرت إلى سالف الشرائع ترى الشريعة اليهودية مبنية على الشدة، وليس لأهلها فيها رأى ولا اجتهاد إذ هى نزلت لقوم ألفوا الذل والاستعباد، فوجب أخذهم بالشدة والصرامة، وترى الشريعة النصرانية تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم للمتغلبين عليهم من أهل السلطة والحكم ويقبلوا كل ما يسامون به من ذل وخسف ويجعلوا عنايتهم بالأمور الروحية وتربية الوجدانات النفسية، وترى الديانة الإسلامية قائمة على أساس الاستقلال والعقل جامعة بين مصالح الروح والجسد «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ولا يليق ذلك إلا بأمة بلغت سن الرشد العقلي والارتقاء الفكرى، ومن ثم كانت أحكامها الدنيوية قليلة فى كتابها، وفوض الأمر فيها إلى الاجتهاد، إذ الراشد يفوض أمره إلى نفسه، ومن ثم صارت صالحة لكل زمان ومكان، إذ مدارها على الاجتهاد وطاعة أولى الأمر، فمنع الاجتهاد فيها يبطل مزيتها ويجعلها لا تصلح لجميع الأزمان ولا لجميع الأمكنة، إذ أنك تعلم أن للزمان والمكان والأحوال من التشريع ما يوافقه، انظر إلى الإمام الشافعي تجد أنه حين كان بالعراق وضع أسسا للتشريع والأحكام (المذهب القديم) فلما انتقل إلى مصر ورأى عادات أهلها وأطوارهم

غير كثيرا من تشريعه إلى ما يناسب الشعب الذي يعيش بين ظهرانيه (المذهب الجديد) وما سرّ هذا إلا ما علمت من خضوع التشريع للزمان والمكان ثم بين أن الشرائع إنما وضعت للاستباق إلى الخير لتجازى كل نفس بما عملت فقال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم فى دينكم ودنياكم، وابتدروا الخيرات وصالح الأعمال، انتهازا للفرصة وإحرازا للفضل، فالسابقون السابقون أولئك المقربون. وإنكم إلى الله دون غيره ترجعون جميعا فى الحياة الثانية فينبئكم عند الحساب بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه فى الدنيا من أمور الدين، ويجازى المحسن على قدر إحسانه، والمسيء بإساءته، فاجعلوا الشرائع سببا للتنافس فى الخيرات، لا لإقامة الشحناء والعداوة بين الأجناس والعصبيات. (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أي إنا أنزلنا إليك الكتاب فيه حكم الله، وأنزلنا إليك فيه: أن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم بالاستماع لهم وقبول كلامهم ولو لمصلحة فى ذلك كتأليف قلوبهم وجذبهم إلى الإسلام، فالحق لا يوصل إليه بطريق الباطل، واحذرهم أن يفتنوك وينزلوك عن بعض ما أنزل الله إليك لتحكم بغيره. أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وعبد الله ابن صوريا وشاس بن قيس من اليهود: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلّنا نفتنه عن دينه فأتوه، فقالوا: يا محمد إنك عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنخاصمهم إليك فتقضى لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك، فأبى ذلك وأنزل الله عز وجل فيهم. (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ- إلى قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) اه. يريد أن الحكمة فى إنزال هذه الآية إقرار النبي على ما فعل والأمر بالثبات على ما سار عليه من التزام حكم الله، وعدم الانخداع لليهود.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي فإن أعرضوا عن حكمك بعد تحاكمهم إليك، فما ذاك إلا لأن الله يريد أن يعذبهم فى الحياة الدنيا قبل الآخرة ببعض ذنوبهم، لأن استثقالهم لأحكام التوراة وتحاكمهم إليك لعلك تتبع أهواءهم، ومحاولتهم لفتنتك عن بعض ما أنزل إليك- كل هذه أمارات على فساد الأخلاق وانحلال روابط الاجتماع، ولا بد أن تكون نتيجتها وقوع العذاب بهم، وقد حل بيهود المدينة وما حولها بغدرهم ما حل، فقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بنى النّضير عنها، وقتل بنى قريظة. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي متمردون فى الكفر مصرّون عليه خارجون من الحدود والشرائع التي اختارها الله لعباده. وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم على عدم إذعانهم لما جاء به من الهدى والدين وإعراضهم عن ذلك النور الذي أنزل إليه. (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟) أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله، فيبغون حكم الجاهلية المبنى على التحيز والهوى لجانب دون آخر وترجيح القوىّ على الضعيف؟. روى «أن بنى النضير تحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فى خصومة كانت بينهم وبين بنى قريظة وطلب بعضهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل وجعل دية القرظي ضعفى دية النّضيرى لمكان القوة والضعف فقال عليه السلام القتلى بواء (سواء) فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت الآية» . وخلاصة ذلك- توبيخهم والتعجيب من حالهم بأنهم أهل كتاب وعلم، ومع ذلك كانوا يبغون حكم الجاهلية الذي يجىء به محض الجهل وصريح الهوى. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي لا أحد أحسن حكما من حكم الله لقوم يوقنون بدينه ويذعنون لشرعه، لأنه حكم جامع بين منتهى العدل والحق

[سورة المائدة (5) : الآيات 51 إلى 53]

من الحاكم، والقبول والإذعان من المحكوم له والمحكوم عليه، وبهذا يحصل التفاضل بين الشرائع الإلهية والقوانين البشرية. والخلاصة- إن مما ينبغى التعجب منه من أحوالهم أنهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر، ويؤثرونه على حكم الله العادل، وفى الأول تفضيل القوىّ على الضعيف واستذلاله واستئصال شأفته، وفى الثاني العدل الذي يستقيم به أمر الخلق، وبه يستتب الأمن والرضا والطمأنينة بين الناس ويشعر كل منهم بالهدوء وراحة الضمير. [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) تفسير المفردات الولاية: ولاية التناصر والمحالفة على المؤمنين، فى قلوبهم مرض: أي إن إيمانهم معتل غير صحيح، الدائرة: ما يدور به الزمان من المصايب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها، والفتح: القضاء، وهو يكون بفتح البلاد وبغير ذلك، وحبطت أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصيام والجهاد معكم فخسروا أجرها وثوابها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بنى الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لى موالى من اليهود كثير عددهم، وإنى أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولّى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبىّ: إنى رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من موالاة موالىّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبىّ «يا أبا الحباب، أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه» قال إذن أقبل فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ... إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) . وروى أرباب السير: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه أحدا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره فى الباطن، ومنهم من دخل معه فى الظاهر وهو مع عدوه فى الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون. وقد عامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه به، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاثة طوائف حول المدينة: بنى قينقاع وبنى النضير، وبنى قريظة- فحاربته بنو قينقاع بعد بدر وأظهروا البغي والحسد، ثم نقض العهد بنو النضير بعد ذلك بستة أشهر، ثم نقض بنو النضير العهد لما خرج إلى غزوة الخندق، وكانوا من أشد اليهود عداوة للنبى صلى الله عليه وسلم، وقد حارب كل طائفة وأظهره الله عليها، وكان نصارى العرب والروم حربا عليه كاليهود.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) إلخ أي لا يوالى أفراد أو جماعات من المسلمين أولئك اليهود والنصارى المعاندين للنبى والمؤمنين، ويعاهدونهم على التناصر من دون المؤمنين، رجاء أن يحتاجوا إلى نصرهم إذا خذل المسلمون وغلبوا على أمرهم. قال ابن جرير: إن الله تعالى نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أن من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليّا من دون الله ورسوله فهو منهم فى التحزب على الله ورسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان ... إلى أن قال: غير أنه لا شك أن الآية نزلت فى منافق كان يوالى يهود أو نصارى جزعا على نفسه من دوائر الدهر لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك اه. ثم ذكر علة هذا النهى فقال: (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي إن اليهود بعضهم أنصار بعض والنصارى بعضهم أنصار بعض، ولم يكن للمؤمنين منهم ولى ولا نصير إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول معهم من العهد من غير أن يبدأهم بقتال ولا عدوان فصار الجميع حربا للرسول ومن معه من المؤمنين. ثم توعد من يفعل ذلك فقال: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي ومن ينصرهم أو يستنصر بهم من دون المؤمنين وهم أعداء لكم فإنه فى الحقيقة منهم لا منكم لأنه معهم عليكم، إذ لا يتصور أن يقع ذلك من مؤمن صادق. قال ابن جرير فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم، فإنه لا يتولى متولّ أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضى دينه فقد عادى من خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه اه. ومن هذا تعلم أنه إذا وقعت الموالاة والمحالفة والمناصرة بين المختلفين فى الدين

لمصالح دنيوية لا تدخل فى النهى الذي فى الآية، كما إذا حالف المسلمون أمة غير مسلمة على أمة مثلها لا تفاق مصلحة المسلمين مع مصلحتها، فمثل هذا لا يكون محظورا. ثم ذكر العلة والسبب فى الوعيد السابق فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن من يوالى أعداء المؤمنين وينصرهم أو يستنصر بهم فهو ظالم بوضعه الولاية فى غير موضعها، والله لا يهديه لخير ولا يرشده إلى حق. ثم أخبر أن فريقا من ضعاف الإيمان يفعل ذلك فقال: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي فترى المنافقين الذين اعتل إيمانهم ولم يصل إلى مرتبة اليقين كعبد الله بن أبىّ وغيره من المنافقين يمتّون إلى اليهود بالولاء والعهود، ويسارعون فى هذه السبيل التي سلكوها، وكلما سنحت لهم الفرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها ليزيد تمكنا وثباتا. ثم ذكر السبب الذي حداهم إلى ذلك فقال: (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي يقولون بألسنتهم: نحن نخشى أن تقع بنا مصيبة من مصايب الدهر فنحتاج إلى نصرتهم لنا، فعلينا أن نتخذ لنا أيادى عندهم فى السراء، ننتفع بها إذا مستنا الضراء. وخلاصة ذلك- إنهم يخشون أن تدول الدّولة لليهود أو المشركين على المؤمنين فيحل بهم العقاب، لأنهم فى شك من نصر الله لنبيه وإظهار دينه على الدين كله، إذ لم يوقنوا بنبوته ولا بصدقها، وهكذا شأن المنافقين فى كل زمان ومكان، فكثير من وزراء بعض الدول الضعيفة يتخذ له يدا عند دولة قوية يلجأ إليها إذا أصابته دائرة فتغلغل نفوذ هذه الدول فى أحشاء هذه الدولة، وضعف استقلالها فى بلادها بعملهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ثم رد على هؤلاء المنافقين وقطع أطماعهم وبشر المؤمنين فقال: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) أي فلعل الله بفضله وصدق ما وعد به رسوله يأتى بالفتح والفصل بين للمؤمنين

ومن يعاديهم من اليهود والنصارى، أو بأمر من عنده فى هؤلاء المنافقين كفضيحتهم أو الإيقاع بهم، فيصبحوا نادمين على ما كتموه وأضمروه فى أنفسهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين، وتوقع الدوائر عليهم. والفتح: إما فتح مكة الذي كان به ظهور الإسلام والثقة بقوته وإنجاز الله وعده لرسوله، وإما فتح بلاد اليهود فى الحجاز كخيبر وغيرها، والأمر إما الإيقاع باليهود وإجلاؤهم عن موطنهم وإخراجهم من حصونهم وصياصيهم، وإما القهر والإيجاف عليهم بالخيل والركاب كبنى قريظة، وإما بإلقاء الرعب فى قلوبهم حتى يعطوا بأيديهم كبنى النّضير، وإما ضرب الجزية على اليهود والنصارى فينقطع أمل المنافقين ويندمون على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم. (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؟) أي ويقول بعض المؤمنين لبعض متعجبين من حال المنافقين، إذا أقسموا بأغلظ الأيمان لهم إنهم معكم وإنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود، فلما حل بهم ما حل أظهروا ما كانوا يسرّونه من موالاتهم وممالأتهم على المؤمنين كما قال فى سورة براءة «وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ» أي فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإسلام تقيّة. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) أي ويقول المؤمنون: حبطت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصوم والجهاد معنا ليقنعونا بأنهم منا، فخسروا بذلك ما كانوا يرجون لها من أجر وثواب لو صلحت حالهم وقوى إيمانهم. وفى هاتين الآيتين إخبار بالغيب، وقد صدق الله وعده، وخذل الكافرين، وفضح المنافقين، والعاقبة للمتقين، ولكن أنّى لهم أن يعتبروا بمثل هذا؟ «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» .

[سورة المائدة (5) : آية 54]

[سورة المائدة (5) : آية 54] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن من يتولّى الكافرين من دون الله يعدّ منهم، وأن الذين يسارعون فيهم مرضى القلوب مرتدون بتولّيهم إياهم، فإن أخفوا ذلك فإظهارهم للإيمان نفاق. بيّن هنا حقيقة دعمها بخبر من الغيب يظهره الزمن المستقبل، فالحقيقة أن المنافقين ومرضى القلوب لا غناء فيهم ولا يعتد بهم فى نصر الدين وإقامة الحق فالله إنما يقيم دينه بصادقى الإيمان الذين يحبهم فيزيدهم رسوخا فى الحق وقوة على إقامته، ويحبونه فيؤثرون ما يحبه من إقامة الحق والعدل على سائر ما يحبون من مال ومتاع وأهل وولد. وخبر الغيب أنه سيرتدّ بعض الذين آمنوا عن الإسلام جهرا ولا يضره ذلك، لأن الله تعالى يسخّر من ينصره ويحفظه. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) روى ابن جرير عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد- أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من عبد القيس- قالوا (أي المرتدون) نصلّى ولا نزكى، والله لا تغصب أموالنا، فكلّم أبو بكر فى ذلك فقيل له: إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها فقال: لا والله، لا أفرق بين شىء

جمع الله بينه، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه، فبعث الله عصابة مع أبى بكر فقاتل على ما قاتل عليه نبى الله صلى الله عليه وسلم حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون (الزكاة) صغرة (واحدهم صاغر، وهو المهين الذليل) أقمياء (واحدهم قمىء، وهو الذليل الضعيف) فأتته وفود العرب فخيرهم بين خطّة محزية أو حرب مجلية، فاختاروا الخطة المخزية (وكانت أهون عليهم) أن يقروا أن قتلاهم فى النار: وأن قتلى المؤمنين فى الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال اه. وعلى هذا فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، قاله قتادة والضحاك، ورجح ابن جرير أن الآية نزلت فى قوم أبى موسى الأشعري من أهل اليمن، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال: - هم قوم أبى موسى- وإن لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبى بكر، لأن الله وعد بأن يأتى بخير من المرتدين بدلا منهم، ولم يقل إنهم يقاتلون المرتدين، ويكفى فى صدق الوعد أن يقاتلوا ولو غير المرتدين. وقد ارتد كثير من القبائل فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، فقد ارتدت إحدى عشرة فرقة منها ثلاث فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: (1) بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي وكان كاهنا، تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن، فأهلكه الله على يدى فيروز الدّيلمى، بيّته فقتله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فسرّ به المسلمون، وقبض عليه السلام من الغد. (2) بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وقد تنبأ مسيلمة وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك: أما بعد

فإنى قد أشركت فى الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب (السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، أما بعد ف إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وكان ذلك سنة عشر، وحاربه أبو بكر، وقتله وحشىّ قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت فى جاهليتى خير الناس، وفى إسلامى شر الناس. (3) بنو أسد وزعيمهم طليحة بن خويلد، وقد تنبأ فبعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فانهزم وهرب إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وارتدت سبع فى عهد أبى بكر، وهم: (1) فزارة قوم عينية بن حصن. (2) غطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري. (3) بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل. (4) بنو يربوع قوم مالك بن نويرة. (5) بعض بنى تميم وزعيمته سجاح بنت المنذر الكاهنة، وقد تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة، ولها قصص طويل فى التاريخ، وصح أنها أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها. (6) كندة قوم الأشعث بن قيس. (7) بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وقد كفى الله المؤمنين شرهم على يد أبى بكر رضى الله عنه، وارتدت قبيلة واحدة فى عهد عمر رضي الله عنه وهم غسّان قوم جبلة بن الأيهم، تنصّر جبلة ولحق بالشام ومات مرتدا. ويروى أن عمر كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا جاء فيه: إن جبلة ورد إلىّ فى سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بنى فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه فاستعدى الفزاري على جبلة إلىّ فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص منى وأنا ملك وهو سوقة، فقلت شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية،

فسأل جبلة التأخير إلى الغد، فلما كان من الليل ركب مع بنى عمه ولحق بالشام مرتدا. وروى أنه ندم على ما فعل وأنشد: تنصّرت بعد الحق عارا للطمة ... ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر. فأدركنى منها لجاج حميّة ... فبعت لها العين الصحيحة بالعور فياليت أمي لم تلدنى وليتنى ... صبرت على القول الذي قاله عمر وهؤلاء المرتدون لم يقاتلهم أحد، فإن أبا بكر هو الذي قاتل جماهير المرتدين بمن معه من المهاجرين والأنصار وقد وصف الله هؤلاء المؤمنين بست صفلت. (1) إنه تعالى يحبهم، وحبّه تعالى وبغضه شأن من شئونه لا نبحث عن كنهه ولا عن كيفيته. (2) إنهم يحبون الله تعالى، وحب المؤمنين لله جاء فى غير موضع من القرآن كقوله: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» وفى حديث أنس فى الصحيحين «ثلاثة من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود فى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى فى النار» . (3، 4) الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين وهما بمعنى ما جاء فى قوله تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» (5) الجهاد فى سبيل الله، وسبيل الله هو طريق الحق والخير الموصلة إلى مرضاته تعالى، ومن أعظم الجهاد بذل النفس والمال فى قتال أعداء الحق، وهو من أكبر آيات المؤمنين الصادقين. (6) كونهم لا يخافون لومة لائم، وفى ذلك تعريض بالمنافقين الذين يخافون لوم أوليائهم من اليهود لهم إذا هم قاتلوا مع المؤمنين، إذ هم لا يرغبون فى جزاء أو ثناء من الناس، بل يعملون العمل لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

[سورة المائدة (5) : الآيات 55 إلى 56]

(ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الذي تقدم من الصفات فضل الله يعطيه من يشا من عباده وبه يمتازون عن غيرهم، وهذه المشيئة وفق السنن التي أقام بها أمر النظام فى خلقه فجعل من الناس الكسب والعمل نفسيا كان أو بدنيا، ومنه سبحانه آلات الكسب والقوى ما بين بدنية وعقلية، حسية ومعنوية، كما أن منه التوفيق والهداية واللطف والمعونة. (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فعلينا ألا نغفل عن فضله ومنته، ولا عما يقتضيه ذلك من الشكر له والإنابة إليه، والإخبات والعبادة له. [سورة المائدة (5) : الآيات 55 الى 56] إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه فى الآيات المتقدمة عن موالاة الكافرين، أمر فى هذه الآية بموالاة من تجب موالاتهم، وهم الله ورسوله والمؤمنون. الإيضاح (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي لا ولىّ لكم أيها المؤمنون ولا ناصر ينصركم إلا الله ورسوله والمؤمنون الصادقون الذين اتصفوا بتلك الصفات الآتية بعد: وفى هذا تعريض بمن ينصر مرضى القلوب فى توليهم الكفار من دون الله ولما كانت كلمة (المؤمنين) تشمل كل من أسلم ولو ظاهرا بيّن المراد منها بقوله: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) قال فى الأساس: العرب تسمى من آمن بالله ولم يعبد الأوثان راكعا، وقال أبو مسلم المراد بالركوع الخضوع

[سورة المائدة (5) : الآيات 57 إلى 63]

أي إن المؤمنين الذين يقومون بحق الولاية والنصرة لكم هم الذين يقيمون الصلاة ويؤدونها حق الأداء باشتمالها على الآداب الظاهرة والباطنة، ويعطون الزكاة مستحقيها وهم خاضعون لأوامر الله مع طيب نفس وهدوء بال لا خوفا ولا رياء ولا سمعة، دون المنافقين الذين يقولون: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ويأتون بصورة الصلاة لا بروحها ومعناها المقصود منها، فإذا هم قاموا إليها قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ) أي إذا كان الله وليكم وناصركم، وكان الرسول والذين آمنوا أولياء لكم بالتبع لولايته فأنتم بذلك حزب الله والله ناصركم، ومن يتولّ الله بالإيمان به والتوكل عليه ويتول الرسول والمؤمنين بنصرهم وشد أزرهم والاستنصار لهم دون أعدائهم فإنهم هم الغالبون، ولا يغلب من يتولاهم، لأنهم حزب الله. [سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 63] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

تفسير المفردات

تفسير المفردات نقم منه كذا: إذا أنكره عليه وعابه به بالقول أو الفعل، والمثوبة: من ثاب إليه إذا رجع، ويراد به الجزاء والثواب، والطاغوت: من الطغيان، وهو مجاوزة الحد المشروع وهو يشمل كل من أطاعوه فى معصية الله تعالى، والسحت: الدنيء من المحرمات. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من دونه وبين العلة فى ذلك فأرشد إلى أن بعضهم أولياء بعض، ولا يوالى المؤمنين منهم أحد، ولا يواليهم ممن يدعون الإيمان إلا مرضى القلوب والمنافقون الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر. أعاد النهى هنا عن اتخاذ الكفار عامة أولياء مع بيان الوصف الذي لأجله كان النهى، وهو إيذاؤهم للمؤمنين بجميع ضروب الإيذاء، ومقاومتهم دينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) أي لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء وأنزلت عليهم الكتب من قبل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ومن قبل نزول كتابنا- أولياء وأنصارا حلفاء، فإنهم لا يألونكم خبالا وإن أظهروا لكم مودة وصداقة،

ذلك لأنهم اتخذوا هذا الدين هزوا ولعبا فكان أحدهم يظهر الإيمان للمؤمنين وهو على كفره مقيم، وبعد اليسير من الزمن يظهر الكفر بلسانه بعد أن كان يبدى الإيمان قولا وهو مستبطن للكفر تلاعبا بالدين واستهزاء به كما قال تعالى عنهم «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» . وكذلك نهى الله عن موالاة جميع المشركين، لأن موالاة المسلمين لهم بعد أن أظهرهم الله عليهم بفتح مكة ودخول الناس فى دين الله أفواجا- تكون قوة لهم وإقرارا على شركهم الذي جاء الإسلام لمحوه من جزيرة العرب. وقد نهج الإسلام مع أهل الكتاب سياسة غير سياسته مع مشركى العرب، فأباح أكل طعامهم ونكاح نسائهم وشرع قبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم. وخصهم هنا بلقب أهل الكتاب ولقّب المشركين بالكفار، وفى آيات أخرى بالمشركين والذين أشركوا، لأنهم لوثنيتهم عريقون فى الشرك والكفر أصلاء فيه، أما أهل الكتاب فالشرك والكفر قد عرض للكثير منهم عروضا وليس من أصل دينهم. (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وخافوا الله أيها المؤمنون فى موالاة هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا حتى لا يضيع الغرض منها وتكون وهنا لكم ونصرا لهم- إن كنتم صادقى الإيمان تحفظون كرامته وتجتنبون مهانته، وتصدقون بالجزاء والوعيد على معصيته تعالى (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) أي وإذا أذّن مؤذنكم داعيا إلى الصلاة سخر من دعوتكم إليها من نهيتم عن ولايتهم من أهل الكتاب والمشركين، واتخذوها هزوا ولعبا. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك الفعل الذي يفعلونه وهو الهزؤ والسخرية

إنما كان لجهلهم بحقيقة الأديان وما أوجب الله فيها من تعظيمه والثناء عليه بما هو أهله، ولو كان عندهم عقل لخشعت قلوبهم كلما سمعوا المؤذن يكبر الله تعالى ويمجده بصوته الندىّ ويدعو إلى الصلاة له والفلاح بمناجاته وذكره، فهو ذكر مؤثّر فى النفوس لا تخفى محاسنه على من يعقل الحكمة فى إرسال الشرائع ويؤمن بالله العلى الكبير. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ؟) أي قل يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى: هل تعيبون علينا من شىء وتكرهوننا لأجله، إلا إيماننا الصادق بالله وتوحيده وإثبات صفات الكمال له، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من قبل على رسله، لقلة إنصافكم، ولأن أكثركم فاسقون خارجون عن حظيرة الإيمان الصحيح وليس لكم من الدين إلا العصبية الجنسية، والتقاليد الباطلة. والخلاصة- إنه ما عندنا سوى ذلك، وهذا مما لا يعاب ولا ينقم منه، بل يمدح صاحبه ويكرم، لكنكم لفسقكم وخروجكم من حظيرة الدين الصحيح عبتم الحسن من غيركم، ورضيتم بالقبيح من أنفسكم. روى ابن جرير عن ابن عباس قال «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبى رافع فى جماعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: (أومن بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا لا نؤمن بمن آمن به فأنزل الله فيهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ... ) » إلخ. وفى قوله: (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) دقة فى الأحكام على الأمم والشعوب، إذ هو يحكم على الكثير أو الأكثر وما عمم إلا استثنى، وقد كان فى أهل الكتاب ناس لا يزالون معتصمين بأصول الدين وجوهره من التوحيد وحب الحق والعدل، وهؤلاء هم الذين سارعوا إلى الإسلام عند ما عرفوا حقيقة أمره وتجلى لهم صدق الداعي إليه

ثم ردّ على الاستفهام التهكمى باستفهام تهكمى مثله فقال: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ) استعمال المثوبة فى الجزاء الحسن أكثر من استعمالها فى الجزاء السيّء، وقيل إن استعمالها فى الجزاء السيّء من باب التهكم والازدراء. أي هل أنبئكم أيها المستهزءون بديننا وأذاننا مما هو شر من عملكم هذا جزاء وثوابا عند الله. وهذا السؤال يستدعى سؤالا منهم عن ذلك الذي هو شر (ما هو) فأجابهم بقوله (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) من لعنه الله: أي جزاء من لعنه على حد قوله تعالى «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى» أي ولكن البر برّ من اتقى أي إن الذي هو شر من ذلك ثوابا وجزاء جزاء من لعنه الله وغضب عليه إلخ. وفى هذا انتقال بهم من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم بما ذكر- إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم، ذلك هو التذكير بسوء حال آبائهم مع أنبيائهم وما كان من جزاء الله لهم على فسقهم وتمردهم بأشد ما جازى به الفاسقين الذين ظلموا أنفسهم- من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت. أما اللعن فقد ذكر فى عدة مواضع من القرآن الكريم مع بيان أسبابه، والغضب الإلهى يستلزم اللعنة، واللعنة تلزمه، إذ هى منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه. وأما جعله منهم قردة وخنازير فقد تقدم فى سورة البقرة «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» وسيأتى فى سورة الأعراف «فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» وجمهرة العلماء على أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير على الحقيقة وانقرضوا، لأن الممسوخ لا يكون له نسل، ونقل ابن جرير عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كما ضرب المثل بقوله «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» .

(أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي إن أولئك الذين اتصفوا بما ذكر من المخازي وشنيع الأمور شر مكانا، إذ لا مكان لهم فى الآخرة إلا النار، وهم أضل عن قصد سواء الطريق ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. ومثل هؤلاء لا يحملهم على الاستهزاء بدين المسلمين وبصلاتهم وأذانهم إلا الجهل وعمى البصيرة. ثم بين حال المنافقين منهم فقال: (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي وإذا جاءكم المنافقون من اليهود قالوا للرسول ولكم إننا آمنا بالرسول وما أنزل عليه، وحالهم الواقعة منهم أنهم دخلوا عليكم وهم مقيمون على الكفر والضلال وخرجوا وهم كذلك، فحالهم عند خروجهم كحالهم عند دخولهم لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول وما نزل من الحق؟ ولكنهم قوم دأبهم الخداع والنفاق كما جاء فى سورة البقرة: «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟» الآية. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) حين دخولهم من قصد تسقّط الأخبار والتوسل إلى ذلك بالنفاق والخداع، وحين خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم كما علمت مما سلف عند قوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) . وفى قوله: وهم قد خرجوا به تأكيد لكونهم حين الخروج كما هم حين الدخول، واحتيج إليه لمجيئه على خلاف المعروف، لأن من كان يجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسمع منه العلم والحكمة، ويرى من أحاسن أخلاقه ما يؤثّر فى القلوب ويلين قاسيها- يرجع عن سوء عقيدته، وتصفو نفسه من كدورتها إلا إذا كان متعنتا مخادعا، فإن الذكرى لا تنفعه، والعظات والزواجر لا تؤثر فيه. وقد كان الرجل يجىء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله حتى إذا رآه وسمع كلامه انجابت عن قلبه ظلمات الكفر والفسوق وآمن به وأحبه، وما شذّ هؤلاء

إلا لسوء نيتهم، وفساد طويّتهم، وذلك ما صرف قلوبهم عن التذكر والاعتبار ووجّه هممهم إلى الكيد والخداع، فلم يكن لديهم عقول تعى وتفقه مغزى الحكم والآداب. ثم ذكر من شئونهم ما هو شر مما سلف فقال: (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي وترى أيها الرسول كثيرا من هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينك هزوا ولعبا- يسارعون فى الظلم والعدوان وتجاوز الحدود التي ضربها الله للناس، وفى أكل السحت وكل ما يعود على فاعله بالضرر فى الدين والدنيا، فهم غارقون فى الإثم والعدوان، فكلما قدروا عليهما ابتدروهما ولم يتأخروا عن ارتكابهما. ثم بالغ فى قبح هذه الأعمال فقال: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي والله ما أقبح هذا العمل الذي يعمله هؤلاء من مسارعتهم فى كل ما يفسد الأخلاق، ويدنّس النفوس، ويقوّض نظم المجتمع، وويل للأمة التي يعيش فيها أمثال هؤلاء، فهلّا نهاهم علماؤهم وزهادهم وعبّادهم عن أفعالهم بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قبل أن يستفحل الشر، ويعم الضّر؟ وإلى هذا أشار بقوله: (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) قال فى الكشاف: لا يسمى العامل صانعا ولا العمل صناعة حتى يتمكن فيه العامل ويتدرب وينسب إليه، وفاعل المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه فى فعل غيره، فإذا فرّط فى الإنكار على المعصية كان أشد إثما وأعظم جرما من الفاعل لها اه. أي هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون فيما ذكر من المعاصي- أئمتهم فى التربية والسياسة، وعلماء الدين من الأحبار والرهبان، لبئس ما كانوا يصنعون من الرضى بهذه الأوزار والخطايا، وتركهم فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. روى عن ابن عباس أنه قال: ما فى القرآن أشد توبيخا من هذه الآية- يريد بذلك أنها حجة على العلماء إذا هم قصروا فى الهداية والإرشاد، وتركوا النهى عن الشرور

[سورة المائدة (5) : الآيات 64 إلى 66]

والآثام التي تفسد نظم الحياة للفرد والمجتمع، فحق على العلماء والحكام أن يعتبروا بهذا النعي على اليهود ساسة وعلماء ومربّين فيزدجروا ويعلموا أن هذه موعظة وذكرى لهم إن نفعت الذكرى. [سورة المائدة (5) : الآيات 64 الى 66] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) تفسير المفردات لليد لغة معان عدة: الجارحة، والنعمة، تقول لفلان عندى يد أشكره عليها، والقدرة كما قال تعالى «أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» أي ذوى القوة والعقول والملك، كما تقول هذه الضيعة فى يد فلان أي ملكه وقال تعالى «الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» أي فى ملكه، وغلّت أيديهم أي أمسكت وانقبضت عن العطاء، وهو دعاء عليهم بالبخل، يداه مبسوطتان أي هو كثير العطاء، والحرب: ضد السلم فهى تصدق بالإخلال بالأمن والسلب والنهب ولو بغير قتل، وبتهييج الفتن والإغراء بالقتل، وإقامة التوراة: العمل بما فيها على أتم الوجوه سواء فى ذلك عمل النفس بالإيمان والإذعان، وعمل الجوارح

المعنى الجملي

والقوى البدنية، وقوله: لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم أي لوسع الله عليهم موارد الرزق، والمقتصدة: المعتدلة فى أمر الدين فلا تغلو بالإفراط ولا تهمل بالتقصير. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة بعض مخازيهم من مسارعتهم فى الإثم والعدوان وأكل السحت إلى نحو أولئك مما اختلت به نظم المجتمع فى الأفراد والجماعات، فأصبحوا قوما أنانية، همة كل واحد منهم جمع المال واكتسابه على أىّ صورة كان وبأى وجه جمع، وقد أثّر هذا فى أخلاقهم وأعمالهم أشد الأثر كما تشهد بذلك كتب دينهم- ذكر هنا أفظع مخازيهم وأقبحها، بجرأتهم على ربهم ووصفهم إياه بما ليس من صفته، وإنكارهم جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم، وعفوه عن عظيم جرمهم توبيخا لهم، وتعريفا لنبيه صلى الله عليه وسلم قديم جهلهم، واحتجاجا له بأنه مبعوث ورسول، إذ أخبر بخفي علومهم ومكنون أخبارهم التي لا يعلمها إلا أحبارهم دون غيرهم من اليهود. روى ابن إسحق والطبراني عن ابن عباس قال «قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس للنبى صلى الله عليه وسلم: إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله (وَقالَتِ الْيَهُودُ ... ) » الآية وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنها نزلت فى فنحاص رأس يهود بنى قينقاع. وروى ابن جرير عن عكرمة مثله، وروى عن مجاهد أنهم قالوا: لقد يجهدنا الله يا بنى إسرائيل حتى جعل يده إلى نحره- يريدون أنه ضيّق عليهم الرزق. وروى عن ابن عباس أنه قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة، لكنهم يقولون إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى ربنا عما يقول الظالمون. الإيضاح (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أي قال ذلك بعض منهم، ونسبه إلى الأمة بناء على التكافل العام بين أفرادها وكونها كالشخص الواحد، وأن الناس فى كل زمان

يعزون إلى الأمة ما يسمعون من بعض أفرادها وقد جرت سنة القرآن أن ينسب إلى المتأخرين ما قاله أو فعله سلفهم منذ قرون. ولا عجب فى صدور هذا القول من بعض الأشخاص منهم، فإنا نرى من المسلمين فى عصرنا مثله فى الشكوى من الله عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق وفى إبّان المصايب. ثم دعا عليهم بالبخل والطرد من رحمته فقال: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) هذا دعاء عليهم بالبخل وانقباض الأيدى عن العطاء والإمساك عن الإنفاق فى سبيل البر والخير وما زالوا أبخل الأمم، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئا إلا إذا كان يرى أن له من ورائه ربحا، كما دعا عليهم بالطرد والبعد من رحمته وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين. وقيل إن المراد بغل الأيدى ربطها إلى الأعناق بالأغلال فى الدنيا أو فى النار أو فيهما، فقد نقل عن الحسن البصري أنه قال: يغلّون فى الدنيا أسارى، وفى الآخرة معذبين بأغلال جهنم، وقال فى تفسير اللعنة: عذّبوا فى الدنيا بالجزية وفى الآخرة بالنار. ثم رد سبحانه عليهم ما قالوه وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء وأن كل ما فى العالم من خير هو سجل من ذلك الجود فقال: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أي بل هو الجواد المتصرف وفق حكمته وسننه فى الاجتماع. وتقتير الرزق على بعض العباد لا ينافى سعة الجود، وسريانه فى كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة فى تفضيل بعض الناس على بعض فى الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق. وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ فى العطاء جهد استطاعته، يعطى بكلتا يديه كما قال الأعشى يمدح جوادا: يداك يدا جود فكفّ مفيدة ... وكفّ إذا ما ضنّ بالزاد تنفق

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي إن هذا الذي أنزلناه عليك أيها النبي من خفىّ أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك، ومن أحوال سلفهم، وشئون كتبهم، وحقائق تاريخهم- هو من أعظم الأدلة على نبوتك، وكان ينبغى أن يجذبهم إلى الإيمان بك، إذ لولا النبوة والوحى ما علمت من هذا شيئا، فلا تعرف الماضي لأنك أمي لم تقرأ الكتب، ولا تعرف الحاضر لأنه من مكرهم الخفىّ، وكيدهم السّرّى- لكنهم لطغيانهم وتجاوزهم الحدود فى الكفر والحسد للعرب لم يجذبهم ذلك إلى الإيمان، ولم يقرب إلا قليلا منهم، وو الله ليزيدين ذلك كثيرا منهم طغيانا فى بغضك وعداوتك، وكفرا بما جئت به. وقال قتادة: حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه. (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي وألقينا بين اليهود والنصارى العداوة والبغضاء فهى لا تنقطع أبدا، وهى على أشدها الآن فى روسيا وألمانيا، وأقلها فى انجلترا وفرنسا. واليهود مع كونهم المديرين لأعظم الأعمال المالية ولهم النفوذ والتأثير فى السياسة وسائر شئون الاجتماع مبغوضون من جماهير النصارى. وقد ألّفت كتب كثيرة فى فرنسا وغيرها فى التحريض عليهم، واستأصلت شأفتهم ألمانيا وكثير من البلاد المجاورة لها بعد الحرب العظمى، وأصبح هذا الشعب عندهم من أقبح شعوب العالم، وكذلك العداوة بين بعض النصارى وبعض لا تزال آثارها تظهر بين حين وآخر لدى الدول الكبرى القوية، فهى دائما فى استعداد لحرب يسحق بها بعضهم بعضا، والحرب القائمة الآن بين الدول المسيحية الكبري أكبر برهان على صدق ذلك. (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) أي كلما هموا بالكيد للرسول وللمؤمنين الصادقين خذلهم الله، وهم إما أن يخيبوا فى سعيهم ولا يتم لهم ما أرادوا من الإغراء والتحريض، وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين.

والمعروف فى كتب السيرة أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومنهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم، ومنهم من كان يؤوى أعداءهم ويساعدهم، ككعب بن الأشرف، وما سبب ذلك إلا الحسد والعصبية، وخوف الأحبار والرهبان من إزالة الإسلام لامتيازاتهم العلمية والدينية التي كانوا معروفين بها فى بلاد الحجاز، فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسية جنسية ليست من طبيعة الدين ولا روحه، والدليل على ذلك أن اليهود كان لهم ضلع بعد ذلك مع المسلمين فى الشام والأندلس، لما رأوا من عدلهم وإزالة الجور والظلم الذي كان عليه الروم والقوط. وكذلك عداوة النصارى للمسلمين كانت سياسية وكانت على أشدها بينهم وبين الروم المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز كالشام ومصر، وكان نصارى البلاد أقرب ميلا إلى المسلمين بعد أن وثقوا بعدلهم، وزال عنهم ظلم الروم مع كونهم من أهل دينهم، وقد جرت العادة أن الناس يتبعون فى العداوة أو المودة ما تمليه عليهم منافعهم ومصالحهم. (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي إن ما يأتونه من عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإيقاد الفتن والحروب لم يكن بقصد الإصلاح للأخلاق وشئون العمران والاجتماع، بل كانوا يقصدون السعى فى الأرض للفساد، ويحاولون الكيد للمؤمنين ومنع اجتماع كلمة العرب، ويودون ألا يخرجوا من الأمية إلى العلم والعرفان، ولا من الوثنية إلى التوحيد، حسدا لهم وحبا فى دوام امتيازهم عنهم. (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) فى الأرض بل يبغضهم، ومن ثم لا ينجح سعيهم، ولا يصلح عملهم، لأنهم يريدون أن يبطلوا حكمته تعالى فى صلاح الناس، وعمران البلاد. ومن ثم أبطل سبحانه كل ما كاده أولئك القوم للنبى صلى الله عليه وسلم والعرب والإسلام، وأصلح بالإسلام ما كانوا خرّبوه من البلاد، ونصر المسلمين على كل من ناوأهم، وكذلك هم تركوا التوراة والإنجيل وهما قد أنزلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح، فزال ملكهم وسلط الله عليهم غيرهم.

ثم ندّمهم على سوء أعمالهم فقال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها ومحونا عنهم ذنوبهم ولم نفضحهم بها، ولأدخلناهم فى الآخرة جنات ينعمون بها. وفى ذلك إعلام من الله بعظم معاصى اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمته، وفتحه باب التوبة لكل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبلغ سيئات اليهود والنصارى، وإخبار بأن الإيمان لا ينجّى إلا إذا شفع بالتقوى، ومن ثم قال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب؟ (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي ولو أقاموا ما فى التوراة والإنجيل المنزّلين بنور التوحيد، المبشّرين بالنبي الذي يأتى من أبناء إسماعيل، والذي قال فيه عيسى عليه السلام: إنه روح الحق الذي يعلمهم كل شى. وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم على هذا النبي الكريم الذي بشرت به كتبهم- لوسع الله عليهم رزقهم، ولأعطتهم السماء مطرها وبركتها، والأرض نباتها وخيرها، كما قال تعالى: «لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» . وفى هذا تنبيه إلى أن ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم، لا من قصور فى فيض الله وعظيم عطائه، وإشارة إلى أنهم لو أقاموهما ما عاندوا النبي ذلك العناد، فالدين عندهم إنما كان أمانى يتمنّونها، وبدعا وتقاليد يتوارثونها، فهم بين غلوّ وتقصير وإفراط وتفريط. ثم ذكر أنهم ليسوا سواسية فى أفعالهم وأقوالهم فقال: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي منهم جماعة معتدلة فى أمر دينها لا تفرط ولا تهمل، وهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود،

والنجاشي وأصحابه من النصارى، وكثير منهم أجلاف متعصبون، ساء ما يعملون من كفرهم بالله واجتراح المعاصي، ويزعم النصارى منهم أن المسيح ابن الله ويكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويكذب اليهود بعيسى ومحمد صلى الله عليهما. والمعتدلون لا تخلو منهم أمة، لكنهم يكثرون فى طور صلاح الأمة وارتقائها، ويقلّون فى طور فسادها وانحلالها، ولا تهلك الأمم إلا بكثرة من يعمل السوء من أشرارها، وقلة من يعمل الصالحات من أخيارها، وهؤلاء المعتدلون هم السباقون إلى كل صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء فى مختلف العصور، ومن ثم قبل هذا الدين الجديد هؤلاء المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب، والمحبين للعلوم والفنون. روي ابن أبى حاتم عن جبير بن نفير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يرفع العلم، قلت: وكيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟ فقال: ثكلتك أمك يا ابن نفير، إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدى اليهود والنصارى، فما أغنى ذلك عنهم حين تركوا أمر الله، ثم قرأ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الآية» . وأخرج أحمد وابن ماجه عن زياد بن لبيد قال: «ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: وذلك عند ذهاب العلم، قلنا: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشىء» . ومغزى هذا أن العبرة فى الأديان هو العمل بها والاهتداء بهديها، وقد كان أهل الكتاب فى ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم مع شدة عصبيتهم الجنسية له، كما هو شأن المسلمين اليوم. وهذه الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال لها نظائر فى آيات أخرى

[سورة المائدة (5) : الآيات 67 إلى 69]

كقوله تعالى: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» وقوله «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» الآية. [سورة المائدة (5) : الآيات 67 الى 69] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) الإيضاح (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي يا أيها الرسول بلّغ إلى الخلق جميع ما أنزل إليك من ربك مالك أمرك ومبلّغك إلى كمالك، ولا تخش فى ذلك أحدا ولا تخف أن ينالك من ذلك مكروه. ثم أكد ما سلف بقوله: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أي وإن لم تفعل ما أمرت به من التبليغ لما أنزل إليك، بأن كتمته ولو إلى حين خوفا من الأذى بالقول أو بالفعل- فحسبك جرما أنك ما بلغت الرسالة ولا قمت بما بعثت لأجله، وهو تبليغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم كما قال تعالى «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» . والحكمة فى التصريح بالأمر بالتبليغ وتأكيده بجعل كتمان بعضه ككتمان

كله، مع العلم بأن الرسل صلوات الله عليهم معصومون من كتمان شىء مما أمرهم الله بتبليغه وإلا بطلت حكمة الرسالة بعدم ثقة الناس بالتبليغ- الحكمة فى ذلك بالنظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إعلامه بأن التبليغ حتم لا يجوز كتمانه على أي حال بتأخير شىء عن وقته على سبيل الاجتهاد، ولولا هذا النص لكان للرسول أن يجتهد بتأخير بعض الوحى إلى أن يقوى استعداد الناس لقبوله، ولا يحملهم سماعه على رده وإيذاء الرسول لأجله. والحكمة بالنسبة إلى الناس أن يعرفوا هذه الحقيقة بالنص، فلا يعذروا إذا اختلفوا فيها باختلاف الرأى والفهم. ومن هذا تعلم أن ما نقل من الأقوال والآراء من جواز كتمان بعض الوحى غير القرآن عن كل الناس أو عن جمهورهم لا يتفق مع الدين فى شىء، ولا يعوّل على ما رووه من الأخبار الضعيفة، والأحاديث الموضوعة فى هذا الباب. والحق الذي لا شبهة فيه أن الرسول بلغ جميع ما أنزل إليه من القرآن، وبيّنه ولم يخصّ أحدا بشىء من علم الدين، وأنه لا امتياز لأحد عن أحد فى علم الدين إلا بفهم القرآن فهما يتوسل إليه بعلم السنة، وآثار علماء الصحابة والتابعين، وعلماء الأمصار فى الصدر الأول، وبمعرفة مفردات اللغة العربية وأساليبها، ومعرفة علوم الكون وشئون البشر وسنن الله فى الخلق. روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أىّ آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس فى الموسم، فنزل علىّ جبريل فقال: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الآية قال- فقمت عند العقبة فقلت: أيها الناس من ينصرنى على أن أبلغ رسالات ربى ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا لا إله إلا الله وأنا رسول إليكم، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة- قال صلى الله عليه وسلم فما بقي رجل ولا أمة ولا صبى إلا يرمون علىّ بالتراب والحجارة

ويقولون: كذاب صابىء فعرض علىّ عارض فقال: اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبونى إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه» . (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يمنعك من فتكهم، مأخوذ من عصام القربة: وهو ما توكأ به أي يربط به فمها من سير جلد أو خيط، والناس هم الكفار الذين يتضمن تبليغ الوحى بيان كفرهم وضلالهم، وفساد عقائدهم وأعمالهم، والنعي عليهم وعلى سلفهم، وكان ذلك يغيظهم ويحملهم على إيذائه صلى الله عليه وسلم بالقول أو بالفعل، وائتمروا به بعد موت أبى طالب وقرروا قتله فى دار الندوة ولكن الله تعالى عصمه منهم، وكذلك فعل اليهود بعد الهجرة. روى الترمذي وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن بضعة رجال من الصحابة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس فى مكة قبل نزول هذه الآية، وكان العباس ممن يحرسه، فلما نزلت ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس» وروى «أن أبا طالب كان يبعث مع رسول الله من يحرسه إذا خرج حتى نزل (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فذهب ليبعث معه، فقال يا عم إن الله حفظنى لا حاجة لى إلى من تبعث» . وقد وضعت هذه الآية وهى مكية فى سياق تبليغ أهل الكتاب وهو مدنى، لتدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عرضة لإيذائهم أيضا، وأن الله تعالى عصما من كيدهم، ولتذكّر بما كان من إيذاء مشركى قومه من قبلهم. ثم ذكر ما هو كالسبب فى العصمة فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي إنه تعالى لا يهدى أولئك القوم الكافرين الذين هم بصدد إيذائك على التبليغ إلى ما يريدون، بل يكونون خائبين، وتتم كلمات الله تعالى حتى يكمل بها الدين. ثم بين أن الانتساب إلى الأديان لا ينفع أهلها إلا إذا عملوا بها فقال: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى فيما تبلغهم عن ربك (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) يعتد به من أمر الدين، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين.

(حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وفيما بشرا به من بعثة النبي الذي يجىء من ولد إسماعيل الذي سماه المسيح روح الحق والبارقليط. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) على لسان محمد وهو القرآن المجيد فهو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين بحسب سنن الله فى الكون. (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي وأقسم بأن الكثير من أهل الكتاب لا يزيدهم القرآن الذي أكمل الله به الدين المنزل على محمد خاتم النبيين إلا غلوّا فى تكذيبهم وكفرا على كفرهم، لأنهم لم ينظروا فيه نظرة إنصاف، بل نظروا إليه بعين العصبية والعدوان، إذ كانوا على تقاليد وثنية، وأعمال وعادات سخيفة، فلم يكن لهم من الدين الذي يدينون به ما يقرّبهم إلى فهم حقيقة الإسلام، ليعلموا أن دين الله واحد، وأن ما سبق بدء وهذا إتمام. أما غير الكثير وهم الذين حافظوا على التوحيد ولم تحجبهم عن نور الحق شتى التقاليد فهم الذين ينظرون إلى القرآن بعين البصيرة، فيعلمون أنه الحق من ربهم، وأن من أنزل عليه هو النبي المبشر به فى كتبهم، فيسارعون إلى الإيمان به بحسب حظهم من سلامة الوجدان واطمئنان النفس، بما لديها من العلم والعرفان. (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال الراغب: الأسى الحزن، وأصله إتباع الفائت بالغم، أي فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين، وحسبك الله ومن اتبعك من مؤمنى قومك ومن مؤمنى أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره من علمائهم. والعبرة للمسلم من هذه الآية أن يعلم أنه لا يكون على شىء يعتدّ به من أمر الدين حتى يقيم القرآن وما أنزل إليه من ربه فيه ويهتدى بهديه، فحجة الله على عباده واحدة، فإذا كان الله لا يقبل من أهل الكتاب قبلنا ما ورثوه من تلك التقاليد التي صدتهم عما عندهم من وحي الله، فإنه لا يقبل منا مثل ذلك مع حفظنا لكتابنا

[سورة المائدة (5) : الآيات 70 إلى 75]

والناس عن مثل هذا غافلون، وإلى حكمة الدين ومقاصده لا ينظرون، ويحسبون أنهم على شىء، ألا إنهم هم الكاذبون. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله، والذين دخلوا اليهودية، والصابئين الذين يعبدون الملائكة ويصلّون إلى غير القبلة، والنصارى، من أخلص منهم الإيمان بما ذكر دواما وثباتا كما فى المؤمنين المخلصين، أو إيجادا وإنشاء كما هو حال المنافقين وغيرهم من الطوائف الأخرى، فلا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من لذات الدنيا وعيشها بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل ثوابه. وفى الآية إيماء إلى أن أهل الكتاب لم يقيموا دين الله، لا الوسائل منه ولا المقاصد، فلا هم حفظوا نصوص الكتب كلها، ولا هم تركوا ما عندهم منها على ظواهرها، ولا هم آمنوا بالله واليوم الآخر على الوجه الذي كان عليه سلفهم الصالح، ولا هم عملوا الصالحات كما كانوا يعملون، إلا قليلا منهم عذّبوا على توحيد الله ورموا بالزندقة لرفضهم تقاليد الكنائس والبدع التي شرعها الأحبار والرهبان، كما أن فيها ترغيبا لمن عدا من ذكروا فى الإيمان والعمل الصالح ليكون لهم من الجزاء مثل ما لأولئك. [سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 75] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه أخذ الميثاق على بنى إسرائيل وبعث فيهم النقباء- أعاد التذكير به هنا مرة أخرى، وبيّن عتوّهم وشدة تمردهم وما كان من سوء معاملتهم لأنبيائهم. الإيضاح (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) الميثاق هو العهد الموثّق، وقد أخذ الله عليهم العهد فى التوراة بتوحيده واتباع الأحكام التي شرعها لهدى خلقه وتحليهم بحلي الفضائل ومكارم الأخلاق، وقد نقضوا هذا الميثاق كما تقدم أول السورة وعاملوا الرسل تلك المعاملة- وهو أنه كلما جاءهم رسول بشىء لا تهواه أنفسهم عاملوه بأحد الأمرين إما التكذيب المستلزم للإعراض والعصيان وإما القتل وسفك الدماء. وخلاصة ذلك- إنهم بلغوا من الفساد واتباع الأهواء أخشنها مركبا، وأشدها

عتوا وضلالا، حتى لم يعد يؤثر فى قلوبهم وعظ الرسل ولا هديهم، بل صار ذلك مغريا لهم بزيادة الكفر والتكذيب وقتل أولئك الهداة البررة والسادة الأخيار. ثم ذكر ما سولته لهم أنفسهم على سوء أفعالهم فقال: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الفتنة الاختبار بشدائد الأمور كتسلط الأمم القوية عليهم بالقتل والتخريب والاضطهاد: أي وظنوا ظنا قويا تمكن من نفوسهم أنه لا تقع لهم فتنة بما فعلوا من الفساد، لأنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، ويعتقدون أن نبوة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب. ثم بين نتائج ذلك فقال: (فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي فعموا عن آيات الله التي أنزلها فى كتبه مرشدة إلى عقابه للأمم المفسدة الظالمة، وعما وضعه من السنن فى خلقه مصدقا لذلك، وصموا عن سماع المواعظ التي جاءهم بها أولئك الرسل وأنذروهم بالعقاب إذا هم خالفوها ونقضوا الميثاق وخرجوا عن هدى الدين، وظلموا أنفسهم واتبعوا أهواءهم وساروا فى غيهم، وانهمكوا فى ضلالهم، فسلط الله عليهم من سامهم الخسف وأوقع بهم البوار والدمار، فجاس البابليون خلال ديارهم، وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا أموالهم وسبوا أولادهم ونساءهم وسلبوهم أموالهم وثلوّا عروش ملكهم، ثم رحمهم الله وتاب عليهم حين أقلعوا عن الفساد وأعاد إليهم ملكهم وعزهم على يد ملك من ملوك الفرس، إذ جاء إلى بيت المقدس وعمره وردّ من بقي من بنى إسرائيل فى أسر بختنصّر إلى وطنهم، ورجع من تفرق منهم فى الأقطار فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا. ثم عموا وصموا مرة أخرى وعادوا إلى ظلمهم وفسادهم فى الأرض وقتلوا الأنبياء بغير حق فقتلوا زكريا وأشعيا وأرادوا قتل عيسى عليه السلام، فسلط الله عليهم الفرس ثم الروم (الرومانيين) فأزالوا ملكهم واستقلالهم.

وفى قوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) إشارة إلى أن عمى البصيرة والصمم عن المواعظ لم يكن للجميع بل كان للكثير منهم، والله تعالى يعاقب الأمم بذنوبها إذا كثرت وشاعت فيها، إذ العبرة بالغالب لا بالأفل النادر الذي لا يؤثر فى صلاح ولا فساد ومن ثم قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» . (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) لنبيه وخاتم أنبيائه من الكيد والمكر وتدبير الإيقاع به وتأليب القبائل والشعوب المختلفة لتكون يدا واحدة للفتك به، وما سبب ذلك إلا اتباعهم للهوى، وأنهم عموا وصموا مرة أخرى فصاروا لا يبصرون ما جاء به من النور والهدى ولا يسمعون ما يتلوه عليهم من الآيات، وسيعاقبهم الله على ذلك بمثل ما عاقبهم به من قبل وينكّل بهم أشد النكال، ويذيقهم أنواع الوبال. وبعد أن عدد قبائح اليهود ومخازيهم شرع يفصل قبائح النصارى ويبطل أقوالهم الفاسدة وآراءهم الزائفة، فقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أي أقسم إن هؤلاء الذين ادّعوا أن الله هو المسيح بن مريم- قد كفروا وصلّوا ضلالا بعيدا، إذ هم فى إطرائه ومدحه غلوا أشد من غلوّ اليهود فى الكفر به وتحقيره، وقولهم عليه وعلى أمه الصدّيقة بهتانا عظيما وقد صارت هذه المقالة هى العقيدة الشائعة عندهم، ومن عدل عنها عدّ مارقا من الدين فقالوا: إن الإله مركب من ثلاثة أصول يسمونها (الأقانيم الثلاثة) وهى الآب والابن وروح القدس فالمسيح هو الابن والله هو الآب وقد حل الآب فى الابن واتحد به فكون روح القدس، وكل واحد من هذه الثلاثة عين الآخرين. وخلاصة ذلك- الله هو المسيح، والمسيح هو الله كما يزعمون. ثم ذكر أن المسيح يكذبكم فى ذلك فحكى عنه: (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي والحال أن المسيح قال لهم ضد ما يقولون. فقد أمرهم بعبادة الله وحده، معترفا بأنه ربه وربهم، ودعا بنى إسرائيل الذين أرسل إليهم إلى عبادة الله وحده، ولا يزال هذا الأمر محفوظا فى الأناجيل التي كتبت لبيان بعض سيرته وتاريخه ففى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية

أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فدين المسيح مبنى على التوحيد المحض، وهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله. وفى هذه المقالة تنبيه إلى ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى لأنه عليه السلام لم يفرق بين نفسه وغيره فى أن دلائل الحدوث ظاهرة على الجميع. وبعد أن أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص، أتبعه بالتحذير من الشرك والوعيد عليه، فقال: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي إن كل من يشرك بالله شيئا من ملك أو بشر أو كوكب أو حجر أو نحو ذلك فيجعله ندّا له أو متحدا به، أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضرر، أو يزعم أنه يقرّ به إليه زلفى فيتخذه شفيعا ليؤثر فى إرادته تعالى وعلمه، ويحمله على شىء غير ما سبق به علمه وخصصته إرادته فى الأزل- من يفعل ذلك فإن الله قد حرم عليه الجنة فى سابق علمه، وبمقتضى شرعه الذي أوحاه إلى جميع رسله، فلا مأوى له إلا النار التي هى دار العذاب والذل والهوان- وما للظالمين لأنفسهم بشركهم بالله من نصير ينصرهم ولا شفيع ينقذهم مما يحل بهم «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» . وفى هذا إيماء إلى أن النصارى كانوا يتكلمون على كثير من القديسين، إذ كانت وثنية الشفاعة قد فشت فيهم وإن لم تكن من أصل دينهم. (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي لقد كفر الذين قالوا إن الله خالق السموات والأرض وما بينهما- ثالث أقانيم ثلاثة، أب والد غير مولود، وابن مولود غير والد، وزوج متتبعة بينهما. والخلاصة- إن الفرق ثلاثة: (1) إن إلههم ثالث ثلاثة (2) إن الله هو المسيح ابن مريم (3) إن المسيح هو ابن الله وليس هو الله والمتأخرون من النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة وأن كل واحد منهما عين الآخر

فالآب عين الابن وعين روح القدس، ولما كان المسيح هو الابن كان عين الآب وروح القدس أيضا، وقد ذكرنا فيما سلف أن النصارى أخذوا عقيدة التثليث من قدماء الوثنيين. ثم ردّ الله عليهم ما قالوه بلا روية ولا بصيرة، فقال: (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ولا يوجد إله إلا من اتصف بالوحدانية وهو الإله الذي لا تركيب فى ذاته ولا فى صفاته، فليس ثمّ تعدد ذوات وأعيان، ولا تعدد أجناس وأنواع، ولا تعدد جزئيات وأجزاء. ثم توعدهم على هذه المقالة فقال: (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وإن لم يتهوا عن قولهم بالتثليث ويتركوه، ويعتصموا بعروة التوحيد ويعتقدوه، فو الله ليصيبّهم عذاب شديد يوم القيامة جزاء كفرهم. وفى الآية إيماء إلى أن هذا العذاب لا يمس إلا الذين كفروا منهم خاصة دون من تاب وأناب إلى الله تعالى ورجع عن عقيدة التثليث وغيرها. ثم تعجب من حالهم بإصرارهم على التثليث بعد أن ظهرت لهم البينات، وقامت عليهم الحجج المبطلة له، والنذر بالعذاب المرتب عليه، فقال: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؟) أي أيسمعون ما ذكر من التفنيد لآرائهم والوعيد عليها، ثم لا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى التوحيد واستغفار الله عما فرط منهم، والحال أن ربهم واسع الرحمة عظيم المغفرة يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ما فرط من الزلات إذا هم آمنوا وأحسنوا واتقوا وعملوا الصالحات. ثم ذكر أن المسيح رسول كغيره من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) أي ليس المسيح إلا رسول من الرسل الذين بعثهم الله لهداية عباده، قد مضت من قبله رسل اختصهم مثله بالرسالة وأيدهم بالآيات، وأمه صديقة فلها فى الفضل مرتبة

[سورة المائدة (5) : الآيات 76 إلى 81]

تلى مرتبة الأنبياء والمرسلين. ونحو الآية قوله: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ» . أما حقيقتهما النوعية والجنسية فهى مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما فهما يأكلان الطعام ليقيما بنيتهما ويمدّا حياتهما لئلا ينحل بدنهما ويهلكا، وكذلك يعرض لهما ما يستلزمه أكل الطعام من الحاجة إلى دفع الفضلات، فلا يمكن أن يكون كل منهما إلها خالقا ولا ربا معبودا، ومن السفه أن يحتقر الإنسان نفسه ويحتقر جنسه ويرفع بعض المخلوقات المساوية له فى الماهية والمشخصات والممتازة بميزات عرضية فيجعل نفسه عبدا لها ويسميها آلهة أو أربابا. وبعد أن بين حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة من الريب، تعجب من حال من يدّعى لهما الربوبية ولا يرعوى عن غيه وضلاله ولا يتأمل فيما هو عليه من أفن الرأى والخطأ، فقال: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) الآيات هى الدلائل القاطعة ببطلان ما يدّعون، ويؤفكون أي يصرفون عن التأمل فيها لسوء استعدادهم وخبث نفوسهم. أي انظر أيها السامع نظرة عقل وفكر، كيف نبين لهؤلاء النصارى الآيات والبراهين البالغة أقصى الغايات فى الوضوح على بطلان ما يدّعون فى أمر المسيح ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها، وكيف لا ينتقلون من مقدماتها إلى نتائجها، ومن مباديها إلى غاياتها، فكأنهم فقدوا عقولهم وصارت أفئدتهم هواء. [سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 81] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الغلو: الإفراط وتجاوز الحد، والأهواء: الآراء التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، واللعن: الحرمان من لطف الله وعنايته، يتولون الذين كفروا: أي يوالونهم ويزينون لهم أهواءهم. الإيضاح (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء النصارى وأمثالهم ممن عبدوا غير الله- أتعبدون من دونه أي متجاوزين عبادته وحده- ما لا يملك لكم ضرا تخشونه أن يعاقبكم به إذا أنتم تركتم عبادته، ولا يملك لكم نفعا ترجون أن يجزيكم به إذا عبدتموه؟. وفى هذا إيماء إلى دحض مقالتهم بالحجة والدليل فإن اليهود، وقد كانوا يعادون المسيح ويقصدونه بالسوء لم يقدر على الإضرار بهم، وأنصاره وصحابته مع شديد محبتهم له لم يستطع إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم، والعاجز عن الضر والنفع كيف يعقل أن يكون إلها؟.

وإذا كان قول النصارى فى المسيح من أشد أنواع الغلوّ فى الدين بتعظيم الأنبياء فوق ما يجب أن يكون لهم من التعظيم وكان إيذاء اليهود له وسعيهم فى قتله من الغلو فى الجمود على تقاليد الدين التي ابتدعوها واتباع أهوائهم بلا علم، وكان هذا الغلوّ هو الذي دعاهم إلى قتل زكريا واشعيا قال تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) سواء السبيل: وسطه الذي لا غلوّ فيه ولا تفريط وهو الإسلام، وضلالهم: ترك شريعتهم واتباعهم الأهواء الفاسدة الموافقة لشهوات النفوس الجامحة بها إلى الحصول على اللذات والإعراض عن الدين جانبا، وضلالهم عنه هو: إعراضهم عن اتباعه. نهى سبحانه أهل الكتاب الذين كانوا فى عصر التنزيل عن الغلوّ الذي كان عليه من قبلهم من أهل ملتهم، وعن التقليد الذي كان سبب ضلالهم، إذ هم قد اتبعوا أهواءهم وتركوا سنن الرسل والنبيين والصالحين من قبلهم، لأن كل أولئك كانوا موحدين وكانوا ينكرون الشرك والغلو فى الدين، فعقيدة التثليث وتلك الشعائر الكنسية المستحدثة من بعدهم كشرع عبادات لم يأذن بها الله، وتحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات بل حرمها القسيسون والرهبان على أنفسهم وعلى من اتبعهم، مبالغة فى التنسك والزهد أو رياء وسمعة، وجعل الأنبياء والصالحين أربابا ينفعون ويضرون بسلطة غيبية لهم فوق سنن الله فى الأسباب والمسببات الكسبية، ولذا جعلوهم آلهة يعبدون من دون الله أو مع الله. كل أولئك قد ضلوا به وأضلوا كثيرا ممن اتبعهم فيه وسيكون سبب شقائهم وعذابهم فى الآخرة إن لم يرجعوا عنه وينيبوا إلى الله منه. وبعد أن بين الله ضلالهم وإضلالهم ذكر أسباب ذلك وأرشد إلى ما أخذهم به، فقال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ

بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي لعن الله الذين كفروا من بنى إسرائيل فى الزبور والإنجيل على لسان هذين النبيين، فقد لعن داود عليه السلام من اعتدى منهم فى السبت أو لعن العاصين المعتدين عامة، وكذلك لعنهم عيسى عليه السلام وهو آخر أنبيائهم، وما سبب ذلك اللعن الذي امتدّ واستمر إلا تماديتهم فى العصيان وتمردهم على الأديان، كما يدل عليه قوله: وكانوا يعتدون. ثم بين سبحانه أسباب استمرارهم على العصيان وتعدى الحدود فقال: (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) أي كان من دأبهم ألا ينهى أحد منهم أحدا عن منكر يقترفه مهما قبح وعظم ضرره، والنهى عن المنكر هو حفاظ الدين، وسياج الفضائل والآداب، فإذا تجرأ المستهترون على إظهار فسقهم وفجورهم ورآهم الغوغاء من الناس قلدوهم فيه، وزال قبحه من نفوسهم، وصار عادة لهم، وزال سلطان الدين من قلوبهم وتركت أحكامه وراءهم ظهريا. وفى الآية إيماء إلى فشوّ المنكرات فيهم وانتشار مفاسدها بينهم، إذ لولا ذلك كان ترك التناهى شأنا من شئونهم، وعادة من عاداتهم. (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) هذا تقبيح لسوء فعلهم وتعجب منه وذم لهم على اقتراف بعضهم للمنكرات وإصرارهم عليها، وسكوت آخرين ورضاهم بها، وفى سوق الآية إرشاد للمؤمنين وعبرة لهم، حتى لا يفعلوا فعلهم فيكونوا مثلهم ويحل بهم من غضب الله ولعنه مثل ما حل ببني إسرائيل. روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا- إلى قوله فاسِقُونَ) ثم قال صلى الله عليه وسلم: كلا، والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ثم لتأخذنّ على يد الظالم ولتأطرنّه (تعطفنّه)

على الحق أطرا ولتقسرنّه على الحق قسرا، أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم» . وأخرج الخطيب من طريق أبى سلمة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفس محمد بيده ليخرجنّ من أمتى ناس من قبورهم فى صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفّوا عن نهيهم وهم يستطيعون» . والآثار فى هذا الباب كثيرة، وفيها وعيد عظيم على ترك التناهى، فهل من مدّكر، وإلى متى نعرض عن أوامر ديننا، ولا نرعوى عن غيّنا، ولا نتّبع أوامر شرعنا؟. وبعد أن ذكر الله لنبيه أحوال أسلافهم ذكر له أحوال حاضريهم مما يدل على رسوخ تلك الملكات فيهم، فقال: (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ترى أيها الرسول الكريم كثيرا من بنى إسرائيل يتولون الذين كفروا من مشركى قومك ويحالفونهم عليك ويحرّضونهم على قتالك، وأنت تؤمن بالله وبما أنزله على رسله وأنبيائه وتشهد لهم بصدق الرسالة وأولئك المشركون لا يؤمنون بكتاب ولا رسول ولا يعبدون إلها واحدا، ولولا اتباع الهوى وتزيين الشيطان لهم أعمالهم ما فعلوا ذلك، ولا دار هذا بخاطرهم، وما استحبّوا العمى على الهدى «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» وقد روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لم يتم لهم ما أرادوا، إذ لم يلبّوا لهم دعوة، ولا استجابوا لهم كلمة. (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) أي بئس شيئا قدموه لأنفسهم فى آخرتهم- الأعمال التي أوجبت سخط الله وعظيم غضبه وسيجزون بها شر الجزاء، إذ سيحيط بهم العذاب ولا يجدون عنه مصرفا، ويخلدون فى النار أبدا، فالنجاة منه إنما تكون برضا الله عن عبده، وهم لم يعملوا إلا ما يوجب سخطه وشديد غضبه

(وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) أي ولو كان أولئك اليهود الذين يتولون الكافرين من مشركى العرب- يؤمنون بالنبي الذي يدّعون اتباعه وهو موسى عليه السلام وما أنزل إليه من الهدى والبينات، لما اتخذوا أولئك الكافرين ممن يعبدون الأوثان والأصنام أولياء وأنصارا، إذ كانت العقيدة الدينية تصدهم عن ذلك وتدفع عنهم هذه الآصار والآثام التي يقترفونها. والخلاصة- إن هذه الولاية بين اليهود والمشركين لم يكن لها من سبب إلا اتفاق الفريقين على الكفر بالله ورسوله، والتعاون على حربه، وإبطال دعوته، والتنكيل بمن آمن به. ويرى مجاهد أن المراد بالذين كفروا المنافقون أي: إن أولئك المنافقين كفار ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه كما يدّعون ما اتخذهم اليهود أولياء لهم، فتولّيهم إياهم من أعظم الأدلة على أنهم يسترون الكفر ويظهرون الإيمان نفاقا، وكان اليهود يتولون المشركين والمنافقين جميعا لاشتراكهم فى عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقد بين الله أسباب هذه الألفة والعلة الجامعة بينهم فقال: (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي ولكن كثيرا منهم متمردون فى النفاق، خارجون عن حظيرة الدين، لا يريدون إلا الرياسة والجاه، ويسعون إلى تحصيلها من أي طريق قدروا عليه، ومتى سار الكثير من الأمة على طريق تبعه الباقون، إذ لا عبرة بالقليل فى سيرة الأمة وأعمالها. وكان الفراغ من مسوّدة تفسير هذا الجزء فى الليلة الثالثة من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية بحلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية، ولله الحمد أولا وآخر، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 مفاسد الجهر بالسوء من القول. 9 سؤال أهل الكتاب للرسول أن ينزل عليهم كتابا من السماء. 13 حدوث الاشتباه فى الأشخاص لتقارب الشبه جد التقارب. 14 المراد من التوفى والرفع فى قوله تعالى: «إنى متوفيك ورافعك إلىّ» . 18 فى التوراة التي بين أيديهم جواز أخذ الربا من غير اليهود. 23 حكمة إرسال الرسل. 29 آية الله فى خلق عيسى كآيته فى خلق آدم 32 عقيدة التثليث عقيدة وثنية. 37 الديانة النصرانية أساسها التوحيد الخالص وحوّلها الكهنة إلى الوثنية. 43 العقود ثلاثة أضرب. 45 الأمر بالتعاون على البر والتقوى. 47 الحكة فى تحريم أكل الميتة والدم. 49 الوقذ تعذيب للحيوان. 52 الاستقسام بالسبح والقرآن. 53 الاستخارة التي ورد النص عليها.

الصفحة المبحث 58 حكم مؤاكلة أهل الكتاب ومناكحتهم. 65 الحكمة فى شرع الوضوء والغسل 69 آيات الله قسمان. 73 نقباء بنى إسرائيل. 75 تحريف الكلم وأنواعه. 79 القرآن يبين كثيرا مما كان يخفيه أهل الكتاب 85 اليهود يعتقدون أنهم شعب الله المختار من سائر البشر 93 عقاب بنى إسرائيل بالتيه أربعين سنة. 98 القرابين لدى اليهود والنصارى والمسلمين. 101 متى يكون الندم توبة؟. 103 العبرة من قصص ابني آدم. 105 جزاء قطاع الطرق. 109 معنى الوسيلة والتوسل. 114 المقدار الذي يوجب قطع اليد عند السرقة. 116 إنكار اليهود لحكم الزاني فى التوراة حتى أطلعهم النبي صلى الله عليه وسلم. 118 كان من وظيفة اليهود التجسس للمشركين فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم 120 اليهودي سماع للكذب على الرسول أكال للسحت. 121 اليهود تركوا التوراة وتحاكموا إلى الرسول ليحكم على حسب أهوائهم. 124 كتمان اليهود لوصف النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به. 128 الإنجيل لا يحتضن أحكاما. 130 الشريعة اسم للأحكام العملية، والدين أعم من ذلك. 130 الشرائع تختلف باختلاف الزمان والمكان.

الصفحة المبحث 133 توبيخ اليهود على طلب حكم الجاهلية وهم أهل كتاب. 135 عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انقسم الكافرون أقساما ثلاثة. 136 الموالاة بين المختلفين فى الدين لمصالح دنيوية ليس بالمنهي عنها. 139 ارتد كثير من القبائل فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده. 142 صفة المؤمن حقا. 143 الله ورسوله ولىّ المؤمنين. 145 النهى عن موالاة أهل الكتاب والمشركين. 146 الإسلام نهج مع أهل الكتاب سياسة غير سياسته مع مشركى العرب. 150 النعي على اليهود لتركهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. 157 المقصد من الأديان العمل بها. 160 كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزل (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فترك ذلك. 161 المسلم ليس على شىء يعتدّ به من الدين حتى يقيم القرآن ويهتدى بهديه. 165 النصارى يقولون: الله هو المسيح والمسيح هو الله. 166 النصارى فرق ثلاث. 170 نهى الله أهل الكتاب عن الغلوّ فى دينهم. 172 كان كثير من أهل الكتاب يوالون المشركين.

تتمة سورة المائدة

الجزء السابع [تتمة سورة المائدة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) تفسير المفردات العداوة: البغضاء يظهر أثرها فى القول والعمل، والمودة: محبة يظهر أثرها في القول والعمل، والناس هم يهود الحجاز ومشركو العرب ونصارى الحبشة فى عصر

المعنى الجملي

التنزيل، والقسيسون: واحدهم قسيس، وقسوس، واحدهم قسّ: وهو الرئيس الديني فوق الشماس ودون الأسقف، والأصل فى القسيسين أن يكونوا من أهل العلم بدينهم وكتبهم، لأنهم رعاة ومفتون، والرهبان، واحدهم راهب: وهو المتبتّل المنقطع فى دير أو صومعة للعبادة وحرمان النفس من التنعيم بالزوج والولد ولذات الطعام والزينة، وذكر القسيسين والرهبان للجمع بين العبّاد والعلماء، تفيض من الدمع: أي تمتلىء دمعا حتى يتدفق من جوانبها لكثرته، مع الشاهدين: أي مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلى الله عليه وسلم وكتابك، الإثابة: المجازاة، وقوله بما قالوا: أي بما قالوه عن اعتقاد. المعنى الجملي بعد أن حاجّ سبحانه وتعالى أهل الكتاب، وذكر من مخازيهم أنهم اتخذوا الدين الإسلامى هزوا ولعبا، وأن اليهود منهم قالوا: يد الله مغلولة، وأنهم قتلوا رسلهم تارة وكذبوهم أخرى، وأن النصارى منهم اعتقدوا عقائد زائفة فمنهم من قال المسيح ابن الله، ومنهم من قال إن الله ثالث ثلاثة، وقد عابهم على ذلك وكرّ عليهم بالحجة إثر الحجة لتفنيد ما كانوا يعتقدون. ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم للمؤمنين ومحبتهم لهم ومقدار تلك المحبة والعداوة، وبين حال المشركين مع المؤمنين بالتبع لهم. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى قال: بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ينظرون إليه ويسألونه فلما لقوه وقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا. وأنزل الله فيهم «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ» الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر ابن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون فى رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة فلما بلغ

الإيضاح

ذلك المشركين بعثوا عمرو بن العاص فى رهط منهم ذكروا أنهم سبقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا: إنه قد خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبى وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءونى نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي قالوا له: استأذن لأولياء الله، فقال ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا فقال لهم ما يمنعكم أن تحيونى بتحيتى؟ قالوا إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة، فقال لهم ما يقول صاحبكم فى عيسى وأمه؟ قالوا بقول عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول فى مريم إنها العذراء الطيبة البتول، قال فأخذ عودا من الأرض فقال: مازاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود «أي مثله فى صغره» فكره المشركون قوله، وتغيرت له وجوههم، فقال: هل تقرءون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا نعم، قال فاقرءوا فقرءوا، وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرءوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق وهذا ما أشار إليه بقوله «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق» . الإيضاح (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي قسما لتجدن أيها الرسول أشد الناس عداوة للذين صدّقوك واتبعوك وصدقوا بما جئتهم به، اليهود والمشركين من عبدة الأوثان الذين اتخذوها آلهة يعبدونها من دون الله. وأشد ما لاقى النبي صلى الله عليه وسلم من العداوة والإيذاء، كان من يهود الحجاز فى المدينة وما حولها، ومن مشركى العرب ولا سيما مكة وما قرب منها. وقد كان اليهود والمشركون مشتركين فى بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت عداوتهم الشديدة للمؤمنين كالكبر، والعتوّ، والبغي، وغلبة الحياة المادية، والأثرة

والقسوة، وضعف عاطفة الحنان والرحمة، والعصبية الجنسية، والحميّة القوية، ولكنّ مشركى العرب على جاهليتهم كانوا أرق من اليهود قلوبا، وأعظم سخاء وإيثارا، وأكثر حرية في الفكر واستقلالا فى الرأى. وقدّم سبحانه ذكر اليهود للإشارة إلى تفوقهم على العرب فيما وصفوا به، فضلا عما امتازوا به من قتل بعض الأنبياء وإيذاء بعض آخر، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل. ولم يكن ميلهم مع المسلمين فى البلاد المقدسة والشام والأندلس إلا ميلا وراء مصلحتهم الخاصة، إذ هم تفيئوا ظلال عدلهم، واستراحوا به من اضطهاد النصارى فى تلك البلاد. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أي ولتجدنّ أقرب الناس محبة للذين آمنوا بك وصدقوك- الذين قالوا إنا نصارى- فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة بحماية المهاجرين الذين أرسلهم صلى الله عليه وسلم فى أول الإسلام من مكة إلى الحبشة، خوفا عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء، ليفتنوهم عن دينهم. ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتبه إلى الملوك ورؤساء الشعوب كان النصارى منهم أحسنهم ردا، فهرقل ملك الروم فى الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام فلم يستطع، لجمودهم على التقليد فاكتفى بالرد الحسن، والمقوقس عظيم القبط فى مصر كان أحسن منه ردا، وإن لم يكن أكثر منه ميلا إلى الإسلام، وأرسل للنبى صلى الله عليه وسلم هدية حسنة، ثم لما فتحت مصر والشام وعرف أهلهما ما للإسلام من مزايا أهر عوا إلى الدخول فى الدين أفواجا وكان القبط أسرع إليه قبولا. والخلاصة- إن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به رأوا فى عصره من مودة النصارى وقربهم من الإسلام بقدر مارأوا من عداوة اليهود والمشركين، وأن من توقف من ملوكهم عن الإسلام فما كان توقفه إلا ضنا بملكه، وأن النجاشي أصحمة ملك

الحبشة قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا، ولكن الإسلام لم ينتشر فى الحبشة بعد موته، ولم يهتم المسلمون بإقامة دينهم فى تلك البلاد كما فعلوا فى مصر والشام. ثم بين سبحانه وتعالى سبب مودة النصارى للذين آمنوا فقال: (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي إن السبب فى هذه المودة أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم التعليم الديني ويهذبون أخلاقهم ويربون فيهم الآداب والفضائل، ورهبانا يعوّدونهم الزهد والتقشف والإعراض عن زخرف الدنيا ونعيمها، ويكبرون فى نفوسهم الخوف من الله والانقطاع لعبادته، وأنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر أنه الحق، إذ من فضائل دينهم التواضع والتذلل والخضوع لكل حاكم، بل إنهم أمروا بمحبة الأعداء، وإدارة الخدّ الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن. فكل أولئك يؤثّر فى جمهور الأمة وسوادها الأعظم، وقد عهد من النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعا واختيارا، بخلاف اليهود فإنهم إذا أظهروا الرضا اضطرارا أسرّوا الكيد وأضمروا المكر، لأن الشريعة اليهودية تولد فى نفوسهم العصبية الجنسية والحميّة القومية، لأنها خاصة بشعب إسرائيل، وأحكامها ونصوصها مبنية على ذلك. (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) أي وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من جوانبها لكثرته من أجل ما عرفوه من الحق الذي بيّنه لهم القرآن الكريم، ولم يمنعهم ما يمنع غيرهم من عتوّ واستكبار. ثم ذكر سبحانه ما يكون منهم من القول إثر بيان ما كان من حالهم فقال: (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي يقولون هذه المقالة قاصدين بها إنشاء الإيمان والتضرع إلى الله والخضوع له بأن يتقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين جعلهم الله تعالى شهداء على الناس، لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم ومما يتناقلونه عن أسلافهم أن النبي الأخير الذي يكمل به الدين ويتم به التشريع

العام يكون متبعوه شهداء على الناس ويكونون حجة على المشركين والمبطلين كما جاء فى الآية الأخرى «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» . ثم زادوا كلامهم توكيدا فقالوا: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق؟ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي وأىّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان هذا النبي الكريم، بعد أن ظهر لنا أنه هو روح الحق الذي بشر به المسيح؟ وإننا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة، والفضائل والآداب الكاملة، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين استبان لنا أثر صلاحهم وشاهدناه بأعيننا بعد ما كان منهم من فساد فى الأرض وعتوّ كبير فى جاهليتهم. والخلاصة- إنه لا مانع لنا من هذا الإيمان بعد أن تظاهرت أسبابه، وتحققت موجباته فوجب علينا الجري على سننه، واتباع نهجه وطريقه. ثم بين سبحانه ما جازاهم به على ذلك فقال: (فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي فجزاهم الله وأعطاهم من الثواب بما نطقت به ألسنتهم معبرا عما فى قلوبهم من خالص الإيمان وصحيح الاعتقاد- جنات وحدائق فى دار النعيم تجرى من تحت أشجارها الوارفة الظلال، الأنهار التي تسيل مياهها سلسبيلا، يخلدون فيها أبدا فلا يسلبها منهم أحد، ولا هم يرغبون عنها ويودون لو تركوها، ومثل هذا الجزاء قد أعده للذين أخلصوا فى عقائدهم وأحسنوا أعمالهم. وعلينا أن نقف فى وصف نعيم الآخرة على ما جاء به القرآن الكريم وصحت به السنة النبوية، ولا نعد وذلك إلى ما وراءه، فإن النعيم الروحاني والرضوان الإلهى لا يمكن أن يعبر عنه الكلام ولا يحيط به الوصف، فنحن فى عالم يخالف

[سورة المائدة (5) : الآيات 87 إلى 88]

ذلك العالم فى أوصافه وخواصه، مهما أكثرنا من الوصف، فلا نصل إلى شىء مما أعده الله لهم هناك «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» . وبعد أن بين سبحانه ما أعدّ لعباده المحسنين من عظيم الثواب جزاء صادق إيمانهم ذكر جزاء المسيئين إلى أنفسهم بالكفران والتكذيب جريا على سنة القرآن فى الجمع بين الوعد والوعيد قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الجاحم والجحيم: ما اشتد حرّه من النار أي وأما الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا بآيات كتابه، فأولئك هم أصحاب النار وسكانها المقيمون فيها لا يبرحونها. [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) المعنى الجملي بعد أن مدح سبحانه النصارى بأنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين وذكر من أسباب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا، ظن المؤمنون أن فى هذا ترغيبا فى الرهبانية وظن الميالون للتقشف والزهد أنها منزلة تقرّ بهم إلى الله، ولن تتحقق إلا بترك التمتع بالطيبات من الطعام واللباس والنساء إما دائما كامتناع الرهبان من الزواج، وإما فى أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها، فأزال الله هذا الظن وقطع عرق هذا الوهم بذلك النهى الصريح. روى ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس فى قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) قال: نزلت هذه الآية فى رهط من

الإيضاح

الصحابة قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح فى الأرض كما تفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لكنى أصوم وأفطر، وأصلّى وأنام، وأنكح النساء فمن أخذ بسنتى فهو منى، ومن لم يأخذ بسنتى فليس منى» . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلى ابن أبى طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبى حذيفة وقدامة تبتلّوا فجلسوا فى البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرّموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بنى إسرائيل، وهمّوا بالاختصاء وأجمعوا على القيام بالليل وصيام النهار فنزلت الآية «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ» الآية فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، وإن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا، وصوموا، وأفطروا فليس منا من ترك سنتنا» فقالوا: اللهم صدّقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) الطيبات: الأشياء التي تستلذها النفوس وتميل إليها القلوب، أي لا تحرّموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات بأن تتركوا التمتع بها عمدا تنسكا وتقربا إلى الله، ولا تعتدوا فيها وتتجاوزوا حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد بأن تزيدوا على الشّبع والرّى، أو تجعلوا التمتع بها أكبر همكم فى الحياة، أو تشغلكم عن الأمور النافعة من العلوم والأعمال المفيدة لكم ولبنى وطنكم. والآية بمعنى قوله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا» أو لا تعتدوها: أي الطيبات بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة.

والخلاصة- إن الاعتداء يشمل أمرين: الاعتداء فى الشيء نفسه بالإسراف فيه، والاعتداء بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه وهو الخبائث. ثم علل الهى عن الاعتداء بما ينفر منه فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي لا يحب الله من يتجاوز حدود شرائعه ولو بقصد عبادته وتحريم طيباته التي أحلها، سواء أكان التحريم من غير التزام بيمين أو نذر أو بالتزام، وكل منهما غير جائز. والالتزام قد يكون لرياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات، وقد يكون ناشئا عن بادرة غضب من زوجة أو ولد كمن يحلف بالله أو بالطلاق ألا يأكل من هذا الطعام أو نحوه من المباحات، أو يقول إن فعل كذا فهو برىء من الإسلام أو من الله ورسوله أو نحو ذلك وكل هذا منهى عنه شرعا ولا يحرم على أحد شىء منها يحرمه على نفسه بهذه الأقوال، ولا كفارة فى يمين يحلفه الحالف فى نحو ذلك عند الشافعي. وتحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان قلدهم فيها أهل الكتاب خصوصا النصارى فإنهم قد شددوا على أنفسهم وحرموا عليها ما لم تحرّمه الكتب المقدسة على ما فيها من الشدة والصرامة والمبالغة فى الزهد. ولما جاء الإسلام وأرسل الله نبيه محمدا خاتم النبيين بما فيه السعادة التامة للبشر فى دنياهم وآخرتهم أباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقه، فالإنسان ما هو إلا روح وجسد فيجب العدل بينهما، وبذا كانت الأمة الإسلامية أمة وسطا تشهد على جميع الأمم وتكون حجة عليها يوم القيامة. والحكمة فى ذلك النهى أن الله يحب أن يستعمل عباده نعمه فيها خلقت لأجله ويشكروه على ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها بإباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ

وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» وورد فى الأثر «إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا» . (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً) أي وكلوا مما رزقكم الله من الحلال فى نقسه لا من المحرمات كالميتة والدم المسفوح ولجم الخنزير، ومن الحلال فى كسبه وتناوله بألا يكون ربا ولا سحتا، ولا سرقة، مع كونه مستلذا غير مستقذر لذاته أو لطارئ. يطرأ عليه من فساد أو تغير لطول مكث ونحوه. والأكل فى الآية يراد به التمتع الشامل للشرب ونحوه من حلال غير مسكر ولا ضار، ومن كل طيب غير مستقذر فى ذاته أو لطارئ يطرأ عليه. والخلاصة- إنه ينبغى للمؤمن أن يتمتع بما تيسر له من الطيبات بلا تأثم ولا تحرج، ويحضر قلبه أنه عامل بشرع الله مقيم لسنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شاكر له بالاعتراف والحمد والثناء عليه، كما أن امتناعه عن الطيبات التي رزقه الله إياها مع الداعية الفطرية إلى الاستمتاع بها إثم يجنيه على نفسه فى الدنيا ويستحق به عقاب الآخرة، لزيادته فى دين الله قربات لم يأذن بها، ولإضاعة حقوق الله وحقوق عباده كإضاعة حقوق امرأته وعياله. والتحريم والتحليل تشريع وهو من حقوق الله فمن انتحله لنفسه كان مدعيا الربوبية أو كالمدعى لها. وعن الحسن البصري: إن الله أدب عباده فأحسن أدبهم فقال: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه. وعنه أنه قيل له فلان لا يأكل الفالوذج ويقول لا أؤدى شكره، قال أفيشرب الماء البارد؟ قالوا نعم، قال إنه جاهل، إن نعمة الله عليه فى الماء البارد أكثر من نعمته عليه فى الفالوذج (البلوظة) . (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي واتقوه فى الأكل واللباس والنساء وغيرها، فلا تفتاتوا عليه فى تحليل ولا تحريم، ولا تعتدوا حدوده فيما أحل وما حرم،

إذ من جعل شهوة بطنه أكبر همه كان من المسرفين، ومن بالغ فى الشبع وعرّض معدته وأمعاءه للتّخمة كان من المسرفين، ومن أنفق فى ذلك أكثر من طاقته وعرّض نفسه لذل الدين أو أكل أموال الناس بالباطل فهو من المسرفين والله يقول «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» والخلاصة- إن هدى القرآن فى الطيبات هو ما تقتضيه الفطرة السليمة المعتدلة من التمتع بها مع الاعتدال والتزام الحلال. والاعتدال هو الصراط المستقيم الذي يقل سالكه، فكثير من الناس يحيدون عنه ويميلون فى التمتع إلى جانب الإفراط والإسراف، ويكونون كالأنعام بل أضل لأنهم يجنون على أنفسهم حتى قال بعض الحكماء إن أكثر الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم. وقليلون منهم ينحرفون إلى جانب التفريط والتقتير إما اضطرارا لبؤسهم وعدمهم وإما اختيارا كالزهاد والمتقشفين. وسبيل الاعتدال سبيل شاقة على النفوس، عسرة على سالكها، كلها تدل على فضيلة العقل ورجحانه. والمعروف من سيرة الرسول أنه كان يأكل ما وجده فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل، وحينا يجوع وأخرى يشبع، فكان فى كل ذلك قدوة للموسر والمعسر. وما كان يهمه أمر الطعام، لكنه كان يعنى بأمر الشراب ففى حديث عائشة «كان أحبّ الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلو البارد» قال المحدّثون: ويدخل فى ذلك الماء القراح والماء المحلى بالعسل أو نقيع التمر أو الزبيب.

[سورة المائدة (5) : آية 89]

[سورة المائدة (5) : آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) تفسير المفردات اللغو فى اليمين: قول الرجل فى الكلام من غير قصد لا والله وبلى والله، بما عقدتم الأيمان: أي بما صممتم عليه منها وقصدتموه، وأصل العقد نقيض الحل فعقد الأيمان توكيدها بالقصد والغرض الصحيح، وتعقيدها: المبالغة فى توكيدها، وأصل الكفارة من الكفر، وهو الستر والتغطية ثم صارت فى اصطلاح الشرع اسما لأعمال تكفّر بعض الذنوب والمؤاخذات أي تغطّيها وتخفيها حتى لا يكون لها أثر يؤاخذ به المرء لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، والأوسط: أي الأغلب من الطعام فى البيوت لا الدون الذي يتقشّف به أحيانا ولا الأعلى الذي يتوسع به أحيانا أخرى، وتحرير الرقبة: هو إعتاق الرقيق المملوك. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات وعن الاعتداء فيها وتجاوز الحدود، لأن قوما من المسلمين تنسّكوا وحرّموا على أنفسهم اللحم والنساء وغيرها من الطيبات تقربا إلى الله- سألوا عما يصنعون بأيمانهم التي حلفوا عليها فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا لهم عما سألوا. روى ابن حرير عن ابن عباس قال: لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) فى القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى: «لا يؤاخذكم الله

الإيضاح

باللغو فى أيمانكم» وأخرج أبو الشيخ عن يعلى بن مسلم قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية ... قال اقرأ ما قبلها فقرأت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ- إلى قوله- لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) . الإيضاح (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أي لا يواخذكم الله بالأيمان التي تحلفونها بلا قصد، كما يقول الرجل فى كلامه بدون قصد لا والله، وبلى والله، فلا مؤاخذة على مثل هذه بكفارة فى الدنيا، ولا عقوبة فى الآخرة. (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي ولكن يؤاخذكم بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموه إذا أنتم حنثنم فيه. وهذه المؤاخذة بينها سبحانه بقوله: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فالذى يكفر عقد اليمين إذا نقض، أو إذا أريد نقضه بالحنث به هو إحدى هذه المبرّات الثلاث على سبيل التخيير: (1) إطعام عشرة مساكين، وجبة واحدة لكل منهم من الطعام الغالب الذي يأكله أهلوكم فى بيوتكم، لا من أردئه الذي يتقشفون به تارة، ولا من أعلاه الذي يتوسعون به تارة أخرى كطعام العيد ونحوه مما تكرم به الأضياف فمن كان أكثر طعام أهله خبز البر وأكثر إدامه اللحم بالخضر أو بدونها فلا يجزئ ما دون ذلك مما يأكلونه إذا قرفت أنفسهم من كثرة أكل الدسم ليعود إليها نشاطها، والأعلى مجزئ على كل حال لأنه من الوسط وزيادة، والثريد بالمرق وقليل من اللحم، أو الخبز مع الملوخية أو الرز أو العدس من أوسط الطعام فى مصر وكثير من الأقطار الشرقية الآن، وكان التمر أوسط طعام أهل المدينة فى العصر الأول، وأجاز أبو حنيفة إطعام مسكين واحد عشرة أيام. (2) كسوة عشرة مساكين، وهى تختلف باختلاف البلاد والأزمنة كالطعام

فيجزئ فى مصر القميص الطويل الذي يسمى (بالجلابية) مع السراويل أو بدونه، وهذا يساوى الإزار والرداء أو العباءة فى العصر الأول، ولا يجزئ ما يوضع على الرأس من طربوش أو عمامة، ولا ما يلبس فى الرجلين من الأحذية والجوارب ولا نحو منديل أو منشفة. (3) تحرير رقبة أي إعتاق رقيق، وغلب استعمال الرقبة فى المملوك والأسير، وقد يعبر أحيانا عن ذلك بفك الرقبة كقوله تعالى: «فَكُّ رَقَبَةٍ» ولا يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة فيجزئ عتق الكافرة عند أبى حنيفة، واشترط الشافعي ومالك وأحمد إيمانها. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي فمن لم يستطع واحدا من الثلاثة المتقدمة فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متتابعات، فإن عجز عن ذلك لمرض، صام عند القدرة، فإن لم يقدر يرجى له عفو الله ورحمته إذا صحت نيته وصدقت عزيمته. والاستطاعة أن يجد ذلك القدر فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو، وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت آية الكفارة قال حذيفة يا رسول الله نحن بالخيار فقال صلى الله عليه وسلم «أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت، وإن شئت أطعمت، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات» (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) با لله أو بأحد أسمائه وحنثتم، أو أردتم الحنث باليمين (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) فلا تبذلوها فى أتفه الأمور وأحقرها، ولا تكثروا من الأيمان الصادقة فضلا عن الأيمان الكاذبة قال تعالى: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ» وإذا حلفتم فلا تنسوا ما حلفتم عليه ولا تحنثوا فيه إلا لضرورة تعرض، أو مصلحة تجعل الحنث رابحا. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وعلى هذا النحو الشافي الوافي يبين الله لكم أعلام شريعته وأحكام دينه، ليعدّكم ويؤهّلكم بذلك

إلى شكر نعمه على الوجه الذي يحبه ويرضاه ويكون سببا فى المزيد من فضله وإحسانه. وهاهنا مسائل تتعلق بالأيمان يجمل بك أن تعرفها تكملة لدينك: 1- لا يجوز الحلف بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته قال صلى الله عليه وسلم «من كان حالفا فلا يحلف إلا با لله» رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، ورويا أيضا عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف با لله أو ليصمت» وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر قال: «كان أكثر ما يحلف به النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلّب القلوب» والمحرّم أن يحلف بغير الله حلفا يلتزم به ما حلف عليه والبر به فعلا أو تركا، لأن الشارع جعل هذا خاصا بالحلف با لله وأسمائه وصفاته، أما ما يجىء لتأكيد الكلام ويجرى على ألسنة الناس دون قصد لليمين فلا يدخل فى باب النهى نحو قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابى «أفلح وأبيه إن صدق» . ويدخل فى النهى الحلف بالنبي والكعبة وسائر ما هو معظم شرعا تعظيما يليق به، ولقد كان غلوّ الناس فى تعظيم أنبيائهم والصالحين منهم سببا فى هدم الدين واستبدال الوثنية به. 2- يجوز الحنث لمصلحة راجحة مع التكفير قبله لما رواه أحمد والشيخان فى صحيحيهما عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفّر عن يمينك» وفى لفظ عن أبى داود والنسائي «فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير» ودل اختلاف الرواية فى تقديم الأمر بالكفارة أو تأخيره على جواز الأمرين: والحلف باعتبار المحلوف عليه أقسام: (1) حلف على فعل واجب أو ترك حرام، وهذا تأكيد لما كلف الله به، لحنث ويكون الإثم مضاعفا.

(ب) حلف على ترك واجب أو فعل محرم، ويجب فى هذا الحنث لأن اليمين معصية، ومن ذلك الحلف على إيذاء الوالدين وعقوقهما أو منع ذى حق حقه الواجب له، والحلف على ترك المباح كالطيب من الطعام، فإن فى ذلك تشريعا بتحريم ما أحل الله كما فعلت الجاهلية فى تحريم بعض الطيبات. (ج) حلف على فعل مندوب أو ترك مكروه، وهذا طاعة يندب له الوفاء به ويكره الحنث، ومن ذلك الحلف على ترك طعام معين كالطعام الذي فى هذه الصحفة مثلا، كما فعل عبد الله بن رواحة فى تحريمه الطعام على نفسه ثم أكله منه لأجل الضيف فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم «أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته حبست ضيفى من أجلى؟ هو علىّ حرام، فقالت امرأته هو علىّ حرام، قال الضيف هو علىّ حرام، فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا باسم الله ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أصبت، فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ» . 3- الأيمان ثلاثة أقسام: (1) ما ليس من أيمان المسلمين كالحلف بالمخلوقات نحو الكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء وتربتهم وهذه يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها، بل هى منهى عنها نهى تحريم لما تقدم من الأحاديث. (ب) يمين بالله تعالى كقوله والله لأفعلن، وهذه يمين منعقدة فيها الكفارة عند الحنث. (ج) أيمان فى معنى الحلف بالله يريد بها الحالف تعظيم الخالق كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق كقوله إن فعلت كذا فعلىّ صيام شهر، أو الحج إلى بيت الله، أو الحل علىّ حرام لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمنى لا أفعل كذا، أو إن فعلته

[سورة المائدة (5) : الآيات 90 إلى 93]

فنسائى طوالق أو عبيدى أحرار، أو كل ما أملكه صدقة أو نحو ذلك. والصحيح الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة- وعليه يدل الكتاب والسنة- أنه يجزئه كفارة يمين فى جميع ذلك كما قال تعالى: «ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ» وقال: «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» وثبت فى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» . 4- الأيمان مبنية على العرف والنية لا على مدلولات اللغة واصطلاحات الشرع، فمن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لا يحنث وإن سماه الله لحما طريا إلا إن نواه أو كان يدخل في عموم اللحم فى عرف قومه، كما أن من يحلّف غيره يمينا على شىء فالعبرة بنية المحلّف لا الحالف، فقد روى مسلم وابن ماجه «اليمين على نية المستحلف» . واليمين الغموس التي يهضم بها الحق أو يقصد بها الخيانة والغش لا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام، بل لا بد من التوبة وأداء الحق والاستقامة قال تعالى: «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان» رواه البخاري ومسلم. [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 93] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الخمر: كل شراب مسكر، والميسر: لغة القمار بالقداح فى كل شىء ثم استعمل فى كل مقامرة، والأنصاب: حجارة كانوا يذبحون قرا بينهم عندها، وروى أنهم كانوا يعبدونها ويتقربون إليها، والأزلام: قداح أي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها فى الجاهلية لأجل التفاؤل أو التشاؤم، والرجس: المستقذر حسا أو معنى، يقال رجل رجس ورجال أرجاس، والرجس على أوجه: إما من جهة الطبع، وإما من جهة العقل، وإما من جهة الشرع كالخمر والميسر، وإما من كل ذلك كالميتة لأنها تعاف طبعا وعقلا وشرعا، والعداوة: تجاوز الحق إلى الإيذاء، وطعم الشيء يطعمه: ذاق طعمه، ثم استعمل فى ذوق طعم الشيء من طعام وشراب، ومن الأول «فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا» أي أكلّم، ومن الثاني «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» أي من لم يذق طعم مائه. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن تحريم ما أحل الله من الطيبات وأمر بأكل ما رزق الله من الحلال الطيب وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر، لا جرم أن بين عز اسمه أنهما غير داخلين فيما يحل. بل هما مما يحرم وقد روى ابن جرير وابن مردويه

فى سبب نزول الآيات أن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال: «فىّ نزل تحريم الخمر- صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر وذلك قبل تحريمها، فتفاخروا فقالت الأنصار: الأنصار خير. وقالت قريش: قريش خير، فأهوى رجل بلحى جزور (فك رأس جزور) فضرب على أنفى ففزره. قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فنزلت» . وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر فى قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول: صنع بي هذا أخى فلان والله لو كان رءوفا رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن فى قلوبهم فأنزل الله هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال ناس من المتكلفين: هى رجس وهى فى بطن فلان قتل يوم بدر، وفى بطن فلان قتل يوم أحد، فأنزل الله (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية. وفى مسند أحمد ومسند أبى داود والترمذي «أن عمر كان يدعو الله تعالى: اللهم بيّن لنا فى الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم فظل على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة دعى فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال: انتهينا انتهينا» . والحكمة فى تحريم الخمر بالتدريج أن الناس كانوا مغرمين بحبها كلفين بها فلو حرمت فى أول الإسلام لكان تحريمها صارفا لكثير من المدمنين لها عن الإسلام، ومن ثم جاء تحريمها أولا فى سورة البقرة على وجه فيه مجال للاجتهاد فيتركها من لم تتمكن فتنتها من نفسه، ثم ذكرها فى سورة النساء بما يقتضى تحريمها فى الأوقات القريبة من وقت الصلاة، إذ نهى عن القرب من الصلاة فى حال السكر فلم يبق لمن يصرّ

على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل، والصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له فلا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر، ثم تركهم الله على هذه الحال زمنا قوى فيه الدين وكثرت الوقائع التي ظهر لهم بها إثمها وضررها، فحرمها تحريما باتا لا هوادة فيه. روى ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت فى البقرة «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» شربها قوم لقوله (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) وتركها قوم لقوله (إِثْمٌ كَبِيرٌ) منهم عثمان بن مظعون حتى نزلت الآية التي فى النساء «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى» فتركها قوم وشربها قوم، يتركونها بالنهار حين الصلاة ويشربونها بالليل، حتى نزلت الآية التي فى المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية قال عمر: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعد لك وسحقا. فتركها الناس ووقع فى صدور أناس منها وقالوا ما حرم علينا شىء أشد من الخمر، حتى جعل الرجل يلقى صاحبه فيقول إن فى نفسى شيئا فيقول صاحبه لعلك تذكر الخمر، فيقول نعم، فيقول إن فى نفسى مثل ما فى نفسك حتى ذكر ذلك قوم واجتمعوا فيه فقالوا: كيف نتكلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد (حاضر) وخافوا أن ينزل فيهم (أي قرآن) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعدّوا له حجة فقالوا: أرأيت حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن حجش أليسوا فى الجنة؟ قال بلى، قالوا أليسوا قد مضوا وهم يشربون الخمر؟ فحرم علينا شىء دخلوا الجنة وهم يشربونه؟ فقال: (قد سمع الله ما قلتم، فإن شاء أجابكم) فأنزل الله: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟) فقالوا انتهينا. ونزل فى الذين ذكروا حمزة وأصحابه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الآية.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تتياسرونه، والأنصاب التي تذبحون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها- إثم سخطه الله وكرهه لكم، وهو من عمل الشيطان وتحسينه لكم لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم. (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاتركوا هذا الرجس ولا تعملوه وكونوا فى جانب غير الجانب الذي هو فيه، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتوادّ فيما بينكم. وبعد أن أمر الله باجتناب الخمر والميسر ذكر أن فيهما مفسدتين إحداهما دنيوية وثانيتهما دينية وقد أشار إليهما بقوله: (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) أي إن الشيطان يريد لكم شرب الخمر ومياسرتكم بالقداح ليعادى بعضكم بعضا ويبغّض بعضكم إلى بعض عند الشراب والمياسرة، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام، ويصرفكم بالسكر والاشتغال بالميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، وعن الصلاة التي فرضها عليكم، تزكية لنفوسكم وتطهيرا لقلوبكم. أما كون الخمر سببا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس حتى الأصدقاء منهم، فلأن شارب الخمر يسكر فيفقد العقل الذي يمنع من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس، كما يستولى عليه حب الفخر الكاذب، ويسرع إليه الغضب بالباطل، وكثيرا ما يجتمع الشّرب على مائدة الشراب فيثير السكر كثيرا من ألوان البغضاء بينهم، وقد ينشأ القتل والضرب والسلب والفسق والفجور وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وخيانة الحكومات والأوطان.

وأما الميسر فهو مثار العداوة والبغضاء بين المتقامرين، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين، وكثيرا ما يفرّط المقامر فى حقوق الوالدين والزوج والأولاد حتى يوشك أن يمقته كل أحد. والميسر مع ما فيه من التوسعة على المحتاجين، فيه إجحاف بأرباب الأموال، لأن من صار مغلوبا فى القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه رجاء أن يغلب فيه مرة أخرى، وقد يتفق ألا يحصل له ذلك إلى ألا يبقى له شىء من المال، ولا شك أنه بعد ذلك سيصير فقيرا مسكينا، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا له غالبين. وأما صد الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة (وهما مفسدتهما الدينية) فذلك أظهر من كونهما مثارا للعداوة والبغضاء (وهما مفسدتهما الاجتماعية) لأن كل سكرة من سكرات الخمر، وكل مرة من لعب القمار تصد السكران واللاعب وتصرفه عن ذكر الله الذي هو روح الدين، وعن الصلاة وهى عماد الدين، إذ السكران لا عقل له يذكر به آلاء الله وآياته، ويثنى عليه بأسمائه وصفاته، أو يقيم الصلاة التي هى ذكر الله، ولو ذكر السكران ربه وحاول الصلاة لم تصح له، وكذلك المقامر تتوجه جميع قواه العقلية إلى اللعب الذي يرجو منه الربح ويخشى الخسارة، فلا يتوجه همه إلى ذكر الله ولا يتذكر أوقات الصلاة وما يجب عليه من المحافظة عليها. وقد دلت المشاهدة على أن القمار أكثر الأعمال التي تشغل القلب وتصرفه عن كل ما سواه، بل يحدث الحريق فى دار المقامر أو تحل المصايب بالأهل والولد ويستغاث به فلا يغيث بل يمضى فى لعبه، والنوادر فى ذلك كثيرة. إلى أن المقامر إذا تذكر الصلاة وترك اللعب لأجلها فإنه لا يؤدى منها إلا الحركات بدون أدنى تدبر أو خشوع، لكنه على كل حال يفضل السكران إذ أنه لا يكاد يضبط أفعال الصلاة. واللعب بالشّطرنج أو بالنرد إذا كان على مال دخل فى الميسر وكان حراما، وإذا

لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه إلا إذا تحقق كونه رجسا من عمل الشيطان موقعا فى العداوة والبغضاء صادّا عن ذكر الله وعن الصلاة بأن كان من المكثرين اللعب أو ممن يداومون عليه، والشافعي كرهه لما فيه من إضاعة الوقت بلا فائدة. ولما بين جل اسمه علة تحريم الميسر وحكمته أكد ذلك التحريم فقال: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) هذا أمر بالانتهاء جاء بأسلوب الاستفهام وكان ذلك غاية فى البلاغة، فكأنه قيل: قد تلى عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع كل هذا منتهون؟ أو أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا. وقد أكد الله تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد: (1) أنه سماهما رجسا، والرجس كلمة تدل على منتهى ما يكون من القبح والخبث، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «الخمر أم الخبائث» . (2) أنه قرنها بالأنصاب والأزلام التي هى من أعمال الوثنية وخرافات الشرك، وقد روى ابن ماجه عن أبى هريرة قوله صلى الله عليه وسلم «مدمن الخمر كعابد وثن» (3) أنه جعلهما من عمل الشيطان، لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان وسخط الرحمن. (4) أنه جعل اجتنابهما سبيلا للفلاح والفوز بالنجاة. (5، 6) أنه جعلهما مثارا للعداوة والبغضاء، وهما من أقبح المفاسد الدنيوية التي تولد كثيرا من المعاصي فى الأموال والأعراض والأنفس. (7، 8) أنهما جعلا صادّين عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما روح الدين وعماده وزاده وعتاده. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي وأطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما من سائر المحرمات كالأنصاب والأزلام ونحوهما، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم مما نزل عليكم من نحو قوله «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» .

(وَاحْذَرُوا) أي واحذروا ما يصيبكم إذا أنتم خالفتم أمرهما من فتنة فى الدنيا وعذاب فى الآخرة، فإنه سبحانه لم يحرّم عليكم إلا ما فيه ضرر لكم فى دنياكم وآخرتكم كما قال: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فإن أعرضتم عن اتباع أمرهما فالحجة قد قامت عليكم، والرسول قد خرج من عهدة التبليغ والإعذار والإنذار، وما بعد ذلك من عقاب للمخالف فأمره إلى الله كما قال عز اسمه «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» . وفى هذا تهديد كثير ووعيد شديد لمن خالف أوامر الله وفعل نواهيه. (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي ليس على الذين آمنوا وعملوا صالح الأعمال من الأحياء والأموات إثم ومؤاخذة فيما أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمها وتحريم غيرهما مما لم يكن محرما ثم حرم، إذا ما اتقوا الله وآمنوا بما كان قد نزل من الأحكام، وعملوا الصالحات التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام وغيرهما، ثم اتقوا ما حرّم عليهم بعد ذلك عند العلم به. وآمنوا بما نزل فيه وفى غيره، ثم استمروا على التقوى وأحسنوا صالح أعمالهم فأتوا بها على وجه الكمال وتمموا نقص فرائضها بنوافل الطاعات، والله يحب المحسنين فلا يبقى فى قلوبهم أثرا من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع فى العداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. والخلاصة- إن من صحّ إيمانه وصلح عمله وعمل فى كل حين بنصوص الدين وما أداه إليه اجتهاده واستمر على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان، فلا يحول ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرما عليه بحسب اعتقاده- دون تزكية نفسه وتطهير قلبه.

روى أنه لما نزل تحريم الخمر قال بعض الصحابة: فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فنزلت الآية. تتمة- اختلف العلماء فى التداوى بالخمر والنجاسات والسموم، وأصح الآراء فى ذلك أنه يجوز لما فى الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعرنّيين بالتداوى بأبوال الإبل، بشرط الاضطرار الذي يبيح المحرم من طعام وشراب بدليل قوله تعالى «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» كمن غصّ بلقمة فكاد يختنق فلم يجد ما يسيغها به سوى الخمر، وكمن أصابته نوبة ألم فى القلب كادت تقضى عليه وقد أخبره الطبيب بأن لا سبيل لدفع الخطر سوى شرب مقدار من الخمر من النوع المعروف (باسم كونياك) فقد يرى الطبيب أنه يتعين فى بعض الأحيان لعلاج ما يعرض من آلام القلب لدرء الخطر كما ثبت بالتجربة. أما التداوى بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب كتقوية المعدة أو الدم أو نحو ذلك مما تسمعه من كثير من الناس فذلك منهى عنه للحديث «إنه ليس بدواء ولكنه داء» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وكان سببه أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر وكان يصنعها فنهاه عنها فقال: إنما أصنعها للدواء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وقوله: (ولكنه داء) هذا هو رأى الأطباء، إذ أن المادة المسكرة من الخمر سمّ تتوالد منها أمراض كثيرة يموت بها فى كل عام عدد لا يحصى من الناس. والذين يشربون الخمر ولو بقصد التداوى يؤثر سمّها فى أعصابهم بكثرة التعاطي فتصير مطلوبة عندهم لذاتها فيضرهم سمها، فعلى المسلم الصادق الإيمان ألا يغتر برأى بعض الأطباء الذين يصفونها للتداوى لمثل الأمراض التي يصفونها لها عادة. وقد دلت التجارب على أن الذين يبتلون بشربها لا يقدمون على ذلك إلا بإغراء المعاشرين من الأهل والأصحاب، على استبشاعهم لها واعتقادهم ضررها ومخالفتهم

أوامر دينهم، لكن الذي يسهل عليهم ذلك ظنهم أن الضرر المتيقن إنما يكون بالإسراف والانهماك فى الشراب، وأن القليل منها إن لم ينفع فلا يضر، فلا ينبغى تركه مع ما فيه من لذة النشوة والذهول عن همؤم الدنيا وآلامها. إلى ما فى ذلك من مجاملة الإخوان، لكنهم مخدوعون إذ هم لو سألوا من سبقهم إلى هذه البلوى وأسرف فى السكر حتى فسدت صحته ومروءته وضاعت ثروته، هل كنت حين بدأت تنوى الإسراف والإدمان؟ لأجابك بأنه ما كان يقصد إلا النزر القليل فى فترات متطاولة من الزمن، وما كان يعلم أن القليل يجر إلى الكثير الذي يصيبه بالداء الدوىّ ولا يجد إلى الخلاص منه سبيلا. وقد يعرض لبعض من يؤمن بحرمة الخمر شبهات فيقول إن الخمر المتخذة من العنب هى المحرمة لذاتها وأن ما عداها لا يحرم منه إلا المقدار المسكر فعلا، لكنهم واهمون فيما فهموا، إذ جاء فى الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» . وآخر تعلة لهم الغرور بكرم الله وعفوه، أو اعتمادهم على بعض الأعمال الصالحة- ولا سيما ما يسمونه بالمكفّرات- أو على الشفاعات وهذا الجهل والغرور يصبح عقيدة فى نفوسهم بما يسمعونه من كلام فساق الشعراء المدمنين كأبى نواس كقوله: تكثّر ما استطعت من المعاصي ... فإنك واجد ربا غفورا وقوله: ورجوت عفو الله معتمدا على ... خير الأنام محمد المبعوث ولو صح أمثال هذا الهذيان لكان الدين لغوا وعبثا. ولكان المسلم يضرب بأوامر دينه عرض الحائط انتظارا لشفاعة ترجى أو عفو ربما أتيح له من فضل ربه، وكان التقى والفاجر سواء وقد ثبت فى صحيح الأحاديث «أنه كان يؤتى بالشارب فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيضرب بالأيدى والجريد وبالثياب والنعال» وفى حديث أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين»

[سورة المائدة (5) : الآيات 94 إلى 96]

قال وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر، وفى الصحيحين عن على كرم الله وجهه: ما كنت لأقيم على أحد حدا فيموت وأجد فى نفسى شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته (أي دفعت ديته) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنّه، وفى صحيح مسلم أن عثمان أتى بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين، وقال أزيدكم وشهد عليه الشهود أنه شرب الخمر، فأمر بجلده وعلىّ كرم الله وجهه يعدّ حتى بلغ الأربعين فقال أمسك، ثم قال جلد النبي وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكلّ سنّة وهذا أحب إلىّ (يريد الأربعين) وقوله كل سنة أي إنه جرى العمل به فعلا، ولا يعارض ذلك قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن حد الخمر، لأن ضربه أربعين مرة واحدة لا يعد سنة محددة له، لأنه قد خالف ذلك فى بعض الأحيان لكنه صار سنة بجرى أبى بكر عليه. والخلاصة- إن العقاب المشروع على شرب الخمر هو الضرب الذي يراد منه إهانة الشارب وزجره وتنفير الناس منه، وإن الضرب أربعين أو ثمانين كان اجتهادا من الخلفاء، فاختار أبو بكر الأربعين وعمر الثمانين بموافقته لاجتهاد عبد الرحمن بن عوف بتشبيهه بحد قذف المحصنات، وقد روى الدار قطنى عن على كرم الله وجهه قال: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفترى ثمانون جلدة. [سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 96] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الابتلاء: الاختبار، والصيد: ما صيد من حيوان البحر ومن حيوان البر الوحشية للأكل، وقوله تناله أيديكم ورماحكم، يراد به كثرته وسهولة أخذه. وروى عن ابن عباس أن ما يؤخذ بالأيدى صغاره وفراخه، وما يؤخذ بالرماح كباره، ليعلم الله أي ليعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان علام الغيوب، والحرم: واحده حرام للذكر والأنثى، تقول هو رجل حرام وامرأة حرام أي محرمة بحج أو عمرة والنعم والأنعام من الإبل والبقر والضأن، والعدل (بِالْفَتْحِ) المعادل للشىء والمساوى له مما يدرك بالعقل (وبالكسر) المساوى له مما يدرك بالحس، والوبال من الوبل والوابل: وهو المطر الثقيل، وطعام وبيل ثقيل، ويقال للأمر الذي يخاف ضرره هو وبال، والبحر: المراد به الماء الكثير الذي يوجد فيه السمك كالأنهار والآبار والبرك ونحوها، وصيد البحر: ما يصاد منه مما يعيش فيه عادة، وطعامه ما قذف به إلى ساحله، والسيارة: جماعة المسافرين يتزودون منه، وتحشرون: تجمعون وتساقون إليه. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه عن تحريم ما أحلّ من الطيبات ثم استثنى الخمر والميسر- استثنى هنا مما يحل الصيد فى حال الإحرام وأوجب جزاء على قتله، وبين أن صيد البحر وطعامه حلال، وقد نزلت هذه الآية عام الحديبية حيث ابتلاهم الله بالصيد

الإيضاح

وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم فى رحالهم فيتمكنون من صيده أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) أي يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله: ليختبرنكم الله بإرسال كثير من الصيد يسهل عليكم أخذ بعضه بأيديكم وبعضه برماحكم. ووجه الابتلاء فى ذلك أن الصيد طعام لذيذ تشتد الحاجة إليه فى الأسفار الطويلة كالسفر إلى الجهات النائية، إلى أن سهولة تناوله تغرى به، إذ ترك مالاينال إلا بمشقة لا يدل على التقوى والخوف من الله كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة. (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي يبتليكم الله حال إحرامكم، ليعلم من يخافه غائبا عن نظر الناس غير مراء ولا خائف من إنكارهم، فيترك أخذ شيء من الصيد ويختار شظف العيش على لذة اللحم خوفا من الله تعالى وطاعة له فى خفيته. والخلاصة- إنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان هو عالما به، تربية لكم وتزكية لنفوسكم وتطهيرا لها. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فمن اعتدى بأخذ شىء من ذلك الصيد بعد ذلك البيان الذي أخبركم الله تعالى به قبل حصوله، فله عذاب شديد فى الآخرة، إذ هو لم يبال باختبار الله له، بل انتهك حرمة نواهيه، وأبان أنه لا يخافه بالغيب، بل يخاف لوم المؤمنين وتعذيرهم إذا هو أخذ شيئا من الصيد بمرأى منهم ومسمع كما هو دأب المنافقين الذين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تقتلوا الصيد الذي بينه لكم وهو صيد البر دون صيد البحر وأنتم محرمون بحج أو عمرة

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم قاصدا قتله فعليه جزاء من الأنعام مماثل لما قتله فى هيئته وصورته إن وجد، فقد روى الدار قطنى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فى الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفى الظبى شاة، وفى الأرنب عناق.» : (الأنثى من ولد المعز قبل أن تبلغ سنة) «وفى اليربوع جفرة» (الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر) وأخرج ابن أبى شيبة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسنّ وتؤكل» . وإن لم يوجد المماثل من النعم فقيمته حيث صيد أو فى أقرب الأماكن إليه. وقتل المحرم بحج أو عمرة للصيد حرام بالإجماع لنفس الآية، وأكل المحرم مما صاده من ليس بمحرم جائز، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلوا مما أهدى إليهم من لحم الحمار الوحشي. والصيد الذي نهت عنه الآية هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه، فلا جزاء فى قتل الأهلى ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع والحشرات ومنها الفواسق الخمس التي ورد الإذن بقتلها وهى الغراب والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور، وألحق مالك بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد، لأنها أشد منه ضررا. (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي يحكم بالجزاء من النعم وكونه مثل المقتول من الصيد رجلان من أهل العدالة والمعرفة من المؤمنين. ووجه الحاجة إلى حكم العدلين أن المماثلة بين النعم والصيد مما يخفى على أكثر الناس، وما لا مثل له بوجه من الوجوه يحكمان فيه بالقيمة. (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي إن ذلك الجزاء يكون هديا يصل إلى الكعبة ويذبح فى جوارها حيث تؤدى المناسك ويفرّق لحمه على مساكين الحرم. (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أي فعلى من قتل الصيد وهو محرم متعمدا جزاء من النعم مماثل له، أو كفارة طعام مساكين، أو ما يعادل

ذلك الطعام من الصيام، روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: إذا قتل المحرم شيئا من الصيد فعليه فيه الجزاء، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه ذبح شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فإن قتل أيّلا (من بقر الوحش) فعليه بقرة، فإن لم يجدها صام عشرين يوما، وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو نحو ذلك فعليه بدنة من الإبل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا فإن لم يجد صام ثلاثين يوما والطعام مدّ مدّ يشبعهم. (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي أوجبنا ما أوجبنا من الجزاء أو الكفارة كى يذوق وبال أمره، أي سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام إما بدفع الغرم وإما بالعمل ببدنه بما يتعبه ويشق عليه. (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) لكم من الصيد فى حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى الله عليه وتسألوه عن جوازه. (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) أي ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد ورود النهى فإن الله ينتقم ممن أصر على الذنب، فهو ينكل به ويبالغ فى عقوبته وله العزة والمنعة. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي والله غالب على أمره فلا يغلبه العاصي، ذو انتقام ومبالغة فى العقوبة ممن أصرّ على الذنب. والآية صريحة فى أن الجزاء الدنيوي إنما يمنع عقاب الآخرة إذا لم يتكرر الذنب، فإن تكرر استحق صاحبه الجزاء فى الدنيا والعقاب فى الآخرة. (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) أي وأحل لكم ما صيد من البحر ثم مات وما قذفه البحر ميتا، وروى هذا عن ابن عباس وابن عمر وقتادة. والخلاصة- إن المراد بطعامه عندهم ما لا عمل للإنسان فيه ولا كلفة فى اصطياده كالذى يطفو على وجهه والذي يقذف به إلى الساحل والذي ينحسر عنه الماء وقت الجزر، ولا فرق بين حيه وميته

[سورة المائدة (5) : آية 97]

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي منفعة لمن كان منكم مقيما فى بلده يستمتع بأكله وينتفع به، ومتعة للسائرين والمسافرين من أرض إلى أرض يتزودونه فى سفرهم مليحا (سردين وفسيخ) . (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي وحرم عليكم ما صدتم فى البر وأنتم محرمون، لا ما صاده غيركم ولا ما صدتموه قبل إحرامكم. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واخشوا الله واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه، وفيما نهاكم عنه من جميع ما تقدم من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وإصابة صيد البر وقتله فى حال إحرامكم وفى نحو ذلك، فإن إليه مصيركم ومرجعكم فيعاقبكم بمعصيتكم ويثيبكم على طاعتكم. [سورة المائدة (5) : آية 97] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) تفسير المفردات الكعبة فى اللغة: البيت المكعب أي المربع، والقيام: ما يقوم به أمر الناس، ويصلح، والشهر الحرام: ذو الحجة، والهدى: ما يهدى إلى الحرم من الأنعام توسعة على فقرائه، والقلائد أي ذوات القلائد من الهدى وهى الأنعام التي كانوا يقلدونها إذا ساقوها هديا، وخصها بالذكر لعظم شأنها. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه فى الآية السالفة المحرم عن الاصطياد- بين هنا أن البيت الحرام كما أنه سبب لأمن الوحش والطير- هو سبب لأمن الناس من الآفات والمخاوف، وسبب لحصول الخيرات والسعادات فى الدنيا والآخرة.

الإيضاح

الإيضاح (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي إن الله تعالى جعل الكعبة التي هى البيت الحرام قياما لمن يقيمون بجوارها ولمن يحجون إليها أي سببا لقيام مصالحهم ومنافعهم- ذلك بأن مكة بلد لا ضرع فيه ولا زرع، وقلما يوجد فيه ما يحتاج إليه أهله، فجعل الله الكعبة معظمة فى القلوب، يرغب الناس جميعا فى زيارتها والسفر إليها من كل فج، وصار ذلك سببا فى إسباغ النعم على أهلها- إجابة لدعاء إبراهيم صلوات الله عليه كما حكاه الله عنه بقوله: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» . إلى أنها كانت قياما للناس فى دينهم بما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات التي هى من أسباب حط خطيئاتهم ورفع درجاتهم. إلى أن أهلها صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته والسادة المعظمين إلى يوم القيامة، كما صاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم، فقد كان العرب يتقاتلون ويغير بعضهم على بعض إلا فى الحرم حتى لو لقى الرجل قاتل أبيه أو ابنه فى الحرم لم يتعرض له، ولو جنى أعظم الجنايات لم يتعرّض له كما قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» . وكذلك جعل الشهر الحرام سببا لقيام الناس، لأن العرب كان يقتل بعضهم بعضا، ويغير بعضهم على بعض فى سائر الأشهر حتى إذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم، وكانوا يحصّلون فيه من الأقوات ما يكفيهم طول العام، ولو لاه لتفانوا من الجوع والشدة. وكذلك جعل الهدى سببا لقيام الناس، لأنه يهدى إلى البيت ويذبح ويفرّق لحمه على الفقراء فيكون نسكا للمهدى وقياما لمعيشة الفقراء.

[سورة المائدة (5) : الآيات 98 إلى 100]

وكذلك جعل القلائد قياما للناس، إذ أن من قصد البيت فى الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده فى غير الشهر الحرام ومعه هدى وقلّده وقلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد، لأن الله أوقع فى قلوبهم تعظيم البيت، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنا من جميع الآفات والمخاوف. (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فى أنه تعالى يعلم ما فى العالم العلوي والسفلى، وأن علمه محيط بكل شىء. والخلاصة- إن ذلك لم يكن إلا لحكمة بالغة صادرة عن علم بخفايا الأمور وغاياتها، فكان دليلا على أنه سبحانه يعلم ما فى السموات وما فى الأرض من أسباب الرزق ونظام الخلق وغير ذلك، وأنه عليم بكل شىء فلا تخفى عليه خافيه. وقد عجزت جميع الأمم فى القديم والحديث عن تأمين الناس فى قطر من الأقطار فى زمن معين من كل سنة بحيث لا يقع فيه قتل ولا قتال ولا عدوان. [سورة المائدة (5) : الآيات 98 الى 100] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) المعنى الجملي بعد أن أرشدنا فى الآية السابقة إلى بعض آيات علمه فى خلقه التي بها جعل البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد- نبهنا فى هذه إلى أن العليم بكل شىء لا يمكن أن يترك الناس سدى، فهو لم يحلقهم عبثا- ومن ثم لا يليق بحكمته وعدله

الإيضاح

أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا أن يسوّى بين الطيب والخبيث فيجعل البرّ كالفاجر والمصلح كالمفسد، بل لا بد من الجزاء بالحق، لذلك جاءت هذه الآيات ترغيبا لعباده وترهيبا لهم، ووعدا ووعيدا. الإيضاح (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي اعلموا أن ربكم الذي لا يخفى عليه شىء من سرائر أعمالكم وعلانيتها وهو محصيها عليكم، شديد العقاب لمن دسّى نفسه بالشرك والفسوق والعصيان، وغفار لذنوب من أطاعه وأناب إليه رحيم به، فلا يؤاخذه بما فرط منه قبل الإيمان، ولا بما يعمله من السوء بجهالة إذا بادر إلى التوبة وأصلح عمله، بل يستر ذنبه ويمحوه فلا يبقى له أثر مع إيماله وعمله الصالح كما يستر الماء القدر القليل بما يغمره من الماء النقي الكثير. وفى تقديم العقاب على المغفرة والرحمة إيماء إلى أن العقاب قد ينتهى بالمغفرة والرحمة، لأن رحمته تعالى سبقت غضبه كما ورد فى صحيح الحديث، ومن ثم يغفر كثيرا لمن ظلم نفسه، قال تعالى: «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» . وبعد أن أبان سبحانه أن الجزاء بيد الله العليم بكل شىء، ذكر وظيفة الرسول فقال: (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم بالإنذار بالعقاب بين يدى عذاب شديد، والإعذار إليكم بما يقطع حججكم- إلا أن يؤدى الرسالة ثم إلينا الثواب على الطاعة، وعلينا العقاب على المعصية، ولا يخفى علينا المطيع لأوامرنا، والعاصي التارك للعمل بها، إذ لا يغيب عنا شىء من ضمائر الصدور وظواهر أعمال النفوس، فخليق بكم أن تتقونى ولا تعصوا أمرى. وفى هذا وعيد شديد وتهديد لمن يخالف أوامر الله ويعصيه. كما أن فيه إبطالا لما عليه أهل الشرك والضلال من الخوف من معبوداتهم الباطلة والتماس الخلاص والنجاة من العذاب بشفاعتها.

والخلاصة- إن الرسول ليس عليه إلا البلاغ لدين الله وشرعه، وبعدئذ يكون المبلغون هم المسئولين عند الله، والله الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون من العقائد والأقوال والأفعال، وهو الذي يجازيهم بحسب علمه المحيط بكل ذرة فى الأرض والسموات، ويكون جزاؤه حقا وعدلا ويزيد بعد ذلك من إحسانه عليه وفضله، فاطلبوا سعادتكم من أنفسكم وخافوا منها عليها. وما ورد من الشفاعة فى الآخرة فهو دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم يستجيبه الله فيظهر عقبه ما سبق به علمه واقتضته حكمته بحسب ما جاء فى كتابه، دون أن يكون مؤثرا فى علم الله ولا فى إرادته، فالحادث لا يؤثر فى القديم. وبعد أن بين سبحانه أن الجزاء منوط بالأعمال أراد أن يبين ما يتعلق به الجزاء من صفات الأعمال والعاملين لها وأرشد إلى أن هناك حقيقتين مختلفتين يترتب على كل منهما ما يليق بها من الجزاء فقال: (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أي قل أيها الرسول مخاطبا أمتك: لا يستوى الرديء والجيد من الأشياء والأعمال والأموال، فلا يتساوى الضار والنافع ولا الفاسد والصالح، ولا الحرام والحلال، ولا الظالم والعادل فلكل منها حكم يليق به عند الله الذي يضع كل شىء فى موضعه بحسب علمه. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس أومن الأموال المحرمة لسهولة تناولها والتوسع فى التمتع بها كأكل الربا والرشوة والخيانة. والخلاصة- إنهما لا يستويان لا فى أنفسهما ولا عند الله، ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرّتك، فصرت بعيدا عن إدراك تلك الحقيقة- وهى أن القليل من الحلال خير من كثير الحرام حسن عاقبة فى الدنيا والآخرة ألا ترى أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغنى غناءه ولا يفيد فائدته، بل ربما يضر ويؤذى صاحبه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 101 إلى 102]

فكذلك الحال بالنسبة إلى الناس، فالقليل الطيب منهم خير من الكثير الخبيث، فطائفة قليلة من شجعان المؤمنين تغلب الطائفة الكثيرة من الجبناء المتخاذلين، وجماعة قليلة من ذوى البصيرة والرأى تأتى من الأعمال ما يعجز عنه الكثير من أهل الحمق والبلاهة، فالعبرة بالصفة لا بالعدد، والكثرة لا تكون خيرا إلا بعد التساوي فى الصفات الفاضلة. (فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاتقوا الله يا أرباب العقول الراجحة، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان، فتغتروا بكثرة المال الخبيث وكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين، فتقوى الله هى التي تجعلكم من الطيبين وبها يرجى أن تكونوا من المفلحين الفائزين بخيرى الدنيا والآخرة. وخص أولى الألباب بالاعتبار لأنهم هم أهل الروية والبصر بعواقب الأمور التي ترشد إليها مقدماتها بعد التأمل فى حقيقتها وصفاتها، أما الأغرار الغافلون فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكّر فلا يعتبرون بما يرون بأعينهم ولا بما يسمعون بآذانهم، كما يشاهد ويرى من حال كثير من الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة التي جمعت من الحرام، وحال الدول التي ذهب ريحها بخلوها من فضيلتى العلم والخلق وورثها من كانوا أقل منهم رجالا ومالا إذ كانوا أفضل منهم أخلاقا وأعمالا. [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه وظيفة الرسول وأنها تبليغ الرسالة وبيان شرع الله ودينه فحسب، وبذا تبرأ ذمته- ناسب أن يصرح بأن الرسول قد أدى وظيفة البلاغ الذي

كمل به الإسلام- وأنه لا ينبغى للمؤمنين أن يكثروا عليه من السؤال، لئلا يكون ذلك سببا لكثرة التكاليف التي يشق على الأمة احتمالها، فيسرع إليها الفسوق عن أمر ربها. روى أن هذه الآية نزلت من جرّاء أن قوما كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم امتحانا له أحيانا، واستهزاء أحيانا أخرى، فيقول له بعضهم من أبي؟ ويقول بعضهم إذا ضلت ناقته أين ناقتى؟ ونحو ذلك. روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها وقال فيها: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، قال فغطّى أصحاب رسول الله وجوههم. لهم حنين وبكاء مرتفع من الصدر، فقال رجل من أبي؟ قال فلان فنزلت هذه الآية (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) » وروى ابن جرير عن قتادة فى قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. قال فحدّثنا أن أنس بن مالك حدّثه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم، فصعد المنبر فقال: (لا تسألونى اليوم عن شىء إلا بينته لكم) فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدى أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت لا يمينا ولا شمالا إلا وجدت كل رجل لافّا رأسه فى ثوبه يبكى، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبيّ الله من أبى؟ قال: (أبوك حذافة) قال ثم قام عمر فقال: رضينا با لله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا أعوذ با لله من شر الفتن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أر فى الخير والشر كاليوم قط، صوّرت لى الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» . قال الزهري: فقالت أمّ عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدا أعق منك، أكنت تأمن أن أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس؟ فقال والله لو ألحقنى بعبد أسود للحقته.

الإيضاح

وروى مسلم عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ثم قال: ذرونى ما تركتكم، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) » الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله: لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائق التكاليف، أو من الأمور الغيبية أو الأسرار الخفيّة أو غير ذلك مما يحتمل أن يكون إظهارها سببا للمساءة فيما بشدة التكاليف وكثرتها، وإما بظهور حقائق تفضح أهلها. (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي وإن تسألوا عن جنس تلك الأشياء التي من شأنها أن يكون إبداؤها مما يسوءكم حين ينزّل القرآن فى شأنها أو حكمها لأجل فهم ما نزّل إليكم، فإن الله بيديه لكم على لسان رسوله. قال الحافظ ابن كثير: أي لا تستأنفوا السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد فى الحديث: «أعظم المسلمين جرما من سأل عن شىء لم يحرّ لم فحرم من أجل مسألته» ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها بينت الكم حينئذ لاحتياجكم إليها وخلاصة ذلك- تحريم السؤال عن الأشياء التي من شأن إبدائها أن يسوء السائلين إلا فى حال واحدة وهى أن يكون قد نزل فى شأنها شىء من القرآن فيه إجمال وأردتم السؤال عن بيانه ليظهر لكم ظهورا لا مراء فيه كما وقع فى مسألة تحريم الخمر بعد نزول آية البقرة.

[سورة المائدة (5) : الآيات 103 إلى 104]

(عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي إن هذه الأشياء مما نهيتم عن السؤال عنها، لأنها مما عفا الله عنها بسكوته فى كتابه وعدم تكليفكم إياها فاسكتوا عنها أيضا، ومما يؤيد هذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» . وقد يكون المعنى- عفا الله عما كان من مسألتكم قبل النهى فلا يعاقبكم عليها لسعة مغفرته وحلمه، فيكون هذا كقوله فى الآية الأخرى «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ» وقوله: «إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» . (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) أي قد سأل هذه المسائل (أي أمثالها) قوم من قبلكم ثم أصبحوا بعد إبدائها كافرين بها، فإن من أكثر الأسئلة عن الأحكام الشرعية من الأمم السالفة لم يعملوا بما بين لهم منها، بل فسقوا عن أمر ربهم وألقوا شرعهم وراءهم ظهريا استثقالا للعمل به، وأدّى ذلك إما إلى استنكاره، وإما إلى جحود كونه من عند الله، وسواء أكان هذا أم ذاك فهو كفران به، انظر إلى قوم صالح فإنهم بعد أن سألوا الآيات وأجيبوا إلى ما طلبوا لم يؤمنوا بما أوتوا بل كفروا فاستحقوا الهلاك فى الدنيا قبل عذاب الآخرة. [سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104] ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)

تفسير المفردات

تفسير المفردات البحيرة- الناقة التي يبحرون أذنها أي يشقونها شقا واسعا، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى كما روى عن ابن عباس. والسائبة- الناقة التي تسيّب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شىء، ولا يجزّ صوفها ولا يحلب لبنها إلا لصيف. والوصيلة- الشاة التي تصل أخاها، فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. والحامى- الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن، فيقولون حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى. المعنى الجملي بعد أن نهى فى الآية السابقة عن تحريم ما أحل الله بالنذر أو بالحلف باسم الله تنسكا وتعبدا مع اعتقاد إباحته فى نفسه، وعن الاعتداء فيه، ونهى أن يكون المؤمن سببا لتحريم شىء لم يكن الله قد حرمه، أو شرع حكم لم يكن الله قد شرعه، بأن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شىء مما سكت الله عنه عفوا وفضلا. ناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم وما قلد فيه بعضهم بعضا على جهلهم، كما بين بطلان التقليد ومنافاته للعلم والدين

الإيضاح

الإيضاح (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) أي ما بحر الله بحيرة، ولا سيّب سائمة، ولا وصل وصيلة، ولا حمى حاميا، أي ما شرع ذلك ولا أمر به وما جعله دينا لهم، وهذا رد وإبطال لما كان يفعله أهل الجاهلية فى جاهليتهم. (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) إذ يفعلون ما يفعلون ويزعمون أن الله يأمرهم بهذا، وأول من سنّ لأهل الشرك تلك السنن الرديئة، وغيّر دين الله دين الحق وأضاف إليه أنه هو الذي حرم ما حرموا وأحل ما أحلوا افتراء على الله الكذب واختلاقا عليه- وهو عمرو بن لحىّ الخزاعىّ، فهو الذي غيّر دين إبراهيم وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى. أخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكتم بن الجون «يا أكتم عرضت علىّ النار، فرأيت فيها عمرو بن لحىّ ابن قمعة، بن حنذف يجرّ قصبه (القصب: المعى وجمعه الأقصاب) فى النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك، فقال أكتم أخشى أن يضرنى شبهه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غيّر دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى» . (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرموا على أنفسهم، وأن ذلك من أعمال الكفر، بل يظنون أنهم يتقربون به إليه ولو بالوساطة. لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب ويتركون لها ما حرموه على أنفسهم، ليست إلا وسطاء بينهم وبين الله بزعمهم، تشفع لهم عندهم وتقربهم إليه زلفى. والعبرة من هذا أن كل مبتدع فى الدين بتحريم طعام أو غيره، وتسييب عجل لسيد البدوي أو سواه، وسنّ ورد أو حزب يضاهى به المشروع من شعائر الدين، ونحو ذلك من العبادات التي لم تؤثر عن الشارع، زاعما أنه جاء بما يتقرب به لله تعالى

[سورة المائدة (5) : آية 105]

وينال به رضاه، فقد ضاهى بعمله عمل عمرو بن لحىّ، لأن الله لا يعبد إلا بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا عبادة ولا تحريم إلا بنص، وليس لأحد أن يزيد أو ينقص برأى ولا قياس. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله فى القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبراهين، وإلى الرسول المبلغ لها والمبين لمجملها فاتبعوه فيها، أجابوا من يدعونهم إلى ذلك حسبنا ما وجدنا آباءنا يعملون به، ونحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة. فرد الله عليهم قولهم: (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟) أي أيكفيهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع ولا يهتدون سبيلا إلى المصالح، سواء أكانت دينية أم دنيوية، ولا يعرف ما يكفى الأفراد والأمم إلا بالعلم الصحيح الذي يميز به بين الحق والباطل، فأولئك قوم أميون يتخبطون فى ظلمات من الوثنية وخرافات من معتقدات الجاهلية، فمن وأد للبنات إلى سلب ونهب وإغارات من بعضهم على بعض، ومن قتال تشتجر فيه الرماح، إلى عداوة وبغضاء تملأ السهول والبطاح، ومن ظلم لليتامى والنساء إلى تفنن فى الشعوذة وضروب السحر والكهانة. ونحو الآية قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟» . [سورة المائدة (5) : آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) المعنى الجملي بعد أن نعى سبحانه على المشركين ما هم عليه من جهل وعناد، وطغيان وفساد، وأنهم لم ينتفعوا بإعذار ولا إنذار، بل بقوا مصرّين على جهلهم، سادرين فى ضلالهم

الإيضاح

أمر المؤمنين بأن يهتموا بإصلاح أنفسهم بالعلم النافع والعمل الصالح، وأبان لهم أنهم إذا أصلحوا أنفسهم، وقاموا بما أوجب الله عليهم من علم وعمل وتعليم وإرشاد فلا يضيرهم بعد ذلك ضلال من ضل وحاد عن الصراط السوي، وسار سادرا فى غلواء الجهل والتقليد، وتنكب عن جادة الحق. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي احفظوا أنفسكم من المعاصي، وانظروا فيما يقرّبها من ربها، ويخلّصها من عقابه، ولا يضرّكم ضلال غيركم إذا أنتم اهتديتم «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» . (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إليه وحده رجوعكم ورجوع من ضل عما اهتديتم إليه فينبئكم عند الحساب بما كنتم تعملون فى الدنيا ويجزيكم به. روى ابن كثير «أن أبا بكر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب» . وروى الترمذي عن أبي أمية الشيباني قال: «أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت ما تصنع فى هذه الآية؟ قال أيّة آية؟ قلت قول الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متّبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوامّ، فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم» .

[سورة المائدة (5) : الآيات 106 إلى 108]

وروى ابن جرير عن ابن عقال قال: قيل لابن عمر لو جلست فى هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فقال ابن عمر: إنها ليست لى ولا لأصحابى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا ليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم» . والخلاصة- إن الرواة من السلف متفقون على أن المؤمن لا يكون مهتديا إذا أصلح نفسه ولم يهتم بإصلاح غيره بأن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وأن ذلك فرض لاهوادة فيه. ولكن هذه الفريضة تسقط إذا فسد الناس فسادا لا يرجى معه تأثير الوعظ والإرشاد، أو فسادا يؤدى إلى إيذاء الواعظ المرشد، بأن يعلم أو يظن ظنا قويا بأن لا فائدة من نصحه، أو بأنه سيؤذى إذا هو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ويحرم عليه ذلك إذا أدى إلى الوقوع فى التّهلكة. [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة، وضربتم فى الأرض: سافرتم، وتحبسونهما: تمسكونهما وتمنعونهما من الانطلاق والهرب، وارتبتم: شككتم فى صدقهما فيما يقران به، ومن الآثمين: العاصين، وعثر من العثور على الشيء: وهو الاطلاع عليه من غير سبق طلب له، وأعثره عليه: وقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن المرجع إليه بعد الموت، وأنه لا بد من الحساب والجزاء يوم القيامة- أرشدنا إثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وأنه تجب العناية بالإشهاد عليها حتى لا تضيع على مستحقيها. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: «كان تميم الداري وعديّ بن بدّاء رجلين نصرانيين يتّجران إلى مكة فى الجاهلية ويطيلان الإقامة بها، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حوّلا متجرهما إلى المدينة، فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل، فكتب وصية بيده ثم دسها فى متاعه وأوصى إليهما، فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان، وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه فقالوا هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا، فقالوا لهما هذا كتابه بيده، قالوا ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ

الإيضاح

أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ - إلى قوله إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما فى دبر صلاة العصر با لله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا، ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموّه بالذهب فقال أهله هذا من متاعه، قالا نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا ويستحقانه» . ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول صدق الله ورسوله، أنا أخذت الإناء، ثم قال يا رسول الله إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لى قرية عبنون من بيت لحم وهى القرية التي ولد فيها عيسى، فكتب له بها كتابا، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أنا حاضر ذلك فدفعها إليه. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي الشهادة المشروعة بينكم فى ذلك هى شهادة اثنين من رجالكم من ذوى العدل والاستقامة يشهدهما الموصى على وصيته، فيشهدان بذلك عند الحاجة، وقوله منكم أي من المؤمنين. (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي أو شهادة اثنين آخرين من غير المسلمين إن كنتم مسافرين ونزلت بكم مقدمات الموت وعلاماته وأردتم الإيصاء، ولا يخفى ما فى الآية من تأكيد الوصية والإشهاد عليها. (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) المراد بالصلاة صلاة العصر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلّف عديا وتميما بعدها، ولأن العمل قد جرى عليه، فكان التحليف فيه

هو المعروف، ولأنه هو الوقت الذي يقعد فيه الحكام للفصل فى المظالم والدعاوى، إذ يكون الناس قد فرغوا من معظم أعمال النهار، وروى عن ابن عباس أن الشهيدين إذا كانا غير مسلمين، فالمراد بالصلاة صلاة أهل دينهما. (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي وتستقسمون الشاهدين وتطلبون حلفهما على الوصية، إن شككتم فى صدقهما فيقسمان، أما الأمين فيصدق بلا يمين. (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي يقسمان بقولهما لا نشترى بيمين الله ثمنا ولو كان المقسم له من أقاربنا: أي لا نجعل يمين الله كالسلعة التي تبذل لأجل ثمن ينتفع به فى الدنيا. ونحو الآية قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» . والخلاصة- أن يقول الحالف: إنه يشهد لله بالقسط ولا يصدّه عن ذلك ثمن يبتغيه لنفسه، ولا مراعاة قريب له إن فرض أن فى إقراره وقسمه نفعا له- أي ولو اجتمعت هاتان الفائدتان. (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ) أي ويقولان فى يمينهما أيضا: ولا نكتم الشهادة التي أوجبها الله وأمر أن تقام له كما قال «وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ» . (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي إنا إذا فعلنا ذلك واشترينا بالقسم ثمنا أو راعينا به قريبا بأن كذبنا فيه لمنفعة لأنفسنا أو لذوى قرابتنا، أو كتمنا شهادة الله كلا أو بعضا لكنا من المتحملين للإثم المستحقين للجزاء عليه. فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان) أي فإن اتفق وحصل الاطلاع على أن الشهيدين الحالفين استحقا إثما بكذب فى الشهادة أو بالخيانة أو بكتمان شىء من التركة فى حال ائتمانهما عليها أو كتمان فى الشهادة- فالواجب حينئذ أن تردّ اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران

مقامهما من أولياء الميت الوارثين له وهذان الرجلان الوارثان ينبغى أن يكونا هما الأوليين بالميت أي الأقربين الأحقين بإرثه إن لم يمنع من ذلك مانع. وعلى هذا فالأوليان فاعل استحق ومفعوله محذوف يقدّر بنحو قولنا ما أوصى به أو ما تركه: أي من الورثة الذين استحق الأوليان من بينهم ما أوصى به. (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) المراد بالشهادة اليمين كما فى قوله تعالى: «فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ» أي فيحلفان با لله لأيماننا على خيانة الشهيدين اللذين حلفا على وصية ميتهما أحق وأصدق من أيمانهما، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة. (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي ويقولان فى يمينهما إنا إذا اعتدينا الحق فحلفنا مبطلين كاذبين- لنكونن من الظالمين لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وانتقامه. ثم بين سبحانه الحكمة فى شرع هذه الشهادة وهذه الأيمان فقال: (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي ذلك الذي شرعناه من تكليف المؤتمن على الوصية أن يقوم على مرأى من الناس ويشهد بعد الصلاة ويقسم الأيمان المغلظة، أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدى الشهداء الشهادة على وجهها بلا تبديل ولا تغيير، تعظيما لله ورهبة من عذابه ورغبة فى ثوابه أو خوفا من الفضيحة التي تعقب استحقاقهما الإثم فى الشهادة برد أيمان الورثة بعد أيمانهم تكون مبطلة لها، إذ من لم يمنعه خوف الله وتعظيمه أن يكذب لضعف دينه يمنعه خوف الخزي والفضيحة بين الناس. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي واتقوا الله وراقبوه فى أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبة، وأن تخونوا من ائتمنكم، واسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به سمع إجابة وقبول لهذه الأحكام وغيرها، فإن لم تتقوا كنتم فاسقين عن أمر الله مطرودين من هدايته مستحقين لعقابه.

[سورة المائدة (5) : الآيات 109 إلى 115]

وقد استنبط العلماء من هاتين الآيتين فوائد وأحكاما نذكر أهمها فيما يلى: (1) الحديث على الوصية وعدم التهاون فى أمرها فى سفر أو حضر. (2) الإشهاد عليها لتثبيت أمرها والرجاء فى تنفيذها. (3) بيان أن الأصل فى الشاهدين عليها أن يكونا مؤمنين موثوقا بعدالتهما. (4) بيان أن إشهاد غير المسلمين على الوصية جائز مشروع، لأن مقصد الشارع منها إذا لم يمكن أداؤه على وجه الكمال فلا يترك البتة. (5) شرعية اختيار الأوقات التي تؤثّر فى قلوب الشهود ومقسمى الأيمان رجاء أن يصدقوا ويبرّوا فيها. (6) التغليظ على الحالف بصيغة اليمين بأن يقول فيه ما يرجى أن يكون رادعا للحالف عن الكذب. (7) إن الأصل فى أخبار الناس وشهاداتهم أن تكون مصدّقة مقبولة، ومن ثمّ شرط فى تحليف الشاهدين الارتياب فى خبرهما. (8) شرعية تحليف الشهود إذا ارتاب الحكام والخصوم فى شهادتهم، وهو الذي عليه العمل الآن فى أكثر الأمم وقد حتمته القوانين الوضعية لكثرة ما يقع من شهادة الزور. (9) شرعية رد اليمين إلى من قام الدليل على ضياع حق له بيمين صار حالفها خصما له. (10) إذا احتيج إلى قيام بعض الورثة فى أمر يتعلق بالتركة فأولاهم بذلك أقربهم إليه. [سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 115] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)

تفسير المفردات

تفسير المفردات روح القدس: هو ملك الوحى الذي يؤيد الله به الرسل بالتعليم الإلهى والتثبيت فى المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها، والكتاب: كل ما يكتب، والحكمة: العلم الصحيح الذي يبعث الإنسان على نافع العمل مع الفقه لأسرار ما يعمل، والتوراة: ما أوحاه الله إلى موسى من الشرائع والأحكام، والإنجيل: ما أوحاه إلى عيسى،

والخلق: التقدير أي جعل الشيء بمقدار معين، ويستعمل فى إيجاد الله الأشياء بتقدير معين فى علمه، والأكمه: من ولد أعمى، وقد يطلق على من عمى بعد الولادة أيضا، والسحر: تمويه وتخييل به يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته، والحواريون واحدهم حوارىّ وهو من أخلص سرا وجهرا فى المودّة، وحواريو الأنبياء: المخلصون لهم، والمائدة: الخوان الذي عليه الطعام أو الطعام نفسه، ويستطيع أي يطيع ويرضى: والعيد، تارة يراد به الفرح والسرور، وتارة يراد به الموسم الديني أو المدني الذي يجتمع له الناس فى يوم معين من السنة للعبادة أو لأمر من أمور الدنيا، وآية منك: أي علامة على صدقى فى دعوى نبوتى. الإيضاح (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟) أي اذكر أيها الرسول يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم؟ أي أىّ إجابة أجبتم؟ أإجابة إيمان وإقرار؟ أم إجابة إنكار واستكبار؟ فهو سؤال عن نوع الإجابة لا عن الجواب ماذا كان، والمراد من سؤال توبيخ أممهم وإقامة الحجة على الكافرين منهم. وهذا السؤال للرسل من وادي سؤال الموءودة فى قوله تعالى «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» فى أن كلا منهما وجه فيه السؤال إلى الشاهد دون المتهم للتوبيخ والإنكار على الفعل، وليوم القيامة مواقف، فى بعضها يشهد الرسل على أممهم، وفى بعض آخر يسأل الله الأمم كما يشاهد لدى قضاة التحقيق، فقد يسأل الخصم حينا والشهود حينا آخر، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» . ومن قبل أن الله تعالى يسأل كلا من الفريقين عما هو أعلم به، وكان الرسل صلوات الله عليهم على علم يقينى بما سئلوا عنه- كان جوابهم الآتي الدال على نفى العلم عن أنفسهم وتفويضه إلى علام الغيوب فى أول عهدهم بالسؤال- لأحد أمرين:

أو لهما ما اختاره ابن عباس من أنهم قالوا ذلك لنقصان علمهم بالنسبة إلى علمه تعالى، فالله يعلم ما أظهروا وما أضمروا وهم لا يعلمون إلا ما أظهروا، فعلمه أنفذ من علمهم. وثانيهما أن ما يفاجئهم من هول ذلك اليوم. وفزعه يذهلهم عن الجواب، إذ ينسون أكثر الأمور، وهنالك يقولون لا علم لنا، فإذا عادت إليهم قلوبهم يشهدون لأممهم ونقل هذا عن الحسن ومجاهد والسّدّى، وذلك فى قوله تعالى: (قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) . خلاصة هذا على رأى ابن عباس أن المراد نفى علم الإحاطة والشمول الخاص بالله تعالى بدليل قولهم أنت علام الغيوب أي كثير العلم بكثرة المعلومات. وبعد أن ذكر سؤال الرسل وجوابهم إجمالا بين سؤال واحد منهم بالتفصيل وجوابه لإقامة الحجة على من يدعون اتباعه، ولكن قدم قبل هذا ما خاطب به هذا الرسول من بداية نعمته عليه وآياته التي كانت سببا فى فتنة الناس به فقال: (إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) أي اذكر إنعامى عليك وعلى والدتك حين تأييدى إياك بروح القدس وتكليمك الناس فى المهد بما يبرىء أمك من قول الآثمين الذين أنكروا عليها أن يكون لها غلام من غير زوج يكون أبا له، وذلك قوله: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً» وكهلا حين بعثت فيهم رسولا تقيم عليهم الحجة بما ضلوا فيه عن الصراط السوي. وفائدة هذا القصص تنبيه النصارى الذين كانوا عصر التنزيل إلى قبح مقالتهم وسوء معتقدهم، لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء، وطعن هؤلاء تعدى إلى جلال الله وكبريائه، إذ وصفوه بما لا يليق به من اتخاذ الزوجة والولد. (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي واذكر نعمتى عليك بتعليمك وتوفيقك لقراءة الكتب والعلم النافع لك فى الدين والدنيا ولا سيما التوراة والإنجيل

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي، فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) أي واذكر نعمتى عليك إذ تجعل قطعة من الطين مثل هيئة الطير فى شكلها ومقادير أعضائها فتنفخ فيها بعد ذلك فتكون طيرا بإذن الله وتكوينه، فأنت تفعل التقدير والنفخ، والله هو الذي يكوّن الطير. وفى قوله بإذنى إشارة إلى أن المسيح لم يعط هذه القوة دائما بحيث جعل السبب الروحي مطردا كالأسباب الجسمانية، بل كانت هذه الآية كغيرها لا تقع إلا بإذن من الله وتأييده. (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) جاء فى كتب العهد الجديد أنه أبرأ كثيرا من العمى والبرص وأحيا ثلاثة أموات: (1) ابن أرملة وحيد كانوا يحملونه على النعش، فلمس النعش وأمر الميت أن يقوم منه فقام، فقال الشعب: قد قام فينا نبى عظيم وافتقد الله شعبه إنجيل لوقا. (2) ابنة رئيس ماتت ودعاه لإحيائها فجاء بيته وقال للجمع تنحّوا فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة فضحكوا عليه، فلما أخرج الجمع دخل وأمسك بيدها فقامت الصبية- إنجيل متى. (3) عازر الذي كان يحبه جدا ويحب أختيه مريم ومرثا كما يحبونه ففى إنجيل يوحنا أنه كان مات فى بيت عنيا ووضع فى مغارة فجاء المسيح وكان له أربعة أيام فرفع عينيه إلى فوق وقال: (أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لى، وأنا علمت أنك فى كل حين تسمع لى، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتنى) وما قال هذا: صرخ بصوت عظيم لعازر هلمّ خارجا، فخرج الميت إلخ. وتعيين كل فعل بالإذن للدلالة على أنه ما وقع شىء منها إلا بمشيئة الله وقدرته وتيسيره. (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي واذكر نعمتى عليك حين كففت عنك بنى إسرائيل

فلم يتمكنوا من قتلك وصلبك، وقد كانوا أرادوا ذلك، وقال الكافرون منهم ما هذا إلا ساحر، وما جاء به من البينات لم يكن إلا سحرا ظاهرا، وليس من جنس ما جاء به موسى، على أنه متله أو أظهر منه. والخلاصة- أنهم لا يعتدّون بما جاء على يديه من الآيات وخوارق العادات، ولا يؤمنون به وإن جاء بآيات أخرى، إذ لم يكن طعنهم لشبهات تتصل بها بل كان عنادا ومكابرة، ومن ثم ادّعوا أن السحر صنعته، والتمويه وقلب الحقائق دأبه وعادته. (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي، قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) الوحى فى اللغة: الإشارة السريعة الخفية، والإعلام بالشيء بسرعة وخفاء، والمراد به هنا ما يلقيه الله فى نفوس الأحياء من الإلهام كما فى قوله: «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً» وقوله «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» وهكذا ألقى الله فى قلوب الحواريين الإيمان به وبرسوله عيسى عليه السلام، أي واذكر نعمتى عليك حين ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بك وقد كذبك جمهور بنى إسرائيل وجعلتهم أنصارا لك يؤيدون دعوتك وينشرون شريعتك، وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا آمنا أي با لله وبرسوله عيسى عليه السلام وأشهدوا الله على أنفسهم أنهم مسلمون أي مخلصون فى إيمانهم مذعنون لأوامره وتاركون لنواهيه. ثم ذكر كلاما منقطعا عما قبله ليبين ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه عقب حكاية ما صدر من الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله عليه، فقال: (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي اذكر للناس وقت قول الحواريين لعيسى: يا عيسى هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته ذلك؟ وفسر بعضهم الاستطاعة بمعنى القدرة وقالوا إن هذا السؤال لا يصدر عن مؤمن صحيح الإيمان وأجابوا عن ذلك بعدة أجوبة:

(1) إن هذا السؤال لأجل اطمئنان القلب بإيمان العيان لا للشك فى قدرة الله على ذلك، كما سأل إبراهيم صلى الله عليه وسلم رؤية كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بإيمان الشهادة والمعاينة مع إقراره بإيمانه بذلك الغيب. (2) إنه سؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة الإلهية أي هل ينافى الحكمة أن ينزل علينا مائدة من السماء، فإن ما ينافى الحكمة لا يقع وإن كان مما تتعلق به القدرة كعقاب المحسن على إحسانه وإثابة الظالم على ظلمه. (3) إن المراد هل تستطيع سؤال ربك. (قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قال لهم عيسى اتقوا الله أن تقترحوا عليه أمثال هذه المقترحات التي كان سلفكم يقترحها على موسى، لئلا تكون فتنة لكم فإن من شأن المؤمن الصادق ألا يجرب ربه باقتراح الآيات. وقد يكون المعنى- اتقوا الله وقوموا بما يوجبه الإيمان من العمل والتوكل عليه تعالى عسى أن يوفقكم إلى ذلك. (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي قالوا نطلبها لفوائد: (1) إننا نريد أن نأكل منها لأننا محتاجون إلى الطعام، فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاما آخر. (2) إننا إذا شاهدنا نزولها ازداد اليقين وقويت الطمأنينة، إذ ينضم علم المشاهدة باللمس والذوق والشم إلى علم السمع منك وعلم النظر والاستدلال. (3) أن نكون من الشاهدين على هذه الآية عند بنى إسرائيل الذين لم يحضروها، أو من الشاهدين لله بكمال القدرة ولك بالنبوة، وبذا يؤمن المستعد للإيمان ويزداد الذين آمنوا إيمانا. (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي إن عيسى عليه السلام

لما علم صحة قصدهم وأنهم لا يريدون تعجيزه ولا اقتراح آية- دعا الله بهذا الدعاء وناداه بالاسم الكريم الدال على الألوهية والقدرة والحكمة إلى نحو أولئك من صفات الكمال، ثم باسم الرب الجامع لمعنى الملك والتدبير والتربية والإنعام. أي يا الله يا مالك أمرنا ومتولى تربيتنا أنزل علينا مائدة سماوية يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم وتتغذي بها أبدانهم، وتكون عيدا خاصا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا بأول من آمن منا وآخر من آمن، واجعلها علامة من لدنك ترشد القوم إلى صحة دعوتى وصدق نبوتى، وارزقنا منها ومن غيرها ما به تتغذى أجسامنا، فأنت خير الرازقين ترزق من تشاء بغير حساب. ومن محاسن هذا الدعاء أنه أخر ذكر الفائدة المادية للمائدة عن ذكر فائدتها الدينية الروحية، بعكس ما فعله الحواريون، إذ قدموا الأكل على غيره من الفوائد الأخرى. (قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي وعد الله عيسى بإنزال المائدة مرة أو مرارا لكنه رتب شرطا على هذا الوعد فقال: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي إن من يكفر منكم بعد نزول هذه الآية التي اقترحتموها، وجاءت بطريق لا لبس فيه ولا شك، فإنى أعذبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين، لأن عقاب المخطئ أو الكافر يكون بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر فى نفسه، والبعد فيه عن الشبهة والعذر، وأي شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله تترى، ثم يقترح آية خاصة تشترك فى العلم بها حواسه جميعا وينتفع بها فى دنياه قبل آخرته، فيعطى ما طلب، ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه ويكون من الكافرين. وللعلماء فى الطعام الذي نزل فى المائدة آراء: فقيل هو خبز وسمك، وقيل خبز ولحم، وقيل كان ينزل عليهم طعاما أينما ذهبوا كما كان ينزل المنّ على بنى إسرائيل كما رواه ابن جرير عن ابن عباس.

[سورة المائدة (5) : الآيات 116 إلى 120]

وجاء فى إنجيل يوحنا أنه كان يطعم الألوف فى عيد الفصح من خمسة أرغفة وسمكتين- أكل منها أول ذلك الجمع كآخره. [سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) المعنى الجملي كان الكلام قبل هذه الآيات فى تعداد النعم التي أنعم بها سبحانه على عيسى، وفى إلهامه للحواريين الإيمان به وبرسوله، وفى طلب الحواريين من عيسى إنزال مائدة من السماء ثم طلب عيسى من ربه إجابة مطلبهم، وإخبار الله تعالى بأنه أجابهم إلى ما طلبوا.

الإيضاح

ولا يزال الكلام فى هذه الآيات مع عيسى أيضا، ففيها سؤال من الله على مرأى من قومه توبيخا وتقريعا لهم على افترائهم، وإجابة من عيسى عن ذلك فيها تنصل من ذلك الذنب العظيم الذي اقترفوه بعده وهو القول بالتثليث، ثم إخبار من الله بما ينجّى الإنسان من عذاب يوم القيامة، مع بيان أن ما فى السموات والأرض كله مملوك له وفى قبضته يتصرف فيه بعدله وحكمته وهو القادر على كل شىء لا شريك له يمنعه إن أعطى، أو يلزمه بالإعطاء إن منع. الإيضاح (وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟) الخطاب فى هذه الآية للنبى صلى الله عليه وسلم، أي واذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع الله الرسل فيسألهم جميعا عما أجابت به أممهم، حين يقول لعيسى اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك ... وحين يقول له بعد ذلك: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين؟ أي يسأله أقالوا هذا القول بأمر منك أم هم افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم؟ ومعنى قوله من دون الله أي متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة، وذلك إما أن يكون باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى وهو الشرك، إذ عبادة الشريك المتخذ غير عبادة الله خالق السموات والأرض، سواء اعتقد المشرك أن هذا الشريك ينفع ويضر استقلالا، أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب أو بالوساطة عند الله أي بما له من التأثير والكرامة على النفع والضر وهذا هو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة، كما حكاه الله عنهم فى قوله: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» وقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» .

وقل أن يوجد من المشركين من يتخذ إلها غير الله متجاوزا بعبادته الإيمان با لله الذي هو خالق الكون ومدبره فالإيمان الفطري الذي غرس فى نفوس البشر يرشد إلى أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك كنهها أحد، فالموحدون أتباع الأنبياء يتوجهون بعباداتهم إلى رب هذه السلطة الغيبية وحده اعتقادا منهم أنه هو الفاعل الكامل التصرف، وإن نسب الفعل إلى غيره فبإقدار الله إياه وتسخيره له بمقتضى سننه فى خلقه، والمشركون يتوجهون إليه تارة وإلى بعض ما يستكبرون من خلقه تارة أخرى كالشمس والنجم والملائكة وبعض مخلوقات أخرى، ويتوجهون أحيانا إليهما معا فيجعلون تلك المخلوقات المعظمة وسيلة إلى خالق الأكوان ومدبر الكائنات. والخلاصة- إن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره سواء أكانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره ولو بدعاء هذا الغير والتوجه إليه ليكون واسطة عنده. وقد نعى الله عليهم اتخاذ المسيح إلها فى مواضع عدة من هذه السورة، وعبادة أمه كانت معروفة فى الكنائس الشرقية والغربية، ثم أنكرت عبادتها فرقة البر وتستانس (إصلاح المسيحية) التي جاءت بعد الإسلام بزمن طويل. وهذه العبادة منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود، ومنها ما هو استغاثة واستشفاع، ومنها ما هو صيام ينسب إليها ويسمى بصيام العذراء، وكل أولئك يقترن بخشوع وخضوع لذكرها ولصورها وتماثيلها واعتقاد السلطة الغيبية لها وأنها تنفع وتضر فى الدنيا والآخرة إما بنفسها أو بواسطة ابنها ويسمونها (والدة الإله) . والآية ترشد إلى أنهم اتخذوها هى وابنها إلهين (والاتخاذ غير التسمية) فيصدق بالعبادة وهى واقعة حتما. (قالَ سُبْحانَكَ) التسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، وأصل الكلمة من السبح والسباحة، وهى الذهاب السريع البعيد فى البحر أو البر ومنه فرس سبوح. أي أنزهك يا الله عن أن يكون معك إله آخر، وبذا أثبت له التنزيه عن المشاركة فى الذات والصفات.

ثم انتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس بحق فقال: (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي ليس من شأنى ولا مما يصح أن يقع منى أن أقول قولا لا حق لى أن أقوله، لأنك أيدتنى بالعصمة عن مثل هذا القول الباطل. وهو بتنزيهه الله أوّلا أثبت أن ذلك القول الذي نسب إليه قول لا شائبة فيه من الحق وليس من شأنه ولا مما يقع من مثله. وقد أكد هذا النفي مرة أخرى بحجة أخرى ارتقى فيها من برهان راجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام إلى برهان أعلى راجع إلى ربه علام الغيوب فقال: (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي إن ذلك القول إن كان قد صدر منى فقد علمته، إذ علمك واسع محيط بكل شىء، فأنت تعلم ما أسره وأخفيه فى نفسى فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه وعلمه منى غيرى؟ كما أنى لا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا ترشدنى إليها بالكسب والاستدلال، لكنى أعلم ما تظهره لى بالوحى بواسطة ملائكتك المقربين إليك. (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي لأنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك، ما كان منها وما سيكون وما هو كائن، وعلم غيرك مستمد من فيضك لا من ذاته، فهو إما أن يناله بواسطة المشاعر والحواس أو العقل، وإما أن يتلقاه هبة منك بالوحى والإلهام. وبعد تنزيه ربه وتبرئة نفسه وإقامة البراهين على ذلك- بين حقيقة ما قاله لقومه، إذ الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة إلا بإثبات ما يجب أن يكونوا عليه من أمر التوحيد بعد نفى ضده، فقال: (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ- أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي إنى ما قلت لهم فى شأن الإيمان وأساس الدين إلا ما أمرتنى بالتزامه اعتقادا وتبليغا لهم، بأنك ربى وربهم وأننى عبد من عبادك مثلهم إلا أنك خصصتنى بالرسالة إليهم.

(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون، فأقر الحق وأنكر الباطل مدة وجودى بينهم. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي فلما قبضتنى إليك كنت أنت الحفيظ عليهم دونى، لأنى إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم، وأنت تشهد على كل شىء إذ لا يخفى عليك شىء. وفى هذا إيماء إلى أن الله إنما عرّفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه بقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) . وقد تقدم فى هذه السورة ما يثبت براءة عيسى عليه السلام من مثل هذه المقالة، وذلك قوله: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» . وجاء فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) . ثم فوّض عليه السلام أمر الجزاء إليه تعالى فقال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن نغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) أي إن تعذب من أرسلتنى إليهم فبلّغتهم ما أمرتنى به من توحيدك وعبادتك فضلّ منهم من ضل وقالوا مالم أقله، واهتدى منهم من اهتدى فلم يعبدوا معك سواك، فإنهم عبادك وأنت الرحيم بهم، ولست أنا ولا غيرى من الخلق بأرحم بهم منك، وإنما تجزيهم بحسب علمك بما يظهرون وما يبطنون، فأنت العليم بالمؤمن المخلص فى إيمانه، وبمن أشرك بك غيرك أو بمن أطاعك وبمن عصاك وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.

وإن تغفر فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة، وإنك أنت العزيز الغالب على أمره، الحكيم فى تصرفه وصنعه، فيضع كل جزاء وكل فعل فى موضعه. وخلاصة المعنى- إنك إن تعذب فإنما تعذب من يستحق التعذيب، وإن تغفر فإنما تغفر لمن هو أهل لذلك، ومهما توقعه فيهم من عذاب فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته، لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويمنع من شاء ما شاء ولا يمنع، وأنت الحكيم الذي تضع كل شىء موضعه، فلا يمكن أحدا غيرك أن يرجعك عنه. ومن هذا تعلم أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئا من الشفاعة لقومه، ومما يؤيد هذا ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى فى إبراهيم صلى الله عليه وسلم: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» الآية، وقول عيسى عليه السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فرفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم أمتى أمتى، وبكى، فقال الله عزّ وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال- وهو أعلم- فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوءك» ، وما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإنه يجاء برجال من أمتى يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال فأقول: أصحابى، فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ- إلى قوله- الْحَكِيمُ) قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم» وما رواه أحمد والنسائي وابن مردويه «أنه صلى الله عليه وسلم قام بهذه الآية: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ

عِبادُكَ ... ) إلخ حتى أصبح يركع بها ويسجد فسأله أبوذر عن ذلك فقال: إنى سألت ربى الشفاعة فأعطانيها وهى نائلة إن شاء الله من لا يشرك با لله شيئا» . فهذه الأحاديث صريحة فى أن الشفاعة لا ينالها أحد يشرك با لله شيئا. (قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي قال الله تعالى: إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم فى إيمانهم وفى شهاداتهم وفى سائر أقوالهم وأحوالهم. ثم بين هذا النفع فقال: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي للصادقين جنات تجرى من تحتها الأنهار فى الآخرة ثوابا من عند الله، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وهذا غاية السعادة الأبدية، إذ لا مطلب لهم أعلى منه حتى تمتد أعناقهم إليه وتتطلع نفوسهم لبلوغه كما قال تعالى «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» . وقوله ذلك الفوز العظيم، أي ذلك الذي ذكر من النعيمين الجثمانى والروحاني اللذين يحصلون عليهما بعد النجاة من أهوال يوم القيامة هو الفوز البالغ الغاية، لأن الفوز هو الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده أو مما يحول دونه كما قال تعالى: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» وبعد أن بين ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الحق فى مقعد الصدق، بين عقبه سعة ملكه وعموم قدرته الدالين على كون ذلك الجزاء لا يقدر عليه غيره فقال: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الملك كله والقدرة كلها لله وحده، وفى قوله: وما فيهن، تعريض بأن المسيح وأمه اللذين عبدا من دون الله داخلان تحت قبضته تعالى، إذ الملك والقدرة له وحده فلا ينبغى لأحد أن يتكل على شفاعتهما «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وغاية ما أعطاهم الكرامة لديه والمنزلة الرفيعة من بين عباده «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ

بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» . «سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» «إلمامة بما تضمنته السورة من التشريع والأحكام الاعتقادية والعملية» أهم الأصول التي انفردت بها هذه السورة: (1) بيان أن الله أكمل هذا الدين الذي ارتضى لهم، وأن دين الله واحد وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم، وأن هذا الدين مبنى على العلم اليقيني فى الاعتقاد والهداية فى الأخلاق والأعمال، وأن التقليد فيه باطل لا يقبله الله، وأن أصول الدين الإلهى على ألسنة الرسل كلهم هى الإيمان با لله واليوم الآخر والعمل الصالح، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أي ملة كاليهود والنصارى والصابئين فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (2) بيان عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالتبليغ العام، وأنه لا يكلف إلا التبليغ فقط، ومن حجج رسالته أنه بيّن لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم مما ضاع قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومما كانوا يكتمونه من الأحكام اتباعا لأهوائهم، وأن هذا الرسول قد عصمه الله وحفظه من أن يضره أحد أو يصده عن تبليغ رسالة ربه، وأننا نهينا عن سؤاله عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم لما فيها من زيادة لتكاليف. (3) بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفراد وجماعات، وأنه لا يضرهم من ضل إذا هم استقاموا على صراط الهداية، فهو لا يضرهم لا فى دنيا ولا دين، ومن ذلك الوفاء بالعقود التي يتعاقدون عليها فى جميع المعاملات الدنيوية، وتحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم، والتعاون على البر والتقوى كتأليف

الجماعات العلمية والخيرية وتحريم التعاون على الإثم والعدوان، وتحريم موالاة المؤمنين للكافرين وبيان أن ذلك من آيات النفاق. (4) تفصيل أحكام الطعام حلاله وحرامه، وبيان أن التحريم منه إما ذاتى كالميتة وما فى معناها، وإما لسبب دينى كالذى يذبح للأصنام، وبيان أن الضرورات تبيح المحظورات. (5) تحريم الخمر وكل مسكر، والميسر وهو القمار وما فى حكمه (كالمضاربات فى البورصة) . (6) وجوب الشهادة بالقسط والحكم بالعدل والمساواة بين غير المسلمين والمسلمين ولو للأعداء على الأصدقاء وتأكيد وجوب ذلك فى سائر الأحكام. (7) بيان تفويض أمر الجزاء فى الآخرة إلى الله وحده، وأن النافع فى ذلك اليوم هو الصدق. وكان مسك ختامها ذكر الجزاء فى الآخرة بما يناسب أحكامها كلها، وقد روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه، والبيهقي عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت يا جبير تقرأ المائدة؟ قلت نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه. وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح.

سورة الأنعام

سورة الأنعام آيها خمس وستون ومائة، نزلت بعد الحجر وهى مكية إلا الآيات 20، 23، 91، 93، 114، 141، 151، 152، 153 وقد روى كثير من المحدّثين عن غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذه السورة نزلت جملة واحدة. مناسبة هذه السورة لما قبلها الناظر إلى ترتيب السور كلها فى المصحف يرى أنه قد روعى فى ترتيبها الطول والتوسط والقصر فى الجملة، ليكون ذلك أعون على التلاوة وأسهل فى الحفظ فالناس يبدءون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثانى فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط، ويبدءون بحفظه من آخره لأن ذلك أسهل على الأطفال ولأنه قد روعى التناسب فى معانى السور مع التناسب فى مقدار الطول والقصر. ووجه مناسبتها لآخر سورة المائدة من وجوه عدة: (1) إن معظم سورة المائدة فى محاجة أهل الكتاب، ومعظم سورة الأنعام (2) إن سورة الأنعام قد ذكرت فيها أحكام الأطعمة المحرمة والذبائح بالإجمال، وذكرت فى المائدة بالتفصيل وهى قد نزلت أخيرا. (3) إن هذه افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وبينهما تلازم كما قال: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 إلى 3]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) تفسير المفردات الحمد: هو الثناء الحسن والذكر الجميل، والظلمة: الحال التي يكون عليها كل مكان لا نور فيه، والنور قسمان: حسى وهو ما يدرك بالبصر، ومعنوى عقلى يدرك بالبصيرة، والجعل: هو الإنشاء والإبداع كالخلق، إلا أن الجعل مختص بالإنشاء التكويني كما فى هذه الآية، والتشريعي كما فى قوله: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ» الآية، والخلق عام. ولم يذكر النور فى القرآن إلا مفردا والظلمة إلا جمعا، لأن النور واحد وإن تعددت مصادره، والظلمة تحدث مما يحجب النور من الأجسام غير النيرة وهى كثيرة وكذلك النور المعنوي شىء واحد، والظلمات متعددة فالحق واحد لا يتعدد والباطل الذي يقابله كثير، والهوى واحد والضلال المقابل له كثير، فالتوحيد يقابله التعطيل، والشرك فى الألوهية بأنواعه والشرك فى الربوبية بضروبه المختلفة. وقدمت الظلمات فى الذكر على النور لأن جنسها مقدم فى الوجود فقد وجدت مادة الكون وكانت دخانا مظلما أو سديما كما يقول علماء الفلك، ثم تكونت الشموس بما حدث فيها من الاشتعال لشدة الحركة، وإلى هذا يشير حديث عبد الله

الإيضاح

ابن عمرو عند أحمد والترمذي «إن الله خلق الخلق فى ظلمة، ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى، ومن أخطأه ضل» . وكذلك الظلمات المعنوية أسبق وجودا، فإن نور العلم والهداية كسبى فى البشر، وغير الكسبي منه كالوحى، فتلقيه كسبى، وفهمه والعمل به كسبيان أيضا، وظلمات الجهل والأهواء سابقة على هذا النور «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . ويعدلون أي يعدلون به غيره، أي يجعلون عديلا مساويا له فى العبادة والدعوة لكشف الضر وجلب النفع، فهو بمعنى يشركون به ويتخذون له أندادا، والأجل هو المدة المضروبة للشىء أي المقدار المحدود من الزمان وقضاء الأجل: تارة يطلق على الحكم به، وضربه للشىء كما قضى شعيب عليه السلام أجلا لخدمة موسى له ثمانى سنوات وأجلا اختيار يا سنتين، ويطلق أخرى على القيام بالشيء وفعله كما قال: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ» الآية، وتمترون أي تشكّون فى البعث. الإيضاح (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي الحمد والشكر للذى خلقكم وخلق السموات والأرض فهو المستوجب للحمد بنعمه عليكم، لا من تعبدون من دونه وتجعلونه له شريكا من خلقه. والمراد بالسماوات والأرض: العوالم العلوية التي يرى كثير منها فوقنا وهذا العالم الذي نعيش فيه. وكذلك الذي أوجد الظلمات والنور. واختلف العلماء فى المراد منهما، فمن قائل إن المقصود منهما ظلمة الليل ونور النهار وإلى هذا جنح ابن جرير وابن أبي حاتم عن

السدى، وفى ذلك رد على المجوس (الثّنويّة) الذين زعموا أن للعالم وبين أحدهما النور وهو الخالق للخير، والثاني الظلمة وهو الخالق للشر، ومن قائل إن المراد منهما الكفر والإيمان وروى هذا عن ابن عباس. (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي ثم إنهم مع ذلك يعدلون به سواه، ويسوونه به فى العبادة التي هى أقصى غاية الشكر، ويدعونه لكشف الضر وجلب النفع، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. وبعد أن وصف الخالق تعالى بما دل على توحيده واستحقاقه للحمد- انتقل إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره فى العبادة مذكّرا لهم بدلائل التوحيد والبعث فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي هو الذي خلقكم من الطين (التراب الذي يخالطه ماء) فقد خلق أباكم آدم من الطين كما خلق سائر الأحياء التي فى هذه الأرض بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فإن بنية الإنسان مكونة من الغذاء ومن ذلك البويضات التي فى الأنثى والحيوان المنوىّ الذي فى الذكر فكلها مكونة من الدم، والدم من الغذاء، والغداء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان المتولدة من النبات فالمرجع إلى النبات من الطين، والناظر فى كل هذا يعلم جليا أن القادر على كل هذا لا يعجزه أن يعيد هذا الخلق كما بدأه عند انقضاء آجاله التي قضاها له فى أجل آخر يضر به لهذه الإعادة بحسب علمه وحكمته. والآية ترشد إلى أنه تعالى قضى لعباده أجلين أجلا لحياة كل فرد منهم ينتهى بموته، وأجلا لإعادتهم وبعثهم بعد موت الجميع وانقضاء عمر الدنيا. ومعنى كونه مسمى عنده: أنه لا يعلمه غيره، لأنه لم يطلع أحدا على يوم القيامة لا ملكا مقرّبا ولا نبيا مرسلا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 إلى 6]

(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي إنه تعالى هو المتصف بهذه الصفات المعروفة المعترف له بها فى السموات والأرض، ونظير هذا أن تقول إن حاتما هو حاتم فى طيىء وفى جميع القبائل، أي هو المعروف بالجود المشهور به فى قومه وفى غيرهم. (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) هذا تقرير وتوكيد لما قبله، لأن الذي يستوى فى علمه السر والعلانية هو الله وحده. (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من الخير والشر فيحصى ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 6] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) تفسير المفردات الآيات هنا: آيات القرآن المرشدة إلى آيات الأكوان والمثبتة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والإعراض: التولي عن الشيء، والحق: هو دين الله الذي جاءهم به خاتم رسله من عقائد وعبادات ومعاملات وآداب، والأنباء: ما فى القرآن من وعد بنصر الله لرسله وإظهار لدينه. ووعيد لأعدائه بخذلانهم فى الدنيا وعذابهم فى الآخرة، والقرن من الناس: القوم المقترنون فى زمن واحد وجمعه قرون، وقد جاء فى القرآن مفردا وجمعا

المعنى الجملي

ومكنه فى الأرض أو فى الشيء: جعله متمكنا من التصرف فيه، ومكن له: أعطاه أسباب التمكن فى الأرض كقوله: «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» وقوله: «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً؟» والسماء: المطر والمدرار: الغزير. المعنى الجملي بعد أن أرشد سبحانه فى الآيات السالفة إلى دلائل وحدانيته، ودل على أنها مع ظهورها لم تمنع الكافرين من الشك، وإلى دلائل البعث، وأنها على شدة وضوخها لم تمنع المشركين من الشك والريب، وإلى أن الله المتصف بتلك الصفات التي تعرفونها هو الله المحيط علمه بما فى السموات والأرض فلا ينبغى أن يشرك به غيره فيهما، ولكن المشركين جهلوا ذلك وجوّزوا أن يكون غير الرب إلها، بل عبدوا معه آلهة أخرى. ذكر هنا سبب عدم اهتدائهم بالوحى، وأنذرهم عاقبة التكذيب بالحق ولفت أنظارهم إلى ما حلّ بالأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم. الإيضاح (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وما تنزل عليهم آية من آيات القرآن التي من جملتها تلك الآيات الناطقة بتفصيل بدائع صنع الله المنبعثة بجريان أحكام ألوهيته على جميع الكائنات- إلا أعرضوا عنها استهزاء وتكذيبا غير متدبرين معناها، ولا ناظرين فى دلالتها. ولما بين سبحانه أن شأنهم الإعراض عن الآيات المنزلة رتّب عليه قوله: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي فبسبب ذلك الإعراض العام عن النظر فى الآيات كذبوا بالحق الذي جاءهم حين جاءهم ولم يترّيثوا ولم يتأملوا، لأنهم سدوا على أنفسهم مسالك العلم.

وهذا الحق الذي كذبوا به هو الدين الذي جاء به خاتم أنبيائه بما اشتمل عليه من آداب وأخلاق وعبادات ومعاملات، إلى نحو أولئك مما فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم. ثم هددهم وتوعدهم على تكذيبهم فقال: (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) النبأ: الخبر العظيم أي فستكون عاقبة التكذيب أن تحلّ بهم العقوبات العاجلة التي نطقت بها الآيات وعيدا لهم من القتل والسبي والجلاء عن البلاد ووعدا لرسوله من النصر له وإظهار دينه على الدين كله. وقد أتاهم ذلك فكان منه ما نزل بهم من القحط، ومن الخذلان يوم بدر، ثم تم ذلك يوم الفتح. وبعد أن توعدهم سبحانه بنزول العذاب بهم بيّن أن هذا مما جرت به سنته فى المكذبين قبلهم فقال: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ؟) أي ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق أنا أهلكنا كثيرا من الأقوام الذين كذبوا الرسل قبلهم بعد أن أعطيناهم من التمكين والاستقلال فى الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم مثله، ثم لم تكن تلك النعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم وعتوهم واستكبارهم. وذكر بعد هذا ما امتازت به تلك القرون عن كفار قريش من النعم الإلهية التي اقتضتها طبيعة بلادهم وخصب تربتها فقال: (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) الإرسال تارة يكون ببعث من له اختيار كإرسال الرسل، وتارة بالتسخير كإرسال الريح والمطر، وتارة بترك المنع نحو «أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ» أي وسخرنا لهم الأمطار الغزيرة التي تكوّن الأنهار المترعة بالمياه، وهديناهم إلى الاستمتاع بها بجعلها تجرى دائما تحت مساكنهم التي يبنونها على ضفافها، أو فى الجنات والحدائق التي تتفجر خلالها

فيتمتعون بالنظر إلى جمالها واستنبات الأشجار والثمار التي يأكلونها، ويولدون النّعم والماشية التي تتغذى من مراعيها. والخلاصة- إنهم أوتوا من البسطة فى الأجسام، والامتداد فى الأعمال، والسعة فى الأموال، والاستمتاع بلذات الدنيا ما لم يؤته أهل مكة، ولكن ذلك لم يغن عنهم شيئا فكفروا بأنعم الله ولم يؤمنوا بما جاءهم به أنبياؤهم، بل كذبوهم فاستحقوا العقاب وإلى ذلك أشار بقوله: (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي فكان عاقبة أمرهم أن أهلكنا كل قرن منهم بسبب ذنوبهم التي كانوا يجترحونها، وأوجدنا من كل منهم قرنا آخر يعمرون البلاد ويكونون أجدر بشكران النعمة. والذنوب التي تدعو إلى الهلاك ضربان: (1) معاندة الرسل والاستكبار والعتوّ والتكذيب. (2) كفران النعم بالبطر وغمط الحق وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء والإسراف فى الفسق والفجور والغرور بالغنى والثروة، كما جاء فى قوله: «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ» . وفى هذه الآية رد على كفار مكة وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفقرهم كما حكى الله عنهم فى قوله: «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» . وهؤلاء القوم الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله لا بد أن يخلفوا عنهم فى صفاتهم وإن كانوا من أبناء جنسهم، فالعبر والحوادث واختلاف الزمن لها تأثير

[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 إلى 9]

كبير فى النفوس تخفف من غلواء الناس وتقلل من بطشهم وعتوهم، وفى المشاهدة أكبر دليل على صحة ذلك. انظر إلى ما فعلته الحرب العظمى الثانية فى نفوس الشعوب فى الشرق والغرب، فإنه قد نشأ بعدها جيل أقل بطرا وانغماسا فى الشهوة والترف وما ينشأ عنهما من الفسق والفجور من سابقه، وكذلك فى حسن معاملة الناس بعضهم لبعض وحفظ الحقوق والمساواة فيها. ولا يعلم إلا الله ما ستنتهى إليه تلك الحرب الضروس الدائرة رحاها الآن ولا ما ستتمخض عنه من الحوادث الجسام فى مستقبل الأمم والشعوب، ولا ما سيكون لها من التأثير فى النظم الاجتماعية والاقتصادية والصلات والروابط بين بعض الأمم وبعض. [سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) تفسير المفردات الكتاب: الصحيفة المكتوبة ومجموعه الصحف فى غرض واحد، والقرطاس (مثلث القاف) الورق الذي يكتب فيه، واللمس كالمس: إدراك الشيء بظاهر البشر وقد يستعمل بمعنى طلب الشيء والبحث عنه، ويقال لمسه والتمسه وتلمسه، ومنه «أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ» وسحر: أي خداع وتمويه يرى ما لا حقيقة له فى صورة الحقائق، لقضى الأمر أي لتم أمر هلاكهم، لا ينظرون أي لا يمهلون، اللبس: الستر والتغطية

المعنى الجملي

يقال لبس الثوب يلبسه (بكسر الباء فى الأول وفتحها فى الثاني) ولبس الحق بالباطل يلبسه (بفتح الباء فى الأول وكسرها فى الثاني) بمعنى ستره به، أي جعله مكانه ليظن أنه الحق، ولبست عليه أمره أي جعلته بحيث يلتبس عليه فلا يعرفه. المعنى الجملي بعد أن أرشد سبحانه فى الآيات المتقدمة إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث، ثم ذكر بعدها الأسباب التي دعت قريشا إلى التكذيب، وأنذرهم عاقبة هذا التكذيب بما يحلّ بهم من عذاب الله فى الدنيا والآخرة، وأنه لا يحول دونه ما هم فيه من قوة وضعف الرسول صلى الله عليه وتمكنهم فى مكة وهى أم القرى، وأهلها القدوة والسادة بين العرب. ذكر هنا شبهات أولئك الجاحدين المعاندين على الوحى وبعثة الرسول، وبهاتم بيان أسباب جحودهم وإنكارهم لأصول الدين الثلاثة (التوحيد والبعث ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم) . روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق سبب نزول الآية الثانية قال «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبيّ بن خلف والعاصي بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدّث عنك الناس ويرى معك- فأنزل الله في ذلك: - وقالوا لولا أنزل عليه ملك» . ورجح بعضهم أن هذا السبب لا يصح فى هذه الآية، لأن اقتراح المعاندين من المشركين إنزال الملك مع الرسول مذكور فى سور من القرآن أنزلت قبل هذه السورة فما فيها إنما هورد على شبهة سبقت وحكيت عنهم، وكذلك اقتراح إنزال كتاب من السماء وإنزال القرآن جملة واحدة مذكور فى سورة الفرقان.

الإيضاح

الإيضاح كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجب من كفر قومه به وبما أنزل عليه مع وضوح برهانه وإظهار إعجازه وكان يضيق صدره لذلك ويبلغ منه الحزن والأسف كل مبلغ كما قال فى سورة هود «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ» . فبين الله أسباب ذلك ومناشئه من طباع البشر وأخلاقهم، ليعلم أن الحجة مهما تكن ناهضة فإنها لا تجدى إلا عند من كان مستعدا لها وزالت عنه موانع الكبر والعناد، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي إن علة تكذيبهم بالحق هى إعراضهم عن الآيات وإقفال باب النظر والاستدلال لإخفاء الآيات فى أنفسها وقوة الشبهات التي تحوم حولها، فلو أننا نزلنا عليك كتابا من السماء فى قرطاس فرأوه نازلا فيها بأعينهم ولمسوه عند وصوله إلى الأرض بأيديهم لقال الذين كفروا منهم: ما هذا الذي رأيناه ولمسناه إلا سحر بيّن فى نفسه، وإنما خيل إلينا أننا رأينا كتابا ولمسناه، وما ثمّ كتاب نزل ولا قرطاس رئى ولا لمس، وتلك مقالة أمثالهم فى آيات الأنبياء من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا ... وإنما قال لمسوه بأيديهم، ليبين أن المراد باللمس المعنى الأول لا الثاني الذي بيناه فيما سلف، ومن ثمّ قال قتادة: فعاينوه ومسّوه بأيديهم. وقال مجاهد فمسّوه ونظروا إليه واللمس أقوى اليقينيات الحسية وأبعدها عن الخداع، لأن البصر يخدع بالتخيل، وجاء فى سورة الحجر: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ [حبست ومنعت] أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» .

(وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) كان لكفار مكة اقتراحان تقدموا بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فى مواطن مختلفة: (1) أن ينزل على الرسول ملك من السماء يكون معه نذيرا يرونه ويسمعون كلامه، وإلى هذا تشير الآية. (2) ينزل الملك عليهم بالرسالة من ربهم. والاقتراح الأول مبنى على اعتقاد أن أرقى البشر عقلا وأخلاقا وآدابا وهم الرسل عليهم السلام ليسوا بأهل لأن يكونوا رسلا بين الله وبين عباده، لأنهم بشر يأكلون ويشربون كما جاء فى سورة المؤمنون «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» : وقد رد الله تعالى الاقتراحين من وجهين: (1) (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي ولو أنزلنا ملكا كما اقترحوا لقضى الأمر بإهلاكهم ثم لا يؤخرون ولا يمهلون ليؤمنوا، بل يأخذهم العذاب عاجلا كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم، قال ابن عباس: ولو أتاهم ملك فى صورته لأهلكناهم ثم لا يؤخرون. (2) (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي ولو جعل الرسول ملكا لجعل متمثلا فى صورة بشر ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلّغه عن ربه، ولو جعله ملكا فى صورة بشر لاعتقدوا أنه بشر لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التي تمثّل بها، وحينئذ يقعون فى نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسون على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشرا، ولا ينفكون يقترحون جعله ملكا

[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 إلى 11]

وهم قد كانوا فى غنى عن ذلك، وهذا شأن كثير من الناس يوقعون أنفسهم فى المشكلات بسوء صنيعهم ثم يحارون فى المخلص منها. وذكر البخاري فى تفسير قضاء الأمر عدة وجوه: (1) أن سنة الله قد جرت بأن أقوام الرسل إذا اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا بها يعذبهم الله عذاب الاستئصال، والله لا يريد أن يستأصل هذه الأمة التي بعث فيها خاتم رسله نبى الرحمة «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» . (2) أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية لزهفت أرواحهم من هول ما يشاهدون. (3) أن رؤية الملك بصورته آية ملجئة يزول بها الاختيار الذي هو قاعدة التكليف. (4) أنهم اقترحوا ما لا يتوقف عليه الإيمان، فلو أعطوه ولم يجد ذلك معهم نفعا دل ذلك على منتهى العناد الذي يستدعى الإهلاك وعدم النظرة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) تفسير المفردات الهزؤ: (بضمتين أو ضم فسكون) والاستهزاء: السخرية. والاستهزاء بالشخص: احتقاره وعدم الاهتمام بأمره، وحاق به المكروه يحيق حيقا: أحاط به فلم يكن له منه مخلص

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف مقترحاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم تارة يطلبون إنزال ملك مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخرى يطلبون إنزال ملك بالرسالة، وكان مبنى هذه المقالة الاستهزاء، وكان قلب الرسول يضيق بها درعا عند سماعه إياها ذكر هنا ما يخفف عنه ما يلاقيه منهم من سوء الأدب ومن الهزؤ والسخرية، فأبان له أنك لست ببدع من الرسل، فإن كثيرا منهم لاقوا من أقوامهم مثل ما لاقيت بل أشد من ذلك وأنكى، فأنزل الله بهم من العذاب ما يستحقونه كفاء أفعالهم الشنيعة وجرأتهم على من اصطفاهم ربهم من خلقه، ثم أمر هؤلاء المكذبين بأن يسيروا فى الأرض ليروا كيف كانت عاقبة المكذبين لأنبيائه. الإيضاح (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أخبر الله رسوله بأن الكفار قد استهزءوا برسل كرام قبلك كما جاء فى قوله: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» فما تراه من استهزاء كفار قريش بك ليس ببدع منهم بل هم جروا فيه على آثار أعداء الرسل قبلك وقد حل بأولئك الساخرين العذاب الذي أنذرهم إياه أولئك الرسل جزاء على سوء صنيعهم، وفى الآية وجوه من العبرة: (1) تعليم النبي صلى الله عليه وسلم سنن الله فى الأمم مع رسلهم. (2) تسلية له عن إيذاء قومه له. (3) بشارة له بحسن العاقبة وما سيكون له من الغلبة والسلطان، وما سيحل بأولئك المستهزئين من الخزي والنكال، وقد أهلكهم الله وامتنّ على نبيه بذلك

[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 إلى 19]

فى سورة الحجر «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» والمشهور أنهم كانوا خمسة من رؤساء قريش هلكوا كلهم فى يوم واحد. وخلاصة المعنى- هوّن عليك ما تلقى من هؤلاء المستخفين بحقك فىّ وفى طاعتى، وامض لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدى والإذعان لطاعتى، فإنهم إن تمادوا فى غيّهم نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم ونعجّل النقمة لهم وتحل بهم المثلات. ولما كان ما يحل بالمستهزئين بالرسل من الهلاك بموجب سنة الله المطردة فيهم، قد يكون موضعا للريبة والشك لديهم، إذ هم يجهلون التاريخ ولا يأخذون خبره بالتسليم أمر الله نبيه بأن يرشدهم إلى الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي قل لأولئك للمكذبين الجاحدين حقيقة ما جئتهم به: سيروا فى الأرض كما هو دأبكم وعادتكم وتنقلوا فى ديار أولئك القرون الذين مكناهم فى الأرض ومكنا لهم مالم نمكن لكم ثم انظروا فى أثناء رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم وما تسمعون من أخبارهم، ثم اعتبروا إن لم تنهكم حلومكم ولم تزجركم حجج الله عليكم، واحذروا مثل مصارعهم واتقوا أن يحل بكم مثل ما حل بهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 19] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

تفسير المفردات

تفسير المفردات كتب على نفسه: أي أوجب إيجاب فضل وكرم، سكن: من السكون ضد الحركة، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله أي له ما سكن وما تحرك كما جاء فى قوله تعالى «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» أي والبرد، والولي: الناصر، ومتولى الأمر: المتصرف فيه، فاطر السموات والأرض أي مبدعهما على غير مثال سابق، وأصل الفطر: الشّق ومنه «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» وهو يطعم ولا يطعم، أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد، يصرف عنه أي يبعد عنه، رحمة أي بإنجائه من الهول الأكبر، المس: أعم من اللمس فيقال مسه السوء والكبر والعذاب والتعب أي أصابه، والضر: الألم والحزن والخوف وما يفضى إليها أو إلى أحدها، والنفع اللذة والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما، والخير: ما كان فيه منفعة حاضرة أو مستقبلة، والشر: ما لا منفعة فيه البتة أو ما كان ضره أكبر من نفعه، قال تعالى «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» والقهر: الغلبة والإذلال، وشهادة الشيء: حضوره ومشاهدته، والشهادة به: الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبنى على المشاهدة بالبصر أو بالعقل والوجدان، والإنذار: التخويف، واكتفى به عن ذكر البشارة

المعنى الجملي

لمناسبته للمقام أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر، أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة، مما تشركون أي من الأصنام. المعنى الجملي ذكر سبحانه فى الآية السابقة أصول الدين الثلاثة: التوحيد والبعث والجزاء ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر شبهات الكافرين على الرسالة وبين ما يدحضها، ثم أرشد إلى سننه تعالى فى أقوام الرسل المكذبين، وأن عاقبتهم الهلاك والاستئصال والخزي والنكال، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا لقلبه وإعانة له على المضىّ فى تبليغ رسالته. ثم ذكر هنا هذه الأصول الثلاثة بأسلوب آخر: أسلوب السؤال والجواب، بهرهم فيه بالحجة، ودلهم على واضح المحجة، تفنّنا فى الحجاج فى المواضع الهامة، فإن الأدلة إذا تضافرت على مطلوب واحد كان لها فى النفس قبول أيّما قبول، وكذلك أساليب الحجاج إذا تنوعت دفعت عن السامع السأم وجعلته ينشط لسماع ما يلقى إليه، فهو إذا لم يعقل الدليل الأول أو عمى عليه أسلوبه رأى فى الدليل الثاني ما ينير له طريق المطلوب أو رأى فى الأسلوب الثاني ما يكفيه مئونة البحث فى الدليل الأول فهو فى غنى بما يكون أمامه عن أن يبحث عن فائت أو يلجأ إلى غائب، ومن ثم نرى الخطباء المفلقين والعلماء المبرّزين ينوّعون أساليب حجاجهم ويكثرون البرهانات على المطلوب الواحد، ليكون ذلك أدعى إلى الإقناع وأقرب إلى الاقتناع. الإيضاح (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) أي قل أيها الرسول لقومك الجاحدين لرسالتك المعرّضين عن دعوتك: لمن هذه المخلوقات علويّها وسفليّها؟

وقد كانت العرب تؤمن بأن الله خالق السموات والأرض وأن كل ما فيهما ملك وعبيد له، كما قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» . والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ. (قُلْ لِلَّهِ) هذا تقرير للجواب نيابة عنهم، أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه ولا خلاف بينى وبينكم فى ذلك ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا آخر إليه. وإتيان السائل بالجواب يحسن إذا كان ما يأتى به هو عين ما يعتقده المسئول وما يجيب به إن أجاب، وإنما يسبقه إليه ليبنى عليه شيئا من لوازمه مما يجهله المسئول أو يغفل عنه أو ينكره لجهله أو غفلته عن كونه لازما لما يعرفه ويعتقده. ثم ذكر من صفاته ما يرعب فى طاعته فقال: (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي إن الله الذي تقرون معى بأنه مالك السموات والأرض قد أوجب على ذاته العلية الرحمة بخلقه، إذ أفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن مقتضى هذه الرحمة أن يجمعكم إلى يوم القيامة، ذلك اليوم الذي لا شك فى مجيئه لوضوح أدلته وسطوع براهينه، للحساب والجزاء على الأعمال، إذ أنه وازع نفسى لا يتم تهذيب النفوس إلا به فهو يمنع الظلم وهضم الحقوق وإيذاء الناس وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، خوفا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها. ولما كان مقتضى الرحمة والفضل أعم وأسبق من مقتضى العدل كان جزاء الظالمين المسيئين على قدر استحقاقهم، ومنهم من يعفو الله عنه، فالجزاء على الإساءة قد ينقص منه بالعفو والمغفرة ولا يزاد فيه، وإنما الزيادة فى الجزاء على الإحسان: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» . وبيان الدين لهذا النوع من الجزاء رحمة أيضا، فما مثله إلى مثل الحكومة العادلة تبيّن للأمة ما تؤاخذ عليه من الأعمال الضارة وما تكافئ به من يصدق فى خدمتها

ويرقى إلى سماء العزة والكرامة، روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش: إن رحمتى سبقت غضبى» والمراد بالسبق هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه. والخلاصة- إنه لما قال كتب على نفسه الرحمة، فكأنه قيل وما تلك الرحمة؟ فقيل ليجمعنكم إلى يوم القيامة، ذلك أنه لولا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الفساد فى الأرض واختلّت نظم الاجتماع وأكل القوى الضعيف ولا وازع ولا زاجر، فصار التهديد بهذا اليوم من أسباب الرحمة. (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) خسارة الأنفس إفساد فطرتها وعدم اهتدائها بما منحها الله من أنواع الهدايات، فالمقلدون خسروا أنفسهم لأنهم حرموها استعمال نعمتى العقل والعلم. أي أخصّ هؤلاء الذين خسروا أنفسهم بالتذكير والذم والتوبيخ بين من يجمعون إلى يوم القيامة، إذ هم لخسرانهم أنفسهم فى الدنيا لا يؤمنون بالآخرة، فهم قلما ينظرون ويستدلون، وإن هم فعلوا قعد بهم ضعف الإرادة عن احتمال لوم اللائمين واحتقار الأهل والمعاشرين. والخلاصة- إن الفوز والفلاح فى الدين والدنيا لا يتم إلا بالعلم الصحيح والعزيمة الحافزة إلى العمل بالعلم، فمن خسر إحدى الفضيلتين فقد خسر نفسه، فردا كان أو أمة، فما بال من خسرهما معا. (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي لله ما فى السموات وما فى الأرض، وله ما سكن فى الليل والنهار، وخص هذا بالذكر وإن كان داخلا فى عموم ما فى السموات والأرض، تنبيها إلى تصرفه تعالى بهذه الخفايا ولا سما إذا جنّ الليل وهدأ الخلق.

وبعد أن ذكر سبحانه تصرفه فى الخلق دقيقه وجليله كما يشاء كما هو شأن الربوبية الكاملة، ذكر أنه هو السميع العليم أي المحيط سمعه بكل ما من شأنه أن يسمع مهما يكن خفيا عن غيره، فهو يسمع دبيب النملة فى الليلة الظلماء، والمحيط علمه بكل شىء «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» . والخلاصة- إنه تعالى لا تدق عن سمعه دعوة داع، أو تعزب عن علمه حاجة محتاج، حتى يخبره بها الأولياء، أو يقنعه بها الشفعاء. وبعد هذا القول الذي أمر رسوله للتذكير بأنه المالك لكل شىء، والمدبر لكل شىء إذ هو سميع لكل شىء ولا يعزب عن علمه شىء- أمره هنا بقول آخر لازم لما سبق، وهو وجوب ولايته تعالى وجده والتوجه إليه دون سواه فى كل ما هو فوق كسب البشر، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم فقال: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا؟) أي قل لهم: لا أطلب من غيره نفعا ولا ضرا، لا فعلا ولا منعا، فيما هو فوق كسبه وتصرفه الذي منحه الله لأبناء جنسه، أما تناصر المخلوقين وتولّى بعضهم بعضا فيما هو من كسبهم العادي، فلا يدخل فى عموم الإنكار الذي يفهم من الآية، فقد أثنى الله على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض. وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون معبوداتهم وأنبياءهم وصلحاءهم أولياء من دون الله، يتوجهون إليهم بالدعاء ويستغيثون بهم ويستشفعون بهم عند الله فى قضاء حاجاتهم من نصر على عدو وشفاء من مرض وسعة فى رزق إلى نحو أولئك. وهذا بلا شك عبادة وشرك بالله لاعتقادهم أن حصول المطلوب من غير أسبابه العادية قد كان بمجموع إرادة هؤلاء الأولياء وإرادة الله. ويلزم هذا أن إرادة الله ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا تبعا لإرادة الولي الشافع أو المتّخذ وليا وشفيعا.

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى أوجدهما على غير مثال سابق، وقد روى عن ابن عباس أنه قال: ما عرفت ما فاطر السموات والأرض؟ حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بثر، فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدعتها. وقد كانت المادة التي خلقت منها السموات والأرض كتلة واحدة دخانية، ففتق رتقها وفصل منها أجرام السموات والأرض، وهذا ولا شك ضرب من الفطر والشق، قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» . وفى ذلك تعريض بأن من فطر السموات والأرض بمحض إرادته بدون تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع ينبغى ألا يتوجّه إلى غيره بالدعاء ولا يستعان بسواه فى كل ماوراء الأسباب. وقد أكد هذا المعنى وزاده تثبيتا بقوله: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي إنه يرزق الناس الطعام وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويطعمه، لأنه منزه عن الحاجة إلى كل ما سواه، أيا كان نوعها. وفى هذا إيماء إلى أن من اتخذوا أولياء من دونه من البشر محتاجون إلى الطعام ولا حياة لهم بدونه، وأن الله هو الذي خلق لهم الطعام فهم عاجزون عن خلقه، وعاجزون عن البقاء بدونه فأحرى بهم ألا يتّخذوا أولياء مع الغنىّ الرّزاق الفعال لما يريد. وإذا كان الإنكار توجه إلى البشر فأولى به أن يتوجه إلى الأصنام والأوثان لأنها أضعف من البشر إذ قد اتفق العقلاء على تفضيل الحيوان على الجماد والإنسان على جميع أنواع الحيوان. (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي قل لهم بعد أن استبانت لديكم الأدلة على وجوب عبادة الله وحده وعدم اتخاذ غيره وليا: إنى أمرت من ربى الموصوف بجليل الصفات أن أكون أول من أسلم إليه وانقاد لديه من تلك الأمة التي بعثت فيها، فلا أدعو إلى شىء إلا كنت أول مؤمن به سائر على نهجه.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وقيل لى بعد إسلام الوجه له: لا تكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء ليقربوهم إليه زلفى. وخلاصة ذلك- إنى أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. وبعد أن أمره بهذا القول المبيّن لأساس الدين، وبين أنه مأمور به كغيره أمره بقول آخر فيه بيان لجزاء من خالف الأمر والنهى السالفين فقال: (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي قل لهم إن فرض وقوع العصيان منى فإننى أخاف أن يصيبنى عذاب ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة الذي يتجلى فيه الرب على عباده ويحاسبهم الحساب العسير على أعمالهم ويجازيهم بما يستحقون. وفى الآية إشارة إلى أن هذا يوم لا محاباة فيه لأحد مهما كان عظيما، وأنه لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، بل الأمر يومئذ لله، فلا سلطان لغيره يتكل عليه من يعصيه، ظنا منه أنه يخفف عنه العذاب أو ينجيه، وإذا كان خوف النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب على المعصية منتفيا لوجود العصمة، فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له فى جميع الأحوال. (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي من يحوّل عنه هذا العذاب. فى ذلك اليوم فقد رحمه الله، إذ أنجاه من الهول الأكبر، ومن نجا منه فقد دخل الجنة، والنجاة من العذاب والتمتع بالنعيم فى دار البقاء هو الفوز المبين الظاهر الذي لا فوز أعظم منه. وقد سبق أن قلنا: إن الفوز إنما ينال بحصول مطلوبين: أحدهما سلبى وهو النجاة من العذاب والثاني إيجابى وهو الظفر بالنعيم المقيم فى الجنة. وبعد أن بين أن صرف العذاب والفوز بالنعيم من رحمته فى الآخرة- بيّن أن الأمر كذلك فى الدنيا وأن التصرف فيها له وحده. (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وإن يصبك أيها الإنسان ضر كمرض وفقر وحزن وذل اقتضته سنة

الله فلا كاشف له ولا صارف يصرفه عنك إلا هو، دون الأولياء الذين يتّخذون من دونه، ويتوجه إليهم المشرك بكشفه- وهو إما أن يكشفه عنك بتوفيقك للأسباب الكسبية التي تزيله، وإما أن يكشفه بغير عمل منك، بل بلطفه وكرمه، فله الحمد على نعمه المتظاهرة التي لا حدّ لها- وإن يمسسك بخير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو قادر على حفظه عليك كما قدر على إعطائه إياك، وهو القدير على كل شىء، أما أولئك الأولياء الذين اتخذوا من دونه فلا يقدرون على مسّك بخير ولا ضرّ. فعلى المؤمن الصادق فى إيمانه ألا يطلب شيئا من أمور الدنيا والآخرة من كشف ضر وصرف عذاب أو إيجاد خير ومنح ثواب- إلا من الله تعالى وحده دون غيره من الشفعاء والأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا. وهذا الطلب إما طلب بالعمل ومراعاة الأسباب التي اقتضتها سنته فى الخلق ودل عليها الشرع وهدى إليها العقل، وإما بالتوجه إليه ودعائه كما ندب إلى ذلك كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» . وبعد أن أثبت عز اسمه لنفسه كمال القدرة أثبت لها كمال السلطان والتسخير لجميع عباده والاستعلاء عليهم، مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأمور، ليرشدنا إلى أن من اتخذ الأولياء فقد ضلّ ضلالا بعيدا فقال: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي إن الرب من شأنه العزة والسلطان والعلو والكبرياء وهو الحكيم الخبير، فلا ينبغى للمؤمن أن يتخذ وليا من عباده المقهورين تحت سلطان عزته، المذلّلين لسنته التي اقتضتها حكمته وعلمه بتدبير الأمر فى خلقه. وهو جلت قدرته لم يجعل من خلقه شريكا له فى التصرف ولا فى كونه يدعى معه ولا وحده لكشف ضر ولا جلب نفع كما قال تعالى «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» وقال: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا» .

وخلاصة المعنى- إنه تعالى هو الغالب لعباده، العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم، فهو فوقهم بالقهر وهم دونه، وهو الحكيم فى تدبيره، الخبير بمصالح الأشياء ومضارها ولا تخفى عليه خوافى الأمور ولا بواديها، ولا يقع فى تدبيره خلل، ولا فى حكمته دخل وقد ختم سبحانه هذه الأوامر القولية المبينة لحقيقة الدين وأدلته بشهادة الله لرسوله وشهادة رسوله له فقال: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل كفار قريش: أي شىء شهادته أكبر شهادة وأعظمها، وأجدر أن تكون أصحها وأصدقها؟ ثم أمره بأن يجيب عن هذا السؤال بأن أكبر الأشياء شهادة هو من لا يجوز أن يقع فى شهادته كذب ولا زور ولا خطأ وذلك هو الله تعالى، وهو الشهيد بينى وبينكم وقد أوحى إلىّ هذا القرآن من لدنه لأنذركم به عقابه على تكذيبى فيما جئت به مؤيدا بشهادته سبحانه، وأنذر من بلغه هذا القرآن، إذ كل من بلغه فهو مدعو إلى اتباعه حتى تقوم القيامة. وشهادة الله بين الرسول وقومه ضربان: شهادته برسالة الرسول، وشهادته بصدق ما جاء به، والأول أنواع ثلاثة: (1) إخباره بها فى كتابه بنحو قوله «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» وقوله: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً» . (2) تأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن، فهو المعجزة الدائمة بما ثبت من عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله، وبما اشتمل عليه من أخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصر الله وإظهارهم على أعدائهم. (3) شهادة كتبه السابقة له، وبشارة الرسل السابقين به، ولا نزال هذه الشهادة فى كتب اليهود والنصارى

والثاني ثلاثة أنواع أيضا: (1) شهادة كتبه بذلك كقوله «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» . (2) ما أقامه من الآيات فى الأنفس والآفاق مما يدل على توحيده واتصافه بصفات الكمال (3) ما أودعه جل شأنه فى الفطرة البشرية من الإيمان بإله واحد له صفات الكمال وببقاء النفس. والخلاصة- إن شهادته تعالى هى شهادة آياته فى القرآن، وآياته فى الأكوان، وآياته فى العقل والوجدان، اللذين أودعهما فى نفس الإنسان. أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال: «من بلغه القرآن فكأنما شافهته به» ثم قرأ: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» . وأخرج ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو الشيخ عن أبيّ بن كعب قال: «أنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ قالوا لا، فخلّى سبيلهم ثم قرأ: - وأوحى إلىّ هذا القرآن لأنذركم به- ثم قال خلّوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا» . ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالوحدانية وبالبراءة من قولهم وشهادتهم بالشرك فقال: (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟ قُلْ لا أَشْهَدُ، قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بدأ الجملة بالاستفهام الدال على الإنكار والاستبعاد لما تضمنته، ثم أمر نبيه أن يجيب بأنه لا يشهد كما يشهدون، ثم أمره بأمر آخر: بأن يشهد بنقيض ما يزعمون وبتبرأ مما يزعمون، فيصرح بأن الإله لا يكون إلا واحدا، ويتبرأ مما يشركون به من الأصنام والأوثان وغيرهما.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 إلى 24]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 24] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) المعنى الجملي بين سبحانه فى الآية السابقة أن شهادة الله على صحة نبوة رسوله كافية فى تحققها، وذكر هنا كذبهم فى ادعائهم أنهم لا يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعرفون نبوته ورسالته كما يعرفون أبناءهم. روى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا أن فى التوراة والإنجيل شيئا يدل على نبوته، وروى أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة؟ قال يا عمر: لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد منّى بابني، لأنى لا أدرى ما صنع النساء، وأشهد أنه حق من الله. الإيضاح (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) أي إن اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا النبي الأمى خاتم الرسل كما يعرفون أبناءهم، لأن نعته فى كتبهم واضح ظاهر فلا يشكون فيه على حال. ثم بين السبب فى إنكار هؤلاء المنكرين فقال: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن علة إنكار من أنكروا نبوة

محمد صلى الله عليه وسلم من علماء اليهود كعلة من أنكروا ذلك من المشركين بعد ظهور آياتها، بل أنكروا ما هو أظهر منها وهى وحدانية الله تعالى- أنهم خسروا أنفسهم فهم يؤثرون ما لهم من الجاه والمكانة والرياسة فى قومهم على الإيمان بالرسول النبي الأمى الذي يجدونه مكتوبا عندهم، علما منهم بأنهم إذا آمنوا سلبوا الرياسة، وجعلوا مساوين لسائر المسلمين فى سائر الأحكام والمعاملات. وكذلك كان بعض رؤساء قريش يعزّ عليه أن يؤمن فيكون تابعا ومرءوسا ويكون مثله مثل بلال الحبشي وصهيب الرومي وغيرهما من فقراء المسلمين. فهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية خسروا أنفسهم لضعف إرادتهم لا لفقدان العلم والمعرفة، لأن الله أخبر عنهم أنهم على علم ومعرفة. وبعد أن ذكر أن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خسران للنفس- ذكر أن الافتراء على الله ظلم لها، وقد خاب من افترى. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، كمن زعم أن له ولدا أو شريكا أو أن غيره يدعى معه أو من دونه أو يتّخذ وليا له يقرّبه إليه زلفى ويشفع للناس عنده، أو زاد فى دينه ما ليس منه، أو من كذب بآياته المنزلة كالقرآن، أو آياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله. وإذا كان كل من التكذيب والكذب والافتراء قد بلغ غاية القبح وصاحبه يعدّ مفتريا ظالما، فما حال من جمع بينهما، فكذب على الله وكذب بآياته المثبتة للتوحيد والمثبتة للرسالة؟. ثم بين سبحانه عاقبة الظالمين وسوء منقلبهم فقال: (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إن الظالمين عامة لا يفوزون فى عاقبة أمرهم يوم الحساب والجزاء بالنجاة من عذاب الله ولا بنعيم الجنة، فكيف تكون عاقبة من افترى على الله الكذب وكذب بآياته فكان أظلم الظالمين.

ثم بين أن المفترين على الله الكذب يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وإنكار على ما اجترحوا فقال: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) أي واذكر لهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا على اختلاف درجاتهم فى ظلم أنفسهم وظلم غيرها، ثم نقول للذين أشركوا منهم وهم أشدهم ظلما: أين الشركاء الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم أولياؤكم من دون الله تستعينون بهم كما يستعان به ويدعون كما يدعى، وأنهم يقربونكم إليه زلفى ويشفعون لكم عنده، فأين ضلوا عنكم فلا يرون معكم؟ كما جاء فى الآية الأخرى «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» ثم أخبر بأنهم يوم القيامة ينكرون ذلك الشرك فقال: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الفتنة هنا الشرك أي ثم لم تكن عاقبة هذا الشرك إلا أن أقسموا بالله يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين. وظاهر الآيات يدل على أنهم كانوا ينكرون فى بعض مواقف الحشر شركهم بالله توهما منهم أن ذلك ينفعهم كما جاء فى هذه الآية، ويعترفون به فى بعض آخر كما جاء فى قوله: «هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ» وفى قوله «وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً» . وروى عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله: (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) فقال: أمّا قوله (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا تعالوا لنجحد (قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) . وقال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن فى اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معانى كلام العرب، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين فى حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به، ومثاله أن ترى إنسانا

[سورة الأنعام (6) : الآيات 25 إلى 26]

يحب شخصا مذموم الطريقة، فإذا وقع فى محنة بسببه تبرأ منه، فيقال له ما كانت محبتك (عاقبة محبتك) لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته اهـ. وعلى هذا فالفتنة هى شركهم فى الدنيا كما فسرها ابن عباس، ويكون فى الكلام تقدير مضاف هو كلمة (عاقبة) كما قدمنا ذلك. (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) هذا تعجب من كذبهم الصريح بإنكار صدور الإشراك عنهم فى الدنيا. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة بإنكار صدور ما صدر عنهم؟ وكيف ذهب عنهم ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بتاتا وتبرءوا منه غاية البراءة؟. [سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) تفسير المفردات الأكنة واحدها كنان كأسنة وسنان: وهو الغطاء، والوقر (بِالْفَتْحِ) الثقل فى السمع، والآية: العلامة الدالة على صدق الرسول، يجادلونك: يخاصمونك وينازعونك، والأساطير واحدها إسطارة وأسطورة: وهى الخرافات والترهات، والنأى عنه: يشمل الإعراض عن سماعه، والإعراض عن هدايته. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أحوال الكفار فى الآخرة وذكر ما يكون منهم من تلجلج واضطراب، فتارة ينكرون شركهم بالله وأخرى يعترفون به وذكر ما يواجهون به من اللوم والتقريع على الشركاء الذين اتخذوهم أولياء وشفعاء.

الإيضاح

ذكر هنا ما يوجب اليأس من إيمان بعض منهم لوجود الموانع الصادّة عنه، فمهما توالت الآيات والنذر لا تجدى معهم شيئا، إذ الحجب كثيفة، والأغطية سميكة، فاختراقها عسير، والوصول إليها فى حكم المستحيل. قال ابن عباس: حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث والحارث بن عامر وأبو جهل فى جمع كثير واستمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها (الكعبة) بيته ما أدرى ما يقول إلا أنى أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى يحدّث قريشا بما يستملحونه، قال أبو سفيان: إنى لأرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل كلّا فأنزل الله الآية. الإيضاح (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي ومن أولئك الكافرين فريق يستمع إليك إذا أنت تلوت القرآن داعيا إلى توحيد الله مبشرا منذرا. (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي والحال أنا قد جعلنا على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه وفهمه، وفى آذانهم ثقلا أو صمما يحول دون سماعه بقصد التدبر والوصول إلى ما فيه من الهداية والرشد. وفى هذا تشبيه للحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية، فالقلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الغطاء فلا يدخل فيه شىء، والآذان التي لا تسمع الكلام سماع فهم وتدبر كالآذان المصابة بالثقل أو بالصمم، فسمعها وعدمه سواء. بيان هذا- أن الله جلت قدرته جعل التقليد الذي يختاره الإنسان لنفسه مانعا من النظر والاستدلال والبحث عن الحقائق، فالمقلد لا يستمع إلى متكلم لمييز الحق من الباطل، وإذا وصل إلى سمعه ما هو مخالف لما يدين به لا يتدبره ولا يراه جديرا بالموازنة بينه وبين ما عنده من عقيدة أو رأى ليختار أقربهما إلى الصحة وأجدرهما

بالصدق وأكثرهما هداية ورشادا وأبعثهما إلى اطمئنان النفس الموصل لها إلى السعادة فى الدنيا والآخرة. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك وصدق دعوتك لا يؤمنوا بها، إذ هم لا يفقهونها ولا يدركون المراد منها لوقوف أسماعهم عند ظواهر الألفاظ فحظهم كحظ الصّمّ من سماع أصوات البشر. (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي حتى إذا جاءوك مجادلين لك فى دعوتك قالوا: ما هذا إلا أساطير الأولين وخرافاتهم. ذاك أنهم لم يعقلوا مما فى القرآن من أنباء الغيب إلا أنها حكايات وخرافات تسطّر وتكتب كغيرها من الأنباء والخرافات، فلا علم فيها ولا فائدة منها، وهذه حال من يسمع جرس الكلام ولا يتدبره ولا يفقه أسراره، أو من ينظر إلى الشيء نظرة جملية لا يستنبط منها علما، ولا يستفيد منها عقيدة ولا رأيا، وما مثلهما إلا مثل من يشاهد ألعاب الصور المتحركة (السينما) مفسرة بلغة هو لا يعرفها، فكل همه مما يرى من المناظر والكتابة لا يعدو التسلية وشغل الوقت. فلو عقل هؤلاء قصص القرآن وتدبروا معانيها لكان لهم من ذلك آيات بينات تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبر ومواعط ونذر تبين سنن الله فى خلقه مع الأقوام الذين كذبوا الرسل وكان عاقبة أمرهم الدمار والنكال. ثم بين أن أمرهم لم يقتصر على حد الضلال، بل تعدوه إلى الإضلال وساروا فيه قدما فقال: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي وأولئك المشركون المعاندون للنبى الجاحدون لنبوته، لا يقنعون بتكذيبهم له وعدّه حديث خرافة، بل ينهون الناس عن استماعه، لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به، ويتباعدون عنه بأنفسهم إظهارا لا شمئزازهم ونفورهم منه فيكونون ناهين منتهين. ثم ذكر أن عاقبة ذلك الوبال والنكال لهم فقال:

[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 إلى 29]

(وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يهلكون إلا أنفسهم بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال، وما يشعرون بذلك بل يظنون أنهم يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا من معجزات القرآن وإخباره بالغيب فقد هلك جميع الذين أصرّوا على عداوته صلى الله عليه وسلم، بعضهم فى نقم خاصة، وبعضهم فى وقعة بدر وغيرها من الغزوات. ويتبع هذا الهلاك الدنيوي هلاك الآخرة، واللفظ يشملهما معا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 29] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) تفسير المفردات يقال وقف الرجل على الأرض وقوفا، ووقف على الشيء: عرفه وتبينه، ووقف نفسه على كذا وقفا حبسها كوقف العقار على الفقراء. المعنى الجملي بين الله فى الآية السابقة حال طائفة من المشركين تلقى السمع مصغية للقرآن لكن لا يدخل القلب شىء مما تسمع، لما عليه من أكنة التقليد، والاستنكار لكل شىء جديد، فهم يستمعون ولا يسمعون وبين فى هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم يوم القيامة وتمنيهم العودة إلى الدنيا ليعملوا صالح العمل ويكونوا من المؤمنين حقا ثم كذبهم فيما يقولون وأنهم لو ردوا لعادوا لما كانوا فيه لفقد استعدادهم للإيمان، وأن حالهم بلغ مبلغا لا يؤثّر فيه كشف الغطاء ورؤية الفزع والأهوال.

الإيضاح

الإيضاح (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي ولو ترى أيها السامع ما يحل بأولئك المكذبين من الفزع والهول حين تقفهم ملائكة العذاب على النار مشرفين عليها من أرض الموقف، وندمهم على كفرهم وحسرتهم على ما فرط منهم فى جنب الله وتمنيهم ما لا سبيل للحصول عليه- لرأيت ما لا يحيط به الوصف ولا يقدر على التعبير عنه اللسان، ولا يبلغ تصويره البيان، ولو أوتى المتكلم بلاغة سحبان. ثم ذكر ما يحدث منهم حينئذ فقال: (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي يقول هؤلاء المشركون بربهم إذا حبسوا على النار: ليتنا نرد إلى الدنيا حتى نتوب ونعمل صالحا ولا نكذب بآيات الله وحججه التي نصبها دلالة على وحدانيته وصدق رسله، بل نكون من المصدقين به وبرسله ومن المتبعين لأمره ونهيه. والخلاصة- إنهم حين عاينوا الشدائد والأهوال بسبب تقصيرهم تمنّوا الردّ إلى الدنيا ليسعوا فى إزالة ذلك التقصير ويتركوا التّكذيب بالآيات ويعملوا صالح العمل. وتمنى هذا الرد إلى الدنيا بناء على جهلهم بأنه محال، أو أنهم مع علمهم باستحالته لا مانع من تمنيه على سبيل التحسر، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يكون. ثم بين أن هذا التمني لم يكن لتغير حالهم، بل لأنه بدا لهم ما كان خفيا عنهم فقال: (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي بدا لهم سوء عاقبة ما كانوا يخفونه من الكفر والسيئات ونزل بهم عقابه فتبرموا وتضجروا وتمنّوا الخلاص منه بالرد إلى الدنيا وترك ما أفضى إليه من التكذيب بالآيات وعدم الإيمان، كما يتمنى الموت من أنهكه المرض وأضناه الداء العضال لأنه ينقذه من الآلام لا لأنه محبوب فى نفسه ولا مرجوّ لذاته. بيان هذا أنه إذا جاء ذلك اليوم الذي تبلى فيه السرائر وتنكشف جميع الحقائق، وتشهد على الناس الأعضاء والجوارح، وتتمثل لكل فرد أعماله النفسية والبدنية

فى كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها كما تتمثل الوقائع مصوّرة فى آلة الصور المتحركة (فلم السينما) : فكل أحد يظهر له فى الآخرة ما كان خافيا عليه من خير فى نفسه وشر «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» أي فهى لا تخفى على أنفسكم فضلا عن خفائها على ربكم. والخلاصة- إنه تعالى بين لنا أن تمنى أولئك الكفار لما تمنّوا لا يدل على تبدل حقيقتهم، بل بدا لهم ما كان خافيا عليهم من أحوالهم بإخفائهم إياه على الناس أو عليهم «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» فتمنوا الخروج مما حاق بهم، ولكن الحقيقة لا تتغير، وإنما يكون للنفوس أطوار وأحوال. ثم بين أنهم كاذبون فى هذا الندم فقال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي فإن ذلك من أنفسهم، ثابت فيها لخبث طينتهم وسوء استعدادهم، ومن ثم لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوا ولا سوء ما رأوا. (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات الله، وبالكون من المؤمنين بالله ورسوله، فلو ردوا إلى الدنيا لرد المعاند المستكبر منهم مشتملا بكبره وعناده، والمنافق مرتدا بمكره ونفاقه، والشهواني ملوّثا بشهواته القابضة على زمامه. وأما ما ظهر لهم إذ وقفوا على النار من حقيقة ما جاء به الرسول، فما مثله إلا مثل ما يلوح لهم فى الدنيا من الآيات والعبر، فهم يكابرون فيها أنفسهم، ويغالطون عقولهم ووجداناتهم. ألا ترى شارب الخمر والمقامر يريان ما حل بغيرهما من الشقاء فيظهران الندم على ما فرط منهما ويتوبان ويعزمان على ألا يعودا إلى مثل ما عملا، ثم لا يلبثان أن يرجعا سيرتهما الأولى خضوعا لما اعتادا وألفا، وترجيحا للذة العاجلة على المنفعة الآجلة.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 30 إلى 32]

ومن هذا يستبين لك أن الطريقة المثلى لتعويد الناس الفضيلة، هى حملهم عليها بالعمل والمران وحسن التلقين والتعليم كما يمرّن الأطفال الصغر والرجال على أعمال الجندية، ولا ينبغى أن يسمح للأحداث بإطاعة شهواتهم واتباع أهوائهم، ظنا أن هذا يعوّدهم الحرية والاستقلال فيهديهم ذلك إلى الحق والفضيلة، إذ قلما يوجد من يتبع شهواته فى الصغر ثم يعدل عن ذلك فى الكبر بعد أن يصير طبيعة وعادة. فما مثل تربية الأطفال على الآداب والفضائل إلا مثل تربيتهم على النظافة ومراعاة القوانين الصحية فإنا نعوّدهم ذلك فى الصغر ثم هم يعرفون فوائد ذلك فى الكبر. (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي لو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر وسيء الأعمال، ولأنكروا البعث والحساب والجزاء، وقالوا لا ثواب ولا عقاب فى الدار الآخرة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 32] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) تفسير المفردات الساعة فى اللغة: الزمن القصير المعين، ثم أطلق على الوقت الذي ينقضى به أجل هذه الحياة ويخرب العالم وما يتبع ذلك من البعث والحساب، سمى بذلك لسرعة

المعنى الجملي

الحساب فيه كأنه ساعة، وبغتة: فجأة، يقال بغته إذا هجم عليه من غير شعور، والحسرة الغم على ما فات والندم عليه كأنّ المتحسر قد انحسر وانكشف عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكب، والتفريط: التقصير ممن قدر على الجد والتشمير، من الفرط وهو السبق ومنه الفارط والفرط وهو الذي يسبق المسافرين لإعداد الماء لهم، والأوزار جمع وزر (بالكسر) وهو الحمل الثقيل، ووزره (بزنة وعده) حمله على ظهره ثم أطلق فى الدين على الإثم والذنب كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل الظهر، واللعب: الفعل الذي لا يقصد به فاعله مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة كأفعال الصبيان التي يتلذذون بها، واللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، وقد يسمى كل ما به استمتاع لهوا، ويقال لهوت بالشيء ألهو به لهوا وتلهيت به إذا تشاغلت وغفلت به عن غيره. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة إنكارهم فى الدنيا للبعث والجزاء- بين هنا حالهم فى الآخرة يوم يكشف عنهم الغطاء، فيتحسرون ويندمون على تفريطهم السابق وغرورهم بذلك المتاع الزائل، ثم أردفه ذكر حقيقة الدنيا مقابلا بينها وبين الآخرة وموازنا بين حاليهما لدى المتقين والغاصين. الإيضاح (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي ولو ترى هؤلاء الضالين المكذبين حين تقفهم الملائكة فى الموقف الذي يحاسبهم فيه ربهم، ويمسكونهم إلى أن يحكم الله فيهم بما يشاء- لهالك أمرهم واستبشعت منظرهم ورأيت ما لا يحيط به وصف. وجعلهم موقوفين على ربهم لأن من تقفهم الملائكة وتحبسهم فى موقف الحساب امتثالا لأمر الله فيهم كما قال: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» يكون أمرهم مقصورا عليه لا يتصرف فيهم غيره: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» .

(قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) أي حينئذ يقول لهم ربهم: أليس هذا الذي أنتم فيه من البعث هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب؟ لا باطل كما كنتم تزعمون. (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي قالوا بلى هو حق لا يحوم حوله الباطل، وقد أكدوا اعترافهم باليمين فشهدوا بذلك على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) عبر بالذوق عن ألم العذاب للإشارة إلى أنهم يجدونه وجدان الذائق فى قوة الإحساس به أي إذا كان الأمر كما اعترفتم فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون بسبب كفركم الذي دأبتم عليه واتخذتموه شعارا لكم لا تتركونه. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ) أي قد خسر أولئك الكفار الذين كذبوا بما وعد الله به- كل ما ربحه وفاز به المؤمنون من ثمرات الإيمان فى الدنيا كرضا الله وشكره حين النعمة، والصبر والعزاء وقت المصيبة، ومن ثمرات الإيمان فى الآخرة من الحساب اليسير والثواب العظيم، والرضوان الأكبر والنعيم المقيم، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وما سبب هذا إلا أن إنكار البعث والجزاء يفسد الفطرة البشرية ويفضى إلى الشرور والآثام، فإن الاعتقاد بأن لا حياة بعد هذه الحياة يجعل همّ الكافرين محصورا فى الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية كالجاه والرياسة والعلو فى الأرض ولو بالباطل، ومن كانوا كذلك كانوا شرا من الشياطين يكيد بعضهم لبعض ويفترس بعضهم بعضا لا يصدهم عن الشر إلا العجز ولا تحكم بينهم إلا القوة. وشاهدنا على ذلك أن أرقى أهل الأرض فى الحضارة والعلوم والفلسفة هم الذين يقوّضون صروح المدنية بمدافعهم ودباباتهم وطياراتهم وبكل ما أوتوا من فن واختراع، ويهلكون الحرث والنسل ويخرّبون العامر من المدن ودور الصناعات بمنتهى القسوة والشدة، ويهلكون ملايين الأنفس ما بين قتيل وجريح دون أن تستشعر قلوبهم

عاطفة رحمة ولا رأفة، ولو كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء لما انتهوا فى الطغيان إلى هذا الحد الذي نراه الآن. (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي كذبوا إلى أن جاءتهم الساعة مباغتة مفاجئة «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» وقد ورد فى الكتاب والسنة أن الله تعالى أخفى علمها على كل أحد حتى الرسل والملائكة. (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وأصرّوا على هذا التكذيب حتى إذا جاءتهم منيّتهم وهى بالنسبة إليهم مبدأ الساعة ومقدمات القيامة، مفاجئة لهم من حيث لم يكونوا ينظرونها ولا يعدّون العدّة لمجيئها، قالوا يا حسرتنا على تفريطنا فى الحياة الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة بعدها. (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) أي وهم يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفى ذلك إيماء إلى أن عذابهم ليس مقصورا على الحسرة على ما فات وزال، بل يقاسون مع ذلك تحمل الأوزار الثقال، وإشارة إلى أن تلك الحسرة من الشدة والهول بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من صنوف العقوبات. روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل قبيح يحمله صاحبها يوم القيامة والصالحة بصورة رجل حسن يحمله صاحبها يوم القيامة. والخلاصة- إنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم فى أسوإ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهورهم. وقد بين الله تعالى سوء تلك الحال التي تلابسهم حينما يلهجون بذلك المقال فقال: (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها يوم القيامة على ظهورهم.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي وما هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار إنه لا حياة غيرها إلا لهو ولعب، فهى دائرة بين عمل لا يفيد فى العاقبة كلعب الأطفال، وعمل له فائدة عاجلة سلبية كفائدة اللهو وهو دفع الهموم والآلام، ومن ثم قال بعض الحكماء: إن جميع لذات الدنيا سلبية إذ هى إزالة للآلام، فلذة الطعام فى إزالة ألم الجوع، وبقدر هذا الألم تعظم اللذة فى إزالته، ولذة شرب الماء هى إزالة العطش وهكذا. وفى الآية وجه آخر، وهو أن متاع هذه الدنيا متاع قليل، قصير الأجل لا ينبغى أن يغتر به العاقل، فما هو إلا كلعب الأطفال قصير المدة، فإن الطفل سريع الملل لكل ما يقدّم إليه من أصناف اللعب، أو أن زمن الطفولة قصير كله غفلة، أو كلهو المهموم فى قصر مدته، على كونه غير مقصود لذاته. (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي، لخلو لذاتها من المضار والآلام وسلامتها من التقضي والانصرام، من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من قبيل اللعب فى قصر مدته وعدم فائدته، أو من قبيل اللهو فى كونه دفعا لألم الهم والكدر. والخلاصة- إن نعيم الآخرة خير من نصيم الدنيا، فالبدنى منه أعلى وأكمل من نعيم الدنيا فى ذاته وفى دوامه وثباته وفى كونه إيجابيا لا سلبيا، وفى كونه غير مشوب ولا منغّص بشىء من الآلام، وفى كونه لا يعقبه ثقل ولا مرض ولا إزالة أقذار، والروحاني منه كلقاء الله ورضوانه وكمال معرفته يجلّ عنه الوصف والتحديد ولا شبيه له فى نعيم الدنيا. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أتغفلون عن هذا فلا تعقلون أن الحياة الدنيا لعب ولهو وأنتم ترون من يموت، ومن تنوبه النوائب، وتفجعه الفواجع؟ ففى ذلك مزدجر عن الركون إليها، واستعباد النفوس لها، ودليل على أن لها مدبرا يلزم الخلق عبادته وعدم إشراك غيره معه فى ذلك التدبير والنظام وإخلاص العبادة والطاعة له.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 إلى 35]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 35] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) تفسير المفردات الحزن: ألم يحلّ بالنفس عند فقد محبوب، أو امتناع مرغوب، أو حدوث مكروه ولا سبيل لعلاجه إلا التسلي والتأسى كما قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى وما يبكون مثل أخى ولكن ... أسلّى النفس عنه بالتأسى وكذّبه: رماه بالكذب، والجحود والجحد: نفى ما فى القلب إثباته أو إثبات ما فى القلب نفيه، ويقال جحده حقه وبحقه، وكلمات الله: هى وعده ووعيده، ومن ذلك وعده للرسل بالنصر ووعيده لأعدائهم بالغلب والخذلان كقوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وقوله: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» والنبأ: الخبر ذو الشأن العظيم، وكبر على فلان الأمر أي عظم عنده وشق عليه وقعه، والإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له، واستطعت الشيء: صار فى طوعك منقادا لك باستيفاء الأسباب التي تمكنك من فعله، والابتغاء: طلب ما فى طلبه كلفة ومشقة من البغي وهو تجاوز الحد

المعنى الجملي

ويكون فى الخير كابتغاء رضوان الله وهو غاية الكمال، وفى الشر كابتغاء الفتنة وهو غاية الضلال، والنفق: السرب فى الأرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج، والسلم: المرقاة من السلامة، لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك، وتذكيره أفصح من تأنيثه، والآية: المعجزة، والجهل هنا: ضد العلم، وليس كل جهل عيبا، لأن المخلوق لا يحيط بكل شىء علما، وإنما يذم الإنسان بجهل ما يجب عليه علمه، ثم بجهل ما ينبغى له ويعدّ كمالا فى حقه إذا لم يكن معذورا فى جهله. المعنى الجملي نزلت هذه السورة فى دعوة مشركى مكة إلى الإسلام ومحاجتهم فى التوحيد والنبوة والبعث، وكثر فيها حكاية أقوالهم بلفظ (وَقالُوا- وَقالُوا) نحو: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ- وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» إلى نحو ذلك- وتلقين الرسول صلى الله عليه وسلم الرد عليهم مع إقامة الحجة والبرهان بلفظ (قُلْ- قُلْ) نحو: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» . بعد هذا الحجاج كله ذكر فى هذه الآيات تأثير كفرهم فى نفس النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه مما يقولون فى نبوته وما يراه منهم من الإعراض عن دعوته، وسلاه على ذلك ببيان سنته سبحانه فى الرسل مع أقوامهم وأن كثيرا منهم كذبوا فصبروا حتى جاءهم النصر المبين، وخذل الله أعداءهم الكافرين. روى ابن جرير عن السدّى أن الأخنس بن شريق وأبا جهل التقيا، فقال الأخنس لأبى جهل: يا أبا الحكم أخبرنى عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيرى، قال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصىّ باللواء والسقاية والحجابة والنّدوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فأنزل الله هذه الآية.

الإيضاح

الإيضاح (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) القول الذي يحزنه منهم هو ما كانوا يقولونه فيه وفى دعوته ونبوته من تكذيب وطعن وتنفير للعرب منه. قال ابن كثير: يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم فى تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وأسفك عليهم كما جاء فى قوله: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» ووفى قوله «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» . ثم بين أن هذا التكذيب منشؤه العناد والجحود لإخفاء الدليل فقال: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) أي لا يتهمونك بالكذب فى نفس الأمر، ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدودهم. روى سفيان الثوري عن على قال: قال أبو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) . وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أبا جهل فصافحه، فقال له رجل: ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال والله إنى لأعلم إنه لنبى، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) . والخلاصة- إنهم لا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى افتراء الكذب، ولا يجدونه كاذبا فى خبر يخبر به بأن يتبين أنه غير مطابق للواقع، وإنما يدّعون أنّ ما جاء به من أخبار الغيب التي من أهمها البعث والجزاء كذب غير مطابق للواقع، ولا يقتضى ذلك أن يكون هو الذي افتراه، فإن التكذيب قد يكون للكلام دون المتكلم الناقل له. وذكر الرازي فى نفى التكذيب مع إثبات الجحود أربعة أوجه:

(1) إنهم ما كانوا يكذبونه فى السر ولكنهم كانوا يكذبونه فى العلانية ويجحدون القرآن والنبوة. (2) إنهم لا يقولون له إنك كذاب، لأنهم جرّبوه الدهر الطويل فلم يكذب فيه قط، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة واعتقدوا أنه تخيّل أنه نبى وصدّق ما تخيله فدعا إليه. (3) إنهم لما أصروا على التكذيب مع ظهور المعجزات القاهرة وفق دعواه كان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له أو تكذيبا له سبحانه فكأن الله قال له: إن القوم ما كذبوك ولكن كذبونى، وذلك أن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل المصدق له بتأييده على حد: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» : (4) إن المراد أنهم لا يخصونك بالتكذيب، بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويقولون فى كل معجزة إنها سحر، فكأنّ الخلاصة إنهم لا يكذبونك على التعيين ولكن يكذبون جميع الأنبياء والرسل. ثم لفت نظر رسوله لأن يقتدى بالرسل قبله فى الصبر على التكذيب فقال: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) أي إن الرسل الذين أرسلوا قبلك، قد كذبتهم أقوامهم فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم إلى أن نصر الله الرسل بالانتقام من أعدائهم المكذبين لهم. ونظير هذه الآية قوله: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» . وقوله: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... » الآية. وفى الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسلية، وإرشاد له إلى سننه تعالى فى الرسل والأمم، وقد صرح بوجوب الصبر على هذا الإيذاء فى قوله: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» وقوله: «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» . وقد دلت التجارب على أن التأسى يهوّن المصاب ويفيد شيئا من السلوى، ومن

هذا تعلم حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية مع الأمر بالصبر المرة بعد المرة، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى الله عليه وسلم من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره. وفى الآية بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم مؤكدة للتسلية بأن الله سينصره على المكذبين الظالمين من قومه، وعلى كل من يكذبه ويؤذيه من أمة الدعوة، كما أن فيها إيماء إلى حسن عاقبة الصبر، فمن كان أصبر كان حقيقا بالنصر إذا تساوت بين الخصمين وسائل الغلب والقهر. ثم أكد هذا النصر بقوله: (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ) أي إن ذلك النصر قد سبقت به كلمة الله، فى مثل قوله «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» وكلمات الله لا يمكن أن يبدّلها مبدّل، فنصر الرسل حتم لا بد منه. والتبديل جعل شىء بدلا من شىء آخر. وتبديل الكلمات والأقوال نوعان: (1) تبديل ذاتها بجعل قول مكان قول وكلمة مكان أخرى، ومن هذا قوله تعالى: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» . (2) تبديل مدلولها ومضمونها كمنع نفاذ الوعد والوعيد أو وقوعه على خلاف القول الذي سبق. ثم أكد سبحانه عدم التبديل بقوله: (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي ولقد جاءك ذلك الذي أشير إليه من خبر التكذيب والصبر والنصر من نبأ المرسلين الذي قصصناه عليك من قبل فقد روى أن سورة الأنعام نزلت بين سور الشعراء والنمل والقصص وهود والحجر المشتملة على نبأ المرسلين بالتفصيل. وكما وعد الله رسله بالنصر وعد المؤمنين به نحو قوله: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» وفى قولهَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» .

فما بالنا نرى كثيرا ممن يدّعون الإيمان فى هذا الزمان غير منصورين، فلا بد إذا من أن يكونوا فى إيمانهم غير صادقين، ولأهوائهم متبعين، ولسنته فى أسباب النصر جاهلين، فالله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه، بل ينصر المؤمن الصادق الذي يتحرّى الحق والعدل فى حربه لا الظالم الباغي من خلقه، والذي يقصد إعلاء كلمة الله ونصر دينه كما جاء فى قوله: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» . (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) من الآيات التي اقترحوها عليك ليؤمنوا فأتهم بها. ذاك أنهم كانوا يقترحون الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يتمنى لو آتاه الله بعض ما طلبوا حرصا على هدايتهم، وأسفا وحزنا على إصرارهم على غوايتهم، لكن الله يعلم أن أولئك المقترحين الجاحدين لا يؤمنون وإن رأوا من الآيات ما يطلبون وفوق ما يطلبون. والخلاصة- وإن كان إتيانك بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم فيؤمنون عن بينة وبرهان، فإن استطعت أن تبتغى لنفسك نفقا تطلبه فى الأرض فتذهب فى أعماقها، أو سلما فى جو السماء ترقى فيه إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك فأت بما يدخل طوع قدرتك من ذلك، كتفجير ينبوع لهم من الأرض أو تنزيل كتاب تحمله من السماء وقد كانوا طلبوا ذلك كما حكى الله عنهم بقوله: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً- إلى قوله- أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» وقد أمره الله أن يجيبهم عن ذلك بقوله عقب هذا: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا؟» أي وليس ذلك فى قدرة البشر وإن كان رسولا فالرسل لا يقدرون على شىء مما يعجز عنه البشر ولا يستطيع إيجاده غير الخالق. وخلاصة ذلك- إنك لن تستطيع الإتيان بشىء من تلك الآيات ولا ابتغاء

[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 إلى 37]

السبل إليها فى الأرض ولا فى السماء، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك، لعلمه أنه لن يكون سببا لما تحبه من هدايتهم ثم أكد عدم إيمانهم فقال: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه إما بأن يجعل الإيمان ضروريا لهم كالملائكة، وإما بأن يخلقهم على استعداد واحد للحق والخير لا متفاوتى الاستعداد مختلفى الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات، ولكنه شاء أن يجعلهم على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت وما يترتب على ذلك من أسباب الاختيار. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي إذا عرفت سننه تعالى فى خلق الإنسان وأنه لا تبديل لخلق الله، فلا تكونن من الجاهلين لسننه فى ذلك، فتتمنى ما تراه حسنا نافعا وإن كان حصوله ممتنعا لكونه مخالفا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية. وخلاصة ذلك- لا تكونن بالحرص على إسلامهم والميل إلى الإتيان بمقترحاتهم من الجاهلين بدقائق شئونه تعالى فى خلقه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 37] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) تفسير المفردات أجاب الدعوة: إذا أتى مادعى إليه من قول أو عمل، وأجاب الداعي واستجاب له واستجاب دعاءه: إذا لبّاه وقام بما دعاه إليه. والقرآن الكريم استعمل أفعال الإجابة فى المواضع التي تدل على حصول المسئول

المعنى الجملي

كله بالفعل دفعة واحدة، واستعمل أفعال الاستجابة فى المواضع المفيدة لحصول المسئول بالتهيؤ والاستعداد كقوله: «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ» إذ الآية نزلت فى وقعة حمراء الأسد بعد وقعة أحد فالمرد أنهم تهيئوا للقتال، أو المفيدة للدلالة على حدوث الفعل بالتدريج كاستجابة دعوة الدين التي تبدأ بالنطق بالشهادتين ثم بباقي أعماله بالتدريج. والاستجابة من الله يعبر بها فى الأمور التي تقع فى المستقبل ويكون من شأنها أن تقع بالتدريج كاستجابة الدعاء بالوقاية من النار بالمغفرة وتكفير السيئات وإيتاء ما وعد به المؤمنين فى الآخرة كما قال «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ» الآية. والسمع والسماع: يطلق على إدراك الصوت، وعلى فهم ما يسمع من الكلام وهو ثمرة السمع، وعلى قبول ما يفهم والعمل به وهذا ثمرة الثمرة، والمراد بالموتى هنا: الكفار الراسخون فى الكفر المطبوع على قلوبهم الميئوس من سماعهم سماع تدبر تتبعه الاستجابة للداعى. والبعث: لغة إنارة الشيء وتوجيهه يقال بعثت البعير أي أثرته من مبركه وسيّرته إلى المرعى ونحوه، ولولا: كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها، والآية لمعجزة المخالفة لسنن الله فى خلقه. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فى الآية السابقة أنه لو شاء لجمع الناس على الهدى، ولكنه لم يشأ أن يجعل البشر مفطورين على ذلك، ولا أن يلجئهم إلجاء بالآيات التي تقسرهم على ذلك، بل اقتضت حكمته أن يكون البشر متفاوتين فى الاستعداد مختارين فى تصرفاتهم وأعمالهم، ومنهم من يختار الهدى على الضلال، ومنهم من يستجب العمى على الهدى. ذكر هنا أن الأولين هم الذين ينظرون فى الآيات ويفقهون ما يسمعون من الحجج والبينات، وأن الآخرين لا يفقهون ولا يسمعون، فهم والأموات سواء.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أي إنما يستجيب لله ولرسوله الذين يسمعون كلام الله سماع فهم وتدبر فيعقلون الآيات ويذعنون لما عرفوا بها من الحق، لسلامة فطرتهم وصفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم، دون الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون كالمقلدين الذين لا يفكرون فى الأشياء بعقولهم، ودون الذين قالوا سمعنا وعصينا من المستكبرين الجاحدين، فهؤلاء وهؤلاء من موتى القلوب وأبعد الناس عن الانتفاع بما يسمعون. (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي والذين لا ترجى استجابتهم لأنهم كالموتى لا يسمعون السماع النافع، يترك أمرهم إلى الله فهو الذي يبعثهم بعد موتهم، ويرسلهم إلى موقف الحساب فينالون ما يستحقون على كفرهم وسىء أعمالهم، فلا تبخع نفسك عليهم حسرات، إذ ليس فى استطاعتك هدايتهم ولا إرجاعهم إلى محجة الرشاد. ثم ذكر شيئا من عنادهم الدال على عظيم جحودهم فقال: (وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي وقال الظالمون لأنفسهم الذين يجحدون بآيات ربهم ويعاندون رسوله إليهم: هلا أنزل عليه آية من ربه من الآيات التي اقترحناها عليه وجعلناها شرطا لإيماننا به. (قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول إن الله تعالى قادر على تنزيل آية مما اقترحوا إذا اقتضت الحكمة تنزيلها، لا ما تتعلق شهواتهم بتعجيز الرسول بطلبها، فقد مضت سنة الله بأن إجابة المعاندين إلى ما اقترحوا لم تكن سببا للهداية فى أمة من الأمم، بل كانت سببا فى عقاب المعاجزين للرسل بعذاب الاستئصال، وتنزيل الآية لا يكون خيرا لهم بل هو شر لهم ولكن أكثرهم لا يعلمون شيئا من حكم الله تعالى فى أفعاله ولا من سنته فى خلقه. والخلاصة- إن طلبهم للآية أو الآيات مع وجود هذه الآيات البينات إنما هو محاولة تعجيز الرسول لا أنه هو الدليل الذي يوصلهم إلى صدقه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 38 إلى 39]

يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» وقوله: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 38 الى 39] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) تفسير المفردات الدابة: كل ما يدب على الأرض من الحيوان، والدبّ والذبيب المشي الخفيف والطائر: كل ذى جناح يسبح فى الهواء وجمعه طير كراكب وركب، والأمم واحدها أمة: وهى كل جماعة يجمعهم أمر كدين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد أو صفات وأفعال واحدة، والتفريط فى الأمر التقصير فيه وتضييعه حتى يفوت، يقال فرّطه وفرّط فيه، والكتاب هنا: هو اللوح المحفوظ. وقيل القرآن، والحشر: الجمع والسّوق: المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه قادر أن ينزل الآيات إذا رأى من الحكمة والمصلحة إنزالها، ولا ينزلها للتشهى والهوى كما يراه المقترحون من أولئك الضالين المكذبين- ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فأرشد إلى عموم قدرته تعالى وشمول علمه وتدبيره، وأن كل ما يدب على وجه الأرض أو يطير فى الهواء فهو مشمول بفضله ورحمته، فلو كان فى إظهار هذه المعجزات مصلحة للمكلفين لفعلها، ولا متنع أن يبخل بها، إذ أنكم ترون أنه لم يبخل على شىء من الحيوان بمنافعها ومصالحها.

الإيضاح

الإيضاح (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي لا يوجد نوع من أنواع الأحياء التي تدب على الأرض ولا من أنواع الطير التي تسبح فى الهواء إلا وهى أمم مماثلة لكم أيها الناس وقد أثبت الإخصائيّون الباحثون فى طباع الحيوان الذين تفرغوا لدرس غرائزها وأعمالها أن النمل مثلا يغزو بعضه بعضا وأن المنتصر يسترقّ المنكسر ويسخّره فى حمل قوته وبناء قراه، إلى نحو أولئك من الأعمال التي تخصه وقد حرصت الأمم المتدينة على تحريم اصطياد بعض أنواع الحيوان، فإذا رأت بعض ما يصاد من الطير وغيرها قلّ فى بلادها وخشى انقراضه منها حرمت صيده. وخص دواب الأرض بالذكر لأنها هى التي يراها المخاطبون عامة ويدركون فيها معنى المماثلة، دون دواب الأجرام السماوية القابلة للحياة الحيوانية التي أعلمنا الله بوجودها فى قوله: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ، وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» وهذا من أخبار الغيب التي دل العلم الحديث على صدقها فقد أثبت الباحثون من علماء الفلك أن بعض الكواكب كالمرّيخ فيه ماء ونبات فلا بد أن يكون فيه أنواع من الحيوان، بل فيه أمارات على وجود عالم اجتماعي صناعى كالإنسان. منها ما يرى على سطحه بالمرقب (التلسكوب) من جداول منظمة وخلجان وجبال ووديان إلى نحو أولئك. وهذه الآية الكريمة ونحوها ترشدنا إلى البحث فى طباع الأحياء ليزداد علما بسنن الله وأسراره فى خلقه ونزداد بآياته فيها إيمانا وحكمة وكمالا وعلما ونعتبر بحال المكذبين بها الذين لم يستفيدوا مما فضلهم الله به على الحيوان فكانوا أضل من جميع أنواعه التي لا تجنى على نفسها ما يجنيه الكافر على نفسه. (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فسر ابن عباس الكتاب هنا بأم الكتاب: وهو اللوح المحفوظ، وهو خلق من عالم الغيب أثبت الله تعالى فيه مقادير الخلق ما كان

منها وما يكون بحسب السنن الإلهية، وقيل الكتاب هنا علم الله المحيط بكل شىء، شبه بالكتاب لكونه ثابتا لا ينسى، وقيل هو القرآن أي ما تركنا فى القرآن شيئا من ضروب الهداية التي نرسل من أجلها الرسل إلا بيناه فيه فقد ذكرت فيه أصول الدين وأحكامه وحكمها والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية التي سخرها الله للانسان. قال الحافظ ابن كثير ما فرطنا فى الكتاب من شىء أي الجميع علمهم عند الله لا ينسى واحدا من جميعها من رزقه سواء كان بريا أو بحريا كقوله: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» أي مفصح بأسمائها وأعدادها ونظامها وحاصر لحركاتها وسكناتها. (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي ثم يبعث أولئك الأمم من الناس والحيوان يوم القيامة ويساقون مجتمعين. وروى ابن جرير عن ابن عباس: أن المراد بحشر البهائم موتها كما ورد فى الحديث «من مات فقد قامت قيامته» . (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) أي والكافرون الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على وحدانيتنا وصدق ما جاء به رسولنا- تكذيب جحود واستكبار أو تكذيب جمود على تقليد الآباء- صمّ لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول، بكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبطون فى تلك الظلمات الحالكة، ظلمة الوثنية، وظلمة تقليد الجاهلية، وظلمة الجهل والأمية. (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ) أي من تعلقت مشيئته بإضلاله يضله كما أضل هؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى. وإضلاله إياهم جاء على مقتضى سننه فى البشر، أن يعرض المستكبر عن دعوة من يراه دونه وإن ظهر له أنه الحق، وأن يعرض المقلد عن النظر فى الآيات والدلائل التي تنصب لبيان بطلانها وإثبات خلافها مادام مغرورا بها مكبرا لمن جرى من الآباء عليها.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 إلى 45]

(وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومن يشأ هدايته يجعله على طريق مستقيم هو طريق الحق الذي لا يضل سالكه، بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله، استعمالا يعرف به الحق ويعرف به الخير، ويعمل به بحسب سننه تعالى فى الارتباط بين الأعمال البدنية والعقائد النفسية. [سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) تفسير المفردات أرأيتكم أي أخبرونى، وهو أسلوب يذكر للتعجيب والتنبيه إلى أن ما يذكر بعده غريب عجيب تقوم به الحجة على المخالف، يكشف أي يزيل ما تدعونه إلى كشفه إن شاء، والبأساء: تطلق على الحرب والمشقة، والبأس: الشدة فى الحرب، والعذاب الشديد، والقوة، والشجاعة، والضراء من الضر ضد النفع، والتضرع: إظهار الضراعة والخضوع بتكلف، والأخذ بالبأساء والضراء: إنزالهما بهم، مبلسون: أي

المعنى الجملي

متحسرون يائسون من النجاة، دابر القوم: آخرهم الذي يكون فى أدبارهم، وقطع دابرهم أي هلكوا واستأصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه للمشركين أن علمه محيط بما فى الأرض والسماء، وأن عنايته نعم كل ما درج على الأرض أوطار فى الهواء، وأن أمم الحيوان مشابهة لأمم الإنسان، وقد أوتيت من الإلهام والمعرفة ما تميز به بين ما ينفعها وما يضرها أمر نبيه أن يوجه إليهم هذا السؤال مذكّرا لهم بما أودع فى فطرتهم من توحيده عز اسمه ليعلموا أن ما تقلدوه من الشرك عارض شاغل يفسد أذهانهم وقت الرخاء، وارتفاع اللأواء، حتى إذا جدّ الجدّ ونزل بهم ما لا يطاق حمله من الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وضلّ عنهم ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان. وما وضعوا رمزا له من ملك أو إنسان. الإيضاح (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ، أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين العادلين بالله الأوثان والأصنام، أخبرونى إن أتاكم عذاب الله كالذى نزل بمن قبلكم من الأمم الذين كذبوا بالرسل، فقد هلك بعضهم بريح صرصر عاتية، وبعض آخر بالصاعقة، أو بمياه الطوفان المغرقة، أو جاءتكم الساعة بأهوالها وخزيها ونكالها، وبعثتم لموقف الحساب- أغير الله فى هذه الأحوال تدعون لكشف ما نزل بكم من البلاء، أم إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نزل بكم من عظيم البلاء، إن كنتم صادقين فى دعواكم ألوهية هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم أولياء وزعمتم أنهم فيكم شفعاء؟ فأخبرونى أغير الله تدعون إذا أتاكم أحد هذين الأمرين؟

ثم أجاب عن ذلك بقوله: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) أي ما أنتم أيها المشركون بالله الآلهة والأنداد إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة- بمستجيرين بشىء غير الله من وثن أو صم إذا اشتد بكم الهول، بل تدعونه وحده، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون، دون كل شىء غيره فيفرج عنكم ويزيل البلاء عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه إن شاء ذلك، لأنه وحده القادر على كل شىء، والمالك لكل شىء دون ما تدعونه إلها من صنم أو وثن، لأن الفزع إليه سبحانه عند الشدائد مما ركز فى فطرة البشر تنبعث إليه بذاتها كما تنبعث إلى الماء عند العطش، فلا يذهب به ما يتلقّى بالتعليم الباطل من مسائل الدين، فهم به يجنون على غريزة التوجه إلى خالقهم وخالق العالم كله بما يتخذونه من الأنداد والأولياء والشفعاء الذين يتوجهون إليهم كما يتوجهون إلى الله ويحبونهم كحب الله. وما منشأ ذلك التقديس إلا اعتقاد القدرة على النفع والضر من غير طريق الأسباب المعروفة، لكنهم عند الشدائد وتراكم الأهوال والكروب ينسونهم ويدعون الله وحده. ولهذا الحب والتعظيم ثلاث درجات: (1) أعرقها فى الجهل أن يعتقد المرء فى شىء من المخلوقات أنه إله ينفع ويضر بذاته فيتوجه إليه ويدعوه ويتضرع إليه. (2) المرتبة الوسطى أن يعتقد أن الإله قد حل فى بعض المخلوقات واتحد بها كما تحلّ الروح فى البدن وتدبّره. فيكونان شيئا واحدا. (3) أضعف درجاته أن يعتقد أن الله تعالى هو الخالق لكل شىء، القادر على كل شىء، المتصرف فى كل شىء، ولكن له وسطاء بينه وبين عبادة يقرّبونهم إليه زلفى ويشفعون لهم عنده، فهو لأجلهم يعطى ويمنع ويضر وينفع، وهذه هى الدرجة التي

كان عليها مشركو قريش، فقد حكى الله عنهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» - هؤلاء شفعاؤنا عند الله» . والتوحيد الخالص هو الإيمان بأن الله يفعل ما يشاء ويختار، وأن جميع الخلق مسخرون لإرادته وتدبيره، خاضعون لسننه وتقديره، لا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره شيئا إلا فى دائرة الأسباب التي شرعها لعباده، وأن الوساطة بينه وبين عباده محصورة فى تبليغ الرسول رسالته إليهم دون تصرفه فيهم وأن شفاعة الآخرة لله وحده يأذن بها إن شاء لمن شاء ممن ارتضى، يرشد إلى ذلك قوله تعالى لخاتم رسله: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» وقوله: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» وقوله: «قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ» . وقد بين سبحانه أن تلك الوساطة الشّركيّة تنسى عند اشتداد الكروب والأهوال فقال: «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» وقال: «وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» . ثم بين سبحانه أن من سننه أخذ عباده بالشدائد لعلهم يرعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم فقال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي ولقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك فدعوهم إلى توحيدنا وعبادتنا فلم يستجيبوا لهم فأخذناهم أخذ ابتلاء واختبار بالبأساء والضراء ليكون ذلك مفيدا لهم، لأن سنتنا قد جرت بأنهم فى مثل هذه الحال يتضرعون ويجأرون بالدعاء إلى ربهم، فالشدائد ترّبى النفوس وتهذب الأخلاق، فترجع المغرورين عن غرورهم، وتكفّ الفجار عن فجورهم

فأخلق بها أن ترجع أهل الأوهام عن دعاء أمثالهم من البشر بل من دونهم من الأصنام والأوثان. ولكن كثيرا من الناس يصلون إلى حال من الشرك والفجور لا يغيّرها بأس ولا يحوّلها بؤس، فلا تجدى معهم العبر والمواعظ، ولا تؤثر فيهم صروف الدهر وغيره، ومنهم أولئك الأمم الذين أرسل إليهم هؤلاء الأنبياء، ومن ثم قال تعالى: «فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون» أي فهلا تضرّعوا إلينا خاشعين تائبين حين جاءتهم مقدمات العذاب وبوادره، وحذروا عواقبه وأواخره، لنكشفه عنهم قبل أن يحيط بهم. ولكن قلوبهم كانت كالحجارة أو أشد قسوة فلم تؤثر فيهم النذر، وزيّن لهم الشيطان ما هم عليه من الشرك والفجور، ووسوس إليهم بأن يثبتوا على ما كان عليه آباؤهم، ولا ينقادوا إلى رجال منهم ضعاف الأحلام سفهاء العقول، لا ميزة لهم عليهم بعقل راجح، ولا فكر ثاقب. ثم ذكر ما حل بهم من الوبال والنكال بعد أن ابتلاهم بالحسنات فقال: (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي فلما أعرضوا عما أنذرهم به رسلهم وتركوا الاهتداء به وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم وأصرّوا على كفرهم وعنادهم وجمدوا على تقليد من قبلهم- بلوناهم بالحسنات، وفتحنا عليهم أبواب الرزق ورخاء العيش وصحة الأجسام والأمن على الأنفس والأرواح، فلم تربّهم تلك النعم، ولا شكروا الله على ما أنعم، بل أفادتهم النعمة بطرا وكبرا كما أفادتهم الشدائد عتوّا وقسوة. والخلاصة- إنه تعالى سلط عليهم المكاره والشدائد ليعتبروا ويتعظوا، فلما لم تجد معهم شيئا نقلهم إلى حال هى ضدّها ففتح عليهم أبواب الخيرات وسهل لهم سبل الرزق والرخاء فلم ينتفعوا أيضا، وما مثل هذا إلا مثل الأب المشفق على ولده يخاشنه تارة، ويلاينه أخرى طلبا لصلاحه واستقامة حاله وإرجاعا له عن غيه وطغيانه.

(حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا ظنوا أن الذي أوتوا إنما هو باستحقاقهم ولم يزدهم ذلك إلا بطر وغرورا، أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كونهم مبغوتين، إذ فاجأهم على غرة من غير سبق أمارات ولا إمهال للاستعداد أو للهرب، فإذا هم مبلسون أي يائسون من النجاة. وفى الآية إيماء إلى أن البأساء والضراء وما يقابلهما من السراء والنعماء مما يتهذب به من وفقهم الله للهداية وألهمهم الرشاد، والاختبار أكبر شاهد على صدق هذه القضية فالشدائد مصلحة للفساد، مهذّبة للنفوس، والمؤمن أجدر الناس بالاستفادة من الحوادث. روى مسلم عن صهيب مرفوعا «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّا، صبر فكان خيرا له» . وروى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ، فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما نسوا ما ذكروا به» الآية وروى مالك عن الزهري أنه قال: (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي رخاء الدنيا وسترها وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه فلم يرأنه يمكر به فلا رأى له، ومن قتّر عليه فلم يرأنه ينظر له فلا رأى له، ثم قرأ: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» الآية ثم قال: مكر بالقوم وربّ الكعبة. أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي فهلك أولئك القوم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل والإصرار على الشرك وأعماله واستؤصلوا فلم يبق منهم أحد. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي والثناء الكامل والشكر التام لله رب العالمين على إنعامه على رسله وأهل طاعته، بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر وتحقيق ما وعدهم به من إهلاك المشركين، وإراحة الأرض من شركهم وظلمهم. وهذه الجملة إرشاد من الله لعباده المؤمنين بتذكيرهم بما يجب عليهم من حمده على

[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 إلى 49]

نصر المرسلين المصلحين، وقطع دابر الظالمين المفسدين، وإيماء إلى وجوب ذكره فى عاقبة كل أمر وخاتمة كل عمل كما قال تعالى فى وصف عباده المتقين: «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . والخلاصة- إن فى الضراء والسراء للمتقين عبرة، ونعمة ظاهرة أو باطنة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) تفسير المفردات نصرف الآيات: أي نكررها على وجوه مختلفة، ومنه تصريف الرياح، ويصدفون: يعرضون عن ذلك. والمس: اللمس باليد، ويطلق على ما يصيب المدرك مما يسوءه غالبا من ضر وشر وكبر ونصب وعذاب. المعنى الجملي هذا ضرب آخر من ضروب الدعوة إلى وجود الصانع القادر وتوحيده، وإثبات الرسالة بوجه آخر غير ما تقدم من وجوه الاحتجاج. الإيضاح (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين بك وبما جئت به

من التوحيد والهدى: أرأيتم ماذا يكون من أمركم مع آلهتكم الذين تدعونهم وترجون شفاعتهم- إن أصمكم الله تعالى فذهب بسمعكم، وأعماكم فذهب بأبصاركم، وختم على قلوبكم وطبع عليها، فأصبحتم لا تسمعون قولا، ولا تبصرون طريقا، ولا تعقلون نفعا ولا ضرا، ولا تدركون حقا ولا باطلا- من إله غير الله يأتيكم بما ذكر مما أخذه الله منكم؟ أي لا إله غيره يقدر على إتيانكم بما سلب، ولو كان ما اتخذتم من دونه من الأنداد والأولياء آلهة لقدروا على ذلك؟ وإن كنتم تعلمون أنهم لا يقدرون فلماذا تدعونهم، وما الدعاء إلا عبادة، والعبادة لا تكون إلا للإله القدير؟ (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الأمثال والعبر ونجعلها على وجوه شتى ليعتبروا ويتذكروا فينيبوا ويرجعوا ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها ويتجنبون التأمل فيها- ويلقونها وراء ظهورهم. ثم هددهم وتوعدهم على كفرهم بربهم فقال: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: أخبرونى عن شأنكم إن أتاكم عذاب الله الذي مضت سنة الله فى الأولين بإنزاله بأمثالكم من المكذبين المعاندين مباغتا ومفاجئا لكم فأخذكم على غرّة لم تتقدمه أمارات تشعركم بقرب نروله بكم، أو أتاكم وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه بحيث ترون مبادئه ومقدماته بأبصاركم- هل يهلك الله به إلا القوم الظالمين منكم الذين أصروا على الشرك والعناد والجحود، إذ قد مضت سنته تعالى فى مثل هذا العذاب أن ينجى منه الرسل ومن اتبعهم من المؤمنين والخلاصة- إنه لا يهلك بهذا العذاب غيركم، لظلمكم أنفسكم وجنايتكم عليها بما اخترتم لها من الشرك والفجور وعبادة من لا يستحق العبادة، وترك عبادة من هو بها حقيق وجدير. ثم بين وظيفة الرسل فقال: (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي وما نرسل المرسلين إلا ببشارة

[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 إلى 53]

أهل الطاعة بالفوز بالجنة جزاء وفاقا على طاعتهم، وبإنذار من أضرّ على الشرك والإفساد فى الأرض، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حىّ عن بينة. (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي فمن صدق من أرسلناه إليه من رسلنا وعمل صالحا فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذي ينزل بالمكذبين الجاحدين، ولا من عذاب الآخرة الذي أعده للكافرين ولا هم يحزنون يوم لقاء الله على شىء فاتهم، لأن الله يحفظهم من كل فزع وهول كما قال سبحانه: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» وكذلك هم لا يحزنون فى الدنيا كحزن المشركين فى شدته وطول مدته، فإذا عرض لهم الحزن بسبب صحيح كموت ولد أو قريب أو فقد مال أو قلة نصير يكون حزنهم مقرونا بالصبر وحسن الأسوة فلا يضرهم فى أنفسهم ولا فى أبدانهم، ولا يغير شيئا من أخلاقهم وعاداتهم، فالإيمان يعصمهم من عنت البأساء وبطر النعماء، مسترشدين بنحو قوله تعالى «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» . (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي والذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها الرسل يصيبهم العذاب فى الدنيا أحيانا عند الجحود والعناد، وفى الآخرة على سبيل الدوام والاطراد، جزاء كفرهم وإفسادهم، وخروجهم عن أمر الله وطاعته، وارتكابهم مناهيه ومحارمه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53] قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الخزائن واحدها خزينة أو خزانة: وهى ما يخزن فيها الشيء الذي يراد حفظه ومنع التصرف فيه: «وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» والغيب: ما غيّب علمه عن الناس بعدم تمكينهم من أسباب العلم به، وهو قسمان: (1) غيب حقيقى: وهو ما غاب عن جميع الخلق حتى الملائكة وهو المعنىّ بقوله عز اسمه: «قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ» . (2) غيب إضافى: وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض كالذى يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر. أما ما يعلمه بعض البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب أو عجزهم عن استعمالها فليس بداخل فى عموم الغيب الوارد فى كتاب الله. وهذه الأسباب ضروب: (1) ما هو علمى كالدلائل العقلية والعلمية، فعلماء الرياضة يستخرجون من دقائق المجهولات ما يعجز عنه أكثر الناس ويضبطون ما يقع من الخسوف والكسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه بألوف الأعوام. (2) ما هو عملى كالبرق الأثيرى (التلغراف اللاسلكى) الذي يعلم به المرء ما يقع فى أقاصى البلاد من وراء البحار وبينه وبينها ألوف الأميال.

المعنى الجملي

(3) ما هو إدراكات نفسية خفية تصل إلى مرتبة العلم كالفراسة والإلهام، وأكثر هذا النوع هواجس تلوح للنفس ولا يجزم بها الإنسان إلا بعد وقوعها. والأعمى والبصير: هنا الضال والمهتدى، والإنذار: العظة والتخويف، الطرد: الإبعاد، والغداة والغدوة كالبكرة: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والعشى: آخر النهار أو من المغرب إلى العشاء: وحسابهم: أي حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة. وفتنا: أي ابتلينا واختبرنا: ومن بيننا: أي من دوننا. منّ الله عليهم: أي أنعم عليهم بنعم كثيرة. المعنى الجملي كان الكلام فى الآيات السالفة فى بيان أركان الدين وأصول العقائد، وهى: توحيد الله عز وجل، ووظيفة الرسل عليهم السلام، والجزاء على الأعمال يوم الحساب. وهنا ذكر وظيفة الرسل العامة بتطبيقها على خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، وأزال أوهام الناس فيها، وأرشد إلى أمر الجزاء فى الآخرة وكون الأمر فيه لله تعالى وحده على وجه يزيد عقيدة التوحيد تقريرا وتأكيدا، وبيانا وتفضيلا. الإيضاح (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) أي قل أيها الرسول الذي بعث كما بعث غيره من الرسل مبشرا من أجاب دعوته بحسن الثواب، ومنذرا من لم يقبلها بسوء العقاب، لهؤلاء المكذبين لك بغير علم يميزون به بين شئون الألوهية وحقيقة النبوة، فيقترحون عليك من الآيات الكونية ما يعلمون أنه ليس فى مقدور البشر. فهم إما أن يقولوه تعجيزا، وإما أن يظنوا أن الإنسان لا يكون رسولا إلا إذا خرج من حقيقة البشرية وصار قادرا على ما لا يقدر عليه البشر وعالما بكل ما يعجز عن علمه البشر: لا أقول لكم عندى خزائن الله، أتصرف بما خزنه وحفظه فيها من أرزاق العباد وشئون المخلوقات. فكل هذا لله وحده يتصرف

فيه بما يشاء، فيعطى لعباده من خزائنه بحسب ما أوتى كل منهم من الاستعداد فى دائرة ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا يقدر أحد أن يتجاوز ذلك إلى مالم يؤته ولم يصل إليه استعداده. فالتصرف المطلق إنما هو لله القادر على كل شىء، وليس من موضوع الرسالة أن يكون الرسول المبلّغ عنه أمر الدين قادرا على ما لا يقدر عليه البشر من التصرف فى المخلوقات بالأسباب فضلا عن التصرف بغير سبب مما طلبه المشركون منه وجعلوه شرطا للإيمان به كتفجير الينابيع والأنهار فى أرض مكة، وإيجاد الجنات والبساتين فيها، وإسقاط السماء عليهم كسفا، والإتيان بالله والملائكة قبيلا. فإن قال قائل: إن الله أثبت علم الغيب المتعلق بالرسالة للرسل عليهم السلام كقوله فى سورة الجن: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» فكيف أمره هنا أن يتنصل من ادعاء علم الغيب؟. وجوابه- أن إظهار شىء خاص من عالم الغيب على يدى الرسل- لا يجعل ذلك داخلا فى علومهم الكسبية. فإن الوحى ضرب من العلم الضروري يجده النبي فى نفسه حينما يظهره الله عليه، فإذا حبس عنه لم يكن له قدرة ولا وسيلة كسبية للوصول إليه، يؤيد ذلك ما جاء فى فترات الوحى فى السيرة النبوية، وقد يكون توجه قلب الرسول إلى الله تعالى فى بعض الحوادث مقدمة لنزول الوحى فى الحكم الذي طلب من ربه بيانه- يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» . والخلاصة- إن الأنبياء لم يعطوا علم الغيب بحيث يكون إدراكه من علومهم المكتسبة، كذلك لم يعطوا التصرف فى خزائن ملك الله، فلم يمكّنهم مالم يمكّن البشر من أسبابه حتى يكون من كسبهم وعملهم، ولا هو أعطاهم ذلك على سبيل الخصوصية. ونفى الدعاء الرسول من الأمرين يتضمن التبرؤ من ادعاء الألوهية أو ادعاء شىء من صفات الإله القادر على كل شىء، العليم بكل شىء، ويتضمن جهل المشركين حقيقة

الألوهية وحقيقة الرسالة، فقد اقترحوا عليه من الأعمال ما لا يقدر عليه إلا من له التصرف فيما وراء الأسباب، وطلبوا منه الإخبار بما يكون فى الزمان المستقبل ولا يعلمه إلا من كان علم الغيب صفة له كسائر الصفات. فقد سألوه عن وقت الساعة، وعن وقت نزول العذاب بهم، وعن وقت نصر الله تعالى له عليهم. وإذا علمت أن الأنبياء لم يؤتوا ذلك فأحر بمن دونهم منزلة عند الله من القديسين والأولياء المقرّبين ألا يكون لهم ذلك، فادعاؤه لهم جهل عظيم وإثم كبير، ولا ينبغى التحدث به لا بين العامة ولا بين الخاصة. كما يجب محوه من الأذهان لدى الجاهلين بسنن الله فى الأكوان. ثم أمره أن يبين وظيفة الرسول فقال: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي قل لهم: ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه إلا وحي الله الذي يوحيه إلىّ وتنزيله الذي ينزله علىّ، فأمضى لوحيه وأعمل بأمره، وقد أتيتكم بالحجج القاطعة على صحة ما أقول وليس ذلك بالمنكر فى عقولكم، ولا بالمستحيل وجوده، فما وجه إنكاركم لذلك؟. ثم وبخهم على ضلالهم فأمر رسوله أن يبين لهم أن الضال والمهتدى ليسا سواء فقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي قل لهؤلاء المشركين المكذبين: هل يستوى أعمى البصيرة الضالّ عن الصراط المستقيم الذي دعوتكم إليه، فلم يميز بين التوحيد والشرك، ولا بين صفات الله وصفات البشر، وذو البصيرة المهتدى إليه، المستقيم فى سيره عليه بالحجة والبرهان حتى صار ذلك فى مرآة قلبه أوضح مما ترى العينان، وتسمع الأذنان. والخلاصة- إنهما لا يستويان. كما أن أعمى العينين وبصيرهما لا يستويان. (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فيما أذكر لكم من الحجج فتعلموا صحة ما أقول لكم وأدعوكم إليه، وتميزوا بين ضلال الشرك وهداية الإسلام، وتعقلوا ما فى القرآن من ضروب الهداية والعرفان بذلك الأسلوب الرائع الذي لم تعهدوه من قبل؟ فهل يكون ذلك فى مقدورى

وقد لبثت فيكم عمرا من قبل عاطلا من هذه المعرفة، وتلك البلاغة الساحرة، وذلك البيان الخلاب؟ وبعد أن أمره بتبليغ الناس حقيقة رسالته، أمره بإنذار من يخشون الحساب والجزاء فقال: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي وأنذر بما يوحى إليك- المؤمنين بالله الذين يخافون أهوال الحشر وشدة الحساب وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال عند القدوم على الله فى ذلك اليوم الذي لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» يوم لا ولى ينصر، ولا شفيع يدفع العذاب إن أريد النجاة منه، بل أمر ذلك متوقف على مرضاة الله. فهؤلاء المؤمنون هم الذين يرجى أن يتّقوا الله اهتداء بهداك وخوفا من إنذارك ويتحرّوا ما يؤدى إلى مرضاته، لا يصدهم عن ذلك اتكال على الأولياء ولا اعتماد على الشفعاء، علما منهم أن الشفاعة لله جميعا: «ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» . كما أنهم يستيقنون أن نجاتهم إنما تكون بإيمانهم وأعمالهم وتزكيتهم لأنفسهم لا بانتفاعهم بصلاح غيرهم أو شفاعة الشافعين لهم، كما هو حال المشركين الذين جهلوا أن مدار السعادة فى الدنيا والآخرة مرتبط بتزكية النفس وطهارتها بالإيمان الصحيح والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة لا على أمر خارج عن النفس لا تأثير له فيها. والآية بمعنى قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ» وقوله: «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» . ثم نهى رسوله أن يطيع المترفين من كفار قريش فى شأن المؤمنين المستضعفين فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي ولا تطرد أيها الرسول هؤلاء المؤمنين الموحّدين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى أي أول

النهار وآخره، أو المراد عامة الأوقات إذ يقال هو يفعل كذا صباحا ومساء: إذا كان مداوما عليه. والدعاء إما الصلاة، وقد كان فى أول الإسلام صلاتان إحداهما فى الصباح والأخرى فى المساء، وإما الأعم الشامل للدعاء الحقيقي والصلاة والقرآن المشتملين عليه. وقوله: يريدون وجهه: أي يدعون ربهم فى هذين الوقتين مريدين بهذا الدعاء ابتغاء مرضاته تعالى: أي يتوجهون إليه وحده مخلصين له الدين، فلا يشركون معه أحدا ولا يرجون من غيره على الدعاء ثوابا. وهو كقوله: «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً» . روى أحمد وابن جرير والطبراني فى جماعة آخرين عن عبد الله بن مسعود قال: «مرّ الملأ من قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمّار وخبّاب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك: فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل الله فيهم القرآن: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ- إلى قوله- أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: مشى عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وقرظة بن عمرو والحارث بن عامر فى أشراف الكفار من بنى عبد مناف إلى أبى طالب فقالوا له: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا. (واحدهم عسيف، وهو الأجير) كان أعظم له فى صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه، فذكر ذلك أبو طالب للنبى صلى الله عليه وسلم (فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت يا رسول الله حتى تنظر ما يريدون بقولهم وما يصيرون إليه من أمرهم) . فأنزل الله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ- إلى قوله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) . قال وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة. وصبيحا مولى أسيد،

ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم ونزلت فى أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: «وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا» الآية. فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر فأنزل الله: «وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا» الآية. والعبرة من هذا أن أول أتباعه كانوا كأتباع من تقدمه من الرسل صلوات الله عليهم من الضعفاء والفقراء، وأن أعداءه هم المترفون من الرؤساء والسادة كأعدائهم وأنهم كانوا يحتقرون السابقين إلى الإيمان ويذمونهم ويعدون أنفسهم معذورين بعدم رضاهم بمساواتهم بل قد اقترحوا على الرسل طردهم وإبعادهم كما فى هذه الآية وكما فى قوله فى سورة هود حاكيا قول الأشراف من قوم نوح عليه السلام: «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» وقوله لهم: «وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» . (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ) أي ما عليك شىء من أمر حساب هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى، كما أنه ليس عليهم شىء من أمر حسابك على أعمالك، حتى يكون هذا أو ذاك سببا فى طردك إياهم بإساءتهم فى عملهم أو فى محاسبتك على عملك، فإن الطرد جزاء والجزاء إنما يكون على سيىء الأعمال ولا يثبت ذلك إلا بالحساب. والمؤمنون ليسوا بعبيد للرسل ولا أعمالهم الدينية لهم، بل هى لله يريدون بها وجهه لا أوجه الرسل، وحسابهم عليه تعالى لا عليهم، والرسل هداة مرشدون، لا أرباب مسيطرون: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وإذا لم يكن للرسل حق السيطرة على الناس ومحاسبتهم على أعمالهم الدينية، فأجدر بالناس ألا يكون لهم هذا الحق على أنبيائهم. (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي لا تطرد هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى فتكون بطردك إياهم فى زمرة الظالمين معدودا من جنسهم، لأن الطرد لا يكون حقا إلا على الإساءة فى الأعمال التي يعملونها لمن له حق حسابهم وجزائهم عليها، ولست

أنت بصاحب هذا الحق حتى تجرى فيه على صراط العدل، فإن عملهم هو عبادة الله وحده، فحسابهم وجزاؤهم عليه كما قال نوح عليه السلام: «إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ» . والخلاصة- إن هذه الآية الكريمة أفادت: (1) أن الرسول لا يملك التصرف فى الكون. (2) أنه لا يعلم الغيب. (3) أنه ليس بملك. (4) أنه لا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم. ثم بين أن مقال المشركين فى شأن المستضعفين ابتلاء من الله وفتنة فقال: (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ومثل ذلك الفتن أي الابتلاء والاختبار، فتنا بعضهم ببعض: أي جعلنا بحسب سنتنا فى غرائز البشر وأخلاقهم- بعضهم فتنة لبعض تظهر به حقيقة حاله، كما يظهر للصائغ حقيقة الذهب والفضة بفتنتهما بالنار. (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟) أي لتكون العاقبة أن يقول المفتونون من الأقوياء فى شأن الضعفاء من المؤمنين: أهؤلاء الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين خصهم الله بهذه النعمة العظيمة من جملتنا أو من مجموعنا؟. والخلاصة- إن ذلك لن يكون، لأنهم هم المفضّلون عند الله بما آتاهم من غنى وثروة وجاه وقوة، فلو كان هذا الدين خيرا لمنحهم إياه دون هؤلاء الضعفاء كما أعطاهم من قبل الجاه والثروة، وقد حكى الله عنهم مثل هذا بقوله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» . ثم رد عليهم مقالتهم الدالة على العتوّ والاستكبار بقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي إن المستحقّ لمنّ الله وزيادة نعمه إنما هو من يقدّرها قدرها، ويعرف حق المنعم بها فيشكره عليها، لا من سبق الإنعام عليه فكفر وبطر وعتا واستكبر.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 إلى 55]

وبهذا مضت سنة الله فى عباده، ولولا هذا لكانت النعم خالدة لا تنزع ممن أوتيها وإن كفر بها، وهل فتن أولئك الكبراء إلا بما حصل لهم من الغنى والقوة؟ فظنوا جهلا منهم بسنة الله فى أمثالهم أنه تعالى ما أعطاهم ذلك إلا تكريما لذواتهم، وتفضيلا لهم على غيرهم. وفى الآية إيماء إلى أن ما اغترّوا به من النعم لن يدوم، ولا يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه، بل لا بد أن تنعكس الحال فيسلب الأقوياء ما أعطوا من قوة ومال، وتدول الدّولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين فيكونوا هم الأئمة الوارثين «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» كذلك فيها إشارة إلى أن تركهم للإيمان لم يكن إلا جحودا ناشئا عن الكبر والعلوّ فى الأرض لا عن حجة ولا عن شبهة، وإلى أن ضعفاء المؤمنين السابقين لم يفتنوا بغنى كبراء المشركين وقوتهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 55] وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) تفسير المفردات السلام والسلامة: البراءة والعافية من الآفات والعيوب، والسلام: من أسمائه تعالى يدل على تنزيهه عن كل ما لا يليق به من نقص وعجز وفناء، واستعمل السلام فى التحية بمعنى السلامة من كل ما يسوء، وبمعنى تأمين المسلم عليه من كل أذى يناله

المعنى الجملي

من المسلم فهو دليل المودة والصفاء، وهو تحية أهل الجنة يحييهم بها ربهم جل وعلا وملائكته الكرام، ويحيى بها بعضهم بعضا، وكتب. أوجب، والجهالة: السفه والخفة التي تقابل الحكمة والروية، وتستبين: تتضح وتظهر، يقال: استبنت الشيء وتبينته: أي عرفته بينا واضحا. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه نبيه عن طرد المستضعفين من حضرته، استمالة لكبراء المتكبرين من قومه، وطمعا فى إقبالهم عليه وسماعهم لدعوته، كما اقترحه بعض المشركين. أمره بأن يلقى الذين يدخلون فى الإسلام آنا بعد آن عن بينة وبرهان- بالتحية والسلام، والتبشير برحمة الله ومغفرته، فقد كان السواد الأعظم من الناس كافرين إما كفر جحود وعناد، وإما كفر جهل وتقليد للآباء والأجداد، وكان يدخل فى الإسلام الأفراد بعد الأفراد، وكان أكثر السابقين من المستضعفين والفقراء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكون تارة معهم يعلمهم ويرشدهم، وتارة يتوجه إلى أولئك الكافرين يدعوهم وينذرهم. الإيضاح (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي وإذا جاءك القوم الدين يصدّقون بكتابنا وحججنا، ويقرون بذلك قولا وعملا، سائلين عن ذنوبهم التي فرطت منهم، هل لهم منها توبة، فلا تؤيسهم منها، وقل لهم: سلام عليكم أي أمنة الله لكم من ذنوبكم أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها. ثم ذكر العلة فى هذا فقال: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي قل لهم: أوجب على ذاته المقدسة تفضلا منه وإحسانا، الرحمة بخلقه، فإن فيما سخّر للبشر من أسباب المعيشة المادية، وفيما آتاهم من وسائل العلوم الكسبية- لآيات بينات على سعة الرحمة الربانية، وتربية عباده بها فى حياتهم الجسدية والروحية.

ثم بين أصلا من أصول الدين في هذه الرحمة للمؤمنين فقال: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن من عمل منكم عملا تسوء عاقبته، للضرر الذي حرّمه الله لأجله، حال كونه ملتبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء، كغضب شديد حمله على السب والضرب، أو شهوة مغتلمة قادته إلى انتهاك العرض، ثم تاب ورجع عن ذلك السوء بعد أن عمله شاعرا بقبحه، نادما عليه، خائفا من عاقبته، وأصلح عمله بأن اتبع ذلك العمل السيّء بعمل يضاده، ويذهب أثره من قلبه، حتى يعود إلى النفس زكاؤها وطهارتها، وتصير أهلا للقرب من ربها- فشأنه تعالى فى معاملته أنه واسع المغفرة والرحمة، فيغفر له ما تاب عنه، ويتغمده برحمته وإحسانه. وقد بين سبحانه فى هذه الآية من أنواع الرحمة المكتوبة لعباده ما هم أحوج إلى معرفته بنص الوحى وهو حكم من يعمل السوء بجهالة من عباده المؤمنين، وبقية أنواعها يمكن أن يستدل عليها بالنظر فى الأنفس والآفاق، وأمر نبيه بتبليغها لمن يدخلون فى الدين ليهتدوا بها حتى لا يغتروا بمغفرة الله ورحمته فيحملهم الغرور على التفريط فى جنب الله والغفلة عن تزكية أنفسهم، وحتى يبادروا إلى تطهيرها من إفساد الذنوب خوف أن تحيط بها خطيئتها: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» . ثم بين سبحانه أنه فصل الحقائق للمؤمنين ليبتعدوا عن سلوك سبيل المجرمين. (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل ذلك التفصيل البديع الواضح نفصل لك أدلتنا فى بيان الحقائق التي يهتدى بها أهل النظر والفكر لما فيها من العلم والحكمة، والموعظة والعبرة، ولتتضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين، إذ يعلم من هذا التفصيل أن ما خالفه هو سبيل المجرمين والأشياء تعرف بأضدادها كما قيل (وبضدها تتميز الأشياء) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 إلى 58]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) تفسير المفردات النهى: الزجر عن الشيء بالقول نحو اجتنب قول الزور، والكف عنه بالفعل كما قال تعالى: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» والدعاء: النداء لطلب إيصال الخير أو دفع الضر، ولا يكون عبادة إلا إذا كان فيما وراء الأسباب العادية التي سخرها الله للعباد وينالونها بكسبهم واجتهادهم وتعاونهم عليها. والبينة: كل ما يتبين به الحق من الحجج العقلية أو الآيات الحسية، ومن ذلك تسمية الشهادة بينة. والقصص: ذكر الخبر أو تتبع الأثر، والفصل: القضاء والحكم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين، ذكر هنا أنه نهى عن سلوك سبيلهم هو عبادة غير الله، وأن هذه العبادة إنما هى بمخض الهوى والتقليد، لا سبيل الحجة والبرهان، فهى جمادات وأحجار ينحتونها بأيديهم ويركبونها ثم يعبدونها. الإيضاح (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الداعين لك إلى الإشراك: إنى نهيت أن أعبد الذين تدعونهم وتستغيثون بهم من دون الله أي غير الله من الملائكة والصالحين من عباده، دع مادونهم من الأصنام والأوثان التي لا علم لها ولا عمل.

وهذا النهى شامل لنهى الله عنه فى كتابه الكريم فى كثير من الآيات، ولأمره بضده وهو دعاؤه وحده، ولنهى العقل والفطرة السليمة قبل إرسال الأنبياء. ثم أمره أن يبين لهم أن هذه العبادة مبنية على الرأى والهوى وهى ضلال وغىّ. (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي قل لهم: لا أتبعكم على ما تدعوننى إليه لا فى هذه العبادة ولا فى غيرها من الأعمال، لأنها مؤسسة على الهوى، وليست على شىء من الحق والهدى، فإن فعلت ذلك فقد تركت محجة الحق وسرت على غير هدى، فصرت ضالا مثلهم وخرجت من عداد المهتدين، وفى هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية فى شىء. ثم أمره أن يقول لهم: إنى على هدى من ربى فيما أتبعه. (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي قل لهم أيها الرسول إنى فيما أخالفكم فيه على بينة من ربى أي على بيان قد تبينته، وبرهان قد وضح لى من ربى بالوحى والعقل، إذ القرآن بينة مشتملة على ضروب كثيرة من البينات العقلية والكونية التي يعجز الرسول عن الإتيان بمثلها. (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي والحال أنكم كذبتم به أي بالقرآن الذي هو بينتى من ربى، ومن عجيب أمركم أنكم تكذبون ببينة البينات، ثم تطمعون أن أتبعكم على ضلال من أمركم لا بينة لكم عليه إلا محض التقليد، والتقليد براءة من الاستدلال، ورضا بجهل الآباء والأجداد. وفى هذا حجة دامغة، وبينة ناصعة على ما قبله، من نفى عبادته صلى الله عليه وسلم للذين يدعونهم من دون الله. وبعد أن بين تكذيبهم به قفّى عليه برد شبهة تخطر حينئذ بالبال، وهى أن الله أنذرهم عذابا يحلّ بهم إذا أصروا على عنادهم وكفرهم، ووعد بأن ينصر رسوله عليهم وقد استعجلوا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فكان عدم وقوعه شبهة لهم على صدق القرآن، إذ هم يجهلون سنة الله فى شئون الإنسان، فأمر الله نبيه أن يقول لهم:

(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي ما الذي تستعجلون به من نقم الله وعذابه بيدي ولا أنا على ذلك بقادر، ولم أقل لكم إن الله فوض أمره إلىّ حتى تطالبونى به، وتعدّون عدم إيقاعه عليهم حجة على تكذيبه. ثم أكد ما سبق بقوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم فى هذا وفى غيره من التصرف فى شئون الأمم إلا لله وحده، وله فى ذلك سنن حكيمة تجرى عليها أفعاله وأحكامه، فلا يتقدم شىء منها عن ميقاته ولا يتأخر: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» . ثم بين سبحانه أن كل ما قصه على رسوله فهو حق لا شبهة فيه فقال: (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي يقص على رسوله القصص الحق فى وعده ووعيده وجميع أخباره، وهو خير الحاكمين فى كل أمر، فهو لا يقع فى حكمه وقضائه حيف إلى أحد ولا جور وهو النافذ حكمه فى كل شىء، والمحيط علمه بكل شىء. (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . لو أن عندى ما تسعجلون به بأن مكننى الله من التصرف فيه وجعله من قدرتى الكسبية، لقضى الأمر بينى وبينكم فأهلكتكم عاجلا غضبا لربى، واقتصاصا من تكذيبكم، ولتخلصت منكم سريعا لصدكم عن تبليغ دعوة ربى، وصدكم الناس عنى، وقد وعدني ربى بنصر المؤمنين المصلحين، وخذلان الكافرين المفسدين. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) الذين لا رجاء فى رجوعهم عن الظلم إلى الإيمان والحق والعدل، ومن ثم لم يجعل أمر عقابهم إلى، بل جعله عنده ووقّت له ميقاتا هو أعلم به، ترونه بعيدا ويراه قريبا: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 إلى 62]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) تفسير المفردات المفاتح واحدها مفتح: (بفتح الميم) وهو المخزن: (وبكسرها) هو المفتاح الذي تفتح به الأقفال، والبحر: كل مكان واسع حاو للكثير من الماء، والبرّ: ما يقابله، والتوفى: أخذ الشيء وافيا أي تاما كاملا ويقابله التوفية، وهو إعطاء الشيء تاما كاملا، ويقال وفاه حقه فتوفاه منه قال تعالى: «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ» ويقال توفاه واستوفاه: أحصى عدده ثم أطلق التوفى على الموت، لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما، وأطلق على النوم كما فى الآية وفى آية الزمر، والجرح: يطلق على العمل والكسب بالجوارح وعلى التأثير الدامي من السلاح وما فى معناه كالبراثن والأظفار والأنياب من سباع الطير والوحش، وتسمى الخيل والأنعام المنتجة جوارح أيضا، لأن نتاجها كسبها، والجرح كالكسب يطلق على الخير والشر، والاجتراح فعل الشر خاصة فى قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ

المعنى الجملي

كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» ويبعثكم: يوقظكم من النوم، ويقضى: ينفذ، والأجل المسمى: هو مدة بقائه فى الدنيا. والحفظة: هم الكرام الكاتبون من الملائكة «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ» . المعنى الجملي بعد أن أمر عز اسمه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته، وأن ما يستعجلونه عذاب الله تعجيزا أو تهكما ليس عنده، وإنما هو عند الله، وقد قضت سنته أن يجعل لكل شىء أجلا وموعدا لا يتقدم ولا يتأخر، وأن الله تعالى هو الذي يقضى الحق ويقصه على رسوله- ذكر هنا أن مفاتح الغيب عنده وأن التصرف فى الخلق بيده، وأنه هو القاهر فوق عباده لا يشاركه أحد من رسله ولا من سواهم فى ذلك. الإيضاح (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) أي إن خزائن الغيب عند الله وهو المتصرف فيها وحده، وكذلك المفاتيح أي الوسائل التي يتوصل بها إلى علم الغيب هى عنده أيضا لا يعلمها علما ذاتيا إلا هو، فهو الذي يحيط بها علما وسواه جاهل بذاته لا يعلم منها شيئا إلا بإعلامه عز وعلا، فعلينا أن نفوض إليه إنجازه وعده لرسله بالنصر، ووعيده لأعدائه بالعذاب والقهر، وأن نجزم بأنه لا يخلف وعده رسله وإنما يؤخر تنفيذه إلى الأجل الذي اقتضته حكمته. روى البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس» : «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» . وما حكاه الله عن عيسى عليه السلام من قوله: «وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» وما قاله يوسف عليه السلام لصاحبى السجن «لا يَأْتِيكُما»

داخل فيما يظهر الله عليه رسله من علم الغيب كما قال فى سورة الجن: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» . وجاء فى معنى الآية قوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» وقوله: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» . وروى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعا «كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء وكتب فى الذكر كل شىء، وخلق السموات والأرض» . لهذا الحديث والآثار المروية اتفق علماء التفسير بالمأثور على تفسير الكتاب المبين وأم الكتاب والذكر فى نحو ما تقدم من الآيات- باللوح المحفوظ، وهو شىء أخبر الله به وأنه أودعه كتابه ولم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن بأنه شىء موجود وأن الله قد حفظ فيه كتابه، وأما دعوى أنه جرم مخصوص فى سماء معينة فمما لم يثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم بالتواتر، فلا ينبغى أن يدخل فى باب العقائد لدى المؤمنين. وروى عن الحسن أن حكمة كتابة الله لمقادير الخلق تنبيه المكلفين إلى عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب، وزاد بعضهم حكمتين أخريين: (1) اعتبار الملائكة عليهم السلام بموافقة المحدثات للمعلومات الإلهية. (2) عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق فى الكتاب، ويؤيده ما روى البخاري عن أبي هريرة. «جفّ القلم بما أنت لاق» . (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي وعنده علم ما لم يغب عنكم، لأن ما فيهما ظاهر للعين يعلمه العباد وعلمه تعالى بما فيهما علم شهادة مقابل لعلم الغيب. والخلاصة- إن عنده علم ما غاب عنكم مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه وعند علم ما يعلمه جميعكم لا يخفى عليه شىء منه، فعنده علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) أي وما تسقط ورقة من نجم أو شجر فى الصحارى والبراري، أو فى الأمصار والقرى إلا والله عليم بها. (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما تسقط من حبة بفعل الإنسان باختياره كالحب الذي يلقيه الزّراع فى بطون الأرض يسترونه بالتراب فيحنجب عن نور النهار، أو تذهب به النمل فى قراها وجحورها، أو بغير فعل الإنسان كالذى يسقط من النبات فى الشقوق والأخاديد، وما يسقط من الثمار رطبا ويابسا- إلا وهو فى كتاب مبين وهو اللوح المحفوظ الذي كتب ذلك فيه وكتب عدده والوقت الذي يوجد فيه والذي يفنى فيه، وجعل الكتاب مبينا لأنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم، هذا هو الذي اختاره الزجاج لقوله فى الآية الأخرى. «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» . واختار الرازي أن الكتاب المبين علم الله تعالى الذي شبه المكتوب فى الصحف بثباته وعدم تغيره. (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي يتوفى أنفسكم حال نومكم بالليل أي يزيل إحساسها ويمنعها من التصرف فى الأبدان، واقتصر على الليل وإن كان ذلك يقع فى النهار، لأن الغالب أن يكون النوم فيه. وفى معنى الآية قوله تعالى «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فيمسك الّتى قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي ويعلم جميع عملكم وكسبكم حين اليقظة ويكون معظم ذلك فى النهار سواء أكان خيرا أم شرا. (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي ثم إنه بعد توفيكم بالنوم يثيركم ويرسلكم منه فى النهار

(لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي يوقظكم ويرسلكم لكسب أرزاقكم وأقواتكم، ومناجاة إلهكم وخالقكم، لأجل أن يقضى وينفذ الأجل المسمى الذي فى علمه تعالى لكل فرد منكم، فإن لأعماركم آجالا مقدرة مكتوبة لا بد من قضائها وإتمامها. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي ثم إليه رجوعكم إذا انقضت آجالكم ومتم. (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم يخبركم بما كنتم تعملون فى حياتكم الدنيا ويجازيكم بذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والقادر على البعث من توفى النوم قادر على البعث من توفى الموت. وفى ذكر الأجل المسمى والرجوع إلى الله تعالى لأجل الحساب والجزاء إيماء إلى تأييد ما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركو مكة من وعيد الله لهم ووعده لرسله بالنصر عليهم وبيان عذاب الآخرة فوق ما أنذروا به من عذاب الدنيا، فمن لم يدركه العذاب الأول لم يفلت من الثاني. وبعد أن أبان سبحانه أمر الموت والرجوع إلى الله للحساب والجزاء، ذكر قهره لعباده وإرسال الحفظة لإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم فقال: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) أي إنه تعالى هو الغالب خلقه العالي عليهم بقدرته وسلطانه، لا المقهورون من الأوثان والأصنام، المغلوبون على أمرهم، ويرسل عليكم حفظة من الملائكة يتعاقبونكم ليلا ونهارا يحفظون أعمالكم ويحصونها، ولا يفرّطون فى حفظها وإحصائها. ولا يضيعون شيئا منها. وإرسال الحفظة عليهم مراقبهم لهم وإحصاء أعمالهم وكتابتها وحفظها فى الصحف التي تنشر يوم الحساب، وهى المرادة بقوله تعالى «وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» . وهؤلاء الحفظة الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» ونحن نؤمن بهذه الكتابة ولا نعرف صفتها ولا نتحكم فيها بآرائنا.

وما مثل مراقبة أولئك الحفظة إلا مثل: / (مراقبة رجال البوليس السرى فى حكومات العصر الحديث) . روى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال فى الآية: الملوك يتخذون الحرس يحفظونهم من أمامهم ومن خلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم، يحفظونهم من القتل، ألم تسمع أن الله تعالى يقول «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ» لم يغن الحرس عنهم شيئا. وفى معنى الآية قوله «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» . وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون فى صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادى؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» . والحكمة فى كتابة الأعمال وحفظها على العالمين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رءوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات وأبعث له على عمل الصالحات، فإن المرء إن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء، ربما غلب عليه الغرور بالكرم الإلهى والرجاء فى المغفرة والرحمة فلا يكون لديه من الخشية والحياء، ما يزجره عن المعصية، كما يزجره توقع الفضيحة فى موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم، كما قال تعالى «وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) أي يرسل عليكم

حفظة من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم، حتى إذا جاء أحدكم الموت وانتهى عمله، توفته وقبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذين يتولّون ذلك بأمره كما قال تعالى «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» . روى ابن جرير وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه سئل عن ملك الموت أهو وحده الذي يقبض الأرواح؟ قال هو الذي يلى أمر الأرواح وله أعوان على ذلك، وقرأ الآية، ثم قال غير أن ملك الموت هو الرئيس. وروى عن إبراهيم النّخعى ومجاهد وقتادة، أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان ثم يدفعونها إلى ملك الموت. وعن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه ويدفعها إلى الأعوان، فإن كان الميت مؤمنا دفعها إلى ملائكة الرحمة وإن كان كافرا دفعها إلى ملائكة العذاب: أي وهم يتوجهون بالأرواح إلى حيث يوجههم الله بأمره، وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كيفيته. وجاء إسناد التوفى إلى الله فى قوله: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» إما لأنه هو الآمر لملك الموت ولأعوانه جميعا بذلك- وإما لأنه هو الفاعل الحقيقي والمسخّر لملك الموت وأعوانه، فهم لا يعملون إلا بأمره ولا يتصرفون إلا بتسخيره. (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي ثم يردّ أولئك الذين تتوفاهم الرسل إلى الله الذي هو مولاهم ومالك أمورهم، وهو الحق الذي لا يقضى إلا بالعدل، ليحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم. وفى الآية إيماء إلى أن ردهم إليه حتم، لأنه سيدهم الذي يتولى أمورهم ويحكم بينهم بالحق. وأما تولى بعض العباد أمور بعض بملك الرقبة أو ملك التصرف والسياسة، فمنه ما هو باطل من كل وجه، ومنه ما هو باطل من حيث إنه موقوت لا ثبات له ولا بقاء، وحق من حيث إن مولاهم الحق أقره فى سننه الاجتماعية أو شرائعه المنزلة لمصلحة

[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 إلى 64]

العباد العارضة مدة حياتهم الدنيا، وقد زال كل ذلك بزوال عالم الدنيا وبقي المولى الحق وحده. ثم بين أن ردهم إليه ليحكم بينهم بقضائه العدل فقال: (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) أي له الحكم وحده ليس لغيره منه شىء فى ذلك اليوم كما قال «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» وقال «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ» وقال «قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» وسرعة حسابه- أنه يحاسب العباد كلهم فى أسرع زمن وأقصره، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، ولا يشغله شأن عن شأن. والخلاصة- إنه تعالى أسرع الحاسبين إحصاء للأعمال ومحاسبة عليها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) تفسير المفردات ظلمات البر والبحر: ضربان، ظلمات حسية كظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر، وظلمات معنوية كظلمة الجهل بالمسالك والطرق، وظلمة فقد الأعلام والمنار، وظلمة الشدائد والأخطار كالعواصف والأعاصير وهياج البحار، إلى نحو ذلك من الشدائد التي تبطل الحواس وتدهش العقول، قال الزجاج: العرب تقول لليوم الذي فيه شدة: يوم مظلم ويوم ذو كواكب أي إنه قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل فى ظلمته، وفى المثل: رأى الكواكب ظهرا، أي أظلم عليه يومه لا شتداد الأمر فيه

المعنى الجملي

حتى كأنه أبصر النجم نهارا، والتضرع: المبالغة فى الضراعة، وهى الذل والخضوع، والمراد، له هنا ما كان صادرا عن الإخلاص الذي يثيره الإيمان الفطري الطوىّ فى أنفس البشر، والخفية (بالضم والكسر) الخفاء والاستتار، والدعاء قد يكون بالجهر ورفع الصوت مع البكاء، وقد يكون بالإسرار هربا من الرياء، فتارة يجأر المرء بالدعاء رافعا صوته متضرعا مبتهلا، وأخرى يسر الدعاء ويخفيه مخلصا محتسبا، ويتحرى ألا تسمعه أذن ولا يعلم به أحد، ويرى أنه يكون بذلك أجدر بالقبول، وأرجى لنيل المسئول، والكرب: الفم الشديد. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه لعباده إحاطة علمه، وشمول قدرته، واستعلاءه عليهم بالقهر، وحفظه أعمالهم عليهم- ذكّرهم هنا بالدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية ونهاية الرحمة والفضل والإحسان. الإيضاح (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الغافلين عن أنفسهم وعما أودع فى الآفاق من آيات التوحيد من ينجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحيرتم وأظلمت عليكم المحجة، ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه فأظلم عليكم فيه السبيل فلم تهتدوا- غير الله الذي إليه مفزعكم بالدعاء تضرعا منكم إليه، معلنين الدعاء تارة ومخفين له أخرى. (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي مقسمين: لئن أنجيتنا من هذه الظلمات التي نحن فيها لنكونن من المتصفين بالشكر، المخلصين لك بالعبادة دون من نشركه معك فى عبادتك. وفى معنى الآية قوله: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 إلى 67]

فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» . ثم بين أنهم يحنثون فى أيمانهم بعد النجاة، ويشركون بربهم سواه، فقال: (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أي إن الله هو الذي ينجيكم المرة بعد المرة من تلك الظلمات ومن كل كرب يعرض لكم، ثم أنتم تشركون به غيره بعد النجاة أقبح الشرك، حال كونكم مخلفى وعدكم له بالشكر حانثين بما وكدتموه من الأيمان. وأظهر أنواع الشرك أنكم تدعون أولياء من دون الله وتنسبون إليهم الشفاعة عنده، حتى هذه النجاة التي نجّاكموها. والخلاصة- إنه إذا شهدت الفطرة السليمة بأنه لا ملجأ فى هذه الحالة إلا إلى الله ولا تعويل إلا على فضله، فالواجب أن يبقى هذا الإخلاص فى جميع الأحوال والأوقات، لكن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل ذلك إلى الأعمال الجسمانية أو إلى نحو ذلك من الأسباب ويعود إلى الشرك فى العبادة ولا يوفّى بالعهد. وفى الآية تنبيه إلى أن من أشرك فى عبادته تعالى غيره فكأنه لم يعبده رأسا، فالتوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الشيع: واحدهم شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر، قال تعالى «كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ» ويلبسكم: أي يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق فيجعلكم فرقا مختلفة لا فرقة واحدة، ونصرف الآيات: نحو لها من نوع إلى آخر من فنون الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا إلى الفهم، والفقه: فهم الشيء بدليله وعلته المفضى إلى الاعتبار والعمل به. والوكيل: هو الذي توكل إليه الأمور. ومستقر: وقت استقرار ووقوع. المعنى الجملي بعد أن ذكّر سبحانه المشركين ببعض آياته فى أنفسهم وبمننه عليهم، بإنجائهم من الأهوال والكروب التي يشعر بها كل من وقعت له منهم إما بتسخير الأسباب، وإما بدقائق اللطف والإلهام. ذكر هنا قدرته على تعذيبهم، وأبان أن عاقبة كفران النعم، أن تزول وتحل محلها النقم، وأنه يمهل ولا يهمل، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. الإيضاح (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أي قل أيها الرسول لقومك الذين يشركون مع الله سواه، ولا يشكرون نعمه التي أسداها إليهم: إن الله هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا تجهلون حقيقته، فيصبّ عليكم من فوقكم، أو يثيره من تحت أرجلكم، أو يلبسكم ويخلطكم فرقا وشيعا على أهواء شتى، كل فرقة تشايع إماما فى الدين أو تتعصب لملك أو رئيس، أو يذيق بعضكم بأس بعض فيقتل بعضكم بيد بعض. وقد ورد في التفسير بالمأثور، أن المراد بالعذاب من فوق الرجم من السماء والطوفان كما وقع لبعض الأمم القديمة، وبالعذاب من تحت: الخسف والزلازل المعهودة قديما

وحديثا، وروى عن ابن عباس أن المراد بمن فوقكم أي من أمرائكم، ومن تحت أرجلكم أي عبيدكم وسفلتكم. ولا شك أن لفظ العذاب مبهم قصد به هذا الإبهام لأجل الشمول، فيطلق على ما يدل عليه اللفظ مما يحدث فى المستقبل أو ينكشف للناس فيه ما كان خفيا عنهم، فالقرآن لا تفنى عجائبه، وفيه نبأ من قبل ونبأ من كان فى زمن التنزيل ونبأ من سيجيئ بعدهم. فهذه الآية ظهر تفسيرها بأجلى برهان فى هذه الحروب فى العصر الحديث مما لم يسبق له نظير ولم يكن البشر على علم منه، فقد أرسل الله فيها على الأمم المحاربة عذابا من فوقها بما تقذفه الطائرات والمطاود وقاذفات القنابل التي تحمل كل منها الآلاف المؤلفة من المواد المتفجرة من الحديد والمعادن الأخرى المهلكة، ومن المواد المحرقة، وصارت تمشى آلاف الأميال لتصل إلى أهدافها المقصودة فتخرب المدن والقرى، وتجعل عاليها سافلها، بما تصب فيها من عل، من الحمم المتّقدة والنيران المشتعلة، حتى ليراها الرائي كأنها بركان ثائر يريد أن يبتلع من حوله ويلتهم جميع ما فوق سطح الأرض. وكذلك مقذوفات المدافع البعيدة المدى التي تطلق قناطير من أفواهها وترسله من فوق من مواد قاتلة مما لم يعرف الناس له نظيرا من قبل. وكذلك يأتيها العذاب من تحتها بما تحدث السفن الغواصة فى البحار بما ترسله من (الطور بيد) الحامل للقناطير المقنطرة من مختلف المعادن وتتحين به الفرص لمقابلة سفن العدو فتصبه عليها صبا. وتهلك به مختلف السفن ولا تقوى على النجاة منها مهما عظم حجمها ودقّ صنعها بل لا بد أن تهوى فى قاع البحار إذا قدر لها أن تصاب به، فكم من سفينة غرقت. وكم من روح زهق به وأصبح طعاما للسمك وحيوان البحر. وكذلك جعل أمم أوربا شيعا متعادية. وأذاق بعضها بأس بعض فحلّ بها من التقتيل والتخريب ما لو لم نره بأعيننا ونسمع عنه الأحاديث المستفيضة التي لا تقبل شكا ولا ريبا- لكنا فى موضع الشك فيه، لغرابته وشدة هوله وذهول الناس حين

رؤيته، فترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من الذعر وشدة الخطب حيارى، لا يدرون ماذا هم فاعلون، ولا أىّ مكان يسلكون ليتقوا ذلك الهلاك المحقق، والعذاب الذي لا بد واقع بهم إلا من رحم الله. روى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية- قل هو القادر إلخ- فقال: أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد» . وروى البخاري والنسائي من حديث جابر قال: «لما نزلت هذه الآية: (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك) قال: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال: (أعوذ بوجهك) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هاتان أهون أو أيسر) » . وإنما كانت هاتان أهون أو أيسر لأن المستعاذ منه قبلهما هو عذاب الاستئصال بإحدى الخصلتين الأوليين حتى لا يبقى من الأمة أحد وروى عن ابن عباس من طريق أبي بكر بن مردويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوت الله أن يرفع عن أمتى أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبي أن يرفع عنهم اثنتين دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وألا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبي أن يرفع الآخرين» وروى مسلم من حديث ثوبان قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله زوى (جمع) لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنى سألت ربى لأمتى ألا يهلكها بسنة عامة. (كالمجاعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح الصرصر) وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم. (عزتهم ومستقر ملكهم) وإن ربى قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة

عامة وألا أسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا» . وقد ظهر صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فى بلوغ ملك أمته مشارق الأرض ومغاربها وفى وقوع بأسهم بينهم، وما زال ملكهم عن أكثر تلك الممالك إلا بتفرقهم ثم بمساعدتهم للأجانب على أنفسهم، وكم تألبت عليهم الأمم فلم ينالوا منهم بدون ذلك منالا، وما بقي لهم الآن إلا القليل الذي يطمع فيه الطامعون. ومن هذا نعلم أن الله لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ما داموا مستمسكين بها. يرشد إلى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال بل أنتم يؤمئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفنّ فى قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» رواه أبو داود والبيهقي. ثم طلب منه النظر فيما لديه من الحجج والبينات فقال: (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي تأمل بعين بصيرتك أيها الرسول كيف نصرف الآيات والدلائل ونتابعها على أنحاء شتى: منها ما طريقه الحس، ومنها ما طريقه العقل، ومنها ما سبيله علم الغيب، لعلهم يفقهون الحق ويدركون الحقائق بأسبابها وعللها التي تفضى إلى الاعتبار والعمل بها. وأقرب الوسائل إلى تحصيل ذلك تصريف الآيات واختلاف الحجج والبينات، وبذا يتذكرون ويزدجرون عما هم عليه مقيمون من التكذيب بكتابنا ورسولنا، وانكبابهم على عبادة الأوثان والأصنام. ثم ذكر أن قومه قد كذبوا به على وضوح حجته فقال. (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) أي وكذب قومك بالقرآن على ما صرّفنا فيه

[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 إلى 70]

من الآيات الجاذبة إلى فقه الإيمان، إذ يثبتها الحس والعقل والوجدان، والحال أنه حق ثابت لا شك فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم أمر رسوله بأن يبلغهم بأن لا سبيل له فى جبرهم على الإيمان به فقال: (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي قل لهم أيها الرسول إننى لست عليكم بحفيظ ولا رقيب، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، أبشركم وأنذركم ولم أعط القدرة على التصرف فى عباده حتى أجبركم على الإيمان جبرا وأكرهكم عليه إكراها «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» . ثم هددهم وتوعدهم على التكذيب به فقال: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي لكل شىء ينبأ عنه ويخبر، مستقر تظهر فيه حقيقته ويتميز حقه من باطله، فلا يبقي مجال للاختلاف فيه، وسوف تعلمون مستقر ما أنبأكم به كتابى من وعد ووعيد، ومن ذلك ما وعد به الرسول من نصره عليهم، وما أوعد به أعداءه من الخزي والعذاب فى الدنيا والآخرة «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أصل الخوض: الدخول فى الماء والمرور فيه سيرا أو سباحة، ثم استعمل فى الاندفاع فى الحديث والاسترسال فيه، والدخول فى الباطل مع أهله، وقد استعمله القرآن بهذين المعنيين، وأعرض عنهم. انصرف عنهم بدلا من القعود معهم والإقبال عليهم بوجهك، والذكرى الأولى بمعنى التذكر، والثانية بمعنى التذكير، والبسل: حبس الشيء ومنعه بالقهر، ومنه شجاع باسل، أي مانع لما يريد حفظه أن ينال وفسر هنا بالحبس فى النار، وبالحرمان من الثواب وبالفضيحة، وتعدل: تفد والعدل: الفداء، والحميم: الشديد الحرارة وأليم: شديد الألم. المعنى الجملي بعد أن ذكر فى الآيات السابقة تكذيب قريش بالقرآن، وكون الرسول مبلّغا لا خالقا للإيمان، وأحالهم فى ظهور صدق أنبائه وأخباره على الزمان. بين فى هذه الآيات السبيل فى معاملة من يخوض فى آيات الله بالباطل، ومن يتخذ دين الله هزوا ولعبا من الكفار الذين لم يجيبوا الدعوة. روى عن سعيد بن جبير وابن جريج وقتادة ومقاتل والسدى أن هذه الآية نزلت فى المشركين المكذبين الذين كانوا يستهزئون بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم. وروى عن ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن سيرين أنها نزلت فى أهل الأهواء والبدع من المسلمين الذين يؤولون الآيات بالباطل لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء وتفنيد أقوال خصومهم بالجدل والمراء.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه، فإذا سمعوا استهزءوا فنزلت: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية. قال فجعل إذا استهزءوا قام فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم. والمخاطب بالآية الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المؤمنين، ثم المؤمنون فى كل زمان. أي وإذا رأيت أيها المؤمن الذين يخوضون فى آياتنا المنزلة من الكفار المكذبين، أو من أهل الأهواء المفرقين، فصدّ عنهم بوجهك وقم ولا تجلس معهم، حتى يخوضوا فى حديث غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها من جانب الكفار أو تأويلها بالباطل من جانب أهل الأهواء، تأييدا لما استحدثوا من مذاهب وآراء، وتفنيدا لأقوال خصومهم بالشغب والجدل والمراء، وإذا خاضوا فى غير ذلك فلا ضير فى القعود معهم. وسر هذا النهى أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم يغريهم فى التمادي فيما هم فيه، ويدل على الرضا به والمشاركة فيه، والمشاركة فى ذلك كفر ظاهر، لا يرتكبه إلا كافر مجاهر، أو منافق مراء. كما أن فى التأويل لنصر البدع والآراء الفاسدة فتنة فى الدين لا تنقص عن الأولى ضررا، فإن أربابها تغشّهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع، ومن ثم حذّر السلف من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذّروا من مجالة الكفار، إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر مقدار ما يخشى من فتنة المبتدع ومن الناس من يحرفون آيات الله عن مواضعها بهواهم ليكفروا بها مسلما أو يضللوا بها مهتديا، بغيا عليه وحسدا له. (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وإن أنساك

الشيطان النهى مرة، وقعدت معهم وهم على تلك الحال ثم ذكرت ذلك فقم عنهم، ولا تقعد مع القوم الظالمين لأنفسهم بتكذيب آيات ربهم والاستهزاء بها بدلا من الإيمان بها والاهتداء بهديها. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره على حد المثل: إياك أعنى واسمعي يا جاره. وهو كثير فى كلام العرب، أو للرسول صلى الله عليه وسلم بالذات ولغيره بالتبع كما هو الشأن فى أحكام التشريع غير الخاصة به صلى الله عليه وسلم. ووقوع النسيان من الأنبياء بغير وسوسة من الشيطان لا خلاف فى جوازه قال تعالى لخاتم أنبيائه «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» وثبت وقوعه من موسى عليه السلام: «قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» ولكن الله عصمهم من نسيان شىء مما أمرهم بتبليغه أو بإخلال بالدين كإضاعة فريضة أو تحريم حلال أو تحليل حرام. وثبت فى الصحيحين والسنن «أن النبي صلى الله عليه وسلم سها فى الصلاة وقال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّرونى» . وإنساء الشيطان للإنسان بعض الأمور ليس من قبيل التصرف والسلطان حتى يدخل فى مفهوم قوله: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» . ومن هذا تعلم أن نسيان الشيء الحسن الذي يسند إلى الشيطان لكونه ضارا أو مفوّتا لبعض المنافع أو لكونه حصل بوسوسته ولو بشغل القلب ببعض المباحات لا يعد من سلطان الشيطان على الناس واستحواذه عليهم بالإغواء والإضلال الذي نفاه الله عن عباده المخلصين. ثم أبان أنهم إذا فعلوا ذلك فلن يشاركوهم فى الإثم فقال: (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما على الذين يتقون من حساب الخائضين فى آياته شىء فلا يحاسبون على خوضهم فيها ولا على غيره من أعمالهم التي يحاسبهم الله تعالى عليها إذا هم تجنبوهم وأعرضوا عنهم كما أمروا.

(وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى لأمر الله، لعلهم يتقون فيتجنبوا الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. وبعد أن أمر رسوله بالإعراض عمن اتخذ آيات الله هزوا- أمره بترك المستهزئين بدينهم الذين غرتهم الحياة الدنيا فقال: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي ودع أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين هؤلاء المشركين الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا الفاتنة فآثروها على الحياة الباقية، واشتغلوا بلذاتها الحقيرة الفانية المشوبة بالمنغصات، عما جاءهم من الحق مؤيدا بالحجج والآيات، فاستبدلوا الخوض فيها بما كان يجب من فقهها وتدبرها. ونحو الآية قوله تعالى «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» واتخاذهم دينهم هزوا ولعبا، أنهم لما عملوا ما لا يزكّى نفوسهم، ولا يطهّر قلوبهم ولا يهذب أخلاقهم ولا يقع على وجه يرضى الله سبحانه، ولا يعدّ للقائه فى دار الكرامة، أضاعوا الوقت فيما لا يفيد وهذا هو اللعب، أو شغلوا عن شئونهم وهمومهم الأخرى وهذا هو اللهو. وخلاصة المعنى- أعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، ولا تقم لعلمهم فى نظرك وزنا. وبعد أن أمره بترك المستهزئين بدينهم أمره بالتذكير القرآن وتبليغ الرسالة فقال: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) الضمير فى قوله «به» يعود إلى القرآن المعلوم بقرينة الحال، لأنه هو الذكر الذي بعث به الرسول المذكر: أي وذكر الناس وعظهم بالقرآن اتقاء أن تبسل كل نفس فى الآخرة بما كسبت أي اتقاء حبسها أو رهنها فى العذاب، وتفاديا من ذلك بما بينه الذكر الحكيم من أسباب النجاة والسعادة فى هذه الدار كما قال: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» . ثم وصف النفس المسلمة وعلل إبسالها فقال: (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) أي والحال أنه ليس لها من غير الله ولىّ

ولا ناصر ينصرها ولا شفيع لها عند الله كما قال «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» وقال: «قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً» وقال: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» . ثم أرشد إلى أنه لا ينفع فى الآخرة إلا صالح العمل لا الشفعاء والوسطاء فقال: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي وإن تفد النفس المبسلة كل نوع من أنواع الفداء لا يؤخذ منها ولا يقبل، والمراد أنه لا يقع الأخذ ولا يحصل. وهذا كقوله فى سورة البقرة «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» . والخلاصة- إن النفس المبسلة تمنع فى ذلك اليوم من أي وسيلة من وسائل النجاة، فلا ولىّ ولا حميم، ولا شفيع، ولا فداء، إلى نحو أولئك مما ربما نفع فى مقاصد الدنيا وأنجز بعض المنافع. وفى هذا إبطال لأصل من أصول الوثنية وهو رجاء النجاة فى الآخرة كما هو الحال فى الدنيا بتقديم الفدية لله تعالى أو بشفاعة الشافعين ووساطة الوسطاء عنده تعالى، وتقرير لأصل دينى وهو أن لا نجاة فى الآخرة ولا رضوان من الله ولا قرب منه إلا بالعمل بما شرعه على ألسنة رسله من إيمان به وعمل صالح يزكى النفس ويطهرها، أما من دسّى نفسه وأبسله كسبه للسيئات والخطايا واتخذ دين الله هزوا ولعبا وغرته الحياة الدنيا فلا تنفعه شفاعة ولا تقبل منه فدية. ثم بين أن هذا الإبسال كان بسوء صنيعهم فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي أولئك المتخذون دينهم هزوا ولعبا المغترون بالحياة الدنيا، هم الذين حرموا الثواب، وأسلموا للعذاب، وحبسوا عن دار السعادة، بسبب ما كسبوا من الأوزار والآثام حتى أحاطت بهم خطاياهم، ولم يكن لهم من دينهم الذي اتخذوه زاجر ولا مانع يرشدهم إلى التحول عن تلك الأعمال القبيحة، ويصدّهم عن العقائد الزائفة.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 إلى 73]

ثم بين سبحانه ما يكون من الجزاء حين أبسلوا فقال: (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي لهم شراب من ماء حميم: أي بالغ الغاية فى الشدة يتردد فى بطونهم وتنقطع به أمعاؤهم، وعذاب شديد الألم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم الذي ظلوا عليه طول حياتهم حتى صرفوا عما جعل وسيلة للنجاة لو اتبعوه. والخلاصة- إن رسوخهم فى الكفر أفسد فطرتهم حتى لم يبق فيهم استعداد للحق والخير. وفى ذلك عبرة لمن يفقه القرآن ولا يغتر بلقب الإسلام، ويعلم أن المسلم من اتخذ القرآن إمامه وسنة الرسول طريقه، لا من اغتر بالأمانى والأوهام، ولا من ركن إلى شفاعة الشافعين، والأولياء والناصرين. [سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) تفسير المفردات الأعقاب: واحدها عقب: وهو مؤخر الرجل، وتقول العرب فيمن عجز بعد قدرة أو سفل بعد رفعة أو أحجم بعد إقدام على محمدة: نكص على عقبيه وارتد على عقبيه

الإيضاح

ورجع القهقرى، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم، واستهوته الشياطين. ذهبت بعقله وهواه، وكانت العرب فى الجاهلية تزعم أن الجنون كله من تأثير الجن، ومنه قولهم: جن فلان، أي مسته الجن فذهبت بعقله، وكانوا يقولون إن الجن تظهر لهم فى المهامة وتتلوّن لهم بألوان مختلفة، فتذهب بلبّ من يراها فيهيم على وجهه لا يدرى أين يذهب حتى يهلك، وهذه الشياطين التي تتلون هى التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالى، وقوله حيران: أي تائها ضالا عن الجادة لا يدرى ما يصنع، والصور فى اللغة: القرن وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها فجعلوا منها أبواقا ينفخون فيها لها صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع ويعزفون بها كغيرها من آلات الطرب، وقد جاء فى سفر الأيام الأول من كتب العهد العتيق: فكان جميع بنى إسرائيل يصعدون تابوت عهد الرب بهتاف وبصوت الأصوات والأبواق والصنوج ويصوّتون بالرّباب والعيدان. الإيضاح (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ؟) أي قل أيها الرسول للآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم، أندعو من دون الله حجرا أو شجرا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا؟ فنخصّه بالعبادة دون الله وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر ولا شك أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضرّه أحق وأولى من خدمة من لا يرجى منه شىء منهما، ونرد على أعقابنا بالعودة إلى الضلال والشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام. والخلاصة- إن ذلك لا ينبغى ولا يكون للأسباب الآتية: (1) إن هذا تحوّل وارتداد عن دعاء القادر الذي يكشف الضر إن شاء ويمنح الخير إن شاء- إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر. (2) إنه نكوص على الأعقاب وتقهقر إلى الوراء. (3) إن من أنقذه الله القدير الرحيم من الضلالة بما أراه من آياته فى الأنفس والآفاق لا يقدر أحد أن يضله «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟» .

ثم ضرب مثلا يصور المرتد فى أقبح حالة كانت تتخيلها العرب فقال: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ، لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) أي أنرد على أعقابنا فيكون مثلنا فى ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان يهوى فى الأرض حيران تائها؟ له أصحاب على المحجة واستقامة السبيل يدعونه إلى طريق الهدى الذي هم عليه ويقولون له ائتنا. وخلاصة المثل- إن من يرتد مشركا بعد الإيمان كمن جعله العشق أو الجنون هائما على وجهه، ضالا فى الفلوات حيران لا يهتدى، تاركا رفاقه على الطريق المستقيم ينادونه: عد إلينا فلا يستجيب لهم لا نجذابه وراء ما تراءى له بغير عقل ولا بصيرة، قال صاحب الكشاف: وهذا مبنى على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوى الإنسان والغيلان تستولى عليه كقوله: «كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» . ثم أمره أن يرغب المشركين فيما يدعو إليه لا فيما يدعونه إليه فقال: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى) أي قل إن هدى الله الذي أنزل به آياته، وأقام عليه حججه وبيناته، هو الهدى الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا ما تدعون إليه من أهوائكم اتباعا لما ألفيتم عليه آباءكم. (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين فأسلمنا. (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أي وأمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة والتقوى وإقامة الصلاة: الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله وهى أن تزكى النفس بمناجاة الله وذكره وتنهى عن الفحشاء والمنكر، والتقوى: اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه وتنكبّ سننه فى خلقه من ضرر وفساد. (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وهو الذي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره، فيحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم عليها، فليس من العقل. لا من الحكمة أن يعبد غيره أو يخاف ويرجى.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي وهو الذي خلقهما خلقا متلبسا بالحق، وهو أنه وفق سننه المطردة المشتملة على الحكم البالغة الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته البالغة، ولم يخلقهما باطلا ولا عبثا فهو لا يترك الناس سدى، بل يجزى كل نفس بما كسبت. ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران: «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» وقوله: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» . (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. قَوْلُهُ الْحَقُّ) أي وقوله هو الحق الذي لا شك فيه يوم يقول للشىء كن فيكون وهو وقت إيجاد العالم وتكوينه، فلا مردّ لأمره ولا تخلف لقضائه وحكمه، ومن كان أمره التكويني مطاعا يكن أمره التكليفي كذلك واجب الطاعة بلا حرج فى النفس ولا ضيق منه، فالخلق حق والأمر حق «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي وله الملك يوم الحشر يوم يبعث من فى القبور وينفخ فى الصور، والأمر حينئذ له وحده، ولا تملك نفس لنفس شيئا من خير أو شر، أو نفع أو ضر، فكيف يرضى لنفسه من يعرف هذه الحقائق- أن يدعو سواه، ويتخذ له إلها غير الله، ويرد على عقبيه، ويرجع إلى أسوإ حاليه. روى عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال: «هو قرن ينفخ فيه» وروى عن ابن مسعود أنه قال: «الصور كهيئة القرن ينفخ فيه» (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) قال الحسن: الشهادة ما قد رأيتم خلقه، والغيب ما غاب عنكم مما لم تروه، وقال ابن عباس: الغيب والشهادة السر والعلانية. والمعنى- إن الذي خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، والذي قوله الحق تكوينا وتكليفا، والذي له الملك وحده يوم يحشر الخلائق- هو عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، وهو الخبير بدقائقها وخفاياها، ولا يشذ عن علمه شىء منها، فلا ينبغى لعاقل أن يدعو غيره معه كما قال: «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» وقال «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 إلى 79]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) تفسير المفردات إبراهيم اسم خليل الرحمن أبي الأنبياء الأكبر من بعد نوح، وهو العاشر من أولاد سام كما فى سفر التكوين، ولد فى بلدة (أور) أي النور من بلاد الكلدان، وهى المعروفة الآن باسم (أورفا) فى ولاية حلب كما يرجح ذلك بعض المؤرخين. وفى سفر التكوين- إن الله تعالى ظهر له فى سن التاسعة والتسعين من عمره وكلمه وجدد عهده له بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان (فلسطين) ملكا له وسماه لذريته اهـ. ومعنى إبراهيم أبو الجمهور العظيم: أي أبو الأمة وهو تبشير من الله له بتكثير نسله من ولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام. وقد أثبت علماء الآثار أن عرب الجزيرة استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان ومصر وغلبت لغتهم فيهما. ونقل بعض المؤرخين أن الملك حمورابى الذي كان معاصر الإبراهيم عليه السلام عربى. وقد أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل مع أمه هاجر المصرية فى الوادي الذي بنيت فيه

الإيضاح

مكة وأن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هناك. وأبو إبراهيم سماه الله آزر، وفى سفر التكوين اسمه تارح، ومعناه متكاسل، وقال البخاري فى تاريخه إبراهيم بن آزر وهو فى التوراة تارح والله سماه آزر اهـ. وجزم الضحاك وابن جرير أن اسمه آزر، والضلال: العدول عن الطريق الموصل إلى الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسى والمعنوي، وملك الله وملكوته: سلطانه وعظمته، وجنه الليل وأجنه ستره، والكوكب والكوكبة: واحد الكواكب، وهى النجوم، ربى أي مولاى ومدبر أمرى، الأفول: غيبوبة الشيء بعد ظهوره، وبزوغ القمر ابتداء طلوعه، وتوجيه الوجه لله تعالى تركه يتوجه إليه وحده فى طلب حاجته وإخلاص عبوديته، وفطر السموات والأرض: أخرجهما إلى الوجود لا على مثال سابق، والحنيف: المائل عن الضلال. الإيضاح (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟) أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين لقناك فيما سبق الحجج على بطلان شركهم وضلالهم إذ عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم- قصص جدهم إبراهيم الذي يبجلونه ويدّعون اتباع ملته حين جادل قومه وراجعهم فى باطل ما كانوا يعملون، إذ قال لأبيه آزر منكرا عليه وعلى قومه شركهم وعائبا عليه عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه، يا آزر أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك وخلقها؟ فهو المستحق للعبادة دونها. (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنى أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك، فى ضلال عن الصراط المستقيم، مبين لا شبهة فيه للهدى، فإن هذه الأصنام تماثيل تنحتونها من الحجارة أو تقطعونها من الخشب، أو تصنعونها من المعادن، فأنتم أرفع منها قدرا وأعز جانبا، ولم تكن آلهة بذاتها بل باتخاذكم إياها ولا يليق

بالعاقل أن يعبد ما هو مساو له فى الخلق، ولا ما هو مقهور بتصرف الخالق فيه، ومحتاج إلى الغنى القادر، ولا يقدر على نفع ولا ضر، ولا إعطاء ولا منع. والتعبير بالضلال البين بيان لما حدث منهم بما تدل عليه اللغة كقوله تعالى لخاتم أنبيائه: «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» وقولك لمن تراه منحرفا عن الطريق الذي يسلكه: إن الطريق من هنا فأنت حائد أو ضالّ عنه. وقد دلت آثار الكشف الحديث فى العراق على صدق ما عرف فى التاريخ من عبادة أولئك القوم للأصنام الكثيرة حتى كان لكل منهم صم للعبادة خاص به، سواء فى ذلك الملوك والسّوقة، وكانوا يعبدون الفلك والنّيّرات من الكواكب عامة والدراري السبع خاصة. (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وكما أرينا إبراهيم الحق فى أمر أبيه وقومه، وهو أنهم كانوا فى ضلال مبين فى عبادتهم للأصنام والأوثان. كذلك أريناه مرة بعد مرة ملكوت السموات والأرض. أي خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الصنع، فأريناه تلك الكواكب التي تدور فى أفلاكها على وضع لا تعدوه، وأريناه الأرض وما فى طبقاتها المختلفة من أصناف المعادن النافعة للإنسان فى معاشه إذا هو استخدمها على الوجه الصحيح الذي أرشدناه إليه، وجلّينا له بواطن أمورها وظواهرها، وهذه إلى وجوه الحجة فيها مما يدل على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا بكل شىء (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي نريه ذلك ليعرف سنننا فى خلقنا، وحكمنا فى تدبير ملكنا، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين، وليكون فى خاصة نفسه من زمرة الراسخين فى الإيقان البالغين عين اليقين. ثم فصل سبحانه ما أجمله من رؤية ملكوت السموات والأرض فقال: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) أي إنه تعالى لما بدأ يريه ملكوت السموات والأرض، كان من أول أمره فى ذلك أنه لما أظلم عليه الليل وستر عنه ما حوله من

عالم الأرض نظر فى ملكوت السموات فرأى كوكبا عظيما ممتازا عن سائر الكواكب بإشراقه وبريقه ولمعانه، وهو: (كوكب المشترى) الذي هو أعظم آلهة بعض عبّاد الكواكب من قدماء اليونان والرومان، وكان قوم إبراهيم أئمتهم فى هذه العبادة وهم لهم مقتدون- فلما رآه. (قالَ هذا رَبِّي) أي قال هذا فى مقام المناظرة والحجاج لقومه تمهيدا للإنكار عليهم فحكى مقالتهم أوّلا ليستدرجهم إلى سماع حجته على بطلانها، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم، ثم كرّ عليه بالنقض بانيا دليله على الحس والعقل. (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب قال لا أحب ما يغيب ويحتجب، إذ من كان سليم الفطرة لا يختار لنفسه حب شىء يغيب عنه ويوحشه فقده فما بالك بحب العبادة الذي هو أعلى أنواع الحب وأكمله، لأنه قد هدت إليه الفطرة وأرشد إليه العقل السليم، فلا ينبغى أن يكون إلا للرب الحاضر القريب، السميع البصير الرقيب، الذي لا يغيب ولا يغفل، ولا ينسى ولا يذهل، الظاهر فى كل شىء بآياته: وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد والباطن فى كل شىء بحكمته ولطفه الخفي: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» وقد جاء فى الحديث فى وصف الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . والخلاصة- إن فى هذا تعريضا بجهل قومه فى عبادة الكواكب، إذ يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدرى شيئا من أمر عبادتهم وهذا قريب من قوله لأبيه: «لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً» . وقد احتج إبراهيم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال، لأن الأفول انتقال مع خفاء واحتجاب وهو مما ينافى الربوبية.

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) أي فلما رأى القمر طالعا من وراء الأفق أول طلوعه قال هذا ربى على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما علمت فيما سلف. والمتبادر من سياق الكلام أن إبراهيم رأى الكوكب فى ليلة ورأى القمر فى الليلة التالية. (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أي فلما أفل القمر كما أفل الكوكب وهو أكبر منه منظرا وأسطع نورا وأقوى منه ضياء قال مسمعا من حوله من قومه: لئن لم يهدنى ربي ويوفقنى لإصابة الحق فى توحيده لأكوننّ من القوم الضالين الذين أخطئوا الحق فى ذلك فلم يصيبوا الهدى وعبدوا غير الله واتبعوا أهواءهم ولم يعملوا بما يرضيه سبحانه. وفى هذا تعريض يقرب من التصريح بضلال قومه، وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحى الإلهى، وقد ترقى فى هذا التعريض، لأن الخصوم قامت عليهم الحجة بالاستدلال الأول فأنسوا بالقدح فى معتقدهم، فما عرّض صلوات الله عليه بضلالهم إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى آخره، وقد انتقل فى المرة الثالثة من التعريض إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك بيّن بعد أن تبلّج الحق وظهر غاية الظهور، وذلك قوله: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) أي قال مشيرا إليها: هذا الذي أرى الآن هو ربى (هذا أَكْبَرُ) أي من الكواكب والقمر، وفى هذا مبالغة فى المجاراة لهم وتمهيد لإقامة الحجة عليهم واستدراج لهم إلى التمادي فى الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدّهم عنه. والخلاصة- أن هذا الطالع أكبر من الكواكب والقمر قدرا وأعظم ضياء ونورا فهو أجدر منهما بالربوبية.

(فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي فلما أفلت كما أفل غيرها واحتجب ضوء المشرق وكانت الوحشة بذلك أشد من الوحشة باحتجاب الكوكب والقمر صرّح بما أراد بعد ذلك التعريض الذي تقدم متبرئا من شرك قومه وتنحّى عنه لقبحه بعد أن جاراهم عليه أولا استمالة لهم وإصغاء إلى ما يقول. والخلاصة- إنه حاور وداور، وتلطف فى القول، وأرخى لخصمه العنان، حتى وصل إلى ما أراد بألطف وجه وأحسن طريق، متبرئا من تلك المعبودات التي جعلوها أربابا وآلهة مع الله. وبعد أن تبرّأ من شركهم قفّى تلك البراءة ببيان عقيدته عقيدة التوحيد الخالص فقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي إنى جعلت توجهى فى عبادتى لمن خلق السموات والأرض وأكمل خلقهن أطوارا فى ستة أيام، فهو خالق هذه الكواكب النيرات وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات. وفى معنى الآية قوله: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وقوله «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» . وإسلام الوجه له تعالى توجّه القلب إليه وعبر عنه به لأن الوجه أعظم مظهر لما فى النفس من الإقبال أو الإعراض، والسرور أو الكآبة، إلى نحو أولئك. وتوجيهه له جعله يتوجه إليه وحده، فى طلب حاجته وإخلاص عبوديته، إذ هو المستحق للعبادة، القادر على الأجر والثواب. والخلاصة- إن إبراهيم تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ثم تبرأ منهم أنفسهم. ونحو الآية قوله تعالى: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ» .

روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض: ما جئت بشىء ونحن نعبده ونتوجه إليه، فرد عليهم بأنه حنيف أي مخلص له لا يشرك به كما يشركون اهـ. يريد أنه مائل عن معبوداتهم الباطلة وعن غيرها، فتوجهه وإسلامه خالص، لا يشوبه شرك ولا رياء، وما هو من المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات كالكواكب أو الملائكة أو الملوك أو الصالحين أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل. وظاهر ما حكاه الله عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أربابا آلهة، والإله هو المعبود وكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها، والرب: هو السيد المالك المربّى المدبر المتصرف، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم، فهو المالك لكل شىء وفى كل زمن وعلى كل حال، وملك غيره ناقص موقوت فهو المعبود بحق، والعبادة: هى التوجه بالدعاء والتعظيم القولى أو العملي إلى ذى السلطان الأعلى خالق الخلق والموجد له والمتصرف فيه. والأصل فى اختراع عبادة غير الله من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أمران: (1) إن بعض ضعاف الأحلام رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى فى بعض خلقه، فتوهموا أن ذلك ذاتى لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله فى الأسباب والمسببات. (2) اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية فى مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الإله الحق تشفع عنده وتقرب إليه كل من توجه إليها، فيتوسل ذو الحاجة إليها بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لحمله تعالى بتأثيرها على قبوله وإعطائه سؤله. وقد أقاموا مقام هذه المخلوقات: التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يذكّر بها، وهذه هى الوثنية الراقية التي كانت عليها العرب زمن البعثة، ومن ثم كانوا يقولون فى طوافهم بالبيت الحرام: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكان قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد ارتقوا فى وثنيتهم إلى هذه المرتبة، إذ أنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم ولا تقدر على نفعهم

[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 إلى 83]

وضرهم، وإنما قلدوا فيها آباءهم كما سيأتى فى حججهم فى سورة الشعراء، ومن ثم اتخذوا الأصنام آلهة معبودين لا أربابا مدبرين، لكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببى فى الأرض، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب الناس، والقمر يدبّر الملوك ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام وينصر جندهم ويخذل عدوهم، ويعتقدون أن (مرداخ) وهو المشترى شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام وحافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات، وأن (رنكال) وهو المريخ رب الصيد وسلطان الحرب، وأن (عشتار) وهى الزّهرة ربة الغبطة والسرور والسعادة وتمثل بصورة امرأة عارية، وأن (نيو) وهو عطارد رب العلم والحكمة. وجاء إبراهيم بحجته البالغة، فحصر العبادة فى فاطر السموات والأرض وحده دون غيره من الوسائل فقال فى تماثيلهم: «بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 83] وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المحاجة: المجادلة والمغالبة فى إقامة الحجة، والحجة تطلق تارة على الدلالة المبينة للمقصد، وتارة على ما يدلى به أحد الخصمين فى إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه، وهى بهذا الاعتبار تنقسم إلى حجة دامغة يثبت بها الحق، وإلى حجة داحضة يموّه بها الباطل، وقد اصطلحوا على تسمية مثل هذه شبهة، والسلطان: الحجة والبرهان، لم يلبسوا: لم يخلطوا، والظلم هنا هو الشرك فى العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولى من دون الله يدعى معه أو من دونه. الإيضاح (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي وجادله قومه فى أمر التوحيد، فهو حين أبان لهم بطلان عبادة الأصنام وربوبية الكواكب، وأثبت لهم وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته وحده، حاجوه ببيان أوهامهم فى شركهم، إذ قالوا إن اتخاذ الآلهة لا ينافى الإيمان بالله الفاطر للسموات والأرض، لأنهم شفعاء عنده، ولما لم يجد ذلك معه خوّفوه أن تمسه آلهتهم بسوء، وانتهت بهم خاتمة المطاف أن قالوا: إنهم ساروا على ما وجدوا عليه آباءهم، وليس للمقلد أن يحتج ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه، وكثيرا ما يضطرب المقلد لسماع الحجة، إذ يومض فى قلبه نورها ثم يعود إلى سابق وهمه خائفا مما لا يخيف، راجيا ما لا يرجى، كما يشاهد لدى زائرى قبور الصالحين والأولياء الذين يتوهمون أن هذه القبور تدفع عن زائرها الضر وتكشف عنه السوء وتدرّ عليه الرزق وتكبت العدو، إما بتصرفهم فى الخلق وإما لأنهم قربان عند الرب ولا يرون شيئا من هذا ناقضا للإيمان الصحيح، وفى مثلهم يقول الله عز اسمه «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» . (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟) أي أتجادلونني فى شأن الله وما يجب فى الإيمان

به، قد فضلنى عليكم بما هدانى إلى التوحيد الخالص وبما بصّرنى به من الحجة التي أقمتها عليكم، وأنتم الضالون بإصراركم على شرككم وتقليدكم فيه من قبلكم؟. (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دون الله سوءا ينالنى فى نفسى، ذلك أنى أعتقد أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرّب ولا تشفع. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي لا أخاف ما تشركون به فى وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته تعالى إصابة مكروه لى من جهتها، فإنه يقع لا محالة كما شاء ربى، فإن شاء أن يسقط علىّ صنم يشجّنى، أو كسف من شهب الكواكب يقتلنى، فإن ذلك يقع بقدرة ربى ومشيئته لا بمشيئة الصنم أو الكواكب ولا بقدرته ولا بتأثيره فى قدرته تعالى وإرادته ولا بجاهه عنده وشفاعته، إذ لا تأثير لشىء من المخلوقات فى مشيئة الله الجارية إلا بما يثبت فى علمه الأزلى. ثم أتى بما هو كالعلة لما قبله فقال: (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط بكل شىء علما، فلا يبعد أن يكون فى علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟) أي أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل فى أن آلهتكم ليس بيدها نفع ولا ضر، فلا تتذكرون أيها الغافلون أنها غير قادرة على ضرّى ولا على إيصال النفع إليكم، فالسلطة العليا له وحده ليس لغيره تأثير فيها ولا تدبير، فإذا أعطى بعض المخلوقات شيئا من النفع أو الضر فلا يكون ذلك داعيا لرفعها عن رتبة المخلوقات، وجعلها أربابا ومعبودات. وكان يجب أن يفطن لذلك العقلاء ويتذكروه، لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان، ويهدى إليه الوجدان. ومما يجب أن يتنبه له كثير من الذين ينتمون إلى ملة التوحيد أن هذا الضرب من الشرك الذي نعاه إبراهيم على قومه- لا يزال فاشيا بينهم فهم يعتقدون فى بعض المخلوقات

من أحياء وأموات أن لهم تصرفا غيبيا، فما يقع عقب زيارتهم لهم من زوال مكروه أو نفع يصل إلى محبوب إنما كان بدعائهم، والواقع أن ذلك بتقدير السميع العليم، وليس لغيره فى ذلك تأثير لا جلىّ ولا خفىّ. وبعد أن أبان لهم أنه لا يخاف شركاءهم بل يخاف الله وحده، تعجب من تخويفهم إياه ما لا يخيف، وعدم خوفهم مما يجب أن يخاف منه قال: (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه ندّا له ينفع ويضر- ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم ما لم ينزل به حجة بيّنة بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا فى الخلق والتدبير أو فى الوساطة والشفاعة، فافتياتكم على خالقكم بهذه الدعوى هو الذي يجب أن يخاف ويتقى. والخلاصة- إن ما يدّعى لصحة هذا الخوف باطل، وأنه عليه السلام لم يجد هذا الخوف وجها، فلا يخاف الشركاء لذواتهم، ولا لما يزعمون من وساطتهم عند الله وشفاعتهم، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدّعى لهم. وقوله ما لم ينزل به عليكم سلطانا- مذكور على طريق التهكم، مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة والبرهان، والتقليد ليس بعذر ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ولا بصيرة والله لم ينزل بما ادعيتموه سلطانا لأنه باطل فلا سلطان عليه ولا دليل. (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) الفريقان: فريق الموحدين الذين يعبدون الله وحده ويخافونه ويرجونه دون غيره، وفريق المشركين الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب فاتخذوا ما اتخذوا من الآلهة والأرباب، ونسبوا إلى بعضها النفع والضر كالشمس والقمر والملائكة- أي فأى هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته. ونكتة التعبير (بأى الفريقين) دون أن يقول فأينا أحق بالأمن- الإشارة

إلى أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك لا خاصة به وبهم، والبعد عن التصريح بخطئهم الذي ربما يدعو إلى اللجاج والعناد، والاحتراس من تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم من أهل العلم والبصيرة فى هذا الأمر فأخبرونى بذاك وبينوه بالأدلة- وفى هذا إلجاء لهم إلى الاعتراف بالحق أو السكوت على الحمق والجهل. ثم بين سبحانه الحقيق بالأمن على سبيل التفصيل فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) المراد بالظلم الذي يلبس به المرء إيمانه بالله ويخلطه به فينقص منه أو ينقصه هو الشرك فى العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولى من دون الله يدعى معه أو من دونه، فيعظّم كتعظيمه ويحبّ كحبه، للاعتقاد أن له نفعا أو ضرا بذاته أو بتأثيره فى مشيئة الله وقدرته، لا ظلم الإنسان نفسه بفعل بعض المضارّ أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال، ولا ظلمه لغيره ببعض التصرفات والأحكام، يدل على هذا التفسير ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الناس وقالوا يا رسول الله وأيّنا لا يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» إنما هو الشرك. والمراد بالأمن الأمن من عذاب الله الذي يحل بمن لا يرضى إيمانه ولا عبادته. أي إن الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك به سبحانه وتعالى، أولئك لهم الأمن دون غيرهم من الخلود فى دار العذاب، وهم فيما وراء ذلك بين الخوف والرجاء. وهذا جواب من الله به فصل القضاء بين إبراهيم ومن حاجّه من قومه كما اختاره بن جرير ونقله عن ابن إسحاق وابن زيد من المفسرين.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 إلى 90]

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) أي وتلك الحجة الدامغة التي تضمنها البيان السالف، المثبتة للحق، المزيّفة للباطل، هى الحجة التي أرشدنا إليها إبراهيم وأعطيناها إياه ليلزم قومه ويقنعهم بها. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات بعد أن لم يكونوا على درجة منها، فالعلم درجة كمال، والحكمة درجة كمال، وقوة العارضة فى الحجاج درجة كمال، والسيادة والحكم بالحق كذلك، والنبوة والرسالة أعلى كل هذه الدرجات، لأنها تشتمل عليها وتزيد. والله يرفع درجات من يؤتيهم ذلك بتوفيق صاحب الدرجة الكسبية إلى ما به ترتقى درجته، ويصرف موانع هذا الارتقاء عنه، ويؤتى ذا الدرجة الوهبية (النبوة) ما لم يؤت غيره من أهل المناقب والآيات «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» . (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي إن ربك الذي رباك وعلمك وهداك وجعلك خاتم رسله لجميع خلقه، حكيم فى قوله، عليم بشئونهم، وسيريك ذلك عيانا فى سيرتك مع قومك كما أراكه بيانا فيما حدّث عن إبراهيم مع قومه وتأسّ فى نفسك وقومك المكذبين بأبيك واصبر على ما ينوبك منهم كما صبر. واعلم أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الصحيح إلا بتعميم الوحى، وعلم الأنبياء به ضرورى لا نظرى فقد علّمهم به ما لم يكونوا يعلمون من الحجج العقلية والدلائل النقلية إلى نحو ذلك مما هداهم إليه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)

المعنى الجملي

المعنى الجملي اعلم أنه سبحانه بعد أن حكى عن إبراهيم صلوات الله عليه أنه أظهر حجة الله فى التوحيد، وعدد وجوه نعمه وإحسانه إليه، ذكر هنا أنه جعله عزيزا فى الدنيا، إذ جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من ذريته وأبقى هذه الكرامة له إلى يوم القيامة، الإيضاح (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) أي ووهبنا لإبراهيم إسحاق نبيا من الصالحين، وجعلنا من ذريته يعقوب نبيا منجيا للأنبياء والمرسلين، وهدينا كلا منهما كما هدينا إبراهيم بما آتيناه من النبوة والحكمة وقوة العارضة والحجة. وإنما ذكر إسحق دون إسماعيل لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته سارّة، جزاء إيمانه وإحسانه وكمال إسلامه وإخلاصه بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل ولم يكن له ولد سواه على كبر سنه، ويقول المؤرخون إن معنى

(إِسْحاقَ) الضحاك، وأنه ولد وكانت سن أبيه مائة واثنتي عشرة سنة، وسن أمه تسعا وتسعين سنة، وأنه عاش ثمانين ومائة سنة. (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي وهدينا جده نوحا إلى مثل ما هدينا له إبراهيم وذريته، فآتيناه النبوة والحكمة وهداية الخلق إلى طريق الرشاد. والمراد بذلك أن نسب إبراهيم من أشرف الأنساب، إذ قد رزقه الله أولادا مثل إسحاق ويعقوب وجعل أنبياء بنى إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين كنوح وإدريس وشيث، فهو كريم الآباء شريف الأبناء. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) . الضمير فى ذريته يعود إلى إبراهيم، لأن الكلام فى شأنه بذكر ما أنعم الله عليه من فضل، وإنما ذكر نوحا لأنه جده فهو كما قدمنا يرشد إلى فضل الله عليه فى أصوله وفروعه، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة فى نسلهما معا كما جاء فى سورة الحديد: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ. وقد ذكر الله فى هذه الآيات أربعة عشر نبيا لم يرتبهم بحسب أزمانهم ولا بحسب فضلهم، لأن الكتاب قد أنزل ذكرى وموعظة للناس لا تاريخا تفصل وقائعه مرتبة بحسب وجودها. وقد التمس بعض العلماء حكمة لهذا الترتيب فقال: إن الله تعالى جعل الأنبياء ثلاثة أقسام يجمع بين كل قسم منها معنى مشترك: (1) داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون، وأولئك قد آتاهم الله الملك والإمارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة، فداود وسليمان كانا ملكين غنيين، وأيوب كان أميرا غنيا محسنا، ويوسف كان وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، ولكن هذين ابتليا بالضراء فصبرا كما ابتليا بالسراء فشكرا، وموسى وهرون كانا حاكمين ولم

يكونا ملكين، وقد ذكرهم القرآن على طريق الترقي فى هدى الدين فأفضلهم موسى وهرون ثم أيوب ويوسف ثم داود وسليمان، وقوله وكذلك نجزى المحسنين أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة وبين هداية الدين وإرشاد الخلق. (2) زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء كانت لهم ميزة الزهد والإعراض عن لذات الدنيا والرغبة عن زينتها وسلطانها، ومن ثم خصهم بوصف الصالحين وإن كان كل نبى صالحا ومحسنا. (3) إسماعيل واليسع ويونس ولوطا، وهؤلاء لم يكن لهم من ملك الدنيا ما كان للقسم الأول، ولا من المبالغة فى الزهد ما كان للقسم الثاني، وقد قفّى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين الذي جعله الله لكل نبى على عالمى زمانه، فمن كان منهم منفردا فى قوم كان أفضلهم على الإطلاق وإن وجد نبيان أو أكثر فى قوم كانوا أفضلهم وربما كانوا متفاضلين فى أنفسهم، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له وموسى أفضل من أخيه هرون الذي كان وزيره، وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى صلوات الله عليهم أجمعين اهـ. (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) أي وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم لا كلهم، إذ أن بعض هؤلاء الأقربين لم يهتد بهدى ابنه أو أبيه أو أخيه، ألا ترى إلى أبى إبراهيم وابن نوح قال تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» . (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقال اجتبى فلان فلانا لنفسه إذا اختاره واصطفاه، واجتباء الله العبد: تخصيصه إياه بفيض إلهى يحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى منه كما يحدث للأنبياء والصديقين والشهداء: أي فضلنا كلا على العالمين واخترناهم وهديناهم إلى الصراط المستقيم. (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي ذلك الهدى الذي هدى به من تقدم ذكرهم من الأنبياء والرسل فوفقوا به لإصابة الدين الحق الذي به رضا ربهم

وشرف الدنيا وكرامة الآخرة- هو هدى الله الخاص وتوفيقه ولطفه الذي يوفق به من يشاء حتى ينيب إلى طاعته، ويخلص العمل له، ويقر بالتوحيد، ويرفض الأوثان والأصنام. والهداية ضربان: ضرب ليس لصاحبه سعى فيه ولا هو مما ينال بالكسب وهو النبوة وهو ما أشير إليه بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» . وضرب آخر ينال بالكسب والاستعداد مع اللطف الإلهى والتوفيق لنيل المراد. ثم ختم سبحانه الآية بنفي الشرك وتقرير التوحيد فقال: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولو أشرك أولئك المهديون بربهم فعبدوا معه غيره لبطل أجر أعمالهم التي يعملونها، إذ توحيد الله تعالى هو المزكّى للأنفس، فضده وهو الشرك منتهى النقص والفساد المدسّى لها والمفسد لفطرتها، فلا يبقى معه فائدة لعمل آخر يترتب عليه نجاتها وفلاحها به. (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) المراد بالكتاب ما ذكر فى القرآن من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود وإنجيل عيسى، والحكم: العلم والفقه فى الدين. وكل نبى آتاه الله العلم الصحيح والفقه فى أمور الدين وشئون الإصلاح وفهم الكتاب الذي تعبده به سواء أنزله عليه أم أنزله على غيره واختصّ بعضهم بإيتائه الحكم صبيا كيحيى وعيسى أي بإعطائه ملكة الحكم الصحيح فى الأمور. وأما الحكم بمعنى القضاء والفصل فى الخصومات فلم يعطه إلا بعض الأنبياء. أي إن أولئك الأنبياء الذين ذكرت أسماؤهم أوتوا الحكم والقضاء بين الناس لفصل الخصومات، وذلك مستلزم للعلم والفقه وتكون هذه العطايا الثلاث مرتبة بحسب درجات الخصوصية، فبعض النبيين أوتى الثلاث كإبراهيم وموسى وعيسى وداود، قال تعالى حكاية عن إبراهيم «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» فهو قد دعا هذا الدعاء وهو رسول عليهم بعد محاجة قومه، وقال حكاية عن موسى: «فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» وقال عز اسمه: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ

فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» وقال فى داود وسليمان معا: «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» . ومنهم من أوتى الحكم والنبوة كالأنبياء الذين كانوا يحكمون بالتوراة، ومنهم من لم يؤت إلا النبوة فقط. والخلاصة- إن كل من أوتى الكتاب أوتى الحكم والنبوة، وكل من أوتى الحكم ممن ذكر كان نبيا، وما كل نبى منهم كان حاكما ولا صاحب كتاب منزل، وهذه هى مراتب الفضل بينهم صلوات الله عليهم. (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أي فإن يكفر هؤلاء المشركون من أهل مكة بالكتاب والحكم والنبوة- فقد وكلنا برعايتها، ووفقنا للإيمان بها وتولى نصر الداعي إليها قوما كراما ليسوا بكافرين بها، فمنهم من آمن بها ومنهم من سيؤمن عند ما يدعى إليها. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس فى قوله: «فإن يكفر بها هؤلاء» يعنى أهل مكة، فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين يعنى أهل المدينة والأنصار اهـ. والذي عليه المعول- أن الموكلين بها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقا، فإن المهاجرين قد كانوا أول من آمن بها وكانوا بعد الهجرة فى المقدمة فى كل عمل وجهاد ولكن الأنصار هم المقصودون بالذات، لأن القوة والمنعة لم تكن إلا بهم، ومن ثم قال: «لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» والأنصار لم يكونوا عند نزول هذه السورة مؤمنين. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الهدى ضد الضلال. ويطلق شرعا على الطريق الموصل إلى الحق وهو الطريق المستقيم الذي نطلبه فى صلاتنا وعلى سلوك ذلك الطريق والاستقامة فى السير عليه. أي إن أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم فى الآيات السالفة، والذين وصفهم الله بإيتائهم الكتاب والحكم والنبوة- هم الذين هداهم الله هداية كاملة،

فبهداهم دون ما يخالفه من أعمال غيرهم، اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك مما بعثت به من تبليغ الدعوة وإقامة الحجة والصبر على التكذيب والجحود وإيذاء أهل العناد ومقلدى الآباء والأجداد وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال، كالصبر والشكر والشجاعة والحلم والزهد والسخاء والحكم بالعدل قال تعالى: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» وقال: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» . والخلاصة- إن الله تعالى أمره بالاقتداء بهم فى الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم- وقد كان مهتديا بهداهم كلهم فكانت مناقبه وفضائله الكسبية أعلى من مناقبهم وفضائلهم، لأنه اقتدى بها كلها فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقا فيهم- إلى ما أوتيه دونهم، ومن ثم شهد له ربه بما لم يشهد به لأحد منهم فقال «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» . وكذلك فضائله الموهوبة هى فيه أظهر وأعظم، فبعثته عامة للناس أسودهم وأحمرهم وبه ختمت النبوة والرسالة، وكمال الأشياء فى خواتيمها صلوات الله عليهم أجمعين. (تنبيه) ذكر بعض العلماء أن الأنبياء المرسلين الذين ذكروا فى القرآن ويجب الإيمان بهم تفصيلا خمسة وعشرون هم الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم فى هذه الآيات، والسبعة الآخرون هم آدم أبو البشر وإدريس ولوط وصالح وشعيب وخاتم الجميع محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام. وليس فى القرآن نص قطعى صريح فى رسالة آدم عليه السلام، بل مفهوم قوله: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ» أن نوحا أول نبى مرسل أوحى الله إليه رسالته وشرعه، وكذلك حديث الشفاعة. عن أنس بن مالك قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك فيقولون لو استشفعنا على ربنا فأراحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شىء فاشفع لنا إلى ربك حتى تريحنا من مكاننا هذا، فيقول لهم آدم لست هناكم- ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحى من ربه عز وجل- ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى الأرض فيأتون نوحا ... » إلخ. والخلاصة- إن الآية تدل على أن أول رسول شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام هو نوح عليه السلام. ويرى بعض العلماء أن آدم كان على هدى من ربه ربّى عليه أولاده وبشرهم بالثواب وأنذرهم بالعقاب، وهذه هداية من جنس هداية الله للنبيين والمرسلين التي بلّغوها أقوامهم، ولا ندرى كيف هدى الله تعالى آدم إليها، فإن طرق الهداية متعددة، وقد تكون هى هداية الفطرة. ونوح ومن بعده أرسلوا إلى من فسدت فطرتهم فأعرضوا عما دعوا إليه، وهذه هى الرسالة الشرعية التي يسمى من جاء بها رسولا دون الأولى. (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي قل أيها الرسول لمن بعثت إليهم: لا أسألكم على هذا القرآن الذي أمرت أن أدعوكم إليه وأذكّركم به أجرا من مال ولا غيره من المنافع، كما أن جميع من قبلى من الرسل لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى، وقد تكرر هذا الأمر له صلى الله عليه وسلم فى سور متعددة كقوله: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» . (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أي ما هو إلا تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لا لكم خاصة، وفى هذا تصريح بعموم بعثته صلوات الله عليه للناس جميعا أسودهم وأحمرهم.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 إلى 92]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) تفسير المفردات قدر الشيء ومقداره: مقياسه الذي يعرف به، ويقال قدره يقدره: إذا قاسه، والقدر والقدرة والمقدار: القوة أيضا، والقدر: الغنى واليسار والشرف، قراطيس: واحدها قرطاس وهو ما يكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرهما، البركة: الزيادة والسعة، ومبارك: بارك الله فيه بما فضل به ما قبله من الكتب فى النظم والمعنى، وأم القرى: مكة، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القري، أو لأنهم يعظمونها كالأم، أو لأن فيها أول بيت وضع للناس. الإيضاح (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي ما عرفوه حق معرفته، فإن منكرى الوحى الذين يكفرون برسل الله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه حق صفته، ولا آمنوا بقدرته على إفاضة ما شاء من علمه بما يصلح به الناس من الهدى والشرائع

على من شاء من البشر بواسطة الملائكة أو بتكليمه إياهم بدون واسطة وهم قد أنكروا الوحى وجهلوا فضل البشر وقالوا ما أنزل الله على أحد منهم شيئا. ومن عرف حكمة الله البالغة، ورحمته الواسعة، وعلمه المحيط بكل شىء، ونظر فى آياته فى الأنفس والآفاق، وعلم أنه أحسن كل شىء خلقه، وخلق الإنسان مستعدا للصعود إلى أعلى عليين، والهبوط إلى أسفل سافلين، وجعل كماله أثرا لعلومه وأعماله الكسبية التي عليها مدار حياته الدنيوية والأخروية- علم أن الإنسان مهما ارتقت معارفه لا يمكن أن يصل إلى الكمال الذي يؤهله لنيل السعادة الأبدية إلا إذا اهتدى بهدى النبيين والمرسلين، فإن إرسالهم وإنزال الوحى عليهم وإرشادهم للناس سبب لكل ارتقاء إنسانى فى حياتيه الجسمانية والروحية فبذلك تذهب الضغائن والأحقاد من القلوب، ويزول الخلاف والشقاء بين الناس، ويعيشون فى وفاق ووئام، علما منهم بأن هناك سلطة عليا ترقب أعمالهم، وتحاسبهم على النقير والقطمير، فى ذلك اليوم العبوس القمطرير، وتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب. ثم لقن الله رسوله الردّ على منكرى الوحى والرسالة من مشركى قريش، إثر بيان كون ذلك من شئونه تعالى ومن مقتضى نظام حياة البشر وقد كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب التوراة المنزلة على موسى فقد أرسلوا إلى المدينة وفدا زعيماه النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط ليسألوا الأحبار عما يعلمون عن محمد وصفته، لأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ما ليس عند غيرهم من علم الأنبياء، فلما أتوا إلى أولئك الأحبار سألوهم عنه فأنكروا معرفته، وبذا يكون الاحتجاج عليهم بإنزال التوراة على موسى احتجاجا ملزما لهم ودافعا لإنكارهم فقال: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) أي قل لقومك الذين لم يقدروا الله حق قدره «إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» و «قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟ - مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ

مُوسى نُوراً» انقشعت به ظلمات الشرك الذي ورثه بنو إسرائيل عن المصريين، وهدى للناس الذين جاء لتبليغ رسالته إليهم فأخرجهم من الضلال إلى نور الحق وصاروا خلقا آخر اعتصم بالحق والعدل- حتى اختلفوا فيه ونسوا حظّا مما ذكّروا به واتبعوا أهواءهم وجعلوه قراطيس يبدونها عند الحاجة، فإذا استفتى الحبر من أحبارهم فى مسألة له هوى فى إظهار حكم الله فيها كتب ذلك الحكم فى قرطاس وأظهره للمستفتى ولخصومه ويخفون كثيرا من أحكام الكتاب وأخباره إذا كان لهم هوى فى إخفائها. وسبب هذا أن الكتاب كان بأيديهم ولم يكن فى أيدى العامة نسخ منه، وهذا الإخفاء لنصوص الوقائع غير ما نسيه متقدمو اليهود من الكتاب بضياعه عند تخريب بيت المقدس وإجلاء اليهود إلى العراق وهو ما أشار إليه تعالى بقوله: «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» وقد أخفى أحبار اليهود حكم الرجم بالمدينة وأخفوا ما هو أعظم من ذلك وهو البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وكتمان صفاته عن العامة وتحريفها إلى معان أخرى للخاصة، فلقّن الله رسوله أن يقرأ هذه الآية على مسمع من اليهود وغيرهم بالخطاب لهم فيقول: (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) . (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) قال مجاهد هذا خطاب للعرب، وفى رواية عنه للمسلمين ومآلهما واحد فإن ما علمه العرب من علوم القرآن وحكمه وهدايته قد أدّوه إلى سائر المسلمين من غيرهم فكانت فائدته عامة لجميع من أظلهم الإسلام بظله. وفى ذلك امتنان منه سبحانه على الرسول وقومه وسائر المسلمين بإتيانهم هذا الكتاب الكريم الذي بسط فيه أصول العقائد مؤيدة بالدلائل، وتمم به مكارم الأخلاق وأمهات الفضائل، وجعل فيه من العبادات ما يزكّى النفوس ويطهرها، ومن المعاملات ما فيه المنافع للأفراد والجماعات، وأوجب فيه المساواة بين الأجناس والديانات، فلا يحابى مسلم لإسلامه، ولا يظلم كافر بكفر. وبعد أن بيّن سبحانه إنكار المنكرين للوحى بعبارة تدل على جهلهم وترشد إلى البرهان لمكذب لدعواهم وشفعه بأمر الرسول أن يسألهم ذلك السؤال الذي أفحمهم وألقمهم

حجرا- لقنه الجواب الذي كان يجب أن يجيبوا به لو أنصفوا وذلك قوله: (قُلِ اللَّهُ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: الله أنزله على موسى، ثم دعهم بعد هذا البيان المؤيد بالحجة والبرهان، فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بآيات الله حال كونهم يلعبون كما يلعب الصبيان. وفى أمر الرسول بالجواب عما سئلوا عنه إيماء إلى أنهم لا ينكرونه، لما فى ذلك من المكابرة وما فى الاعتراف من الخزي إذا هم أقروا بما يجحدون من الحق. وبعد أن ذكر أنه أنزل الكتاب على موسى بين أنه أنزل القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وهذا القرآن كتاب عظيم القدر أنزلناه على خاتم رسلنا كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى، وقد باركنا فيه، فجعلناه كثير الخير، دائم البركة والمنفعة، يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية، مصدقا لما تقدمه من كتب الأنبياء فى الجملة، لا بكل ما يعزى إليها على وجه التفصيل. وقد ذكر فيه بعضها بأسمائها، والصحف مضافة إلى أصحابها، ونعى على بعض أهلها تحريفهم لها ونسيانهم حظا منها. (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي ولتنذر به عذاب الله وبأسه أهل مكة ومن حولهم من بلاد العالم جميعا كما روى عن ابن عباس. وجعلت حولها لأن الناس فى جميع بقاع الأرض القريبة من مكة والبعيدة منها يصلّون وهم متوجهون إلى البيت الحرام فيها. وقد ثبت عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فى آيات كثيرة كقوله تعالى فى هذه السورة: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» أي وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته، وقوله فى سورة الفرقان: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» وقوله فى سورة سبأ: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 93 إلى 94]

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعاد إلى الله فى الآخرة ويصدق بالثواب والعقاب فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك ويقرّبه سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم إذ بلغتهم دعوته، لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية إلى السعادة العظمى فى تلك الدار، وما مثلهم إلا مثل قوم ساروا فى الفيافي والقفار وضلوا الطريق حتى إذا كادوا يهلكون قابلهم الدليل الخرّيت العالم بخفاياها، والخبير بذرعها ومعرفة مسالكها، فأرشدهم إلى ما فيه نجاتهم وخلاصهم من هلاك محقق إذا هم اتبعوا مشورته، وسلكوا سبيله، فقبلوا نصحه وكانوا من الفائزين وأما الذين ينكرون البعث والجزاء فلا حاجة لهم إلى هدايته. وفى هذا تصريح بسبب إعراض الجمهرة من أهل مكة عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم، وتنبيه إلى أنهم لما لم يعتقدوا فى البعث والجزاء امتنعوا عن قبول هذا الدين، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيؤدونها في أوقاتها، ويقيمون أركانها وآدابها، وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات، لأنها عماد الدين، وأسس العبادات والمقوّية للإيمان، وكمال الإذعان، والمحافظة عليها تدعو إلى القيام بسائر العبادات المفروضة، وترك جميع المحرمات، ومحاسبة النفس على لذاتها وشهواتها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الافتراء: اختلاق الكذب، وافتراء الكذب على الله: الاختلاق عليه والحكاية عنه ما لم يقله، أو اتخاذ الأنداد والشركاء، والغمرات: واحدها غمرة، وهى الشدة، واليوم: الزمن المحدود والمراد به هنا يوم القيامة الذي يبعث الله فيه الناس للحساب والجزاء، والهون (بالضم) والهوان الذل، ومنه قوله: «أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» والهون (بِالْفَتْحِ) اللين والرفق، ومنه قوله: «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً» وفرادى: واحدهم فرد، وخولناكم أعطيناكم، والترك وراء الظهر: يراد به عدم الانتفاع بالشيء، والبين الصلة، والمسافة الحسية أو المعنوية الممتدة بين شيئين أو أشياء، ويضاف إلى المثنى كقوله: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» والجمع كقوله: «أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» ولا يضاف إلى المفرد إلا إذا كرر نحو: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» وضل عنكم أي غاب عنكم. المعنى الجملي بعد أن بيّن سبحانه أن القرآن كتاب من عند الله، وردّ على الذين أنكروا إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بشر، بأن مثله مثل التوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى وهو بشر. قفّى على ذلك بوعيد من كذب على الله وادعى النبوة والرسالة، أو ادعى أنه قادر على الإتيان بمثل هذا القرآن، وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم.

الإيضاح

ذلك أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إذا لم يكن له بد من الإيمان بأن القرآن من عند الله، ومن الاهتداء به، فأكمل الناس إيمانا بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعرّض نفسه لمنتهى الظلم الذي يستحق عليه أشد العذاب. الإيضاح (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله كالذين قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء، أو جعل لله شريكا أو ولدا. (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) كمسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة باليمامة، والأسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن، وطليحة الأسدى الذي ادعى النبوة فى بنى أسد، ونحوهم من كل من ادعى ذلك أو يدعيه فى أي زمان كان. (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) أي ومن ادّعى أنه قادر على إنزال مثل ما أنزل الله على رسوله كمن قال من المشركين: «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» فقد أثر عن النضر بن الحارث أنه كان يقول: إن القرآن أساطير الأولين، وإنه شعر لو نشاء لقلنا مثله. ثم ذكر تعالى جدّه وعيده للظالمين لشدة جرمهم وعظيم ذنبهم فقال: (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ثم لكل من سمعه أو قرأه، أي ولو تبصر إذ يكون الظالمون- سواء منهم من ذكروا فى الآية أو غيرهم- فى غمرات الموت وهى سكراته وما يتقدمها من شدائد وآلام تحيط بهم كما تحيط غمرات الماء بالغرقى- لرأيت ما لا سبيل إلى وصفه، ولا قدرة للبيان على تجلّى كنهه وحقيقته. (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لقبض أرواحهم الخبيثة بالعنف والضرب كما قال: «فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» .

ثم حكى سبحانه أمر الملائكة لهم على سبيل التهكم والتوبيخ حين بسط أيديهم لقبض أرواحهم. (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي أخرجوا أنفسكم مما هى فيه إن استطعتم، أو أخرجوها من أبدانكم. قال صاحب الكشاف: هذا تمثيل لفعل الملائكة فى قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ليعنّفه عليه فى المطالبة ولا يمهله ويقول له: أخرج مالى عليك الساعة، ولا أريم- لا أبرح- مكانى حتى أنزعه من أحداقك. ويرى بعضهم أنه لا داعى للعدول عن الحقيقة إلى التمثيل، فربما تمثّل الملائكة للبشر بمثل صورهم، وتخاطبهم بمثل كلامهم، فهى إذا ممكنة على الحقيقة فلا معدل عنها. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي تقول لهم الملائكة وقت الموت: اليوم تلقون عذاب الذل والهوان جزاء ظلمكم لأنفسكم بسبب ما كنتم تقولون مفترين على الله غير الحق كقول بعضهم ما أنزل الله على بشر من شىء، وقول بعض آخر: إنه أوحى إليه ولم يوح إليه شىء، وإنكار طائفة لما وصف الله به نفسه من الصفات، واتخاذ أقوام له البنين والبنات، واستكبار آخرين عن الاعتراف بما أنزل الله من الآيات، احتقارا لمن أكرمه الله بإظهارها على يده ولسانه ثم ذكر سبحانه ما يقوله لهم يوم القيامة بعد ذكر ما تقول لهم ملائكة العذاب فقال: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي ولقد جئتمونا وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان والأهل والإخوان، مجردين من الخدم والأملاك والأموال، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتكم حفاة عراة غلفا ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله: «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» لأن المراد لا يكلمهم تكليم تكريم ورضا. (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي إن ما كان شاغلا لكم من المال والولد والخدم والحشم والأثاث والرياش عن الإيمان بالرسل، والاهتداء بما جاء ولم ينفعكم كما

[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 إلى 99]

كنتم تتوهمون، فهو لم يغن عنكم شيئا ولم يمكنكم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة. (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الملائكة والصالحين من البشر، ولا تماثيلهم وقبورهم، وقد زعمتم فى الدنيا أنهم شركاء لله تدعونهم ليشفعوا لكم عنده ويقرّبوكم إليه زلفى بتأثيرهم فى إرادته وحملهم إياه على ما لم تتعلق به إرادته فى الأزل. وفى هذه الجملة والتي قبلها هدم لقاعدتين من قواعد الوثنية وهما الفداء والشفاعة (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي لقد تقطع ما كان بينكم من صلات النسب والملك والولاء والصداقة. (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي وغابت عنكم شفاعة الشفعاء، وتقريب الأولياء وأوهام الفداء، وقد علمتم بطلان غروركم واعتمادكم على غيركم. والخلاصة- إن آمالكم قد خابت فى كل ما تزعمون وتتوهمون فلا فداء ولا شفاعة، ولا ما يغنى عنكم من عذاب الله من شىء. [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الفلق والفرق والفتق: الشق، والحب: الحنطة وغيرها مما يكون فى السنبل والأكمام، والنوى واحدها نواة: وهى ما يكون فى داخل التمر والزبيب، والإصباح: الصبح، يقال أصبح الرجل: دخل فى وقت الصباح، والسكن: السكون، وما يسكن فيه من مكان كالبيت وزمان كالليل، وما يسكن الإنسان ويطمئن إليه استئناسا به من زوج أو حبيب، والحساب (بالكسر) والحسبان (بالضم) استعمال العدد فى الأشياء والأوقات والمستقر: موضع القرار والإقامة كما قال: «لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» والمستودع: موضع الوديعة، وهى ما يتركه المرء عند غيره ليأخذه بعد، والفقه: النظر فى عمق الشيء وباطنه، خضرا أي نباتا غضا أخضر، متراكبا: أي بعضه فوق بعض، والنخل والنخيل واحدهما نخلة، والطلع: أول ما يطلع أي يظهر من زهرها قبل أن ينشق عنه غلافه، والقنوان واحدها قنو: وهو العذق الذي يكون فيه الثمر وهو من النخل كالعقود من العنب والسنبلة من القمح، ودانية: أي قريبة التناول، مشتبها وغير متشابه: أي متشابها فى بعض الصفات وغير متشابه فى بعض آخر، وينعه أي حين يينع ويبدو صلاحه وينضج. المعنى الجملي بعد أن أثبت سبحانه أمر التوحيد، ثم أردفه بتقرير أمر النبوة والبعث وذكر مسائل لها ملابسات لهذه الأصول، عاد هنا وفصّل طائفة من آيات التكوين تدل أوضح الدلالة على وحدانيته تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، وبيان سننه فى خلقه وحكمه

الإيضاح

فى الإحياء والإماتة والأحياء والأموات، وتقديره وتدبيره لأمر النيرات فى السموات، وإبداعه فى شئون النبات. الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) أي إن الله فالق ما تزرعون من حب الحصيد ونوى الثمر، وشاقه بقدرته وتقديره بربط الأسباب بمسبباتها كجعل الحب والنوى فى التراب وإرواء التراب بالماء. وفى ذلك إيماء إلى كمال قدرته، ولطيف صنعه، وبديع حكمته. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي يخرج الزرع من نجم وشجر وهو متغذّ نام من الميت وهو ما لا يتغذى ولا ينمى من التراب، والحب والنوى وغيرهما من البذور، ويخرج الحيوان من البيضة والنطفة. وعلماء المواليد يزعمون أن فى أصول الأحياء حياة، فكل ما ينبت من الحب والنوى فهو ذو حياة كامنة، إذ أنه لو عقم بالصناعة لا ينبت، واصطلاحهم لا نسيغه اللغة، إذ أنها لا تجعل الحي إلا الجسم النامي المتغذى بالفعل، وهذه أقل مراتب الحياة عندهم، ويليها مراتب أخرى أعلاها مرتبة الإحساس والقدرة والإرادة والعلم والعقل والحكمة والنظام، وفوق كل هذه المراتب حياة الخالق التي هى مصدر كل حياة وحكمة ونظام فى الكون. (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) كالحب والنوى من النبات، والبيضة والنطفة من الحيوان، قال الزجاج: يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي، وقال ابن عباس يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر. والكافر من المؤمن كما فى ابن نوح. قال الطبيب التقى عبد العزيز إسماعيل باشا طيب الله ثراه: قيل فى تفسير ذلك كإنشاء الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، ولكن النطفة حيوانات حية،

وكذلك خلق الحيوان من النطفة فهو خلق حى من حى فلا تنطبق عليه الآية الكريمة على هذا التفسير، والله أعلم. والتفسير الحقيقي- هو إخراج الحي من الميت كما يحصل يوميا من أن الحي ينمو بأكل أشياء ميتة فالصغير مثلا يكبر جسمه بتغذية اللبن أو غيره، والغذاء ميت، ولا شك أن القدرة على تحويل الشيء الميت الذي يأكله إلى عناصر وموادّ من نوع جسمه بحيث ينمو جسمه، هو أهم علامة تفصل الجسم الحي من الجسم الميت وقد كتب علماء الحيوان فقالوا: إن النعجة مثلا تتغذى بالنبات وتحوّله إلى لحمها، وهذه أهم علامة تدل على أنها حية، وكذا الطفل يتغذى باللبن الميت ويحوله إلى جسمه الحي. وأما إخراج الميت من الحي فهو الإفرازات مثل اللبن: (وإن شئت فلحوم الحيوانات أيضا والنباتات، فإن اللبن سائل ليس فيه شىء حى، بخلاف النطفة فإن فيها حيوانات حية، وهذه تخرج من الحيوان الحي، وهكذا ينمو الحي من الميت ويخرج الميت من الحي والله أعلم بمراده) اهـ. (ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي ذلكم المتصف بكامل القدرة وبالغ الحكمة هو الله الخالق لكل شىء المستحق للعبادة وحده لا شريك له فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شىء من ذلك كفلق نواة وحبة وإيجاد نخلة وسنبلة. (فالِقُ الْإِصْباحِ) فلق الصبح: هو فلق ظلمة الليل وشقّها بعمود الصبح الذي يبدو فى جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا، ولا يعتد به حتى تنفشع الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه حتى تزول. (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي وجعله يستريح فيه المتعب من العمل بالنهار ويسكن فيه، والسكون يعم سكون الجسم وسكون النفس بهدوء الخواطر والأفكار. والليل وقت السكون، لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر فى النهار، لما خص به الليل من الإظلام والنهار من الإبصار. وأكثر الأحياء من الإنسان والحيوان تترك العمل والسعى في الليل وتأوى إلى

مساكنها للراحة التي لا تتم ولا تكمل إلا بالنوم الذي تسكن فيه الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية، كما تسكن به الأعضاء سكونا نسبيا، فتقلّ نبضات القلب. ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها، ويبطىء التنفس ويقل ضغط الدم فى الشرايين، ولا سيما أول النوم ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودا، ويستريح الجهاز العصبي لتستريح جميع الأعضاء. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي والشمس والقمر يجريان بحساب وعدد، لبلوغ أمدهما ونهاية آجالهما، ويدوران لمصالح الخلق التي جعلا لها، فطلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما- كل ذلك يجرى بحساب كما قال: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ» وقال: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» وقد جمع الله فى هذه الآية ثلاث آيات سماوية، كما جمع فيما قبلها ثلاث آيات أرضية: فالآية الأولى فلق الصبح والتذكير به للتأمل فى صنع الله بإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود، ومبدأ زمن تقلب الأحياء فى القيام والقعود، ومضيّهم إلى ما يسّروا له من الأعمال، وما لله فى ذلك من حكم وأسرار والآية الثانية جعل الليل سكنا، وذلك نعمة من الله ليستريح الجسم، وتسكن النفس، وتهدأ من تعب العمل بالنهار، قال تعالى: «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . والآية الثالثة جعل الشمس والقمر حسبانا، وذلك فضل من الله عظيم، فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منهم. وعلماء الفلك متفقون على أن للأرض حركتين، حركة تتم فى أربع وعشرين ساعة وعليها مدار حساب الأيام، وحركة تتم فى سنة، وبها يكون اختلاف الفصول، وعليها مدار حساب السنة الشمسية.

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا الفعل العالي الشأن، البعيد المدى فى الإبداع والإتقان- هو تقدير الخالق الغالب على أمره فى تنظيم ملكه، بما اقتضاه واسع علمه، وعظيم قدرته وحكمته، ليس فيه جزاف ولا اختلاف: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» . ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات التكوين العلوية وقرنها بذكر فائدتها فقال: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) المراد بالنجوم هنا ما عدا الشمس والقمر من النيّرات، لأنه الظاهر من سياق الكلام، ولأنه المعهود فى الاهتداء به. وكانت العرب أيام بداوتها تؤقت بطلوع النجوم فتحفظ أوقات السنة بالأنواء وهى نجوم منازل القمر فى مطالعها ومغاربها. وكان اهتداؤهم بالنجوم على ضربين: (1) معرفة الوقت من الليل أو من السنة. (2) معرفة المسالك والطرق والجهات. والمراد بالظلمات ظلمة الليل وظلمة الأرض أو الماء وظلمة الخطأ والضلال. والمعنى- والله هو الذي جعل لكم النجوم أدلة فى البر والبحر إذا ضللتم الطريق أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا، فبها تستدلون على الطرق فتسلكونها وتنجون من الخطأ والضلال فى البر والبحر. والخلاصة- إنه تعالى ذكّرنا ببعض فضله فى تسخير هذه النيرات التي نراها صغيرة بعد أن ذكّرنا ببعض فضله فى الشمس والقمر اللذين يريان كبيرين فى أعين الناس. وقد جدّت فى هذا العصر المراصد الفلكية، واستحدثت آلات لتقريب الأبعاد وتحليل النور، فعلم الشيء الكثير من سرعة الكواكب وأبعادها، ومعرفة مساحتها وكثافتها والمواد المؤلفة منها، إلى نحو ذلك مما كان مجهولا من قبل، فثبت لعلماء الفلك أن النجوم تعد بالملايين، لكنهم لم يتمكنوا إلى الآن إلا من معرفة أبعاد بعض مئات منها، لأن باقيها أبعد من أن يعرف اختلاف فى مواقعه.

ولما فى عالم السموات من بديع الصنع، وبديع النظام ختم سبحانه الآية بقوله: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) والآيات هنا إما آيات التنزيل، وإما آيات التكوين، فإن كانت الأولى فالمعنى- إن هذه الآية وما قبلها وكل ما فى معناها من الآيات المنزلة فى الحث على النظر فى ملكوت السموات تبين وتفصل حكم الله تعالى وعجائب صنعه، فيزداد الإنسان بهذا البيان بحثا وعلما. وإن كانت الثانية فالمعنى- إن الآيات الدالة على علم الله تعالى وقدرته وفضله على خلقه لا يستخرجها من النظر فى النجوم إلا أهل العلم الذين يقرنون العلم بالاعتبار ولا يكتفون بأن يقولوا بعد النظر والحساب: إن هذا لعجب عجاب. وبعد أن ذكّرنا سبحانه ببعض آياته فى الأرض والسماء ذكرنا بآياته فى أنفسنا فقال: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته، أو إحداثه بالتدريج، والنفس تطلق على الروح وعلى الشخص المركب من روح وبدن. والمعنى- إنه تعالى هو الذي أنشأكم من نفس واحدة هى الإنسان الأول الذي تسلسل منه سائر الناس بالتوالد، وهو آدم عليه السلام. وفى إنشاء جميع البشر من نفس واحدة آيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته وفى التذكير بذلك إيماء إلى ما يجب من شكر نعمته، وإرشاد إلى ما يجب من التعارف والتعاون بين البشر، وأن يكون هذا التفرق إلى شعوب وقبائل مدعاة إلى التآلف، لا إلى التعادي والتقاتل وبث روح العداوة والبغضاء بين الناس. (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي ولكم موضع استقرار فى الأصلاب، وموضع استيداع فى الأرحام، وإنما جعل الصلب مقر النطفة، والرحم مستودعها، لأن النطفة تتوالد فى الصلب ابتداء، والرحم شبيهة بالمستودع كما قال: وإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللآباء أبناء (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي إننا جعلنا الآيات المبينة لسنننا فى الخلق مفصلة

وموضحة لقدرتنا وإرادتنا، وعلمنا وحكمتنا، وفضلنا ورحمتنا، لقوم يفقهون ما يتلى عليهم، ويفهمون المراد منه، ويفطنون لدقائقه وخفاياه. وعبر هنا بالفقه وفيما قبلها بالعلم، لأن استخراج الحكم من خلق البشر بتوقف على غوص فى أعماق الآيات وفطنة فى استخراج دقائق الحكم، أما العلم بمواقع النجوم والاهتداء بها فى ظلمات البر والبحر فهو من الأمور الظاهرة التي لا تتوقف على دقة النظر، ولا غوص الفكر والتأمل فى العبرة منها، وكذلك جميع المظاهر الفلكية. ثم ذكر بعد ذلك آية أخرى من آيات التكوين وهى إنزال الماء من السماء وجعله سببا للنبات فقال: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) أي وهو الذي أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب هذا الماء كل صنف من أصناف النبات المختلف فى شكله وخواصه وآثاره اختلافا متفاوتا فى مراتب الزيادة والنقصان كما قال: «يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» . فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة كساق النجم وأغصان الشجر، نخرج منه أي من هذا الأخضر المتشعب النبات آنا بعد آن حبّا متراكبا بعضه فوق بعض وهو السنبل. وهذا تفصيل لنماء النجم الذي لا ساق له من النبات ونتاجه. ثم عطف عليه حال نظيره من الشجر فقال: (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) أي ونخرج من طلع النخل قنوانا دانية القطوف سهلة التناول. (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) أي ونخرج من ذلك الخضر جنات من أعناب.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 إلى 103]

(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي وأخص من نبات كل شىء- الزيتون والرمان حال كون الرمان مشتبها فى بعض الصفات، وغير مشتبه فى بعض آخر فإنها أنواع تشتبه فى شكل الورق والثمر، وتختلف فى لون الثمر وطعمه، فمنها الحلو والحامض والمزّ، وكل ذلك دالّ على قدرة الصانع وحكمة المبدع جل شأنه. (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) أي انظروا نظرة استبصار واعتبار إلى ثمر ما ذكر إذا أخرج ثمره، وكيف يخرج ضئيلا لا يكاد ينتفع به، وإلى ينعه ونضجه، وكيف إنه يصير ضخما ذا نفع عظيم ولذة كاملة، ثم وازنوا بين صفاته فى كل من الحالين، يستبن لكم لطف الله وتدبيره، وحكمته فى تقديره، وغير ذلك مما يدل على وجوب توحيده. (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلكم الذي أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم ووحدانيته، لمن هو مؤمن بالفعل، ولمن هو مستعد للإيمان. أما غيرهم فإن نظرهم لا يتجاوز الظواهر ولا يعدوها إلى ما تدل عليه من وجود الخالق ووحدانيته التي إليها ينتهى النظام، فهم لا يغوصون ليصلوا إلى أسرار عالم النبات، ولا يبحثون عن أن انتقاله من حال إلى حال على ذلك النمط البديع دال على كمال الحكمة، وعلى أن وحدة النظام فى الأشياء المختلفة لا يمكن أن تصدر من إرادات متعددة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فى اللسان: خلق الكلمة واختلقها وخرقها واخترقها: إذا ابتدعها كذبا، وقال الراغب: الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد قال تعالى: «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها» والخلق: فعل الشيء بتدبير ورفق، والبدع (بالكسر) والبديع: الشيء الذي يكون أولا، ومنه البدعة فى الدين، وقال الراغب: الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء، والبديع من أسمائه تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها، والإدراك: اللحاق والوصول إلى الشيء، يقال تبعه حتى أدركه قال تعالى: «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» والبصر حاسة الرؤية، واللطيف من الأجرام: ضد الكثيف والغليظ واللطيف من الطباع: ضد الجافي، واللطف فى العمل: الرفق فيه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه البراهين الدالة على توحده بالخلق والتدبير فى عالم السموات والأرض- ذكر هنا بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب وروى التاريخ مثلها عن كثير من الأمم، وهى اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، أو اختراع نسل له من البنين والبنات. الإيضاح (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) أي وجعل هؤلاء المشركون لله سبحانه شركاء من الجن، وفى المراد من الجن هنا أقوال، فقال قتادة: إنهم الملائكة فقد عبدوهم

وقال الحسن: إنهم الشياطين فقد أطاعوهم فى أمور الشرك والمعاصي، وقيل إبليس فقد عبده أقوام وسمّوه ربا، ومنهم من سماه إله الشر والظلمة، وخص الباري سبحانه بألوهية الخير والنور، وروى عن ابن عباس أنه قال: إنها نزلت فى الزنادقة الذين يقولون إن الله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والحيوان، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشر، ورجح الرازي هذا الرأى قال: إن المراد من الزنادقة المجوس الذين قالوا إن كل خير فى العالم فهو من يزدان، وكل شر فهو من أهر من أي إبليس. (وَخَلَقَهُمْ) أي والحال أنه تعالى خلق الشركاء المجعولين، كما خلق غيرهم من العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة، وامتياز بعض المخلوقين عن بعض فى صفاته وخصائصه لا يخرجه عن كونه مخلوقا، ولا يصل به لأن يكون إلها وربا. (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي واختلقوا له بحمقهم وجهلهم بنين وبنات بغير علم بذلك فقد سمى مشركو العرب الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقوله بغير علم أي من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ وصواب، بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية، ومن غير معرفة لمكانه من الشناعة والازدراء بمقام الألوهية. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه ربنا وتعالى عن كل نقص ينافى انفراده بالخلق والتدبير، إذ ليس كمثله شىء وهو السميع البصير. (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما، فهو الخالق المخترع لا على مثال سابق. (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ؟) أي كيف يكون له ولد والحال أنه لم يكن له زوج ينشأ الولد من ازدواجه بها، والولد لا يوجد إلا كذلك، ولكن جميع الكائنات السماوية والأرضية صدرت عنه تعالى صدور إبداع وإيجاد من العدم لأصولها الأولى، وصدور تسبب كالتوالد ونحوه بحسب سننه فى الخلق.

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي خلقه خلقا ولم يلده ولادة كما زعمتم، فما افتريتم واخترعتم له من الولد، فإنما هو مخلوق له لا مولود منه- وجاءت هذه الجملة مقررة لإنكار نفى الولد، ودليلا بعد دليل على ذلك. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إن علمه بكل شىء ذاتى له، ولا يعلم كل شىء إلا الخالق لكل شىء، ولو كان له ولد لكان هو أعلم به، ولهدى العقول إليه بآيات الوحى ودلائل العلم، لكنه كذب الذين افتروا عليه ذلك كذبا بلا علم مؤيد بوحي ولا دليل عقلى. والخلاصة- إنه تعالى نفى عن نفسه الولد بوجوه: (1) إن من مبدعاته السموات والأرضين، وهى مبرأة من الولادة لاستمرارها وطول مدتها. (2) إن العادة قد جرت بأن الولد يتوالد من ذكر وأنثى متجانسين، والله تعالى منزه عن المجانسة لشىء. (3) إن الولد كفء للوالد، والله لا كفء له، لأن كل ما عداه فهو مخلوق له لا يكافئه، ولأن علمه ذاتى ولا كذلك غيره. (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) الخطاب موجه إلى المشركين الذين أقيمت عليهم الحجة، والإشارة إلى الله المنزه عن كل ما يصفونه به، المتصف بما وصف به نفسه من الإبداع، أي ذلكم الذي شأنه ما ذكر هو الله ربكم لا من خرقوا له من الأولاد، وأشركوا به من الأنداد، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا، لا إله إلا هو خالق كل شىء، وما عداه مخلوق له يجب أن يعبد خالقه، فكيف يعبده من مثله ويتخذه إلها. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولّ جميع الأمور، يدبر ملكه بعلمه وحكمته، فيرزق عباده ويكلؤهم بالليل والنهار سرا وعلانية.

وقد يكون المعنى- إنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها. والخلاصة- إنه لا حافظ إلا الله، ولا قاضى للحاجات إلا هو، فعلينا أن نقطع أطماعنا عن كل ما سواه، ولا نلجأ فى المهمات إلا إليه. (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تراه الأبصار رؤية إحاطة تعرف كنهه عز وجل، ونحو الآية قوله: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ» ونفى إحاطة العلم لا يستلزم نفى أصل العلم وكذلك نفى إدراك البصر للشىء والإحاطة به لا يستلزم نفى رؤيته مطلقا. وبهذا يعلم أنه لا تنافى بين هذه الآية وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على رؤية المؤمنين لربهم فى الآخرة، فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب» فالمؤمنون يرونه، والكافرون عنه يؤمئذ محجوبون كما قال جل ثناؤه «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» . (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أي إنه تعالى يرى العيون الباصرة رؤية إدراك وإحاطة فلا يخفى عليه من حقيقتها ولا من علمها شىء. وقد عرف علماء التشريح تركيب العين وأجزاءها ووظيفة كل منها فى ارتسام المرئيات فيها، كما عرفوا كثيرا من سنن الله فى النور ووظيفته فى رسم صور الأشياء فى العينين، ولكنهم لم يصلوا بعد إلى معرفة كنه الرؤية، ولا كنه قوة الإبصار ولا حقيقة النور. قال صاحب اللسان: قال أبو إسحق فى الآية: أعلم الله أنه يدرك الأبصار، وفى هذا الإعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه، فأعلم أن خلقا من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه ولا يحيطون بعلمه، فكيف به تعالى والأبصار لا تحيط به وهو اللطيف الخبير؟

[سورة الأنعام (6) : الآيات 104 إلى 107]

فأما ما جاء من الأخبار فى الرؤية وصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فغير مدفوع، وليس فى الآية دليل على دفعها، لأن معنى هذه الآية إدراك الشّيء والإحاطة بحقيقته، وهذا مذهب أهل السنة والعلم بالحديث اهـ. (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي وهو اللطيف بذاته بحيث تخسأ الأبصار دون إدراك حقيقته، الخبير بدقائق الأشياء ولطائفها، فلا يعزب عن إدراكه شىء. والخلاصة- إنه يلطف عن أن تدركه الأبصار، ولكنه خبير بكل لطيف وهو يدرك الأبصار. ولا تدركه الأبصار. [سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) تفسير المفردات البصائر واحدها بصيرة، ولها عدة معان: منها عقيدة القلب، والمعرفة الثابتة باليقين، والعبرة، والشاهد المثبت للأمر، والحجة، والقوة التي تدرك بها الحقائق العلمية، ويقابلها البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية، والمراد بها هنا الآيات الواردة فى هذه السورة أو القرآن بجملته، نصرف الآيات أي نأتى بها متواترة حالا بعد حال مفسرين لها فى كل مقام بما يناسبه، ودرس الشيء يدرس: إذا عفا وزال فهو دارس ودرسته الريح وغيرها، ودرس اللابس الثوب درسا: أخلقه وأبلاه فهو دريس، ودرسوا القمح: داسوه ليتكسر فيفرق بين حبه وتبنه، ودرس الناقة: راضها، ودرس

المعنى الجملي

الكتاب والعلم يدرسه درسا ودراسة ومدارسة أي ذلله بكثرة القراءة حتى خف حفظه عليه من ذلك، والمعنى العام للدرس تكرار المعالجة، وتتابع الفعل على الشيء حتى يذهب به أو يضل إلى الغاية منه. المعنى الجملي بعد أن أقام الأدلة والبراهين الواضحة على توحيده وكمال قدرته وعلمه- عاد هنا إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة، وتبليغ النبي صلّى الله عليه وسلم أوامر ربه، ومدى تلك الأوامر من الهداية والإرشاد، وما يقوله المشركون فى المبلّغ لها، وأعلم سبحانه سنته فيهم وفى أمثالهم، وما يجب على الرسول معهم وما ينفى عنه. الإيضاح (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءكم فى هذه الآيات البينات بصائر من الحجج الكونية والبراهين العقلية، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية التي عليها مدار سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم، تفضل بها عليكم ربكم الذي خلقكم وسواكم، وربّى أجسادكم، وأكمل مشاعركم وقواكم، كما ربى أرواحكم، وهذّب نفوسكم، ومحّص بها عقولكم، حتى تصل إلى منتهى ما تسمو إليه النفوس البشرية من الكمال. (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) أي فمن أبصر بها الحق وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، فلنفسه قدم الخير وبلغ السعادة. (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) أي ومن عمى عن الحق وأعرض عن سبيله، وأصرّ على ضلاله، تقليدا لآبائه وأجداده، فعلى نفسه جنى. ونحو الآية قوله: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وقوله: «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» وقوله: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» .

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي وما أنا عليكم برقيب أحصى عليكم أعمالكم وأفعالكم وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، والله هو الحفيظ عليكم، ولا يخفى عليه شىء من أعمالكم، فهو يعلم ما تسرّون وما تعلنون، ويجزيكم عليه بما تستحقون، فعليه وحده الحساب، وما علىّ إلا البلاغ. (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي ومثل ذلك التصريف البديع نصرّف الآيات فى سائر القرآن لإثبات أصول الإيمان وتهذيب النفوس والأخلاق، فنحوّلها من حال إلى حال، مراعين فى ذلك تفاوت العقول والأفهام واختلاف استعداد الأفراد والجماعات. (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي إن لتصريف الآيات فوائد شتى منها: (1) أن يهتدى بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام: (2) أن يقول الجاحدون المعاندون من المشركين قد درست من قبل وتعلّمت، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت، وقد قالوا هذا إفكا وزورا فزعموا أنه تعلم من غلام رومى كان يصنع السيوف بمكة وكان يختلف إليه كثيرا، وذلك ما عناه سبحانه بقوله: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» . (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (3) وأن نبين هذا القرآن المشتمل على تصريف الآيات الذي يقول فيه الجاحدون إنه أثر درس واجتهاد لقوم لديهم الاستعداد للعلم بما تدل عليه الآيات من الحقائق، وما يترتب على الاهتداء بها من السعادة دون أن يكون لديهم معارض من تقليد أو عناد. والخلاصة- إن الذين يقولون للرسول: إنك درست هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات التي صرفها الله على ضروب مختلفة، ولم يفقهوا سرها، وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا. وأما الذين يعملون مدلولاتها، وحسن عاقبة الاهتداء بها، فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن وما اشتمل عليه من حسن التصرف المؤيد بالحجة والبرهان.

وبعد أن بين سبحانه لرسوله أن الناس فى شأن القرآن فريقان، فريق فسدت فطرتهم ولم يبق لديهم استعداد لهديه، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات، ومن ثم كان نصيبهم منه الجحود والإنكار، وفريق آخر اهتدى به وعمل بما فيه- أمره أن يتبع ما أوحى إليه من ربه بالبيان له والعمل به فقال: (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي اتبع ما أوحى إليك لتربى نفسك وتكون إماما لأبناء جنسك، فإن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل، بما يعمله، ويأتمر بما يأمر ثم قرن ذلك باعتقاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، فالخالق المرّبى للأشباح بما أنزل من الرزق، وللأرواح بما أنزل من الوحى هو المعبود الواحد الذي لا شريك له المجازى على الأعمال، التي لا تقبل شفاعة ولا فداء. ثم أمره بعدئذ بالإعراض عن المشركين بألا يبالى بإصرارهم على الشرك، ولا بمثل قولهم درست، لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص، ولا يضره الباطل بتزيينه بزخارف الأقوال ولا بالانكباب على خرافات الأعمال ثم هوّن عليه أمر الإعراض عنهم فقال: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا) أي ولو شاء الله ألا يشركوا لما أشركوا بأن يخلق البشر مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة، لكنه خلقهم مستعدين للإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والطاعة والفسق، ومضت سنته بأن يكونوا مختارين فى أعمالهم وفى كسبهم لعلومهم وأعمالهم، وجعل منها الخير والشر، وإن كانت غرائزهم وفطرهم كلها خيرا. (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما جعلناك عليهم حفيظا تحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم عليها وتجازيهم بها، ولا وكيلا تتولى أمورهم وتتصرف فيها.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 108 إلى 110]

والخلاصة- إنه ليس لك ما ذكر من الوصفين كما يكون ذلك لبعض الملوك بالقهر أو التراضي بل أنت بشير ونذير، والله هو الذي يتولى جزاءهم وحسابهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) المعنى الجملي بعد أن أمر الله رسوله فيما سبق من الآيات بتبليغ وحيه بالقول والعمل، والإعراض عن المشركين بمقابلة جحودهم وطعنهم فى الوحى بالصبر والحلم، وبين أن من مقتضى سنته فى البشر ألا يتفقوا على دين لاختلاف استعدادهم وتفاوتهم فى درجات الفهم والفكر، وذكر أن وظيفة الرسل أن يكونوا مبلغين لا مسيطرين، وهادين لا جبارين، فينبغى ألا يضيقوا ذرعا بما يرون وما يشاهدون من الازدراء بهم والطعن فى دينهم، فإن الله هو الذي منحهم هذه الحرية ولم يجبرهم على الإيمان- نهى المؤمنين هنا عن سب آلهة المشركين، لأنهم إذا شتموا فربما غضبوا، وذكروا الله بما لا ينبغى من القول ثم ذكر طلب بعضهم للآيات، لأن القرآن ليس من جنس المعجزات، ولو جاءهم بمعجزة ظاهرة لآمنوا به، وحلفوا على ذلك وأكدوه بكل يمين محرجة.

الإيضاح

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس فى قوله: «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» الآية، قال: قالوا يا محمد لتنتهينّ عن سب آلهتنا أو لنهجونّ ربك، فنهاهم أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدوا بغير علم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال: «لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخلنّ على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحى أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه ويحميه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبيّ ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاصي والأسود بن البختري، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا: استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم فدخلوا فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، فدعا النبي صلّى الله عليه وسلم فجاءه فقال له: هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يريدون؟ قالوا نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، قال أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدّت لكم الخراج؟ قال أبو جهل: وأبيك لنعطينّكها وعشر أمثالها فما هى؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله، فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب: قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال يا عم: ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها فى يدى، ولو أتونى بها فوضعوها فى يدى ما قلت غيرها، فغضبوا وقالوا لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنشتمنّك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) . الإيضاح (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولا تسبوا أيها المؤمنون معبودات المشركين التي يدعونها من دون الله لجلب نفع لهم أو دفع ضرر

عنهم بوساطتها وشفاعتها عند الله، إذ ربما نتج عن ذلك سبهم لله سبحانه وتعالى عدوا أي تجاوزا منهم للحد فى السّباب والمشاتمة ليغيظوا المؤمنين. وقوله بغير علم أي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يذكر به. وفى ذلك إيماء إلى أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها، فإن ما يؤدى إلى الشرّ شر، وإلى أنه لا يجوز أن يعمل مع الكفار ما يزدادون به بعدا عن الحق ونفورا منه، ألا ترى إلى قوله تعالى لموسى وهارون فى مخاطبة فرعون: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» . (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي مثل ذلك التزيين الذي يحمل المشركين على ما ذكر حمية لمن يدعون من دون الله- زينا لكل أمة عملهم من كفر وإيمان وشر وخير. والخلاصة- إن سنننا فى أخلاق البشر قد جرت بأن يستحسنوا ما يجرون عليه ويتعودونه، سواء كان مما عليه آباؤهم أو مما استحدثوه بأنفسهم إذا صار ينسب إليهم، وسواء أكان ذلك عن تقليد وجهل أم عن بينة وعلم. ومن هذا يعلم أن التزيين أثر لأعمالهم الاختيارية بدون جبر ولا إكراه، لا أن الله خلق فى قلوب بعض الأمم تزيينا للكفر والشر، وفى قلوب بعضها تزيينا للإيمان والخير من غير أن يكون لهم عمل اختياري نشأ عنه ذلك، وإلا كان الإيمان والكفر والخير والشر من الغرائز الخلقية التي تعد الدعوة إليها من العبث الذي يتنزه الله تعالى عن إرسال الرسل وإنزال الكتب لأجله، وكان عمل الرسل والحكماء والمؤدبين الذين يؤدبون الناس عملا لا فائدة فيه. والخلاصة- إن تزيين الأعمال للأمم سنة من سنن الله جل شأنه سواء فى ذلك أعمالها وعاداتها وأخلاقها الموروثة والمكتسبة. (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ثم إلى ربهم ومالك

أمرهم رجوعهم ومصيرهم بعد الموت وحين البعث، لا إلى غيره إذ لا رب سواه، فينبئهم بما كانوا يعملون فى الدنيا من خير أو شر ويجزيهم عليه ما يستحقون وهو بهم عليم (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) أي وأقسم هؤلاء المشركون المعاندون بأوكد الأيمان وأشدها مبالغة، لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية ليؤمنن بأنها من عند الله وأنك رسول من لدنه. وفى هذا إيماء إلى أنهم بلغوا غاية العتو والعناد، إذ هم لم يعدّوا ما يشاهدونه من المعجزات من نوع الآيات ومن ثم اقترحوا غيرها، وما كان غرضهم من ذلك إلا التحكم فى طلب المعجزات، وعدم الاعتداد بما شاهدوا من البينات. (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول إنما الآيات عند الله وحده، فهو القادر عليها والمتصرف فيها يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته وقضائه كما قال: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» فلا يمكننى أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء والطلب. روى «أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني؟ فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلت لنؤمنن جميعا، فسأل المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ينزلها طمعا فى إيمانهم، فهمّ عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت الآية» . وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: «كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا فقالوا يا محمد: تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيى الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أىّ شىء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا تحوّل لنا الصفا ذهبا، فقال: فإن فعلت تصدقونى، قالوا نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك

أجمعين، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا، فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم (أي عذاب الاستئصال) وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: أتركهم حتى يتوب تائبهم، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) » . (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) الخطاب للمؤمنين الذين تمنّوا مجىء الآية ليؤمنوا والنبي صلّى الله عليه وسلم منهم بدليل همه بالدعاء ورغبته فى ذلك. والمعنى- إنه ليس لكم شىء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية. (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تقليب الأفئدة والأبصار: الطبع والختم عليها أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يدركونه، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه، لكمال نبوّها عنه وتمام إعراضهم عن درك حقيقته وتكون حالهم حينئذ كحالهم الأولى فى عدم إيمانهم بما جاءهم أول مرة من الآيات. ونظير الآية قوله: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» . ومن لم يقنعه ما جاء به القرآن من الدلائل العقلية والبراهين العلمية لا يقنعه ما يراه بعينيه من الآيات الحسية، فله أن يدعى أن عينيه قد خدعتا أو أصيبتا بآفة، فهما لا تريان إلا صورا خيالية أو سحرا مفترى، وهذه سنة الأولين فى مكابرة آيات الرسل. (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) العمه: التردد فى الأمر من الحيرة فيه، والطغيان: تجاوز الحد أي إنا ندعهم يتجاوزون الحد فى الكفر والعصيان، ويترددون متحيرين فيما سمعوا ورأوا من الآيات، محدّثين أنفسهم أهذا هو الحق المبين أم السحر الذي يخدع

عيون الناظرين وهل الأرجح اتباع الحق بعد ما تبين، أو المكابرة والجدل كبرا وأنفة من الخضوع لمن يرونه دونهم. وإنما أسنده الخالق إلى نفسه لبيان سننه الحكمية فى ربط المسببات بأسبابها، فرسوخهم فى الطغيان الذي هو غاية الكفر والعصيان هو سبب تقليب القلوب والأبصار أي الختم عليها، فلا تفقه ولا تبصر. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله، اللهم ثبت أفئدتنا وأبصارنا على الحق، واحفظنا من العمه والطغيان فى كل أمر، واجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الغر الميامين وأصحابه المطهرين. وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة فى الليلة الثالثة من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 إرسال وفد من الصحابة إلى ملك الحبشة، وما حدث حينئذ. 6 إرسال كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ورؤساء العشائر. 7 النصارى أقرب مودة للمؤمنين من اليهود مع ذكر سبب ذلك. 10 النهى عن تحريم الطيبات، وعن الإسراف فى استعمالها. 13 ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فى استعمال الطيبات 15 إلزام الحانث فى يمينه بإحدى مبرات ثلاث. 17 لا يجوز الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته. 18 الأيمان ثلاثة أقسام. 19 الأيمان مبنية على العرف والعبرة بنية المحلّف لا الحالف. 21 الحكمة فى تحريم الخمر بالتدريج. 23 الخمر والميسر يوقعان فى العداوة والبغضاء ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة 27 جواز التداوى بالخمر والسموم والنجاسات. 28 عقوبة شارب الخمر فى الدنيا والآخرة. 31 حرمة قتل الصيد البرى حين الإحرام. 32 جزاء قتله حين التعمد. 33 حل صيد البحر حين الإحرام.

الصفحة المبحث 35 البيت الحرام معظم لدى الناس جميعا. 37 ليس على الرسول إلا البلاغ وبيد الله الحساب. 38 لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث. 43 النهى عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى. 46 يجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلا إذا قست القلوب فلم تؤثر فيها المواعظ 48 الشهادة على الوصية حين الموت 50 إذا اتهم الوارثون الشاهدين بالكذب أو بالخيانة حلف اثنان من أقرب الناس إلى الموصى. 52 الحث على الوصية وعدم التهاون فيها فى سفر أو حضر. 54 سؤال الرسل يوم القيامة عما أجابتهم به أممهم. 55 ما أنعم الله به على عيسى وأمه. 57 طلب الحواريين إنزال مائدة من السماء. 61 ما ينجى الإنسان من عذاب يوم القيامة. 62 اتخاذ المسيح إلها. 67 إلمامة بما تضمنته سورة المائدة من التشريع والأحكام. 72 المجوس يعتقدون أن للعالم ربين. 76 الذنوب التي تدعو إلى الهلاك ضربان. 80 اقتراح كفار قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال ملك من السماء يشهد بأنه رسول. 82 تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إيذاء قومه له وبشارته بحسن العاقبة. 88 لا تدقّ عن سمع الله دعوة داع أو حاجة محتاج.

الصفحة المبحث 91 لا يطلب شىء من أمور الدنيا والآخرة إلا من الله. 92 شهادة الله بين الرسول وقومه ضربان. 96 المشركون يوم القيامة ينكرون الشرك تارة ويعترفون أخرى. 98 التقليد يمنع من النظر والاستدلال. 102 الكافرون يتمنون يوم القيامة أن يردوا إلى الدنيا. 110 حزنه صلى الله عليه وسلم على تكذيب المشركين له. 112 تبديل الكلمات والأقوال نوعان. 113 اقتراح المشركين نزول الآيات ورد الله عليهم. 118 الأحياء التي تدب على وجه الأرض أمم وجماعات أمثالكم. 119 اللوح المحفوظ. 122 حب الأنداد والأصنام مراتب ودرجات. 125 البأساء والضراء تهذب النفوس. 128 من آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. 129 الغيب قسمان. 129 ليس من الغيب ما تعلم أسبابه عند بعض وتجهل لدى آخرين. 131 علم الغيب ليس من العلوم الكسبية لدى الرسل والأنبياء. 134 من معاذير المشركين فى عدم إيمانهم أن أتباعه صلى الله عليه وسلم من الفقراء المستضعفين. 135 الأنبياء مذكرون لا مسيطرون جبارون. 136 الرسول لا يملك التصرف فى الكون، ولا يعلم الغيب ولا يملك حساب المؤمنين ولا جزاءهم.

الصفحة المبحث 144 مفاتيح الغيب خمس. 145 الحكمة فى كتابة مقادير الخلق فى اللوح المحفوظ. 148 إرسال الحفظة لإحصاء أعمال العباد. 153 الدلائل على قدرة الله 154 الحروب الحديثة تفسر قوله تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم الآية. 159 نهينا عن الجلوس مع أهل الأهواء والبدع ما داموا يخوضون فى الدين. 162 منع الفداء يوم القيامة. 168 حجة إبراهيم لقومه على عبادة الأوثان والأصنام. 171 محاجة إبراهيم فى ترك عبادة الشمس والقمر والكواكب. 173 الأصل فى اختراع عبادة غير الله من الأحجار والأشجار والكواكب. 181 الأنبياء أقسام ثلاثة. 183 الهداية ضربان. 185 أمر الله رسوله بالاقتداء بالأنبياء السابقين. 186 الذي عليه المعول أن نوحا عليه السلام أول الأنبياء. 188 الإنسان مهما رقيت معارفه فى حاجة إلى هدى النبيين. 190 بعثة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للأسود والأحمر. 192 الفرق بين الهون (بالضم) والهون (بالفتح) . 193 ما يكون حين قبض الملائكة لأرواح الكافرين. 195 لا فداء ولا شفاعة فى الآخرة. 198 إخراج الحي من الميت والميت من الحي. 200 الاهتداء بالنجوم على ضربين.

الصفحة المبحث 201 الآيات ضربان. 201 تفسير المستقر بالمستودع. 204 الفرق بين الخرق والخلق. 204 المراد من الجن الملائكة فى قوله: وجعلوا لله شركاء الجن. 206 نفى الولد عنه سبحانه. 207 لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار. 208 البصيرة والبصر. 210 زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم من غلام رومى. 211 أمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين وعدم المبالاة بهم. 212 الرسول بشير ونذير وهاد لا مسيطر جبار. 213 ما حدث حين احتضر أبو طالب. 214 جرت سنة الله أن يستحسن البشر ما يتعوّدون. 215 طلب المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم نزول الآيات الكونية كما فعل موسى وعيسى.

تتمة سورة الانعام

الجزء الثامن [تتمة سورة الانعام] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) تفسير المفردات قبلا: مواجهة ومعاينة، وقيل إن واحده قبيل كرغف ورغيف- أي قبيلا قبيلا وصنفا صنفا أي كل صنف منه على حدة. قال ابن عباس: كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان- الإيحاء: الإعلام بالأشياء من طريق خفى سريع كالإيماء، والزخرف: الزينة كالأزهار للرياض والذهب للنساء وما يصرف السامع عن الحقائق إلى الأوهام- والغرور: الخداع بالباطل- صغى إليه: كرضى يصغى:، مال، ومثله أصغى-

المعنى الجملي

ويقول صغى فلان وصغوه معك: أي ميله وهواه كما يقال ضلعه معك، واقترف المال: اكتسبه، والذنب: اجترحه- والعدو: ضد الصديق- ويستعمل للواحد والجمع والمذكر والأنثى. قال تعالى: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السابقة أن مقترحى الآيات الكونية أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها وبما تدل عليه من صدق الرسول فى دعوى الرسالة، وأن المؤمنين كانوا يودون لو أجيب اقتراحهم ظنا منهم أن ذلك مفض إلى إيمانهم، وذكر لهم خطأهم بقوله: «وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» فأفاد أن سنته فيهم وفى أمثالهم من المعاندين أنهم إذا رأوا آية تدل على خلاف ما يعتقدون نظروا إليها نظرة إنكار وجحود، وحملوها على أنها إما خديعة وسحر، وإما أنها من أساطير الأولين. ذكر هنا ما هو أبلغ من ذلك وفصل الإجمال الماضي فى قوله: «وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» فأيأس النبي صلّى الله عليه وسلم من إيمانهم، ولو جاءهم بكل آية وأتى لهم بكل دليل. الإيضاح (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة والكرّة بعد الكرّة وسمعوا بآذانهم شهادتهم لك بالرسالة. (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) بأن نحييهم لهم ونجعلهم حجة على صدق ما جئت به من الرسالة. (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا) أي وجمعنا كل شىء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى وأرسلناه إليهم معاينة ومواجهة ليكون ذلك دليلا على ضحة دعواك

(ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي ما كان شأنهم، ولا مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا- ذلك لأنهم لا ينظرون فى الآيات نظر هداية واعتبار، وإنما ينظرون إليها نظر العدو إلى من يعاديه، لا نظر الولي إلى من يعينه ويواليه، فيخيّل إليهم الوهم أن ما جئتهم به لا يهديهم إلى سواء السبيل، وإنما تسحر به عقولهم وتسلب به ألبابهم. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي لكن إن شاء الله إيمان أحد منهم آمن- والمراد أنهم ما داموا على صفاتهم التي هم عليها من اقتراح الآيات فهم لا يؤمنون- لكن إن شاء الله أن يزيلها فعل. والخلاصة: إن فقد هؤلاء للاستعداد للإيمان، جار بحسب مشيئته تعالى ككل ما يجرى فى الوجود، ولو شاء غير ذلك لكان، ولكنه لا يشاء لأنه تغيير لسنته وتبديل لطباع الإنسان. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أي ولكن أكثر المؤمنين يجهلون عدم إيمانهم عند مجىء الآيات، لجهلهم سنة الله تعالى فى عباده وانطباقها على الأفراد والجماعات، لذلك يتمنى بعض المؤمنين لو يؤتى مقترحو الآيات ما اقترحوا، ظنّا منهم أن ذلك يكون سبب إيمانهم، مع أن الآيات لا تلزمهم الإيمان ولا تغيّر طباع البشر فى اختيار ما يترجّح لدى كل منهم بحسب ما يؤدّيه إليه فكره وعقله: ولو شاء الله لخلق الإيمان فى قلوبهم خلقا بحيث لا يكون لهم فيه عمل ولا اختيار- وحينئذ لا يكونون محتاجين إلى الرسل كما أنه لو شاء- جعل الآيات مغيّرة لطبائع البشر وملزمة لهم أن يؤمنوا فيكون الإيمان إلجاء وقسرا، لا اختيارا وكسبا، ولكنه لم يشأ ذلك بدليل قوله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» . قال ابن عباس كان المستهزءون بالقرآن خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاصي ابن وائل السهمي، والأسود بن يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، والحرث بن حنظلة. أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى رهط من أهل مكة وقالوا أرنا الملائكة

يشهدوا بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم (أحق ما تقول أم باطل؟) أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا، فنزلت الآية. ثم أراد بعدئذ تسلية نبيه صلّى الله عليه وسلم ببيان أن سنته فى الخلق أن يكون للنبيين أعداء من الجن والإنس فقال: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) أي كما جعلنا هؤلاء ومن لفّ لفّهم أعداء لك جعلنا لكل نبى جاء قبلك أعداءهم شياطين الإنس والجن- قال مجاهد وقتادة والحسن: إن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين- وأيده ابن جرير بما رواه أبو ذرّ، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له عقب صلاة: «يا أبا ذر هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت يا رسول الله وهل للإنس شياطين؟ قال نعم» وجاء فى سورة البقرة «وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ» الآية. ومعنى جعلهم أعداء للأنبياء: أن سنة الله قد جرت بأن يكون الشرّير الذي لا ينقاد للحق كبرا وعنادا أبو جمودا على ما تعود- عدوا للداعى إليه من الأنبياء وورثتهم وناشرى دعوتهم، وهكذا الحال فى كل ضدين يدعوا أحدهما إلى خلاف ما عليه الآخر، فى الأمور الدينية أو الاجتماعية، وهذا ما يعبر عنه بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تدعو إلى التنافس والجهاد وتكون العاقبة انتصار الحق، وبقاء الأمثل الأصلح كما قال تعالى: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» فالحياة جهاد لا يثبت فيه إلا الصابرون المجدّون، وليس العمل للآخرة إلا كذلك، «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» . ثم بين بعدئذ أن من أثر عداء هؤلاء الشياطين للأنبياء- مقاومتهم للهداية والدعوة التي كلفوا بها فقال:

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) أي يلقى بعضهم إلى بعض القول الموّه الذي به يظنون أنهم يسترون قبيح باطلهم، ويؤدونه بطرق خفية لا يفطن إلى باطلها كل أحد حتى يغرّوا غيرهم ويخدعوه ويميلوه إلى ما يريدون. وأول مثل لهذا الغرور ما وسوس به الشيطان للانسان الأول وزوجه الكريم (آدم وحواء) فزين لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها كما قال: «وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» . وهكذا يوسوس شياطين الإنس والجن لمن يجترحون السيئات ويرتكبون المعاصي فيزينون لهم ما فيها من عظيم اللذة والتمتع بالحرية، ويمنّونهم بعفو الله ورحمته، وشفاعة أنبيائه وأوليائه حتى ليترنم أحدهم بقوله: تكثّر ما استطعت من الخطايا ... فإنك واجد ربّا غفورا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) أي ولو شاء ربك ألا يفعلوا هذا الغرور ما فعلوا، ولكنه لم يشأ أن يغيّر خلقهم أو يجبرهم على خلاف ما تزينه لهم أهواؤهم، بل شاء أن يكون الإنس والجن على استعداد لقبول الحق والباطل والخير والشر، وأن يكونوا مختارين سلوك أي الطريقين كما قال «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» . (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) من الكذب ويخترعون من الإفك، صرفا للناس عن سبيل الحق، وسعيا فى إضلالهم وصدهم عن طريق الرشاد، وامض لشأنك كما أمرت فعليك البلاغ، وعلينا الحساب والجزاء، وسترى سنتنا فيهم وفى أمثالهم، وقد أراه عاقبة أمرهم فأهلك المستهزئين بالقرآن ونصره على أعدائه المشركين «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» . (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي يوحى بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المموّه من القول به ليغروا المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم، ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، لأنه الموافق لأهوائهم إذ هم يميلون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل، ومموّهات الأباطيل.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 إلى 115]

أما الذين ينظرون إلى عواقب الأمور فيعلمون بطلانها، فلا تغرنهم تلك الزخارف ولا تعجبهم تلك الأباطيل. (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي وليترتب على ذلك أيضا أن يرضوه لأنفسهم بلا بحث ولا تمحيص فيه، وأن يكتسبوا معه من الآثام والمعاصي ما هم مكتسبون بغرورهم به ورضاهم عنه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 115] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) تفسير المفردات الحكم: من يتحاكم إليه الناس ويرضون حكمه- مفصلا: مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام، إلى غير ذلك من الأحكام- الممترين: المترددين الشاكّين، والكلمة هنا: القرآن، وتمام الشيء كما قال الراغب: انتهاؤه إلى حد لا يحتاج معه إلى شىء خارج عنه، وتمامها هنا: أنها كافية وافية فى الإعجاز والدلالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم، والصدق يكون فى الأخبار ومنها المواعيد، والعدل: يكون فى الأحكام. والتبديل: التغيير بالبدل. المعنى الجملي بعد أن بين فى سابق الآيات أن الذين اقترحوا الآيات الكونية، وأقسموا أنهم يؤمنون إذا جاءتهم- كاذبون فى أيمانهم وأنهم ما هم إلا من شياطين الإنس الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وأن دأبهم صرف الناس عن اتباع الحق وتزيين الباطل، فيغتر بهم من لا يؤمن بالآخرة ويرضى بهم لموافقتهم أهواءه.

الإيضاح

ذكر هنا الآية الكبرى، وهى القرآن الكريم فهو أقوى الأدلة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا، هو الذي يجب الرجوع إليه فى أمر الرسالة واتباع حكمه فيها، دون أولئك الضالين المبطلين، من شياطين الإنس والجن. الإيضاح (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا) أي ليس لى أن أتعدى حكم الله ولا أن أتجاوزه لأنه لا حكم أعدل من حكمه، ولا قائل أصدق منه، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، فيه كل ما يصح به الحكم، وإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرهما على لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأظهر آية على أنه من عند الله، لا من عنده، كما جاء فى قوله: «فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ» أي جاوزت الأربعين ولم يصدر عنى مثله فى علومه ولا فى أخباره بالغيب ولا فى فصاحته وبلاغته. والخلاصة- إنكم تتحكمون فى طلب المعجزات، لان الدليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، قد حصل بوجهين: (1) إنه أنزل إليكم الكتاب المفصل المشتمل على علوم كثيرة، بأسلوب عجز الخلق عن معارضته، فيكون هذا دليلا على أن الله قد حكم بنبوته. (2) ما ذكر بعد، من أن التوراة والإنجيل تشتملان على الآيات الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم رسول حق وأن القرآن كتاب حق من عند الله. ثم ذكر ما يؤكد ما سبق فقال: (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) أي إن أنكر هؤلاء المشركون أن يكون القرآن حقا وكذّبوا به، فالذين أعطيناهم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى يعلمون أنه منزل من ربك بالحق.

ذاك أنهم يعلمون أنه من جنس الوحى الذي نزل على أنبيائهم وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتى بمثله- إلى أن كتبهم تشتمل على بشارات بذلك النبي لم تكن لتخفى على علمائهم فى عصر التنزيل كما قال تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» . وقد اعترف بذلك من أنار الله بصيرتهم من أهل الكتاب فآمنوا، وأنكر بعضهم الحق وكتمه بغيا وحسدا فباء بالخسران المبين. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الخطاب إما للنبى صلّى الله عليه وسلم والمراد به غيره على طريق التعريض كقوله: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وتقدم الكلام على مثل هذا وإما- له والمراد النهى عن الشك فى أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل بالحق- أو الخطاب لكل من يتأتى منه الامتراء على مثال قوله: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ» (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا) قد تطلق الكلمة على الجملة والطائفة من القول فى غرض واحد فإذا كتب أحد أو خطب فى موضوع ما قيل كتب أو قال كلمة، وكانوا يسمون القصيدة كلمة، وقالوا كلمة التوحيد يعنون (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) والمراد بها هنا ما أريد بها فى قوله: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والمعنى- وتمت كلمة ربك فيما وعدك به من نصرك، وأوعد به المستهزئين بالقرآن من الخذلان والهلاك، كما تمت فى الرسل وأعدائهم من قبلك كما قال: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» . وتمامها صدقا هو حصولها على الوجه الذي أخبر به، وتمامها عدلا باعتبار أنها جزاء للكافرين المعاندين للحق بما يستحقون، وللمؤمنين بما يستحقون أيضا، وقد يزادون على ذلك فضلا من الله ورحمة، والمراد بالخبر هنا لازمه وهو تأكيد ما تضمنته الآيات من تسلية النبي صلّى الله عليه وسلم على كفر هؤلاء المعاندين وإيذائهم له ولأصحابه، وإيئاس للطامعين من المسلمين فى إيمانهم حين إيتائهم الآيات المقترحة.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 116 إلى 121]

وخلاصة المعنى- كما أن سنتى قد مضت بأن يكون للرسل أعداء من شياطين الإنس والجن، تمت كلمتى بنصر المسلمين وخذلان الأعداء المفسدين. (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي إن كلمة الله في نصرك وخذلان أعدائك قد تمت وأصبحت واقعة نافذة حتما لا مرد لها، لأن كلمات الله لا مبدل لها، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يزيلها بكلمات أخرى تخالفها وتمنع صدقها على من وردت فيهم، كأن يجعل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا، أو يصرفهما عن الموعود بالثواب أو الموعد بالعقاب إلى غيرهما، أو يحول دون وقوعهما. والخلاصة- إنه لا مغيّر لما أخبر عنه من خبر أنه كائن فيبطل مجيئه، وكونه على ما أخبر جل ثناؤه. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه تعالى سميع لتلك الأقوال الخادعة عنهم، عليم بما فى قلوبهم من المقاصد والنيات، وبما يقترفون من الذنوب والسيئات. [سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 121] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أجاب سبحانه عن شبهات الكفار وبين بالدليل صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم- ذكر هنا أنه لا ينبغى الالتفات إلى ما يقوله هؤلاء الجهال، لأنهم يسلكون سبيل الضلال والإضلال، ويتبعون الظنون الفاسدة الناشئة من الجهل والكذب على الله، فلا ينبغى الركون إليهم والعمل بآرائهم. وفى سياق الحديث ذكر أن أكثر الأمم فى عهد بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا ضلالا يغلب عليهم الشرك، بعد أن أبان ضلال مشركى العرب ومن على شاكلتهم فى عقائدهم ثم أردف ذلك بيان مسألة هامة لها خطرها وهى من أصول الشرك، تلك هى مسألة الذبائح لغير الله. الإيضاح (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي وإن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرعه الله، وأودعه كلماته المنزلة عليك، يضلوك عن الدين الحق، وعن نهج الصواب، فلا تتبع أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك من الكتاب مفصلا، فهو الهداية التامة الكاملة، فادع إليه الناس كافة. ثم أكد ما سبق بقوله: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الخرص: القول بالظن قول من لا يستيقن، أي إن هؤلاء لا يتبعون فى عقائدهم وأعمالهم إلا الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم- وما هم إلا يخرصون فى ترجيح بعض منها على بعض، كما يخرص أرباب النخيل والكروم ثمرات نخيلهم وأعنابهم، ويقدرون ما تجود به من التمر والزبيب تخمينا وحدسا

دون تحقيق لذلك، ولا برهان لهم على ما يقولون، فهم يكذبون على الله فيما ينسبونه إليه من اتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه، وتحليل المينة والبحائر ونحو ذلك. وتاريخ تلك العصور يؤيد الحكم القطعي الذي فى الآية من ضلال أكثر أهل الأرض، واتباعهم للخرص والظن فأهل الكتاب من اليهود والنصارى قد تركوا هداية أنبيائهم، وضلوا ضلالا بعيدا، وكذلك الأمم الوثنية، التي كانت أبعد عهدا عن هداية الرسل والأنبياء. وهذا من علم الغيب الذي أوتيه ذلك النبي الأمى، وهو لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا النذر اليسير من شئون الأمم المجاورة لبلاد العرب. ثم أعقبه بتأكيد آخر زيادة فى التحذير فقال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك الذي رباك وعلمك بما أنزله إليك، وبين لك ما لم تكن تعلم من الحق ومن شئون الخلق- هو أعلم منك ومن سائر عباده، بمن يضل عن سبيله القويم، وبمن هو من المهتدين، السالكين صراطه المستقيم، ففوّض أمرهم إلى خالقهم فهو العليم بالضال والمهتدى، ويجازى كلا بما يليق بعمله. وبعد أن أبان لرسوله صلّى الله عليه وسلم أن أكثر أهل الأرض يضلّون من أطاعهم، لأنهم ضالون خرّاصون، وأنه تعالى هو العليم بالضالين والمهتدين- أمر رسوله وأتباعه بمخالفة أولئك الضالين، من قومهم ومن غيرهم فى مسألة الذبائح وترك جميع الآصار والآثام، فقال: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كان حال أكثر هؤلاء الناس ما بينته لكم من الضلال فكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح دون غيره، إن كنتم بآياته التي جاءتكم بالهدى والعلم مؤمنين، وبما يخالفها من الضلال والشرك مكذبين.

وقد كان مشركو العرب وغيرهم من أرباب الملل والنحل يجعلون الذبائح من أمور العبادات، ويقرنونها بأصول الدين والاعتقادات، فيتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم ومن قدّسوا من رجال دينهم، ويهلون لهم عند ذبحها، وهذا شرك بالله، لأنه عبادة يقصد بها غيره، سواء سمّوه إلها أو معبودا أو لم يسموه، وقد وقع كثير من المسلمين فى مثل ما كان عليه أولئك الضالون المشركون من مشركى العرب وسواهم فذبحوا باسم بعض الأولياء والصالحين، وسيّبوا لهم السوائب، فتراهم ينذرون العجول والخراف للسيد البدوي وغيره من أرباب الأضرحة والقبور ممن يستشفعون بهم إلى ربهم فى زعمهم، وهذا شرك صريح. (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) العرب تقول مالك ألا تفعل كذا، على معنى وأي شىء يمنعك من ذلك؟ والمراد هنا وأي شىء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي وقد فصل لكم ما حرمه عليكم وبينه بما سيأتى فى قوله: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» ومعنى أهلّ لغير الله به أي ذكر عليه اسم غيره عند ذبحه كالأصنام والأنبياء والصالحين الذين وضعت التماثيل ذكرى لهم. (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي إلا ما دعتكم الضرورة إلى أكله بأن لم يوجد من الطعام عند شدة الجوع إلا المحرم فحينئذ يزول التحريم. والقاعدة الشرعية «الضرورات تبيح المحظورات» والقاعدة الأخرى «الضرورة تقدّر بقدرها» فيباح للمضطر ما تزول به الضرورة ويتّقى به الهلاك أكثر منه. (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي وإن كثيرا من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم الزائغة وشهواتهم الفاسدة من غير علم منهم بصحة ما يقولون، ولا برهان على ما فيه يجادلون، اعتداء وخلافا لأمر الله ونهيه وطاعة للشياطين، كعمرو بن لحىّ

وقومه الذين اتخذوا البحائر والسوائب، وأحلوا أكل الميتة، وما أهل به لغير الله بذكر اسم ذلك من نبى أو وثن أو صم. وأصل عبادة الأوثان أنه كان فى القوم الذين أرسل إليهم نوح رجال صالحون، فلما ماتوا وضعوا لهم أنصابا ليتذكروهم بها ويقتدوا بهم، ثم صاروا يكرمونها لأجلهم، ثم خلف من بعدهم خلف جهلوا حكمة وضعها لكنهم حفظوا تكريمها، والتبرك بها، تدينا وتوسلا إلى الله، فكان ذلك عبادة لها وتسلسل فى الأمم بعدهم، وقد روى البخاري عن ابن عباس: إن المضلين يبنون شبهاتهم على جميع أنواع العبادة التي عبدوا بها غير الله كالتوسل به ودعائه، وطلب الشفاعة منه، وذبح القرابين باسمه، والطواف حول تمثاله أو قبره والتمسح بأركانهما، وكل ذلك شرك فى العبادة، شبهته تعظيم المقربين من الله تعالى للتقرب بهم إليه. وقد انتشرت هذه الشبهات الوثنية فى أرباب الكتب الإلهية، وأولوا لأجلها النصوص القطعية وأنكروا تسمية ذلك عبادة، أو أن هذه العبادة إذا كانت لغير الله لجعله واسطة ووسيلة إليه لا تعد شركا به، وما الشرك فى العبادة إلا هذا. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) أي إن ربك الذي أرشدك وهداك هو أعلم منك ومن سائر خلقه بالمعتدين الذين يتجاوزون ما أحله إلى ما حرمه عليهم، أو يتجاوزون حد الضرورة عند وقوعها. وفى هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى. وفى الآية إيماء إلى تحريم القول فى الدين بالتقليد لأن ذلك من اتباع الأهواء، بغير علم، إذ المقلد غير عالم بما قلّد فيه. (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) الإثم لغة ما قبح، وشرعا ما حرمه الله، والله لم يحرم على عباده إلا ما كان ضارا بالأفراد فى أنفسهم أو فى أموالهم أو فى عقولهم أو فى أعراضهم أو فى دينهم، أو ضارا بالجماعات فى مصالحهم السياسية أو لاجتماعية. والظاهر منه ما تعلق بأفعال الجوارح، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب، كالكبر والحسد وتدبير المكايد الضارة والشرور للناس، ومنه الاعتداء فى أكل المحرم الذي

يباح للمضطر بأن يتجاوز فيه حد الضرورة كما بينه الله بقوله: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وهذه الجملة من جوامع الكلم والأصول العامة فى تحريم الآثام، ومن ثم قال ابن الأنبارى: المراد بذلك ترك الإثم من جميع جهاته كما تقول ما أخذت من هذا المال لا قليلا ولا كثيرا تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي إن الذين يكسبون نوعا من الآثام الظاهرة أو الباطنة سيلقون جزاء إنهم وعاقبة كسبهم للذنوب التي أفسدت فطرتهم ودست نفوسهم بإصرارهم عليها ومعاودتها المرة بعد المرة. أما الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويمحو تأثير الإثم فى قلوبهم، بما يفعلونه من الحسنات كما قال تعالى: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» وبذلك تعود نفوسهم زكية وتلقى ربها سليمة نقية من أدران السوء التي كانت قد وقعت منها لما ما. واتفق المسلمون على أن التوبة تمحو الحوبة: أي أن التوبة الصحيحة بالعزم الصادق والندم على مافات تمحو آثار الذنب الماضي، فإن الله قد يعفو عن المذنب فيغفر له ما فرط منه من الذنوب كما قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» . ثم صرح سبحانه بالنهى عن ضد ما فهم من الأمر السابق وهو قوله: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) لشدة العناية به لأنه من أظهر أعمال الشرك فقال: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي ولا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه، ولا ما أهل لغير الله به مما ذبحه المشركون لأوثانهم فإن أكل ذلك فسق ومعصية كما جاء فى الآية الأخرى «أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» . [تنبيه] : قال مالك: كل ما ذبح ولم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام، ترك لذكر

عمدا أو سهوا، وقال أبو حنيفة إن ترك الذكر عمدا حرم، وإن ترك نسيانا حل، وقال الشافعي: متروك التسمية عمدا أو سهوا حلال إذا كان الذابح مسلما. (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) أي وإن شياطين الإنس والجن الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ليوحون إلى أوليائهم بالوسوسة والتلقين الخادع ما يجادلونكم به من الشبهات، وإن أطعتموهم فيها فجاريتموهم فى هذه العبادة الوثنية الباطلة إنكم لمشركون مثلهم، فإن التعبد لغير الله شرك كدعاء غير الله وسائر ما يتوجه به من العبادات لغيره وإن كان لأجل التوسل بذلك الغير إليه ليقرّب المتوسّل إليه زلفى ويشفع له عنده كما يفعل أهل الوثنية. وأولياء الشياطين لم يجادلوا أحدا من المؤمنين فيما لم يذكر اسم الله عليه ولا اسم غيره عليه من الذبائح المعتادة التي لا يقصد بها العبادة، فمن يأكل هذه الذبائح لا يكون مشركا، وكذلك من يأكل الميتة، بل يكون عاصيا إن لم يكن مضطرا. قال عكرمة: وإن الشياطين يعنى مردة المجوس، ليوحون إلى أوليائهم من مشركى قريش زخرف القول ليصل إلى نبى الله وأصحابه ممن أكل الميتة، ذلك أنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة: إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام. فوقع فى أنفس ناس من المسلمين من ذلك شىء فأنزل الله هذه الآية ثم قال: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) يعنى فى استحلال الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى، أو حرّم شيئا مما أحل الله تعالى فهو مشرك، لأنه أثبت مشرّعا سوى الله، وهذا هو الشرك بعينه. وما يذبح عند استقبال ملك أو أمير أو وزير أفتى بعض الحنفية بتحريم أكله لأنه مما أهلّ به لغير الله. وقال بعض الشافعية: هم إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو

[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 إلى 123]

كذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم، وهذا هو الراجح الذي عليه المعوّل. [سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 123] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) تفسير المفردات المثل: الصفة والنعت. الأكابر واحدهم أكبر أو كبير: وهو الرئيس، والمجرمون: فاعلو الإجرام، والإجرام: هو ما فيه الفساد والضرر من الأعمال، والقرية. البلد الجامع للناس (العاصمة فى عرف هذا العصر) وقد تطلق بمعنى الشعب أو الأمة، ويرادفها البلد فى اصطلاح هذا العصر فيقولون ثروة البلد، مصلحة البلد ويريدون الأمة، والمكر: صرف المرء غيره عما يريده إلى غيره بضرب من الحيلة فى الفعل، أو الخلابة فى القول. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أن أكثر أهل الأرض ضالون متبعون للظن، والحدس، وأن كثيرا منهم يضلون غيرهم بأهوائهم بغير علم، وأن الشياطين منهم العاتين عن أمر ربهم يوحون إلى أوليائهم ما يجادلون به المؤمنين ليضلوهم ويحملوهم على اقتراف الآثام، ويحملوهم أيضا على الشرك بالله بالذبح لغيره والتوسل به إليه وهو عبادة له- ضرب هنا مثلا يستبين به الفرق بين المؤمنين المهتدين للاقتداء بهم، والكافرين الضالين للتنفير من طاعتهم والحذر من غوايتهم مع ذكر السبب فى استحسان الكافرين لأعمالهم وهو

الإيضاح

تزيين الشيطان لهم ما يعملون، ومن ثم انغمسوا فى ظلمات لا خلاص لهم منها، وأصبحوا فى حيرة وتردد على الدوام. الإيضاح (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟) أي أأنتم أيها المؤمنون كأولئك الشياطين أو كأوليائهم الذين يجادلونكم بما أوحوه إليهم من زخرف القول الذي غرّوهم به؟ أفمن كان ميتا بالكفر والجهل فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس وهو نور القرآن المؤيد بالحجة والبرهان، يمشى به فى الناس على بصيرة من أمر دينه وآدابه ومعاملاته للناس كمن مثله المبين لحاله مثل السائر فى ظلمات بعضها فوق بعض (ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر) وهو ليس بخارج منها لأنه يبقى متحيرا لا يهتدى إلى وجه صلاحه، فيستولى عليه الخوف والفزع والعجز والحيرة الدائمة. وكذلك الخابط فى ظلمات الجهل والتقليد الأعمى وفساد الفطرة ليس بخارج منها، لأنها قد أحاطت به وألفتها نفسه فلم يعد يشعر بالحاجة إلى الخروج منها إلى النور، بل ربما شعر بالألم من هذا النور المعنوي كما يألم الخفّاش بالنظر إلى النور الحسى. والخلاصة- إنه ينبغى للمسلم أن يكون حيا عالما على بصيرة فى دينه وأعماله وحسن سيرته، وأن يكون القدوة والأسوة للناس فى الفضائل والخيرات والحجة على فضل دينه على سائر الأديان. (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي مثل هذا التزيين الذي تضمنه المثل السابق، وهو تزيين نور الهدى والدين لمن أحياه الله حياة عالية، وتزيين ظلمات الضلال والكفر لموتى القلوب، قد زيّن للكافرين ما كانوا يعملون من الآثام كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله وتحريم مالم يحرمه الله وتحليل ما حرمه بمثل تلك الشبهات التي تقدم ذكرها.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) أي وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا فى كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، فزين لهم بحسب سننا فى البشر سوء أعمالهم فى عدوان الرسل ومقاومة الإصلاح اتباعا للهوى، واستكبارا فى الأرض. ومجمل القول: إن سنة الله فى الاجتماع البشرى قد قضت أن يكون فى كل عاصمة لشعب أو أمة بعث فيها رسول أو لم يبعث- زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبسائر المصلحين من بعدهم، وهكذا كان الحال فى أكثر أكابر الأمم والشعوب ولا سيما فى العصور التي تكثر فيها المطامع ويعظم حب الرياسة والكبرياء فتراهم يمكرون بالأفراد والجماعات، فيحفظوا رياستهم ويعززوا كبرياءهم كما يمكرون بغيرهم من الساسة والرؤساء إرضاء لمطامع أمتهم وتعزيز نفوذ حكومتهم بين الشعوب والدول. والمراد بالأكابر المجرمين من يقاومون دعوة الإصلاح ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم، وكان أكثر أكابر مكة كذلك، وتخصيص الأكابر بذلك لأنهم أقدر على المكر واستتباع الناس لهم. (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) أي وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل فى عصرهم ودعاة الإصلاح من ورثتهم من بعدهم- إلا بأنفسهم. وهكذا شأن من يعادون الحق والعدل ليبقى لهم ما هم عليه من فسق وفساد، لأن سنة الله قد جرت بأن عاقبة المكر السيء تحيق بأهله فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فبما ثبت فى القرآن من نصر المرسلين وهلاك الكافرين المعاندين، ومن علو الحق على الباطل، ومن هلاك القرى الظالمة، وبما أيده الاختبار ودلّت عليه نظم العمران من أن تنازع البقاء يقضى ببقاء الأمثل والأصلح «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» . وقد أشارت الآيات إلى أن هذا كان سنة الله فى الأولين فقال: «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 124 إلى 127]

وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» أي فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم، لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم، لجهلهم بسنن الله فى خلقه، وهم خليقون بهذا الجهل. وأما فى الآخرة فالأمر واضح والنصوص متظاهرة على ذلك. وهذه الجملة متضمنة لوعيد الماكرين من مجرمى أهل مكة، وفيها وعد وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. [سورة الأنعام (6) : الآيات 124 الى 127] وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) تفسير المفردات الصغار والصّغر (بالتحريك) : الذل والهوان جزاء الكفر والطغيان، وهو قلة فى الأمور المعنوية. والصّغر (بزنة عنب) قلة فى الأمور الحسية، والصاغر: الراضي بالمنزلة الدنيّة. وشرح الصدر: توسعته، ويراد به جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها وخلوها مما يكدرها، والضيق (بالتشديد والتخفيف) كهين وهين: ضد الواسع. والحرج: شديد الضيق من الحرجة وهى الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض بحيث

المعنى الجملي

يصعب الدخول فيه. روى أن عمر سأل أعرابيا من بنى مدلج عن الحرجة فقال: هى الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية، فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شىء من الخير. والرجس: كل ما يستقذر حسا أو عقلا أو شرعا، أو هو ما لا خير فيه، أو هو اللعنة فى الدنيا والعذاب فى الآخرة، صراط ربك: أي طريقه الذي ارتضاه وسنته التي اقتضتها حكمته، والمستقيم: ما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، دار السلام: هى الجنة، أو هى دار السلامة من المنغّصات والكروب، وليهم: أي متولى أمورهم وكافيهم كل ما يهمّهم. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السابقة أن سنته فى البشر قضت بأن يكون فى كل شعب أو أمة زعماء مجرمون يمكرون بالرسل وبدعاة الإصلاح، ويقاومون دعوتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا- ذكر هنا أن هذه السنة تنطبق أشد الانطباق على مجرمى أهل مكة الذين تعنتوا أشد التعنت فيما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم من الآيات، ثم ذكر بعد هذا سنة الله فى المستعدين للإيمان وغير المستعدين مع ظهور الحق فى نفسه. وقد نزلت هذه الآية فى الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإنى أكثر منه مالا وولدا. الإيضاح (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) أي وإذا جاءت أولئك المشركين آية بينة من القرآن تتضمن صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى قالوا لا نؤمن إلا إذا أتى على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها، مثل ما أوتى رسل الله كفلق البحر لموسى وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى.

وقال ابن كثير: أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتى إلى الرسل. وهذا بمعنى قوله: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» الآية. وخلاصة ذلك- إنهم لا يؤمنون بالرسالة إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم. وقد رد الله عليهم جهالتهم وبين لهم خطأهم بقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه وهذا كقوله: حكاية عنهم «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» الآية. يريدون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم مبجّل فى أعينهم من القريتين مكة والطائف، ذلك أنهم- جازاهم الله بما يستحقون- كانوا يزدرون الرسول صلّى الله عليه وسلم بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كما قال تعالى: «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» وهم مع ذلك كانوا يعترفون شرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه ومنشئه وكانوا يسمونه بالأمين، فكان ينبغى أن يكون فى ذلك مقنع لهم بأنه أولى من أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة، وبكل ما فيه الكرامة، ولكنه الحسد والبغي والتقليد. كل أولئك كان الباعث لهم على تلك الأقوال وعمل هاتيك الأفعال فى عداوته ومعاندته. والخلاصة- إن الرسالة فضل من الله يمنحه من يشاء من خلقه، لا يناله أحد بكسب، ولا يتصل إليه بسبب ولا نسب، ولا يعطيه إلا من كان أهلا له لسلامة الفطرة، وطهارة القلب، وحب الخير والحق. ثم أوعدهم وبين سوء عاقبتهم لحرمانهم من الاستعداد للإيمان فقال: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي سيصيب المجرمين الماكرين الذين قد قضت سنة الله أن يكونوا زعماء فى كل شعب دبّ فيه الفساد- عذاب شديد مكان ما تمنوه وعلّقوا به آمالهم من عز النبوة وشرف الرسالة

ومعنى كونه- من عند الله- أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره فإن ما هو ثابت عند الله فى حكمه التكويني الذي دبر به نظام الخلق، وحكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق- يقال إنه من عند الله، ويكون هذا جزاء لهم على استكبارهم عن الحق فى الدار الدنيا كما قال تعالى: «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . وعذاب الأمم فى الدنيا بذنوبها مطرد وعذاب الأفراد لا يطرد وإن كانوا من المجرمين الماكرين. وقد عذب الله فى الدنيا أكابر مجرمى أهل مكة الذين تصدوا لإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم والكيد له كالخمسة المستهزئين الذين سبق الكلام فيهم فقتل منهم من قتل فى بدر، ولحق الصغار والهوان بالباقين. ثم قفى على ذلك بالموازنة بينهم وبين المستعدين للايمان فقال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي فمن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبول دعوة الإسلام الذي هو دين الفطرة، والهادي إلى طريق الحق والرشاد وجد لذلك فى نفسه انشراحا واتساعا بما يشعر به قلبه من السرور فلا يجد مانعا من النظر الصحيح فيما ألقى إليه فيتأمله وتظهر له عجائبه وتتضح له دلالته، فتتوجه إليه إرادته ويذعن له قلبه، بما يرى من ساطع النور الذي يستضىء به لبّه، وباهر البرهان الذي يتملك نفسه. «وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن هذه الآية، قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود. والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» .

(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أي إن من فسدت فطرته بالشرك وتدنست نفسه بالآثام والذنوب يجد فى صدره ضيقا أيما ضيق إذا طلب إليه التأمل فيما يدعى له من دلائل التوحيد والنظر فى الآفاق والأنفس، لما استحوذ على قبله من باطل التقاليد والاستكبار عن مخالفة ما ألفه وسار عليه الناس، وتضعف إرادته عن ترك ما هو عليه فتكون إجابته الداعي إلى الدين الجديد ثقيلة عليه ويشعر بالعجز عن احتمالها ويكون مثله مثل من صعد فى الطبقات العليا فى جو السماء، إذ يشعر بضيق شديد فى التنفس، وكلما صعد فى الجو أكثر شعر بضيق أشد حتى إذا ما ارتفع إلى أعلى من ذلك شعر بتخلخل الهواء ولم يستطع سبيلا إلى البقاء فإن هو قد بقي فيها مات اختناقا. وخلاصة ذلك- إن الله ضرب مثلا لضيق النفس المعنوي يجده من دعى إلى الحق وقد ألف الباطل وركن إليه، بضيق التنفس الذي يجده من صعد بطائرة إلى الطبقات العليا من الجو حتى لقد يشعر بأنه أشرف على الهلاك وهو لا محالة هالك إن لم يتدارك نفسه وينزل من هذا الجو إلى طبقات أسفل. سبحانك ربى نطق كتابك الكريم بقضية لم يتفهم سرها البشر، ولم يفقه معرفة كنهها إلا بعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرنا، وتقدم فن الطيران الآن علّم الطيارين بالتجربة صدق ما جاء فى كتابك، ودل على صحة ما ثبت فى علم الطبيعة من اختلاف الضغط الجوى فى مختلف طبقات الهواء، وقد علم الآن أن الطبقات العليا أقل كثافة فى الهواء من الطبقات التي هى أسفل منها، وأنه كلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء وبضيق فى التنفس نتيجة لقلة الهواء الذي يحتاج إليه، حتى لقد يحتاجون أحيانا إلى استعمال جهاز التنفس ليساعدهم على السير فى تلك الطبقات. وهذه الآيات وأمثالها لم يستطع العلماء أن يفسروها تفسيرا جليا لأنهم لم يهتدوا لسرها، وجاء الكشف الحديث وتقدم العلوم فأمكن شرح مغزاها وبيان المراد منها

بحسب ما أثبته العلم، ومن هذا صح قولهم الدين والعلم صنوان لا عدوّان، وهكذا كلما تقدم العلم أرشد إلى إيضاح قضايا خفى أمرها على المتقدمين من العلماء والمفسرين. (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي كما جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام على هذا النحو فى سنة الله وتقديره بما تقدم ذكره من الأسباب، يجعل الرجس على الذين يعرضون عن الإيمان، فيظهر أثر ذلك فى تصرفاتهم وأعمالهم فيكون غالبا قبيحا سيئا فى ذاته أو فيما بعث عليه من قصد ونية، لأن الإيمان الذي اجتنبوه هو الذي يصدّ عنه ويطهر الأنفس منه. (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) أي وهذا الإسلام الذي يشرح الله له صدر من يريد هدايته، هو صراط ربك الذي بعثك به، وبين لك أصوله وعقائده بالبراهين الواضحة، والبينات الظاهرة، حال كونه مستقيما فى نظر العقول الراجحة، والفطر السليمة بعيدا من الإفراط والتفريط، فلا اعوجاج فيه ولا التواء، بل هو السبيل السوىّ وما عداه من الملل والنحل فهو معوج ملتو بما فيه من زيغ وفساد وخروج عن الجادّة التي يؤيدها العقل وتستند إلى النقل كما قال علىّ كرم الله وجهه فى نعت القرآن: هو صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم. (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي قد وضحنا آياته وفسرناها لقوم يتذكرون ما بلّغوه منها كلما عرضت الحاجة إليه فيزدادون بذلك يقينا ورسوخا فى الإيمان، كما يزدادون موعظة تبعثهم على الإذعان والعمل الصالح. (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي لهؤلاء السالكين صراط ربهم المستقيم دار السلام عنده بسلوكهم صراطه الموصل إليه بما أسلفوا من عمل، إذ هم قد اقتفوا آثار الأنبياء وطرائقهم وسلموا من الاعوجاج فوصلوا إلى دار السلام. (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى متولى أمورهم وكافيهم كل ما يعنيهم

[سورة الأنعام (6) : آية 128]

جزاء على صالح أعمالهم التي تزكى نفوسهم وتصلح حالهم فى الدنيا والآخرة، فيتولى رعايتهم وتوفيقهم فى الدنيا، وينيلهم الثواب ويدخلهم جنات النعيم بمنه وكرمه. [سورة الأنعام (6) : آية 128] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) تفسير المفردات المعشر والنفر والقوم والرهط: الجمع من الرجال فحسب، ولا واحد لها من لفظها، وقال الليث: المعشر كل جماعة أمرهم واحد نحو معشر المسلمين ومعشر الكافرين، ويطلق على الإنس والجن بدليل الآية، واستكثر: أخذ الكثير، يقال استكثر من الطعام: أكل كثيرا، وأولياؤهم: هم الذين تولوهم أي أطاعوهم فى وسوستهم وما ألقوه إليهم من الخرافات والأوهام، والاستمتاع بالشيء: جعله متاعا، والمتاع ما ينتفع به انتفاعا طويلا ممتدا وإن كان قليلا، وبلغنا أجلنا: أي وصلنا يوم البعث والجزاء، والمثوى: مكان الثواء، أي الإقامة والسكنى، والخلود: المكث الطويل غير المؤقت بوقت. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما أعده من العذاب للمجرمين، وما أعده من الثواب والنعيم فى دار السلام للمؤمنين، إثر بيان أحوالهم وأعمالهم التي استحق بها كل منهما جزاءه.

الإيضاح

قفى على ذلك بذكر ما يكون قبل هذا الجزاء من الحشر وبعض ما يكون فى يومه من الحساب، وإقامة الحجة على الكفار، وسنة الله فى إهلاك الأمم. الإيضاح (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي ويوم يحشر الله تعالى الإنس والجن جميعا يقول لمعشر الجن منهم: يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس أي استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟» . والمراد أنهم استتبعوهم بسبب إضلالهم إياهم فحشروا معهم، لأن المكلفين يحشرون يوم القيامة مع من اتبعوهم فى الحق والخير، أو فى الباطل والشر. (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي وقال الذين تولوا الجن من الإنس فى جواب الرب تعالى: ربنا تمتع كل منا بالآخر بما كان للجن من اللذة فى إغوائنا بالأباطيل وأهواء الأنفس وشهواتها، وبما كان لنا فى طاعتهم ووسوستهم من اللذة فى اتباع الهوى والانغماس فى اللذات، قال الحسن البصري: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس اهـ. وفى الآية إيماء إلى أن كل إنسى يوسوس له شيطان من الجن بما يزيّن له من الباطل وبما يغريه من الفسق والفجور. فهذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح الشريرة يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوّى فيها داعيتهما كما تلابس جنّة الحيوان الخفية (الميكروبات) الأجساد الحيوانية فتفسد مزاجها وتصيبها بالأمراض والأدواء، فقد أثبت الطب الحديث دخول النسم (النسم لغة: كل ما فيه روح) الحية (الميكروبات) فى الأجسام، وعرفت الطرق والمداخل الخفية لدخولها بما استحدث من المناظير (الميكروسكوبات) التي تكبر

الصغير حتى يرى أكبر من حقيقته بألوف الأضعاف، فأمكن أن نعرف أن فى الأرض أنواعا من النسم الخفية تدخل الأجسام من خراطيم البراغيث أو البعوض أو القمل، أو مع الماء والطعام، وتنمو فيها بسرعة مدهشة فتولد ألوف الألوف، ومتى تكاثرت ولدت الأمراض والأوبئة القاتلة، ولو كان قد قيل: مثل هذا لأكبر أطباء لمصريين القدامى أو للهنود أو اليونان أو العرب لغدّوه نوعا من الشعوذة والسحر أو ضربا من التخيل والجنون. وإذا كان هذا الاتصال الخفي قد ثبت فى الأجساد بعد آلاف السنين فلا عجب أن يثبت مثل ذلك فى الأرواح، وأمرها أخفى من الأجساد، والكتاب والسنة مليئان بهذا، فقد جاء فى الحديث ما يدل على وجود هذه الجراثيم (الميكروبات) التي لم يثبتها الطب إلا حديثا، وكفى بهذا معجزة لمحمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم ودلالة على أن الله أوحى إليه بنظريات لم يثبتها العلم إلا بعد ذلك بأربعة عشر قرنا، فقد روى أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «تنكّبوا الغبار فإن منه تكون النسمة» وقال عمرو بن العاص: اتقوا غبار مصر فإنه يتحول فى الصدر إلى نسمة، ولو أن هذا الأثر قيل لغير المتمدينين وفسر لهم هذا التفسير قبل اختراع المناظير لكان فتنة للناس وزادهم نفورا مما جاء به الرسول، ولكن فى كل يوم يثبت العلم نظريات جديدة تكون نعم العون على صدق ما جاء به الرسول، وتلقى نورا على الناس ينظرون به تلك الدرر الغوالي المبثوثة فى القرآن والحديث وآثار الصدر الأول من المسلمين. (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي ووصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا وهو يوم البعث والجزاء، وقد اعترفنا بذنوبنا فاحكم فينا بما تشاء وأنت الحكم العدل. ومقصدهم من هذا الإخبار إظهار الحسرة والندامة على ما كان منهم من التفريط فى الدنيا وتفويض الأمر إلى ربهم العليم بحالهم، ولم يذكر هنا قول المتبوعين من الشياطين وحكاه فى آي أخرى فقال فى الفريقين «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 129 إلى 132]

وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» وكما ذكر فى سورة البقرة كيف يتبرأ بعضهم من بعض، وحكى فى سورة إبراهيم أقوال كل من الضعفاء التابعين من الناس وأقوال المتكبرين المتبوعين وقول الشيطان للفريقين وتنصله من استحقاق الملام وكفره بما أشركوا. (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي قال الله تعالى ردا عليهم: النار منزلكم وموضع إقامتكم إقامة خلود إلا ما يشاء الله مما يخالفه ذلك، فكل شىء بمشيئته واختياره، فإن شاء أن يرفعه كله أو بعضه عنكم أو عن بعضكم فعل، فله السلطان الكامل والنفوذ الأعلى، ولكن هل يشاء ذلك؟ هذا مما يتعلق بعلمه وحده ولا يعلمه غيره إلا بإعلامه. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى حكيم فيما تتعلق به مشيئته من الجزاء الذي نص عليه فى كتابه، عليم بما يستحقه كل من الفريقين، والبشر لا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء. روى ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن هذه الآية آية لا ينبغى لأحد أن يحكم على الله فى خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارا [سورة الأنعام (6) : الآيات 129 الى 132] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن حكى عز اسمه عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضا- أردف ذلك ببيان أن ذلك يحدث بتقديره تعالى وقضائه. الإيضاح (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تولية الله الناس بعضهم بعضا جعل بعضهم أنصارا وأولياء لبعض، إما بمقتضى أمره فى شرعه ومقتضى سنّته وتقديره كما فى ولاية المؤمنين بعضهم بعضا فى الحق والخير والمعروف، فقد أمرهم بذلك فى شرعه ونهاهم عن ضده، وهو أيضا مقتضى الإيمان الصادق وأثره الذي لا ينفك عنه بحسب تقديره الذي مضت به سنته فى خلقه، وإما بمقتضى سنته وتقديره فحسب وهو ولاية الكفار المجرمين والمنافقين بعضهم بعضا، إذ هذا أثر مترتب على الاتفاق فى الاعتقاد. والأخلاق واشتراك المنفعة بحسب تقديره تعالى وسنته فى نظم الحياة البشرية، وهو لم يأمرهم بشىء مما يتناصرون به فى الباطل والشر والمنكر، بل نهاهم عن ذلك، ولكن شأن الأفراد والجماعات أن يميل كل منهم إلى من كان على شاكلته ويتولاه بالتعاون والتناصر فيما هم فيه مشتركون ويناوئون من يخالفهم فى ذلك. أي ومثل ذلك الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض فى الدنيا، لما بينهم من التناسب والمشاكلة نولى بعض الظالمين بعضا لأنفسهم وللناس، بسبب ما كانوا يكسبون باختيارهم من أعمال الظلم المشتركة بينهم. روى عن قتادة أنه قال فى تفسير الآية: إنما يولى الله بين الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولىّ المؤمن من أين كان وحيث كان والكافر ولىّ الكافر من أين كان وحيثما كان وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولعمرى لو عملت بطاعة الله ولم تعرف أهل طاعة الله ما ضرّك ذلك، ولو عملت بمعصية الله وتولّيت أهل طاعة الله ما نفعك ذلك شيئا اهـ.

وروى أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمّر عليهم شرارهم اهـ. ذاك أن الملوك يتصرفون فى الأمم الجاهلة الضالة تصرف الرعاة فى الأنعام السائمة، فهم يتخذون الوزراء والحاشية من أمثالهم فيقلدهم جمهور الأمة فى سيىء أعمالهم، فيغلب الفساد على الصلاح، ويفسقون عن أمر الله فيهلكون، أو يسلط عليهم الأمم القوية التي تستبيح حماهم وتثلّ عروشهم ويصبحون مستعبدين أذلاء بعد أن كانوا سادة أعزاء كما قال سبحانه: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» اما الأمم العالمة بسنن الاجتماع التي أمرها شورى بين زعمائها وأهل الرأى فيها، فلا يستطيع الملوك أن يتصرفوا فيها كما يشاءون، بل يكونون تحت مراقبة أولى الأمر فيها. وقد وضع الإسلام هذا الدستور فجعل أمر الأمة بين أهل الحل والعقد، وأمر الرسول بالمشاورة، فسار على هذا النهج. وجعلت الولاية العامة- الخلافة- بالانتخاب. واقتفى الخلفاء الراشدون خطواته وجروا على سنته، فقال الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه فى أول خطبة له: أما بعد فإنى قد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينونى، وإذا زغت فقوّمونى. وقال الخليفة الثاني على المنبر: من رأى منكم فىّ اعوجاجا فليقوّمه.. وقال الخليفة الثالث على المنبر أيام الفتنة: أمرى لأمركم تبع. وقوله (الظَّالِمِينَ) يشمل الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس من الحكام وغيرهم، إذ كل من هؤلاء وأولئك يتولى من يشا كله فى أخلاقه وأعماله وينصره على من يخالفه. ثم أجاب سبحانه عن سؤال يخطر بالبال وهو: ما حال الظالمين إذا قدموا على الله يوم القيامة؟ فأجاب بأنهم يسألون فقال:

امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ؟) أي إنهم ينادون ويسألون عن دعوة الرسل لهم، فتقوم الحجة عليهم فيما يترتب من الجزاء على مخالفتها. وقوله: ُسُلٌ مِنْكُمْ) ظاهر فى أن كلا من الفريقين- الإنس والجن- قد أرسل منهم رسل إلى أقوامهم، لكن جمهرة العلماء يقولون: إن الرسل كلهم من الإنس كما يدل عليه ظاهر الآيات الأخرى، وقالوا إن المراد بقوله: منكم أي من جملتكم لا من كل منكم، وهو يصدق على رسل الإنس الذين ثبتت رسالتهم إلى الإنس والجن. والجن عالم غيبى لا نعرف عنه إلا ماورد به النص، وقد دل الكتاب الكريم وصحيح الأحاديث على أن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل إليهم كقوله تعالى حكاية عن الذين استمعوا القرآن منهم أنهم قالوا: «إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى» فهذا ظاهر فى أنه كان مرسلا إليهم فنؤمن بذلك ونفوض الأمر فيما عداه إلى الله. ثم بين سبحانه وظيفة الرسل الذين أرسلهم الله إلى الفريقين بقوله: َقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي إنهم يتلون عليهم الآيات المبينة لأصول الإيمان وأحاسن الآداب والفضائل، والمفصّلة لأحكام التشريع التي من ثمراتها صلاح الأعمال والنجاة من الأهوال، وينذرونهم لقاء يوم الحشر بالإعلام بما يكون فيه من الحساب والجزاء لمن كفر بالله وجحد بآياته. ثم أجابوا عن سؤال فهم من الكلام السابق كأنه قيل فماذا قالوا حين ذلك التوبيخ الشديد؟ فقيل: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي شهدنا بإتيان الرسل وإنذارهم وبمقابلتنا لهم بالكفر والتكذيب. وفى هذا الجواب اعتراف صريح بكفرهم، وإقرار بأن الرسل قد أتوهم وبلّغوهم دعوتهم إما مشافهة أو نقلا عمن سمعها منهم. وهذا موطن من مواطن يوم القيامة، وفى موطن آخر لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، وفى موطن ثالث يكذبون على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم وأنهم قدموا شيئا من السيئات والخطايا.

ونحو الآية قوله: «قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» . َ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي وغرتهم زينة الحياة الدنيا ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطان على الناس وعظيم الجاه، فكفروا بالرسل عنادا وكبرا، وفلدهم فى ذلك أتباعهم، واغتر كل منهم بما يغتر به من التعاون مع الآخر. وأما غرور غيرهم ممن جاء بعدهم بالدنيا، فلما غلب عليهم من الإسراف فى الشهوات المحرمة والجاه الباطل حتى لقد أصبحت الحظوة بين الناس لذوى المال والنسب مهم اجترحوا من الموبقات وأبسلوا من المكارم والخيرات. َ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي وبعد أن قامت عليهم الحجة شهدوا على أنفسهم بأنهم كانوا فى الدنيا كافرين بتلك الآيات والنذر التي جاء بها الرسل حين رأوا أنه لا يجديهم الكذب ولا تنفعهم المكابرة. والكفر بالرسل ضربان: كفر بتكذيبهم بالقول، وكفر بعدم الإذعان النفسي الذي يتبعه العمل بحسب سنن الله فى ترتب الأعمال على الطباع والأخلاق. (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي ذلك الذي ذكر من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله لإصلاح حال الأفراد والجماعات فى شئونهم الدنيوية والأخروية، وينذرونهم يوم الحشر والجزاء، بسبب أن الله لم يكن من سنته فى تربية خلقه أن يهلك الأمم بعذاب الاستئصال الذي أوعد به مكذبى الرسل بظلم منهم وهم غافلون عما يجب أن يقفوا به ذلك الهلاك، بل يسبق هلاك كل أمة إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق بما يفصه عليها من آيات الوحى فى عصره، أو بما ينقله إليها من يبلغونها دعوته من بعده، إذ من حكمة الله فى الأمم جعل ما يحل بها من عقاب جزاء على عمل استحقته به، فيكون عقابها تربية لها وزجرا لسواها.

والخلاصة- إن الله لا يظلم أحدا من خلقه، بل هم الذين يظلمون أنفسهم، وإن الإهانة والتعذيب تربية لهم وتأديب وزجر لغيرهم، وإن هذا العقاب للأمم منه ما هو فى الدنيا ومنه ما هو فى الآخرة، ومن الأول عذاب الاستئصال لمن عاندوا الرسل بعد أن جاءوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية، وبعد أن أنذروهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها كما حصل لعاد وثمود، وقد انقطع ذلك بانقطاع الرسل. وهلاك الأمم يكون بما يغلب عليها من الظلم أو الفسق والفجور الذي يفسد الأخلاق ويقطع روابط المجتمع ويجعل بأس الأمة بينها شديدا. وهذه الآية وما شاكلها من قواعد الاجتماع التي سبق أن شرح جانبا منها بعض علماء الاجتماع من المسلمين كابن خلدون، لكن لم يستفد من ذلك من جاء بعده من علمائهم، واستفاد منها غيرهم، كما لم يستفيدوا من هدى القرآن ومثله العليا فى إقامة ملكهم وحضارتهم بحسب ما أرشدهم إليه من سنن الاجتماع فيمن قبلهم، وإنهم لا يزالون غافلين عن هذا الرشاد مع حاجة العصر إلى بذل أقصى ما يكون من الجهد فى هذا المضمار، لأن الأمم قد افتنّت فى الوصول إلى أغراضها بكل الوسائل التي يمكن أن يكفر فيها البشر، كما هى سنة تنازع البقاء. ولا نرى من المسلمين إلا معاذير لو تركوها لكان أحرى بهم وبما ينسبونه إلى دينهم كذبا وافتراء، إذ يعتذرون تارة عن ضعف أممهم وتقصيرها بأن كل شىء بقضاء وقدر، ولو سلّم لهم هذا لكان الناس مجبورين فى أعمالهم لا مختارين، وقواعد الدين تأبى هذا، والتكاليف الشرعية مؤسسة على غير ما يقولون. وأين كان هذا أيام أن كان المسلمون فى أوج عزهم يكافحون وينافحون ويتغلبون على من سواهم من الأمم ويفتحون الممالك والأمصار، وتخفق عليها بنودهم وأعلامهم، وتارة يسلون أنفسهم بأن هذا من علامات الساعة، وأنى لهم بها؟ وهل هم أوتوا من

العلم ما يرشدهم إلى ما يدّعون، بل لقد بلغ الأمر بهم أن وسوس لهم الشيطان وهم يناجون أنفسهم، أو إذا خلوا إلى شياطينهم أن قالوا إن تعاليم الإسلام أضعفنهم وأضاعت عليهم ملكهم: «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» أفليست تعاليمهم هذه هى التي شيّدت صروح المجد فى سالف العصور، وأقامت ملكا ضم أطراف المغرب والمشرق؟ أليس أسلافهم بهذه التعاليم ثلّوا عروش الأكاسرة والقياصرة، ودوّخوا الممالك، وأسسوا حضارات ووضعوا قوانين لا تزال أرقى الأمم مدنية تمنح من معينها، وتطفئ ظمأها من نميرها العذب؟ وقد التمس بعضهم هداية غير هداية القرآن ليؤسس عليها سعادة دنياه فكان كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فلم يتم له ما أراد وخسر دنياه وأخراه، وذلك هو الضلال البعيد. (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل عامل فى طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها ويثيبه بها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي فكل عملهم يعلمه ربهم وهو محصيه عليهم، ومجازيهم بالسيئة سيئة مثلها ويضاعف الحسنات من فضله عند لقائهم إياه ومعادهم إليه. وفى الآية إيماء إلى أن سناط السعادة والشقاء هو عمل الإنسان ومشيئته، فإن شاء عمل عمل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فكان من الذين سمعوا القول واتبعوا أحسنه، فجازاه الله أحسن الجزاء، وإن شاء تنكب عن جادّة الدين ورمى أحكامه وراءه ظهر يا وسار فى غلواء الضلال، فكان من الأشقياء الذين كبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 إلى 135]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) تفسير المفردات يذهبكم أي يهلككم، يستخلف، أي ينشىء الذرية والنسل، بمعجزين أي جاعلى من طلبكم عاجزا غير قادر على إدراككم، والمكانة: الحال التي هم عليها، والدار: هى الدنيا، والمراد بالعاقبة: عاقبة الخير إذ لا اعتداد بعاقبة الشر، لأن الله جعل الدنيا مزرعة الآخرة، وقنطرة المجاز إليها، وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن العاقبة. المعنى الجملي كان الكلام فى الآيات السالفة فى تقرير حجة الله على المكلفين الذين بلغتهم الدعوة فجحدوا بها، وأنهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة أنهم كانوا كافرين وأن سنة الله فى إهلاك الأمم فى الدنيا بجنايتها على أنفسها لا بظلم منه تعالى. وهنا ذكر وعيد الآخرة وأنه مرتب على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه، ولا لحاجة له تعالى إليه، لأنه غنى عن العالمين، بل لأنه من مقتضى الحق والعدل، المقرونين بالرحمة والفضل.

الإيضاح

الإيضاح (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) أي وربك هو الغنى الكامل الغنى، وهو ذو الرحمة الشاملة التي وسعت كل شىء، إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه فى وجوده وبقائه، ومحتاج إلى الأسباب التي جعلها سبحانه قوام وجوده. ويقال فى الخلق: هذا غنى إذا كان واجدا لأهم هذه الأسباب التي هى من فيض مولاه وهو مع ذلك محتاج إلى غيره، انظر إلى الغنىّ ذى المال الكثير تره محتاجا إلى كثير من الناس من الزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم، ومحتاجا إلى خالقه وخالق كل شىء كما قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» . (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي إن يشأ إذهابكم أيها الكافرون المعاندون واستخلاف غيركم بعدكم يذهبكم بعذاب يهلككم به كما أهلك أمثالكم ممن عاندوا الرسل كعاد وثمود، ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الأقوام فإنه غنى عنكم وقادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم يكونون أحق برحمته منكم، كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين. وقد صدق الله وعده فأهلك أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا وجحدوا بما جاء به وهم يعلمون صدقه، واستخلف فى الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم ولم يلبث أن زال بالتأمل فى آيات الله فى الآفاق وفى أنفسهم، فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم وكانوا أعظم مظهر لرحمة الله للبشر حتى فى حروبهم وفتوحهم، وشهد لهم بذلك أعداؤهم حتى قال مؤرخو الإفرنج: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب. وبعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة فقال:

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي إن ما توعدونه من جزاء الآخرة بعد البعث لآت لا مردّ له، وما أنتم بمعجزين الله بهرب ولا منع مما يريد، فهو القادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم، وهذا دليل قد ذكره الله فى كتابه مرات كثيرة. وقد أنار العلم فى هذا العصر أمر البعث وقرّبه إلى العقول، فأثبت أن هلاك الأشياء وفناءها ما هو إلا تحلل موادها وتفرقها، وأنه يمكن تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول فى غير الأحياء. بل بلغ الأمر ببعض العلماء من الألمان أن حاولوا إيجاد البشر بطريقة صناعية علمية بتنمية البذرة التي يولد منها الإنسان إلى أن صارت علقة فمضغة، وزعم أنه يمكن بوسائل أخرى تغذية المضغة فى حرارة كحرارة الرحم إلى أن تتولد فيها الأعضاء حتى تصير إنسانا تاما، وقال إنه يمكن إيجاد معامل للتفريخ البشرى كمعامل تفريخ الدجاج، ولكن الكثير من العلماء قالوا إن هذه نظريات لا يمكن إخراجها من حيز الإمكان إلى حيز الوجود بالفعل. وإذا كان علماء المادة يحاولون الوصول إلى ذلك ولا يعدونه مستحيلا، فهل يعجز عنه خالق البشر وخالق كل شىء: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» . ثم تمم الوعيد والتهديد بأمره لرسوله أن ينذرهم بقوله: (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي يا قوم اعملوا على مكانتكم وطريقتكم التي أنتم عليها، إنى عامل على مكانتى وطريقتى التي ربانى ربى عليها وهدانى إليها وأقامنى عليها، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى فى هذه الدار بتأثير أعماله. وفى الآية إيماء إلى أن أحوال الأمم مرتبة بحسب أعمالها، وأن أعمالها منبعثة من عقائدها وصفاتها النفسية، وأن عاقبة كل عمل نتيجة حتمية له، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

قال صاحب الكشاف: اعملوا على مكانتكم- تحتمل وجهين- اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حال: على مكانك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه، إنى عامل على مكانتى التي أنا عليها. والمعنى- اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإنى ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، فسوف تعلمون أيّنا تكون له العاقبة المحمودة. ثم قال: وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف فى المقال وأدب حسن مع تضمن شدة الوعد والوثوق بأن المنذر محق والمنذر مبطل اهـ. يقصد بذلك رحمه الله- أن فى هذا الإنذار إحالة على المستقبل ليتم وعده لرسوله بالنصر والتأييد وليظهر صدق وعيده لأعدائه بقهرهم فى الدنيا بحيث يرونه بأعينهم، وإذا صدق فى الدنيا صدق فى الآخرة، وأن كلا منهما كان بإنباء الغيب، وأن السبب الذي لأجله كانت عاقبة الرسول ومن اتبعه الحسنى فى الدنيا والآخرة واحد، وكذلك عاقبة من ناوأه وكفر به، وقد أشار إليه بقوله: (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إن الظالمين لأنفسهم بالكفر بنعم الله واتخاذ الشركاء له فى ألوهيته والتوجه إليهم فيما يتقرب به إليه تعالى أو فيم لا يطلب إلا منه وهو ما خفيت على المرء أسبابه، إذ مثل هذا لا يدعى فيه إلا الله وحده، وما عرف سببه يجب أن يطلب من طريق السبب، مع العلم بأن خالق الأسباب جميعها هو الله تعالى، وحال الظالمين للناس أشد من حال الظالمين لأنفسهم، وكلهم لا يفوزون بفلاح لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، وإنما يفوز به أهل الحق والعدل الذين يؤدون حقوق الله وحقوق أنفسهم، ولا يكمل مثل هذا إلا لرسل الله وجندهم من المؤمنين. انظر كيف نصر الله رسوله على الظالمين من قومه كأكابر مجرمى مكة المستهزئين به ثم من سائر مشركى العرب، ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا كالرومان والفرس، ثم نصر من بعدهم على من ناوأهم من أهل الشرق والغرب، فلما ظلموا

[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 إلى 140]

أنفسهم وظلموا الناس لم تبق لهم ميزة عن غيرهم تمكنهم من الفلاح والفوز وانحصر الفوز فى الأسباب المادية والأسباب المعنوية كالصبر والثبات والعدل والنظام. ولا عجب بعد هذا أن يتغلب عليهم غيرهم، لأن الله إنما وعدهم نصره إذا هم نصروه وأقاموا شرعه وسلكوا سبيل الحق والعدل كما قال: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ذرأ: أي خلق على وجه الاختراع والإبداع، لشركائنا: أي الأوثان التي يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، لشركائهم أي سدنة الآلهة وخدمها، أو الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك فى أنفسهم، ويردوهم: أي يهلكوهم بالإغواء، وليلبسوا أي يخلطوا، حجر: أي محجور ممنوع، كما قالوا: ذبح وطحن أي مذبوح ومطحون، وجزاه بكذا جعله جزاء له على عمله قال تعالى: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا» وصفهم: أي جزاء وصفهم. المعنى الجملي بعد أن حاجّ سبحانه المشركين وسائر العرب فى كثير من أصول الدين وكان آخرها البعث والجزاء- ذكر هنا بعض عبادتهم فى الحرث والأنعام والتحليل والتحريم بباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية. الإيضاح (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) أي وجعلوا لله نصيبا مما خلق من ثمر الزرع وغلته كالتمر والحبوب ونتاج الأنعام، ونصيبا لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام. (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي فقالوا فى النصيب الأول هذا لله أي نتقرب به إليه، وفى النصيب الثاني هذا لشركائنا أي لمعبوداتنا نتقرب به إليها، وقوله بزعمهم أي بتقوّلهم الذي لا بينة لهم عليه ولا هدى من الله، إذ جعله قربة لله يجب أن يكون خالصا له وحده لا يشرك معه غيره فيه، وأن يكون بإذنه، لأنه دين، والدين لله ومن الله وحده، فهذا زعم مخترع، لا دين مشترع فيكون باطلا. وقد روى أنهم كانوا يجعلون نصيب الله لقرى الضيفان، وإكرام الصبيان، والتصدق على المساكين، ونصيب آلهتهم لسدنتها وقرابينها وما ينفق على معابدها.

(فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ) أي فما عيّنوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما، بل يهتمون بحفظه وإنفاقه على السدنة وذبح الذبائح والقرابين عندها. (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) أي وما عينوه وجعلوه له فهو يحوّل أحيانا للتقرب به إليها. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي قبح ما يحكمون به بإيثارهم المخلوق العاجز عن كل شىء على الخالق القادر على كل شىء وبعملهم شيئا لم يشرعه الله. وللقبح وجوه متعددة منها: (1) إنه اعتداء على الله بالتشريع وهو لم يأذن لهم به. (2) الشرك فى عبادته تعالى، ولا ينبغى أن يشرك مع الله سواه فيما يتقرب به إليه. (3) ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها وخالقهم. (4) إن هذا حكم لا مستند له من عقل ولا هداية من شرع. نقل على بن أبي طلحة والعوفى عن ابن عباس أنه قال فى تفسير الآية: إن أعداء، الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شىء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه شىء فيما سمى للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شىء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمى للوثن تركوه للوثن. وكانوا يحرّمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى. ثم ذكر سبحانه من أعمال الشرك أيضا عملا لا مستند له من عقل ولا شرع فقال:

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله والآلهة- زيّن لكثير من المشركين شركاؤهم- سدنة الآلهة وخدمها- أن يقتلوا أولادهم. وكان مصدر هذا التزيين وجوها مختلفة منها: (1) اتقاء الفقر الحاصل أو المتوقع، وقد أشار سبحانه إلى الأول بقوله: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» وأشار إلى الثاني بقوله: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» . (2) اتقاء العار بوأد البنات أي بدفنهن وهن على قيد الحياة خشية أن يكنّ سببا للعار أو السباء إذا كبرن، أو خشية أن يقترن بأزواج دون آبائهن فى الشرف. (3) التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر، فقد كان الرجل فى الجاهلية ينذر إن ولد له كذا غلاما لينحرنّ أحدهم كما حلف عبد المطلب فى قصص طويل أشار إليه النبي صلّى الله عليه وسلم بقوله: «أنا ابن الذبيحين» . وسمى الله المزينين لهم الشرك من شياطين الإنس كالسدنة، أو شياطين الجن شركاء وإن كانوا هم لم يسموهم لا آلهة ولا شركاء، لأنهم لما أطاعوهم طاعة إذعان وخضوع فى التحليل والتحريم ولا يكون ذلك إلا لله- سماهم كذلك كما قال: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» . وقد حذا كثير من المسلمين حذو هؤلاء فدعوا غير الله من الموتى تضرعا وخضوعا عند قبورهم مع التقرب إليهم بالصدفات وذبائح النسك، ولكنهم لا يسمون عبادتهم هذه شركا ولا عبادة، بل يسمونها توسلا (والأسماء لا تغير الحقائق والأعمال) فالدعاء والتضرع أدل على الحقائق من الأسماء والتأويلات. ثم ذكر سبحانه علة تزيين المنكرات لهم فقال: (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي إنهم زينوا لهم هذه المنكرات ليهلكوهم

بالإغواء، ويفسدوا عليهم فطرتهم، فتنقلب عواطف ود الوالدين من رأفة ورحمة إلى قسوة ووحشية، فينحر الوالد ولده ويدفن بنته الضعيفة بيده وهى حية. والدين الذي لبسوه وخلطوه هو ما كانوا يدّعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام، وقد اختلط عليهم بما ابتدعوه من تقاليد الشرك حتى لم يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات التي ضموها إليه. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي ولو شاء الله أن يخلق الناس مطبوعين على عبادته طبعا لا يستطيعون غيرها كالملائكة، فلا يؤثّر فيهم إغواء ولا تجدى فيهم وسوسة- لفعل، ولكن شاء أن يخلقهم مستعدين للتأثر بكل ما يرد على أنفسهم من الأفكار والآراء، وما يشاهدون من المحسوسات، واختيار ما يترجح عندهم أنه الخير على ما يقابله، ومن ثم يؤثّر فى نفوسهم ما يستفيدونه بالتعليم والاختيار والمعاشرة والمخالطة، والناس يتفاوتون فى هذا جدّ التفاوت، فلا يمكن أن يكونوا على رأى واحد أو دين واحد. فدعهم أيها الرسول وما ينتحلونه من شرائع، وما يفترون من عقائد، وعليك بما أمرت به من التبليغ، والله هو الذي يتولى أمرهم وله سنن فى هداية خلقه لا تتغير ولا تتبدل، ومن سننه أن يغلب الحق الباطل. ثم ذكر نوعا ثالثا من آرائهم الفاسدة فقال: (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ، وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) أي إنهم لغوايتهم وشركهم قسموا أنعامهم وزرعهم أقساما ثلاثة: (1) أنعام وأقوات من حبوب وغيرها تقتطع من أموالهم وتجعل لمعبوداتهم تعبدا وتدينا، ويمتنعون من التصرف فيها إلا لها، ويقولون هى حجر أي محتجرة للآلهة لا تعطى لغيرهم.

وقوله لا يطعمها إلا من نشاء أي لا يأكل منها إلا الرجال دون النساء. وقوله بزعمهم أي بادعائهم الباطل من غير حجة ولا برهان عليه. (2) أنعام حرمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها، قال السدى: هى البحيرة والسائبة والحامى وقد تقدم ذكرها فى قوله: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» . (3) أنعام لا يذكرون اسم الله عليها فى الذبح، بل يهلّون بها لآلهتهم وحدها، وكانوا إذا حجوا لا يحجون عليها ولا يلبّون على ظهرها. (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي إنهم قسموا هذا التقسيم وجعلوه من أحكام الدين ونسبوه إلى الله افتراء عليه واختلاقا له والله منه برىء، فهو لم يشرعه لهم، وما كان لغير الله أن يحرم أو يحلل على العباد ما لم يأذن به الله، كما جاء فى قوله: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟» . (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه وينكّل بهم شر النكال بسبب هذا الافتراء القبيح. ثم ذكر ضربا آخر من أحكامهم فى التحريم والتحليل ينبىء عن سخفهم فقال: (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) المراد بالأنعام هنا البحائر أي المشقوقة الآذان، والسوائب التي تسيّب وتترك للآلهة فلا يتعرض لها أحد، وكانوا يجعلون لبنها للذكور ويحرمونه على الإناث، وإذا ولدت ذكرا جعلوه خالصا للذكور لا تأكل منه الإناث، وإذا كان ميتا اشترك فيه الذكور والإناث، وإذا ولدت أنثى تركوها للنتاج. (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) يقولون وصف كلامه بالكذب- إذا كذب

وعينه تصف السحر أي هى ساحرة، وقدّه يصف الرشاقة على معنى أنه رشيق على سبيل المبالغة، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له، قال أبو العلاء المعرّى: سرى برق المعرّة بعد وهن ... فبات برامة يصف الملالا أي سيجزيهم الله تعالى جزاء وصفهم، لأن حكمته تعالى فى الخلق وعلمه بشئونهم، جعلت عقابهم عين ما يقتضيه وصفهم ونعتهم الروحي، إذ لكل نفس فى الآخرة صفات تجعلها فى مكان معين سواء أكان فى أعلى عليين أم فى أسفل سافلين. والخلاصة- إن منشأ الجزاء نفس الإنسان باعتبار عقائدها وسائر صفاتها التي يطبعها عليها العمل. وقد يكون المعنى- سيجزيهم وصفهم لربهم بما جعلوا له من الشركاء فى العبادة والتشريع، أو وصف ألسنتهم الكذب بما افتروا عليه فيهما كما قال تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» الآية. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ، قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أنكر سبحانه على مشركى العرب أمرين عظيمين ونعاهما عليهم، وحكم فيهم حكما عدلا وهما: (1) قتل أولادهم ووأد بناتهم، وبذلك خسروا خسرانا مبينا، فإن قتل الأولاد يستلزم خسران كل ما كان يرجى من العزة والنصرة والسرور والغبطة، والبر والصلة، وخسران العاطفة الأبوية ورأفتها، واستبدال القسوة والغلظة بها، إلى نحو أولئك من مساوى الأخلاق التي يضيق بها العيش فى الدنيا، وبها يحل العقاب فى الآخرة. (2) تحريم ما رزقهم الله من الطيبات.

وإيضاح هذا أن قد حكم سبحانه على من فعل هذين الجرمين بالخسران، والسفاهة، وعدم العلم، والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء. أما الخسران فلأن الولد نعمة من الله على العبد، فإذا سعى العبد فى زوالها فقد خسر خسرانا عظيما، إذ هو قد استحق الذم فى الدنيا وقال الناس فيه إنه قتل ولده خوف أن يأكل طعامه، والعقاب فى الآخرة، لأنه ألحق أعظم أنواع الأذى بأقرب الناس محبة إليه. وأما السفاهة، وهى اضطراب النفس وحماقتها، فلأنه أقدم على ضرر محقق وهو القتل خوفا من ضرر موهوم وهو الفقر. وأما عدم العلم بما ينفع وما يضر وما يحسن وما يقبح فذلك من أقبح القبائح والمنكرات. وأما الافتراء على الله فلأنهم جعلوه دينا يتقرّب به إليه وهو جراة عليه، وذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر. وأما الضلال المبين فلأنهم لم يرشدوا إلى مصالح الدين ولا منافع الدنيا. وأما عدم الاهتداء إلى شىء من الحق والصواب، فلأنهم لم يعملوا بمقتضى العقل ولا بهدى الشرع فى منافع الدنيا وسعادة الآخرة. وفائدة قوله: وما كانوا مهتدين- بيان أنهم لم يحصل لهم اهتداء قط، والإنسان أحيانا قد يضلّ ثم يهتدى، ولكن هؤلاء لم يحصل لهم اهتداء بحال. أخرج البخاري عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً- إلى قوله وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال فى الآية: هذا صنع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السّباء والفاقة ويغذو كلبه.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 إلى 144]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) تفسير المفردات الإنشاء: إيجاد الأحياء وتربيتها وكل ما يكمل بالتدريج كإنشاء السحاب والدور والشعر، والجنات البساتين والكروم الملتفة الأشجار، لأنها تجنّ الأرض وتسترها، والمعروشات: المحمولات على العرائش، وهى الدعائم التي يوضع عليها مثل السقف من العيدان والقصب، وغير المعروشات: ما لم يعرش منها، والمراد أن الجنات نوعان: معروشات كالكروم، وغير معروشات من سائر أنواع الشجر الذي يستوى على سوقه ولا يتسلق على غيره، والأكل (بضم الهمزة والكاف) ما يؤكل، متشابها أي فى النظر، وغير متشابه أي فى الطعم، والحمولة: الكبير من الإبل والبقر الذي يحمل

المعنى الجملي

عليه الناس الأثقال، والفرش: ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل والبقر، أو هو ما يتخذ الفرش من صوفه ووبره وشعره والخطوات واحدها خطوة (بالضم) : وهى المسافة التي بين القدمين، ما اشتملت عليه الأرحام: هى الأجنّة. المعنى الجملي علمت فيما سلف أن أصول الدين التي عنى الكتاب الكريم بذكرها، واهتم ببيانها، وكررها المرة إثر المرة- هى التوحيد والنبوة والبعث والقضاء والقدر وقد بالغ سبحانه فى تقرير هذه الأصول وأتبعها بذكر آراء لهم سخيفة وكلمات فاسدة فى التحليل والتحريم، تنبيها إلى ضعف عقولهم، وتنفيرا للناس من اتباع آرائهم والسير على أهوائهم. وهنا عاد إلى المقصود الأصلى وهو توحيد الله باعتقاد الألوهية، والربوبية له وإفراده بالعبادة وحق التشريع، إذ لا رب غيره ولا خالق سواه يعبد معه أو من دونه، ولا شارع سواه لعبادة ولا تحليل ولا تحريم. الإيضاح (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي إن ربكم أيها الناس هو الذي ابتدع البساتين والكروم الملتفة الأشجار والتي تجن الأرض وتسترها، سواء المعروش منها وغير المعروش، وأنشأ النخل والزرع المختلف الطعم واللون والرائحة والشكل. والنخل وإن كان من قسم الجنات غير المعروشات، ذكر على سبيل الانفراد لما فيه من المنافع الكثيرة ولا سيما للعرب، فإن بسره ورطبه فاكهة وغذاء، وتمره من أفضل الأقوات التي تدّخر، ومن أيسرها تناولا فى السفر والحضر، ولا يحتاج إلى طبخ

ولا إلى معالجة، ونواه علف لرواحلهم، ويتخذ منه شراب لذيذ إذا نبذ فى الماء زمنا قليلا- إلى ما فى خوصه وليفه من الفوائد والمنافع. وبهذه الفوائد يفضل الكرم الذي هو أقرب الشجر منه تفكها وتغذية وشربا وأشبهه به شكلا ولونا فى عنبه وزبيبه ومنافعه. والزرع وهو النبات الذي يكون بحرث الناس، يشمل كل ما يزرع لكنه خص بما يأتى منه القوت كالقمح والشعير وقد ذكرت هذه الأنواع على طريق الترقي من الأدنى فى التغذية واقتيات الناس إلى الأعلى والأعم، فإن الحبوب هى التي عليها المعول فى الاقتيات. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي وأنشأ الزيتون والرمان متشابها فى المنظر، وغير متشابه فى الطعم. (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) أي كلوا من ثمر ذلك الذي ذكر إذا أثمر وإن لم يدرك ويينع. وخلاصة ما سلف- أنه سبحانه بعد أن أعلم عباده بأنه هو الذي أنشأ لهم ما فى الأرض من الشجر والنبات الذي يستعملون منه أقواتهم- أعلمهم بأنه أباح ذلك كله لهم، فليس لأحد غيره أن يحرم شيئا منه عليهم، لأن التحريم حق لله الخالق للعباد والأقوات جميعا، فمن ادعاه لنفسه فقد جعل نفسه شريكا له تعالى، كما أن من أذعن لتحريم غير الله فقد أشركه معه سبحانه وتعالى. والتحريم الذي لا يكون إلا لله هو تحريم التشريع، أما المنع من بعض هذا الثمر لسبب غير ذلك فلا شرك فيه، فإذا منع الطيب بعض المرضى من أكل الثمر أو الخبز لأنه يضره يكون منعا شرعيا أو تحريما لا على معنى أن الطبيب هو الذي شرع ذلك، بل الله هو الذي حرم كل ضارّ والطبيب هو الذي عرّف المريض ضرره. وكذلك منع السلطان من صيد بعض الطيور لمصلحة عامة كالحاجة إلى كثرته لحفظ بعض الزرع، لأنه يأكل الحشرات المهلكة مثلا لا يكون تحريما ذاتيا بل تحريما

مؤقتا ما دام السبب والسلطان هو المكلف شرعا بصيانة المصالح ودرء المفاسد، وليس له أن يحرم بمحض إرادته، وإذا هو أخطأ فى اجتهاده وجب على الأمة الإنكار عليه، ووجب عليه أن يرجع إلى الحق. وفائدة قوله إذا أثمر- بيان أن أول وقت لإباحة الأكل هو وقت الإثمار، وليس بلازم أن يدرك ويينع، فالكرم ينتفع بثمره حصر ما فعنبا فزبيبا، والنخل يؤكل ثمره بسرا فرطبا فتمرا، والقمح يطحن ويؤكل خبزا أو يطبخ أو يعمل حلوى على أشكال شتى. (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي وآتوا الحق المعلوم فيما ذكر من الزرع وغيره لمستحقيه من ذوى القربى واليتامى والمساكين زمن حصاده جملة، ويدخل فى الحصاد جنى العنب وصرم النخل. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» قال ما سقط من السنبل. وقال مجاهد فيه: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، فإذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم، فإذا أذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته، وإذا بلغ النخل وحضرك المساكين فاطرح لهم من التفاريق والبسر، فإذا جددته (قطعته) فحضرك المساكين فاطرح لهم منه، فإذا جمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته. وعن ميمون بن مهران وزيد بن الأصمّ أن أهل المدينة كانوا إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه فى المسجد فيجىء السائل فيضر به بالعصا فيسقط منه، فهو قوله: «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» . وعن سعيد بن جبير قال: كان هذا قبل أن تنزل الزكاة. الرجل يعطى من زرعه ويعلف الدابة ويعطى اليتامى والمساكين ويعطى الضّغث، يريد أن هذا الأمر فى الصدقة المطلقة غير المعينة، ومما يؤيد هذا أن السورة مكية والزكاة المحدودة فرضت بالمدينة فى السنة الثانية من الهجرة.

(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي كلوا مما رزقكم الله من غير إسراف فى الأكل كما قال فى آية أخرى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» وقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» . والاعتداء والإسراف: مجاوزة الحد، والحد الذي ينهى الله عن تجاوزه إما شرعى كتجاوز الحلال من الطعام والشراب وما يتعلق بهما إلى الحرام، وإما فطرى طبعى وهو تجاوز حد الشبع إلى البطنة الضارة. (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) أي وأنشأ من الأنعام كبارا منها تصلح للحمل، وصغارا مثل الفصلان الدانية من الأرض لصغر أجرامها كالفرش المفروش عليها. (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي كلوا من هذه الأنعام وغيرها وانتفعوا بها بسائر ضروب الانتفاع المباحة شرعا. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فتحرموا ما لم يحرمه الله عليكم، فإن ذلك إغواء منه، والله المبدع قد أباحها لكم فليس لغيره أن يحرّم أو يحلل، ولا أن يتعبدكم به. ويقال لمن اتّبع آخر فى أمر وبالغ فى التأسّى به- اتّبع خطواته، ولا شك أن تحريم ما أحل الله من أقبح المبالغات فى اتباع إغواء الشيطان، لأنه اتباع له فى حرمان النفس من الطيبات- لا فى الاستمتاع باللذات كما هو أكثر غوايته ثم علل النهى عن اتباعه بقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي لا تتبعوه لأنه ظاهر العداوة بينها، لا يأمر إلا بكل قبيح يسوء فعله حالا أو استقبالا ويأمركم بالافتراء على الله بغير علم كما قال عز اسمه: «إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .

وبعد أن ذكر سبحانه أن الأنعام إما حمولة وإما فرش، فصلها وقسمها ثمانية أزواج، فإن الحمولة إما إبل وإما بقر، والفرش إما ضأن وإما معز، وكل من الأقسام الأربعة إما ذكر وإما أنثى، وكل هذا لإيضاح المحالّ التي تقوّلوها على الله تعالى بالتحريم والتحليل ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم فى كل محل من هذه المحال بتوجيه الإنكار إليها مفصلة فقال: (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أي أنشأ سبحانه من الضأن زوجين الكبش والنعجة، ومن المعز زوجين التيس والعنز، وهذه الأنواع الأربعة تفصيل للفرش، فقل لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا: أحرم الله الذكرين الكبش والتيس من ذينك النوعين أم حرم الأنثيين النعجة والعنز أم حرم ما حملت إناث النوعين أخبرونى ببينة تدل على ذلك من كتاب الله أو خبر من أنبيائه إن كنتم صادقين فى دعوى التحريم. وكذلك أنشأ من الإبل اثنين الجمل والناقة، ومن البقر اثنين الثور والبقرة، فقل لهم تأنيبا وإنكارا وإلزاما للحجة. أحرم الذكرين منهما أم حرم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من ذينك النوعين؟ وخلاصة ذلك- إن المشركين فى الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام، فاحتج سبحانه على إبطال ذلك- بأن لكل من الضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى، فإن كان قد حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها جراما، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها، لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث. وقصارى ذلك- إنه تعالى ما حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإنهم كاذبون فى دعوى التحريم، وقد فصل ذلك أتم التفصيل مبالغة فى الرد عليهم

ثم زاد فى الإنكار والتهكم بهم فقال: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا) أي أعندكم علم يؤثر عن أحد من رسله فتنبئونى به، أم شاهدتم ربكم فوصاكم بهذا التحريم مشافهة بغير واسطة؟ - كلّا، ما حصل هذا ولا ذاك، فما هو إلا محض افتراء على الله يقلد فيه بعضكم بعضا بقوله إن الله حرم علينا كذا وكذا كما قال تعالى: «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها، قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» . والخلاصة- إنكم إذ لم تؤمنوا بنبي فلا طريق لكم إلى علم ذلك بحسب ما تقولون إلا أن تشاهدوا ربكم وتتلقوا منه أحكام الحلال والحرام. وبعد أن نفى الأمرين بالبرهان أثبت أنه افتراء على الله لإضلال عباده وهو ظلم يجنيه الإنسان على نفسه وعلى غيره ويجنى سوء عاقبته، فقال: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لا أحد أظلم منكم لأنكم من هؤلاء المفترين على الله بقصد الإضلال عن جهل تام. ونفى العلم شامل لمن يؤثر أو يعقل ويستنبط كالنظر العقلي والتجارب العملية وطرق درء المفاسد والشرور وتقدير المصالح وعمل البر والخير. والخلاصة- إن فى ذلك تسجيل الغباوة عليهم وعمى البصيرة باتباعهم محض التقليد من غير عقل ولا هوى، فإن عملهم ليس له أثارة من علم ولا قصد إلى شىء من الهدى إلى حق أو خير. وقد وجد فى البشر ناس فكّروا وبحثوا فيما يجب عليهم لله من الشكر والعبادة واتباع الحق والعدل وفعل الخير بحسب ما يرشد إليه العقل، وفيما ينبغى لهم أن يجتنبوه من الطعام والشراب فأصابوا فى بعض ما هدتهم إليه عقولهم وأخطئوا فى بعض، وكانوا خير الناس للناس على حين فترة من الرسل، كما فعل قصى، إذ وضع للعرب سننا حسنة كسقاية الحاجّ ورفادتهم وإطعامهم، وسن الشّورى فى مهامّ الأمور.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 145 إلى 147]

(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يوفق للرشاد من افترى عليه الكذب وقال عليه الزور والبهتان، ولا يهديه إلى الحق والعدل لا من طريق الوحى ولا من طريق العلم، بل يصده عن استعمال عقله فيما يهديه إلى الصواب وعما فيه صلاحه عاجلا وآجلا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147] قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) تفسير المفردات الطاعم: الآكل، والميتة: البهيمة ماتت حتف أنفها، والمسفوح: المصبوب السائل كالدم الذي يجرى من المذبوح، رجس أي قذر قبيح، الإهلال: رفع الصوت، والمراد به الذبح باسم الأصنام، اضطر أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شىء منه، وباغ: أي طالب لذلك قاصد له، عاد: أي متجاوز قدر الضرورة، الذين هادوا: هم اليهود لقولهم: «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» أي رجعنا وتبنا، الظفر للانسان وغيره مما

المعنى الجملي

لا يصيد، والمخلب لما يصيد، والشحم: ما يكون على الأمعاء والكرش والكلى من المادة الدهنية، حملت ظهورها أي علقت بها، والحوايا: المباعر أو المرابض (مجتمع الأمعاء فى البطن) أو المصارين والأمعاء، بأسه: أي عذابه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى سابق الآيات أنه ليس لأحد أن يحرم شيئا من الطعام ولا غيره إلا بوحي من ربه على لسان رسله، ومن فعل ذلك يكون مفتريا على الله معتديا على مقام الربوبية، ومن اتبعه فى ذلك فقد اتخذه شريكا لله تعالى، وأبان أن من هذا الافتراء ما حرّمته العرب فى جاهليتها من الأنعام والحرث. قفّى على ذلك بذكر ما حرمه على عباده من الطعام على لسان خاتم رسله وألسنة بعض الرسل قبله. أخرج عبد بن حميد عن طاوس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويستحلون أشياء فنزلت: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً» الآية الإيضاح (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المفترين على الله الكذب فيما يضرهم من تحريم ما لم يحرم عليهم، وقل لغيرهم من الناس: لا أجد فيما أوحاه إلىّ ربى طعاما محرما على آكل يريد أن يأكله- إلا أن يكون ميتة لم تذكّ ذكاة شرعية، وذلك شامل لما مات حتف أنفه، وللمنخنقة والموقوذة والنطيحة ونحوها، أو دما مسفوحا أي سائلا كالدم الذي يجرى من المذبوح، فلا يدخل فيه الدم الجامد كالكبد والطحال، وفى الحديث «أحلّت لنا ميتتان السمك والجراد، ودمان الكبد والطحال» أو لحم خنزير، فإن كل ذلك خبيث تعافه الطباع السليمة،

وهو ضار بالأبدان الصحيحة، أو فسقا أهل لغير الله به وهو ما يتقرب به إلى غيره تعبدا ويذكر اسمه عليه عند ذبحه. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن دفعته ضرورة الجوع وفقد الحلال إلى أكل شىء من هذه المحرمات حال كونه غير مريد لذلك ولا قاصد له، ولا متجاوز حد الضرورة- فإن ربك الذي لم يحرم ذلك إلا لضرره- غفور رحيم، فلا يؤاخذه بأكل ما يسد به مخمصته ويدفع عنه ضرر الهلاك. والخلاصة- قل: لا أجد فيما أوحى إلىّ من أخبار الأنبياء وشرائعهم، ولا فيما شرع على لسانى- أن الله حرم أىّ طعام إلا هذه الأنواع الأربعة، وما حرمه على اليهود تحريما مؤقتا عقوبة لهم وهو ما ذكر أهمه فى الآية التالية، ودليل التوقيت قوله فى سورة آل عمران: «وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وقوله مخاطبا من يتبع النبي صلى الله عليه وسلم منهم: «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» ودليل كونه عقوبة لا لذاته قوله: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ» . وما صح من الأحاديث فى النهى عن طعام غير هذه الأنواع الأربعة فهو إما مؤقت لعارض وإما للكراهة فقط، ومن الأول تحريم الحمر الأهلية فقد روى ابن أبي شيبة والبخاري عن ابن عمر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر» ومن الثاني ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير» . ثم بين سبحانه ما حرمه على بنى إسرائيل خاصة عقوبة لهم لا على أنه من أصول شرعه على ألسنة رسله قبلهم أو بعدهم فقال:

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) أي وعلى الذين هادوا دون غيرهم من أتباع الرسل حرمنا كل ذى ظفر أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والإوزّ والبط كما قاله ابن عباس وابن جبير وقتاده ومجاهد. (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) أي إنه حرم عليهم لحم كل ذى ظفر وشحمه وكل شىء منه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة وهى الثروب (واحدها ثرب، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش) وشحوم الكلى. والخلاصة- ومن البقر والغنم دون غيرهما مما أحل لهم من حيوان البر والبحر حرمنا عليهم شحومهما الزائدة التي تنتزع بسهولة لعدم اختلاطها بلحم ولا عظم، ولم نحرم عليهم ما حملت الظهور أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، والسبب فى تخصيص البقر والغنم بهذا الحكم أن القرابين عندهم لا تكون إلا منهما، وكان يتخذ من شحمهما الوقود للرب كما ذكر ذلك فى الفصل الثالث من سفر اللاويين فقد جاء فيه بعد التفصيل فى قرابين السلامة من البقر والغنم (كلّ الشحم للرب فريضة فى أجيالكم فى جميع مساكنهم، لا تأكلوا شيئا من الشحم ولا الدم. (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي إنما حرم الله ذلك عليهم عقوبة بغيهم فشدد عليهم بذلك، وليس ذلك بالخبيث لذاته. ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم، وكان مظنة تكذيب المشركين له، لأنهم لا يؤمنون بالوحى ومظنة تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عقوبة ببغيهم وظلمهم، أكده فقال: (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي وإنا لصادقون فى هذه الأخبار عن التحريم وعلته، لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شىء، ولأن الكذب محال علينا، لأنه نقص فلا يصدر عنا.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 إلى 150]

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) هذا الخطاب إما لليهود وهو المروي عن مجاهد والسدى، وإما لمشركى مكة. فعلى الأول يكون المعنى- فإن كذبك اليهود وثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابا لهم على ما كان من بغيهم على الناس وظلمهم لهم ولأنفسهم، واحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من الله- فأجبهم بما يدحض هذه الشبهة بأن رحمة الله واسعة حقا ولكن ذلك لا يقتضى أن يرد بأسه ويمنع عقابه عن القوم المجرمين، فإصابة الناس بالمحق والشدائد عقابا لهم على جرائم ارتكبوها، قد تكون رحمة بهم، وقد تكون عبرة وموعظة لغيرهم لينتهوا عن مثلها، وهذا العقاب من سنن الله المطردة فى الأمم وإن لم يطرد فى الأفراد. وعلى الثاني يكون المعنى- فإن كذبك المشركون فيما فصلناه من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم: ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم، فلا تغترّوا به فإنه إمهال لكم لا إهمال لمجازاتكم. وفى هذا تهديد لهم ووعيد إذا هم أصروا على كفرهم وافترائهم على الله بتحريم ما حرموا على أنفسهم، كما أن فيه إطماعا لهم فى رحمته الواسعة إذا رجعوا عن إجرامهم وآمنوا بما جاء به الرسول، فيسعدون فى الدنيا بحل الطيبات، وفى الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنات. [سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الخرص: الحزر والتخمين ويراد به لازمه وهو الكذب، الحجة: الدلالة المبينة للقصد المستقيم، هلم أي أحضروا، يعدلون أي يتخذون له مثلا وعديلا يعادله ويشاركه. المعنى الجملي كان الكلام فى سالف الآيات فى تفصيل أصول الإسلام من توحيد الله والنبوة والبعث، وفى دحض شبهات المشركين التي كانوا يحتجون بها على شركهم وتكذيبهم للرسل وإنكارهم للبعث. وفى بيان أعمالهم التي هى دلائل على الشرك من التحريم والتحليل بخرافات وأوهام. وهنا ذكر شبهة لهم مثل بمثلها كثير من الكفار، وهم وإن لم يكونوا قالوها وأوردوها على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله المحيط علمه بكل شىء يعلم أنهم سيقولونها، فذكرها ورد عليها بما يبطلها، وكان ذلك من إخباره بأمور الغيب قبل وقوعها. الإيضاح (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) أي سيقول هؤلاء المشركون لو شاء الله ألا نشرك به من اتخذنا من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر، وألا نعظّم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم، وألا يشرك آباؤنا من قبلنا- لما أشركنا ولا أشركوا، ولو شاء ألا نحرم شيئا مما حرمنا من الحرث والأنعام وغيرها- لما حرمنا، ولكنه شاء أن نشرك به هؤلاء الأولياء والشفعاء ليقربونا

إليه زلفى، وشاء أن نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها فحرمناها، فإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى وعلى رضاه وأمره بها. ونحو الآية قوله: «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» وقوله: «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» وقد رد عليهم شبهتهم فقال: (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي ومثل ذلك التكذيب الذي صدر من مشركى مكة لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك وإثبات توحيد الله فى الألوهية والربوبية، ومنها حق التشريع والتحليل والتحريم- كذب الذين من قبلهم لرسلهم تكذيبا غير مبنى على أساس من العلم. والرسل صلوات الله عليهم قد أقاموا الحجج والبراهين العلمية والعقلية على التوحيد وغيره مما ادعوا، وأيدهم الله بباهر الآيات، ولكن المكذبين لم ينظروا فيها نظرة إنصاف، بل أعرضوا عنها وأصرّوا على جحودهم وعنادهم حتى ذاقوا بأسه تعالى وأهلكهم بذنوبهم وصاروا كأمس الدابر. ولو كانت مشيئة الله لما كانوا عليه من الشرك تتضمن رضاه عن فاعلها وأمره بها لما عاقبهم عليها تصديقا لما قال الرسل، كذلك لو كانت أعمالهم بالجبر المخرج لها عن كونها من أعمالهم، لما استحقوا العقاب عليها، ولما قال إنه أخذهم بذنوبهم، وأهلكهم بظلمهم وكفرهم ونحو ذلك مما جاء فى كثير من الآيات. فقوله: (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) برهان دالّ على صدق الرسل فى دعواهم وبطلان شبهات المشركين المكذبين لهم. وبعد أن ذكرهم بالبرهان الواضح أمر رسوله أن يطالبهم بدليل يثبت ما يزعمون فقال:

(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟) أي هل عندكم بما تقولون علم تعتمدون عليه وتحتجون به، فتخرجوه لنا لنفهمه ونوازن بينه وبين ما جئناكم به من الآيات العقلية والوقائع المحكية عن الأمم قبلكم ونتبين منها الراجح من المرجوح؟ وفى هذا الاستفهام من التعجيز والتوبيخ ما لا يخفى. ثم قّفى على ذلك ببيان حقيقة حالهم فقال: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي إنكم لستم على شىء من العلم، بل ما تتبعون فى عقائدكم وآرائكم فى الدين والعمل به إلا الحدس والتخمين الذي لا يستقر عنده حكم. وبعد أن نفى عنهم درجات العلم أثبت لذاته الحجة البالغة التي لا تعلوها حجة فقال: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين بعد تعجيزك إياهم عن أن يأتوا بأدنى دليل أو قول يرقى إلى أضعف درجة من العلم: إن لم يكن عندكم علم فى أمر دينكم، فإن لله وحده أعلى درجات العلم وله الحجة البالغة على ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل بما بينه فى هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد التشريع الموافقة للعقول الحكيمة والفطر السليمة وسننه فى الاجتماع البشرى، ولكن لا يهتدى بهذه الآيات إلا المستعدّ للهداية، المحب للحق، الحريص على طلبه، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه، دون من أعرض عن النظر فيها استكبارا عنها وحسدا للمبلّغ الذي جاء بها، وجمودا على تقليد الآباء واتباع الرؤساء. ولو شاء سبحانه أن يهديكم بغير هذه الطريق التي أقام أمر البشر عليها وهى التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال- لهداكم أجمعين- فجعلكم تؤمنون بالفطرة كالملائكة المفطورين على الحق والخير جل شأنه كما قال سبحانه عنهم: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» ويجعل الطاعة فيكم بغير شعور منكم

ولا إرادة كما يجرى الدم فى أبدانكم، أو مع الشعور بأنها ليست من أفعالكم، وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بخلقه مستعدا لعمل الخير والشر والحق والباطل، ويرجح أحدهما على الآخر بالاختيار، والاختيار لأحدهما بمشيئته- لا ينفى مشيئة الله تعالى ولا يعارضها، فإنه هو الذي شاء أن يجعله فاعلا باختياره. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» وقوله: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ، وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» وقوله: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وقوله: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟» . وبعد أن نفى عنهم العلم وسجل عليهم اتباع الخرص والكذب، ليظهر لهم أنهم ليسوا على شىء يعتدّ به من العلم- أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالب مشركى قومه بإحضار من عساه يعتمدون عليه من الشهداء فى إثبات تحريم الله تعالى عليهم ما ادّعوه من المحرمات فقال: (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا) أي أحضروا شهداءكم الذين يخبرون عن مشاهدة وعيان أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه. والخلاصة- عليكم أن تحضروا من أهل العلم الذين تتلقى عنهم الأمم الأحكام الدينية وغيرها بالأدلة الصحيحة التي تجعل النظريات العلمية كأنها مشاهدات حسية من يشهد لكم بصحة ما تدّعون. (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فإن فرض إحضار هؤلاء الشهود فلا تصدّقهم ولا تقبل لهم شهادة، ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها، فإن السكوت على الباطل كالشهادة به. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ولا تتبع أهواء هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا المنزلة، وبما أرشدت إليه من الآيات الكونية فى الأنفس والآفاق.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 إلى 153]

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي والذين هم مع جهلهم واتباعهم للأهواء لا يؤمنون بالآخرة حتى يحملهم الإيمان بها على سماع الدليل والحجة إذ ذكّروا بها، ويشركون بربهم ويتخذون له مثلا وعدلا يشاركه فى جلب الخير والنفع ودفع الضر، إما استقلالا وإما بحمله الرب على ذلك وتأثيره فى عمله وإرادته. [سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه لعباده جميع ما حرّم عليهم من الطعام، وذكر حجته البالغة على المشركين الذين حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه عليهم ودحض شبهتهم التي احتجوا بها على شركهم بربهم وافترائهم عليه. ذكر فى هذه الآيات أصول المحرمات فى الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل وأنواع البر.

الإيضاح

الإيضاح (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يتبعون أهواءهم فيما يحللون وما يحرمون لأنفسهم وللناس: أقبلوا إلىّ أيها القوم أقرأ لكم ما حرم ربكم عليكم فيما أوحاه إلىّ، وهو وحده الذي له حق التحريم والتشريع، وأنا مبلغ عنه بإذنه وقد أرسلنى بذلك. وخص التحريم بالذكر مع أن الوصايا أعم لأن بيان المحرمات يستلزم حل ما عداها، وقد بدأها بأكبر المحرمات وأعظمها وأشدها إفسادا للعقل والفطرة، وهو الشرك بالله، سواء أكان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثّرين فى إرادته، أو بما يذكّر بهم من صور وتماثيل وأصنام وقبور، أو باتخاذ الأرباب الذين يتحكمون فى التشريع فيحللون ويحرمون فقال: (1) (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) أي ومما أتلوه عليكم فى بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات- ألا تشركوا بالله شيئا من الأشياء وإن عظمت فى الخلق كالشمس والقمر والكواكب، أو فى القدر كالملائكة والنبيين والصالحين، فإن عظمتها لا تخرجها عن كونها مخلوقة لله، مسخّرة له بقدرته وإرادته: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» . ويلزم هذا أن تعبدوه وحده بما شرعه لكم على لسان رسوله لا بأهوائكم ولا بأهواء أحد من الخلق أمثالكم. (2) (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تاما كاملا لا تدخرون فيه وسعا، ولا تألون فيه جهدا، وهذا يستلزم ترك الإساءة وإن صغرت، فما بالك بالعقوق الذي هو من أكبر الكبائر وأعظم الآثام، وقد جاء فى القرآن غير مرة قرن التوحيد والنهى عن الشرك بالأمر بالإحسان إلى الوالدين. وكفى دلالة على عظيم عناية الشارع بأمر الوالدين أن قرنه بعبادته وجعله

ثانيها فى الوصايا، وأكده بما أكده به فى سورة الإسراء، كما قرن شكرهما بشكره فى سورة لقمان فى قوله: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» وما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أىّ العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها قلت ثم أىّ؟ قال: بر الوالدين. قلت ثم أىّ؟ قال: الجهاد فى سبيل الله» . والمراد ببرهما احترامهما احترام المحبة والكرامة، لا احترام الخوف والرهبة، لأن فى ذلك مفسدة كبيرة فى تربية الأولاد فى الصغر، وإلجاء لهم إلى العقوق فى الكبر، وإلى ظلم الأولاد لهم كما ظلمهم آباؤهم، وليس لهما أن يتحكما فى شئونهم الخاصة بهم، ولا سيما تزويجهم بمن يكرهون، أو منعهم من الهجرة لطلب العلم النافع أو لكسب المال والجاه إلى نحو ذلك: (3) (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أي ومما وصاكم به ربكم ألا تقتلوا أولادكم الصغار لفقر يحل بكم، فإن الله يرزقكم وإياهم أي يرزقهم تبعا لكم، وجاء فى سورة الإسراء: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» وسر اختلاف الأسلوبين وتقديم رزق الأولاد هناك على رزق الوالدين على عكس ما هنا- أن ما هناك متعلق بالفقر المتوقع فى المستقبل الذي يكون فيه الأولاد كبارا كاسبين، وقد يصير الوالدون فى حاجة إليهم لعجزهم عن الكسب بالكبر، ففرّق فى تعليل النهى فى الآيتين بين الفقر الواقع والفقر المتوقع فقدم فى كل منهما ضمان رزق الكاسب، للإيماء إلى أنه تعالى جعل كسب العباد سببا للرزق، لا كما يتوهم بعضهم فيزهد فى العمل بشبهة كفالته تعالى لرزقهم. (4) (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ولا تقربوا ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال كالزنا وقذف المحصنات سواء منه ما فعل علنا وما فعل سرا.

وقيل الظاهر ما تعلق بأعمال الجوارح، والباطن ما تعلق بأعمال القلوب كالكبر والحسد والتفكير فى تدبير المكايد الضارة وأنواع الشرور والمآثم. وقد روى عن ابن عباس فى تفسير الآية أنه قال: كانوا فى الجاهلية لا يرون بأسا بالزنا فى السر ويستقبحونه فى العلانية، فحرم الله الزنا فى السر والعلانية، أي فى هذه الآية وما أشبهها. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال: ما ظهر منها ظلم الناس، وما بطن منها الزنا والسرقة، أي لأن الناس يأتونهما فى الخفاء. وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أحد أغير من الله» من أجل ذلك حرم الفواحش: ما ظهر منها وما بطن» رواه البخاري ومسلم. (5) (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها بالإسلام أو بالعهد بين المسلمين وغيرهم كأهل الكتاب المقيمين بيننا بعهد وأمان، وقد جاء فى الحديث: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» وروى الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين خريفا» . وقوله إلا بالحق إيماء إلى أن قتل النفس قد يكون حقا لجرم يصدر منها كما جاء فى الحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأمور ثلاثة: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» . والخلاصة- إن قتلها بالحق هو أمر الشارع بإباحة قتلها كقتل القاتل عمدا أو قتل الزاني المحصن. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الوصية أن يعهد إلى إنسان بعمل خير أو ترك شر، ويقرن ذلك بوعظ يرجى تأثيره أي إنه سبحانه وصاكم بذلك ليعدّكم لأن تعقلوا الخير والمنفعة فى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، إذ هو مما تدركه العقول بأدنى تأمل.

وفى هذا تعريض بأن ما هم عليه من الشرك وتحريم السوائب وغيرها مما لا تعقل له فائدة، ولا تظهر فيه لذوى العقول الراجحة مصلحة. (6) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ولا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره، أو تعاملتم به ولو بواسطة وليه أو وصيه إلا بالفعلة التي هى أحسن فى حفظ ماله وتثميره، ورجحان مصلحته، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ما به يصلح معاشه ومعاده. والنهى عن القرب من الشيء أبلغ من النهى عنه، فإن الأول يتضمن النهى عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، وعن الشبهات التي هى مظنة التأويل، فيبتعد عنها، المتّقى ويستسيغها الطامع فيه إذ يراها بالتأويل من الوجوه الحلال التي لا تضرّ به أو يرجح نفعها على ضررها، كأن يأكل شيئا من ماله حين يعمل عملا له فيه ربح ولولاه ماربح. (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) والأشدّ مبلغ الرجل الحنكة والمعرفة، ولبلوغه طرفان، أدناهما الاحتلام الذي هو مبدأ سن الرشد والقوة التي يخرج بها عن كونه يتيما أو سفيها أو ضعيفا، ونهايته سن الأربعين والمراد هنا الأول كما قال الشعبي ومالك وآخرون: ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة. أي احفظوا مال اليتيم ولا تسمحوا له بتبذير شىء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه حتى يبلغ، فإذا بلغ فسلموه إليه، وهذا نظير قوله: «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» . والخلاصة- إن المراد النهى عن كل تعدّ على مال اليتيم وهضم لحقوقه من الأوصياء وغيرهم حتى يبلغ سن القوة بدنا وعقلا، إذ قد دلت التجارب على أن الحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأى قليل الخبرة بشئون المعاش يخدع كثيرا فى المعاملات.

وقد كان الناس فى الجاهلية لا يحترمون إلا القوة، ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء، ومن ثم بالغ الشارع فى الوصية بالضعيفين: المرأة، واليتيم. والقوة التي يحفظ بها المرء ماله فى هذا العصر هى اتزان الفكر، والرشد العقلي والأخلاق بكثرة المران والتجارب فى المعاملات، لكثرة الفسق والحيل ووجود أعوان السوء الذين يوسوسون إلى الوارثين ويزينون لهم الإسراف فى اللذات والشهوات على جميع ضروبها حتى لا يتركوهم إلا وهم فقراء، وقلما يستيقظون من غفلتهم إلا إذا بلغوا سن الكهولة التي يكمل فيها العقل ويفقهون تكاليف الحياة ويهتمون فيها بأمر النسل. وقد شرط الشارع الحكيم لإيتاء اليتامى أموالهم بلوغ سن الحلم وظهور الرشد فى المعاملات المالية بالاختبار كما سلف فى سورة النساء من قوله: «وَابْتَلُوا الْيَتامى» الآية. (7) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون أو لغيركم فيما تبيعون، فليكن كل ذلك وافيا تاما بالعدل، ولا تكونوا من أولئك المطففين الذين وصفهم الله بقوله: «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» . والخلاصة- أن الإيفاء يكون من الجانبين: حين البيع، وحين الشراء، فيرضى المرء لغيره ما يرضاه لنفسه. وقوله: (بِالْقِسْطِ) يدل على تحرى العدل فى الكيل والميزان حال البيع والشراء بقدر المستطاع. (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله، بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج، فهو لا يكلف من يبيع أو يشترى الأقوات ونحوها أن يزنها أو يكيلها بحيث لا تزيد حبة ولا مثقالا، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه سواء بحيث يعتقد أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد بهما عرفا.

والقاعدة الشرعية: أن التكليف إنما يكون بما فى وسع المكلف بلا حرج ولا مشقة عليه، ولو اتبع المسلمون هذه الوصية وعملوا بها لاستقامت أمور معاملاتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم، ولكن وا أسفا فسدت أمورهم وقلّت ثقتهم بأنفسهم، ووثقوا بغيرهم لاتباعهم هذه الوصية وأمثالها. وقد قص علينا الكتاب الكريم قصص من طفّفوا الكيل والميزان فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر بما كان من ظلمهم، كقوم شعيب وقد حكى الله عنهم ما قال لهم نبيهم شعيب: «وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم» . (8) (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي وعليكم أن تعدلوا فى القول إذا قلتم قولا فى شهادة أو حكم على أحد، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم، إذ بالعدل تصلح شئون الأمم والأفراد، فهو ركن ركين فى العمران، وأساس فى الأمور الاجتماعية، فلا يحل لمؤمن أن يحابى فيه أحدا لقرابة ولا غيرها، فالعدل كما يكون فى الأفعال كالوزن والكيل يكون فى الأقوال. ونحو الآية قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» وقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» . (9) (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) أي وأوفوا بعهد الله، وهذا شامل لما يأتى: (ا) ما عهده الله تعالى إلى الناس على ألسنة الرسل. (ب) ما آتاهم من العقل والوجدان والفطر السليمة كما قال: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ» وقال: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ» . (ج) ما عاهده الناس عليه كما قال: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» وقال: «أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» .

(د) ما عاهد الناس عليه بعضهم بعضا كما قال فى وصف المؤمنين: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» . فمن آمن برسل من رسله فقد عاهد الله حين الإيمان به أن يمتثل أمره ونهيه، وما شرعه للناس ووصاهم به فهو مما عهده إليهم، وما التزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد عليه ربه كما قال تعالى ناعيا على المنافقين سوء فعلهم: «وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ» الآية، وكذلك من عاهد السلطان وبايعه على الطاعة فى المعروف، أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع، وجب عليه الوفاء إذا لم يكن من قبيل المعصية. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) التذكر يطلق حينا على تكلف ذكر الشيء فى القلب أو التدرج فيه بفعله المرة إثر الأخرى، وحينا على الاتعاظ والتدبر كما قال تعالى: «وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» وقال: «سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى» . والخلاصة- إن ذلك الذي تلوته عليكم من الأوامر والنواهي وصاكم الله به رجاء أن يذكره بعضكم لبعض فى التعليم والتواصي الذي أمر الله به فى مثل قوله: «وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» لما فيه من مصالح ومنافع كتدارك النسيان والغفلة من كثرة الشواغل الدنيوية، أو رجاء أن يتعظ به من سمعه أو قرأه. (10) (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي وإن هذا القرآن الذي أدعوكم إليه وأدعوكم به إلى ما يحييكم، هو صراطى ومنهاجى

الذي أسلكه إلى مرضاة الله ونيل سعادة الدنيا والآخرة، حال كونه مستقيما لا يضل سالكه، ولا يهتدى تاركه، فاتبعوه وحده، ولا تتبعوا السبل الأخرى التي تخالفه وهى كثيرة، فتتفرق بكم عن سبيله، بحيث يذهب كل منهم فى سبيل ضلالة ينتهى بها إلى الهلكة، إذ ليس بعد الحق إلا الضلال. والخلاصة- إن هذا صراطى مستقيما لا عوج فيه، فعليكم أن تتبعوه إن كنتم تؤثرون الاستقامة على الاعوجاج وترجحون الهدى على الضلال. أخرج أحمد والنسائي وأبو الشيخ والحاكم عن عبد الله بن مسعود قال: «خط رسول الله خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» . وروى أحمد والترمذي والنسائي مرفوعا: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعن جنبتى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس هلمّوا ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتّحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من جوف الصراط واعظ الله فى قلب كل مسلم» . وجعل الصراط المستقيم واحدا، والسبل المخالفة متعددة، لأن الحق واحد والباطل وهو ما خالفه كثير، فيشمل الأديان الباطلة سواء أكانت وضعية أو سماوية محرفة أو منسوخة. ونهى عن التفرق فى صراط الحق وسبيله، لأن التفرق فى الدين الواحد وجعله مذاهب يتشيع لكل منها شيعة وحزب ينصرونه ويتعصبون له ويخطئون من خالفه ويرمون أتباعه بالجهل والضلال- سبب لإضاعته، إذ كل شيعة تنظر فيما يؤيد

مذهبها ويظهرها على مخالفيها، ولا يهمها إثبات الحق وفهم النصوص، والحق لا يكون وقفا على عالم معين ولا على أتباعه، بل كل باحث يخطىء ويصيب، وذلك ما دل عليه العقل وأثبته الكتاب والسنة والإجماع. ولما كان اتباع الصراط المستقيم وعدم التفرق فيه يجمع الكلمة ويعز أهل الحق كان التفرق فيه سبب ضعف المتفرقين وذلهم وضياع حقهم. روى ابن جرير عن ابن عباس فى قوله: «وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) التقوى اسم لكل ما يتقى من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه وقد ذكرت فى القرآن فى سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات وآداب وعشرة وزواج، وتفسر فى كل موضوع بما يناسبه. أي ذلك الأمر باتباع صراط الحق المستقيم، والنهى عن سبل الضلالات والأباطيل، وصاكم ربكم به ليهيئكم لاتقاء كل ما يشقي ويردى فى الدنيا والآخرة، ويوصلكم إلى السعادة العظمى والحياة الصالحة. وقال الرازي: ختمت الآية الأولى بقوله: لعلكم تعقلون، والثانية بقوله: لعلكم تذكرون، لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها، فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل فى القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به، فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان. وقال أبو حيان: ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف، وقد أمر

[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 إلى 157]

سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق، ختم الآية الثالثة بالتقوى التي هى اتقاء النار، إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية. وقد وردت أحاديث كثيرة بشأن هذه الوصايا نقلها الحفاظ الثقات فمن ذلك: (1) ما أخرجه الترمذي وحسّنه وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمة فليقرأ هؤلاء الآيات (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ- إلى قوله- تَتَّقُونَ) . (2) ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة ابن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، إلى ثلاث آيات ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهنّ شيئا فأدركه الله فى الدنيا كانت عقوبته، ومن أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه» . (3) ما أخرجه عبد بن حميد وأبو عبيد وابن المنذر عن منذر الثوري قال: قال الربيع بن خيثم: «أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلى الله عليه وسلم بخاتمه؟ قلت نعم، فقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة الأنعام: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الآيات» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر الحجج العقلية على أصول هذا الدين ودحض شبهات المعاندين، وقفى على ذلك بذكر الوصايا العشر فى الآيات الثلاث التي قبل هذه الآيات. نبه هنا إلى مكانة القرآن من الهداية وإلى وجوب اتباعه، وذكر أعذار المشركين بما يعلمون أنها لا تصلح لهم عذرا عند الله، وافتتح هذا التنبيه والتذكير بذكر ما يشبه القرآن فى التشريع ويسير على نهجه فى الهداية، وهو كتاب موسى عليه السلام الذي اشتهر عند مشركى العرب وعرفوا بالسماع خبره. الإيضاح (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) فى الكلام تقدير لفظ (قل) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الناس: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا- ثم قل لهم وأعلمهم أننا آتينا موسى الكتاب ... إلى آخره. وقد تكرر فى الكتاب الكريم قرنه بالتوراة لما بينهما من التشابه، فكل منهما شريعة كاملة، والإنجيل والزبور ليسا كذلك، فإن أكثر الإنجيل عظات وأمثال، وأكثر الزبور ثناء ومناجاة- إلى أن العرب كانوا يعلمون أن اليهود لهم كتاب يسمى التوراة، ولهم رسول يسمى موسى، وأنهم أهل علم، وكان يتمنى كثير من عقلائهم لو أتيح لهم كتاب كما أوتى اليهود التوراة، وأنه لو جاءهم كتاب لكانوا أهدى منهم، وأعظم انتفاعا به، لما يمتازون به من الذكاء وحصافة العقل ورجاحة الرأى.

ولما أخبر سبحانه عن القرآن بقوله: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ» قفى بمدح التوراة، كما جاء مثل هذا فى قوله: «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا» وقوله: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ» ثم قال: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ» الآية. وهذه الوصايا العشر التي فى الآيات الثلاث، والتي لها نظير فى سورة الإسراء- كانت أول ما نزل بمكة قبل تفصيل أحكام العبادات والمعاملات فى السور المدينة، وكذلك كانت أول ما نزل على موسى من أصول دينه، لكن وصايا القرآن أجمع للمعانى فهى تبلغ العشرات إذا فصلت. وهذه الوصايا وما أشبهها هى أصول الأديان على ألسنة الرسل، يرشد إلى ذلك قوله: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» . وليس هذا الدين المشترك الذي أوصى به هؤلاء الرسل الكرام إلا التوحيد ومكارم الأخلاق والتباعد عن الفواحش والمنكرات. (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي آتيناه الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن فى اتباعه واهتدى به، كما جاء فى قوله: «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» وقوله: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» . وقد يكون المعنى- آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشرائع كقوله «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» . (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) أي مفصلا لكل شىء من أحكام الشريعة عباداتها ومعاملاتها، مدنية كانت أو حربية أو جنائية، وهذا كقوله فى صفة القرآن: «وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ» .

(وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي ودليلا من دلائل الهداية إلى الحق، وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به، فينجيه الله من الضلال، وعمى الحيرة. (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي آتيناه الكتاب جامعا لكل ما ذكر، ليجعل قومه محل رجاء للإيمان بالله تعالى، وموضع الفوز فى دار الكرامة، تلك الدار التي أعدها الله لمن اهتدى بوحيه. وبعد أن وصف التوراة بتلك الصفات وصف القرآن الكريم فقال: (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) أي وهذا القرآن الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه- كتاب عظيم شأنه، أنزلناه بواسطة الروح الأمين، كما أنزلنا الكتاب على موسى، وهو مبارك أي كثير الخير دينا ودنيا، جامع لأسباب الهداية الدائمة، وقد جاء بأكثر مما فى كتاب موسى من تفصيل لهدى البشر فى معاشهم ومعادهم. (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي فاتبعوا ما هداكم إليه، واتقوا ما نهاكم عنه، وحذركموه، لتكون رحمته مرجوّة لكم فى الدنيا والآخرة. (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) الدراسة: القراءة والعلم كما جاء فى قوله: «ودرسوا ما فيه» أي علموا ما فيه ولم يأتوه بجهالة. أي أنزلنا إليك الكتاب المرشد إلى توحيد الله، وطريق طاعته، وتزكية النفوس من أدران الشرك، لئلا تقولوا يوم الحساب والجزاء معتذرين عن شرككم وإجرامكم: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وهما اليهود والنصارى، وقد كنا عن تلاوتهم للكتاب الذي أنزل عليهم غافلين، لا ندرى ما هى لعدم فهمنا ما يقولون لأنها بلسان غير لساننا، ولأنهم أهله دوننا، ولأنا لم نؤمر بما فيه، ولغلبة الأمية علينا. (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي ولئلا تقولوا: لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على هاتين الطائفتين قبلنا، فأمرنا بما فيه ونهينا

عما نهى عنه، وبيّن لنا خطأ ما نحن فيه- لكنا أهدى منهم، لأنا أذكى منهم أفئدة وأمضى عزيمة، وقد حكى الله عنهم مثل هذا فى قوله: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ» أي من إحدى الأمم المجاورة من أهل الكتاب. فرد الله عليهم بجواب قاطع لكل تعلّة دافع لكل اعتذار فقال: (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) البينة فى اللغة ما بيّن الحق، أي فقد جاءكم كتاب مبين للحق بالحجج والبراهين فى العقائد والفضائل والآداب وأمهات الأحكام بما به تصلح أمور البشر وشئون الاجتماع، وهو هاد لمن تدبره وتلاه حق تلاوته إذ يجذب ببلاغته وبيانه قلوب الناظرين فيه إلى الحق الذي فصله أتمّ تفصيل، وإلى عمل الخير والصلاح الذي بين فوائده ومنافعه، وهو رحمة عامة لمن يستضيئون بنوره، وتنفذ فيهم شريعته، إذ هم يكونون فى ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أحرارا فى عقائدهم وعباداتهم، يعيشون فى بيئة خالية من الفواحش والمنكرات. وبعد أن بين عظيم قدر هذا الكتاب بين سوء عاقبة من كذب به فقال: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها) صدف، أعرض: أي وإذا كانت هذه الآيات مشتملة على الهداية الكاملة، والرحمة الشاملة، فلا أظلم ممن كذب بها وأعرض عنها، أو لم يكتف بذلك، بل صرف الناس عنها كما كان يفعل كبراء مجرمى قريش بمكة، فقد كانوا يصدفون العرب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحولون بينه وبينهم، لئلا يسمعوا منه القرآن فينجذبوا إلى الإيمان. ونحو الآية قوله: «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ» . (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي سنجزى الذين يصدفون الناس عن آياتنا ويردّونهم عن الاهتداء بها سوء العذاب بسبب ما كانوا يجرون عليه من الصّدف عنها، إذ هم بذلك يحملون أوزارهم وأوزار من صدفوهم عن الحق، وحالوا بينهم وبين الهداية.

[سورة الأنعام (6) : آية 158]

ونحو الآية قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» أي زدناهم عذابا شديدا بصدهم الناس عن سبيل الله فوق العذاب على كفرهم بسبب إفسادهم فى الأرض بهذا الصدّ عن الحق. [سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر، وإزاحة للعلة، وقرن هذا الإعذار بالإنذار الشديد والوعيد بسوء العذاب. قفى على ذلك ببيان أنه لا أمل فى إيمانهم البتة، وفصل ما أمامهم وأمام غيرهم من الأمم وما ينتظرونه فى مستقبل أمرهم وأنه غير ما يتمنون من موت الرسل وانطفاء نور الإسلام بموته صلوات الله عليه. الإيضاح (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ينظرون أي ينتظرون، والمراد بالملائكة ملائكة الموت الذين يقبضون أرواحهم، والمراد بإتيان الله إتيان ما وعد به من النصر لأحبابه وأوعد به أعداءه من العذاب فى الدنيا كما جاء فى قوله: «فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» الآية. وإتيان أمره هو جزاؤهم على نحو ما جاء فى قوله: َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ

أَمْرُ رَبِّكَ؟ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» . والخلاصة- إنهم لا ينتظرون إلا أحد أمور ثلاثة: مجىء الملائكة أو مجىء ربك بحسب ما اقترحوا بقولهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» وقولهم: «أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» وقولهم: أو مجىء بعض آيات ربك غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم: «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً» ونحو ذلك من الآيات العظام التي علقوا بها إيمانهم. وفى الآية إيماء إلى تماديهم فى تكذيب آيات الله، وعدم اعتدادهم بها وأنه لا أمل فى إيمانهم البتة. (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي يوم يأتى بعض آيات ربك الموجبة للإيمان الاضطراري لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل أن تؤمن حينئذ، ولا نفسا لم تكن كسبت فى إيمانها خيرا وعملا صالحا أن تفعل ذلك بعد مجيئها، لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الأعمال، إذ التكليف يستدعى الإرادة والاختيار بالتمكن من الإيمان والكفر وعمل الخير والشر، وبذا يكون الثواب والعقاب. وبعض هذه الآيات قد يطلع عليه الأفراد عند الغرغرة قبل خروج الروح، وبعضها لا يطلعون عليه إلا قبيل يوم القيامة حين مجىء أشراط الساعة. وقد وردت أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف الذي لا يصلح وحده أن يكون حجة، أن المراد ببعض الآيات هو طلوع الشمس من مغربها قبيل تلك القارعة التي ترج الأرض رجا وتبس الجبال بسا، ويبطل هذا النظام الشمسى بحدوث حادث تتحول فيه حركة الأرض اليومية، فيكون الشرق غربا والغرب شرقا. أخرج البخاري فى تاريخه وأبو الشيخ فى العظمة وابن عساكر عن كعب الأحبار قال: «إذ أراد الله

[سورة الأنعام (6) : آية 159]

أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب (يريد المحور) فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها» . وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا» . وأخرج أحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» . (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي قل لهم: انتظروا أيها المعاندون وما تتوقعون إتيانه ووقوعه بنا من اختفاء أمر الإسلام. إنا منتظرون وعد ربنا لنا ووعيده لكم، ونحو الآية قوله: «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» . وفى هذا من التهديد والوعيد ما لا يخفى، وهو كقوله: «وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» . [سورة الأنعام (6) : آية 159] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) المعنى الجملي بعد أن وصّى سبحانه هذه الأمة على لسان رسوله باتباع صراطه المستقيم، ونهى عن اتباع غيره من السبل، ثم ذكر شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن ووصاياه، ثم تلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن بما ينتظر آخر الزمان من الحوادث الكونية للأفراد والأمم.

قفى على ذلك بتذكير هذه الأمة بما هى عرضة له بحسب سنن الاجتماع من إضاعة الدين بعد الاهتداء بالتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التي تجعلها أحزابا وشيعا تتعصب كل منها لمذهب أو إمام، فيضيع الحق وتنفصم عرا الوحدة وتصبح بعد أخوّة الإيمان أمما متعادية كما حدث لمن قبلهم من الأمم. وقد ذهب بعض مفسرى السلف إلى أن الآية نزلت فى أهل الكتاب إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى، فجعلوه أديانا مختلفة، وكل منها مذاهب تتعصب لها شيع مختلفة، يتعادون ويتقاتلون فيه، وذهب بعض آخر إلى أنها نزلت فى أهل البدع والفرق الإسلامية والمذاهب التي استحدثت فمزقت وحدة الأمة. ولا مانع من الجمع بين الرأيين، فإنه تعالى ذكر أهل الكتاب وشرعهم وأمر من استجاب لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم، كما جاء فى سورة آل عمران: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ثم بين أن رسوله برىء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما فعل أهل الكتاب، فهو يحذر من صنيعهم، وينهى عن سلوك طريقهم، فمن اتبع سنتهم فى هذا التفريق فالرسول برىء منه، كما هو برىء من أولئك المفرقين من سالفى الأمم. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد أنزل عليه (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الآية. وأخرج رواة التفسير بالمأثور عن أبي هريرة فى قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الآية. قال هم فى هذه الأمة. وأخرج الترمذي وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «يا عائش إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة،

أنا منهم برىء وهم منى برءاء» وليس المراد بنفي التوبة عنهم أنهم لا تقبل لهم توبة إذا ظهر لهم خطؤهم وعرفوا بدعتهم فرجعوا وتابوا إلى ربهم، بل المراد أنهم لا يتوبون لزعمهم أنهم على الصواب، وسواهم على الباطل. والخلاصة- إن المراد بالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أهل الكتاب، والمقصود من براءة الرسول منهم تحذير أمته من مثل فعلهم، ليعلم أن من فعل فعلهم وحذا حذوهم من هذه الأمة فالرسول منه برىء، إذ ما ورد فى الكتاب والسنة من صفات الكفار وأفعالهم ليس خاصا بهم، بل إذا اتصف المسلمون بمثل ما اتصفوا به كان حكمهم كحكمهم، لأن الله لا يبيح للمسلمين البدع والضلالات والتفرق فى الدين لأنهم مسلمون، فإن ذلك يكون هدما لأسس الدين، وخروجا من سنن المهتدين. ولدى التحقيق والبحث نجد أن أسباب التفرق فى هذه الأمة فى دينها وتبعه ضعفها فى دنياها ترجع إلى أمور: (1) التنازع على الملك، وقد حدث هذا من بدء الإسلام واستمر حتى وقتنا هذا. (2) العصبية الجنسية والنّعرة القومية فى كل شعب وقبيل، إذ شمخ كل شعب بأنفه وأبي أن يخضع لغيره اعتقادا منه أنه أرقى الشعوب أرومة، وأرفعها محتدا، فأنى له أن ينقاد لسواه؟ (3) عصبية المذاهب والآراء فى أصول الدين وفروعه، فأرباب المذاهب من الشيعة ذمّوا بقية المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية، ورجال الحديث تكلموا فى أهل القياس. (4) القول فى الدين بالرأى، فإن كثيرا ممن يركن إليهم فى الفتيا واستنباط الأحكام الدينية ضعيف عن حمل السنة والتفقه فى فهم الكتاب، فإذا عرضت له حادثه ولم يفطن إلى مأخذها من الكتاب أو السنة أفتى فيها بالرأى، وقد يكون

[سورة الأنعام (6) : آية 160]

مصادما للدليل النقلى أو لفتاوى الصحابة والتابعين- إلى أن آراء الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان وشئون المعيشة وأحوال الاجتماع، فأنى تتفق الألوف الكثيرة من الشعوب المختلفة فى الأزمنة المتعاقبة؟ (5) دسائس أعداء هذا الدين وكيدهم له ووضع كثير من الأحاديث التي نفقت لدى بعض رجال الدين واتخذوها مرجعا فى استنباط بعض الأحكام، والدين منها براء. (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي إن الذين فرقوا دينهم فأقرّوا ببعض وكفروا ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، إذ تفرقوا فرقا وكفّر بعضهم بعضا، وأخذوا بعضا وتركوا بعضا كما أخبر بذلك الكتاب الكريم بقوله: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» . وقوله: لست منهم فى شىء، أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم، والله يتولى جزاءهم، كما قال: (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي إنه تعالى هو الذي يجازيهم على مفارقة دينهم والتفريق له بما اقتضت به سنة الله من ضعف المتفرقين وفشل المتنازعين، وتسليط الأقوياء عليهم، وإذاقة بعضهم بأس بعض كما بين ذلك سبحانه بقوله: «فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» أي إنه بعد أن يعذبهم بأيديهم وأيدى أعدائهم فى الدنيا يبعثهم فى الآخرة، ثم ينبئهم عند الحساب بما كانوا يفعلون فى الدنيا من الاختلاف والتفرق اتباعا للأهواء ثم يجازيهم على ذلك أشد الجزاء فى النار وبئس القرار. [سورة الأنعام (6) : آية 160] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين فى السورة أصول الإيمان، وأقام عليها البراهين، وفنّد ما يورده الكفار من الشبهات، ثم ذكر فى الوصايا العشر أصول الفضائل والآداب التي يأمر بها الإسلام وما يقابلها من الرذائل والفواحش التي ينهى عنها. بين هنا الجزاء العام فى الآخرة على الحسنات وهى الإيمان والأعمال الصالحة، وعلى السيئات وهى الكفر والفواحش ما ظهر منها وما بطن. الإيضاح (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي من جاء ربه يوم القيامة بالخصلة الحسنة من خصال الطاعات التي فعلها وقلبه مطمئن بالإيمان فله عنده عشر حسنات أمثالها من عطائه غير المحدود. وهذه العشر لا يدخل فيها ما وعد به من المضاعفة لمن يشاء على بعض الأعمال كالنفقة فى سبيله، إذ قد وعد بالمضاعفة عليها دون قيد فى قوله: «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» ووعد بمضاعفة كثيرة فى قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» ووعد بالمضاعفة سبعمائة ضعف فى قوله: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» . وفى هذا إشارة إلى تفاوت المنفقين وغيرهم من المحسنين فى الصفات النفسية كالإخلاص فى النية والاحتساب عند الله والإخفاء سترا على المعطى وتباعدا من الشهرة، والإبداء لحسن القدوة، وتحرى المنافع والمصالح، وما يقابل ذلك من الصفات الرذيلة كالرياء وحب الشهرة الباطلة والمنّ والأذى.

والخلاصة- إن العشرة تعطى لكل من أتى بالحسنة، والمضاعفة فوقها تختلف بحسب مشيئته تعالى بما يعلم من أحوال المحسنين، فمن بذل الدرهم ونفسه كئيبة على فقده، لا تكون حاله كمن يبذله طيّبة به نفسه، مسرورة بتوفيق الله على عمل الخير ونيل ثواب الآخرة. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي ومن جاء بالخصلة السيئة وعليها طابع الكفر، تكنفها الفواحش والمنكرات، فلا يجزى إلا عقوبة سيئة مثلها بحسب سننه تعالى فى تأثير الأعمال السيئة فى إفساد النفس وتدسيتها. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الظلم النقص من الشيء كما جاء فى قوله تعالى: «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» أي إن كلا الفريقين فاعلى الحسنات والسيئات لا يظلم يوم الجزاء لا من الله لأنه منزّه عن الظلم عقلا ونقلا فقد روى مسلم من حديث أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: «يا عبادى، إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا» الحديث، ولا من غيره إذ لا سلطان لأحد من خلقه ولا كسب فى ذلك اليوم يمكنه من الظلم كما يفعل الأقوياء الأشرار فى الدنيا بالضعفاء، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه قال: «إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» . والمراد من كتابة الله لها أمره الملائكة بكتابتها كما ورد فى حديث أبي هريرة مرفوعا قال: «يقول الله: إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة، وإن أراد

[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 إلى 165]

أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» وفى هذا الحديث بيان للسبب فى كتابة السيئة حسنة، وأن ذلك إنما كان لمخالفة النفس بكفها عن عمل السيئة من أجل ابتغاء رضوان الله واتقاء سخطه وعذابه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 165] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) تفسير المفردات قيما، أي يقوم به أمر الناس فى معاشهم ومعادهم، حنيفا أي مائلا عن الأديان الباطلة، والنسك: العبادة، ومحياى ومماتى لله: أي وما آتيه فى حياتى وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح كله لله رب العالمين، الوزر لغة الحمل الثقيل، ووزره يزره حمله يحمله، والخلائف واحدهم خليفة، وهو من يخلف من كان قبله فى مكان أو عمل أو ملك، والابتلاء الاختبار والامتحان.

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما كانت هذه السورة أجمع السور لأصول الدين مع إقامة الحجج عليها ودفع الشبه عنها، وإبطال عقائد أهل الشرك وخرافاتهم- جاءت هذه الخاتمة آمرة له صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم قولا جامعا لجملة ما فصّل فيها- وهو أن الدين القيم والصراط المستقيم هو ملة إبراهيم دون ما يدعيه المشركون وأهل الكتاب المحرّفون، وأنه صلى الله عليه وسلم مستمسك به معتصم بحبله يدعو إليه قولا وعملا على أكمل الوجوه، وهو أول المخلصين وأخشع الخاشعين، وهو الذي أكمل هذا الدين بعد انحراف جميع الأمم عن صراطه. ثم بين أن الجزاء عند الله على الأعمال، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن المرجع إليه تعالى وحده، وأن له سننا فى استخلاف الأمم واختبارها بالنعم والنقم، وأن الله وحده، هو الذي يتولى عقاب المسيئين ورحمة المحسنين، فلا ينبغى الاتكال على الوسطاء ولا الشفعاء بين الله والناس فى غفران الذنوب وقضاء الحاجات كما هى عقيدة أهل الشرك أجمعين. الإيضاح (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قل أيها الرسول لقومك ولسائر البشر: إن ربى أرشدنى بما أوحاه إلىّ بفضله، إلى صراط مستقيم لا عوج فيه ولا اشتباه، يهدى سالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة، وهو الذي يدعوكم إلى طلبه منه حين تناجونه فتقولون: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» . (دِيناً قِيَماً) أي إن هذا الصراط المستقيم هو الدين الذي به يقوم أمر الناس فى معاشهم ومعادهم، وبه يصلحون. (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي الزموا ملة إبراهيم حال كونه حنيفا مائلا عن جميع ما سواه من الشرك والباطل.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي إنه منزه عن الشرك وما عليه المبطلون، وفيه تكذيب لأهل مكة القائلين إنهم على ملة إبراهيم وهم يعتقدون أن الملائكة بنات الله، ولليهود الذين يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى الذين يقولون: عيسى ابن الله، وهذا كقوله: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» . هذا الدين هو دين الإخلاص لله وحده، وهو الدين الذي بعث به جميع رسله وقرره فى جميع كتبه، وجعله ملة إبراهيم لأنه هو النبي الذي أجمع على الاعتراف بفضله وصحة دينه مشركو العرب وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكانت قريش ومن لفّ لفّها من العرب يسمون أنفسهم الحنفاء مدّعين أنهم على ملة إبراهيم، وهكذا فعل أهل الكتاب حين ادّعوا اتباعه واتباع موسى وعيسى عليهما السلام كما قال: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) المراد بالصلاة ما يشمل المفروض منها والمستحب، والنسك، العبادة، والناسك: العابد، وكثر استعماله فى عبادة الحج، والمراد من كون محياه ومماته لله أنه قد وجه وجهه وحصر نيته وعزمه فى حبس حياته لطاعته ومرضاته وبذلها فى سبيله، فيموت على ذلك كما يعيش. والآية جامعة لكل الأعمال الصالحة التي هى غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته، ويكون فيها الإخلاص لله رب العالمين. فينبغى للمؤمن أن يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله، فيتحرى الخير والصلاح والإصلاح فى كل عمل من أعماله، ويطلب الكمال فى ذلك لنفسه رجاء أن يموت ميتة ترضى ربه، ولا يحرص على الحياة لذاتها، فلا يرهب الموت: فيمتنع عن الجهاد فى سبيل الله، كما أن عليه أن يقيم ميزان العدل فيأخذ على أيدى أهل الجور ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وأفرد الصلاة بالذكر مع دخولها فى النسك، لأن روحها وهو الدعاء وتعظيم المعبود وتوجه القلب إليه والخوف منه، مما يقع فيه الشرك ممن يغلون فى تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم وصورهم وتماثيلهم. والخلاصة- إنه لا ينبغى أن تكون العبادة إلا لله رب العباد وخالقهم، فمن توجه إليه وإلى غيره من عباده المكرمين أو إلى غيرهم مما يستعظم من خلقه كان مشركا، فالله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم. (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي لا شريك له فى ربوبيته فيستحق أن يشركه فى العبادة ويتوجه إليه معه للتأثير فى عبادته، وبذلك أمرنى ربى، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال ما أمره به، وترك ما نهى عنه. وفى هذا بيان إجمالي لتوحيد الألوهية بالعمل بعد بيان أصل التوحيد فى العقيدة، ثم انتقل إلى برهانه الأعلى، وهو توحيد الربوبية بما أمره به فقال: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي أغير الله الذي خلق الخلق ورباهم- أطلب ربا آخر أشركه فى عبادتى له بدعائه والتوجه إليه، لينفعنى أو يمنع الضر عنى أو ليقربنى إليه زلفى، وهو تعالى رب كل شىء مما عبد ومما لم يعبد- فهو الذي خلق الملائكة والمسيح والشمس والقمر والكواكب والأصنام كما قال: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» . وإذا كان الله هو الخالق والمدبر فكيف أسفّه نفسى وأكفر بربي بجعل المخلوق المربوب مثلى ربّا لى، وجميع المشركين يعترفون بأن معبوداتهم مخلوقة لله رب العالمين وخالق الخلق أجمعين. (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تكسب كل نفس إثما إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها، ولا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس أخرى، بل تحمل كل نفس حملها فحسب كما قال: «لَها ما كَسَبَتْ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» أي دون ما كسب أو اكتسب غيرها.

والخلاصة- إن الدين أرشدنا أن نجرى على ما أودعته الفطرة فى النفوس من أن سعادة الناس وشقاءهم فى الدنيا بأعمالهم، والعمل يؤثر فى النفس التأثير الذي يزكّيها إن كان صالحا، أو التأثير الذي يدسّيها ويفسدها إن كان سيئا، والجزاء مبنى على هذا التأثير، فلا ينتفع أحد ولا يتضرر بعمل غيره. ومن كان قدوة صالحة فى عمل أو معلما له فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله أو فعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل، ومن كان قدوة سيئة فى عمل أو دالّا عليه ومغريا به، فإن عليه مثل إثم من فعله، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: «من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شىء» رواه مسلم. وهذه قاعدة من أصول كل دين بعث الله به رسله كما جاء فى سورة النجم: «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» . وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح فى المجتمع البشرى وهادمة لأسس الوثنية، وهادية للناس جميعا إلى ما تتوقف عليه سعادتهم فى الدنيا والآخرة، فإن العمل وحده هو وسيلة الفوز وطريق النجاة، لا كما يزعم الوثنيون من طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب، وهى وساطة بعض المخلوقات الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وربهم، ليعطيهم ما يطلبون فى الدنيا بلا كسب ولا سعى من طريق الأسباب التي جرت بها سنته فى خلقه، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبوا بها، أو ليحملوا الخالق على رفعها عنهم وترك عقابهم عليها، وعلى إعطائهم نعيم الآخرة وإنقاذهم من عذابها. ومما ينتفع به المرء من عمل غيره- لأنه فى الحقيقة كأنه عمله إذ كان سببا فيه- دعاء أولاده، وحجهم وتصدقهم عنه، وقضاؤهم لصومه كما ورد فى الحديث: «إذا مات

الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوله» رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة. ذاك أن الله قد ألحق ذرية المؤمنين بهم بنص الكتاب، وصح فى السنة أن ولد الرجل من كسبه. ومن هذا تعلم أن ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقاف على ذلك- بدعة غير مشروعة، وكذا إسقاط الصلاة، إذ لو كان لذلك أصل فى الدين لما جهله السلف، ولو علموه لما أهملوا العمل به. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي ثم إن رجوعكم فى الحياة الآخرة إلى ربكم دون غيره مما عبدتم من دونه، فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم المختلفة، ويتولى جزاءكم عليه وحده بحسب علمه وإرادته القديمين، ويضل عنكم ما كنتم تزعمون من دونه. ونحو الآية قوله: «إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» . (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي إن ربكم الذي هو رب كل شىء هو الذي جعلكم خلائف هذه الأرض بعد أمم قد سبقت، وفى سيرها عبر وعظات لمن ادكر وتدبر، وكذلك هو قد رفع بعضكم فوق بعض درجات فى الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، ليختبركم فيما أعطاكم أي ليعاملكم معاملة المختبر لكم فى ذلك، ويبنى الجزاء على العمل، إذ قد جرت سنته فى أن سعادة الناس أفرادا وجماعات فى الدنيا والآخرة أو شقاءهم فيهما تابعة لأعمالهم وتصرفاتهم.

خلاصة ما اشتملت عليه السورة من العقائد والأحكام

وجاء فى معنى الآية قوله: «وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» وقوله: «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» وقوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» . (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى سريع العقاب لمن كفر به أو كفر بنبيه وخالف شرعه وتنكّب عن سنته، وهذا العقاب السريع شامل لما يكون فى الدنيا من الضرر فى النفس أو العقل أو العرض أو المال أو غير ذلك من الشئون الاجتماعية، وهذا مطرد فى الدنيا فى ذنوب الأمم، وأكثرىّ فى ذنوب الأفراد، ومطرد فى الآخرة بتدسية النفس وتدنيسها. وهو سبحانه على سرعة عقابه وشديد عذابه للمشركين، غفور للتوابين رحيم بالمؤمنين المحسنين، إذ سبقت رحمته غضبه، ووسعت كل شىء، ومن ثم جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها، وقد يضاعفها بعد ذلك أضعافا كثيرة لمن يشاء، كما جعل جزاء السيئة سيئة مثلها، وقد يغفرها لمن تاب منها كما قال: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» . نسأله تعالى أن يغفر لنا خطيئاتنا ويستر زلاتنا بمنه وكرمه، إنه نعم المولى ونعم النصير. خلاصة ما اشتملت عليه السورة من العقائد والأحكام (1) العقائد وأدلتها بالأسلوب الجامع بين الإقناع والتأثير كبيان صفات الله بذكر أفعاله وسننه فى الخلق وآياته فى الأنفس والآفاق، وتأثير العقائد فى الأعمال، مع إيراد الحقائق بطريق المناظرة والجدل، أو ورودها جوابا بعد سؤال وفى أثناء ذلك يرد شبهات المشركين ويهدم هياكل الشرك ويقوّض أركانه. (2) الرسالة والوحى وتفنيد شبهات المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم وإلزامهم الحجة بآية الله الكبرى، وهى القرآن المشتمل على الأدلة العقلية والبراهين

العلمية، وقد كان كثير من الكفار مشركين وغير مشركين يكفرون بالرسل ويستبعدون إنزال الوحى عليهم. (3) البعث والجزاء والوعد والوعيد بذكر ما يقع يوم القيامة من العذاب للمجرمين، والبشارة للمتقين بالفوز والنعيم، مع ذكر عالم الغيب من الملائكة والجن والشياطين والجنة والنار، وقد كانت العرب كغيرها من الأمم تؤمن بالملائكة وبوجود الجن ويعتقدون بأنهم يظهرون لهم أحيانا بصورة الغيلان ويسمعون أصواتهم وعزفهم، وأنهم يلقون الشعر فى هواجس الشعراء. (4) أصول الدين ووصاياه الجامعة فى الفضائل والآداب والنهى عن الرذائل، وإذا نحن فصلنا القول فيها نرجعها إلى الأصول الآتية: (ا) إن دين الله واحد، فتفريقه بالمذاهب والأهواء وجعل أهله فرقا وشيعا خروج عن هدى الرسول الذي جاء به وموجب لبراءته من فاعليه. (ب) إن سعادة الناس وشقاوتهم منوطتان بأعمالهم النفسية والبدنية، وأن الجزاء على الأعمال يكون بحسب تأثيرها فى الأنفس، وأن الجزاء على السيئة بمثلها، وعلى الحسنة بعشر أمثالها فضلا من الله ونعمة، وجزاء السيئات على الإنسان وحده، وجزاء الحسنات له وحده فلا يحمل أحد وزر غيره. (ح) إن الناس عاملون بالإرادة والاختيار، ولكنهم خاضعون للسنن والأقدار، فلا جبر ولا اضطرار، ولا تعارض بين عملهم باختيارهم ومشيئة الخالق سبحانه، إذ المراد من خلقه الأشياء بقدر وتقدير أنه تعالى خلقها على وجه جعل فيه المسببات على قدر الأسباب بناء على علم وحكمة، فهو لم يخلق شيئا جزافا بغير تقدير ولا نظام يجرى عليه. (د) إن لله سننا فى حياة الأمم وموتها، وسعادتها وشقائها، وإهلاكها بمعاندة الرسل والظلم والفساد فى الأرض، وتربيتها بالنعم تارة والنقم أخرى. (هـ) إن التحليل والتحريم وسائر الشعائر التعبدية من حق الله تعالى، فمن وضع حكما لا يستند إلى شرع الله فقد افترى إثما عظيما.

(و) الأمر بالسير فى الأرض، وقد تكرر ذلك فى الكتاب الكريم للنظر فى أحوال الأمم وعواقب الأقوام التي كذبت الرسل. (ز) الترغيب فى معرفة ما فى الكون والإرشاد إلى معرفة سنن الله فيه، وآياته الكثيرة الدالة على علمه وقدرته. (ح) إن التوبة الصحيحة مع ما يلزمها من العمل الصالح موجبة لمغفرة الذنوب. (ط) ابتلاء الناس بعضهم ببعض، ليتنافسوا فى العلوم والأعمال النافعة، وإعلاء كلمة الحق والدين ورفعة شأنه وإعزاز أهله.

سورة الأعراف

سورة الأعراف آيها خمس ومائتان، وهى مكية، وقد روى أنها نزلت قبل سورة الأنعام، وأنها نزلت مثلها دفعة واحدة، لكن سورة الأنعام أجمع لما اشتركت فيه السورتان، وهو: أصول العقائد وكليات الدين التي قدمنا القول فيها، وهى كالشرح والبيان لما أوجز فى الأنعام، ولا سيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم، وقد اشتملت سورة الأنعام على بيان الخلق كما قال: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» وبيان القرون كما قال: «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» وعلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم، وجاءت هذه مفصلة لذلك، فبسطت فيها قصة آدم، وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) تفسير المفردات (المص) هذه حروف تكتب بصورة كلمة من ذوات الأربعة الأحرف، لكنا نقرؤها بأسماء هذه الأحرف فنقول: ألف. لام. ميم. صاد. وحكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء الحروف التي ليس لها معنى مفهوم غير مسماها الذي تدل عليه- تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شىء فكأنه أداة استفتاح بمنزلة ألا وها التنبيه.

الإيضاح

وبالاستقراء نرى أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب، هى التي نزلت بمكة لدعوة المشركين إلى الإسلام وإثبات النبوة والوحى، وما نزل منها بالمدينة كالزهراوين البقرة وآل عمران، فالدعوة فيه موجهة إلى أهل الكتاب، وهكذا الحال فى السور: مريم والعنكبوت والروم وص ون، فإن ما فيها يتعلق بإثبات النبوة والكتاب كالفتنة فى الدين بإيذاء الضعفاء لإرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة، والإنباء بقصص فارس والروم ونصر الله للمؤمنين على المشركين، وكان هذا من أظهر المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ويرى بعض العلماء أنها أسماء للسور، والأسماء المرتجلة لا تعلّل، كما يرى آخرون أن الحكمة فى ذكرها بيان إعجاز القرآن بالإشارة إلى أنه مركب من هذه الأحرف المفردة التي يتألف منها الكلام العربي ومع ذلك لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، ليؤديهم النظر إلى أنه ليس من كلام البشر، بل من كلام خالق القوى والقدر والحرج: الضيق من عاقبة المخالفة، والذكرى: التذكر النافع والموعظة المؤثرة، وولاية الله لعباده: تولى أمورهم فبما لا يصل إليه كسبهم من هدايتهم ونصرهم على أعدائهم، وشرعه لهم عبادته وبيان الحرام والحلال، و (ما) فى قوله قليلا ما- حرف يؤكد معنى القلة، وتذكرون: أصله تتذكرون حذفت منه إحدى التاءين. الإيضاح (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي هذا القرآن كتاب أنزل إليك من عند ربك، ووصفه بالإنزال من عنده تعالى- دال على عظيم قدره وقدر من أنزل إليه. (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي لا يضق صدرك من الإنذار به وإبلاغه من أمرت بإبلاغه إليهم، واصبر لأمرى فيما حمّلتك من عبء النبوة كما صبر أولو العزم من الرسل فإن الله معك. وقد كلف صلى الله عليه وسلم هداية الثقلين وكان من المتوقع أن يلقى أشد الإيذاء

والمقاومة والطعن والإعراض، وتلك أمور توجب ضيق الصدر كما قال فى سورة الحجر: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ» وقال فى سورة النحل: «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» وقال فى سورة هود: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» . ويراد بالنهى عن مثل هذا الأمر الطبيعي- الاجتهاد فى مقاومته والتسلي عنه بوعد الله، والتأسى بمن سبقه من الرسل أولى العزم صلوات الله عليهم أجمعين. (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) والمراد بالمؤمنين هنا من كتب الله لهم الإيمان، سواء أكانوا مؤمنين حين نزول هذه السورة أم لا. والخلاصة- إنه أنزل إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس، وتذكر به أهل الإيمان ذكرى نافعة مؤثرة. (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وخالقكم ومدبر أموركم، فهو وحده الذي له الحق فى شرع الدين لكم وفرض العبادات عليكم، وتحليل ما ينفعكم وتحريم ما يضركم، إذ هو العليم بما فيه الفائدة أو الضر لكم. (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تتخذوا من أنفسكم ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم- أولياء تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يرومون منكم من ضلال التقاليد والابتداع فى الدين، فيضعوا لكم أحكام الحرام والحلال زاعمين أنهم أعلم منكم، فيجب عليكم تقليدهم، ولا أولياء ينجونكم من الجزاء على ذنوبكم وجلب النفع لكم أو رفع الضر عنكم، زاعمين أنهم يقربونكم إلى الله زلفى، أو يشفعون لكم عنده فى الآخرة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 إلى 5]

والخلاصة- إن الله وحده هو الذي يتولى أمر العباد بالتدبير، والخلق والتشريع، وله وحده الخلق والأمر، وبيده النفع والضر. (قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أي إنكم تتذكرون قليلا لا كثيرا ما يجب أن يعلم للرب سبحانه، وما يحظر أن يشرك معه فيه غيره، وقد يكون المراد قليلا ما تتعظون بما توعظون به، فترجعون عن تقاليدكم وأهوائكم إلى ما أنزل إليكم من ربكم. وفى هذا إيماء إلى النهى عن طاعة الخلق فى أمر الدين غير ما أنزل الله من وحيه كما فعل أهل الكتاب فى طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم وزادوا على الوحى من العبادات، وما حرموا عليهم من المباحات كما جاء فى قوله: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» فكل من أطاع أحدا فى حكم شرعى لم ينزله الله فقد اتخذه ربا. واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من بيان الدين- داخل فى عموم ما أنزل إلينا على رسوله، لأنه تعالى أمرنا باتباعه وطاعته وأخبرنا أنه مبين لما نزل إليه كما قال: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» وقد صح فى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشىء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشىء من رأيى فإنما أنا بشر» رواه مسلم عن رافع بن خديج فى مسألة تأبير النخل (تلقيح النخلة بطلع الذكر) . [سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5] وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) تفسير المفردات (كَمْ) اسم يفيد التكثير، والقرية: تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس وعلى الناس معا، وتطلق على كل منهما كما جاء فى قوله: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» أي أهل

المعنى الجملي

القرية، والقرية هنا تصلح لأن يراد بها القوم أنفسهم، وأن يراد بها المكان لأنه يهلك كما يهلك أهله، والبيات: الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به على غرّة، والبأس: العذاب والقائلون: هم الذين ينامون استراحة وسط النهار أي حين القائلة يقال: قال يقيل قيلا وقيلولة، والدعوى: ما يدعيه الإنسان، وتطلق على القول أيضا. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فيما سلف أنه أنزل الكتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر به الناس ويكون موعظة وذكرى لأهل الإيمان، وأنه طلب إليه أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وألا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه فى أمر التشريع- أردف هذا التخويف من عاقبة المخالفة لذلك ولما يتبعه من أصول الدين وفروعه، والتذكير بما حل بالأمم قبلهم بسبب إعراضهم عن الدين وإصرارهم على أباطيل أوليائهم. الإيضاح (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي وكثير من القرى أهلكناها لعصيانها رسلها فيما جاءوها به من عند ربها، وكان هلاكها إما حين البيات ليلا كقوم لوط، وإما حين القائلة وهم آمنون نهارا كقوم شعيب، وكلا الوقتين وقت دعة واستراحة لم تكن تنتظر فيه كل منهما هلاكا ولا عذابا، فلا يجمل بالعاقل أن يأمن غدر الليالى ولا خدع الأيام ولا يغتر بالرخاء فيعدّه علامة على أنه مستحق له فهو مظنة الدوام. وفى ذلك تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزهم وعصبيتهم، وأن ذلك من دلائل رضا الله عنهم كما قال تعالى حكاية عنهم: «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» .

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي فما كان دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم العذاب إلا أن اعترفوا بظلمهم فيما كانوا عليه، وشهدوا ببطلانه، تحسرا وندامة وطمعا فى الخلاص ولكن أنى ينفع الندم، وقد أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة؟. وفى الآية من العبرة- أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنب فعله فى الدنيا، يعترف بجرمه ويندم على ما قرط منه إذا هو علم أنه سبب العقاب، وقلما يشعر المرء بعقاب فى الدنيا على الذنوب، لأنه يأتى على التراخي غالبا فالأمراض التي تتولد من شرب الخمر كأمراض القلب والكبد والجهاز التناسلى وضعف النسل واستعداده للأمراض إلى نحو ذلك من الأمراض الجسدية والعقلية تحصل ببطء، وقلما يعرفها غير الأطباء ومن ثم لا يشعر بها السكارى وإنما يشعرون بما يعقب الشرب من صداع وغثيان يسهل عليهم احتماله وترجيح لذة النشوة عليه. إلى أنه لو علمها بعد فقلما يفيد علمه بها شيئا بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة فى السكر حتى تحمله على التوبة، إذ داء الخمار يزمن، وحب السكر يضعف الإرادة. وعقاب الأفراد على الذنوب فى الدنيا لا يطرد، كما يطرد فى الأمم، فعقابها فى الدنيا على ما تجترح- حتم لا شبهة فيه، ولكن له آجال ومواقيت أطول مما يكون فى الأفراد، ويختلف باختلاف أحوال الأمة فى القوة والضعف، فأمة نشأ فيها الظلم والطغيان وعدمت الثقة بين أفرادها واختل نظام الأمن فيها وكثر فيها الفسق والفجور- تسوء حالها وتنحلّ قواها وتتفكك روابط الألفة والمودة بين أفرادها وتضعف منعتها، فتحسب أهلها جميعا وقلوبهم شتى، ولا يزال أمرها يأخذ فى التدهور والفساد حتى يستولى عليها العدو القاهر ويمتص ثروتها ويجعل أهلها أذلة مستضعفين، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع العقوبة، كما لا يجديها نفعا أن يقول حكماؤها: يا ويلنا إنا كنا ظالمين. وربما عمها الجهل، وران على قلوبها الفساد، فلا تشعر بأن ما حل بها إنما كان جزاء وفاقا، ونكالا من الله على ما قدمت من عمل، واقترفت من إثم،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 إلى 9]

فترضى باستذلال الغاصب كما رضيت من قبل بما اجترحت من الآثام والذنوب وقد يكون ذلك سبيلا لا نقراضها بما يعقبه الفسق والفجور من قلة النسل، ولا سيما إذا فشا الزنا والسكر، أو تبقى فيها بقية تدّغم فى الكثرة الغالبة، فلا تعد أمة على سبيل الاستقلال، وربما توالت عليها المصايب والآثام حتى تضيق بها ذرعا فتطلب لها مخرجا وترجع إلى الوراء لتبحث عن أسبابها فلا تجدها إلا فى أنفسها كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» . وإذا أرادت لها علاجا وتمنت لها دواء من دائها الدوىّ وتلفتت يمنة ويسرة سرا وعلانية لم تجده إلا ما وصفه الكتاب الكريم: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ولن يكون ذلك إلا بالإقلاع عما ترتكب من الجرائم والتوبة الصادقة والعمل الطيب الذي به تصلح القلوب وتستقيم الأمور، وهاكم ما قاله العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم حين توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء لما انقطع الغيث وعم الجدب: اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة. وفى هذا عبرة أيّما عبرة للشعوب الإسلامية التي ثلّت عروشها، وخوت صروح عظمتها، وقد كانت أجدر بهدى القرآن، ولكن أنى لها بذلك، وقد هجره الخاصة وتبعهم العامة، إذ جهلوا أحكامه وحكمه، حتى لقد بلغ الأمر بنابتتها، ألا ترى سببا لركود ريحها إلا اتباع القرآن والعمل بهذا الدين «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 9] فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه الرسل فى الآية السالفة بالتبليغ وأمر الأمم بالقبول والمتابعة، وذكّرهم بعذاب الأمم التي عاندت الرسل فى الدنيا- قفّى على ذلك بذكر العذاب الآجل يوم القيامة، وأنه فى ذلك اليوم يسأل كل إنسان عن عمله. الإيضاح (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسل إليهم: هم جميع الأمم الذين بلغتهم دعوة الرسل، فيسأل تعالى كل فرد منهم فى الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته، ويسأل المرسلين عن تبليغهم وإجابة أقوامهم لهم وعما عملوا من إيمان وكفر؟ وقد فصل هذا الإجمال فى آيات أخرى كقوله: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟» وقوله: «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ» وقوله فى سورة الحجر: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» . قال ابن عباس: نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلّغوه والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم. ولا مخالفة بين هذه الآية التي تثبت السؤال العام وبين قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» وقوله: «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» لأن ليوم القيامة مواقف متعددة والسؤال والجواب والاعتذار يكون فى بعضها دون بعض.

وقال الرازي: إنهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب قد أحصتها، لكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتهم عنها اهـ. يريد أنهم يسألون عن الموانع التي حالت بينهم وبين عمل ما طلب منهم عمله، أو فعل ما طلب إليهم تركه. (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) القصّ تتبع الأثر إما بالعمل كما فى قوله حكاية عن أم موسى «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» وإما بالقول كما فى قوله: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» . أي فلنقصن على الرسل وعلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم كل ما وقع من الفريقين قصصا بعلم منا محيط بكل ما كان منهم، فلا يعزب عنا مثقال ذرة، وقد روى عن ابن عباس أنه يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم فى وقت من الأوقات ولا حال من الأحوال، بل كنا معهم نسمع ما يقولون ونبصر ما يعملون، ونحيط علما بما يسرون وما يعلنون، كما قال تعالى: «وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً» . وفى هذا إيماء إلى أن السؤال لم يكن للاستعلام والاستبانة لشىء مجهول عنه تعالى، بل للإعلام والإخبار بما حدث منهم توبيخا لهم وتأنيبا على إهمالهم. وهذا القصص هو الذي يكون به الحساب ويتلوه الجزاء، وقد دل عليه الكتاب الكريم فى مواضع عدة، ودلت عليه السنة فمن ذلك ما رواه ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع يسأل عن الناس، والرجل راع يسأل عن أهله، والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده» وما رواه المقدام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة، بين يديه راية يحملها وهم يتبعونه، فيسأل عنهم ويسألون عنه» وما رواه الترمذي عن أبي برزة الأسلمى مرفوعا:

«لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه؟» وروى الحاكم وابن ماجه حديث شدّاد بن أوس مرفوعا: «الكيّس من دان- حاسب- نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى» . (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) الوزن عمل يراد به تعرف مقدار الشيء بالميزان والقسطاس وقد يطلق كل من الميزان والقسطاس على العدل كقوله: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ» وقوله فى الرسل: «وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» . أي والوزن فى ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم، ويقص عليهم كل ما كان منهم- هو الحق أي الذي تعرف به حقائق الأمور وما يستحقه كل أحد من ثواب وعقاب. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرة الحسنات فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب، والحائزون للنعيم فى دار الثواب. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي ومن خفت موازين أعماله بسبب كفره وكثرة ما اجترح من السيئات، فأولئك الذين خسروا أنفسهم، إذ حرموها السعادة التي كانت مستعدة لها لو لم يفسدوا فطرتها بالكفر والمعاصي وإصرارهم على ذلك إلى نهاية أعمارهم. والخلاصة- إن المؤمنين على تفاوت درجاتهم فى الأعمال هم المفلحون، فمن مات مؤمنا فهو مفلح وإن عذّب على بعض ذنوبه بمقدارها، وإن الكافرين على تفاوت دركاتهم هم فى خسران عظيم. وهناك فريق ثالث استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم أصحاب الأعراف وسيأتى ذكرهم بعد.

[سورة الأعراف (7) : آية 10]

وقد اختلف العلماء فى الوزن والموازين، هل المراد بها ظهور العدل التام فى تقدير الجزاء على الأعمال التي تصلح الأنفس وتزكيها أو تفسدها وتدسّيها بذلك قال مجاهد والضحاك والأعمش، أو أن هناك وزنا حقيقيا حكمته إظهار علم الله تعالى بأعمال عباده وعدله فى جزائهم عليها، وبهذا قال الجمهور. قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفّتان ويميل بالأعمال. وقال القرطبي: التي توزن هى الصحائف التي تكتب فيها الأعمال. والحق أن التي توزن هى الأعمال فقد أخرج أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا: «توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار، قيل ومن استوت حسناته وسيئاته؟ قال أولئك أصحاب الأعراف» . والذي عليه المعول فى الإيمان بعالم الغيب: أن كل ما ثبت من أخباره فى الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه، فنؤمن به ولا نحكّم رأينا فى كيفيته، فنؤمن بأن فى الآخرة وزنا للأعمال بميزان يليق بعالم الآخرة توزن به الأعمال والإيمان والأخلاق، ولا نبحث عن صورته وكيفيته. وإذا كان العلم الحديث كشف موازين للحر والبرد واتجاه الرياح والأمطار، أفيعجز القادر على كل شىء عن وضع موازين للأعمال النفسية والبدنية التي سماها الدين الحسنات والسيئات، بما تحدثه فى الأنفس من الأخلاق والصفات الثابتة فيها؟ [سورة الأعراف (7) : آية 10] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)

تفسير المفردات

تفسير المفردات مكناكم فى الأرض، أي جعلنا لكم فيها أمكنة تتبوءونها وتتمكنون من الإقامة فيها، والمعايش واحدها معيشة: وهى ما تكون به العيشة والحياة الجسمانية الحيوانية من المطاعم والمشارب وغيرها، وهى ضربان: (1) ما يحصل بخلق الله ابتداء كالثمار وغيرها. (2) ما يحدث بالا كتساب. وكلاهما إنما يحصل بفضل الله وإقداره وتمكينه، فيكون الكل إنعاما من الله، وذلك مما يوجب طاعته. المعنى الجملي بعد أن بين فيما سلف أن واضع الدين هو الله فيجب اتباعه دون ما يأمر به غيره من الأولياء والشفعاء، وقفّى على ذلك بذكر عذاب الدنيا بقوله: وكم من قرية أهلكناها، وذكر عذاب الآخرة بقوله: فلنسألن الذين أرسل إليهم، وبقوله: والوزن يومئذ الحق. أردف ذلك بذكر نعمه على عباده بتمكينهم فى الأرض وخلق أنواع المعايش فيها، مع بيان أن كثرة النعم توجب عليهم الطاعة له. الإيضاح (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ولقد جعلنا لكم فيها أوطانا تتبوءونها وتستقرون فيها وجعلنا لكم فيها معايش تعيشون بها أيام حياتكم من مطاعم ومشارب نعمة منى عليكم، وإحسانا منى إليكم، وأنشأنا لكم فيها ضروبا شتى من المنافع التي تعيشون بها عيشة راضية: من نبات وأنعام وطير وسمك ومياه عذبة وأشربة مختلفة الطعوم والروائح، ووسائل مختلفة للتنقل والارتحال من جهة إلى أخرى تتقدم بتقدم العلم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 إلى 18]

والاختراع من طيارات وسيارات وقطر ريّة وسفن بحرية، وسبل متعددة لمداواة المرضى بالعقاقير المختلفة على يد نطس الأطباء إلى نحو ذلك. وكل ذلك يقتضى منكم الشكر الكثير ولكن الشكر من العباد قليل كما قال: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» ومن ثم عقّب هذا بقوله: (قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي وأنتم قليلو الشكر على هذه النعم التي أنعمت بها عليكم، لا كثيروه كثرة تناسب كثرة الانتفاع بها فقد عبدتم سواى، واتخذتم الأولياء والشفعاء من دونى. وشكر النعمة يكون بمعرفة المنعم بها ثم حمده والثناء عليه بما هو له أهل، ثم التصرف فيها بما يحبه ويرضاه، وتحقيق الأغراض التي أسداها لأجلها. فهذه النعم المعيشية ما خلقت إلا لحفظ الحياة الجسمانية للأفراد والجماعات، والاستعانة بذلك على حفظ الحياة الروحية التي بها تزكو الأنفس، وتستعد للحياة الأخرى الأبدية التي فيها النعيم المقيم والسعادة المستقرة إلى غير نهاية. [سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 18] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الخلق: التقدير، يقال خلق الخياط الثوب: أي قدّره قبل قطعه، وخلق الله الخلق: أوجدهم على تقدير أوجبته الحكمة، والهبوط: الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه أو من منزلة إلى ما دونها، فهو إما حسى وإما معنوى، والتكبر: جعل الإنسان نفسه أكبر مما هى عليه، والصغار: الذلة والهوان، وأنظره: أخره، والإغواء: الإيقاع فى الغواية: وهى ضد الرشاد، وذأم الشيء: عابه، ودحر الجند العدو، طرده وأبعده. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه عباده فى الآية السابقة بنعمه عليهم بالتمكين فى الأرض وخلق أنواع المعايش فيها- قفّى على ذلك ببيان أنه خلق النوع الإنسانى مستعدا للكمال وأنه قد تعرض له وسوسة من الشيطان تحول بينه وبين هذا الكمال الذي يبتغيه. الإيضاح (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) الخطاب لبنى آدم أي ولقد خلقنا مادة هذا النوع من الصلصال والحمأ المسنون أي من الماء والطين اللازب، فمنه خلق الإنسان الأول، ثم جعلنا من تلك المادة صورة بشر سوىّ قابل للحياة. وقد يكون المعنى- إنا قدرنا إيجادكم تقديرا ثم صورنا مادتكم تصويرا، وذلك شامل لخلق آدم وخلق مجموع الناس، إذ أن كل فرد يقدر الله خلقه ثم يصور المادة التي يخلقه منها فى بطن أمه. (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي وبعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا

وصار مستعدا لأن يكون خليفة فى الأرض، وعلمناه الأسماء كلها، قلنا لجماعة الملائكة اسجدوا لآدم. (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي فسجد الملائكة جميعا إلا إبليس فإنه أبي واستكبر، وهو من الجن لا منهم. وهذا السجود سجود تكريم وتعظيم من الله لآدم لا سجود عبادة، فقد قامت الدلائل القاطعة على أنه لا معبود إلا الله وحده. (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) لا هنا مزيدة للتأكيد بدليل قوله فى آية أخرى: «ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ» أي قال له تعالى: ما منعك من امتثال أمرى، فرفضت أن تسجد لآدم مع الساجدين. وقد تكون (لا) غير زائدة والمنع بمعنى الحمل والاضطرار، وعليه فالمعنى- ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد. وخلاصة ذلك- أي شىء عرض لك فحملك على ألا تكون مع الملائكة فى امتثال أمرى بالسجود؟. ثم ذكر سببا يبرر به امتناعه عن السجود. (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أي إن الذي حملنى على ذلك أنى خير منه إذ أنك خلقتنى من النار وخلقته من الطين، والنار خير من الطين وأشرف، والشريف لا يعظّم من دونه ولو أمره بذلك ربه. ولا شك أن فى هذا ضروبا من الجهالة وأنواعا من الفسوق والعصيان تتجلى لك فيما يلى: (ا) اعتراضه على مولاه وخالقه بما تضمنه جوابه. (ب) احتجاجه عليه بما يؤيد به اعتراضه، والمؤمن المذعن لأمرر به يعلم أن لله الحجة البالغة، والحكمة الكاملة، فيما يفعل ويأمر وينهى.

(ح) إنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه له وموافقته لهواه، وهذا رفض لطاعة الخالق وترفّع عن مرتبة العبودية، والمرءوس فى الدنيا إذا لم يطع أمر الرئيس إلا فيما يوافق هواه، صار الأمر فوضى والعاقبة وخيمة، فلا يصلح عمل ولا يتم الفوز والنجاح. وقد روى أبو نعيم فى الحلية عن جعفر الصادق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له اسجد لآدم قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين» قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس. (د) استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين، وخيرية الموادّ بعضها على بعض أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء ولا تثبت بالبرهان، إلى أن كثيرا من الموادّ النفسية خسيسة الأصل، ألا ترى أن أصل المسك الدم، والماس من (الكربون) الذي هو أصل الفحم، إلى أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من النار، والنور خير من النار، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم. (هـ) إن جميع الأحياء النباتية والحيوانية التي فى هذه الأرض إما من الطين مباشرة أو بالواسطة وهى خير ما فيها، وليس للنار شىء من هذه المزايا ولا ما يقرب منها. (ز) إنه قد جهل ما خص به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، فكان بذلك أفضل منهم، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة لربهم. وكل ما قدمنا مبنى على أن الأمر بالسجود أمر تكليف، وأنه قد وقع حوار بين الله وإبليس. ويرى كثير من العلماء أن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان، إذ جعل الملائكة وهم المدبرون لأمور الأرض بإذن ربهم- مسخرين لآدم وذريته، وجعل هذا النوع مستعدا للانتفاع بالأرض كلها بعلمه بسنن الله فيها وعمله بهذه السنن، فالانتفاع بمائها وهوائها ومعادنها ونباتها وحيوانها وكهربائها ونورها، وبذلك ظهرت

حكمة الله تعالى وآياته فيها كما اصطفى بعض أفراده وخصهم بوحيه ورسالته وجعلهم مبشرين بدينه وهديه، وجعل الشيطان عاصيا متمردا على الإنسان وعدوا له وجعل النفوس البشرية وسطا بين النفوس الملكية المفطورة على طاعة الله تعالى وإقامة سننه فى صلاح الخلق، وبين روح الجن الذين يغلب على شرارهم (وهم الشياطين) التمرد والعصيان. كما أنه تعالى آتى الإنسان إرادة واختيارا إن شاء صعد إلى أفق الملائكة، وإن أراد هبط إلى أفق الشياطين. (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) أي اهبط من الجنة التي خلقك الله فيها وكانت على مرتفع من الأرض حين كانت قريبة العهد بالظهور فى وسط الماء، فخير ما يصلح منها لسكنى الإنسان مرتفعاتها. وقيل هى جنة الجزاء التي أسكنه الله فيها بعد خلقه فى الأرض، ويرشد إلى هذا ما جاء فى سورتى البقرة وطه من أمره بالهبوط وأمر آدم وزوجه بذلك بعد قوله: «اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ» . (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي فما ينبغى لك أن تتكبر فى هذا المكان المعدّ للكرامة والتعظيم. (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي فاخرج من هذا المكان، فإنك من ذوى الذلة والهوان، وقد أظهر حقيقتك الامتحان، ودل على أنك من الأشرار لا الأخيار. وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى جازاه بضد ما أراد، فقد أراد أن يرفع نفسه عن منزلتها فجوزى بالهبوط منها إلى ما دونها، وجاء فى بعض الآثار: «إن الله تعالى يحشر المتكبرين يوم القيامة فى أحقر الصور، إذ يطؤهم الناس بأرجلهم، كما أنه يبغّضهم إلى الناس فى الدنيا، فيحتقرونهم ولو فى أنفسهم» . (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي قال رب أمهلنى إلى يوم يبعث آدم وذريته فأكون أنا وذريتى أحياء ما داموا أحياء، وأشهد انقراضهم وبعثهم.

وقد أراد بذلك أن يجد فسحة فى الإغواء فيأخذ بالثأر، ثم هو مع ذلك ينجو من الموت إذ لا موت بعد البعث. (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي قال سبحانه: إنى أجبتك إلى ما طلبت، لما فى ذلك من الحكمة التي أنا بها عليم. وظاهر الآية يدل على أنه تعالى جعله من المنظرين إلى يوم يبعثون، لكن جاء فى سورة الحجر: «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» فهذا يدل على أن النظرة إلى وقت النفخة الأولى بالصور، وهى النفخة التي يموت فيها أهل الأرض جميعا دفعة واحدة، لا إلى وقت النفخة الثانية وهى التي بها يبعثون، وورد أن بينهما أربعين سنة. والنفخة الأولى تسمى نفخة الفزع لقوله تعالى فى سورة النمل: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» ونفخة الصعق لقوله فى سورة الزمر: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» . روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن هذه الآية: من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله عز وجل، أي هم حججه على خلقه بحسن سيرتهم واستقامتهم فى الدنيا وهم يشهدون فى الآخرة بضلال كل من خالف هديهم وسنتهم، ويدخل فى هؤلاء النبيون والصديقون، فكل نبى شهيد على قومه كما قال تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» وكذلك كل صدّيق شهيد. والخلاصة- إن إبليس يموت عقب النفخة الأولى التي يتلوها حراب هذه الأرض كما قال فى سورة الحاقة: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» .

ولا يبقى إلى يوم البعث، إلا إذا قلنا إن يوم البعث ويوم القيامة يطلقان تارة على ما يشمل زمن مقدماتهما، وتارة أخرى على زمن الغاية وحدها. (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) صراط الله المستقيم: هو الطريق الذي يصل سالكه إلى السعادة التي أعدها سبحانه لمن زكّى نفسه بهدى الدين الحق الذي يكمّل الفطرة كما جاء فى الخبر: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه» . أي قال إبليس: فبإغوائك إياى من أجل آدم وذريته، أقسم لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم، فأصدنهم عنه وأقطعنّه عليهم بأن أزيّن لهم طرقا أخرى أشرعها لهم من جوانب هذا الطريق حتى يضلّوا عنه، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي ثم لا أدع جهة من الجهات الأربع إلا هاجمتهم منها مترصّدا لهم كما يقعد قطّاع الطريق للسابلة. وخلاصة ذلك- لأسوّلنّ لهم ولأصلنهم قدر المستطاع، وقد ضرب لذلك المثل بحال العدو يأتى عدوه من أي جهة أمكنته ويفترص الفرصة إذا سنحت له. (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي ولا تجد أكثرهم مطيعين لك، شاكرين لنعمك عليهم، فى عقولهم ومشاعرهم ومعايشهم وفى كل ما يهديهم إلى تكميل فطرتهم من تعاليم رسلك لهم، بل الأقلون منهم هم الذين يتبعون ذلك، وقد قال إبليس ذلك عن ظن فأصاب لقوله تعالى: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . وروى عن ابن عباس فى تفسير الجهات الأربع: من بين أيديهم أي أشككهم فى آخرتهم، ومن خلفهم أي أرغبهم فى دنياهم، وعن أيمانهم أي أشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أي أستنّ لهم المعاصي، ولا تجد أكثرهم شاكرين أي موحدين وفى رواية أخرى عنه من بين أيديهم- أي من قبل الدنيا، ومن خلفهم أي من قبل الآخرة، وعن أيمانهم أي من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم أي من قبل سيئاتهم.

والرواية الثانية تخالف الأولى فى تفسير ما بين الأيدى: هل المراد منه ما هو حاضر أو ما هو مستقبل، وفى تفسير الخلف: هل المراد منه ما يتركه المرء ويتخلف عنه وهو الدنيا، أو هو ما وراء حياته الحاضرة وهو الآخرة، واللفظ محتمل لكلا التأويلين. روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات: «اللهم احفظني من بين يدىّ ومن خلفى وعن يمينى وعن شمالى ومن فوقى، وأعوذ بك أن أغتال من تحتى» . (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) أي قال اخرج من الجنة وأنت مذموم مهان من الله وملائكته ومطرود من جنته. (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أقسم إن من يتبعك من بنى آدم فيما تزيّنه له من الشرك والفجور، ويصدق ظنك عليه ليكونن معك فى جهنم دار العذاب، ولأملأنها منك وممن تبعك منهم أجمعين. وفى قوله منهم إشارة إلى أن الملء يكون من بعضهم، فإن بعض من يتبعه فى بعض المعاصي من المؤمنين الموحدين يغفر الله لهم ويعفو عنهم. ونحو الآية قوله فى سورة ص: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» . وقد استثنى فى سورتى الحجر وص من إغوائه عباده المخلصين، فقال فى الأولى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» وقال فى الثانية: «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» . وقد علمت أن المراد من هذا بيان طبيعة البشر وطبيعة الشيطان واستعدادهما واختيارهما فى أعمالهما كما هو رأى بعض العلماء، وأيد ذلك الحافظ ابن كثير.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 إلى 25]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) تفسير المفردات أصل الوسوسة: الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي وسوسة، ووسوسة الشيطان للبشر: ما يجدونه فى أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزيّن لهم ما يضرهم فى أبدانهم أو أرواحهم، وروى الشيء: غطّى وستر، والسوءة: ما يسوء الإنسان أن يراه غيره من أمر شائن وعمل قبيح؟ وإذا أضيفت إلى الإنسان أريد بها عورته الفاحشة، لأنه يسوءه ظهورها بمقتضى الحياء الفطري. من الخالدين: أي الذين

المعنى الجملي

لا يموتون أبدا، وقاسمهما: أي أقسم وحلف لهما، ودلّى الشيء تدلية: أرسله إلى أسفل رويدا رويدا، والغرور: الخداع بالباطل، طفقا: أي أخذا وشرعا، يخصفان: أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة من قولهم: خصف الإسكافي النعل: إذا وضع عليها مثلها. المعنى الجملي لا يزال الحديث متصلا فى الكلام فى النشأة الأولى للبشر وفى شياطين الجن، وقد ذكرت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات فى وعظ بنى آدم وإرشادهم إلى ما به تكمل فطرتهم، وفى ذلك امتنان عليهم وذكر لكرامة أبيهم. الإيضاح (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الجنة: هى التي خلق فيها آدم، فآدم خلق من الأرض فى الأرض. وقد تكررت هذه القصة فى سبعة مواضع من الكتاب العزيز، ولم يرد فى موضع منها أن الله رفعه إلى الجنة التي هى دار الجزاء، وإن كان الجمهور على أنها جنة الجزاء على الأعمال. ويردّه أنه كلّف فيها ألا يأكل من تلك الشجرة، ولا تكليف فى دار الجزاء، ولأنه نام فيها، وأخرج منها، ودخل عليه إبليس، ولا نوم فى الجنة، ولا خروج بعد الدخول، ولا يمكن دخول الشيطان فيها بعد الطرد والإخراج. والآية تدل على أن آدم كان له زوج فى الجنة، وفى التوراة (إن الله ألقى على آدم سباتا انتزع فى أثنائه ضلعا من أضلاعه، فخلق منه حواء امرأته، وأنها سميت امرأت لأنها من امرئ أخذت) وليس فى القرآن ما يدل على هذا، وما روى من ذلك مأخوذ من الإسرائيليات، وما روى فى الصحيحين عن أبي هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم

«فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج» فهو من باب التمثيل على حد قوله: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» والدليل على ذلك قوله بعد: «فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم بزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا» فإنه لا شك أن المراد منه- لا تحاولوا تقويم النساء بالشدة والغلظة فى المعاملة. (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أي فكلا من ثمارها من أي مكان أردتما. (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) النهى عن قرب الشيء أبلغ أثرا من النهى عن الشيء نفسه، إذ أنه يقتضى البعد عن موارد الشبهات التي تغرى به كما جاء فى الحديث: «ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» . وقد أبهم سبحانه هذه الشجرة، ولو كان فى تعيينها خير لنا لعيّنها، وقد علل القرآن النهى عنها، بأنهما إذا اقتربا منها كانا من الظالمين لأنفسهما بفعلهما ما يعاقبان عليه ولو بالحرمان من رغد العيش وما يعقبه من التعب والمشقة. (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي زين لهما ما يضرهما ويسوءهما إذا هما رأيا ما يؤثران ستره وألا يرى مكشوفا، والأرجح أن هذه الوسوسة كانت بأن تمثل الشيطان لآدم وزوجه وكلمهما. (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي وقال لهما فيم وسوس به: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأحد أمرين كراهة أن تكونا بالأكل منها كالملكين فيما أوتى الملائكة من الخصائص والمزايا: كالقوة وطول البقاء وعدم التأثر بتأثيرات الكون المؤلمة المتعبة، أو كراهة أن تكونا من الخالدين فى الجنة، أي الذين لا يموتون البتة والخلاصة- إنه أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة إما أن يعطى الآكل صفات الملائكة وغرائزهم، أو يقتضى الخلود فى الحياة وفى الآية إيماء إلى تفضيل الملائكة على آدم، وخصصه بعضهم بملائكة السماء

والعرش والكرسي من العالين والمقرّبين، دون ملائكة الأرض المسخرين لتدبير أمورها وإحكام نظامها. (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي وأقسم إنه ناصح لهما فيما رغبهما فيه من الأكل من الشجرة، وأكد ذلك بأشد المؤكدات وأغلظها، إذ كان عندهما محل الظّنة فى نصحه، لأن الله أخبرهما أنه عدو لهما. (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي فما زال يخدعهما بالترغيب فى الأكل من هذه الشجرة والقسم على أنه ناصح لهما حتى أسقطهما وحطهما عما كانا عليه من سلامة الفطرة وطاعة البارئ لهما بما غرهما به وزين لهما، وقد اغترا به وانخدعا بفسمه وصدّقا قوله اعتقادا منهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا. ويرى بعض العلماء أن الغرور كان بتزيين الشهوة، فإن من غرائز الشر وطبائعهم كشف المجهول والرغبة فى الممنوع، فقد نفخ الشيطان فى نار هذه الشهوات الغريزية وأثار النفس إلى مخالفة النهى حتى نسى آدم عهد ربه، ولم يكن له من قوة العزم ما يكفه عن متابعة امرأته، ويعتصم به من تأثير شيطانه كما قال فى سورة طه، «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» وجاء فى الصحيح عن أبي هريرة: «ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها» أي لأنها هى التي زينت له الأكل من الشجرة، وقد فطرت المرأة على تزيين ما تشتهيه للرجل ولو بالخيانة له. (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي فلما ذاقا ثمرة الشجرة ظهرت لكل منهما سوءته وسوءة صاحبه وكانت مستورة عنهما، فدبت فيها شهوة التناسل بتأثير الأكل من الشجرة، فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها، فخجلا من ظهورها وشعرا بالحاجة إلى سترها، وشرعا يلزقان ويربطان على أبدانهما من ورق أشجار الجنة العريض ما يسترها.

والخلاصة- إن الشيطان لما وسوس لهما بقوله: ما نهاكما ربكما إلخ ولم يقبلا منه ما قال- لجأ إلى اليمين كما دل على ذلك قوله: وقاسمهما، فلم يصدقاه أيضا، فعدل بعد ذلك إلى الخداع كما أشار إلى ذلك بقوله: فدلاهما بغرور أي إنه شغلهما بتحصيل اللذات فجعلاها نصب أعينهما ونسيا النهى كما يدل على ذلك قوله: «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» . وقد عاتبه الله على تركه التحفظ والحيطة والتدبر فى عواقب الأمور فقال: (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ؟) أي وناداهما ربهما معاتبا لهما وموبّخا لهما وقال: ألم أنهكما عن أن تقربا هذه الشجرة وأقل لكما إن الشيطان ظاهر العداوة لكما، فإن أطعتماه أخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء فى العيش والتعب والنصب فى الحياة. ونحو الآية قوله فى سورة طه: «فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى» . (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي قالا ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بطاعتنا للشيطان ومعصيتنا لأمرك وقد أنذرتنا، وإن لم تغفر لنا ما ظلمنا به أنفسنا وترحمنا بالرضا عنا وتوفيقنا إلى الهداية وترك الظلم، وبقبول توبتنا إذا نحن أنبنا إليك، وإعطائنا من فضلك فوق ما نستحق- لنكونن من الخاسرين لأنفسنا وللفوز والفلاح بتزكيتها. والخلاصة- إن الظفر بالمقصود والفوز بالسعادة لا ينالهما بمغفرتك ورحمتك إلا من ينيب إليك ويتبع سبيلك، ولا ينالهما من يصرّ على ذنبه ويحتج على ربه كما فعل الذي أبي واستكبر فكان من الخاسرين. ونحو الآية قوله فى سورة البقرة: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يرى كثير من سلف الأمة أن هذا الخطاب لآدم وحواء، وإبليس عليه اللعنة، أي اهبطوا من هذه الجنة بعضكم عدو لبعض أي إن الشيطان عدو للإنسان، فعلى الإنسان ألا يغفل عن عداوته ولا يأمن وسوسته وإغواءه كما جاء فى قوله: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» . وهذا الإخراج من ذلك النعيم عقاب على تلك المعصية التي بها ظلما أنفسهما، وقد قضت به سنة الله فى الخلق، إذ جعله أثرا طبيعيا للعمل السيء مترتبا عليه، أما العقاب الأخروى على عصيان الرب فقد غفره الله له بالتوبة التي أذهبت أثره من النفس وجعلتها محلا لاصطفائه كما قال فى سورة طه: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى» . (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي ولكم فى الأرض استقرار وبقاء إلى زمن مقدر فى علم الله وهو الأجل الذي به تنتهى فيه أعماركم وتقوم فيه القيامة، كما أن لكم فيها متاعا تنتفعون به فى معيشتكم. ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ» . ثم فصل هذا القول المجمل: (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) أي فى هذه الأرض التي خلقتم منها تحيون مدة العمر المقدّر لكل منكم وللنوع بأسره، وفيها تموتون حين انتهائه، ومنها تخرجون بعد موتكم كلكم، وحين ما يريد المولى أن يبعثكم من مرقدكم للنشأة الآخرة. ونحو الآية قوله تعالى فى سورة طه: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» .

مغزى هذا القصص

مغزى هذا القصص قص الله سبحانه علينا خبر النشأة الأولى ليرشدنا إلى ما فطرنا عليه، وإلى ما يجب علينا من شكره وطاعته، ويبين لنا أنه خلق الإنسان ليكون خليفة فى الأرض، وجعله مستعدا لعلم كل شىء فيها وتسخير ما فيها من القوى لمنافعه وليهدينا إلى أنه كان فى نشأته الأولى فى جنة النعيم وراحة البال، وقد جعله مستعدا للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبه إلى الحق والخير، والأرواح الشيطانية التي تجذبه إلى الباطل والشر، وعاقبة التأثر الأول سعادة الدارين، ونتيجة الثاني الشقاء فيهما، وهو أيضا محتاج إلى الوحى لإرشاده وهدايته. فعلينا أن نعرف غرائزنا ونربّى أنفسنا على أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده ولا نعبد معه أحدا سواه، ولا ننساه فنسى أنفسنا ونغفل عن تزكيتها ونتركها كالريشة فى مهابّ أهواء الشهوات ووساوس شياطين الضلالات. وعلينا أن نعرف أن آدم لم يكن نبيا ورسولا عند بدء خلقه ولا موضعا للرسالة فى ذلك الحين، بل أنكر بعضهم أن يكون رسولا مطلقا، وقال إن أول الرسل نوح عليه السلام كما تدل على ذلك الآيات الواردة فى الرسل والأحاديث الصحيحة، وما ورد فى هذه القصة من التفسير بالمأثور فأكثره مدخول مأخوذ من الإسرائيليات عن زنادقة اليهود الذين دخلوا فى الإسلام للكيد له، وكان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره من الإسرائيليات فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد له من أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعرف بالرأى. [سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 27] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الريش: لباس الحاجة والزينة، ولباس التقوى: ما يلبس من الدروع والجواش والمغافر وغيرها مما يتّقى به فى الحرب، والفتنة: الابتلاء والاختبار، من قولهم: فتن الصائغ الذهب أو الفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزّيف من النّضار، والقبيل: الجماعة كالقبيلة، وقيل القبيلة: من كان لهم أب واحد، والقبيل أعم. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنه أمر سبحانه آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعل الأرض مستقر لهما، وذكر أن الشيطان عدو لهما- ذكر هنا أنه أنزل له ولبنيه كل ما يحتاجون إليه فى دينهم ودنياهم كاللباس الذي يسترون به عوراتهم ويتخذونه للزينة، واللباس الذي يستعملون فى الحرب كالمغافر والجواشن ونحوها فعليكم أن تشكروه تعالى على هذه المنن العظام، وتعبدوه وحده لا شريك له. الإيضاح (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) نادى الله بنى آدم وامتن عليهم بما أنعم عليهم من اللباس على اختلاف درجاته وتعدد أنواعه، من الأدنى الذي يستر العورة عن أعين الناس إلى الأعلى من أنواع الحلل التي تشبه ريش الطير فى وقاية البدن من الحر والبرد، إلى ما فيها من الزينة والجمال.

والخلاصة- إنه يقول: يا بنى آدم، بقدرتنا قد أنزلنا عليكم من سمائنا لتدبير أموركم لباسا يوارى سوءاتكم، وريشا تتزينون به فى المجالس والمجتمعات، وهو أعلى اللباس وأكمله، وما دون ذلك وهو ما يقى الحر والبرد. ومعنى إنزال ما ذكر من السماء- إنزال مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما ولدته الحاجة وافتنّ الناس فى استعماله، بعد أن تعلموا وسائل صنعه بما أوجد فيهم من الغرائز والصفات التي بها غزلوا ونسجوا وحاكوا ذلك على ضروب شتى وخاطوه على أشكال لا حصر لها ولا عد، ولا سيما فى هذا العهد الذي رقيت فيه الصناعات إلى أقصى مدى وأبعد غاية. ولا شك أن امتنانه علينا بلباس الزينة دليل على إباحتها والرغبة فى استعمالها، فالإسلام دين الفطرة وليس فيه ما يخالف ما تدعو إليه الحاجة. وحب الزينة من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله فى الخليقة. (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) المشهور من كلام التابعين أن لباس التقوى لباس معنوى لاحسى، فقد قال ابن زيد: لباس هو التقوى وعن ابن عباس: إنه الإيمان والعمل الصالح، فإنهما خير من الريش واللباس. وروى عن زيد بن على بن الحسين: أنه لباس الحرب كالدّرع والمغفر والآلات التي يتّقي بها العدو، واختاره أبو مسلم الأصفهانى، ويدل عليه قوله تعالى: «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ. وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ» . (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ذلك الذي تقدم ذكره من النعم بإنزال الملابس من آيات قدرته ودلائل إحسانه وفضله على بنى آدم. وهذه النعم تؤهلهم لتذكّر ذلك الفضل والقيام بما يجب عليهم من الشكر، والابتعاد من فتنة الشيطان وإبداء العورات أو الإسراف فى استعمال الزينة إلى نحو ذلك.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) من سنن العربية تكرار النداء فى مقام التذكير والوعظ: أي لا تغفلوا يا بنى آدم عن أنفسكم فتمكنوا الشيطان من وسوسته لكم والتحيل فى خداعكم وإيقاعكم فى المعاصي، كما وسوس لأبويكم آدم وحواء فزّين لهما معصية ربهما فأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها، وكان ذلك سببا فى خروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها، ودخولهما فى طور آخر يكابدان فيه شقاء المعيشة وهمومها. (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) أي إنه أخرجهما من الجنة وكان سببا فى نزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة لأجل أن يريهما سوءاتهما. وفى ذلك إيماء إلى أنهما كانا يعيشان عريانين، لأنه ليس فى الأرض ثياب تصنع، وليس هناك إلا أوراق الأشجار، وعلماء الماديّات والآثار يحكمون حكما جازما بأن البشر قبل اهتدائهم إلى الصناعات كانوا يعيشون عراة، ثم اكتسوا بورق الشجر وجلود الحيوان التي يصطادونها، ولا يزال المتوحشون منهم إلى الآن يعيشون كذلك. (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) أي إن إبليس وجنوده من شياطين الجن يرونكم ولا ترونهم، والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان خطره أشد، ووجوب العناية باتقائه أعظم، كما يرى ذلك فى بعض الأوبئة التي ثبت وجودها فى هذا العصر بالمجهر (التليسكوب) فإنها تنفذ إلى الأجسام بنقل الذباب أو البعوض أو مع الطعام أو الشراب أو الهواء، فتتوالد وتنمو بسرعة، وقد تسبّب للإنسان أمراضا مستعصية العلاج كالحمى الصفراء (الملاريا) والتيفود والتيفوس والسل والسرطان إلى نحو أولئك. وفعل جنة الشياطين فى أرواح البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء (الميكروبات) فى الأجسام، فكلاهما يؤثر من حيث لا يرى فيتقّى، والثانية تتقى بالأخذ بنصائح الأطباء واستعمال الوسائل العلاجية الواقية.

والوقاية منها ضربان: (1) اتخاذ الأسباب التي تمنع مجيئها من الخارج كالذى تفعله الحكومات فى المحاجر الصحية فى الثغور ومداخل البلاد. (2) تقوية الأبدان بالأغذية الجيدة والنظافة التامة لتقوى على مقاومة هذه الجنّة والفتك بها إذا وصلت إليها، كما يتقى وصول العثّ إلى الصوف بمنع وصول الغبار إليه أو بوضع الدواء الذي يسمى (النفتالين) إذ يقتله برائحته. والأولى تتقى أيضا بإرشاد طب الأنفس والأرواح الذي يهدى إلى الوقاية من فتك جنة الشياطين فيها بالوسوسة وتزيين الأباطيل والشرور المحرمة فى هذا الطب لضررها، فمداخلها فى أنفسهم وتأثيرها فى خواطرهم كدخول تلك الجنّة فى أجسادهم وتأثيرها فى أعضائهم من حيث لا ترى. والوقاية منها على ضربين: (1) بتقوية الأرواح بالإيمان بالله وصفاته وإخلاص العبادة له والتخلق بالأخلاق الكريمة وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فتبتعد تلك الأرواح الشيطانية عنها ولا تستطيع القرب منها. (2) بمعالجة هذا الوسواس بعد طروئه كما يعالج المرض بعد حدوثه بالأدوية التي تقتله وتمنع امتداد ضرره. والخلاصة- إن هذه الجملة (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) جاءت تعليلا للنهى عن تمكين الشيطان مما يبغى من الفتنة، وتأكيدا للتحذير منه وتذكيرا بشديد عداوته وضرره (والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان شديد الأثر عظيم الخطر) . ثم زاد فى التحذير من الشيطان وبين شديد عداوته للانسان فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن سنتنا جرت بأن يكون الشياطين الذين هم شرار الجن أولياء لشرار الإنس وهم الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى وملائكته إيمان إذعان تزكو به نفوسهم، لما بينهما من التناسب والتشاكل

[سورة الأعراف (7) : الآيات 28 إلى 30]

واكتساب الكفار لولاية الشياطين جاءت بسبب استعدادهم لقبول وسوستهم وإغوائهم وعدم احتراسهم من الخواطر الرديئة، كاكتساب ضعفاء البنية للأمراض باستعدادهم لها وعدم احتراسهم من أسبابها كتناول الأطعمة والأشربة الفاسدة والوجود فى جو مملوء بالجراثيم القتالة بعدم تعرضه للشمس والنور والهواء المتجدد [سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) تفسير المفردات الفاحشة: الفعلة المتناهية فى القبح، والمراد بها هنا طواف أهل الجاهلية عراة كما ولدتهم أمهاتهم ويقولون: لا نطوف بيت ربنا فى ثياب عصيناه بها، والقسط: الاعتدال فى جميع الأمور، وهو الوسط بين الإفراط والتفريط، وإقامة الشيء: إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة وإقامة الوزن بالقسط، والوجه: قد يطلق على العضو المعروف من الإنسان كما فى قوله «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» وقد يطلق على توجه القلب وصحة القصد كما فى قوله: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً»

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين عزّ اسمه أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلّطين عليهم متمكنين من إغوائهم- ذكر هنا أثر ذلك التسليط عليهم، وهو الطاعة لهم فى أقبح الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح. الإيضاح (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) أي وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله ممن جعلوا الشياطين أولياء لهم- قبيحا من الأفعال كتعرّيهم حين الطواف بالبيت، فلامهم الناس على ذلك، قالوا وجدنا آباءنا يفعلون كما نفعل، فنحن نقتدى بهم ونستنّ بسنتهم، والله أمرنا بذلك فنحن نتبع أمره فيه. وقد رد الله عن الأمر الثاني بأمر رسوله أن يدحضه بقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي إن هذا الفعل من الفحشاء والله بكماله منزه أن يأمر بها وإنما يأمر بها الشيطان كما جاء فى قوله: «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» . ثم ردّ عليهم الوجه الأول ووبخهم على تقليد الآباء والأجداد بقوله: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) أي إنكم باتباعكم للآباء والأجداد فى الآراء والشرائع غير المسندة إلى الوحى تقولون على الله ما لا تعلمون أنه شرعه لعباده. والخلاصة- إنهم فى عملهم الفاحشة استندوا إلى أمرين: أمر الله بهما، وتقليد الآباء والأجداد، وقد رد الله عليهما فى كل منهما فرد على الأول ببيان أن الله لا يأمر بفاحشة، وأن الذي يأمر بذلك إنما هو الشيطان. ورد على الثاني بأن التشريع لا يعلم إلا بوحي من عنده إلى رسول يؤيده بالآيات البينات وهو لم ينزل عليهم به، فقولهم

هذا إنما هو اتباع للأهواء فيما هو قبيح تنفر منه الطباع السليمة، وتستنقصه العقول الراجحة الحكيمة. وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم بأمر الله فيما فعلوا- بين ما يأمر به من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والخصال بقوله لرسوله: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي قل لهم: إنما أمرنى ربى بالاستقامة والعدل فى الأمور كلها. (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وقل لهم: أمرنى ربى بالقسط، فأقسطوا وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد، أي أعطوا توجهكم إلى الله تعالى حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل عند كل مسجد تعبدونه فيه، سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا، وادعوه وحده مخلصين له الدين، ولا تتوجهوا إلى غيره من عباده المكرمين كالملائكة والأنبياء والصالحين زعما منكم أنهم يشفعون لكم عند ربكم ويقربونكم إليه زلفى، وقد جعلتم هذا من الدين افتراء على الله وقولا عليه بغير علم. وبعد أن أبان أصل الدين ومناط الأمر والنهى فيه- ذكرنا بالبعث والجزاء على الأعمال فقال: (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة وأنتم فريقان: (1) فريق هداه الله فى الدنيا ببعثة الرسل فاهتدى بهديهم وأقام وجهه له وحده فى العبادة ودعاه مخلصا له الدين لا يترك به أحدا. (2) فريق حق عليهم الضلالة لاتباعهم إغواء الشيطان وإعراضهم عن طاعة بارئهم. وكل فريق يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه، وإنما حقت على

الفريق الثاني الضلالة، لأنهم اقترفوا أسبابها فوجدت نتائجها ومسبباتها، لا أنها جعلت غرائز لهم فكانوا عليها مجبورين، يرشد إلى ذلك قوله: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي إنهم حين أطاعوا الشياطين فيما زيّنوا لهم من الفواحش والمنكرات، فكأنهم ولّوهم أمورهم من دون الله الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر، وهم مع عملهم هذا يحسبون أنهم مهتدون فيما تلقّنهم الشياطين من الشبهات، كجعل التوجه إلى غير الله والتوسل إليه فى الدعاء مما يقربهم إلى الله زلفى، قياسا على الملوك الجاهلين الذين لا يقبلون الصفح عن مذنب إلا بوساطة بعض المقربين عنده. والكثير من أهل الضلال يحسبون أنهم مهتدون، وهم ما بين كافر جحود للحق كبرا وعنادا كأعداء الرسل فى عصورهم وحاسديهم على ما آتاهم الله من فضله كما حكى سبحانه عن فرعون وملئه «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا» وكالكبراء من قريش أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث فى جميع كثير منهم وهم الذين قال الله فيهم: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» وهؤلاء هم الأقلون عددا- وكافر بالتقليد واتباع نزغات الشيطان، أو باتباع الآراء الخاطئة والنظريات الفاسدة، وهم الذين قال الله فيهم: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» وهؤلاء هم جمهرة الناس فى جميع الأمم. وذهب كثير من العلماء إلى أن من بذل جهده فى البحث والنظر فى الحق، ثم اتبع ما ظهر له أنه الحق بحسب ما وصلت إليه طاقته، وكان مخالفا فى شىء منه لما جاءت به الرسل- لا يدخل فى مدلول هذه الآية ونحوها، بل يكون معذورا عند الله لقوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 إلى 32]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 32] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أنه أمر عباده بالعدل فى كل الأمور واتباع الوسط منها- طلب إلينا أن نأخذ الزينة فى كل مجتمع للعبادة، فنستعمل الثياب الحسنة فى الصلاة والطواف ونحو ذلك، كما أباح لنا أن نأكل ونشرب مما خلق الله بشرط ألا نسرف فى شىء من ذلك. أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف فى ثياب أذنبنا فيها، فجاءت امرأة فألقت ثيابها فطافت ووضعت يدها على قبلها وقالت: اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحلّه فنزلت هذه الآية. الإيضاح (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) الزينة ما يزين الشيء أو الشخص، وأخذها التزين بها، والمراد بالزينة هنا الثياب الحسنة كما يدل على ذلك سبب نزول الآيات، وأقلّ هذه الزينة ما يدفع عن المرء أقبح ما يشينه بين الناس وهو ما يستر عورته، وهو الواجب لصحة الصلاة والطواف، وما زاد على ذلك من التجمل بزينة اللباس عند الصلاة ولا سيما صلاة الجمعة والعيد فهو سنة لا واجب.

ويرى بعض العلماء وجوب الزينة للعبادة عند كل مسجد بحسب عرف الناس فى تزينهم فى المجامع والمحافل، ليكون المؤمن حين عبادة ربه مع عباده المؤمنين فى أجمل حال لا تقصير فيها ولا إسراف. أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق من تزيّن له، فإن لم يكن له ثوبان فليتّزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم فى صلاته اشتمال اليهود» . وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شىء» . وعلى الجملة فالزينة تختلف باختلاف حال الإنسان فى السعة والضيق، فمن عنده ثوب واحد يستر جميع بدنه فليستر به جميع بدنه وليصلّ به، فإن لم يستر إلا العورة كلها أو الغليظة منها وهى السوءتان فليستر به ما يستره، ومن وجد ثوبين أو أكثر فليصلّ بهما. وهذا الأمر بالزينة عند كل مسجد أصل من الأصول الدينية والمدنية عند المسلمين وكان سببا فى تعليم القبائل المتوحشة القاطنة فى الكهوف والغابات أفرادا وجماعات لبس الثياب عند دخولها فى حظيرة الإسلام، وكانوا قبل ذلك يعيشون عراة الأجسام رجالا ونساء حتى ذكر بعض المنصفين من الإفرنج أنّ لانتشار الإسلام فى إفريقية منّة على أوربا بنشرة للمدنية بين أهلها، إذ ألزمهم ترك العرى وأوجب لبس الثياب فكان ذلك سببا فى رواج تجارة المنسوجات. وبهذا نقل الإسلام أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية إلى الحضارة الراقية. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي خذوا زينتكم عند المساجد وأداء العبادات، وكلوا واشربوا من الطيبات، ولا تسرفوا فيها، بل عليكم بالاعتدال فى جميع ذلك، لأن الله الخالق لهذه النعم لا يحب المسرفين فيها، بل يعاقبهم على هذا الإسراف بمقدار ما ينشأ عنه من المضارّ والمفاسد، لأنهم قد خالفوا سنن الفطرة وجنوا

على أنفسهم فى أبدانهم وأموالهم، وجنوا على أسرهم وأوطانهم، إذ هم أعضاء فى جسم الأسرة والأمة. روى النسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا فى غير مخيلة (كبر وإعجاب بالنفس) ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده» . وعن ابن عباس أنه قال: كل ما شئت، واشرب ما شئت، والبس ما شئت إذا أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة. والإسراف: تجاوز الحد فى كل شىء، والحدود منها: (1) طبيعى كالجوع والشّبع والظمأ والرّىّ، فمن أكل إذا أحس بالجوع أو كف عن الأكل إذا شعر بالشبع وإن كان يستلذ الاستزادة، أو شرب إذا شعر بالظمأ واكتفى بما يزيله ولم يزد على ذلك لم يكن مسرفا فى أكله وشربه، وكان طعامه وشرابه نافعين له. (2) اقتصادى وهو أن تكون النفقة على نسبة معينة من دخل الإنسان بحيث لا تستغرق كسبه. (3) شرعى فإن الشارع حرم من الطعام الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وحرم من الشراب الخمر، وحرم من اللباس الحرير الخالص، أو الغالب على الرجال دون النساء، وحرم الأكل والشرب فى أوانى الذهب والفضة وعدّه من السرف المنهىّ عنه، فهذه الأشياء لا يباح استعمالها إلا لضرورة تقدر بقدرها. والمعول عليه فى الإنفاق فى كل طبقة عرف المعتدلين فيها، فمن تجاوز طاقته مباراة لمن هم أغنى منه وأقدر كان مسرفا، وكم جرّ الإسراف إلى خراب بيوت عامرة ولا سيما فى المهور وتجهيز العرائس وحفل العرس والمأتم و (الزار) . ثلاثة تشقى بها الدار ... العرس والمأتم والزار وهذا السرف كبير الضرر عظيم الخطر على الأمم أكثر من ضرره على الأفراد

ولا سيما فى البلاد التي تأنى إليها أنواع الزينة من البلاد الأجنبية عنها، إذ تذهب الثروة إلى غير أهلها، وربما ذهبت إلى من يستعين بها على استذلالهم والعدوان عليهم والخلاصة- إن الطعام والشراب من ضرورات الحياة الحيوانية، ولكن ضل فى ذلك فريقان: (ا) فريق البخلاء والغلاة فى الدين تركوا الأكل والشرب من الطيبات المستلذة، إما بخلا وشحا أو تحرجا وتأثما، إما دائما أو فى أوقات مخصوصة من السنة (ب) فريق المترفين الذين أسرفوا فى اللذات البدنية وجعلوها جلّ همهم، فهم يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام، وليس لهم غاية يقفون عندها، أو نهاية ينتهون إليها. (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) إخراج الله للزينة خلق موادها وتعليم طرق صنعها بما أودع فى فطرهم من حبها والميل إلى الافتنان فى استعمالها، إذ خلقهم مستعدين لإظهار آياته فى جميع ما خلق فى هذا العالم الذي يعيشون فيه، بما أودع فى غرائزها من الميل إلى البحث فى كشف المجهول والاطلاع على خفايا الأمور، فهم لا يدعون شيئا عرفوه بحواسهم أو عقولهم حتى يبحثوه من طرق شتى وأوجه لا نهاية لها، ولن تنتهى بحوثهم مادام الإنسان على ظهر البسيطة. وغريزة حب الزينة وحب التمتع بالطيبات كانت من أهم الأسباب فى اتساع أعمال الفلاحة والزراعة ورقىّ ضروب الصناعة، واتساع وسائل العمران، ومعرفة سنن الله وآياته فى الأكوان، وهما لا يذمّان إلا بالإسراف فيهما والغفلة عن شكر المنعم بهما. والخلاصة- إن الدين لم يحرمهما إلا إذا كانا عائقين عن الكمال الروحي والكمال الخلقي، وإنه لم يجعل تركهما قربة إلى الله كما جرى على ذلك الوثنيون من البراهمة وغيرهم وقلّدهم فى ذلك بعض المسلمين وصاروا يبثون فى الأمم الإسلامية تعاليم تقضى

بأن روح الدين ومخ العبادة فى التقشف وحرمان النفس من التمتع بلذات الحياة، وقد بين الله وجه الصواب فى ذلك بقوله لرسوله: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قل أيها الرسول لأمتك: إن الزينة والطيبات من الرزق للذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويشاركهم فيها غيرهم تبعا لهم وإن لم يستحقها مثلهم، وهى خالصة لهم يوم القيامة. وقصارى ذلك- إن الدين يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة جميعا كما يدل على ذلك قوله: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» وقوله: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» . ذاك أن المؤمن يزداد علما وإيمانا بربه وشكرا له كلما عرف شيئا من سننه وآياته فى نفسه أو فى غيرها من الكائنات، ومن أهم أركان الشكر استعمال النعمة فيما وهبها المنعم لأجله من شكر الجوارح كشكر اللسان بالثناء عليه وشكر سائر الأعضاء كذلك ففى حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي والحاكم «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» والسر فى هذا أن الأكل والشرب من الطيبات بدون إسراف هما قوام الحياة والصحة، وهما الدعامتان اللتان يتوقف عليهما القيام بجميع الأعمال الدينية والدنيوية من عقلية وبدنية، ولهما التأثير العظيم فى جودة النسل الذي به يكثر سواد الأمة. والملابس الجيدة النظيفة لها فوائد: (1) حفظ الصحة. (2) كرامة من يتجمل بها فى نفوس الناس. (3) إظهار نعمة الله على لابسها، والمؤمن يثاب بنيته على كل ما هو محمود من هذه الأمور بالشكر عليها. روى أبو داود عن أبي الأحوص قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

فى ثوب دون فقال: ألك مال؟ قلت نعم: قال من أىّ المال؟ قلت قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا آتاك الله فلير أثر نعمته عليك وكرامته لك» . وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» . وقد كانت العرب تحرم زينة اللباس فى الطواف تعبدا، وتحرّم الادّهان ونحوه حال الإحرام بالحج كذلك، وتحرم من الأنعام والحرث ما ذكر فى سورة الأنعام، وحرم أهل الكتاب كثيرا من الطيبات. فجاء الدين الإسلامى الجامع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة والمطهّر للنفوس والمهذب للأخلاق، فأنكر هذا التحكم المخالف لسنن الفطرة وبين أن هذا التحريم لم يكن إلا من وساوس الشيطان ولم يوح به الله إلى أنبيائه ورسله المصطفين الأخيار. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن هذا التفصيل لحكم الزينة والطيبات الذي ضل فيه كثير من الأمم والأفراد ما بين إفراط وتفريط- لا يعقله إلا الذين يعلمون سنن الاجتماع وطبائع البشر ومصالحهم، ونحن قد فصلناه على لسان هذا النبي الأمى الذي لم يكن يعرف شيئا من تاريخ البشر فى أطوار بداوتهم وأطوار حضارتهم قبل أن ننزلها عليه، فكان ذلك آية دالة على نبوته، إذ ما كان لمثله أن يعلمها إلا بالوحى من عندنا، ولولا الكتاب الكريم لما خرجت العرب من ظلمات الوثنية والجهالة إلى ذلك النور الذي صلحت به وأصلحت أمما كثيرة بالدين والفنون والآداب وما أحيت من علوم الأوائل. ولكن وا أسفا قد أضحى المسلمون من أجهل الشعوب بسنن الله فى الأكوان وبالعلوم والمعارف اللازمة لتقدم الحضارة والمدنية، وأصبحوا فى مؤخرة الأمم وصاروا مضرب الأمثال فى التأخر والخمول والكسل، وبذا استكانوا وذلوا وصاروا أفقر الأمم وأضعفهم وأقلهم خدمة لدينهم، وخالفوا ما رسمه لهم ذلك الدين من أن لهم زينة

[سورة الأعراف (7) : آية 33]

الدنيا وطيباتها وسعادتها وملكها، وأن عليهم أن يشكروا الله على ما يؤتيهم من ذلك، وأن عليهم أن يقوموا بما يرضيه من اتباع الحق والعدل وكل ما تقتضيه خلافتهم فى الأرض. ولقد بلغ الجهل بكثير منهم أن ظن و (بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أن دين الإسلام هو سبب ضعف المسلمين وجهلهم وذهاب ملكهم، ولكن كتاب الله وسنة رسوله وتاريخ هذه الأمة شاهد صدق على فساد هذه القضية وتزييف تلك الدعوى، فليس لها من دعائم تستند إليها، وتقف بها على رجليها. [سورة الأعراف (7) : آية 33] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) تفسير المفردات الفواحش: واحدها فاحشة، وهى الخصلة التي يقبح فعلها لدى أرباب الفطر السليمة والعقول الراجحة، ويطلقونها أحيانا على الزنا والبخل والقذف بالفحشاء والبذاء المتناهي فى القبح. والإثم لغة: القبيح الضار، وهو شامل لجميع المعاصي كبائرها كالفواحش وصغائرها كالنظر بشهوة لغير الحليلة، والبغي: تجاوز الحد: وقد قالوا بغى الجرح: إذا تجاوز الحد فى الفساد، ومنه قوله تعالى: «فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» . المعنى الجملي بعد أن أنكر- تقدست أسماؤه- فى الآية السالفة على المشركين وغيرهم من أرباب الملل الأخرى تحريم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق- ذكر هنا

الإيضاح

أصول المحرمات التي حرمها على عباده لضررها، وجميعها من الأعمال الكسبية لا من المواهب الخلقية، ليستبين للناس أن الله لم يحرم على عباده إلا ما هو ضار لهم. الإيضاح (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين وغيرهم ممن ظلموا أنفسهم وافتروا على الله الكذب فزعموا أن الله حرم على عباده ما أخرج لهم من الطيبات كما حرم عليهم الزينة: ما حرم ربى فى كتبه على ألسنة رسله إلا هذه الأنواع الست الآتية لما لها من شديد الضرر وعظيم الخطر على أنفسهم وعلى الأمة جمعاء، ومن ثم جعل تحريمها دائما لا يباح بحال، وهى: (1- 2) الفواحش الظاهرة والباطنة وتقدم بيانها وشرحها فى سورة الأنعام وهى إحدى الوصايا العشر التي ذكرت هناك (3) الإثم أي ما يوجب الإثم والذم- وعطفه على ما قبله من عطف العام على الخاص. (4) البغي وهو الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق أو اعتداء على حقوق الأفراد أو جماعاتهم، ومن ثم قرن بالعدوان فى قوله: «تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» . وقيد البغي بكونه بغير الحق، لأن تجاوز الحدود المعروفة قد يكون فيما لا ظلم فيه ولا فساد ولا هضم لحقوق الأفراد والجماعات كما فى الأمور التي ليس لهم فيها حقوق أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمصلحة لهم يرجونها ببذلها. (5) الشرك بالله وهو أقبح الفواحش، فلا تقوم عليه حجة من عقل ولا برهان من وحي، وسميت الحجة سلطانا لأن لها سلطانا على العقل والقلب

وفى هذا إيماء إلى أن أصول الإيمان لا تقبل إلا بوحي من الله يؤيده البرهان كما قال «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ» . كما أن فيه إرشادا إلى عظم شأن الدليل والبرهان فى الدين، حتى كأنّ من جاء بالبرهان على الشرك يصدق، وهذا من فرض المحال مبالغة فى فضل الاستدلال كما قال «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . (6) القول على الله بغير علم، وهو من أسس المحرمات التي حرمت على ألسنة الرسل جميعا، إذ هو منشأ تحريف الأديان المحرفة، وسبب الابتداع فى الدين الحق، وقد انتشر الابتداع بين أهله وتحكمت بينهم الأهواء واتبعوا سنن من قبلهم كما جاء فى الحديث: «لتتّبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» رواه الشيخان ورأس البلية فى هذا الابتداع القول فى الدين بالرأى، فما من أحد يبتدع أو يتبع مبتدعا إلا استدل على بدعته بالرأى، وقد ظهرت مبادئ هذه البدع والأهواء فى القرون الأولى قرون العلم بالسنة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما زال أمرها يستفحل حتى وصلت إلى ما نراه الآن. وما شرع من اجتهاد الرأى فى حديث معاذ وغيره فهو خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته، فقد أكمل الله دينه فلم يترك فيه نقصا يكمله غيره بظنه ورأيه بعد وفاة رسوله، وليس لقاض ولا مفت أن يسند رأيه الاجتهادى إلى الله فيقول هذا حكم الله وهذا دينه، بل يقول هذا مبلغ اجتهادي، فإن كان صوابا فمن توفيق الله وإلهامه، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان. والخلاصة- إنه لا ينبغى لأحد أن يحرّم شيئا تحريما دينيا على عباد الله أو يوجب عليهم شيئا إلا بنص صريح عن الله ورسوله، ومن تهجم على ذلك فقد جعل نفسه شريكا لله، ومن تبعه فى ذلك فقد جعله رباله، ومن ثم كان فقهاء الصحابة والتابعين يتحامون القول فى الدين بالرأى.

[سورة الأعراف (7) : آية 34]

وقد أنكر الله على من نسب إلى دينه تحليل شىء أو تحريمه من عنده بلا برهان فقال: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» . [سورة الأعراف (7) : آية 34] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه جماع المحرمات على بنى آدم لما فيها من المفاسد والمضارّ للأفراد والمجتمع إثر بيان المباحات من الزينة والطيبات من الرزق بشرط عدم الإسراف فيها- ذكر هنا حال الأمم فى قبول هذه الأصول أوردها، والسير على منهاجها بعد قبولها أو الزيغ عنها. الإيضاح (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي قل أيها الرسول لقومك ولغيرهم: لكل أمة أمد مضروب لحياتها مقدّر لها بحسب السنن التي وضعها الخالق لوجودها. وهذا الأجل على ضربين: أجل لوجودها فى الحياة الدنيا، وأجل لعزها وسعادتها بين الأمم. (فالأول) أجل لأمة بعث فيها رسول لهدايتها فردوا دعوته كبرا وعنادا واقترحوا عليه الآيات فأعطوها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا فاستمروا فى تكذيبهم فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر، كما حدث لقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم. وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولى الدعوة الخاصة بأقوامهم،

وقد انتهى ذلك ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه الله بقوله: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» . وقد مضت سنة الله فى الأمم أن الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها، ومن ثم لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه. (والثاني) أجل مقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة باستقلالها ومكانتها بين الأمم وهذا منوط بسنن الله فى الاجتماع البشرى وعوامل الرقى والعمران. وأسباب انتهاء هذا الاجتماع لا تعدو مخالفة ما أرشدت إليه الآيات السالفة كإسراف فى الزينة أو إسراف فى التمتع بالطيبات، أو باقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس، أو بالتوغل فى خرافات الشرك والوثنية، أو بالكذب على الله بإرهاق الأمة بما لم يشرعه الله لها من الأحكام. فالأمم التي ترتكب هذه الضلالات والمفاسد يسلبها الله سعادتها ويسلط عليها من يستذلها كما قال تعالى: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» . وهاكم شاهد صدق على ما نقول: إن الأمم التي كان لها شأن يذكر فى التاريخ كالرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم ممن سلب ملكهم كله أو بعضه- لم يكن لذلك من سبب سوى ما أسلفنا. وهذا الضرب من الأجل وإن عرفت أسبابه، لا يمكن أن يحدّ بالسنين والأيام، ولكن الله يعلم تحديده بما أوجده من الأسباب التي تنتهى بمسبباتها، وبالمقدمات التي تترتب عليها نتائجها، كما قال: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الساعة لغة: أقل مدة من الزمن أي فإذا جاء الوقت الذي وقّته الله لهلاكهم وحلول العقاب بهم لا يتأخرون عنه بالبقاء فى الدنيا أقل تأخر، كما أنهم لا يتقدمون أيضا عن الوقت الذي جعله لهم وقتا للفناء والهلاك.

وفى الآية إيماء إلى أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيئه أي قبل أن تغلبها على إرادتها أسباب الهلاك، بأن تترك الفواحش والآثام والظلم والبغي والإسراف المفسد للأخلاق وخرافات الشرك المفسدة للعقول وتترك البدع فى التحريم والتحليل بما لم يخاطب به المولى عباده، بأن يقوم فيها جماعة من المصلحين، فيرشدوها إلى تغيير ما بأنفسها من الفساد، فيغيّر الله ما بها. وهذا من استيخار الهلاك أو منعه عنها قبل مجىء أجلها. وتأثير الفسق والفساد فى الأمم يشبه تأثيره فى الأفراد، فكما أن الأطباء متفقون على أن السكر من أسباب الأمراض البدنية والعقلية التي تفضى إلى الموت، وعلى أن تأثيره فى البدن القوىّ دون تأثيره فى البدن الضعيف، وعلى أن القليل منه يبطىء تأثير ضرره عن تأثير ضرر الكثير منه- كذلك أطباء الاجتماع متفقون على أن الإسراف فى الفسق والترف مفسد للأمم، وأن الظلم والبغي والغلوّ فى المطامع من أسباب الهلاك والدمار، ولكن قد يكون لدى بعضها ما تقاوم به تأثير هذه الأدواء الاجتماعية كالنظام ومراعاة سنن الاجتماع حتى فى إخفاء الظلم وإتقان الوسائل والأسباب فى إلباس العدل وإبراز إفسادها فى صورة الإصلاح وإيجاد أنصار من المظلومين يساعدون فى بقاء هذا الظلم، وإقناع الكثير منهم بأن هذا خير لهم وأبقى، غير أن كل هذا لا يمنع انتقام الله منهم، وإنما يؤخره على مقتضى سننه فى عباده، ولا يمنعه عنهم إلا الرجوع إلى الحق والاعتدال والصلاح والإصلاح. والأجل المقدّر بمقتضى نظام الخلق هو الذي يسميه العلماء بالعمر الطبيعي فالطبيب إذا فحص الجسم ورأى أعضاءه الرئيسية ومقدار مناعتها أمكنه أن يقدر له مدة معينة من الحياة إذا عاش بنظام واعتدال بحسب ما وضعه الله من السنن، فإذا هو قتل أو غرق قبل انتهاء العمر المقدر له يقال مات قبل انتهاء عمره الطبيعي أو التقديري ولكن مات بأجله الحقيقي عند الله.

وما ورد من أن الدعاء وصلة الرحم يطيلان العمر، فإنما ذلك بالنسبة للأجل التقديري أو الطبيعي الذي هو مظهر سنن الله فى الأسباب والمسببات، فإن الدعاء الذي منشؤه قوة الإيمان بالله والرجاء فى معونته وتوفيقه للمؤمن فيما يعجز عن أسبابه، من أسباب طول العمر، وكذلك صلة الرحم من أهم أسباب هناء العيش، وهناؤه من أهم العوامل فى إطالة العمر. كما دلت التجارب على أن الهموم والأكدار خصوصا ما كان منها داخليا كقطيعة الأرحام واليأس من روح الله ومعونته مما يضعف قوى النفس ويهرم الجسم قبل إبّان هرمه، وقد عرف هذه الحقيقة ذلك الشاعر الحكيم حين قال: والهمّ يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبى ويهرم ومثلها فى ذلك قلة الغداء الذي يحتاج إليه البدن أو كثرته، والإسراف فى كل لذة، والسكنى فى الأمكنة التي لا يدخلها ضوء الشمس ولا يتخللها الهواء بالقدر الذي يقتل الجراثيم. والأمم العريقة فى المدنية والحضارة والعالمة بالسنن الإلهية فى الصحة والسقم، والقوة والضعف، تحصى دائما عدد المرضى والموتى وتضع لذلك نسبا حسابية تعرف بها متوسط الآجال فى كل منها. وكذلك قد ثبت ثبوتا لا ريب فيه أن من أسباب قلة الوفيّات تحسين وسائل المعيشة والاعتدال فيها، وتوقى الأمراض باجتناب أسبابها المعروفة قبل وقوعها ومعالجتها بعد حدوثها. وكل ما يقع فالعلم الإلهى قد سبق به وكتاب الله وسنة رسوله يؤيدان ذلك أتم التأييد. وخلاصة معنى الآية- إن لكل أمة أجلا لا يتأخرون عنه إذا جاء، ولا يتقدمون عليه أيضا، فيهلكوا قبل مجيئه. ونحو الآية قوله: «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 إلى 36]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) المعنى الجملي بعد أن ذكر جلت أسماؤه أن لكل أمة أجلا لا تعدوه- حكى هنا ما خاطب به كل أمة على لسان رسولها وبيّنه لها من أصول الدين الذي شرعه لهدايتها وتكميل فطرتها، وأرشدها إلى أنها إن كانت مطيعة تتقى الله فيما تأتى وتذر، وتصلح أعمالها فلا يحصل لها فى الآخرة خوف ولا حزن، وإن هى تمردت واستكبرت وكذبت الرسل كانت عاقبتها النار، وبئس القرار. الإيضاح (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي يا بنى آدم إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم من البشر يتلون عليكم آياتي التي أنزلها عليكم لبيان ما آمركم به من صالح الأعمال وترك ما أنهاكم عنه من الشرك والرذائل وقبيح الأعمال- فمن اتقى منكم ما نهيته عنه وأصلح نفسه بفعل ما أوجبته عليه فلا خوف عليهم من عذاب الآخرة، ولا هم يحزنون حين الجزا على ما فاتهم. وحكمة كون الرسول منهم أنه أقطع لعذرهم وأظهر فى الحجة عليهم، إذ معرفتهم بأحواله تبين لهم أن المعجزات التي ظهرت على يديه إنما هى بقدرة الله لا بقدرته إلى ما فى ذلك من حصول الألفة، فالجنس يألف الجنس ويركن إليه، ومن ثم قال: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 37 إلى 39]

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) والاستكبار عن قبول الآيات: رفضها كبرا وعنادا لمن جاء بها كما حدث من رؤساء قريش حين استكبروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم إماما لهم، إذ رأوا أنفسهم أحق بالرياسة منه، لأنهم أكثر منه مالا وأعز نفرا. والمعنى- إن الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على أحد من رسلنا واستكبروا عن اتباع من جاء بها حسدا له على الرياسة وتفضيلا لأنفسهم عليه، أو لقومهم على قومه فأولئك أصحاب النار يخلدون فيها أبدا. والخلاصة- إن جميع الرسل قد بلّغوا أممهم أن اتقاءهم لما يفسد فطرتهم من الشرك والمعاصي، وإصلاح أنفسهم بالطاعة يوجب الأمن وعدم الخوف مما يتوقع وعدم الحزن على ما وقع منهم فى الدار الأولى، وأن تكذيب ما جاءوا به من الآيات والاستكبار عن اتباعها يترتب عليه المكث فى نار جهنم خالدين فيها أبدا كفاء ما فعلوا من التمرد وعصيان أوامر الديان. [سورة الأعراف (7) : الآيات 37 الى 39] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فى الآية السابقة عاقبة المكذبين بآياته المستكبرين عن قبولها والإذعان لها- ذكر هنا أن من أشدهم ظلما من يتقولون على الله الكذب، فينسبون إليه ما لم يقله- كمن يثبت الشريك لله سواء كان صنما أو كوكبا، أو يضيف إليه أحكاما باطله، أو يكذّب ما قاله كمن ينكر أن القرآن نزل من عند الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. الإيضاح (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله بأن أوجب على عباده من العبادات ما لم يوجبه، أو حرم عليهم من الدين ما لم يحرمه، أو عزا إلى دينه أحكاما لم تنزل على رسله. (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) المنزلة عليهم سواء أكان بالقول أو بما هو أدل منه كالاستهزاء بها أو الاستكبار عن اتباعها أو بتفضيل غيرها عليها بالعمل بها. (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) المراد بالنصيب هنا ما قدر لهم من خير أو شر وسعادة أو شقاء، والمراد من الكتاب كتاب المقادير الذي كتب الله فيه نظام العالم كله، ومنها أعمال الاحياء الاختيارية وما يبعث عليها من الأسباب والدواعي وما يترتب عليها من المسببات كالسعادة والشقاء والصحة والمرض إلى نحو ذلك. والمعنى- إن هؤلاء المفترين يصيبهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال، فهم مع ظلمهم وافترائهم على الله لا يحرمون مما قدر لهم إلى انقضاء آجالهم. ونحو الآية قوله تعالى: «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ» وقوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» .

(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) الرسل هنا هم الملائكة الموكلون بالتوفى أي قبض الأرواح من الأجساد، أي إنهم ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم حتى إذا ما انتهى بانتهاء آجالهم وجاءتهم رسلنا يقبضون أرواحهم. (قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟) أي سألهم رسل الموت حين التوفى على سبيل الزجر والتوبيخ: أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم فى الدنيا من دون الله لقضاء الحاجات ودفع المضرات؟ فلتدعوهم لينجوكم مما أنتم فيه من شدة وعذاب. (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) ضلو: أي غابوا وذهبوا، لا ندرى أين مكانهم، أي غابوا عنا فلا نرجو منهم النفع ولا دفع الضر. (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا بدعائهم إياهم وعبادتهم لهم كافرين، إذ هم قد زعموا أنهم عنده تعالى كأعوان الأمراء والسلاطين، وحاش لله أن يتخذ الأعوان والمساعدين، فالله غنى بعلمه المحيط وقدرته الكاملة عن أن يحتاج إلى الأعوان، فإنما يحتاج إليها من يجهل أمور الناس ويعجز عن معرفة أحوالهم. وخلاصة هذا- زجر الكافرين عما هم عليه من الكفر وحملهم على النظر والتأمل فى عواقب أمورهم، والتحذير من التقليد الذي سيرديهم فى الهاوية. (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أي تقول ملائكته بأمره يوم القيامة لهؤلاء الكافرين: ادخلوا بين أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس، أي أمم تقدم زمانهم على زمانكم. وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى لا يسوق الكفار بأجمعهم إلى النار دفعة واحدة، بل يدخلهم فوجا فيكون منهم سابق ومسبوق، ويشاهد الداخل من الأمة فى النار من سبقه. (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) أي كلما دخلت جماعة منهم فى النار ورأت ما حل

بها من الخزي والنكال- لعنت أختها فى الدين والملة، إذ هى قد ضلت باتباعها والاقتداء بها فى كفرها كما قال: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» . والخلاصة- إن المشركين يلعنون المشركين، واليهود تلعن اليهود، والنصارى تلعن النصارى، وهكذا القول فى سائر الديانات الضالة كالمجوس والصابئة. (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) اداركوا، أي تلاحقوا وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه، وضعفا أي مثلا أي حتى إذا تتابعوا واجتمعوا كلهم فيها، قالت أخرى كل منهم وهم أتباعهم وسفلتهم لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء: ربنا هؤلاء أضلونا عن الحق باتباعنا لهم وتقليدنا إياهم فيما كانوا عليه من أمر الدين وسائر أعمالنا، فأعطهم ضعفا من عذاب النار لإضلالهم إيانا فوق العذاب على ضلالهم فى أنفسهم حتى يكون عذابهم ضعفين: ضعفا للضلال وضعفا للإضلال. ومعنى قوله لأخراهم أي فى شأنهم ولأجل ضلالهم، وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم، لأنهم ما خاطبوهم، بل خاطبوا الله جلت قدرته بهذا الكلام. (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أي يقول الله تعالى لهم: لكل منهم ضعف من العذاب بإضلاله فوق عذابه على ضلاله، ولكنكم لا تعلمون عذابهم، فإن العذاب روحى ونفسى، والأول أنكى وأشد ألما، فالرئيس العزيز فى قومه إذا دخل السجن مع السّفلة وأوشاب الناس لا يكون ألمه كألمهم، وإن كان يشركهم فيما يأكلون ويشربون وفى جميع ما يعملون، إذ يشعر بعذاب النفس وقهر الذل مما لا يشعر به الآخرون، وإن كانوا يظنون أن عقوبتهما واحدة فى ألمها كما هى فى صورتها. ونحو الآية قوله فى الآية الأخرى: «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 إلى 41]

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا أضللناكم فما كان لكم علينا أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا مع أن الذنب واحد وقد اعترفتم بتلبسكم بالضلال المقتضى له، فذوقوا العذاب بكسبكم له مهما يكن سببه. وقد جاء فى سورة الصافات: «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ. فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) تفسير المفردات المراد بالآيات هنا: الآيات الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة على وجود الله ووحدانيته، والأدلة على النبوة والبعث يوم القيامة، والجمل: هو البعير البازل أي الذي طلع نابه، وسمّ الخياط: ثقب الإبرة، وأصل الإجرام: قطع الثمرة من الشجرة، ثم استعمل فى كل إفساد كإفساد الفطرة بالكفر وما يترتب على ذلك من الخرافات والمعاصي، والمهاد: الفراش، والغواشي: واحدها غاشية، وهى ما يغشى الشيء أي يغطّيه ويستره كاللحاف ونحوه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي هذا من تتمة ما سلف من وعيد الكفار وجزاء المكذبين بالقرآن المستكبرين عن الإيمان، بين به أنهم خالدون فى النار، وأنهم يلاقون فيها من الشدائد والأهوال ما لا يدرك العقل حقيقة كنهه، وأن هذا كفاء ظلمهم لأنفسهم واستكبارهم عن طاعة ربهم واتباع أوامره. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) أي إن الذين كذبوا بأدلتنا ولم يتبعوا رسلنا وتكبروا عن التصديق بما جاءوا به، وأنفوا من الانقياد لها لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء، ولا يصعد لهم فى حياتهم قول ولا عمل، لأن أعمالهم خبيثة، وإنما يرفع إلى الله الكلم الطيب والعمل الصالح كما قال: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» . (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) العرب تضرب المثل لما لا يكون بنحو قولهم: لا أفعله حتى يشيب الغراب، وحتى يبيض القار، وحتى يدخل الجمل فى سم الخياط، وهم يريدون بذلك أنهم لا يفعلونه أبدا، والمراد هنا أن هؤلاء لا يدخلون الجنة بحال. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل هذا الجزاء نجزى به كل من صار الإجرام وصفا لهم- لامن أجرموا جرما بثورة غضب أو نزوة شهوة- ثم لا يلبثون أن يندموا على ما فرط منهم كما قال تعالى فى وصف المؤمنين: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» وقال أيضا: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» . (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي لهم من نار جهنم فرش من تحتهم، ولهم من فوقهم منها لحف تعطّيهم، والمراد أنها محيطة بهم مطبقة عليهم كما قال:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 42 إلى 43]

«إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ» وقال: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» وقال: «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» . (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي ومثل هذا الجزاء نجزى به الظالمين لأنفسهم وللناس، والآيتان تدلان على أن المجرمين والظالمين الراسخين فى صفتى الإجرام والظلم هم الكافرون كما قال: «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» والمؤمنون لا يكونون كذلك بحال. [سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) تفسير المفردات الوسع: ما يقدر عليه الإنسان حال السعة والسهولة، لا حال الضيق والشدة، والنزع: قلع الشيء من مكانه، والغل: الحقد من عداوة أو حسد، أورثتموها، أي صارت إليكم بلا منازع كما يصير الميراث إلى أهله. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه وعيد أهل الكفر والمعاصي- أردفه وعد أهل الطاعات وقد جرت سنة القرآن بالجمع بينهما، فيبدأ بأحدهما لمناسبة سياق الكلام قبله ثم يقفوه بالآخر.

الإيضاح

الإيضاح (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ- لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها- أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحيه وتنزيله وشرائع دينه وعملوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهاهم عنه- هم أهل الجنة دون سواهم، وهم يخلدون فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يسلبون نعيمها. ومعنى قوله: (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أننا لا نفرض على المكلف إلا ما يكون فى وسعه وما لا يشق عليه أداؤه ولا يضيق به ذرعا- وقد جاءت هذه الجملة أثناء الكلام للتنبية إلى أن العمل الصالح الذي يوصل إلى الجنة سهل غير صعب، وميسور لا عسر فيه ولا مشقة. (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي وأذهبنا ما كان فى قلوب هؤلاء الذين ذكرت صفتهم من حقد وضغن مما يكون عادة فى الدنيا. فهم لا يدخلون الجنة وفى قلوبهم أدنى عداوة أو بغضاء مما يكون من أسباب تنغيص النعيم فيها، حال كون الأنهار تجرى من تحتهم فيرونها وهم فى غرفات قصورهم تتدفق فى جنانها وبساتينها، فيزدادون حبورا وسرورا لا تشوب صفاءهم شائبة كدر. روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعض من بعض ظلاماتهم فى الدنيا، فيدخلون الجنة وليس فى قلوب بعضهم على بعض غلّ» . وروى عن قتادة أن عليا كرم الله وجهه قال: إنى لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً» . (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) أي وقالوا شاكرين لله بألسنتهم معبّرين عن غبطتهم وبهجتهم: الحمد لله الذي هدانا فى الدنيا

للإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي كان جزاؤه هذا النعيم، وما كان من شأننا ولا مقتضى فكرنا أن نهتدى إليه بأنفسنا لولا أن هدانا الله إليه بتوفيقه إيانا لاتباع رسله ومعونته لنا عليها ورحمته الخاصة بنا- إلى هدايته التي فطرنا عليها وهداية ما خلق لنا من المشاعر والعقل. (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي إنهم قالوا حين رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا لقد جاءت رسل ربنا بالحق، وهذا مصداق ما وعدنا به فى الدنيا على التوحيد وصالح العمل. (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ونادتهم الملائكة قائلين لهم: تلكم هى الجنة التي وعدتم بوراثتها جزاء صالح أعمالكم. أخرج ابن جرير عن السّدى قال: ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله فى الجنة والنار منزل مبين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله، ثم يقال: يا أهل الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون، فيقتسم أهل الجنة منازلهم. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ» . وفى الآية دلالة واضحة على أن الجنة تنال بالعمل، وفى معناها آيات وأحاديث كثيرة. أما حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان «لن يدخل أحدا عمله الجنة- قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدّنى الله بفضله ورحمته» فيراد منه أن عمل الإنسان مهما كان عظيما فلا يستحق به الجنة لذاته لولا رحمة الله وفضله، حين جعل هذا الجزاء العظيم على ذلك العمل القليل، فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل

[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 إلى 47]

الله ورحمته، ومن ثم قال بعده «فسدّدوا وقاربوا» أي لا تبالغوا ولا تغلوا فى دينكم ولا تتكلفوا من العمل ما لا طاقة لكم به. [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 47] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) تفسير المفردات الوعد خاص بما كان فى الخير، أو يشمل الخير والشر وهو الصحيح، والوعيد خاص بالشر أو السوء، فتسمية ما كان لأهل النار وعدا إما من قبيل التهكم أو للمشاكلة، والتأذين: رفع الصوت بالإعلام بالشيء، واللعنة: الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة، وصدّ عن الشيء: أعرض عنه، وعوجا: أي ذات عوج أي غير مستوية ولا مستقيمة حتى لا يسلكها أحد، والعوج (بفتح العين) مختص بالمرئيات (وبكسر العين) مختص بما ليس بمرئىّ كالرأى والقول، والحجاب هو السور الذي بين الجنة والنار كما قال فى سورة الحديد: «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» والأعراف واحدها عرف (بزنة قفل) وهو أعلى الشيء وكل مرتفع من الأرض وغيرها، ومنه عرف الديك والفرس

المعنى الجملي

والسحاب، والسيما والسيمياء: العلامة، وصرفت أي حوّلت. والتلقاء: جهة اللقاء، وهى جهة المقابلة، يقال فلان تلقاء فلان إذا كان حذاءه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان- عقب ذلك ببيان بعض ما يكون بين الفريقين فريق أهل الجنة وفريق أهل السعير من المناظرة والحوار بعد استقرار كل منهما فى داره. وفيها دليل على أن الدارين فى أرض واحدة يفصل بينهما سور لا يمنع إشراف أهل الجنة وهم فى أعلى عليين على أهل النار وهم فى هاوية الجحيم، وأن بعضهم يخاطب بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة النعمة، ويزيد أهل النار حسرة وشقاء على ما كان من التفريط فى جنب الله. وهذا التخاطب لا يقتضى قرب المكان على ما هو معهود فى الدنيا، فعالم الآخرة عالم تغلب فيه الروحانية على ظلمة الكثافة الجسدية، فيمكن الإنسان أن يسمع من بعيد المسافات، ويرى من أقاصى الجهات. وإن ماجدّ الآن من المخترعات والآلات التي يتخاطب بها الناس من شاسع البلاد وتفصل بينهما ألوف الأميال إما بالإشارات الكتابية كالبرق- التلغراف اللاسلكى والسلكى- وإما بالكلام اللساني كالمسّرة- التليفون اللاسلكى- والسلكى ليقرّب هذا أتم التقريب، ويزيدنا فهما له. وقد تم لهم الآن أن يروا صورة المتكلم بالتليفون مطبوعة على الآلة التي بها الكلام وأن ينقلوا الصور من أقصى البلدان إلى أقصاها بهذه الآلة (التليفزيون) . الإيضاح (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟) أي إن أصحاب الجنة حين استقرارهم فى الجنة واستقرار

أهل النار فى النار- إذا ما وجهوا أبصارهم إليهم يسألونهم سؤال افتخار على حسن حالهم وسؤال تهكم وتذكير بجناية أهل النار على أنفسهم بتكذيب الرسل، وسؤال تقرير لهم بصدق ما بلّغهم الرسل من وعد ربهم لمن آمن واتقى بجنات النعيم قائلين لهم: قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من النعيم والكرامة حقا لا شبهة فيه، وها نحن أولاء: نستمتع بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- فهل وجدتم ما أوعدكم ربكم من الخزي والنكال حقا؟ (قالُوا نَعَمْ) أي وجدنا ما أوعدنا به ربنا حاكما بلّغنا على ألسنة الرسل. (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فكان ردف السؤال والجواب وقيام الحجة عليهم- أن أذّن مؤذن قائلا: لعنة الله على الظالمين لأنفسهم الجانين عليها بما أوجب حرمانها من النعيم المقيم، وهذا المؤذن إما مالك خازن النار، وإما ملك غيره يأمره الله بذلك. ثم بين المراد من الظالمين فقال: (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي إنهم هم الذين يعرضون عن سلوك سبيل الله الموصلة إلى مرضاته وثوابه، ويمنعون الناس عن سلوكها، ويبغونها معوجّة حتى لا يسلكها أحد. وبغى الظالمين وطلبهم اعوجاج السبيل يجىء على ضروب شتى: (1) تدسية أنفسهم بالظلم العظيم وهو الشرك فيشوبون التوحيد بشوائب الوثنية فى العبادة والدعاء ويشركون مع الله غيره على أنه شفيع عنده ووسيلة إليه، وهو ما نهى الله عنه بقوله: «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ» وقوله تعالى «حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» . (2) ظلمهم لها بالابتداع، إذ يبغونها عوجا بما يزيدون فى الدين من البدع المحدثات التي لم يرد بها كتاب ولا سنة، ومستندهم فى ذلك تأويلات جدلية ومحاولات

للتوفيق بين الدين والفلسفة فى الاعتقاديات، أو زيادات فى العبادات والشعائر كحفل الموالد وترتيلات الجنائز وأذكار المآذن، أو تحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات من الرزق، أو تحليل ما حرم الله كبناء المساجد على القبور وإيقاد المصابيح والشموع وغيرها عليها. (3) ظلمهم لها بالزندقة والنفاق، إذ يبغونها عوجا بالتشكيك فيها بضروب من التأويل يقصد بها بطلان الثقة بها والصد عنها. (4) ظلمهم لها فى الأحكام فيبغونها عوجا بترك الحق، وإقامة ميزان العدل، والمساواة بين الناس بالقسط. (5) ظلمهم لها بالغلوّ فيها بجعل يسرها عسرا وسعتها ضيقا بزيادتهم على ما شرعه الله من أحكام العبادات والمحظورات والمباحات، مما نزل فى كتابه وصح من سنة رسوله. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) وهم على ضلالهم وإضلالهم كافرون بالآخرة كفرا متأصلا فى نفوسهم، فلا يخافون عقابا على جرمهم، ولا ذما ولو ما على إنكارهم يوم البعث والجزاء. والخلاصة- إنهم جمعوا بين الصد عن سبيل الله وبغيها عوجا، وإنكار البعث والجزاء. (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) أي وبين الفريقين فريقى أهل الجنة وأهل النار حجاب يفصل كلا منهما من الآخر ويمنعه من الاستطراق إليه. وهذا الحجاب هو السور الذي سيأتى ذكره فى سورة الحديد بقوله: «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً، فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» الآية

(وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي وعلى أعالى ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار جميعا قبل الدخول فيها، فيعرفون كلا منهما بسيماهم التي وصفهم الله بها فى نحو قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» . وهؤلاء الرجال هم طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس، فبينماهم كذلك إذ يطلع عليهم ربهم فيقول: قوموا ادخلوا الجنة فإنى قد غفرت لكم، أخرجه أبو الشيخ والبيهقي وغيرهما عن حذيفة، وفى رواية عنه: «يجمع الله الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قالوا ننتظر أمرك فيقال: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتى ورحمتى» . (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين لهم: سلام عليكم، وهذا السلام إما تحية ودعاء وإما إخبار بالسلامة من المكروه والنجاة من العذاب، هذا إن كان قبل دخول الجنة، فإن كان بعدها فهو تحية خالصة تدخل فى عموم قوله تعالى «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» . (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أي نادوهم مسلّمين عليهم حال كونهم لم يدخلوها بعد وهم طامعون فى دخولها، لما بدا لهم من يسر الحساب. وقد جاء فى الآثار أن الناس يكونون فى الموقف بين الخوف والرجاء، لا تطمئن قلوب أهل الجنة حتى يدخلوها. روى أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لو نادى مناديا أهل الموقف ادخلوا النار إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون ذلك الرجل، ولو نادى. دخلوا الجنة إلا رجلا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الرجل.

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وكلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى ألا يجعلهم مثلهم، والمقصود من الآية الإنذار والتخويف ليتبصر المرء فى عاقبة أمره، فيفوز بالثواب المقيم فى جنات النعيم. وفى التعبير بصرف الأبصار وتحويلها إيماء إلى أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة ويلقون إليهم السلام، ويكرهون رؤية أهل النار، فإذا حوّلت أبصارهم إليهم عن غير قصد ولا رغبة، بل بصارف يصرفهم إليها، قالوا ربنا لا تجعلنا معهم حيث يكونون، وفى ذلك من استعظام حال الظالمين، واستفظاع مآلهم وشناعة أمرهم ما لا يخفى. وعن سعيد بن جبير أن ابن مسعود رضي الله عنه قال «يحاسب الله الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ قول الله «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» الآيتين، ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح. ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرض أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة قالوا: سلام عليكم، وإذا صرفت أبصارهم إلى يسارهم رأوا أهل النار فقالوا (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تعوّذوا بالله من منازلهم. قال: «فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقى المنافقون قالوا «رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان فى أيديهم فلم ينزع من أيديهم، فهنالك يقول الله تعالى (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فكان الطمع دخولا» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 48 إلى 49]

قال سعيد: فقال ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة ثم قال: هلك من غلب وحدانه أعشاره. اهـ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49] وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) الإيضاح (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) هذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين كانوا يعتزّون فى الدنيا بغناهم وقوتهم، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعف عصبيتهم أو لحرمانهم من عصبية تمنعهم وتذود عنهم، ويزعمون أن من أغناه الله وجعله قويا فى الدنيا فهو الذي يكون له نعيم الآخرة كما قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» . ومن هؤلاء زعماء قريش وطغاتها الذين قاوموا الإسلام فى مكة واضطهدوا أهله كأبى جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل. والسيما التي يعرفونهم بها هى سواد الوجوه، ورزقة العيون، وتشويه الخلق واختار أبو مسلم أنهم يعرفونهم بسيماهم الخاصة التي كانوا عليها فى الدنيا، وقيل بسيما المستكبرين إذ قد جاء فى الأثر ما يدل على أن لمن تغلب عليهم رذيلة خاصة- علامة

تدل عليهم فيعرفون بها فقد روى البخاري «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيعرفه فيشفع له، فلا تقبل شفاعته، ثم يمسخه الله ذئبا منتنا ليزول عن إبراهيم خزيه» فمسخه ذئبا مناسب لحماقته ونتن الشرك. والخلاصة- إنهم نادوهم قائلين لهم: ما أغنى عنكم جمعكم للمال ولا استكباركم على المستضعفين والفقراء من أهل الإيمان، إذ لم يمنع عنكم العقاب، ولا أفادكم شيئا من الثواب. ثم وجّه إليهم سؤال توبيخ وتأنيب بحضرة هؤلاء المستضعفين فقيل لهم: (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ؟) أي وقالوا لهم مع الإشارة إلى أولئك المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم ويعذبونهم فى الدنيا كصهيب الرومي وبلال الحبشي وآل ياسر، والتهكم من خزيهم وفوز من كانوا يحتقرونهم: أهؤلاء الذين حلفتم فى الدنيا إن رحمة الله لن تنالهم؟ إذ لم يعطوا فى الدنيا مثل ما أعطيتم من الأتباع والأشياع وكثرة المال. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي قال الله تعالى لأصحاب الأعراف بعد أن يحبسوا على الأعراف، وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون فى مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون مما ينغّص عليكم حاضركم. وفائدة هذه المقالة بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن أحدا لا يسبق عند الله إلا بسبقه فى العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون فى حال السابقين، وليعرفوا أن كل أحد يعرف فى ذلك اليوم بسيماه التي يوسم بها، سواء أكان من أهل الخير أم من أهل الشر، فيزيد المحسن فى إحسانه ويرتدع المسيء عن إساءته، وليعلموا أن العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقل الناس عملا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 إلى 51]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه مقال أهل الجنة لأهل النار ومقال أصحاب الأعراف لأهل النار- أردف ذلك ما قال أهل النار لأهل الجنة- وطلبهم منهم بعض ما عندهم من نعم الله عليهم. الإيضاح (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) إفاضة الماء: صبه ثم استعملت فى الشيء الكثير فيقال: فاض الرزق والخير، وأفاض عليه النعم، وقالوا أعطاه غيضا من فيض أي قليلا من كثير، وما رزقهم الله يشمل الطعام والأشربة غير الماء. والمعنى- إن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة ويطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام. وعن ابن عباس «ينادى الرجل أخاه فيقول: يا أخى أغثنى فإنى قد احترقت فأفض علىّ من الماء، فيقال: أجبه فيقول: إن الله حرمهما على الكافرين» . وعن أبي الدرداء «إن الله يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضّريع (نبات رطبه يسمى شبرقا، ويابسه يسمى ضريعا لا تقر به دابة لنتن ريحه) لا يسمن ولا يغنى من جوع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذى غصة،

ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب الحديد فيقطع ما فى بطونهم ويستغيثون إلى أهل الجنة، فيقول أهل الجنة: إن الله حرمهما على الكافرين» . وهذا طلب منهم مع علمهم باليأس من إجابته، إذ هم يعرفون دوام عقابهم وأنه لا يفتر عنهم أبدا، ولكن اليأس من الشيء قد يطلبه كما قالوا فى أمثالهم (الغريق يتعلق بالزبد) . (قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) التحريم المنع وهو إما تحريم تكليف كتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإما تحريم قهر كتحريم الجنة وما فيها على الكافرين فى مثل هذه الآية. والمعنى- إن أهل الجنة قالوا جوابا عن هذا الاستجداء: إن الله قد حرم ماء الجنة ورزقها على الكافرين، كما حرم عليهم دخولها، فلا سبيل لإفاضة شىء منهما عليهم وهم فى النار، إذ ليس لهم إلا ماؤها الحميم وطعامها من الضريع والزقوم. وقد وصف أهل الجنة الكافرين بأنهم هم الذين كانوا السبب فى هذا المنع والحرمان، إذ جعلوا ديدنهم أعمالا لا تزكّى الأنفس ولا تجعلها أهلا للتشريف والكرامة، بل هى إما لهو يشغل الإنسان عن الجدّ والأعمال المفيدة، وإما لعب لا يقصد منه فائدة صحيحة فهو كأعمال الأطفال، وقد غرتهم الحياة الدنيا بشهواتها ولذاتها من الحرام والحلال، أما أهل الجنة فقد سعوا لها سعيها، وعلموا أن الدنيا مزرعة الآخرة، ومن ثم لم يكن من قصدهم من التمتع بنعم الله إلا الاستعانة بها على ما يرضيه من إقامة الحق والعدل، والاستعداد لحياة أبدية لا نهاية لها. والخلاصة- إن الدنيا شغلتهم بزخارفها العاجلة وشهواتها الباطلة، فعزّتهم وضرتهم، وهى من شأنها أن تغرّ وتضر وتمرّ. ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال: (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي فاليوم نعاملهم معاملة الشيء المنسى

[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 إلى 53]

الذي لا يبحث عنه أحد، كما جعلوا هذا اليوم منسيا، والمراد من النسيان عدم إجابة دعائهم وتركهم فى النار. (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله إنكارا مستمرا، ورفضوا ما جاءت به رسله ظلما وعلوا. والخلاصة- فاليوم نتركهم فى العذاب كما تركوا العمل فى الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما كانوا بآيات الله وحججه التي احتج بها عليهم الأنبياء والرسل يجحدون ولا يصدّقون بشىء منها. [سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) تفسير المفردات الكتاب هو القرآن الكريم، والتفصيل جعل المسائل المراد بيانها مفصولا بعضها من بعض بما يزيل اشتباهها وينظرون أي ينتظرون، وتأويله أي عاقبته، والحق هو الأمر الثابت، والخسران: الغبن، وضل عنهم، أي غاب عنهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر أحوال أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف وذكر الحوار الذي كان بين هذه الفرق الثلاثة على وجه يحمل الناظر فيها على الحذر والاحتراس والتأمل

الإيضاح

فى العواقب، لعله يرعوى عن غيه ويهتدى إلى سبيل رشده، عقّب ذلك بذكر حال الكتاب الكريم وعظيم فضله وجليل منفعته، وأنه حجة الله على البشر كافة، وأنه أزاح به علل الكفار وأبطل معاذيرهم، ثم بذكر حال المكذبين وما يكون منهم يوم القيامة من الندم والحسرة وتمنى العودة إلى الدنيا لإصلاح أعمالهم. الإيضاح (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ولقد جئنا هؤلاء القوم بكتاب كامل البيان وهو القرآن، فصلنا آياته تفصيلا على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل، تزكية لنفوسهم وتطهيرا لقلوبهم، وجعلناه سبب سعادتهم فى معاشهم ومعادهم، وهدى ورحمة لمن يؤمن به إيمانا يبعثه على العمل بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه. انظر إليه تجده قد أوضح أصول الدين العامة بما لا يطلب معه زيادة لمستزيد، فنعى على المقلدين الأخذ بآراء من تقدمهم من آبائهم ورؤسائهم دون بحث ولا تمحيص فى مثل قوله: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وكرر القول ببطلان التقليد وضلال المقلدين، وحث على النظر والاستدلال والاعتماد على البرهان فى مثل قوله: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وبهذا كان الإسلام دين العقل والفطرة، وينبوع الهدى والحكمة والرحمة. وحين وجد الناس افتنّوا فى الشرك، وفرقوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية فظنوا أن الإيمان بوحدة الرب خالق الكون- كاف فى الإيمان ولا يضر التوجه إلى غيره من المقربين بالدعاء وطلب ما يعجز المرء عن نيله من طريق الأسباب، ظنا منهم أن التوسل به إليه وشفاعته عنده مما يرضيه- أبطل هذه الشبهات، وأزال هذه

التعلات وبسط ذلك كل البسط. وأطنب فيه أيّما إطناب. إلى نحو ذلك من مسائل تبصّر المرء فى دينه ودنياه. وتعرفه مبدأه ومنتهاه. (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي هل ينتظرون إلا عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب، أي ليس أمامهم شىء ينتظرونه فى أمره إلا وقوع تأويله وهو وقوع ما أخبر به من أمر الغيب الذي يقع فى المستقبل فى الدنيا ثم فى الآخرة مما وعد به المؤمنين من نصر وثواب، والكافرين من خذلان وعقاب. روى عن الربيع بن أنس أنه قال: لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي يأتى تأويله ونهايته يوم القيامة وتزول كل شبهة فيقول الذين نسوه من قبل أي تركوه وجعلوه كالشىء المنسى وأعرضوا عنه فلم يهتدوا به: قد جاءت رسل ربنا بالحق، أي قد تبين أنهم قد جاءوا بما هو متحقق ثابت، فتمارينا فيه وأعرضنا عنه حتى حق علينا الجزاء. ثم ذكر حالهم فى ذلك اليوم وتلهفهم على النجاة فيتمنون إما شفاعة الشافعين أو رجوعهم إلى الدنيا ليصلحوا أعمالهم فقال: (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟) أي إنهم يتمنون الخلاص بكل وسيلة ممكنة، إما بشفاعة الشفعاء، وإما بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا فيها غير ما كانوا يعملون فى حياتهم الأولى فيكونوا أهلا لمرضاة ربهم. وإنما تمنّوا الشفعاء وتساءلوا عنهم، من حيث كان من أسس الشرك أن النجاة عند الله إنما تكون بوساطة الشفعاء، وعند ما يستبين لهم الحق الذي جاءت به الرسل وهو أن النجاة إنما تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح يتمنون لو يردون إلى الدنيا ليعملوا بما أمرهم به الرسل. (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي هم قد غبنوا أنفسهم

[سورة الأعراف (7) : آية 54]

حظوظها وباعوا نعيم الآخرة الدائم بالخسيس من عرض الدنيا الزائل، ويومئذ يغيب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء ومقالاتهم التي كانوا يقولونها كقولهم فى معبوداتهم «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» . وخلاصة ذلك- إنهم قد خسروا أنفسهم بتدنيسها بالشرك والمعاصي وعدم تزكيتها بالفضائل والأعمال الصالحة، فخسروا حظوظهم فيها. [سورة الأعراف (7) : آية 54] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) تفسير المفردات الرب: هو السيد والمالك والمدبر والمربى، والإله: هو المعبود الذي يدعى لكشف الضر أو جلب النفع ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه، والله: اسم الخالق الخلق أجمعين، ولا يثبت الموحّدون ربا سواه، وأكثر المشركين يقولون إنه أكبر الأرباب أو رئيسهم وأعظم الآلهة، وكان مشركوا العرب لا يثبتون ربا سواه، وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه، والسموات والأرض: يراد بهما العالم العلوي والعالم السفلى، واليوم: الزمن الذي يمتاز عن غيره بما يحدث فيه كامتياز اليوم المعروف بما يحده من النور والظلام، وامتياز أيام العرب بما كان يقع فيها من الحرب والخصام، وليست هذه الأيام الستة من أيام الأرض وهى التي مجموع ليلها ونهارها أربع وعشرون ساعة، فإن هذه إنما وجدت بعد خلق هذه الأرض، فكيف يعدّ خلقها بأيام منها، ولأن الله تعالى يقول «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» ويقول فى وصف يوم القيامة «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» والعرش لغة: كل شىء له سقف،

المعنى الجملي

ويطلق على هودج للمرأة يشبه عريش الكرم، وعلى سرير الملك وكرسيه فى مجلس الحكم والتدبير، والاستواء لغة: استقامة الشيء واعتداله، واستوى الملك على عرشه أي ملك، وثلّ عرشه أي هلك، وغشّى الشيء الشيء: ستره وغطاه، وأغشاه إياه: جعله يغشاه أي يغطّيه ويستره، ومنه إغشاء الليل النهار، وحثيثا أي مسرعا، من قولهم فرس حثيث السير أي سريعه، بأمره أي بتدبيره وتصرفه. مسخرات أي مذلّلات خاضعات لتصرفه، منقادات لمشيئته والخلق: التقدير والمراد هنا الإيجاد بقدر تبارك الله: تعاظمت بركاته والبركة: الخير الكثير الثابت. المعنى الجملي علمت مما سلف من قبل أن الأسس التي عنى القرآن الكريم بشأنها هى التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر، وإثبات المعاد موقوف على إثبات الوحدانية لله والعلم الشامل والقدرة التامة. ولما بسط القول فيما سلف فى أمر المعاد وبين فئات الناس فى ذلك اليوم وما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة- قفّى على ذلك بذكر الخلق والتكوين وبيان مقدوراته تعالى وعظيم مصنوعاته، لتكون دليلا على الربوبية والألوهية وأنه لا معبود سواه. الإيضاح (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يخاطب سبحانه الناس كافة بأن ربكم واحد وهو الذي خلق السموات والأرض فى ستة أيام ودبّر أمورهما فيجب عليكم أن تعبدوه وحده، إذ لا إله لكم غيره. وقد جاء فى معنى الآية قوله فى سورة حم السجدة «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ

فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» وقوله فى سورة الأنبياء: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟» . وبالتأمل فى هذه الآيات نستخلص منها الأمور الآتية: (1) إن المادة التي خلقت منها السموات والأرض كانت دخانا أي مثل الدخان. (2) إن هذه المادة الدخانية كانت واحدة ثم فتق الله رتقها أي التئامها بأن فصل بعضها من بعض، فخلق منها هذه الأرض والسموات السبع. (3) إن خلق الأرض كان فى يومين، وأن تكون اليابسة والجبال الرواسي فيها وأنواع النبات والحيوان كان فى يومين آخرين تتمة أيام أربع. (4) إن جميع الأحياء النباتية والحيوانية خلقت من الماء. (5) إن اليوم الأول من أيام خلق الأرض هو الزمن الذي كانت فيه كالدخان حين فتقت من رتق المادة العامة التي خلق منها كل شىء سواء أكان ذلك بواسطة أم بدونها. (6) إن اليوم الثاني هو الزمن الذي كانت فيه مائية بعد أن كانت بخارية أو دخانية. (7) إن اليوم الثالث هو الزمن الذي تكونت فيه اليابسة ونتأت منها الرواسي فتماسكت بها (8) إن اليوم الرابع هو الزمن الذي ظهرت فيه أجناس الأحياء من الماء وهى النبات والحيوان.

(9) إن السماء- العالم العلوي بالنسبة إلى أهل الأرض- قد سوّيت أجرامها من مادتها الدخانية فى يومين آخرين أي زمنين شبيهين بالزمنين اللذين خلق فيهما جرم الأرض. وما استنبط من هذه الآيات يوافق ما أقره علماء الفلك فى العصر الحديث، فقد قالوا: إن المادة التي خلقت منها الأجرام السماوية وخلقت منها الأرض كانت سديما، وكانت واحدة رتقا ثم انفصل بعضها من بعض، وكانت مؤلفة من أجزاء دقيقة متحركة تجمّع بعضها إلى بعض، بمقتضى قانون الجاذبية فتكون منها كرة عظيمة تدور على محورها واشتعلت من شدة الحركة فكانت ضياء ونورا تصحبه حرارة شديدة، وهذه الكرة العظيمة فى عالمنا هى التي نسميها بالشمس والكواكب الدراري التابعة لها فيما نرى ونشاهد ومنها أرضنا، انفتقت من رتقها وانفصلت من جرمها وكانت مشتعلة مثلها وتدور على محاورها. ثم إن الأرض تحولت من طور الغازية المشتعلة إلى طور المائية بنظام مقدر فى أزمنة طويلة، إذ كان الأكسجين والإيدروجين وهما العنصران اللذان يتكون منهما الماء يرتفعان فى الجو لخفتهما فيبردان فيكونان نحارا فماء وما زال أمرها كذلك حتى غلب عليها طور المائية. ثم تكونت اليابسة فى هذا الماء بسبب حركة أجزاء المادة وتجمع بعضها مع بعض بنسب ومقادير مختلفة، ثم تولدت فيها المعادن على أنواع شتى، وما زالت تبرد قشرتها الظاهرة وتجفّ شيئا فشيئا حتى صلحت لتوالد النبات والحيوان فوجدت فيها الأحياء النباتية ثم الحيوانية. ولا شك أن هذه الأقوال إن صحت كانت بيانا لما أجمل فى الكتاب الكريم وإن لم تصح فالقرآن لا يناقض شيئا منها، ولكنها أقرب النظريات إلى سنن الكون وصفة عناصره البسيطة وحركتها، وتعتبر تفصيلا لخلق العالم أطوارا بسنن ثابتة وتقدير منظم.

وقد أرشد الكتاب الكريم إلى مثل هذه الحقائق فى نحو قوله: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» وقوله حكاية عن رسوله نوح صلى الله عليه وسلم مخاطبا قومه: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً. وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» . فهذه الحقائق العلمية التي بينهما القرآن ولم يكن أحد من المخاطبين فى عصر التنزيل يعرفها- من أكبر الأدلة على إعجازه وأنه من كلام العليم الخبير بكل شىء لا من كلام البشر. وهذا النظام والتدريج فى الخلق من الدلائل على الإرادة والاختيار والحكمة ووحدانية الخالق، فإن ما لا نظام فيه قد يظن أن وجوده أمر اتفاقي أو من فعل الكثير لا من فعل الواحد، فإنك ترى الفرق واضحا بين كومة من الحصى تراها فى الصحراء وبين حصن مشيد فيه جميع العدد والآلات المعدة للقتال. وما ورد فى الأخبار مما يدل على أن هذه الأيام الستة هى من أيام دنيانا كحديث أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الرواسي يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق فى آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» فهو من الإسرائيليات التي لم يصح فيها حديث مرفوع- إلى أن هذا الحديث مردود من جهة متنه لمخالفته لنص كتاب الله، ومن جهة سنده لأنه مروى عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وقد اختلط عقله فى آخر عمره، ومن ثم قال الحافظ ابن كثير بعد أن أورد الحديث فى تفسيره: وفيه استيعاب الأيام

السبعة والله تعالى قال: «فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ فيه وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا اهـ. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي إنه تعالى قد استوى على عرشه بعد تكوين هذا الملك يدبر أمره ويصرّف نظامه بحسب تقديره الذي اقتضته حكمته. وفى معنى الآية قوله فى سورة يونس: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» . واستواؤه تعالى على العرش: هو استقامة أمر السموات والأرض وانفراده بتدبيرهما، والإيمان بذلك غير موقوف على معرفة حقيقة ذلك التدبير ولا معرفة صفته ولا كيف يكون، فالصحابة رضوان الله عليهم والأئمة من بعدهم لم يشتبه أحد منهم فيه، وقد أثر عن ربيعة شيخ الإمام مالك أنه سئل عن قوله: «اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. وقال الحافظ ابن كثير: مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعى والثّورى واللّيث ابن سعد والشافعي وأحمد وإسحق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه. وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري: من شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله- تشبيه، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى اهـ. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي إنه تعالى جعل الليل وهو الظلمة يغشى النهار وهو ضوء الشمس على الأرض أي يتبعه ويغيب على المكان الذي كان فيه ويستره

حال كون الطلب حثيثا أي بسرعة، المراد أنه يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شىء. ويظهر ذلك الطلب السريع أتم الظهور بما أثبته العلم حديثا من كروية الأرض وأنها تدور على محورها حول الشمس، فيكون نصفها مضيئا بنورها دائما ونصفها الآخر مظلما دائما، وقد قال بهذا القول كثير من علماء الإسلام كالغزالى والرازي وابن تيمية وابن القيّم وغيرهم. وهذه الجملة كالدليل على ما قبلها، فإنه بعد أن أخبر عباده باستوائه على العرش وتدبيره لجميع المخلوقات- أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر وتزول الشبه- إلى ما فى تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة، إذ بتعاقبهما الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي وخلق هذه الأشياء حال كونها مذللات خاضعات لتصرفه منقادات لحكمه. (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي ألا إن الله الخلق، فهو الخالق المالك لذوات المخلوقات وله فيها الأمر أي التصرف والتدبير، إذ هو المالك لها لا شريك له فى ملكه. ومن هذا التدبير ما سخر له الملائكة من نظام العالم وتنفيذ سننه فى خلقه، كما جاء فى قوله: «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» ومن ذلك الوحى الذي ينزل به الملائكة على الرسل كما جاء فى قوله: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ» . وفى معنى الآية قوله: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» وقوله: «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» وقوله: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» وجاءت هذه الجملة توكيدا لما قبلها لبيان أنه هو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي دبرهما وصرفهما بحسب إرادته.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 إلى 56]

(تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي تعالى الله بوحدانيته وألوهيته، وتعظم بالتفرد بربوبيته، وأن كل ما فى هذا العالم من الخيرات الكثيرة والنعم العظيمة فهو منه، فيجب على عباده أن يشكروه عليها ويعبدوه دون غيره مما عبدوه معه وليس له من الخلق ولا من الأمر شىء. [سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56] ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) تفسير المفردات التضرع: التذلل، وهو إظهار ذل النفس من قولهم ضرع فلان لفلان وتضرّع له: إذا أظهر الذل فى معرض السؤال، والخفية: ضد العلانية من أخفيت الشيء أي سترته، والاعتداء: تجاوز الحدود، ومحبة الله للعمل: ثوابه عليه، ومحبته للعامل: رضاه عنه. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه الأدلة على توحيد الربوبية- قفّى على ذلك بالأمر بتوحيد الإلهية بإفراده تعالى بالعبادة، وروحها ومخّها الدعاء والتضرع له. الإيضاح (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي ادعوا ربكم ومتولى أموركم حال كونكم متضرعين مبتهلين إليه مخفين دعاءكم. وفى هذا إيماء إلى أن الدعاء فى الخفية إن لم يكن واجبا فهو مندوب على الأقل، ويدل على ذلك وجوه:

(1) إنه تعالى أثنى على زكريا فقال: «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» أي إنه أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطع به إليه. (2) روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فى سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» رواه مسلم. (3) روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «دعوة فى السر تعدل سبعين دعوة فى العلانية» وقال: «خير الذكر الخفىّ، وخير الرزق ما يكفى» . (4) روى عن الحسن البصري أنه قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة فى بيته وعنده الزّور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعلموه فى السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون فى الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» اهـ. (5) إن النفس شديدة الرغبة فى الرياء والسمعة، فإذا رفع المرء صوته بالدعاء امتزج الرياء به، فلا يبقى فيه فائدة البتة، ومن ثم كان الأولى الإخفاء ليبقى مصونا عن الرياء. وفصّل بعض العلماء فقال: إن التضرع بالجهر المعتدل يحسن فى حال الخلوة والأمن من رؤية الناس للداعى ومن سماعهم لصوته، فلا جهره يؤذيهم، ولا الفكر فيهم يشغله عن التوجه إلى الرب وحده، أو يفسد عليه دعاءه بحب الرياء والسمعة، ويحسن الإسرار فى حال اجتماع الناس فى المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية فى الحج وتكبير العيدين.

وإذ كان الليل سترا ولباسا شرع فيه الجهر فى قراءة الصلاة- إلى أنه يطرد الوسواس، ويقاوم فتور النّعاس ويعين على تدبر القرآن، وبكاء الخشوع للرحمن، لدى المتهجدين فى خلواتهم. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي المتجاوزين ما أمروا به، ونحو الآية قوله: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» . وللاعتداء فى الدعاء مظاهر شتى: (1) اعتداء خاص بالألفاظ كالمبالغة فى رفع الصوت والتكلف فى صيغ الدعاء. (2) اعتداء خاص بالمعنى وهو طلب غير المشروع من وسائل المعاصي ومقاصدها كضرر العباد وطلب إبطال سنن الله فى الخلق، أو تبديلها كطلب النصر على الأعداء مع ترك وسائله كأنواع السلاح والعتاد، وطلب الغنى بلا كسب، وطلب المغفرة مع الإصرار على الذنب مع أن الله يقول «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» . (3) اعتداء بالتوجه فيه إلى غير الله ليشفع له عنده، وهذا شر أنواع الاعتداء كما قال «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» ومن طلب ذلك من غير الله فقد اتخذه إلها، لأن الإله هو المعبود كما روى أحمد عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء هو العبادة» وروى الترمذي عن أنس مرفوعا «الدعاء مخ العبادة» وروى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سلوا الله لى الوسيلة، قالوا وما الوسيلة؟ قال: القرب من الله عز وجل، ثم قرأ «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» وابتغاء ذلك يكون بدعائه وعبادته بما شرعه على لسان رسوله دون غيره. وقد جاءت آيات كثيرة فى الإنكار على المشركين دعاء غير الله وكونه عبادة له وشركا بالله، ولكن مدعى العلم الذين يقولون على الله: يقولون لا بأس بدعاء

الأولياء والصالحين عند قبورهم والتضرع والخشوع لهم، ويكون توسلا بهم إلى الله ليقربوهم منه بشفاعتهم، لا عبادة لهم. وقد علمت أن التوسل إنما هو التقرب إلى الله بما يرتضيه وبما شرعه من عبادته دون غيرها، وآيات الكتاب الكريم صريحة فى ذلك. نعم إن طلب الدعاء من المؤمنين مشروع من الأحياء لا من الأموات، ويسمى ذلك توسلا لأنه قد شرعه الله كما توسل عمر والصحابة بالعباس بصلاة الاستسقاء وما بعدها من الدعاء. وما ذم الله المشركين إلا لأنهم أشركوا مع الله غيره فى الدعاء، وهم كانوا يؤمنون بالله وبعضهم كان يؤمن باليوم الآخر، ولكن طرأ عليهم الشرك الذي أحبط أعمالهم، وهكذا يحبط إيمان من أشرك من المسلمين بدعاء غير الله. (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاح الله لها بما خلق فيها من المنافع وما هدى الناس إليه من استغلالها والانتفاع بتسخيرها لهم وامتنانه بذلك فى مثل قوله «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» . وهذا الإفساد شامل لإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة، وإفساد الأديان بالكفر والمعاصي، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنا، وإفساد العقول بشرب المسكر ونحوه. والخلاصة- إن الإفساد شامل لإفساد العقول والعقائد والآداب الشخصية والاجتماعية والمعايش والمرافق من زراعة وصناعة وتجارة ووسائل تعاون بين الناس. وإصلاح الله تعالى لحال البشر كان بهداية الدين وإرسال الرسل، وتمم ذلك ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي كان رحمة للعالمين، فبه أصلحت عقائد البشر، وهذبت أخلاقهم وآدابهم بما جمع لهم فيها من مصالح الروح والجسد، وما شرع لهم

من التعاون والتراحم، وبما حفظ لهم من العدل والمساواة، وبما شرع لهم من الشورى المقيدة بقاعدة درء المفاسد وحفظ المصالح، وبذا امتاز به دينهم عن بقية الأديان. انظر إلى الأمم ذوات الحضارة والمدنية ترها أصلحت كل شىء من معدن ونبات وحيوان، ولكنها عجزت عن إصلاح نفس الإنسان، ومن ثم تحوّل كل ما هدوا إليه من وسائل العمران إلى إفساد نوع الإنسان، وتعادت الشعوب وتنازعت على الملك والسلطان، وأباحت الكفر والعصيان، وبذل الثروة فى سبيل التنكيل بالخصوم والجناية على الأعداء ولو بالجناية على أنفسهم، وما الحروب القائمة فى مشارق الأرض ومغاربها بين الدول الكبرى والتي أكلت الحرث والنسل وأزهقت أرواح الملايين من الناس بين حين وآخر إلا شاهد صدق على ما نقول. وبعد أن بين فى الآية الأولى شرط الدعاء أعاد الأمر به إيذانا بأن من لا يعرف أنه محتاج إلى رحمة ربه مفتقر إليها، ولا يدعو ربه تضرعا وخفية ولا يخاف من عقابه ولا يطمع فى غفرانه بكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح فقال: (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) الخوف توقع مكروه يحصل بعد، والطمع توقع محبوب يحصل كذلك أي ادعوه خائفين من عقابه على مخالفتكم لشرعه المصلح لأنفسكم وأجسامكم، طامعين فى رحمته وإحسانه فى دنياكم وآخرتكم. ودعاء المولى حين الشعور بالعجز والافتقار إليه مما يقوّى الأمل بالإجابة، ويحول بينها وبين اليأس إذا تقطعت الأسباب، وجهلت وسائل النجاح. والدعاء مخ العبادة ولبّها، وإجابته مرجوّة متى استكملت شرائطها وآدابها، فإن لم تكن بإعطاء الداعي ما طلبه فربما كانت بما يعلم الله أنه خير له منه. ثم بين فائدة الدعاء وعلّل سبب طلبه فقال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن رحمته تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم، لأن الجزاء من جنس العمل كما قال «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 إلى 58]

فمن أحسن فى عبادته نال حسن الثواب، ومن أحسن فى الدعاء أعطى خيرا مما طلبه، أو مثل ما طلبه. وقد طلب الله الإحسان فى كل شىء يهدى إليه دين الفطرة، وحرم الإساءة فى كل شىء وجعل جزاءها من جنسها كما قال: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» . وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله كتب الإحسان على كل شىء، فإذا قلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» رواه مسلم. ومن هذا تعلم أنه طلب الإحسان إلى الحيوان والرفق به حين ذبحه حتى لا يتعذب، كما حرم أكل الموقوذة وهى التي تضرب بغير محدد حتى تنحل قواها وتموت. وطلب الإحسان فى قتال الأعداء، لأنه فى حكم الضرورات التي تقدر بقدرها ويتقّى ما يمكن الاستغناء عنه كما قال: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» . فقد طلب إلينا فى هذه الآية أن نضرب رقاب الأعداء حين قتالهم، لأنه أسرع إلى قتلهم وأبعد عن تعذيبهم بمثل ضرب الرءوس وتقطيع الأعضاء، حتى إذا ظهر لنا عليهم الغلب بالإثخان فيهم أمرنا بترك القتل وأن نعمد إلى الأسر وبعد ذلك إما أن نمن على الأسرى بالعتق، أو نفاديهم بمن أسرمنا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الريح: الهواء المتحرك، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابّها من الجهات الأربع: الشّمال والجنوب، وسميا كذلك باسم الجهة التي يهبان منها. والصّبا أو القبول وهى الشرقية وقد ينسبونها إلى نجد كما ينسبون الجنوب إلى اليمن والشمال إلى الشام. والدّبور، وهى الغربية. والريح التي تنحرف عن الجهات الأصلية فتكون بين اثنتين منها يسمى النّكباء. قال الراغب: كل موضع ذكر الله فيه إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع كان للرحمة، وفى الخبر «إنه صلى الله عليه وسلم كان يجثو على ركبتيه حين هبوب الرياح ويقول: اللهم اجعلها لنا رياحا ولا تجعلها ريحا، اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» . وبشرا: مخفف بشرا واحدها بشير: كغدر جمع غدير، والرحمة هنا المطر، وأقلّت: رفعت قال فى المصباح: كل شىء حملته فقد أقللته، والسحاب: الغيم واحده سحابة، والثقال منه: المشبعة ببخار الماء، وسقناه: سيرناه، والبلد والبلدة: الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء، وبلد ميت: أرض لا نبات فيها ولا مرعى، والثمرات واحدها ثمرة، والثمرة واحدة الثمر: وهو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أولا، فيقال ثمر الأراك وثمر النخل والعنب، والنكد كل شىء خرج إلى طالبه بتعسر يقال رجل نكد (بفتح الكاف وكسرها) وناقة نكداء: خفيفة الدر صعبة الحلب، والتصريف: تبديل الشيء من حال إلى حال، ومنه تصريف الرياح. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه تفرده بالملك والملكوت وتصرفه فى العالم العلوي والسفلى وتدبيره الأمر وحده، وطلب إلينا أن ندعوه متضرعين خفية وجهرا، ونهانا عن

الإيضاح

الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها، وأبان لنا أن رحمته قريب من المحسنين- قفّى على ذلك بذكر بعض ضروب من رحمته، إذ أرسل إلينا الرياح وما فيها من منافع للناس- فبها ينزل المطر الذي هو مصدر الرزق وسبب حياة كل حى فى هذه الأرض، وفى ذلك عظيم الدلالة على قدرته تعالى على البعث والنشور. الإيضاح (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إن ربكم المدبّر لأمور الخلق، هو الذي يرسل الرياح بين يدى رحمته: أي بين الأمطار وأمامها حال كونها مبشرات بها، فينشىء بها سحابا ثقالا لكثرة ما فيها من الماء، حتى إذا أقلتها ورفعتها إلى الهواء ساقها لإحياء بلد ميت قد عفت مزارعه، ودرست مشاربه، وأجدب أهله. ونحو الآية قوله: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ» . (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي فأنزلنا بالسحاب الماء، إذ قد ثبت أنه حينما يسخن الهواء القريب من سطوح البحار وغيرها بتأثير الحرارة، يرتفع فى الجو ويبرد لوصوله إلى منطقة باردة، أو لا متزاجه بتيار من الهواء البارد، فإذا برد تكاثف منه بخار الماء وتكوّن السحاب، فالسحاب ناشىء من تكاثف بخار الماء من الهواء فى الطبقات العالية من الجو، وهو لا يكون ثابتا فى مكان، بل يسير فى اتجاه أفقى مدفوعا بقوة الريح، ويتراوح بعده عن الأرض بين ميل وعشرة أميال، ويكون معتما مشبعا بالماء إذا كان قريبا من سطح الأرض، وهو الذي ينشأ عنه المطر لتجمع قطيرات الماء التي فيه

بعضها مع بعض بتأثير البرودة، فتتكوّن قطيرات كبيرة تسقط من خلاله نحو الأرض لثقلها بحسب سنة الله فى جاذبية الثقل كما قال تعالى فى سورة الروم: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ- المطر- يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» وفى سورة النور «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي- يسوق- سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً- مجتمعا- فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» والمراد بالسماء السحاب، إذ هى لغة: كل ما علا الإنسان وأظله. وقد أثبت العلم ودلت المشاهدة أن سكان الجبال الشامخة يبلغون فى العلو حذاء السحاب المطر أو يتجاوزونه إلى ما فوقه فيكون دونهم كما شاهد ذلك بعض النازلين فى بعض الفنادق فى جنيف بسو يسرا. (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي فأخرجنا بالماء أنواع الثمار على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها، فتخرج كل أرض أنواعا مختلفة منها تدل على قدرة الله وعلمه ورحمته وفضله كما قال: «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» . وبعد أن ذكّرهم بهذه الآيات قفّى على ذلك بما يزيل إنكارهم للبعث فقال: (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي ومثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها بالماء نخرج الموتى من الناس وغيرهم، إذ القادر على هذا قادر على ذلك. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) هذا الشّبه فيزول استبعادكم للبعث بنحو قولكم «مَنْ

إعادة الموتى

يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» وقولكم «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» وقولكم «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» . فأمثال هذه المقالات الدالة على إنكار خروج الحي من الميت تزول إذا أنتم تذكرتم خروج النبات الحي من الأرض الميتة، إذ لا فارق بين حياة النبات وحياة الحيوان، فكل منهما خاضع لقدرة الإله القادر على كل شىء. والحياة فى عرف المخاطبين كانت تعرف بالتغذي والنمو فى النبات والحس والحركة فى الحيوان. وما يقوله علماء الطبيعة الآن من أن الحي لا يولد إلا من حى سواء فى ذلك الحيوان والنبات، فالنبات الذي يخرج فى الأرض الفقراء بعد سقيها بالماء لا بد أن تكون له بذور فيها حياة كامنة لا تظهر إلا بالماء- فمثل هذه الحياة لم يكن معروفا عند واضعى اللغة، على أنه لا ينفى صحة خروج النبات الحي من الأرض الميتة، إذ لولا تغذى البذور والجذور بمواد الأرض الميتة بسبب الماء لما نبتت. والقرآن الكريم قد حدثنا بأن الأرض تفنى بتفرق مادتها ثم يعيدها الله كما بدأها فقال «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» فهذه الرجة هى التي سميت فى الآيات الأخرى بالقارعة والصاخة، إذ ربما يقرعها كوكب ويصطدم بها فتتفتت جبالها وتكون كالهباء المتفرق فى الجو المسمى بالسديم. إعادة الموتى جاء فى الكتاب الكريم قوله: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» وقوله: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» وقوله: «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» .

فأثبت فى هؤلاء الآيات الإعادة وشبهها بالبدء، وهو تشبيه فى جملة ذلك لا فى تفصيله، فإنه كما خلق جسد الإنسان الأول خلقا ذاتيا مبتدأ ونفخ فيه الروح- يخلق أجسام أفراد الإنسان خلقا ذاتيا معادا، ثم ينفخ فيها أرواحها التي كانت بها أناسىّ فى الحياة الدنيا، فما الأجساد إلا كالسكن للأرواح. وليس بالبعيد على خالق العالم كله أن يعيد أجساد ألوف الملايين دفعة واحدة ولا سيما بعد أن أثبت العلم أنه يمكن تحليل بعض المواد المؤلفة من عناصر مختلفة، ثم إعادة تركيبها، وقد كان لتقدم الإنسان فى العصر الحديث ومعرفته لكثير من ظواهر الكون أثر عظيم فى تعرفنا لكثير من أخبار عالم الغيب وسهولة إدراك العقول لها، ومن ثم قال كثير من علماء العصر الحديث: ليس فى العالم شىء مستحيل. ولا يراد بحشر الأجساد حشرها بأعيانها لأجل وقوع الجزاء عليها، ألا ترى أن العلماء يقولون: إن الأجساد تتجدد فى قليل من السنين. ومع ذلك لا يعتقد أحد من القضاة أن العقاب يسقط عن الجاني بانحلال أجزاء بدنه التي زاول بها الجناية وتبدل غيرها بها، فحقيقة الإنسان لا تتغير بهذا التبدل، إذ ليس هذا إلا كتبدل الثياب ونحوها، إذ المستحق للثواب والعقاب هو الروح، لأن مبنى الطاعة والعصيان الإدراكات والإرادات والأفعال والحركات. والخلاصة- إن الإنسان الحقيقي هو الذرة التي تحل فى القلب وفيها تحل الروح وتكسبها الحياة وتسرى منها إلى الهيكل الجسماني، فهذا الهيكل هو آلة قضاء أعمال تلك الذرة فى هذا الكون واكتساب العلوم والمعارف، وهى مع الروح الحالّ فيها هما المخاطبان بالتكليف، وهما المعادان والمنعّمان والمعذبان إلى نحو ذلك. وبعد أن ضرب الله إحياء البلاد بالمطر مثلا لبعث الموتى- ضرب اختلاف نتاج البلاد مثلا لما فى البشر من اختلاف الاستعداد لكل من الهدى والكفر والرشاد والغى فقال: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) قوله

والذي خبث أي والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا، وأصل النكد هو العسر الممتنع من إعطاء الخير بخلا. والمعنى- إن الأرض منها الطيبة الكريمة التربة التي يخرج نباتها بسهولة وينمى بسرعة ويكون كثير الغلّة طيب الثمرة، ومنها الخبيثة التربة كالخرّة- الحجرية- والسّبخة التي لا يخرج نباتها على قلته وخبثه إلا بعسر وصعوبة. قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر أي للبر والفاجر اهـ أي إنه تعالى شبههما بالأرض الخيّرة والأرض السبخة، وشبه نزول القرآن بنزول المطر، فالأرض الخيّرة يحصل فيها بنزول المطر أنواع الأزهار والثمار، والأرض السبخة إن نزل عليها المطر لا تنبت من النبات إلا النذر القليل، فكذلك الروح الطيب النقي من شوائب الجهل ورذائل الأخلاق إذ اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع الطاعات والأخلاق الحميدة، والروح الخبيث الكدر وإن اتصل به نور القرآن لا يظهر فيه من المعارف وجميل الأخلاق إلا النذر القليل. روى أحمد والشيخان والنسائي من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب التي لا تشرب ولا تنبت- أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هى قيعان- أرض مستوية- لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القسم الأول وهو الذي نفع وانتفع بالهادي والمهتدى، وفسر القسم الثالث وهو الذي لم ينفع ولم ينتفع بالجاحد وسكت عن القسم الثاني وهو الذي نفع غيره بعلمه ولم ينتفع به هو، لأن له أحوالا كثيرة فمنه المنافقون ومنه المفرطون فى دينهم، والمشاهدة تدل

[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 إلى 64]

على أن الطيبي الأخلاق يفعلون الخير والبر بلا تكلف، وأن الخبيثين لا يفعلون الخير ولا يؤدون الواجب إلا نكدا بعد إلحاف أو إيذاء حين الطلب أو إدلاء إلى الحكام. (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي مثل ذلك التصريف البديع نرّدد الآيات الدالة على القدرة الباهرة، ونكررها لقوم يشكرون نعمنا باستعمالها فيما تتم حكمتنا، وبذا يستحقون منا المزيد ويكافئون بالثواب عليها. وختم هذه الآية بالشكر، إذ كان موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد، والآية التي قبلها بالتذكر لما كان موضوعها الاعتبار والاستدلال. قصص نوح عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) تفسير المفردات اليوم هنا: يوم القيامة، والملأ: أشراف القوم لأنهم يملئون العيون بهجة ورواء بتأنقهم فى زيّهم وتجميل منظرهم، والنصح: الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية

المعنى الجملي

من شوائب المكر، والذكر: الموعظة، وعلى رجل أي على لسانه، منكم أي من جنسكم، والفلك: السفينة، وعمين واحدهم عم: وهو ذو العمى، أو هو خاص بعمى القلب والبصيرة، والأعمى أعمى البصر كما قال زهير: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكننى عن علم ما فى غد عمى المعنى الجملي بعد أن ذكر- عظمت آلاؤه- الإنسان ومعاده وأن مردّه إلى الله فى يوم تجازى فيه كل نفس بما كسبت- قفّى على ذلك بذكر قصص الأنبياء مع أممهم وإعراضهم عن دعوتهم، ليبين للرسول أن الإعراض عن قبول دعوة الأنبياء ليس ببدع فى قومك، بل سبق به أقوام كثيرون، وفى ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم- إلى ما فيه من التنبيه إلى أن الله لا يهمل أمر المبطلين، بل يمهلهم، وتكون العاقبة للمتقين، ومن العظة والاعتبار بما حل بمن قبلهم من النكال والوبال كما قال «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» . الإيضاح (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية من أهل مكة ومن جاورهم من العرب بأنه سبحانه أرسل نوحا إلى قومه منذرا لهم بأسه، ومخوّفهم سخطه، على عبادتهم غيره، وقد كانوا ينكرون الرسالة والوحى، إذ ليس عندهم من علوم الرسل والأمم شىء إلا ما يتلقونه من اليهود والنصارى فى بلاد العرب والشام. ونوح أول رسول أرسله الله إلى قومه المشركين كما هو رأى كثير من المحققين كما ثبت فى حديث الشفاعة وغيره. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي فدعا من كفر منهم إلى عبادة

الله تعالى وحده، إذ ليس لهم إله غيره يتوجهون إليه فى عبادتهم بدعاء يطلبون به ما لا يقدرون عليه بكسبهم، فرهم هو الخالق لكل شىء وبيده ملكوت كل شىء، وهو الإله الحق الذي يجب أن تتوجه إليه القلوب بالدعاء وغيره. ثم ذكر السبب فى الأمر بعبادته وحده، وترك أدنى شوائب الشرك، مثبتا للبعث والجزاء فقال: (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف عليكم عذاب يوم شديد هو له وهو يوم البعث والجزاء إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به. (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قال له أشراف قومه: إنا لنراك فى ضلال بيّن عن الحق بنهيك لنا عن عبادة آلهتنا: ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهم شفعاؤنا عند الله ووسيلتنا إليه، فببركتهم يتقبّل منا صالح أعمالنا، ويعطينا سؤلنا، لما كانوا عليه من الصلاح والتقوى، ونحن لا نستطيع أن نوجه إليه دعواتنا دون وساطتهم، لما نجترحه من السيئات التي تبعدنا عن حظيرة ذلك القدس الأعظم. وخلاصة مقالهم- أنت فى غمرة من الضلال أحاطت بك، فجعلتك لا تجد إلى الصواب سبيلا. (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي قال نوح مجيبا لهم: يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من توحيد الله وإخلاص الطاعة له دون الآلهة والأنداد خروجا منى عن محجة الحق، وضلالا عن سبيل الرشاد، ولكنى رسول من رب العالمين إليكم، أهديكم باتباعى إلى ما يوصلكم إلى السعادة فى دنياكم وآخرتكم، وأنقذكم من الهلاك الأبدى بالشرك بالله والمعاصي المدنسة للأنفس والمفسدة للأرواح. ومن رحمة ربكم بكم ألا يدعكم فى عمايتكم وشرككم الذي ابتدعتموه بجهلكم حتى يبين لكم الحق من الباطل على يد رسول من لدنه يسلك بكم السبيل السوي الموصل إلى النجاة.

(أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أي أرسلنى إليكم لأبلغكم ما طلب إلى تبليغه من التوحيد والإيمان واليوم الآخر والوحى والرسالة والملائكة والجنة والنار والآداب والمواعظ والأحكام العامة من عبادات ومعاملات إلى نحو ذلك. (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) بتحذيركم عقاب الله على كفركم به وتكذيبكم لى وردكم نصحى. روى مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» . (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي وأنا فى هذا التبليغ وذلك النصح على علم من الله أوحاه إلىّ لا تعلمون منه شيئا، كما أنى أعلم من الله وشئونه ما لا تعلمون فى نظام هذا العالم وما ينتهى إليه، كما أعلم ما بعده من أمر الآخرة والحساب والجزاء- فإذا نصحت لكم وأنذرتكم عاقبة شرككم من إنزال العذاب بكم فى الدنيا إذا جحدتم وعاندتم، فإنما أنصح لكم عن علم يقينى لا تعلمونه. (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة من ربكم على لسان رجل منكم، ليحذّركم عاقبة كفركم ويعلمكم بما أعدّ لكم من العذاب على ذلك ولتتقوا بهذا الإنذار ما يسخط ربكم عليكم بالشرك فى عبادته، والإفساد فى أرضه، وليعدّكم بالتقوى لرحمته التي ترجى لكل من أجاب الدعوة واتقى. وفى قوله: على رجل منكم، بيان لشبهتهم على الرسالة وهى أن الرسول بشر مثلهم، فكأنهم كانوا يرون أن الاشتراك فى البشرية والصفات العامة يقتضى التساوي فى جميع الخصائص والمزايا ويمنع الانفراد بشىء منها، والمشاهدة أكبر برهان على بطلان هذه القضية، فالتفاوت فى الغرائز والصفات الفاضلة والاختلاف فى القوى العقلية والمعارف والأعمال الكسبية- جدّ عظيم فى البشر، وليس فى الأنواع الأخرى ما يشبه الإنسان فى ذلك- إلى أنه لو فرض التساوي بينهم، فهل هذا يمنع أن يختص الله

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 إلى 72]

بعض عباده بما هو فوق المعهود فى الغرائز والمكتسب بالتعلم؟ كلا، إنه تعالى قدير على ذلك، وقد قضت به مشيئته، ونفذت به قدرته. (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي فكذبه جمهورهم وأصرّوا على ذلك وخالفوا أمر ربهم ولجّوا فى طغيانهم يعمهون، فأنجيناه من الغرق والذين سلكهم معه فى الفلك من المؤمنين: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» وقد جاءت القصة مفصلة فى سورة هود، قيل كانت عدتهم ثلاث عشرة: نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وأزواجهم وستة ممن كانوا آمنوا به. (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) أي وأغرقنا من كذب بآياتنا بالطوفان بسبب تكذيبهم، وما كان ذلك التكذيب إلا لعمى بصائرهم الذي حال بينهم وبين الاعتبار بالآيات وفهمهم للدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته على إرسال الرسل وحكمته فى ذلك، والثواب والعقاب فى يوم الجزاء، يوم يحشر الناس لرب العالمين، «يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنهم من شدة العذاب حيارى» . قصص هود عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأخ هنا: الأخ فى النسب، وتقول العرب فى أخوة الجنس يا أخا العرب، والسفاهة: خفة العقل، والآلاء واحدها ألى: وهى النعمة، والرجس: العذاب، والغضب: الانتقام، والمجادلة: المماراة والمخاصمة، والسلطان: الحجة والدليل، والدابر: الآخر، ويراد به الاستئصال أي أهلكناهم جميعا. المعنى الجملي أخرج ابن إسحق من طريق الكلبي قال: إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها- اتخذوها على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وآخر يقال له الهتار، فبعث الله إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها الخلود، وكان

الإيضاح

من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحّدوه، وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه: «وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟» . وكانت منازلهم بالأحقاف- الرمل- فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا فى الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله اهـ. الإيضاح (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم فى النسب هودا، والحكمة فى كون رسول القوم منهم أن يفهمهم ويفهم منهم، وأن يكونوا أقرب إلى إجابة دعوتهم لمعرفتهم شمائله وأخلاقه. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قال هود لهم: يا قوم أفردوا العبادة لله ولا تجعلوا معه إلها غيره. (أَفَلا تَتَّقُونَ) ربكم وتبتعدون عما يسخطه من الشرك والمعاصي لتنجوا من عقابه؟ وجاء فى سورة هود: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» . وقد يكون قال لهم هذا وذاك فى وقت واحد أو يكون قد قال لهم هذا مرة وذاك أخرى. (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أي قال الملأ الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا رسالة هود إليهم: إنا لنراك فى ضلال عن الحق والصواب بتركك ديننا وعبادة آلهتنا الذين اتخذت لهم الأمة الصور والتماثيل تخليدا لذكراهم والتقرب بشفاعتهم إلى ربنا وربهم. ووصف الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح، لأن منهم من كان قد آمن. (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فى قيلك إنى رسول من رب العالمين، وفى قولهم هذا إيماء إلى تكذيبهم كل رسول، إذ هم قد عبروا عن أصحاب هذه الدعوى بالكاذبين وجعلوه واحدا منهم.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ليس بي أىّ ضلالة عن الحق والصواب كما تدّعون، ولكنى رسول من رب العالمين أرسلنى إليكم، لأبلغكم رسالات ربى وأؤديها إليكم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار لها إلا من عرفوا برجحان العقل وحصافة الرأى وكمال الصدق. ثم بين وظيفة الرسول وحاله عليه السلام فيما بلغ فقال: (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) أي أبلغكم ما أرسلت به من التكاليف، وإنى ناصح لكم فيما أبلغكموه وأدعوكم إليه، أمين فيما أبلغ عن الله، فلا أكذب عليه فى وحيه إلىّ. وفى إجابة هؤلاء الأنبياء لأقوامهم بتلك الإجابة الصادرة عن الحكمة والإغضاء عما قالوا من وصفهم إياهم بالسفاهة والضلالة- أدب حسن وخلق عظيم وتعليم لعباده كيف يقابلون السفهاء، وكيف يغضون عن قالة السوء التي تصدر عنهم. (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟) أي أكذّبتم وعجبتم أن أنزل ربكم وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة على لسان رجل منكم لينذركم بأسه ويخوفكم عقابه؟ (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي واذكروا فضل الله عليكم ونعمته، إذ جعلكم ورثة قوم نوح وزادكم بسطة فى خلق أبدانكم- وقد كانوا طوال الأجسام أقوياء الأبدان- واتقوا الله فى أنفسكم واحذروا أن يحل بكم من العذاب مثل ما حل بهم، فيهلككم ويبدل منكم غيركم، سنته فيهم وقد جاء فى سورة هود والشعراء وفصلت ما يدل على ما كان لهم من قوة وجبروت وبطش شديد. (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فاذكروا نعم الله وفضله عليكم، واشكروه على ذلك بإخلاص العبادة له وترك الإشراك به، وهجر الأوثان والأصنام

لعلكم تفوزون بما أعده للشاكرين لنعمه، الراجين للمزيد منها، وتدركون الخلود والبقاء والنعيم الأبدى فى دار القرار. ثم ذكر ما ردوا به عليه فقال: (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) يقال: جاء يعلم الناس كيف يحاربون، وذهب يقيم قواعد العمران، على معنى شرع يفعل ذلك. والمعنى- أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده، ونترك ما كان يعبد آباؤنا معه من الأولياء والشفعاء وهم الوسيلة عنده، وهم الذين يقربوننا إليه زلفى، وهل يقبل الله عبادتنا مع ذنوبنا إلا بهم ولأجلهم. وبعد أن استنكروا التوحيد واحتجوا عليه بما لا يصلح عقلا ولا شرعا أن يكون حجة من تقليد الآباء والأجداد استعملوا الوعيد فقالوا: (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فجئنا بما تعدنا به من العذاب على ترك الإيمان بك، والعمل بما جئت به من التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده- إن كنت صادقا فى قولك ووعيدك. فأجابهم هود على مقالتهم بقوله: (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أي قال هود لقومه: قد قضى عليكم ربكم مالك أمركم بعذاب وطرد من رحمته، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا ذات صوت شديد عاتية تنزع الناس من الأرض ثم ترميهم بها صرعى «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» أي قد قلع من منابته، وزال من أماكنه. (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ؟) أي أتخاصمونني فى أسماء وضعتموها أنتم وآباؤكم الذين قلدتموهم على غير علم ولا هدى منكم ولا منهم لمسميات اتخذوها فاتخذتموها آلهة زاعمين أنها تقربكم إلى الله زلفى وتشفع عنده لكم، ما أنزل الله من حجة ولا برهان يصدق زعمكم بأنه رضى أن تكون واسطة بينه

[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 إلى 79]

وبينكم، وكيف وهو الواحد الأحد الذي يصمد إليه عباده فى العبادة، وطلب مالم يمكنهم بالأسباب العادية. والخلاصة- إنه هو الذي يتوجه إليه وحده، ولا يشرك معه أحد من خلقه كما قال إبراهيم: «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . وكل ما يتعلق بعبادة الله لا يعلم إلا بوحي منه ينزله على رسله؟ إذ لا يعلم إلا من عباده المبلغين عنه. (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي فانتظروا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) إنى معكم من المنتظرين لنزوله بكم، وفصل قضائه فينا وفيكم، وإننى لموقن بذلك وأنتم مرتابون. (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي فلما جاء أمرنا ووقع ما وقع- أنجينا هودا والذين آمنوا به وبما دعا إليه من توحيد الله وهجر الأوثان- برحمة عظيمة منا، واستأصلنا دابر الذين جحدوا بآياتنا ولم نبق منهم أحدا بريح صرصر عاتية: «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» . قصص صالح عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ثمود: قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، سميت باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح وأخوّة صالح لهم: أخوة فى النسب كأخوة هود لقومه، والبينة: المعجزة الظاهرة الدلالة، واذكروا أي تذكروا، وبوأكم فى الأرض أي أنزلكم فيها وجعلها مباءة لكم، والأرض: أرض الحجر بين الحجاز والشام، والنحت: نحر الشيء الصّلب، والعيث والعثى: الفساد، استكبروا: عتوا وتكبروا، وعقروا الناقة: نحروها، وأصل العقر الجرح، وعقر الإبل: قطع قوائمها، وكانوا يفعلون ذلك بها قبل نحرها لتموت فى مكانها ولا تنتقل، وعتوا: تمردوا مستكبرين، التمرد، والامتناع إما عن عجز وضعف، ومنه عتا الشيخ عتيا: إذا أسنّ وكبر، وإما عن قوة كعتو الجبارين والمستكبرين، ويقولون نخلة عاتية: إذا كانت عالية يمتنع جناها على من يريدها إلا بمشقة التسلق والصعود، الرجفة: المرة من الرجف وهو الحركة والاضطراب، يقال رجف البحر: إذا اضطربت أمواجه ورجفت

الإيضاح

الأرض: زلزلت واهتزت، ورجف القلب والفؤاد من الخوف، ودار الرجل: ما يسكنها هو وأهله، ويطلق على البلد وهو المراد هنا، وجثم الناس: قعدوا لا حراك بهم، قال أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير كالبروك للإبل. الإيضاح (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) أي ولقد أرسلنا إلى بنى ثمود أخاهم صالحا. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم من إله تعبدونه سواه. (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما أقول وحقيقة ما أدعو إليه من إخلاص التوحيد له وإفراده بالعبادة دون سواه. وفى قوله: من ربكم، إيماء إلى أنها ليست من فعله، ولا مما ينالها كسبه، وهكذا سائر ما يؤيد به الله الرسل من خوارق العادات. وهذه المقالة كانت لهم بعد نصحهم وتذكيرهم بنعم الله وتكذيبهم له كما جاء فى سورة هود من قوله: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها» إلى آخر الآيات. (هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) أضاف الناقة إلى الله تعظيما لشأنها، ولأنها لم تأت بنتاج معتاد وأسباب معهودة، ومن ثم كانت آية. وأىّ آية؟. وإنما استشهد صالح على صحة نبوته بالناقة، لأنهم سألوه إياها آية دالة على صدق دعوته وصحة نبوته. ثم ذكر ما يترتب على كونها آية أنه لا ينبغى التعرض لها فقال: (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فاتركوها تأكل ما تأكل فى أرض ربها، وليس لكم أن تحولوا بينها وبينها، ولا تتعرضوا لها بسوء فى نفسها ولا فى أكلها، فإنكم إن

فعلتم ذلك أخذكم عذاب أليم، وقد وصف فى سورة هود العذاب بالقريب وهو أنه يقع بعد ثلاثة أيام من مسهم إياها بالسوء، وكذلك كان، وجاء فى سورة القمر: «وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ» . وجاء تفسير هذا فى سورة الشعراء: «هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» أي إن الماء الذي كانوا يشربون منه قسمة بينهم وبين الناقة، إذ كان ماء قليلا، فكانوا يشربونه يوما وتشرب هى يوما، وقد روى عن ابن عباس أنهم كانوا يستعيضون عن الماء يوم شربها بلبنها. ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم وبوجوب شكرها بعبادته تعالى وحده فقال: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) أي وتذكروا نعم الله عليكم وإحسانه إليكم، إذ جعلكم خلفاء لعاد فى الحضارة والعمران والقوة والبأس وأنزلكم منازلهم تتخذون من سهولها قصورا زاهية، ودورا عالية، بما ألهمكم من حذق فى الصناعة، فجعلكم تضربون اللبن وتحرقونه آجرا (الطوب المحرق) وتستعملون الجص وتجيدون هندسة البناء ودقة النجارة، وتنحتون من الجبال بيوتا، إذ علمكم صناعة النحت، وآتاكم القوة والجلد. روى أنهم كانوا يسكنون الجبال فى الشتاء لما فى البيوت المنحوتة من القوة، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ويسكنون السهول فى باقى الفصول للزراعة والعمل. (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي وتذكروا هذه النعم العظام، واشكروها له بتوحيده وإفراده بالعبادة، ولا تتصرفوا فيها تصرف كفران وجحود بفعل ما لا يرضى الله الذي خلقها لكم، فما بالكم بالكفر والعثى فى الأرض بالفساد. (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ

أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟) قد جرت سنة الله أن يكون الفقراء المستضعفون أسرع الناس إلى إجابة دعوة الأنبياء والرسل، وإلى كل دعوة لإصلاح، فإنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تابعين لغيرهم، وأن يكفر بها أكابر القوم وأغنياؤهم المترفون، إذ يشق عليهم أن يكونوا مرءوسين لسواهم، كما يصعب عليهم الامتناع عن الإسراف فى الشهوات، والوقوف عند حدود الاعتدال. وعلى هذا السنن سار الملأ من قوم صالح إذ قالوا للمؤمنين منهم: أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله؟ ومرادهم بهذا التهكم والاستهزاء بهم. (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي إنا بما أرسل به صالح من الحق والهدى مصدّقون ومقرون بأنه من عند الله، وأن الله أمر به، وعن أمر الله دعانا صالح. وفى جوابهم هذا دون أن يقولوا- نعم، أو نعلم أنه مرسل منه، أو إنا برسالته عالمون- إيماء إلى أنهم علموا بذلك علما يقينيا إذ عانيا له السلطان على عقولهم وقلوبهم وما كل من يعلم شيئا يصل علمه إلى هذه المرتبة، بل من الناس من يعلم الشيء بالبرهان لكنه يجحده ويحاربه وهو موقن به حسدا لأهله، أو استكبارا عنه كما قال تعالى: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا» . (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قال الذين استكبروا عن أمر الله وأمر رسوله صالح: إنا بالذي صدقتم به من نبوة صالح وإن الذي جاء به هو الحق- جاحدون منكرون لا نصدق به ولا نقر. وإنما لم يقولوا إنا بالذي أرسل به صالح كافرون- لأن ذلك يتضمن إثبات الرسالة فلو قالوه لكان شهادة منهم على أنفسهم بجحود الحق على علمهم به استكبارا وعنادا. ثم ذكر ما فعلوه مما يدل على كفرهم بآيات ربهم فقال: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي فعقر أولئك المستكبرون الناقة، ونسب الفعل إليهم جميعا والفاعل واحد منهم كما جاء فى سورة القمر: «فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ»

وجاء فى حديث البخاري مرفوعا «فانتدب لها رجل ذو عزه ومنعة فى قومه كأبى زمعة» لأنهم لما اتفقوا عليه ورضوا به صاروا كأنهم فعلوه جميعا. وفى ذلك تهويل وتفظيع لأمرهم، وأن أضراره ستصيبهم جميعا، ومثل هذا من الأعمال ينسب إلى الأمة فى جملتها، وتعاقب عليه جميعها كما قال: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» . (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي وتمردوا وتجبروا عن اتباع الحق الذي بلّغهم صالح إياه، وهو ما سلف ذكره. روى أحمد والحاكم عن جابر قال: «لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح، وكانت الناقة ترد من هذا الفجّ وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، وكانت تشرب يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان فى حرم الله- وهو أبو رغال- فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» . (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الوعد يكون فى الخير والشر أي قالوا له: ائتنا بما وعدتنا به من عذاب الله ونقمته، إن كنت رسولا إلينا، وتدّعى أن وعيدك تبليغ عنه، فالله ينصر رسله على أعدائه، فعجّل ذلك لنا. (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وفى سورة هود «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» وفى سورة حم السجدة «فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ» وفى سورة الذاريات «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» والمراد بالجميع الصاعقة، فإن لنزولها صيحة شديدة القوة ترجف من هولها الأفئدة وتضطرب الأعصاب، وربما اضطربت الأرض وتصدع ما فيها من بنيان. وقد علم أن سبب حدوثها اتصال كهربائية الأرض بكهربائية الجو التي يحملها

السحاب، فتحدث صوتا كالصوت الذي يحدث باشتعال قذائف المدافع، وهذا الصوت هو المسمى بالرعد. وتحدث الصاعقة تأثيرات عظيمة كصعق الناس والحيوان وهدم المبانى أو تصديعها وإحراق الشجر ونحو ذلك، وقد هدى العلم إلى الطريق فى اتقاء أضرارها بالمباني العظيمة بوضع ما يسمونه (مانعة الصواعق) . وقد يجوز أن الله سبحانه جعل هلاكهم فى وقت ساق فيه السحاب المشبع بالكهرباء إلى أرضهم بحسب السنن المعروفة، وقد يجوز أن الله قد خلق تلك الصاعقة لأجلهم على سبيل خرق العادة، وأيهما كان قد وقع، فقد صدق الله رسوله وحدث ما أنذرهم به. (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي لم يلبثوا أن سقطوا مصعوقين جثثا هامدة حين نزلت بهم الصيحة فى أرضهم. (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي قال لهم صالح بعد أن جرى عليهم ما جرى مغتما متحسرا كما يقول المتحسر على من مات جانيا على حياته بالتفانى فى شهواته: ألم أنهك عما يوردك ريب المنون. ألم أحذرك تلك العاقبة الوخيمة التي لم تتداركها قبل وقوعها، فماذا أفعل، إذ فضلت لذة الساعات والأيام، على عيش هنىء يدوم عشرات الأعوام. وروى مثل هذا مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من ندائه بعض قتلى قريش ببدر بعد دفنهم فى القليب (البئر غير المبنية) . «يا فلان بن فلان، وفلان بن فلان: أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟. قال راوى الحديث أبو طلحة الأنصاري: قال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟

[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 إلى 84]

أو فيها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسى بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» رواه البخاري وغيره من طريق قتادة عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، ثم قال: قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما اهـ. قال العلماء ومثل هذا مما اختص به الأنبياء وبهذا الحديث ونحوه مما ورد من حياة الأنبياء والشهداء فى البرزخ، يستدل زوار الأضرحة والقبور الذين يدعون أصحابها لقضاء حاجاتهم ويقولون: إن كل من دعا ميتا من الصالحين يسمع منه ويقضى حاجته، قياسا على ذلك، مع علمهم بأن الأمور الغيبية يقتصر فيها على ما سمع عن الأنبياء ولا يدخلها باب القياس. قصص لوط عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) تفسير المفردات لوط: هو لوط بن حاران ابن أخى إبراهيم عليه السلام، ولد فى (أور الكدانيين) فى الطرف الشرقي من جنوب العراق وكانت تسمى أرض بابل، وكان قد سافر بعد موت والده مع عمه إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى ما بين النهرين وكان يسمى جزيرة

الإيضاح

قورا، وهناك كانت مملكة أشور، ثم أسكنه إبراهيم شرقى الأردن لجودة مراعيها، وكان فى ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت أو بحر لوط، قرى خمس، سكن لوط فى إحداها المسماة بسدوم، وكانت تعمل الخبائث ولا يوجد الآن ما يدل على موضعها بالتحديد، وبعض الناس يقول: إن البحر قد غمرها ولا دليل لهم على ذلك. الإيضاح (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ؟) أي واذكر لوطا حين قال لقومه موبّخا لهم: أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت الغاية فى القبح والفحش. (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي ما عملها أحد قبلكم فى أي زمان، بل هى من مبتدعاتكم فى الفساد، فأنتم فيها أسوة وقدوة، فتبوءون بإثمها وإثم من اتبعكم فيها إلى يوم القيامة. وفى هذا بيان لأن ما اجترحوه من السيئات مخالف لمقتضيات الفطرة، ومن ثم لم تتطلع إليه نفوس أحد من البشر قبلهم، إلى ما فيه من مخالفة لهدى الدين. (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) يراد بالإتيان الاستمتاع الذي عهد بمقتضى الفطرة بين الزوجين، وداعيته الشهوة وقصد النسل. وقد سجل عليهم هنا أنهم يبتغون الشهوة وحدها، فهم أخس من سائر أفراد الحيوان، لأن الذكور منها تطلب الإناث بدافع الشهوة والنسل الذي يحفظ النوع، ألا ترى أن الطيور والحشرات تبدأ حياتها الزوجية ببناء الأعشاش فى أعلى الأشجار أو الوكن فى قلل الجبال أو الأحجار فى باطن الأرضين، ولكن هؤلاء المجرمين لا غرض لهم إلا إرضاء شهواتهم، ومن يقصد اللذة وحدها دون النسل أسرف فيها وانقلب نفعها ضرا وصار خيرها شرا. وفى هذا مزيد تقريع وتوبيخ لهم كأن ذلك لا ينبغى أن يصدر من أحد.

وفى قوله: من دون النساء، إيماء إلى أنهم تجاوزوا النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوى الفطر السليمة إلى غيرهن. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي إنكم لا تأتون هذه الفاحشة ثم تندمون على ما فعلتم، بل أنتم قوم مسرفون فيها وفى سائر أعمالكم ولا تقفون فيها عند حد الاعتدال، وقد جاء فى سورة النمل: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» أي أنتم ذوو سفه وطيش، وفى سورة العنكبوت «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» . وفى كل هذا دليل على أنهم كانوا مسرفين فى لذاتهم، متعدين حدود العقل والفطرة، لا يعقلون ضرر ما يفعلون بجنايتهم على النسل والصحة والآداب العامة، فهم لو عقلوا ذلك لاجتنبوها، ولو كان لديهم شىء من الفضيلة لا نصرفوا عنها. (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وتلك النصيحة شيئا من الحجج المقنعة أو الأعذار المسكنة لثورة الغضب، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم، وما حجتهم على تبرير ما عزموا عليه إلا أن قالوا إن هولاء أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتهم فى فسوقهم ورجسهم، فلا سبيل إلى معاشرتهم ولا مساكنتهم، لما بينهم من الفوارق فى الصفات والأخلاق. وهذا الجواب منهم يدل على منتهى السخرية والتهكم، والافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد. وقد بلغ من قحتهم وفجورهم أن يفعلوا الفاحشة ويفخروا بها ويحتقروا من يتنزه عنها، وهذا أسفل الدركات، ولا يهبط إليه إلا من لا يؤمن بالله واليوم الآخر. (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) يقال غبر أي بقي، وغبر: ذهب

وهلك، أي فأنجيناه وأهل بيته الذين آمنوا معه إلا امرأته، فإنها لم تؤمن به، بل خانته بولاية قومه الكافرين، فكانت من جماعة الهالكين أو الباقين الذين نزل بهم العذاب فى الدنيا، وبعده عذاب الآخرة. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) الإمطار حقيقة فى المطر مجاز فيما يشبهه فى الكثرة من خير وشر مما يجىء من السماء أو من الأرض أي وأرسلنا عليهم مطرا عجيبا أمره وهو الحجارة التي رجموا بها، وجاء فى سورتى هود والحجر إنها حجارة من سجيل مسوّمة أي معلمة ببياض فى حمرة. وقد يكون سبب إمطار الحجارة عليهم إرسال إعصار من الريح حمل تلك الحجارة وألقاها عليهم، أو أن تلك الحجارة من بعض النجوم المحطّمة التي يسميها علماء الفلك الحجارة النيزكية وهى بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها إذا صار بالقرب منها، وهى تحترق غالبا من سرعة الجذب وشدته، وهى الشهب التي ترى بالليل، فإذا سلم منها شىء من الاحتراق ووصل إلى الأرض ساخ فيها وكان لسقوطه صوت شديد، وقد وجد الناس بعض هذه الحجارة ووضعوها فى دور الآثار. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي فانظر أيها المعتبر هذا القصص وتأمله حق التأمل، لتعلم عقاب الأمم على ذنوبها فى الدنيا قبل الآخرة. وهذا العقاب أثر طبيعى لذلك، فإنك ترى الترف والفسق يفسدان أخلاق الأمم ويذهبان ببأسها ويفرّقان كلمتها ويجعلانها شيعا وأحزابا متعادية، فيسلط الله عليها من يستذلها ويسلبها استقلالها، ويسخرها لمنافعه، ولا يزال بها هكذا حتى تنقرض وتكون من الهالكين. وقد يكون هلاكها بسنن الله فى الأرض من إرسال الجوائح كالزلازل والمواد المصطهرة التي تقذفها البراكين من الأرض، أو بالأوبئة والأمراض الفتاكة، أو بالثورات والفتن والحروب ونحو ذلك مما يكون سببا فى انقراض الأمم وفنائها

[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 إلى 87]

وخلاصة القول فى تحريم هذه الفاحشة: (1) إنها مفسدة للشبان بالإسراف فى الشهوات. (2) إنها مفسدة للنساء اللواتى ينصرف أزواجهن عنهم ويقصرون فيما يجب عليهن من إحصانهن. (3) قلة النسل فإن من لوازم ذلك الرغبة عن الزواج والرغبة فى إتيان الأزواج فى غير مأتى الحرث. وفى الحياة الزوجية الشرعية إحصان كل من الزوجين للآخر بقصر لذة الاستمتاع عليه وجعل ذلك وسيلة للحياة الوالدية التي تنمو بها الأمة ويحفظ بها النوع البشرى من الزوال. [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) تفسير المفردات يقال بخسه حقه أي نقصه، والإفساد: شامل لإفساد نظام الاجتماع بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد الأخلاق والآداب: بارتكاب الإثم والفواحش،

المعنى الجملي

وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام، وإصلاحها: هو إصلاح حال أهلها بالعقائد الصحيحة والأعمال الصالحة المزكّية للأنفس، والأعمال المرقية للعمران المحسّنة لأحوال المعيشة، والصراط: الطريق، وتوعدون: تخوّفون الناس. وروى عن ابن عباس أنهم كانوا يجلسون فى الطريق فيقولون لمن أتى إليهم إن شعيبا كذاب، فلا يفتنّنكم عن دينكم، فكثّركم أي بما بارك فى نسلكم. المعنى الجملي شعيب نبى من أنبياء العرب، وفى التوراة إن اسمه رعوئيل فقد جاء فى سفر الخروج أن حمى موسى كان يدعى رعوئيل. (رعو: صديق، وئيل: الله) أي صديق الله أي الصادق فى عبادته، وفى موضع آخر من سفر الخروج إن موسى كان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مدين، ويثرون لقب وظيفته، وهو من نسل إبراهيم. وفى الفصل الخامس من سفر التكوين إن زوجة إبراهيم قطورة ولدت له ستة أولاد منهم مدان أو مدين أو مديان (معناه خصام) وكانت أرضهم تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سينا، وفى رواية إنها كانت تمتد من شبه جزيرة سينا إلى الفرات. وقال الآلوسى: ومدين وسمع مديان علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم سميت به القبيلة. الإيضاح (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) نقدم مثل هذا فى قصة صالح عليه السلام، ولكن هناك بيّن الآية

بأنها الناقة، ولم يذكر هنا ولا فى أي سورة أخرى آية معينة لشعيب عليه السلام، ولكن لا بد أن تكون له آية تدل على صدقه، وتقوم بها الحجة عليهم. فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من الأنبياء نبى إلا أعطى من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلىّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» أي إن كل نبى مرسل أعطاه الله من الآيات الدالة على صدقه وصحة دعوته ما شأنه أن يؤمن البشر على مثله. والبينة كل ما يتبين به الحق، فتشمل المعجزات الكونية والبراهين العقلية، والأمم القديمة لم تكن تدعن إلا لخوارق العادات. وبعد أن أتى شعيب صلوات الله عليه بالمعجزات القاطعة للعذر ومكابرة الحق رتب على ذلك قوله: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) وقد ثنى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان إذا باعوا، والنهى عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا بعد أن أمرهم بتوحيد الله، لأن ذلك كان فاشيا فيهم أكثر من سائر المعاصي ومن ثم اهتم به كما اهتم لوط بنهي قومه عن الفاحشة السوءى التي كانت فاشية فيهم، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس أو وزنوا عليهم لأنفسهم ما يشترون من المكيلات والموزونات يستوفون حقهم أو يزيدون عليه وإذا كالوهم أو وزنوهم ما يبيعون لهم يخسرون الكيل والميزان أي ينقصونه فيبخسونهم أشياءهم وينقصونهم حقوقهم. والبخس يشمل نقص المكيل والموزون وغيرهما من المبيعات كالمواشى والأشياء المعدودة، ويشمل البخس فى المساومة والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق، وفى الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل.

وقد فشاكل من هذين النوعين فى هذا العصر، فكثير من التجار باخسون مطففون فيما يبيعون وما يشترون، وكثير من المشتغلين بالعلوم والآداب والسياسة بخّاسون لحقوق بنى جلدتهم، مدّعون للتفوق عليهم، منكرون لما خص الله به سواهم من المزايا والخصائص حسدا عليهم وبغيا. وقد روى أن قوم شعيب كانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه ويقولون هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس أي بالنقصان. (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي إنه تعالى أصلح حال البشر بنظام الفطرة ومكّنهم فى الأرض، بما آتاهم من القوى العقلية وقوة الجوارح، وبما أودع فى خلق الأرض من سنن حكيمة، وقوانين مستقيمة، وبما بعث به الرسل من المكملات لنظام الفطرة من آداب وأخلاق ونظم فى المعاملات والاجتماع، وبما أرشد إليه المصلحين من العلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط، ويهدون الناس إلى ما فيه صلاحهم فى دينهم، والعاملين من الزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة الذين ينفعون الناس فى دنياهم. فعليكم ألا تفسدوا فيها ببغى ولا عدوان على الأنفس والأعراض والأخلاق بارتكاب الإثم والفواحش، ولا تفسدوا فيها بالفوضى وعدم النظام وبث الخرافات والجهالات التي تقوّض نظم المجتمع، وقد كانوا من المفسدين للدين والدنيا كما يستفاد من هذه الآية وما بعدها. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ذلكم الذي تقدم من الأمر والنهى خير لكم فى دينكم ودنياكم، فإن ربكم لا يأمر إلا بالنافع ولا ينهى إلا عن الضار. وإنما يكون ذلك خيرا لكم إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله وبما جاءكم من شرع وبما آتاكم به من هدى، فالإيمان يقتضى الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله وإن خالف النفس والهوى.

والمؤمن الموحّد لا يخضع إلا لربه، وإنما يطيع رسوله لأنه مبلّغ عنه كما قال: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» وفى حديث أحمد بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر مثلكم، إذا أمرتكم بشىء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشىء من رأيى فإنما أنا بشر» . هذا، والبشر لم يصلوا فى عصر من العصور إلى عشر ما وصلوا إليه فى هذا العصر من العلم بالمنافع والمضار ومعرفة المصالح والمفاسد فى المعاملات والآداب، ومع هذا فإن العلم وحده لم يغنهم شيئا، فكثرت فى البلاد الجرائم من قتل وسلب وإفساد زرع وفسق وفجور ونحو ذلك مما كان سببا فى تدهور نظم المجتمعات. فخير وسيلة لإصلاح الأمم تربية. الأحداث والنابتة تربية دينية بإقناعهم بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل، وإقناعهم بمضار الرذائل، لأن الوازع النفسي أقوى من الوازع الخارجي. (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي ولا تقعدوا بكل طريق تخوّفون من آمن بالقتل، وقد روى عن ابن عباس أن بلادهم كانت خصبة وكان الناس يمتارون منهم، فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ويقولون لهم إنه كذاب فلا يفتننكم عن دينكم. وقد رتب سبحانه هذه الأوامر والنواهي بحسب الترتيب الزمنى، فوجهت الدعوة أولا إلى أقرب الناس فى بلده، ثم إلى الأقرب فالأقرب من الذين يزورون أرضهم، وقد كان الأقربون دارا هم الأبعدين استجابة له، وحين رأوا غيرهم يقبل دعوته ويهتدى بها شرعوا يصدون الناس عنه فلا يدعون طريقا توصل إليه إلا قعد بها من يتوعد سالكيها إليه، ويصدونهم عن سبيل الله التي يدعوهم إليها، ويطلبون بالتمويه والتضليل أن يجعلوا استقامتها عوجا، وهداها ضلالا.

والخلاصة- إنه نهاهم عن أشياء ثلاثة: (1) قعودهم على الطرقات التي توصل إليه مخوّفين من يجيئه ليرجع عنه قبل أن يراه ويسمع دعوته. (2) صدهم من وصل إليه وآمن به بصرفه عن الثبات على الإيمان والاستقامة على الطريق الموصلة إلى سعادة الدارين. (3) ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة معوجّة بالطعن وإلقاء الشبهات المشككة فيها أو المشوهة لها، وهم بعلمهم هذا ارتكبوا ضلالتين: التقليد والعصبية للآباء والأجداد، وضلالة الغلو فى الحرية الشخصية التي أباحت لهم الطعن فى الأديان حتى بلغوا فى ذلك حد الطغيان. (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) أي وتذكروا الزمن الذي كنتم فيه قليلى العدد فكثركم الله بما بارك فى نسلكم، واشكروا له ذلك بعبادته وحده، واتباع وصاياه فى الحق، والإعراض عن الفساد فى الأرض. وقد روى أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله فى نسلها البركة والنماء فكثروا. وقد يكون المعنى- إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين- أو المراد: إذ كنتم أذلة قليلى العدد فأعزكم بكثرة العدد والعدد. (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح وعاد وثمود، وكيف أهلكهم الله بفسادهم وبغيهم فى الأرض، فاعتبروا بما حل بهم، واحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم. (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ، حكم الله بين عباده ضربان: (1) حكم شرعى يوحيه إلى رسله، وعليه جاء قوله فى سورة المائدة بعد الأمر بالوفاء بالعقود وإحلال بهيمة الأنعام: «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» .

(2) حكم فعلى يفصل فيه بين الخلق بمقتضى سننه فيهم كقوله فى آخر سورة يونس: «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» . والمعنى- وإن كان جماعة منكم صدقوا بالذي أرسلت به من إخلاص العبادة لله وترك معاصيه من ظلم الناس وبخسهم فى المكاييل والموازين، واتبعونى فى كل ذلك، وجماعة أخرى لم يصدّقونى وأصروا على شركهم وإفسادهم- فاصبروا على قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم وهو خير من يفصل، وأعدل من يقضى، لتنزهه عن الباطل والجور، وليعتبر كفاركم بعاقبة من قبلهم وسيحل بهم مثل ما حل بأولئك بحسب السنن التي قدرها العليم الحكيم، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. اللهم وفقنا للسير على سنن العدل والرشاد، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء فى الثامن عشر من رجب المعظم سنة ثنتين وستين وثلاثمائة هجرية. وصل ربنا على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 5 المستهزءون بالقرآن 9 الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم 15 الأصل فى عبادة الأوثان 16 حكم ترك التسمية حين الذبح 17 حكم ما يذبح لدى استقبال أمير أو وزير 20 جرت سنة الله أن يكون فى كل عاصمة زعماء مجرمون 24 عذاب الأمم بذنوبها فى الدنيا مطرد دون عذاب الأفراد 29 أثبتت السنة الاتصال بين الإنسان والأرواح الشريرة كما أثبتت وجود الجراثيم الميكروبات 32 الإسلام وضع مبدأ الشورة فى مهام الأمور 33 الجن عالم غيبى لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص 35 هلاك الأمم يكون بما يغلب عليها من العصيان والفسوق. 39 أنار العلم فى هذا العصر أمر البعث وقربه إلى العقول 43 حكم العرب فى التحليل والتحريم 51 تحريم التشريع لا يكون إلا لله 57 أحلت لنا ميتتان ودمان 58 ما حرم من الأنعام عقوبة على بنى إسرائيل

الصفحة المبحث 66 الوصايا العشر التي أمر الرسول بتلاوتها على المشركين 80 تمادى المشركين فى تكذيب الرسول وعدم الاعتداد بما معه من الآيات 83 أهل الكتاب فرقوا دينهم وجعلوه شيعا 84 أسباب التفرق فى الدين فى هذه الأمة 86 من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها 89 الدين القيم هو ملة إبراهيم لا ما يدعيه أهل الكتاب والمشركون 90 المؤمن حياته لله ومماته لله 92 سعادة الناس وشقاؤهم بأعمالهم فحسب 93 إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث 100 بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للدين داخل فيما أنزل علينا 106 الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت 111 معاذير إبليس فى عدم سجوده لآدم عليه السلام 113 هل الجنة التي هبطها آدم بستان أو هى جنة الجزاء 119 الشيطان أو هم آدم وزوجه أن الأكل من الشجرة يقتضى الخلود 122 العقاب أثر طبيعى للذنب 126 فعل الجنة فى أرواح البشر كفعل الميكروبات فى الأجسام 129 معاذير المشركين فى عمل الفاحشة 133 وجوب الزينة للعبادة 136 الدين يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة 137 أصبح المسلمون من أجهل الشعوب لسنن الله فى الأكوان 140 الاجتهاد خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته 143 الأجل المقدر بمقتضى نظام الخلق هو العمر الطبيعي

الصفحة المبحث 153 ينزع الغل والحسد من قلوب أهل الجنة 161 يعرف المجرمون بسيماهم يوم القيامة 163 يغاث المجرمون بالضريع الذي لا يسمن ولا يغنى من جوع 170 الأيام الستة التي كانت حين الخلق 171 السموات والأرض كانتا سديما 172 ما ورد فى الخلق من الإسرائيليات لا يعول عليه 175 الدعاء خفية أفضل من الدعاء جهرا 177 الاعتداء فى الدعاء على ضروب 180 طلب الله الإحسان فى كل شىء 181 أسماء الرياح لدى العرب 184 الحياة فى عرف العرب ولدى علماء الطبيعة 199 استدل العلماء على نظام مناوبات الري بقوله تعالى: لها شرب ولكم شرب يوم معلوم 201 أسباب رجفة قوم صالح 202 نادى النبي صلى الله عليه وسلم بعض قتلى قريش ببدر بعد دفنهم فى القليب 204 ما فعله قوم لوط لم يفعله أخس أنواع الحيوان 206 الفسق والفجور يفسدان أخلاق الأمم 207 السبب فى تحريم فاحشة قوم لوط 212 نهى شعيب قومه عن ثلاثة أشياء 212 حكم الله بين عباده ضربان

تتمة سورة الأعراف

الجزء التاسع [تتمة سورة الأعراف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 89] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) المعنى الجملي هذه الآيات من تتمة قصص شعيب ذكر فيها جواب الملإ من قومه عما أمرهم به: من عبادة الله وحده، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم الفساد فى الأرض، وعما ختم به حديثه من التهديد والإنذار بقوله: فاصبروا حتى يحكم الله بيننا. وتولى الرد عليه أشراف قومه كما هو الشأن فى بحث كبريات المسائل ومهامّ الأمور.

الإيضاح

الإيضاح (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي قال أشراف قومه الذين استكبروا عن الإيمان وعن اتباع ما أمرهم به وما نهاهم عنه: قسما لنخرجنك يا شعيب أنت ومن آمن معك- من بلادنا كلها- بغضا لكم ودفعا لفتنتكم، أو لترجعن إلى ديننا ومعتقداتنا التي ورثناها عن آبائنا، وتدخلنّ فى زمرتنا وتندمجنّ فى غمارنا. والخلاصة- ليكونن أحد الأمرين: إخراجكم من البلاد، أو عودتكم فى الملة، فاختاروا لأنفسكم ما ترونه أرفق بكم وأوفق لكم. وشعيب عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملة أخرى غير ملة قومه، فساغ لهم أن يطالبوه بالعود إلى ملتهم، وكونه لم يشاركهم فى شركهم ولا بخس الناس أشياءهم- أمر سلبى لا يعدّه به جمهورهم خروجا عنهم- فلا منافاة بين هذا وعصمة الأنبياء عن الكفر. (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) أي أتأمروننا أن نعود فى ملتكم وتهدوننا بالنفي من أوطاننا، والإخراج من ديارنا إن لم نفعل ولو كنا كارهين لكل من الأمرين؟. إنكم لقد جهلتم أن الدين عقيدة وأعمال يتقرّب بها إلى الله الذي شرعها لتكميل الفطرة البشرية، كما جهلتم أن حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين لدىّ ولدي قومى، فظنتم فىّ وفيمن آمن معى أننا نؤثر التمتع بالإقامة فى الوطن، على مرضاة الله بالتوحيد المطهّر من أدران الخرافات، وبالفضائل المهذبة للنفوس والمرقّية لها فى معارج الكمال حتى تتم لنا سعادة الدنيا والآخرة. فللدين منزلة فى النفوس لا تسمو إليها منزلة أخرى، فإن تمكن صاحبه من إقامته فى وطنه وإصلاح أهله به فهم أحق به، وإن فتن فى دينه فيه كان تركه واجبا عليه،

فإن لم يخرج منه شعيب ومن آمن معه إخراجا وهم كارهون، كما أخرج خاتم النبيين مع صحبه السابقين الأولين إلى الإسلام- خرجوا مهاجرين كما فعل إبراهيم عليه السلام- كما حكى الله عنه: «وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . وقد أوجب الله الهجرة على من يستضعف فى وطنه، فيمنع من إقامة دينه فيه، فإن لم يفعل ذلك دخل تحت وعيد قوله: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ- قالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً» . ثم بين أحق الأمرين بالرفض وأجدرهما بالبغض متعجبا من كلامهم فقال: (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها) أي ما أعظم افتراءنا على الله إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وهدانا الصراط المستقيم باتباع ملة إبراهيم. وإذا كان اتباع ملتكم يعدّ افتراء على الله، لأنه قول عليه لا علم لنا به بوحي ولا برهان من العقل، فكيف بمن يفترى عليه ويضل عن صراطه على علم؟، فالكفر بالحق وغمطه بعد العلم به هو شر أنواع الكفر، والافتراء على الله فيه أفظع ضروب الافتراء التي لا تقبل فيها الأعذار بحال. وفى قوله إذ نجانا أي نجا أصحابى منها فهو تغليب بإدخاله فى زمرتهم، أو نجانى من الانتماء إلى هذه الملة التي ما كنت أو من بعقيدتها ولا أعمل بعمل أهلها، ولم أهتد بعقلي ورأيى إلى ملة خير منها فوقفت موقف الحيرة فى شأنها، كما جاء فى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» وقوله: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ

رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» . (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا) يقولون ما يكون لى أن أفعل كذا على معنى أنه غير مستطاع لى ولا جار على السنن المعقولة. أي ليس من شأننا أن نعود فيها فى حال من الأحوال إلا حال مشيئة ربنا المتصرف فى جميع شئوننا، فهو وحده القادر على ذلك، لا أنتم ولا نحن، لأنا موقنون بأن ملتكم باطلة، وملتنا هى الحق التي بها صلاح حال البشر وعمران الأرض. وهذه الجملة رفضن آخر للعود إلى ملتهم مؤكد أبلغ التأكيد، مؤيس لهم من عودته ومن آمن معه إلى ملتهم، فبعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم نفاه نفيا مؤكدا بأنه ليس من شأنهم ولا يجىء من قبلهم بحال من الأحوال كالترغيب والترهيب بالرجاء فى المنافع والخوف من المضار كالإخراج من الديار، إلا حالا واحدة وهى مشيئة الله ومشيئته تجرى بحسب علمه وحكمته فى خلقه، وسنته فى خلقه أن ينصر أهل الحق على أهل الباطل ما داموا ناصرين له وقائمين بما هداهم إليه منه. وخلاصة ذلك- لا تطمعوا أن يشاء ربنا الحفىّ بنا عودتنا فى ملتكم بعد إذ نجانا منها بفضله، فما كان الله ليدحض حجته ويغيّر سنته. (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة، ومشيئته تجرى على موجب الحكمة، فكل ما يقع فهو مشتمل عليها، وفى هذا إيماء إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» . (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) أي إلى الله وحده وكلنا أمورنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من الحفاظ على شرعه ودينه، فهو الذي يكفينا تهديدكم وما ليس فى استطاعتنا من جهادكم: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» إذ من شروط التوكل الصحيح القيام بالأحكام الشرعية ومراعاة السنن الكونية والاجتماعية، فمن يترك العمل بالأسباب فهو الجاهل المغرور لا المتوكل المأجور، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم

لمن سأله أيترك ناقته سائبة ويتوكل على الله؟ «اعقلها وتوكل» رواه الترمذي، وقال تعالى مخاطبا رسوله بعد أن أمره بمشورة أصحابه فى غزوة أحد: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» وإنما يكون العزم بعد الأخذ بالأسباب فقد لبس من يومئذ درعين وأعدّ العدة لقتال أعدائه، ورتب الجيوش بحسب القوانين المعروفة فى ذلك العصر. وخلاصة رد شعيب على الملأ من قومه- إنه عجب من تهديدهم وإنذارهم، وأقام الأدلة على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم، وعدم استطاعة أحد إجبارهم عليه غير الله الفعال لما يريد. ثم ثنى بذكر توكله على الله الذي يكفى من توكل عليه ما أهمّه مما هو فوق كسبه واختياره، ثم ثلث بالدعاء الذي لا يكون مرجو الإجابة إلا بعد القيام بعمل ما فى الطاقة من الأعمال الكسبية مع التوكل على الله فقال: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) الفتح إزالة الأغلاق والأشكال، وهو قسمان: حسى يدرك بالبصر كفتح العين والقفل والكلام الذي يكون من القاضي، ومعنوى يدرك بالبصيرة كفتح أبواب الرزق والمغلق من مسائل العلم والنصر فى وقائع الحرب والمبهم من قضايا الحكم، ويقال فتح الله عليه إذا جدّ وأقبلت عليه الدنيا، وفتح الله عليه: نصره، وفتح الحاكم بينهم وما أحسن فتاحته أي حكمه كما قال شاعرهم: ألا أبلغ بنى وهب رسولا ... بأنى عن فتاحتهم غنىّ ويقال بينهم فتاحات أي خصومات، وولى الفتاحة أي القضاء، وعن ابن عباس: ما كنت أدرى ما قوله تعالى: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا» حتى سمعت بنت ذى يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك، وقالت أعرابية لزوجها: بينى وبينك الفتاح. والمعنى- ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك فى التنازع بين المرسلين والكافرين، وبين المحقين والمبطلين، وأنت خير الحاكمين لإحاطة علمك بما يقع به التخاصم، وتنزهك عن اتباع الظلم، واتباع الهوى فى الحكم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 إلى 93]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 93] وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) تفسير المفردات الرجف: الحركة والاضطراب، والمراد بها الزلزلة، ومنه: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» وغنى بالمكان يغنى: كرضى يرضى، إذا نزل به وأقام فيه، والأسى: شدة الحزن. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه جواب الملأ من قوم شعيب وطلبهم منه العود إلى ملتهم وبين يأسهم منه بما كان من جوابه لهم الدال على ثباته فى مقارعتهم وأنه دائب النصح والتذكير لهم، علّهم يرعون عن غيّهم. ذكر هنا أنهم حذّروا من آمن منهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذ سيلحقهم الخسار فى دينهم والخسار فى دنياهم، لعل ذلك يثنيهم عن عزيمتهم ويردّهم إلى الرشاد من أمرهم بحسب ما يزعمون، فكانت عاقبة ذلك أن أصبحوا كأمس الدابر وأصبحت ديارهم خرابا يبابا لا أنيس فيها ولا جليس. الإيضاح (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي وقال الكافرون من قوم شعيب وهم الملأ الذين جحدوا آيات الله وكذبوا رسوله وتمادوا

فى غيّهم لآخرين منهم: لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله وأقررتم بنبوته، إنكم إذا لخاسرون فى فعلكم وترككم ملتكم التي أنتم عليها مقيمون، إلى دينه الذي يدعوكم إليه. وعمموا الخسران ليشمل خسران الشرف والمجد إذ بإيثاركم ملته على ملة آبائكم وأجدادكم تعترفون بأنهم كانوا ضالين ومعذّبين عند الله وخسران الثروة والربح بما تحترفونه من تطفيف الكيل والميزان وبخس الغرباء أشياءهم لابتزاز أموالهم. ووصف الملأ- أولا بالاستكبار- لأنه هو الذي جرأهم على تهديده وإنذاره بالإخراج من القرية وإشعاره بأنهم أرباب السلطان فيها، وثانيا: بالكفر لأنه هو الحامل على الإغواء وصدهم عن الإيمان والأخذ بما جاء به، ثم عللوا لهم صدهم بأن فى ذلك لهم مصلحة أيّما مصلحة وفائدة أيّما فائدة. والخلاصة- إنه تعالى وصفهم أولا بالضلال ثم وصفهم ثانيا بالإغواء والإضلال ثم ذكر عاقبة أمرهم وما أصابهم من نكال فقال: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فأخذتهم الزلزلة فأصبحوا فى دارهم منكبّين على وجوههم ميتين، وقد عبر عنه هنا بالرّجفة، وفى هود بالصيحة كعذاب ثمود، وستعلم هناك وجه الجمع بينهما. وقد بيّن سبحانه فى سورة الشعراء أن الله أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة وهم إخوة مدين فى النسب، أخرج ابن عساكر عن ابن عباس فى قوله: «كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» قال كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر ومدين- وفى ذلك دليل على أن الله أرسله إلى أهل مدين وإلى من اتصل بهم إلى ساحل البحر، وأن حال الفريقين فى الكفر والمعاصي كانت واحدة، وكان ينذرهم متنقلا بينهم. وكان عذاب مدين بالصيحة والرّجفة المصاحبة لها، وعذاب أصحاب الأيكة بالسّموم والحر الشديد وقد انتهى ذلك بظلة من السحاب فزعوا إليها ينبردون بظلها فأطبقت عليهم فاختنقوا بها أجمعون.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) جاءت هذه الجملة بيانا من الله لما انتهى إليه أمرهم وكيف كانت عاقبة عملهم فكأن سائلا سأل عما آل إليه تهديدهم لشعيب وقومه بقولهم: «لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» وقولهم لقومهم: «لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» فأجاب عن الأول جوابا مناقضا له بقوله: الذين كذبوا شعيبا إلخ. أي الذين كذبوا شعيبا وأنذروه بالإخراج من قريتهم قد هلكوا وهلكت قريتهم فحرموها كأن لم يقيموا ولم يعيشوا فيها بحال، وأجاب عن الثاني بقوله: الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين: أي الذين كذبوا وزعموا أن من يتبعه يكون خاسرا- كانوا هم الخاسرين لما كانوا موعودين به من سعادة الدنيا والآخرة، دون الذين اتبعوه فإنهم كانوا هم الفائزين المفلحين. وفى الآية إيماء إلى أن الحريص على التمتع بالوطن والاستبداد فيه على أهل الحق تكون عاقبته الحرمان الأبدى منه، كما أن الحريص على الربح بأكل أموال الناس بالباطل ينتهى بالحرمان منه ومن غيره. (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي فأدبر شعيب عنهم وخرج من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله، وقال حزنا عليهم: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى وأدّيت إليكم ما بعثني به إليكم. وقد تقدم مثل هذا فى قصة صالح، وقد اتحد إعذار الرسولين لاتحاد حال القومين. (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أي فكيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم بعد أن أعذرت إليهم وبذلت جهدى فى سبيل هدايتهم ونجاتهم فاختاروا ما فيه هلاكهم، وإنما يأسى من قصّر فيما يجب عليه من النصح والإنذار.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 إلى 95]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) تفسير المفردات القرية: المدنية الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها (العاصمة) والبأساء: الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر، والضراء: ما يضر الإنسان فى بدنه أو نفسه أو معيشته، والأخذ بها: جعلها عقابا لهم، والتضرع: إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع، وعفوا: كثروا ونموا، من قولك: عفا النبات والشعر إذا كثر، وبغتة: فجأة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حال الأمم السابقة مع أنبيائها وبين ما فى قصصهم من العظة والعبرة فقد كانت العاقبة فى كل حال للمتقين، والدائرة تدور على المبطلين. أشار هنا إلى سنة الله فى الأمم التي تكذب رسلها أن ينزل بها البؤس وشظف العيش وسوء الحال فى دنياهم ليتضرعوا إلى ربهم وينيبوا إليه بالإقلاع عن كفرهم والتوبة من تكذيب أنبيائهم، وفى هذا من التحذير لقريش والتخويف لهم ما لا يخفى. ثم ذكر أنه بدل الرخاء بالبؤس ليعتبروا ويشكروا، لكنهم لم يفعلوا فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. الإيضاح (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي إن سنتنا قد جرت (ولا مبدل لها) أننا إذا أرسلنا نبيّا فى قوم وكذبوه أنزلنا بهم الشدائد والمصائب لنعدّهم ونؤهلهم للتضرع والإخلاص فى دعائنا بكشفها، وقد ثبت بالتجارب لدى علماء الأخلاق أن الشدائد تربى الناس وتصلح فساد أحوالهم،

فالمؤمن قد يشغله هناء العيش عن حاجته إلى ربه، لكن الشدائد تذكره به، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها له بفقدها، وتنبهه الشدائد والأهوال إلى وجود الرّب الخالق المدبر لأمور الخلق وتذكره الأهوال بمصدر هذا النظام فى الكون. (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي ثم أعطينا بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة، الرخاء والسعة. (حَتَّى عَفَوْا) أي حتى كثر عددهم ونموا، إذ أن الرخاء مما يكون سببا فى كثرة النسل وبه تتم النعمة فى الدنيا على الموسرين، ومن هذه الحسنات ما حدث لقوم هود من النعم التي بطروا بها وذكرهم هود بها فى قوله: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» وكذا ما قاله صالح لقومه: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي وقالوا قولا يدل على أنهم لا يعتبرون بأحداث الزمان. قالوا قدمس آباءنا من قبلنا ما يسوء وما يسر، وما نحن إلا مثلهم فيصيبنا مثل ما أصابهم، والدهر بالناس قلّب. وتلك عادة الدهر بأبنائه، فلا الضراء عقاب على ذنب يرتكب، ولا السراء جزاء على صالحات تكتسب. وخلاصة هذا- إنهم لم يفهموا السنن التي وضعها المولى سبحانه فى أسباب السعادة والشقاء فى البشر والتي أرشد إليها قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ومن ثم لم يتذكروا ولم يعتبروا حين ذكرهم رسولهم، بل أعرضوا ونأوا. (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فكان عاقبة أمرهم أن أخذناهم بالعذاب فجأة وهم لا شعور لديهم بما سيحل بهم، إذ هم قد جهلوا سنن الله التي وضعها فى شئون

[سورة الأعراف (7) : الآيات 96 إلى 100]

الاجتماع، فلاهم اهتدوا إليها بعقولهم، ولا هم صدقوا الرسل فيما أنذروهم به، وجاء بمعنى الآية قوله تعالى فى سورة الأنعام: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» . فالكافرون إذا مسهم الشر يئسوا وابتأسوا، وإذا مسهم الخير بطروا واستكبروا وبغوا فى الأرض وأهلكوا الحرث والنسل، والمؤمنون بالله وما جاء به رسله تكون الشدائد والمصايب تربية لهم وتمحيصا. ولما ترك المسلمون هدى القرآن فى حكوماتهم ومصالحهم العامة، فى أعمال الأفراد سلبهم الله ما أعطاهم من أنواع العلم والحكمة واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، فاتبعوا أهل الكتاب فى خرافاتهم وحفلهم وتقليد آبائهم وأجدادهم وطلب النفع والضر من دجّالى الأحياء وقبور الأموات، فغشيهم الجهل، والنابتة منهم قلدوا الإفرنج فى الفسق والفجور وشر ما وصلوا إليه فى طور فساد حضارتهم وقلدوهم حتى فيما لا يوافق أحوالهم وبلادهم ومصالحهم. وهكذا ضلت الفئتان عن هدى القرآن، وأضاعتا ما بقي من ملك الإسلام. [سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 100] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)

تفسير المفردات

تفسير المفردات بركات السماء: تشمل معارف الوحى العقلية ونفحات الإلهام الربانية، والمطر ونحوه مما يوجب الخصب والخير فى الأرض، وبركات الأرض: الخصب والمعادن ونحوهما، والبأس: العذاب وبياتا: أي وقت بيات وهو الليل، والضحى: انبساط الشمس وامتداد النهار ويسمى به الوقت، ويلعبون: أي يلهون من فرط غفلتهم، المكر: التدبير الخفي الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسب، وهداه السبيل وهداه إليه وهداه له: أي دلّه عليه وبيّنه له. المعنى الجملي بعد أن بين عز اسمه أخذه لأهل القرى الذين كذبوا رسلهم، وكفروا بما جاءوا به وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بما افتنّوا فيه من أفانين الشرك والمعاصي كما حكى الله فى محاورتهم لرسلهم وإجابة الرسل لهم بما سلف ذكره. ذكر هنا لأهل مكة ولسائر الناس ما كان يكون من إغداق نعمه تعالى عليهم لو آمنوا بالرسل واهتدوا بهديهم واعتبروا بسنة الله فى الأمم من قبلهم، فإن سنته تعالى فى الأمم واحدة لا تبديل فيها ولا تحويل. الإيضاح (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي ولو أن أهل مكة ومن حولهم من أهل القرى آمنوا بما دعاهم إليه خاتم الرسل صلوات الله عليه من عبادته تعالى وحده واتّقوا ما نهاهم عنه من الشرك والفساد فى الأرض بارتكاب الفواحش والآثام- لفتحنا عليهم أنواعا من بركات السماء والأرض لم يعهدوها من قبل، فتكون لهم أبواب نعم وبركات غير التي عهدوا فى صفاتها ونمائها وثباتها وأثرها فيهم، فأنزلنا عليهم الأمطار النافعة التي تخصب الأرض وتكسب

البلاد رفاهية العيش، وآتيناهم من العلوم والمعارف وفهم سنن الكون ما لم يصل إلى مثله البشر من قبل. والخلاصة- إنهم لو آمنوا لو سعنا عليهم الخير من كل جانب ويسرناه لهم بدل لما أصابهم من عقوبات بعضها من السماء وبعضها من الأرض. والقاعدة التي أقرها القرآن الكريم أن الإيمان الصحيح ودين الحق سبب فى سعادة الدنيا، ويشارك المؤمنين فى المادي منها الكفار كما قال تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» أي إن ذلك الفتح كان ابتلاء واختبارا لحالهم، وكان من أثره فيهم البطر والأشر بدلا من الشكر لمولى النعم فكان نقمة لا نعمة، وفتنة لا بركة، ولكن المؤمنين إذا فتح الله عليهم كان أثره فيهم شكر الله عليه والاغتباط بفضله واستعماله فى سبيل الخير دون الشر وفى الإصلاح دون الإفساد، ويكون جزاؤهم على ذلك زيادة النعم فى الدنيا وحسن الثواب عليها فى الآخرة. (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا بل كذبوا فأخذناهم بما كانوا يعملون من أعمال الشرك والمعاصي التي تفسد نظم المجتمع البشرى. وذلك الأخذ بالشدة أثر لازم لكسبهم المعاصي بحسب السنن التي وضعها المولى فى الكون ويكون فيه العبرة لأمثالهم إن كانوا يعقلون هذه النواميس العامة التي لا نبديل فيها ولا تغيير. ثم عجب من حالهم وذكر من غفلتهم فقال: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟) أي أجهل أهل مكة وغيرهم من أهل القرى الذين بلغتهم الدعوة والذين ستبلغهم ما نزل بمن قبلهم وغرّهم ما هم فيه من نعمة فأمنوا أن يأتيهم عذابنا وقت بياتهم وهم نائمون؟.

(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟) أي أو أمن أهل القرى أن يأتيهم عذابنا فى وقت الضحى وهم منهمكون فى أعمالهم التي كأنها لعب أطفال لعدم الفائدة التي تترتب عليها. والخلاصة- إنه تعالى خوّفهم نزول العذاب بهم فى أوقات الغفلات، إما حين النوم وإما وقت الضحى، إذ يكثر فيه تشاغل الناس باللذات. (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ؟) أي أكان سبب أمنهم إتيان بأسنا بياتا أو ضحى وهم غافلون عن مكر الله بهم بإتيانهم ببأسنا من حيث لا يحتسبون ولا يقدرون؟ إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وإذا كانت الآية ناطقة بأن أمن الصالح المتعبد من مكر الله جهلا يورث الخسر فما بال من يأمن مكر الله وهو مسترسل فى معاصيه اتكالا على عفوه ومغفرته ورحمته؟ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بقوله: «اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبى على دينك» . وذكر سبحانه أن الراسخين فى العلم يدعونه فيقولون: «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» . وكما أن الأمن من مكر الله خسران ومفسدة، فاليأس من رحمة الله كذلك فكلاهما مفسدة تتبعها مفاسد. (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ؟) أي أكان ما ذكر آنفا مجهولا لأهل القرى وأنه هو سنة الله ولم يتبين لأولئك الذين يرثون الأرض من بعد أهلها قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل أن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقهم فهم خاضعون لمشيئتنا، فلو نشاء أن نعذبهم بسبب ذنوبهم لعذبناهم كما أصبنا أمثالهم ممن قبلهم بمثلها وأهلكناهم كما أهلكناهم، فإن لم نهلكهم بالعذاب نطبع على قلوبهم فلا يسمعون الحكم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 101 إلى 102]

والنصائح سماع تفقه وتدبر «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» إذ أن قلوبهم فد ملئت بمعتقدات وشهوات تصرفها عن غيرها فجعلتهم من «بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» . وقد كان فى مثل هذا القصص عبرة للمسلمين أيّما عبرة، فكتابهم يقصّ عليهم قصص الأمم قبلهم ويبين لهم أن ذنوب الأمم لا تغفر كذنوب الأفراد وسنته فيها لا تتبدل ولا تتحول فكان عليهم أن يتقوا كل ما قصه من ذنوب الأمم التي هلك بها من قبلهم وزالت بها الدّولة لأعدائهم، ولكنهم قصّروا فى وعظ الأمة بها وإنذارهم عاقبة الإعراض عنها وترك الإعراض عن تدبرها، وكان عليهم أن يعتبروا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «شيبّتنى هود وأخواتها» وقوله تعالى: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 101 الى 102] تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) تفسير المفردات العهد: الوصية. والوصية تارة يراد بها إنشاؤها وإيجادها، وأخرى يراد بها ما يوصى به، ويقال عهدت إليه بكذا أي وصيته بفعله أو حفظه، وهو إما أن يكون بين طرفين وهو المعاهدة، وإما من طرف واحد بأن يعهد إليك بشىء أو تلزم بشىء، والميثاق: هو العهد الموثّق بضرب من ضروب التوكيد.

المعنى الجملي

وقال الراغب: عهد الله تارة يكون بما ركزه فى عقولنا، وتارة يكون بما أمرنا به فى الكتاب وألسنة رسله، وتارة بما نلتزمه وليس بلازم فى أصل الشرع كالنذور وما يجرى مجراها اهـ. والفسوق: الخروج عن كل عهد فطرى وشرعى بالنكث والغدر وغير ذلك من المعاصي، ووجدنا الأولى بمعنى: ألفينا. والثانية بمعنى: علمنا. المعنى الجملي هذا خطاب وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسلية وتثبيتا له على الصبر على دعوته بتذكيره بما فى قصص أولئك الرسل مع أقوامهم من وجوه العبر والموعظ، وبيان أن ما يلاقيه منهم من ضروب العناد والاستكبار والإيذاء ليس بدعا بين الأمم، بل ذلك طريق سلكه كثير من الأمم المجاورة لهم كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، وقصصهم يدور على ألسنتهم بحكم الجوار لهم وطروق أرضهم فى حلهم وترحالهم فى رحلتى الشتاء والصيف. الإيضاح (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) أي تلك القرى التي بعد عهدها، وطال الأمد على تاريخها وجهل قومك حقيقة حالها نقص عليك بعض أنبائها مما فيه العبرة لقومك ولك. والمراد بها القرى المعهودة فى هذا القصص، والحكمة فى تخصيصها بالذكر أنها كانت فى بلاد العرب وما جاورها، وكان أهل مكة وغيرهم ممن وجّهت إليهم الدعوة أول الإسلام يتناقلون بعض أخبارها وهى جميعا طبعت على غرار واحد فى تكذيب الرسل والمماراة فيما جاءوا به من النذر فحل بهم النكال بعذاب الاستئصال، فالعبرة فى جميعها واحدة، ومن ثم فصلها من قصة موسى الآتية لأن قومه آمنوا به وإنما كذب فرعون وملؤه فعذبوا.

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم وبالآيات التي اقترحوها عليهم لإقامة حجتهم، فجاء كل رسوله قومه بما أعذر به إليهم، ولكن لم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجىء البينات بما كذبوا به من قبل مجيئها حين بدء الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده بما شرعه وترك الشرك والمعاصي. ذاك أن شأن المكذبين عنادا أو تقليدا أن يصروا على التكذيب بعد إقامة البينة، إذ لا قيمة لها فى نظرهم، فهم إما جاحدون معاندون ضلوا على علم، وإما مقلدون يأبون النظر والفهم. وفى معنى الآية قوله فى سورة يونس: «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» . (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي مثل ما ذكر من عناد هؤلاء وإصرارهم على الضلال وعدم تأثير الدلائل والبينات فى عقولهم يكون الطبع على قلوب من ران الكفر على قلوبهم وصار العناد ديدنهم سنة الله فى أخلاق البشر وأحوالهم، إذ هم يأنسون بالكفر وأعماله وتستحوذ أوهامه على عقولهم ويملأ حب الشهوات أفئدتهم فلا يقبلون بحثا ولا فيما هم عليه نقدا، فما مثلها إلا مثل السكة التي طبعت على طابع خاص أثناء صهر معدنها، وإذابته ثم جمدت فلا تقبل بعد ذلك نقضا ولا شكلا آخر. وفى الآية تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وإعلام له بأن أهل مكة قد وصلوا إلى حال من الجمود والعناد وفساد الفطرة وإهمال النظر والعقل لا تؤثر فيها البينات وإن وضحت، ولا الآيات وإن اقترحت. وقد كانوا يقترحون عليه الآيات، وكان يتمنى أن يؤتيه الله ما اقترحوا منها حرصا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 إلى 112]

على إيمانهم، حتى بيّن الله له طباعهم وأخلاقهم ليعرف مبلغ أمرهم فى قبول دعوته وأنه لا أمل له فيهم بحال. (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي وما وجدنا لأكثر أولئك الأقوام عهدا ما يفون به سواء كان عهد الفطرة التي فطر الله الناس عليها- إذ قد فطر الله أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبى فوق جميع القوى، وعلى إيثار الحسن واجتناب غيره وعلى حب الكمال وكراهة النقص- أم كان العهد الذي أخذه ربهم عليهم وهم فى الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، وأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا معه غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع، وقد جاء فى صحيح مسلم: «يقول الله: إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وفى الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» . (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) أي وإننا وجدنا أكثرهم خارجين على كل عهد فطرى وشرعى وعرفى، فهم ناكثون غادرون للعهود مرتكبون أفانين المعاصي. وفى التعبير بالأكثر إيماء إلى أن بعضهم قد آمن والتزم كل عهد عاهده الله عليه أو تعاهد عليه مع الناس. وهذا من دأب القرآن فى تحقيق الحقائق على وجه الصدق بحيث لا تشوبها شبهات المبالغة بما يسلب أحدا حقه أو يعطى أحدا حق غيره. قصص موسى عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 112] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)

تفسير المفردات

تفسير المفردات موسى: هو موسى بن عمران (بكسر العين) وأهل الكتاب يقولون: (عمرام) بفتح أوله، وإنما سمى موسى لأنه ألقى بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية (مو) والشجر: (سى) وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته فى تابوت: (صندوق) وأقفلته إقفالا محكما وألقته فى (نهر النيل) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه، إذ كانوا يذبحون ذكور بنى إسرائيل عند ولادتهم ويتركون نساءهم. وفرعون لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس. والراجح لدى كثير ممن يعنون بالتاريخ المصري القديم أن فرعون موسى هو الملك منفتاح وكان يلقب بسليل الإله. (رع) أي الشمس وقد كتب بجانب هيكله الذي بدار الآثار المصرية الآية الكريمة: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» . والملأ أشراف القوم، وظلموا بها: جحدوا بها وكفروا، وحقيق: أي جدير وخليق به، يقولون أنت حقيق بكذا كما يقول: أنت جدير به وخليق به، والنزع: إخراج الشيء من مكانه، وتأمرون: أي تشيرون فى أمره، يقولون: مرنى بكذا على معنى: أشر علىّ وأدل برأيك، وأرجئ: أي أرجئ أمره وأخره ولا تفصل فيه بادى الرأى، وفى المدائن

المعنى الجملي

أي مدائن ملكت، وحاشرين أي جامعين سائقين السحرة منها، وعليم: أي بفنون السحر، ماهر فيها المعنى الجملي هذه هى القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرت فى هذه السورة وفيها من الإيضاح والتفصيل ما لم يذكر فى غيرها، لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات غيره ممن سبق ذكرهم، وجهل قومه كان أفحش. وقد ذكرت قصته فى عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة، وذكر اسمه فى سور كثيرة زادت على مائة وثلاثين مرة وسر هذا: أن قصته أشبه قصص الرسل بقصص النبي صلى الله عليه وسلم إذ أنه أوتى شريعة دينية دنيوية، وكوّن الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية. الإيضاح (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بالمعجزات التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وأشراف قومه فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا فكان عليهم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم، وقال: «إلى فرعون وملئه» ولم يقل فرعون وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبنى إسرائيل وبيدهم أمرهم وليس لسائر المصريين من الأمر شىء لأنهم كانوا مستعبدين أيضا، ولكن الظلم كان على بنى إسرائيل الغرباء أشد، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر المصريين لأنهم كانوا تبعا لهم، وقد كان موسى مرسلا إلى قومه بنى إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه وسيلة. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة فرعون وملئه المفسدين فى الأرض بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات الله وكفروا بها.

وفى هذا تشويق وتوجيه للنظر إلى ما سيقصه الله تعالى من عاقبة أمرهم، إذ نصر رسوله موسى وهو واحد من شعب مستضعف مستعبد لهم، على فرعون وملئه وهم أعظم أهل الأرض قوة وصولة بأن أبطل سحرهم وأقنع علماءهم وسحرتهم بصحة رسالته وكون آياته من عند الله، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن تبعه من ملئه وجنوده. وهذه عبرة قائمة على وجه الدهر وحجة على أن الغلب ليس للقوة المادية فحسب، كما يقوله المغرورون بعظمة الأمم الظالمة فى الغرب لمن استضعفتهم من أهل الشرق. وبعد التشويق والتنبيه المتقدم، قص الله تعالى ما كان من أولئك القوم فى مبدأ أمرهم حتى انتهوا إلى تلك العاقبة. (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي إن موسى صلى الله عليه وسلم بلّغ فرعون أنه رسول من رب العالمين كلهم: أي سيدهم ومالكهم ومدبر جميع أمورهم، فهو لا يقول على الله إلا الحق، إذ لا يمكن أن يبعث الله رسولا يكذب عليه وهو الذي بيده ملكوت كل شىء، فهو معصوم من الكذب والخطأ فى التبليغ. والخلاصة- إن كلامه اشتمل على عقيدة الوحدانية، وهى أن للعالمين ربا واحدا وعلى عقيدة الرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة فى التبليغ والهداية. ثم ذكر بعد هذا أن الله أيده ببينة تدل على صدقه فى دعواه فقال: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي قد جئتكم ببرهان من ربكم شاهد على صدق ما أقول. وفى قوله: من ربكم إيماء إلى أنهم مربوبون وأن فرعون ليس ربا ولا إلها، وإلى أن البينة ليست من كسب موسى ولا مما يستقل به عليه السلام. ثم رتب على مجيئه بالبينة طلبه منه أن يرسل معه بنى إسرائيل أي يطلقهم من أسره ويعتقهم من رقه وقهره ليذهبوا معه إلى دار غير داره ويعبدوا فيها ربهم وربه.

ثم حكى سبحانه ما قاله فرعون حينئذ: (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال فرعون لموسى إن كنت قد جئت مؤيدا بآية من عند من أرسلك كما تدّعى فأتنى بها وأظهرها لدىّ إن كنت ممن يقول الصدق ويلتزم قول الحق. ثم ذكر أن موسى أجابه إلى ما طلبه فقال: (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي فلم يلبث موسى أن ألقى عصاه التي كانت بيمينه أمام فرعون فإذا هى ثعبان- ذكر الحيات- مبين، أي ظاهر بيّن لا خفاء فى كونه ثعبانا حقيقيا يسعى وينتقل من مكان إلى آخر وتراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنها تسعى، وقوله: ونزع يده، أي أخرجها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه بعد إلقاء العصا فإذا هى بيضاء ناصعة البياض تتلألأ لكل من ينظر إليها. وقد ذكر رواة التفسير بالمأثور روايات غاية فى الغرابة فى وصف الثعبان ليس لها سند يوثق به وما هى إلا إسرائيليات تلقفها المفسرون من أهل الكتاب الذين كانوا يكيدون للإسلام وللعرب كروايات وهب بن منبّه وهو فارسى الأصل أخرج كسرى والده إلى بلاد اليمن فأسلم فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابنه من بعده يختلف إلى بلاده بعد فتحها، ومثله روايات كعب الأحبار الإسرائيلى، وقد كان كلاهما كثير الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول، وقومهما كانوا يكيدون للمسلمين الذين فتحوا بلاد الفرس وأجلوا اليهود من الحجاز، ألا ترى أن قاتل الخليفة الثاني فارسى مرسل من جماعة سرية لقومه، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله بن سبأ اليهودي. ويرى المحققون من أعلام المسلمين أن الفتن السياسية والأكاذيب التي حدثت فى الرواية فى الصدر الأول يرجع أمرها إلى جماعة السبئيين وجماعات الفرس التي كانت تزوّد هؤلاء الوضاعين بأسلحة من الغش والتدليس ليفسد الإسلام على أهله، ولولا أن قيض الله للاسلام جماعة من أهل التحقيق أخرجوا البهرج والزيوف وألقوه

وراءهم ظهريا وأبقوا الجيّد الذي لا لبس فيه ولا شك فى صحة روايته لكان خطبهم قد استفحل فى الإسلام وأفسدوا كثيرا منه على أهله، ولكن الله قد حفظ الحنيفية لأهلها بيضاء نقية سمحة لا عنت فيها ولا إرهاق: ثم حكى ما قاله قومه بعد أن رأوا من موسى ما رأوا. (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ) أي قال الأشراف من قوم فرعون وهم أهل مشورته ورؤساء دولته: إن هذا لساحر عليم: أي ماهر فى فنون السحر قد وجه كل همه لسلب ملككم منكم وإخراجكم من أرضكم بسحره، إذ به يستميل الشّعب وينتزع منكم الملك، ثم يخرج الملك وعظماء رجاله من البلاد حتى لا يناوئوه فى شئون الملك واستعادته منه. وقد أبان هذا المعنى بوضوح بقوله فى سورة يونس حكاية عنهم من مراجعتهم لموسى وأخيه: «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» . ولم يكن هذا القول منهم إلا صدى لما قاله فرعون وقد حكاه الله عنه فى سورة الشعراء بقوله: «قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ» وقد ردّدوه بعده وصار بعضهم يلقيه إلى بعض كما هى عادة الناس فى ترديد كلام الملوك والرؤساء إظهارا للموافقة عليه وتعميما لتبليغه، وبعد أن أتموا مقالتهم موافقين ما قاله فرعون تشاوروا فى أمره بماذا يحتالون لإطفاء نوره وإخماد نار دعوته متخوّفين أن يستميل الناس بسحره، فاتفقت كلمتهم على ما حكاه الله عنهم بقوله: (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله: فماذا تأمرون؟ أخّر الفصل فى أمره وأمر أخيه وأرسل فى مدائن ملكك جماعات من رجال شرطتك وجندك جاشرين: أي جامعين لك السحرة منها وسائقيهم إليك

فذلكة فى السحر وضروبه

وقد كان السحر فى زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا، ومن ثمّ خيّل إلى كثير منهم أن ما جاء به موسى من قبيل ما تشعبذ به سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما حكى الله عن فرعون حيث قال: «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى، فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى» . (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي فإن ترسلهم يأتوك بكل ساحر مجيد لفنون السحر ماهر فيها فيكشفوا لك حقيقة ما جاء به موسى فلا يفتنّ به أحد. وإنما قال فى المدائن لأن السحر من العلوم التي توجد فى المدائن الجامعة المأهولة بدور العلم والصناعة، وإنما نصحوه بإحضار السحرة الماهرين، لأنهم الجديرون أن يأتوا موسى بمثل ما أتى به من الأمر العظيم. فذلكة فى السحر وضروبه السحر أعمال غريبة وحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم لأسبابها، وقد كان فنا من الفنون التي يتعلمها قدماء المصريين فى مدارسهم الجامعة مع كثير من العلوم الكونية، واقتفى أثرهم فى ذلك البابليون والهنود وغيرهم ولا يزال يؤثر عن الوثنيين من الهنود أعمال غريبة مدهشة من السحر اهتم بعض الإنكليز وغيرهم بالبحث بن حقيقة أمرها فعرفوا بعضا وجهلوا تعليل الأكثر. وهو لا يروج إلا بين الجاهلين وله مكانة عظيمة فى القبائل الهمجية، والبلاد ذات الحضارة تسميه بالشّعوذة والاحتيال والدجل، وهو أنواع ثلاثة: (1) ما بعمل بأسباب طبيعية من خواص المادة معروفة للساحر مجهولة عند من يسحرهم بها كالزئبق الذي قيل إن سحرة فرعون وضعوه فى حبالهم وعصيّهم كما سنذكره بعد، ولو ادعى علماء الطبيعة والكيمياء فى هذا العصر السحر فى أواسط إفريقيا

وغيرها من البلاد التي يروج فيها السحر لأروهم العجب العجاب من غرائب الكهرباء وغيرها حتى لو ادّعوا فيهم الألوهية لخضعوا لهم فضلا عن النبوة والولاية. (2) الشعوذة التي ملاك أمرها خفة اليدين فى إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعض وإراءة بعضها بغير صورها وغير ذلك مما هو معروف فى هذه البلاد وغيرها من البلاد المتمدينة. (3) ما يكون مداره على تأثير الأنفس ذات الإرادة القوية فى الأنفس الضعيفة القابلة للأوهام والانفعالات التي يسميها علماء النفس: (بالأنفس الهستيرية) وأصحاب هذا النوع يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين ومنهم من يكتب الأوفاق والطلسمات للحب والبغض إلى نحو ذلك. ومن ذلك ما استحدث فى هذا العصر من التنويم المغناطيسى. وعلى الجملة فالسحر صناعة تتلقي بالتعليم كما ثبت بنص الكتاب الكريم. وبالاختبار الذي لم يبق فيه شك بين العلماء فى هذا العصر. قال أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص وهو من فقهاء الحنفية فى القرن الرابع: زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه: (إنه يخيّل إلىّ أنى أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله وإن امرأة يهودية سحرته فى جفّ طلعة: (وعاء طلع النخل) ومشط ومشاطة حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته فى جفّ طلعة وهو تحت راعوفة البئر «1» . فاستخرج وزال عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العارض. إلى أن قال: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا بالحشو الطّغام واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة وأن جميعه من نوع واحد. والعجب ممن يجمع بين

_ (1) المشاطة: بالضم الشعر الذي يسقط حين تسريحه بالمشط، وراعوفة البئر: الحجر الثابت الذي يقف عليه المستقى من البئر، أي إنها وضعت المشط والمشاطة فى جف طلعة تحت حجر البئر.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 113 إلى 116]

تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» فصدّق هؤلاء من كذبه الله وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله، وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك ظنا منها بأن ذلك يعمل فى الأجساد وقصدت به النبي عليه الصلاة والسلام فأطلع الله نبيه على موضع سرها وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أن ذلك ضره، وخلط عليه أمره، ولم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زيد فى الحديث ولا أصل له اهـ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 113 الى 116] وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أنهم طلبوا إليه تأخير الفصل فى أمره حتى يحضر السحرة ليفسدوا عليه أعماله ويبينوا خبىء حيله- ذكر هنا أن السحرة جاءوا وطلبوا المثوبة من فرعون إن هم نفذوا ما طلبه فأجابهم إلى ذلك ففعلوا أفاعيلهم السحرية التي أوقعت الرهب فى قلوب المشاهدين. الإيضاح (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) أي وجاء السحرة الذين حشرهم أعوان فرعون وشرطته إليه، وحين جاءوا قالوا لفرعون: هل لنا من أجر كفاء ما نقوم به من العمل العظيم الذي يتم به الغلب على موسى.

(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي قال فرعون مجيبا لهم إلى ما طلبوا: نعم إن لكم أجرا عظيما على ما تقومون به من ذلك العمل الجليل، وأنتم مع ذلك تكونون من المقرّبين منا فتجمعون بين المال والجاه وذلك منتهى ما تطمعون فيه من نعيم الدنيا وسعادتها. (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أي قال السحرة لموسى بعد عدة فرعون لهم: إما أن تلقى ما عندك أولا، وإما أن نلقى ما عندنا وفى هذا التخيير منهم له- دليل على اعتدادهم بسحرهم وثقتهم بأنفسهم وعدم المبالاة بعمله، ولولا ذلك لما خيروه. إذ المتأخر فى العمل يكون أبصر بما تقتضيه الحال بعد وقوفه على منتهى جهد خصمه. (قالَ أَلْقُوا) أي قال موسى عليه السلام وهو واثق بشأنه محتقر لهم غير مبال بهم: ألقوا ما أنتم ملقون وهو عليه السلام لم يأمرهم بفعل السحر ابتداء وإنما أمر بأن يتقدموه فيما جاءوا لأجله ولا بد لهم منه، وأراد بذلك التوسل إلى إظهار بطلان السحر لا إثباته وإلى بناء ثبوت الحق على بطلانه، ولم يكن هناك وسيلة للإبطال إلا ذلك، وقد صرح به فيما حكاه تعالى عنه: «قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» . (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) استرهبه أوقع فى قلبه الرّهب والخوف، أي فلما ألقوا ما ألقوا من حبالهم وعصيّهم سحروا أعين النظارة ومنهم موسى عليه السلام كما جاء فى سورة طه: «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» وجاءوا بسحر عظيم فى مظهره كبير فى تأثيره فى أعين الناس.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 إلى 122]

قال ابن كثير أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة فى الخارج ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال. قال ابن عباس رضي الله عنه: إنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فأقبلت يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى. قال ابن اسحق: إن السحرة كانوا خمسة عشر ألف ساحر. وإن الحيات التي أظهروها بخيال سحرهم كانت كأمثال الجبال قد ملأت الوادي. وقال السدى: إن السحرة كانوا بضعا وثلاثين ألفا اهـ. وكل هذا مبالغات إسرائيلية وتهويلات لم يصح شىء منها وليس فى التوراة ما يؤيدها. وقال الجصاص فى تفسيره: سحروا أعين الناس، يعنى موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، كما قال: «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» . فأخبر أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنما كان تخيلا. وقد قيل إنها كانت عصيا مجوّفة قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت معمولة من جلد محشوة زئبقا. وقيل حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا ملئوها نارا فلما طرحت عليه وحمى الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير اهـ. فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية إذا صح خبرها. ويمكن أن تكون هناك حيلة أخرى كإطلاق أبخرة أثرت فى الأعين فجعلتها تبصر ذلك، أو أن الحبال والعصى جعلت على صورة الحيات وحركت بمحركات خفية سريعة لا تدركها أبصار الناظرين. [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 122] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لقف الشيء وتلقفه: تناوله بحذق وسرعة، والمأفوك: المصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، ومن ثم يقال للرياح التي عدلت عن مهابها مؤتفكة كما قال: «وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ» وقال: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» أي يصرفون عن الحق فى الاعتقاد إلى الباطل، وعن الصدق فى المقال إلى الكذب، وعن الجميل فى الفعل إلى القبيح، فالإفك يكون بالقول كالكذب وقد يكون بالفعل كعمل سحرة فرعون، وانقلبوا عادوا، وصاغرين أي أذلة بما رزئوا به من الخذلان والخيبة، وألقى السحرة ساجدين: أي خرّوا سجدا لأن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود. الإيضاح (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي أوحى الله إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام فى ذلك الموقف العظيم الذي قرن فيه بين الحق والباطل- أن يلقى ما فى يمينه وهى عصاه فإذا هى تبتلع ما يلقون ويوهمون به أنه حق وهو باطل- قال ابن عباس فجعلت لا تمرّ بشىء من حبالهم ولا خشبهم إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا شىء من السماء وليس بسحر فخروا سجدا و «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» . ويرى جماعة من المفسرين أن لقفها لما يأفكون- هو أنها أتت عليه حتى أظهرت بطلانه وبيان حقيقة أمره فى نفسه بسرعة، فإن كان إفكهم بما أحدثوه من التأثير فى الأعين فلقفها إياه إزالته وإبطاله برؤية الحبال والعصىّ على حقيقتها، وإن كان تحريكا لها بمحركات خفية سريعة فكذلك وإن كان قد حصل بجعلها مجوفة محشوّة

بالزئبق وتحريكه إياها بفعل الحرارة: (سواء كانت نارا أعدت لها أو الشمس حين أصابتها) فلقفها لذلك يكون بعمل من الحية أخرجت به الزئبق من الحبال والعصى فانكشفت به الحيلة ولو كانت قد ابتلعتها لبقى الأمر ملتبسا على الناس، إذ قصاراه أن كلا من السحرة وموسى قد أظهر أمرا غريبا ولكن أحد الفريقين كان أقوى من الآخر فأخفاه على وجه غير معلوم ولا مفهوم، وهذا لا ينافى كونهما من جنس واحد- ولكن زوال غشاوة السحر وتخييله حتى رأى الناس أن الحبال والعصى التي ألقاها السحرة ليست إلا حبالا وعصيا لا تسعى ولا تتحرك، وأن عصا موسى لم تزل حية تسعى هو الذي ماز الحق من الباطل وعرفت به الآية الإلهية والحيلة الصناعية وقد فعلت ذلك بسرعة ومن ثم عبر عنه باللقف، ولكن لا يعرف بما كان لها هذا التأثير؟ لأنها آية إلهية لا أمر صناعى حتى تدرك حقيقته. (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فثبت الحق وفسد ما كانوا يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره، إذ تبين لمن شهده وحضره أن موسى رسول من عند الله يدعو إلى الحق وأن ما عملوه ما هو إلا إفك السحر وكذبه ومخايله. (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي فغلب موسى فرعون وجموعه فى ذلك الجمع العظيم الذي كان فى عيد لهم ضربه موسى موعدا لهم كما جاء فى سورة طه: «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» وعادوا من ذلك الحفل صاغرين أذلة بما رزئوا به من خيبة وخذلان. (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي وألقى السحرة حينما عاينوا عظيم قدرة الله ساقطين على وجوههم سجّدا لربهم، لأن الحق قد بهرهم واضطرهم إلى السجود، حتى كأن أحدا دفقهم وألقاهم. والخلاصة- إن ظهور بطلان سحرهم وإدراكهم فجأة لآية موسى وعلمهم بأنها من عند الله لا صنع فيها لمخلوق ملأت عقولهم يقينا وقلوبهم إيمانا فكأنّ اليقين الحاكم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 إلى 126]

على الأعضاء والجوارح هو الذي ألقاهم على وجوههم سجدا لرب العالمين الذي بيده ملكوت كل شىء- وزالت من نفوسهم عظمة فرعون الدنيوية الزائلة- بعد أن ظهر لهم صغاره أمام هذه الآية فنطقوا بما حكى الله عنهم. (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قالوا صدقنا بما جاءنا به موسى، وأن الذي علينا أن نعبده هو رب الإنس والجن وجميع الأشياء المدبر لها رب موسى وهارون. [سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 126] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) تفسير المفردات المكر: صرف الإنسان عن مقصده بحيلة، وهو نوعان: محمود ويراد به الخير. ومذموم يقصد به الشر، وتقطيع الأيدى والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والعكس بالعكس، والصلب الشد على خشبة ونحوها، وشاع فى تعليق الشخص بنحو حبل فى عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم- ونقمت الشيء: إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة كما قال تعالى «وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» - «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ» وأفرغ علينا: أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء من القرب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي فى هذه الآية إخبار بما توعد به فرعون السحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام وبما عزم عليه من التنكيل بهم وبما رد به السحرة عليه من استسلامهم لأمر الله لا لأمره ودعائهم ربهم بالتوفى على ملة الإسلام. الإيضاح (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) آمنتم إما خبر يراد به التوبيخ، وإما استفهام يراد به الإنكار والتوبيخ: أي آمنتم به واتبعتموه مذعنين لرسالته قبل أن آذن لكم؟ (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي إن هذا الذي فعلتموه أنتم وهو- ليس إلا مكرا مكرتموه واتفاقا دبّرتموه من قبل بما أظهرتم من المعارضة والرغبة فى الغلب عليه- مع إسرار اتباعه بعد ادعاء ظهور حجته كما جاء فى سورة طه: «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» فأجمعتم كيدكم لنا فى هذه المدينة لأجل أن تخرجو المصريين منها بسحركم، ويكون لكم فيها مع بنى إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والرياسة والتصرف فى البلاد. وكل ذى لب وفطنة يعلم أن هذه مقالة لا نصيب لها من الصحة، ولا ظل لها من الحقيقة، فإن موسى إثر مجيئه من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر المعجزات الباهرة، فلم يكن من فرعون إلا أن أرسل فى المدائن حاشرين ووعدهم بالعطاء الجزيل، وموسى لا يعرف منهم أحدا ولا رآه ولا اجتمع به وفرعون يعلم ذلك وإنما قال ذلك تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم كما قال تعالى «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ» . (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما أصنع بكم من العذاب جزاء على هذا المكر والخداع. ثم بين ذلك بقوله:

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي قسما لأنكلنّ بكم أشد التنكيل، لأقطعن الأيدى والأرجل من خلاف ثم لأصلبنّ كل واحد منكم وهو على تلك الحال لتكونوا عبرة لمن تحدّثه نفسه بالكيد لنا والترفع عن الخضوع لعظمتنا. والخلاصة- إن اتهامه السحرة بالتواطؤ مع موسى إثما كان تمويها على قومه المصريين، إذ خاف عاقبة إيمان الشعب بموسى فادّعى أنه لا ينتقم من السحرة إلا حبّا فيهم ودفاعا عنهم وإبقاء لاستقلالهم فى وطنهم كما هو شأن كل رئيس أو ملك فى شعب يخاف أن ينتقض عليه وتجتمع كلمته على اختيار زعيم آخر يقوم بدعوة دينية أو سياسية. وعند ما سمع السحرة هذا التهديد والوعيد من ذلك الجبار المتكبر أجابوه. (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي إنهم لا يأبهون بقتلهم، لأنهم راجعون إلى ربهم راجون مغفرته ورحمته، فتعجيل القتل يكون سببا لقرب لقائه والتمتع بجزائه. وقد يكون المعنى- إنا وإياك سننقلب إلى ربنا وما أنت بمخلّد بعدنا، فلئن قتلتنا فسيحكم الله بعدله بينك وبيننا. إلى ديّان يوم الدين نمضى ... وعند الله تجتمع الخصوم وفى هذا إيماء إلى تكذيبه فى دعوى الربوبية وتصريح بإيثار ما عند الله على ما عنده من الشهوات الدنيوية الزائلة. وما جاء فى سورة الشعراء من قولهم: «قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» يؤيد المعنى الأول. (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) أي وما تعيب منا وما تنكر إلا خير الأعمال وأصل المفاخر وهو الإيمان بالله، ومثل هذا لا يمكن العدول عنه مرضاة لك ولا طلبا للزلفى إليك. وفيه تيئيس له، وكأنهم قالوا لا مطمع لك فى رجوعنا عن إيماننا، وإلى أن تهديدك لا يجدى فائدة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 127 إلى 129]

وما ذكره السحرة من نقم فرعون منهم كان بالقول بالاستنكار التوبيخي لإيمانهم والتهمة فيه والوعيد عليه، وهل نفّذ الوعيد بالانتقام بالفعل؟ الظاهر نعم بدليل قوله «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» يعنى فرعون وملأه. وقد ختم سبحانه كلام السحرة بدعائهم بقولهم: «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» أي ربنا هب لنا صبرا واسعا تفرّغه علينا وأيّدنا بروحك حتى لا يبقى فى قلوبنا شىء من خوف غيرك ولا من الرجاء فى سوى فضلك، وتوفّنا إليك مذعنين لأمرك ونهيك مستسلمين لقضائك غير مفتونين بتهديد فرعون ولا مطيعين له فى قوله ولا فعله. وقد ذكر المؤرخون قديما وحديثا أن المؤمنين بالله واليوم الآخر من كل ملة ودين يكونون أعظم شجاعة وأكثر صبرا على مشاق الحروب من غيرهم، ومن ثم يحرص زعماء الشعوب على بث النزعة الدينية بين رجالات الجيوش. [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

المعنى الجملي

المعنى الجملي يخبر سبحانه عما تمالأ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى وقومه من الأذى والبغض وما كان من تأثير جوابه فى موسى وقومه لقد نصح موسى قومه ودار بينهم حوار قصه الله علينا فى تلكم الآيات. الإيضاح (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟) أي وقال الأشراف من قوم فرعون لفرعون: أتترك موسى وقومه أحرارا آمنين فتكون عاقبتهم أن يفسدوا عليك قومك بإدخالهم فى دينهم، أو بجعلهم تحت سلطانهم ورياستهم ويتركك مع آلهتك فلا يعبدوك ولا يعبدوها فيظهر لأهل مصر عجزك وعجزها ولا يغيبنّ عنك إيمان السحرة فقد يكون مقدمة لما بعده. والتاريخ المصري المستمدّ من العاديات المصرية يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها الشمس ويسمونها (رع) وفرعون عندهم سليل الشمس وابنها. (قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي قال فرعون مجيبا للملأ: سنقتّل أبناء قومه تقتيلا كلما تناسلوا ونستبقى نساءهم أحياء كما كنا نفعل قبل ولادته حتى ينقرضوا ويعلموا أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة. (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان، قاهرون لهم كما كنا من قبل، فلا يقدرون على أذانا ولا الإفساد فى أرضنا ولا الخروج من عبوديتنا، وقد جاء فى سورة المؤمن «وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ» . ولما سمع بنو إسرائيل هذا الوعيد خافوا من فرعون فطمأنهم موسى كما حكى الله عنه بقوله:

(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قال لهم يا قوم: اطلبوا معونة الله وتأييده على رفع ذلك الوعيد عنكم، واصبروا ولا تحزنوا، فإن الأرض (فلسطين) التي وعدكموها ربكم هى لله الذي بيده ملكوت كل شىء يورثها من يشاء من عباده لا لفرعون، فهى على مقتضى سننه دول وأيام، والعاقبة الحسنى لمن يتقون الله ويراعون سننه فى أسباب إرث الأرض باتحاد الكلمة والاعتصام بالحق وإقامة العدل والصبر على الشدائد والاستعانة بالله لدى المكاره، ونحو ذلك مما هدت إليه التجارب ودلت عليه الشرائع. والخلاصة- إن الأمر ليس كما قال فرعون، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله، ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض ونحن الموعودون بذلك، ولكن بشرط أن نقيم شرعه ونسير على سننه فى الخلق. وليس الأمر كما يظن فرعون وقومه من بقاء القوىّ على قوته، والضعيف على ضعفه اعتمادا على أن الآلهة ضمنت له بقاء ملكه وعظمته وجبروته. لكن هذه الوصية وتلك النصائح لم تؤثر فى قلوبهم ففزعوا من فرعون وقومه. و (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) فقد كان بنو إسرائيل قبل مجىء موسى مستضعفين فى يد فرعون يأخذ منهم إتاوات مختلفة، ويستعملهم فى الأعمال الشاقة، ويمنعهم من الترف، ويقتل أبناءهم ويستحيى نساءهم، فلما بعث الله موسى لم يستطع أن ينقذهم من ظلم فرعون، إذ كان يؤذيهم ويظلمهم بعد إرساله كما كان يؤذيهم من قبل ذلك أو أشد. ولما ذكروا ذلك لموسى أجابهم: (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي قال موسى إن رجائى من فضل الله أن يهلك عدوكم الذي ظلمكم ويجعلكم خلفاء فى الأرض التي وعدكموها ومنعكم فرعون من الخروج منها، فينظر سبحانه كيف

تعملون بعد استخلافه إياكم فيها- أتشكرون النعمة أم تكفرون؟ وتصلحون فى الأرض أم تفسدون، ويكون جزاؤكم فى الدنيا والآخرة وفق ما تعملون. وعبر بالرجاء دون أن يجزم بذلك لئلا يتركوا ما يجب من العمل ويتكلوا على ذلك، أو لئلا يكذّبوه لأن أنفسهم قد ضعفت بما طال عليها من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه واستعظامهم لقومه وملكه. وقد جاء فى الفصل السادس من سفر الخروج من التوراة: فقال الرب لموسى: ألا ترى ما أصنع بفرعون، إنه بيد قديرة سيطلقكم، وبيد قديرة سيطردكم من أرضه- وأعلمه بأنه أعطى إبراهيم وإسحق عهدا بأن يعطيهم أرض كنعان وأنه سمع أنين بنى إسرائيل الذين استعبدهم المصريون فذكر عهده- ثم قال: لذلك قل لبنى إسرائيل أنا الرب لأخرجنّكم من تحت أثقال المصريين، وأخلصنّكم من عبوديتهم، وأفدينّكم بذراع مبسوطة وأحكام عظيمة، وأتخذنّكم لى شعبا، وأكونن لكم إلها وتعلمون أننى أنا الرب إلهكم المخرج لكم من تحت أثقال المصريين وسأدخلنكم الأرض التي رفعت بدى مقسما أن أعطيها لإبراهيم وإسحق ويعقوب فأعطيها لكم ميراثا أنا الرب، فكلم موسى بذلك بنى إسرائيل فلم يسمعوا لموسى لضيق أرواحهم وعبوديتهم الشاقة؟ اهـ. وعلينا أن نعرف أن جل ما كتبه المفسرون عن بنى إسرائيل منقول مما سمعوه ممن أسلم منهم وليس كل من أسلم منهم كان حافظا ثقة صادقا فى النقل، وإما مأخوذ من كتب غير موثوق بها ومن ثم كان أكثر ما كتبوه فى التفسير منها مهوّشا مضطربا حجة لأهل الكتاب علينا. وإذا كان هذا حال علمائنا فى أخبارهم بعد انتشار العلوم فى البلاد الإسلامية، فما بالك بأخبارهم لدى أهل مكة عند ظهور الإسلام ولم يكن فى مكة كتاب يقرأ، ولا أحد يعرف القراءة والكتابة إلا ستة نفر من التجار يعرفونها معرفة ساذجة، لا تشفى غليلا، ولا تفيد فى تحقيق حادثة ولا حل مشكلة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 إلى 133]

فأنى لمحمد بن عبد الله أن يعرف حقائق أخبارهم ومعرفة أحوالهم لولا الوحى الإلهى والفيض الرباني من لدن عليم خبير. [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 133] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) تفسير المفردات كثر استعمال الأخذ فى العذاب كقوله «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» وآل فرعون: قومه وخاصته وأعوانه فى أمور الدولة، وهم الملأ من قومه ولا يستعمل هذا اللفظ إلا فيمن يختص بالإنسان بقرابة قريبة كما قال عز اسمه «وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ» أو بموالاة ومتابعة فى الرأى كما قال «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» والسنون، واحدها سنة: وهى بمعنى الحول ولكن أكثر ما تستعمل فى الحول الذي فيه الجدب كما هنا بدليل نقص الثمرات، والمراد بالحسنة هنا: الخصب والرخاء، وبالسيئة: ما يسوءهم من جدب وجائحة أو مصيبة فى الأبدان والأرزاق، ويطيروا يتشاءموا، وسر إطلاق التطير على التشاؤم أن العرب كانت تتوقع الخير والشر مما تراه من حركة الطير فإذا طارت من جهة اليمين تيمنت بها ورجت الخير والبركة، وإذا طارت من جهة الشمال تشاءمت وتوقعت الشر، ويسمى

المعنى الجملي

الطائر الأول السانح، والثاني البارح، وسموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا. الطوفان لغة: ما طاف بالشيء وغشيه، وغلب فى طوفان الماء سواء كان من السماء أو الأرض، والقمل (بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة) هو السوس الذي يخرج من الحنطة، وقيل هو صغار الجراد، وقال الراغب: هو صغار الذباب، والدم: هو الرعاف وقيل هو دم كان يحدث فى مياه المصريين. المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه وعد موسى لقومه بقوله- عسى ربكم أن يهلك عدوكم- ذكر هنا مبادئ الهلاك الموعود به بما أنزله على فرعون وقومه من المحق حالا بعد حال، إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال، تنبيها للسامعين وزجرا لهم عن الكفر وتكذيب الرسل، حذر أن ينزل بهم من الشر مثل ما نزل بهؤلاء. الإيضاح (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي إنه تعالى أخذ آل فرعون بالجدب وضيق المعيشة لعلهم يتذكرون ضعفهم أمام قوة الله وعجز ملكهم العالي الجبار وعجز آلهتهم، ليرجعوا عن ظلمهم لبنى إسرائيل ويجيبوا دعوة موسى عليه السلام، إذ قد دلت التجارب على أن الشدائد ترقّق القلوب وتهذب الطباع، وتوجه النفوس إلى مناجاة الرب سبحانه والعمل على مرضاته والتضرع له دون غيره من المعبودات متى اتخذوها وسائل إليه وشفعاء عنده. فإن لم تجد المصايب فى تذكر المولى وبلغ الأمر بالناس أن يشركوا به حتى فى أوقات الشدائد فهم فى خسران مبين وضلال بعيد، وكذلك كان دأب آل فرعون بعد أن أنذرهم موسى عليه السلام. ثم بيّن أن المصايب لم تفدهم ذكرى، بل زادتهم عتوا فقال:

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي فإذا جاءهم خصب وثمار ومواش وسعة فى الرزق والعافية قالوا لنا هذه أي نحن المستحقون لها بما لنا من التفوق على الناس فبلادنا بلاد خصب ورخاء، وقد غاب عنهم أن يعلموا أن هذا من الله فعليهم أن يشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه- وإن أصابهم قحط وجدب ومرض وبلاء تشاءموا بموسى، وقالوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه وغفلوا عن سيئات أنفسهم وظلمهم لقوم موسى توهما منهم أن ذلك حق من حقوقهم. ومثل هذه المعاملة هى التي يحب أن يعامل بها الأجنبى فى الوطن والدين كما هى الحال الآن فى معاملة أهل المغرب للبلاد الشرقية المستعمرة لهم. (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وتقديره وهو الذي وضع لنظام الكون سننا تكون فيه المسببات وفق أسبابها، وبمقتضى هذه السنن والأقدار ينزل عليهم البلاء ويكون امتحانا واختبارا لهم ليتوبوا ويرجعوا عن ظلمهم وبغيهم على بنى إسرائيل وعن طغيانهم وإسرافهم فى جميع أمورهم، ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة تصرف الخالق فى هذا الكون ولا أسباب الخير والشر، ولا أن كل شىء فيه جاء بمشيئته وتدبيره. وبعد أن ذكر أن هذه الحسنات والسيئات لم تردعهم عما هم فيه من الطغيان- ذكر أنه أصابهم بضروب أخرى من العذاب وهى فى أنفسها آيات بينات- وهم مع ذلك لم يرعوا عن كفرهم وعنادهم. (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي إنك إن جئتنا بكل نوع من أنواع الآيات التي يستدل بها على أنك محق فى دعوتك، لأجل أن تسحرنا بها وتصرفنا بها بدقة ولطف عما نحن فيه من ديننا ومن تسخيرنا لقومك فى خدمتنا، فما نحن بمصدقين لك ولا بمتبعين رسالتك.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي فأرسلنا عليهم عقوبة على جرائمهم تلك المصايب والنكبات، وهى آيات بينات على صدق رسالة موسى، إذ قد توعّدهم بوقوع كل واحدة منها على وجه التفصيل، لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل تأويلا بأنها وقعت لأسباب لا ارتباط لها برسالته، فاستكبروا عن الإيمان بها لرسوخهم فى الإجرام والإصرار على الذنوب وإن كانوا يعتقدون صدق دعوته وصحة رسالته. وقد عدد سبحانه هنا من الآيات خمسا وفى سورة الإسراء تسعا وهى: (1) الطوفان فقد نزلت عليهم أمطار أغرقت أرضهم وأتلفت زرعهم وثمارهم، وجاء وصفها فى التوراة ففى الفصل التاسع فى سفر الخروج (ثم قال الرب لموسى: بكّر فى الغداة وقف بين يدى فرعون وقل له: كذا قال الرب إله العبرانيين: أطلق شعبى ليعبدونى، فإنى فى هذه المرة منزّل جميع ضرباتى على قلبك وعلى عبيدك وشعبك، لكى تعلم أنه ليس مثلى فى جميع الأرض، وأنا الآن أمد يدى وأضربك أنت وشعبك بالوباء فتضمحل من الأرض، غير أنى لهذا أبقيك لكى أريك فوتى ولكى يخبر باسمي فى جميع الأرض، وأنت لم تزل مقاوما لشعبى، ها أنا ممطر فى مثل هذا الوقت من غد بردا عظيما جدا لم يكن مثله فى مصر منذ يوم أسست إلى الآن. ثم ذكر فيها وقوع البرد مع نزول نار من السماء، ووصف عظمته وشموله لجميع بلاد مصر وأن فرعون طلب موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب مهما أن يشفعا إلى الرب ليكفّ هذه النكبة عن مصر ووعدهما بإطلاق بنى إسرائيل وجاء فى ختام هذا الفصل. فخرج موسى من المدينة من لدن فرعون وبسط يديه إلى الرب فكفّت الوعود ولم يعد المطر يهطل على الأرض. (2) الجراد وقد ذكر فى التوراة بعد الطوفان، فقد جاء فيها (إن فرعون فسا قلبه فلم يطلق بنى إسرائيل فأخبر الرب موسى فأمره بأن ينذره بإرسال الجراد عليهم

فيأكل كل ما سلم من النبات والشجر ويملأ بيوته وبيوت عبيده وسائر بيوت المصريين ففعل- فرضى فرعون أن يذهب الرجال من بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم دون النساء والأولاد والمواشي، فرد موسى عصاه بأمر الرب على أرض مصر فأرسل الرب ريحا شرقية ساقت الجراد على أرض مصر فغطى جميع وجه الأرض حتى أظلمت الأرض وأكل عشبها وجميع ما تركه البرد من ثمر الشجر حتى لم يبق شىء من الخضرة فى الشجر ولا فى عشب الصحراء فى جميع أرض مصر وجاء فيها: إن فرعون استدعى موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب منهما الصفح والشفاعة إلى الرب إلهما أن يرفع عنه هذه التّهلكة ففعلا فأرسل الله ريحا غربية فحملت الجراد كله فألقته فى بحر القلزم. (3) القمّل: وهو صغار الذباب- وقد جاء فى التوراة- إن البعوض والذباب كان من الضربات العشر التي ضرب الرب بها فرعون وقومه ليرسلوا بنى إسرائيل مع موسى ففى الفصل الثامن من سفر الخروج: إن موسى أنذر فرعون أن الذباب سيدخل بيوته وبيوت عبيده وسائر قومه فيفسدها ولا يدخل بيوت بنى إسرائيل المقيمين فى أرض جاسان وأن ذلك وقع وفسدت الأرض من تأثير الذباب. (4) الضفادع: وفى سفر الخروج- وقال الرب لموسى: ادخل على فرعون وقل له كذا قال الرب- أطلق شعبى ليعبدونى وإن أبيت أن تطلقهم فهأنذا ضارب جميع تخومك بالضفادع فيفيض النهر ضفادع فتصعد وتنتشر فى بيتك وفى مخدع فراشك وعلى سريرك وفى بيوت عبيدك وشعبك وفى تنانيرك ومعاجنك إلخ. وكذلك كان- وفيها: إن فرعون طلب من موسى أن يشفع له عند ربه برفع الضفادع فأجابه إلى ذلك قال: ففعل الرب كما قال موسى وماتت الضفادع من البيوت والأقبية والحقول فجمعوها أكواما وأنتنت الأرض منها. (5) الدم: فقد كانت مياه المصريين تتحول إلى دم، وقد جاء فى الفصل السابع من سفر الخروج: «إن الرب أمر موسى أن ينذر فرعون ذلك ففعل، ثم قال الرب

[سورة الأعراف (7) : الآيات 134 إلى 136]

لموسى قل لهرون: خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين وأنهارهم وخلجهم ومنافعهم وسائر مجامع مياههم فتصير دما، ويكون دم فى جميع أرض مصر وفى الخشب وفى الحجارة» وفيها أن موسى وهارون فعلا ذلك وأن سمك النهر مات وأنتن النهر فلم يستطع المصريون أن يشربوا منه. هذه هى الآيات الخمس التي أيد الله بها رسوله موسى عليه السلام وليس فيها ما ينفى ما فى التوراة ولا ما يؤيدها، وعلينا أن نقف عند ما أثبته القرآن فحسب دون زيادة عليه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 136] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) تفسير المفردات الرجز: العذاب الذي يضطرب له الناس فى شئونهم ومعايشهم، وذلك شامل لكل نقمة وجائحة أنزلها الله على قوم فرعون كالخمس التي ذكرت قبل، والعهد: النبوة والرسالة، والنكث لغة: نقض ما غزل أو ما فتل من الحبال ثم استعمل فى الحنث فى العهود والمواثيق، واليمّ: البحر فى اللغة المصرية الموافقة للغة العربية فى كثير من مفرداتها مما يدل على أن أصل الأمتين واحد. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الآيات الخمس التي سبق ذكرها بيّن هنا ما كان من أثرها فى نفوس المصريين جميعا وطلبهم من موسى أن يرفع الله عنهم العذاب، فإذا هو فعل

الإيضاح

آمنوا به، ثم تبين نكثهم وخلفهم للوعد كل مرة حدث فيها الطلب حتى حل بهم عذاب الاستئصال بالغرق فى البحر. الإيضاح (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي ولما وقع ذلك العذاب الذي ذكره فى الآية السالفة اضطربوا وفزعوا أشد الفزع وقالوا حين نزول كل نوع بهم: يا موسى ادع لنا ربك وتوسّل إليه بعهده عندك ورسالته لك أن يكشف عنا هذا الرجز، ونحن نقسم لك لئن كشفته عنا لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بنى إسرائيل. وفى التوراة: إن فرعون كان يقول لموسى حين نزول كل آية منها: ادع لنا ربك واشفع لنا عنده أن يرفع عنا هذه، ويعده بأن يرسل معه بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم ويذبحوا له ثم ينكث. (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد أخرى إلى أجل هم بالغوه ومنتهون إليه وهو الغرق الذي هلكوا فيه- إذا هم ينكثون عهدهم ويحنثون فى قسمهم فى كل مرة. والخلاصة- إنه كشف العذاب عنهم إلى حين من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون وهو وقت الغرق كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لهم بأن أغرقناهم فى البحر، وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم تفكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها. والخلاصة- إنهم كانوا يظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب ثم يكذبون، حتى إذا انقضى الأجل المضروب لهم انتقمنا منهم بسبب أنهم كذبوا بها

[سورة الأعراف (7) : آية 137]

كلها وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب فى الدنيا والآخرة، إذ كانت فى نظر الكثير منهم من قبيل السحر والصناعة، ومن ثم كانوا يكابرون أنفسهم فى كل آية منها ويحاولون أن يأتى سحرتهم وعلماؤهم بمثلها. ومنهم من اهتدى إلى الحق وظهر له صدقه فآمن به جهرة ككبار السحرة، ومنهم من كتم إيمانه كالذى عارض فرعون وملأه بالحجة والبرهان فى قتل موسى كما جاء فى سورة غافر، ومنهم من جحد بها كبرا وعلوا فى الأرض كفرعون وأكابر وزرائه ورؤسائه. [سورة الأعراف (7) : آية 137] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) تفسير المفردات مشارق الأرض ومغاربها: يراد بها جميع نواحيها والمراد بها أرض الشام، وتمام الشيء: وصوله إلى آخر حده، وكلمة الله: هى وعده لبنى إسرائيل بإهلاك عدوهم واستخلافهم فى الأرض: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ» والتدمير: إدخال الهلاك على السالم، والخراب على العامر، والعرش: رفع لنبانى والسقائف للنبات والشجر المتسلّق كعرائش العنب: ومنه عرش الملك. المعنى الجملي بعد أن بيّن سبحانه ما حل بالمصريين من الغرق عقوبة لهم على تكذيبهم بموسى بعد وجود الآية تلو الآية الدالة على صدقه- ذكر هنا ما فعله ببني إسرائيل من الخيرات

الإيضاح

إذ أصبحوا أعزة بعد أن كانوا أذلة، وملكوا الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، وهى بلاد الشام. الإيضاح (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون فى مصر بقتل الأبناء واستحياء النساء وأخذ الجزية واستعمالهم فى الأعمال الشاقة، الأرض التي باركنا فيها بالخصب والخير الكثير، مشارقها من حدود الشام، ومغاربها من حدود مصر تحقيقا لما وعدنا به: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» . وعن كعب الأحبار أنه قال: إن الله بارك فى الشام من الفرات إلى العريش، ويؤيد ذلك قوله فى إبراهيم عليه السلام: «وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» وقوله: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» . (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) أي ونفذت كلمة الله ومضت على بنى إسرائيل تامة كاملة بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وقد كان وعد الله تعالى إياهم مقرونا بأمرهم بالصبر والاستقامة كما أمرهم نبيهم عليه السلام مبلّغا عن ربه «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا» ومن قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر ضمن الله له الفرج، وقد تم وعد الله تعالى لهم بذلك، ثم سلبهم تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس ولم يكن من مقتضى الوعد أن يعودوا إليها مرة أخرى.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 إلى 141]

(وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي وخرّبنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المبانى والقصور التي كانوا يبنونها للمصريين، والمكايد السحرية والصناعية التي كان يصنعها السحرة لإبطال آياته والتشكيك فيها كما قال تعالى «إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ» وما كانوا يعرشون من الجنات والبساتين. وأسباب هذا التدمير لتلك المصانع والعروش أمور: (1) الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى من الطوفان والجراد وغيرها، وسمتها التوراة: الضربات العشر. (2) إنجاء بنى إسرائيل وحرمان فرعون وقومه من استعبادهم فى أعمالهم. (3) هلاك من غرق من قوم فرعون وحرمان البلاد وسائر الأمة من ثمرات أعمالهم فى العمران، وقد أنذرهم موسى عاقبة ذلك فكذبوا بالآيات وأصرّوا على الجمود والعناد فظلموا أنفسهم وما ظلمهم الله. ووجه العبرة فى هذه الآيات ما كان للايمان فى قلب موسى وهارون من التأثير، إذ تصديا لأكبر ملك فى أكبر دولة فى الأرض استعبدت قومه فى خدمتها عدة قرون، وما زال يكافحانه بالحجج والآيات حتى أظفرهما الله تعالى به وأنقذا قومهما من ظلمه، ولهذا يجدر ألا تستعظم قوة الدول الظالمة أمام قوة الحق كما قال: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ» وقال: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

تفسير المفردات

تفسير المفردات جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه: عدّاه وانتقل عنه، والعكوف على الشيء: الإقبال عليه وملازمته تعظيما له، والأصنام واحدها صنم: وهو ما يصنع من الخشب والحجر أو المعدن مثالا لشىء حقيقى أو خيالى ليعظّم تعظيم العبادة وقد اتخذ بعض العرب فى الجاهلية أصناما من عجوة التمر فعبدوها ثم جاعوا فأكلوها، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشىء حقيقى، وقد يكون للعبادة فيسمى صنما، وقد يكون للزينة الذي يكون على جدران بعض القصور أو أبوابها أو فى حدائقها، وقد يكون للتعظيم غير الديني كالتماثيل التي تنصب لبعض الملوك وكبار العلماء والقواد للتذكير بتاريخهم وأعمالهم للاقتداء بهم. والتعظيم الديني يكون الغرض منه التقرب من المعبود وطلب ثوابه بدفع ضرر أو جلب منفعة من طريق الغيب باعتقاد أن له سلطة غيبية أو تعظيم ما يذكر به من صورة أو تمثال أو قبر أو غير ذلك من آثاره لأجل التقرب إليه وقصد الانتفاع به فى الأمور التي لا تنال بالأسباب العامة، وكل ذلك عبادة له ولله بالاشتراك، وهذا مظهر من مظاهر الشرك الجلى التي تعتبر كفرا مهما اختلفت تسميتها، والتبار والتّبر: الهلاك، والتتبير: الإهلاك والتدمير، فيقال تبّره: أهلكه ودمره، وباطل: أي هلك وزائل لا بقاء له، وبغى الشيء وابتغاه: طلبه. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أنواع نعمه على بنى إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة الكبرى عليهم وهى أنه جاوز بهم البحر آمنين،

الإيضاح

ثم ارتدوا وطلبوا من موسى أن يعمل لهم آلهة وأصناما. وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه من اليهود بالمدينة فإنهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى صلوات الله عليه، وإيقاظ المؤمنين ألا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله تعالى عليهم، فإن بنى إسرائيل وقعوا فيما وقعوا فيه من جزاء غفلتهم عما من الله تعالى به عليهم من النعم. الإيضاح (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أي إنهم تجاوزوه بعناية الله وتأييده، فكأنه معهم بذاته فجاوزه مصاحبا لهم، فأتوا عقب تجاوزهم إياه ودخولهم فى بلاد العرب من البحر الأسيوى على قوم يعبدون أصناما لهم: فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حنينا منهم إلى ما ألفوا فى مصر من عبادة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها. وسر هذا الطلب أنهم لم يكونوا قد فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه من آمن من سحرة المصريين، إذ أن السحرة كانوا من العلماء فأمكنهم التمييز بين آيات الله التي لا يقدر عليها غيره والسحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم. ولم يذكر القرآن شيئا يعيّن شأن هؤلاء القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل. والراجح أنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر روى عن قتادة أنهم من عرب لخم، وعن ابن جريج أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من نحاس. وقد جاء آخر الفصل الثالث عشر من سفر الخروج (وكان الرب يسير أمامهم نهارا فى عمود من غمام ليهديهم الطريق، وليلا فى عمود من نار ليضىء لهم ليسيروا نهارا وليلا، ولم يبرح عمود الغمام نهارا وعمود النار ليلا من أمام الشعب) . ثم جاء فى الفصل الرابع عشر منه بعد ذكر إتباع فرعون ومن معه لبنى إسرائيل (فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر بنى إسرائيل فصار وراءهم وانتقل عمود الغمام من

أمامهم فوقف وراءهم؟ ودخل بين عسكر المصريين، وعسكر بنى إسرائيل، فكان من هنا غماما مظلما، وكان من هناك ينير الليل، فلم يقترب أحد الفريقين من الآخر طول الليل. ولا شك أن هذا الطلب دليل على الضعف البشرى فى كل زمان ومكان، فلا عجب أن روى عن بعض حديثى العهد من الصحابة بالإسلام مثل ما طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام لما كان للوثنية فى قلوبهم من التأثير. روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط فقال (الله أكبر) هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) إنكم تركبون سنن من قبلكم» . وللمسلمين عبرة فى هذا فإن لهم الآن ذوات أنواط فى بلاد كثيرة كشجرة الحنفي بمصر، وقد اجتثت أخيرا وشجرة (ست المنضورة) ونحو ذلك مما اتخذوه من القبور والأشجار والأحجار التي يعكفون عليها ويطوفون حولها ويقبّلونها ويتمرغون بأعتابها ويتمسحون بها خاشعين ضارعين راجين شفاء الأدواء والانتقام من الأعداء وحبل العقيم ورد الضالة وغير ذلك من النفع، وكشف الضر، وهذا مخالف لنصوص كتاب الله وسنة رسوله، إذ هذا عبادة وإن كانوا لا يسمونها بذلك، فلا فرق بينه وبين شرك الجاهلية (إلا بالتسمية) إذ حقيقة العبادة كل قول أو عمل يوجه إلى معظّم يرجى نفعه أو يخشى ضره وحده. وقد أجابهم موسى عن طلبهم بقوله: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي إنكم تجهلون مقام التوحيد، وما يجب من تخصيص الله بالعبادة بلا واسطة ولا مظهر من المظاهر كالأصنام والتماثيل والعجل أبيس والثعابين- فالله قد كرم البشر وجعلهم أهلا لمعرفته ودعائه ومناجاته بلا واسطة تقربه إليهم فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد.

وبعد أن بيّن لهم جهلهم وسفههم، بيّن لهم فساد ما طلبوه عسى أن تستعد عقولهم لفهمه واستبانة قبحه فقال: (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إن هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضىّ على ما هم فيه بالتبار بما سيظهر من التوحيد الحق فى هذه الديار، وزائل ما كانوا يعملون من عبادة غير الله ذى الجلال، فإنما بقاء الباطل فى ترك الحق له وبعده عنه. وفى هذا بشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض، وقد حقق الله ما قال: (قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي قال لهم موسى: أأطلب لكم معبودا غير الله رب العالمين وخالق السموات والأرض، وقد فضلكم على العالمين بما جدد فيكم من التوحيد وهداية الدين، فماذا تبغون من عبادة غيره معه أو من دونه؟. والخلاصة- إن موسى بدأ جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم، وثنى ببيان فساد ما طلبوه وكونه عرضة للتبار والزوال لأنه باطل فى نفسه، ثم انتقل إلى بيان أن العبادة لغير الله لا تصح البتة سواء أكان المعبود أفضل المخلوقات كالملائكة والنبيين أو أخسها كالأصنام ثم أنكر عليهم أن يكون هو الوساطة فى هذا الجعل الذي دعا إليه الجهل، ليعلمهم أن طلب هذا الأمر المنكر منه عليه السلام جهل بمعنى رسالته، وأيد إنكاره لكلا الأمرين بما يعرفون من فضل الله عليهم بتفضيلهم على أهل زمانهم ممن كانوا أرقى منهم مدنية وحضارة وسعة ملك وسيادة على بعض الشعوب، وهم فرعون وقومه- برسالة موسى وهرون منهم وتجديد ملة إبراهيم فيهم وإيتائهما من الآيات ما تقدم ذكره. ثم ذكر سبحانه منته على بنى إسرائيل فقال: (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي واذكروا إذ أنجيناكم بإرسال موسى وبما

[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 إلى 145]

أيدناه به من الآيات- من آل فرعون الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم، ويقتلون ما يولد لكم من الذكور ويستبقون نساءكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن، وفى ذلكم العذاب والإنجاء منه بفضل الله عليكم وتفضيله إياكم على غيركم من سكان مصر، وسكان الأرض المقدسة التي سترثونها- بلاء عظيم أي اختبار لكم من ربكم المدبّر لأموركم ليس هناك اختبار أعظم منه، فلا أجدر بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان ممن يعطى النعمة بعد النقمة، وأحق الناس بمعرفة الله وإخلاص العبادة له من يرى فى نفسه وفى الآفاق ما يوقن به أنه لا يمكن أن يكون فيه شركة لغير الله وإن أعجب العجب أن تطلبوا بعد هذا كله ممن رأيتم على يديه هذه الآيات أن يجعل لكم آلهة من أخس المخلوقات- تجعلونها واسطة بينكم وبين الله، وهو قد فضلكم عليها وعلى من يعبدونها ومن هم أرقى منهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 145] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الميقات: الوقت الذي يقرر فيه عمل من الأعمال كمواقيت الحج، اخلفني: أي كن خليفتى، وجلا الشيء والأمر وانجلى وتجلى وجلّاه فتجلى: إذا انكشف ووضح بعد خفاء فى نفسه أو على مجتليه وطالبه، والدكّ: الدق، والخرّ والخرور: السقوط من علو، والانكباب على الأرض كما قال «يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً» وصعقا أي صاعقا صائحا مغشيا عليه، وأفاق: أي رجع إليه عقله وفهمه بعد ذهابهما بالغشيان. والاصطفاء: اختيار صفوة الشيء أي خالصه الذي لا شائبة فيه، بقوة أي بجد وعزيمة وحزم. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه ما أنعم به على بنى إسرائيل من النجاة من العبودية ومن جعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات والأحكام- ذكر هنا بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام ممتنّا عليهم بما حصل لهم من الهداية بتكليم موسى وإعطائه التوراة، وفيها تفاصيل شرعهم وبيان ما يقرّبهم من ربهم من الأحكام وقد روى أن موسى عليه السلام وعد بنى إسرائيل وهو بمصر، إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فبينت هذه الآيات كيفية نزول هذا الكتاب وهو التوراة. الإيضاح (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي ضرب الله تعالى موعدا لموسى لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة ثلاثين ليلة، قيل هى شهر ذى القعدة وأتم الثلاثين ليلة بعشر ليال فتم الموعد بذلك

أربعين ليلة صعد جبل سيناء فى أوله وهبط فى آخره، وروى عن أبي العالية أنه قال فى بيان زمان الموعد: يعنى ذا القعدة وعشرا من ذى الحجة فمكث على الطور ليلة وأنزل عليه التوراة فى الألواح فقرّبه الرب نجيّا، وكلمه وسمع صريف القلم. وجاء فى التوراة من سفر الخروج (وقال الرب لموسى: اصعد إلىّ إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم، فقام موسى ويشوع خادمه، وصعد موسى إلى جبل الله تعالى. وأما الشيوخ فقال لهم اجلسوا هاهنا، وهوذا هارون وحور معكم، فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليهما، فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل، وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفى اليوم السابع دعى موسى من وسط السحاب وكان ينظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بنى إسرائيل، ودخل موسى فى وسط السحاب وصعد إلى الجبل، وكان موسى فى الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة) . وفى الفصل الرابع والثلاثين ما نصه (وقال الرب لموسى: اكتب لنفسك هذه الكلمات، قطعت عهدا معك ومع بنى إسرائيل وكان هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر) . (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي وقال موسى حين أراد الذهاب لميقات ربه لأخيه هرون وكان الأكبر منه سنا: كن خليفتى فى قومى وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، وكانت الرياسة فيهم لموسى وكان هرون وزيره ونصيره بسؤاله لربه «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم، ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد فى الأرض، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم فى أعمالهم ومساعدتهم عليها ومعاشرتهم والإقامة معهم حال اقتراف الإفساد.

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي ولما جاء موسى للميقات الذي وقّت له للكلام وإعطاء الشريعة وكلمه ربه من وراء حجاب بغير واسطة ملك استشرفت نفسه للجمع بين فضيلتى الكلام والرؤية فقال: رب أرنى ذاتك المقدسة واجعل لى من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك وكمال المعرفة بك. (قالَ لَنْ تَرانِي) أي قال له: إنك لا ترانى الآن ولا فيما يستقبل من الزمان، إذ ليس لبشر أن يطيق النظر إلىّ فى الدنيا. ثم أتى بما هو كالعلة لذلك (ليخفف عن موسى شدة وطأة الرد بإعلامه ما لم يكن يعلم من سننه) وهو أن شيئا فى الكون لا يقوى على رؤيته كما جاء فى حديث أبى موسى الذي رواه مسلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه» فقال: (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أي فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا فى مكانه فسوف ترانى إذ هو مشارك لك فى مادة هذا العالم الفاني، وإذا كان الجبل فى قوته وثباته لا يستطيع أن يثبت ويستقر لأن مادته غير مستعدة لقوة تجلى خالقه وخالق كل شىء- فاعلم أنك لن ترانى أيضا وأنت مشارك له فى كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية فى ضعف استعدادها وقبولها للفناء. وروى عن ابن عباس أنه قال: حين قال موسى لربه تبارك وتعالى: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» قال له يا موسى إنك «لَنْ تَرانِي» يقول: ليس ترانى، لا يكون ذلك أبدا، يا موسى إنه لن يرانى أحد فيحيا، قال موسى: رب أن أراك ثم أموت أحبّ إلىّ من ألا أراك ثم أحيا، فقال الله يا موسى انظر إلى الجبل الطويل العظيم الشديد «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ» يقول فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهدّ لبعض ما يرى من عظمى «فَسَوْفَ تَرانِي» أنت لضعفك وذلتك، وإن الجبل تضعضع وانهدّ بقوته وشدته وعظمته فأنت أضعف وأذل.

(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهد وهبط وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء، وسقط موسى على وجهه مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة، والتجلي إنما كان للجبل دونه فما بالك لو كان له. روى أنه ساخ: أي غاص فى الأرض: أي أنه رجّ بالتجلى رجا، بست به حجارته بسا، وساخ فى الأرض كله أو بعضه فى أثناء ذلك حين صار ربوة دكاء وكان كالرمل المتلبد. (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أي فلما أفاق من غشيه قال سبحانك: أي تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغى فى شأنك مما سألت. وأكثر المفسرين يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنه سأل الرؤية بغير إذن من الله تعالى فتاب ورجع عما طلب. قال مجاهد: «تُبْتُ إِلَيْكَ» أن أسألك الرؤية: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» أي من بنى إسرائيل، وفى رواية عن ابن عباس: وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد. والخلاصة- إن موسى لما نال فضيلة التكليم بلا واسطة فسمع من عالم الغيب ما لم يسمع من قبل تاقت نفسه أن يمنحه الرب شرف رؤيته فطلب ذلك منه وهو يعلم أنه ليس كمثله شىء لا فى ذاته ولا فى صفاته التي منها كلامه، ولكن الله تبارك وتعالى قال له: «لَنْ تَرانِي» ولكى يخفف عليه ألم الرد أراه بعينه من تجليه للجبل ما فهم منه أن المانع من جهته لا من جانب الفيض الإلهى، حينئذ نزه الله وسبحه وتاب إليه من هذا الطلب، فبشره بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه وأمره أن يأخذ ما أعطاه ويكون من الشاكرين له كما قال: (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) أي اصطفيتك بتكليمى لك بلا توسط ملك وإن كان من وراء حجاب، وقد طلب موسى رفع هذا الحجاب لتحصل له الرؤيا مع الكلام.

(فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فخذ ما أعطيتك من الشريعة وهى التوراة وكن من جماعة الشاكرين لنعمتى عليك وعلى قومك، بإقامتها بقوة وعزيمة والعمل بها، وأداء حقوق نعمى جميعها عليك، تنل المزيد من فضلى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» . وقد تقدم أن قلنا إن الوحى إلى الرسل أنواع ثلاثة بينهما الله بقوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» . والخلاصة- إن إثبات الكلام والتكليم لله تعالى صريح فى القرآن الكريم فى آيات عدة لا تعارض بينها، وأما الرؤية ففيها آيات متعارضة كقوله تعالى «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» وقوله «لَنْ تَرانِي» وهما أصرح فى النفي من دلالة قوله تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» على الإثبات فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير فى القرآن وكلام العرب كقوله «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ» وقوله: «ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» وفى الأحاديث الصحيحة تصريح بإثبات الرؤية بحيث لا تحتمل تأويلا، والمرفوع منها مروى عن أكثر من عشرين صحابيا، ولم يرد فى معارضتها شىء أصرح من حديث عائشة عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها يا أماه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد قفّ شعرى مما قلت، أىّ أنت من: «ثلاث من حدّثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، وفى رواية فقد أعظم الفرية ثم قرأت: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ- وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» ومن حدثك أنه يعلم ما فى غد فقد كذب، ثم قرأت «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً» ومن حدثك أنه كتم شيئا من الدين فقد كذب ثم قرأت: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ

إِلَيْكَ» قال مسروق: وكنت متكئا فجلست وقلت: ألم يقل الله: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى» فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «إنما هو جبريل» . ومن هذا تعلم أن عائشة تنفى دلالة سورة النجم على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بالحديث المرفوع، وتنفى جواز الرؤية مطلقا أو فى هذه الحياة الدنيا بالاستدلال بقوله تعالى: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» وقوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» وهذا الاستدلال ليس نصا فى النفي حتى يرجح على الأحاديث الصريحة فى الرؤية وقد قال بها بعض علماء الصحابة. والمثبتون للرؤية يقولون: إن استنباط عائشة إنما هو لنفى الرؤية فى الدنيا فقط كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شئون البشر فى الآخرة على شئونهم فى الدنيا، لأن لذلك العالم سننا ونواميس تخالف سنن هذا العالم ونواميسه حتى فى الأمور المادية كالأكل والشرب، والمأكول والمشروب، فماء الجنة غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره فى مقره أو جوّه، قال ابن عباس: ليس فى الدنيا شىء مما فى الجنة إلا الأسماء. وجمهرة المسلمين أن رؤية العباد لربهم فى الآخرة حق وأنها أعلى وأكمل للنعيم الروحاني الذي يرتقى إليه البشر فى دار الكرامة، وأنها أحق ما يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهى المعبر عنها بقولهم: إنها رؤية بلا كيف. وبعد أن أخبر سبحانه فى الآيات السالفة أنه منع موسى رؤيته فى الدنيا وبشره بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالته وبكلامه أخبرنا فيما بعد بما أتاه يومئذ بالإجمال فقال: (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) أي إننا أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية والمواعظ التي تؤثّر فى القلوب ترغيبا وترهيبا

وتفصيلا لأصول الشرائع وهى أصول العقائد والآداب وأحكام الحلال والحرام والراجح أن هذه الألواح كانت أول ما أوتيه من وحي التشريع الإجمالى. أما سائر الأحكام التفصيلية من العبادات والمعاملات المدنية والحربية والعقوبات فكانت تنزل عليه وقت الحاجة كالقرآن. وقد اختلفوا فى عدد الألواح، فمن مقل قال إنها اثنان، ومن مكثر قال إنها عشرة أو سبعة. وجاء فى التوراة فى شأن الألواح فى سفر الخروج: «قال الرب لموسى اصعد إلى الجبل وكن هنا فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلّمهم الكلمات العشر» وجاء فيها أيضا: «ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة فى يده. لوحان مكتوبان على جانبيهما، من هنا ومن هناك كانا مكتوبين، واللوحان هما صفة الله والكتاب كتابة الله منقوشة على اللوحين» وجاء فيها: «وقال الرب لموسى أكتب لك هذا الكلام لأنى بحسبه عقدت عهدا معك ومع بنى إسرائيل وأقام هناك عند الرب أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر» ومن هذا تعلم أن ما كتبه المفسرون عن الإسرائيليات مخالفا لذلك فهو باطل، أراد به واضعوه الكذب والافتراء، فيجب علينا أن نمحص تلك الروايات ونحققها من كتبهم. (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي وكتبنا له فى الألواح ما ذكر وقلنا له: هذه وصايانا وأصول شريعتنا وكلياتها، فخذها بقوة وجدّ وعزم، ذاك أنك ستكون بها شعبا جديدا بعادات جديدة وأخلاق جديدة مخالفة فى جوهرها وصفاتها لما كان عليه من الذل والعبودية لدى فرعون وقومه، وما كان عليه من الشرك والوثنية التي ألفها وراضت نفسه لقبولها، فأنّي للقائد والمرشد أن يصلح ذلك الفساد ويرأب ذلك الصدع إذا لم يكن ذا عزيمة وقوة وبأس شديد وحزم فى أوامره ونواهيه؟. (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي وأمر قومك بالاعتصام بهذه الموعظة

والأحكام المفصلة فى الألواح التي هى منتهى الكمال والحسن كالإخلاص لله فى العبادة. إذ يتحلى العقل وتتزكى النفس، مع ترك اتخاذ الصور والتماثيل لأنها ذرائع للشرك وسبب للوصول إليه. (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي إن لم تأخذوا ما آتيناكم بقوة وتتبعوا أحسنه كنتم فاسقين عن أمر ربكم فيحل بكم ما حل بالفاسقين من قوم فرعون الذين أنجاكم الله منهم، ونصركم عليهم وسيريكم ما حل بهم بعدكم من الغرق. قال ابن كثير: أي سترون عاقبة من خالف أمرى وخرج عن طاعتى كيف يصبر إلى الهلاك والدمار. قال ابن جرير: وإنما قال (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) كما يقول القائل لمن يخالفه: سأريك غدا ما يصير إليه حال من خالف أمرى- على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه خالف أمره. وفى الآية عبرة لمن يقرؤها ويتدبر أمرها من وجوه: (1) إن الشريعة يجب أن تتلقى بعزيمة وجدّ لتنفيذ ما بها من الإصلاح وتكوين لأمة تكوينا جديدا، ومظهر ذلك الرسول المبلغ لها والداعي إليها والمنفذ لها بقوله وعمله فهو الأسوة والقدوة، وهذه سنة الله فى كل انقلاب، وتجديد اجتماعي وسياسى وإن لم يكن بهدى الله، فما بالك بالدين وهو أحوج ما يكون إلى إصلاح الظاهر والباطن، وقد أخذ سلفنا الصالح القرآن بقوة بالعمل بهداية دينهم لا بالتبرك بالمصاحف والتغني بالقرآن فى المحافل، فسادوا جميع الأمم التي كانت لها القوة الحربية والصناعية والمالية والعددية، وسعدوا به فى دنياهم وسيكونون كذلك فى آخرتهم، وخلف من بعدهم خلف أعرضوا عنه وتركوا هدايته فشقوا فى دنياهم وآخرتهم كما قال «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 إلى 147]

(2) إن شعب إسرائيل عظم ملكه حين أقام شريعته بقوة حتى إذا غلبه الغرور وظن أن الله ينصره لنسبه وأنه شعب الله ففسق وظلم أنزل الله به البلاء وسلط عليه البابليين فأزالوا ملكه، ثم ثاب إلى رشده فرحمه وأعاد إليه بعض ملكه، ثم ظلم وأفسد فسلط عليه النصارى فمزقوه كلّ ممزّق. (3) إن المسلمين الذين اتبعوا سننهم اغتروا بدينهم كما اغتروا واتكلوا على لقب (الإسلام) ولقب (أمة محمد) ولم يثوبوا إلى رشدهم، فزالت دولتهم وذهب ريحهم وامتلك عدوهم ناصيتهم وجد فى إفساد عقائدهم وأخلاقهم وإيقاع الشقاق فيما بينهم وتولى تربيتهم وتعليمهم كما يحب ويهوى، ولله الأمر من قبل ومن بعد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) تفسير المفردات التكبر: التكثر من الكبر، وهو غمط الحق بعدم الخضوع له، ويصحبه احتقار الناس، فصاحبه يرى أنه أكبر من أن يخضع لحق أو يساوى نفسه بشخص، والرشد والرشد والرشاد كالسقم والسقم والسّقام: الصلاح والاستقامة، وضده الغىّ والفساد، والآيات الأولى: هى البينات والدلائل، والثانية هى الآيات المنزلة من حبث اشتمالها على الهداية وتزكية النفوس.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السالفة ما لحق فرعون وقومه من الهلاك بسبب استكباره وظلمه وفساده فى الأرض- ذكر هنا سنته تعالى فى ضلال البشر بعد مجىء البينات وتكذيبهم لدعاة الحق والخير من الرسل وأتباعهم، وأبان أن السبب الأول لذلك هو التكبر، فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى، فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليه، ومن الغافلين عنه كما هى حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين كفرعون وملئه. وفى هذا إيماء للنبى صلى الله عليه وسلم بأن الطاغين المستكبرين من صناديد قومه لن ينظروا فى دعوته ولا فى آيات القرآن الدالة على وحدانية الله بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة من آيات كونية، وآيات فى الآفاق والأنفس. وجملة الموانع الصادّة لهم عن اتباعه ترجع إلى التكبر، فإنهم بزعمهم يعتقدون أنهم سادة قريش وكبراؤها وأقوياؤها فلا ينبغى أن يتبعوا من دونهم سنا وقوة وثروة وعصبية. الإيضاح (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتى وعلى الناس بغير حق- فهم الأدلة والحجج الدالة على عظمتى وعلى ما فى شرائعى من هدى وسعادة لهم كما قال «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» كما منعت فرعون وقومه عن فهم آيات موسى التي أوحيتها إليه، وقوله بغير الحق أي بتلبسهم بالباطل وانغماسهم فيه- إذ لا قيمة للحق فهم لا يبحثون عنه ولا يطلبونه، وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها وهم بها موقنون كما قال تعالى فى قوم فرعون «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا» .

ثم بين صفات المستكبرين وأحوالهم فقال: (1) (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي إنهم إذا رأوا الآيات التي تدل على الحق وتثبته لا يستفيدون منها فائدة ما فلا يؤمنون بها، لأن كثرة الآيات وتعدد أنواعها إنما تفيد من تكون نفسه تواقة لمعرفة الحق لكنه يجهل الوصول إليه أو يشك فى الطريق الموصلة إليه لتعارض الأدلة لديه لخفاء دلالتها أو لسوء فهمه لها، فإذا خفيت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيره فتنكشف الحقيقة واضحة أمامه وتسفر له عن وجهها، وفى هذا إيماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الذين يقترحون عليه الآيات من قومه لا يقصدون استبانة الحق وإيضاحه بل يريدون إحداث الشغب والتعجيز، فإن هم أجيبوا إلى طلبهم لم يؤمنوا بما جئت به. (2) (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) أي وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد وهى السبيل المعبّدة الواضحة، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يختارها لنفسه ولا يفضلها على ما هو عليه من سبيل الغى، وهذا منتهى ما يكون من الطبع على القلب والخروج عن جادّة العقل والفطرة، ومن الناس من يسلك هذه السبيل عن جهل فإذا رأى لنفسه مخرجا منها ارعوى وتركها واختار لنفسه سبيل الرشاد. (3) (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) أي إنهم إذا رأوا سبيل الغى والضلال هرعوا إليها وخبوا فيها وأوضعوا، بما تزينه لهم نفوسهم من سلوكها والسير فيها إلى آخر الحلبة، وهذه حال لهم شر من سابقتيها، وهؤلاء الذين اجتمعت لهم هذه الصفات هم الذين طبع الله على قلوبهم وختم على سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فسبيل الحق بغيضة إليهم، وطريقه مكروهة لديهم: ثم علل ما سلف من صرفهم عن النظر فى الآيات وعدم اعتبارهم بها فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) أي إننا عاقبناهم على تكذيبهم بالآيات والغفلة عن النظر إلى الأدلة الموصلة إلى الحق فيما أمرنا به ونهينا عنه- بالختم على قلوبهم، والغشاوة على أعينهم حتى لا يجد الحق منفذا فى الوصول إليها.

والخلاصة- إن الله لم يخلق هؤلاء مطبوعين على الغى والضلال طبعا، ولم يجبرهم إجبارا ويكرههم عليه إكراها، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم، إذ هم آثروا التكذيب بالآيات والصد عن السبل الموصلة إلى الرشاد وغفلوا عن النظر فى أدلتها، لشغلهم بأهوائهم واتباع شهواتهم، وبذا لجوا فى الطغيان، وتمادوا فى العصيان، واحتقروا ما سوى ذلك مما يهدى عقولهم إلى صوب الحق وسلوك طريقه. وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم الله بقوله: «وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» . ولا شك أن كثيرا من المسلمين الذين تعلموا التعاليم الغربية ورأوا زخرف المدنية الأوربية وغرّهم بهرجها وخلبتهم زينتها تنطبق عليهم هذه الصفات، فهم يحتقرون هداية الدين الروحية وأوامره ونواهيه وسائر تعاليمه وما له من تأثير عظيم فى النفوس وتوجيه لها إلى الخير، وصد لها عن الشر، والبعد عن الفواحش والمنكرات. ذاك أنهم رأوا أنفسهم بعيدين عن الفنون والصناعات وزخرف الحياة الذي وصل فيه الغربيون إلى الغاية القصوى وهم عبيد شهواتهم منصرفون عن هداية الأديان إلى أبعد غاية فحدثتهم أنفسهم أن ينهجوا نهجهم ويسيروا على سنتهم، علّهم يصلون فى ذلك إلى بعض ما وصلوا إليه، ولو ساغ لبنى إسرائيل ألا يتبعوا موسى عليه السلام لأنه لم يكن عنده من زينة الدنيا ومن الفنون والصناعات ومن رائع المدينة مثل ما كان عند فرعون وقومه ولساغ لهم أن ينحدروا فى تلك الهوّة ويقعوا فى تلك الحفرة. ولله فى خلقه شئون وهو يصرف الأمور بيده وله الأمر من قبل ومن بعد. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى على رسلنا، فلم يؤمنوا بها ولم يهتدوا بهديها، وكذبوا بما يكون فى الآخرة من الجزاء على الأعمال من ثواب

[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 إلى 149]

على الخير وعقاب على الشر- تحبط أعمالهم وتذهب سدى، لأنهم عملوا لغير الله وأتعبوا أنفسهم فى غير ما يرضى الله، فتصير أعمالهم وبالا عليهم ولا يحزون إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي، فأثّر فى نفوسهم وأرواحهم حتى دسّاها وأفسدها، فقد مضت سننه تعالى بجعل الجزاء فى الآخرة أثرا للعمل مرتبا عليه كترتيب المسبب على السبب، ولا يظلم ربك أحدا فى جزائه مثقال ذرة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 149] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) تفسير المفردات الحلىّ (بالضم والتشديد) واحدها حلى (بالفتح والتخفيف) . والعجل: ولد البقرة من العراب أو الجواميس كالحوار لولد الناقة والمهر لولد الفرس، والجسد: الجثة وبدن الإنسان والشيء الأحمر كالذهب والزعفران والدم الجاف، والخوار: صوت البقر كالرغاء لصوت الإبل، وسقط فى يده وأسقط فى يده (بضم أولهما على البناء للمفعول) أي ندم، ويقولون فلان مسقوط فى يده وساقط فى يده أي نادم. قال فى العباب وتاج العروس: هذا نظم لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب، وذكرت اليد لأن الندم يحدث فى القلب وأثره يظهر فيها بعضّها أو الضرب بها على أختها كما قال سبحانه فى النادم «فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها» ولأن اليد هى الجارحة العظمى وربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله تعالى «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ» .

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر خبر مناجاة موسى لربه واصطفائه إياه برسالاته وبكلامه وأمره بأخذ الألواح بقوة- ذكر هنا ما حدث أثناء المناجاة من اتخاذ قومه بنى إسرائيل عجلا مصوغا من الذهب والفضة، ثم عبادته من دون الله- لما رسخ فى نفوسهم من فخامة المظاهر الوثنية الفرعونية فى مصر- وقد ذكرت هذه القصة عقب تلك لما بينهما من العلاقات الظاهرة وللاشتراك فى الزمن. الإيضاح (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ) أي وصاغ بنو إسرائيل من بعد ما فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لمناجاته وفاء للموعد الذي وعده إياه- من حلى القبط التي كانوا استعاروها منهم عجلا جسدا له خوار أي تمثالا له صورة العجل وبدنه وصوته ثم عبدوه. والذي فعل ذلك كما سيأتى فى سورة طه هو السامري، وكان رجلا مطاعا فيهم ذا منزلة واحترام، وإنما نسبه إليهم لأنه عمل برأى جمهورهم الذين طلبوا أن يجعل لهم إلها يعبدونه. قال ابن كثير: وقد اختلف المفسرون فى ذلك العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين والله أعلم اهـ. ويرى الرأى الأول قتادة والحسن البصري فى جماعة آخرين، وتعليل ذلك عندهم أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبا فرسا ما وطئ بها أرضا إلا حلت فيها الحياة واخضرّ نباتها فأخذ من أثرها قبضة فنبذها فى جوف تمثال العجل فحلت فيه الحياة وصار يخور كما يخور العجل.

ويرى جماعة آخرون الرأى الثاني ويقولون: إن خواره كان بتأثير دخول الريح فى جوفه وخروجها من فيه، ذاك أنه صنع تمثال عجل مجوّفا ووضع فى جوفه أنابيب على طريق فنيّة مستمدة من دراسة علم الصوت وجعل وضعه على مهب أنابيب الرياح، فمتى دخلت الريح فى جوف التمثال انبعث منه صوت يشبه خوار العجل. وقال آخرون بل ذلك الخوار كان تمويها وعملا منه يشبه عمل: (الحواة) ذاك أنه جعل التمثال أجوف وجعل تحت المواضع الذي نصب فيه من ينفخ فيه من حيث لا يشعر الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار، والناس يفعلون مثل هذا فى النافورات التي تجرى فيها المياه، وبهذا الطريق ونحوه ظهر الصوت من التمثال ثم ألقى فى روع الناس أن هذا العجل إلههم وإله موسى فعبدوه كلهم إلا هارون كما قال الحسن. فرد الله عليهم ضلالاتهم وأبان لهم فساد آرائهم وقرعهم على جهالاتهم فقال: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) أي ألم يروا أنه فاقد لما يعرف به الإله الحق من تكليمه لمن يختاره من البشر لرسالته لتعليم عباده ما يجب عليهم معرفته من صفاته وسبيل عبادته كما كلم رب العالمين موسى وألقى إليه الألواح التي فيها من الشرائع ما يزكّى النفوس وتقوم بها مصالح العباد وعليها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم. وخلاصة ذلك- إنه فاقد لأهم صفة من صفات الإله الحق وهى صفة الهداية والإرشاد للعباد بإنزال الرسل الذين يختارهم إلى الناس- ومرجعها صفة الكلام. ثم أكد ما سلف وقرره بقوله: (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) أي إنهم لم يتخذوه عن دليل وبرهان بل اتخذوه عن تقليد للمصريين إذ رأوهم يعبدون العجل: (أبيس) من قبل، وعن تقليد لما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد فعبدوه مثلهم. وبهذا كانوا ظالمين لأنفسهم إذ هم يعملون ما يضرهم ولا ينفعهم بشىء. (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولما اشتد ندمهم وازدادت حسرتهم على ما فرط منهم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 إلى 151]

فى جنب الله وعلموا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل قالوا إن ذنبنا لعظيم وإن جرمنا لكبير، وإنه لن يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة الله التي وسعت كل شىء، ولئن لم يرحمنا ربنا بقبول توبتنا والتجاوز عن جريمتنا لنكونن من الذين خسروا سعادة الدنيا وهى الحرية والاستقلال فى أرض الموعد، وخسروا سعادة الآخرة وهى دار الكرامة والنعيم المقيم وجنات النعيم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151] وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) تفسير المفردات الأسف: الحزن والغضب، ويقال أسف من باب تعب حزن وتلهف، وأسف كغضب وزنا ومعنى، ويعدّى بالهمزة فيقال: آسفته، ومن استعمال الأسف بمعنى الحزن قوله تعالى حكاية عن يعقوب «وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» وبمعنى الغضب قوله: «فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ» وعجله: سبقه، وأعجله: استعجله، وألقى: طرح، والشماتة: الفرح بالمصيبة. المعنى الجملي بعد أن ذكر ما أحدثه السامري من اتخاذه العجل لبنى إسرائيل وعبادتهم له ثم ندمهم على ما فرط منهم فى جنب الله وطلبهم الرحمة من ربهم- ذكر هنا ما حدث

الإيضاح

من موسى من الأسى والحزن حين رأى قومه على هذه الحال من الضلال والغى، ومن التعنيف واللوم لهارون على السكوت على قومه حين رآهم فى ضلالتهم يعمهون. الإيضاح (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي ولما رجع موسى من الطور إلى قومه غضبان على أخيه هرون، إذ رأى أنه لم يكن فيهم صليب الرأى قوىّ الشكيمة، نافذ الكلمة، حزينا على ما وقع منهم من كفر الشرك وإغضاب الله والتفريط فى جنبه. (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد ذهابى عنكم إلى مناجاة ربى وقد كنت لقنتكم التوحيد، وكففتكم عن الشرك وبينت لكم فساده وسوء مغبته وحذرتكم صنيع القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من تماثيل البقر. وقد كان من الحق عليكم أن تقتفوا أثرى، وتتبعوا سيرتى بيد أنكم سلكتم ضد ذلك، فصنعتم صنما كأحد أصنامهم فعبده بعضكم ولم يردعكم عن ذلك باقيكم. (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟) قال صاحب الكشاف: المعنى أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدثتكم أنفسكم بموتى فغيّرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروى أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال: «هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى» إن موسى لن يرجع وإنه قد مات اهـ. (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أي وطرح الألواح من يديه وأخذ برأس أخيه يجره إليه بذؤابته ظنا منه أنه قد قصّر فى ردعهم وتأنيبهم وكفّهم عن عبادة العجل كما فعل هو بتحريقه وإلقائه فى اليم إن قدر، أو أن يتبعه إلى جبل الطور إن

لم يستطع كما حكى الله تعالى عنه فى سورة طه: «قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟» . ولا شك أن سياسة الأمم تختلف باختلاف أحوال رعاتها وسائسيها، فالقوى منهم الشديد الغضب للحق كموسى يشعر بما لا يشعر به من يغلب عليه الحلم ولين العريكة كهرون عليه السلام. ثم ذكر سبحانه جواب هرون لموسى فقال: (قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي يا ابن أمي لا تعجل بلومي وتعنيفى وتظنن تقصيرى فى جنب الله فإنى لم آل جهدا فى الإنكار على القوم والنصح لهم، لكنهم قد استضعفوني ولم يرعووا لنصحى ولم يمتثلوا لأمرى بل أوشكوا أن يقتلونى. (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فلا تفعل بي من اللوم والتقريع ما يجعل الأعداء يشمتون بي، ولا تجعلنى فى زمرة القوم الظالمين لأنفسهم، وهم الذين عبدوا العجل فتغضب منى كما غضبت منهم وتؤاخذني كما اخذتهم فإنى لست منهم فى شىء. وفى هذا دليل على أن هرون كان دون موسى فى شدة العزيمة وقوة الإرادة وأخذ الأمور بالحزم، وهذا ما أطبق عليه المسلمون وأهل الكتاب. ثم أبان سبحانه أثر هذا الاستعطاف فى قلب موسى عليه السلام فقال: (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي قال رب اغفر لى ما فرط منى من قول وفعل فيهما غلظة وجفاء، واغفر له ما عساه يكون قد قصّر فيه من مؤاخذة القوم على ما اجترموه من الآثام خوفا مما توقعه من الإيذاء الذي قد يصل إلى القتل، وأدخلنا فى رحمتك التي وسعت كل شىء واغمرنا بجودك وفضلك فأنت أرحم بعبادك من كل رحم. والآية صريحة فى براءة هرون من جريمة اتخاذ العجل وفى إنكاره على متخذيه

وعابديه من قومه، وبهذا قد صححت ما وقع فى التوراة التي بين يدى أهل الكتاب من نسبة اتخاذ العجل إلى هرون وجعله هو الفاعل لذلك كما جاء فى الفصل الثاني والثلاثين من سفر الخروج قال: ولما رأى الشعب أن موسى قد أبطأ فى النزول من الجبل اجتمع الشعب على هرون وقالوا: قم فاصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن موسى الرجل الذي كان قد أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما قد أصابه، فقال لهم هرون انزعوا أقراط الذهب التي فى آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي كانت فى آذانهم وأتوا بها إلى هرون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالأزميل وصنعه عجلا مسبوكا فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر، فلما نظر هرون بنى مذبحا أمامه ونادى هرون وقال: غدا عيد للرب فبكروا فى الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة، وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب، فقال الرب لموسى: اذهب انزل، لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر، زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به صنعوا عجلا مسبوكا وسجدوا له وذبحوا له وقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل الذي أصعدتك من أرض مصر- ثم قال: وكان عند ما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص فحمى غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما فى أسفل الجبل، ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعما وذرّاه على وجه الماء وسقى بنى إسرائيل وقال موسى لهرون: ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة فقال هرون: لا يحمم غضب سيدى على، أنت تعرف الشعب، إنه فى شر، فقالوا اصنع لنا آلهة تسير أمامنا ... ثم ذكر طلب موسى من الرب أن يغفر لقومه، وأمر الرب إياهم أن يقتل كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه، وكل واحد قريبه، وأن بنى لاوى فعلوا ذلك فقتل منهم فى ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل- وقد تقدم ذكر ذلك فى سورة البقرة.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 إلى 153]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 153] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) تفسير المفردات الغضب هنا: هو ما أمروا به من قتل أنفسهم، والذلة: هى ما يشعرون به من هوانهم على الناس واحتقارهم لهم، وقيل هى الذلة التي عرتهم عند تحريق إلاههم ونسفه فى اليم نسفا مع عدم قدرتهم على دفع ذلك عنه. المعنى الجملي بعد أن ذكر عتاب موسى لأخيه هارون عليهما السلام ثم استغفاره لنفسه وله- قفّى على ذلك بذكر ما استحقه القوم من الجزاء على اتخاذ العجل وهو مما أوحاه الله إلى موسى يومئذ. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن الذين بقوا على اتخاذ العجل واستمروا عليه كالسامرى وأشياعه- سيصيبهم غضب من ربهم بألا يقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم، وذلة عظيمة فى الحياة الدنيا بالخروج من الديار والغربة عن الوطن. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أي ومثل هذا الجزاء فى الدنيا نجزى المفترين على الله فى كل زمان إذا فضحوا بظهور افترائهم كما فضح هؤلاء. قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين. وروى عن أبي قلابة أنه قرأ هذه الآية وقال هى والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.

[سورة الأعراف (7) : آية 154]

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والذين عملوا السيئات من الكفر والمعاصي ثم تابوا رجعوا من بعدها إلى الله بأن رجع الكافر عن كفره والعاصي عن عصيانه وأخلص الإيمان وزكاه بالعمل الصالح- إن ربك من بعد ذلك لغفور لهم ستار لذنوبهم رحيم بهم منعم عليهم. وينتظم فى هذا السلك متخذو العجل وسواهم من المجترحين للسيئات، عظمت ذنوبهم أو حقرت، لأن الذنوب وإن جلّت وعظمت فعفو الله وكرمه أعظم وأجل على شريطة التوبة والإنابة، وبدونها الطمع فيه طمع فى غير مطمع، ألا ترى أن طمع الفساق فى المغفرة بدون الإنابة إلى ربهم قد ذهب بكثير من حرمة الأوامر والنواهي من قلوبهم، وجعلهم يستحلون كثيرا من المحرمات، وكانوا شرا ممن قال الله فيهم: «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» ولم يكن طمعهم ثمرة إيمان وعمل صالح بل هى أمانىّ جر إليها الحمق والغفلة عما يجب من تعظيم تلك الأوامر والنواهي: «إن الأمانى والأحلام تضليل» . [سورة الأعراف (7) : آية 154] وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) تفسير المفردات السكوت فى اللغة: ترك الكلام، نسب إلى الغضب على تصويره بصورة شخص ذى قوة ورياسة يأمر وينهى فيطاع، قال فى الكشاف: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء اهـ. وفى نسختها أي ما نسخ وكتب منها فهى من النسخ كالخطبة من الخطاب، وهدى: بيان للحق، ورحمة بالإرشاد إلى ما فيه الخير والإصلاح، والرهبة: أشد الخوف.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر حال القوم وقسمهم قسمين: مصرّ على الذنب وعبادة العجل. وتائب منيب إلى ربه، وبين مآل كل من القسمين- ذكر هنا بيان حال موسى بعد أن سكنت سورة غضبه وهدأ روعه. الإيضاح (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي ولما سكن غضب موسى باعتذار أخيه إليه ولجأ إلى رحمة ربه وفضله وجأر بالدعاء له أن يغفر له ولأخيه خطاياهما عاد إلى الألواح فأخذها، وفيها الهدى والرشاد من بارئ النسم لمن يرهب الله ويخشى عقابه ويرجو ثوابه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 157] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يقال اختاره من الرجال وانتقاه: اصطفاه من بينهم، والرجفة: الصاعقة، والفتنة: الاختبار والامتحان مطلقا أو بالأمور الشاقة، والولي. المتولى أمور غيره القائم عليها، والحسنة فى الدنيا: هى العافية وبسطة الرزق وعز الاستقلال والملك، وفى الآخرة دخول الجنة ونيل الرضوان، وهاد يهود وتهود: تاب ورجع إلى الحق فهو هائد وقوم هود، والنبي من النبأ: وهو الخبر المهم العظيم الشأن وفى لسان الشرع من أوحى الله إليه وأنبأه بما لم يكن يعلم بكسبه من خبر أو حكم به يعلم علما ضروريا أنه من الله عز وجل، والرسول: نبى أمره الله بتبليغ شرع ودعوة دين وبإقامته والعمل به ولا يشترط أن بكون كتابا يقرأ وينشر ولا شرعا جديدا يعمل به ويحكم بين الناس، بل قد يكون تابعا لشرع غيره كله كالرسل من بنى إسرائيل الذين كانوا يتبعون التوراة عملا وحكما، والأمى: الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأم، وأهل الكتاب يلقبون العرب بالأميين كما حكى الله عنهم: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» والمعروف: ما تعرف العقول السليمة حسنه لموافقته للفطرة والمصلحة بحيث لا تستطيع أن ترده أو تعترض عليه إذا ورد به الشرع، والمنكر: ما تنكره القلوب وتأباه على الوجه المذكور، والطيب: ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وتستفيد منه التغذية النافعة، والخبيث من الأطعمة ما تمجّه الطباع السليمة كالميتة والدم المسفوح، أو تصد عنه العقول الراجحة لضرره فى البدن كالخنزير الذي تتولد من أكله الدودة الوحيدة، أو لضرره فى الدين كالذى يذبح للتقرب به إلى غير الله على سبيل العبادة، والخبيث من الأموال:

الإيضاح

ما يؤخذ بغير حق: كالرياء والرشوة والغلو والسرقة والغصب ونحو ذلك، والإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه: أي يحبسه من الحركة لثقله، والأغلال: واحدها غل (بالضم) وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا، والتعزير: الإعانة والنصرة حتى لا يقوى عليه عدو. الإيضاح (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا) أي وانتخب موسى واصطفى سبعين رجلا من خيار قومه للميقات الذي وقته الله تعالى له ودعاهم للذهاب معه إلى حيث يناجى ربه من جبل الطور. (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أي فلما أخذتهم رجفة الجبل وصعقوا قال موسى رب إننى أتمنى أن لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معى إلى هذا المكان فأهلكتهم وأهلكتنى معهم حتى لا أقع فى شديد الحرج مع قومى فيقولوا قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم وإن لم تفعل فإنى أسألك برحمتك ألا تفعل الآن. وقد اختلف المفسرون فى أن هذا هل كان بعد أن أفاق موسى من صعقة تجلى ربه للجبل عقب سؤاله الرؤية إذ كان معه شيوخ بنى إسرائيل ينتظرونه مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة- أو كان بعد عبادة العجل حين ذهبوا للاعتذار وتأكيد التوبة وطلب الرحمة. قال محمد بن إسحق: اختار موسى من بنى إسرائيل سبعين رجلا الخيّر فالخيّر وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لى حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه: يا موسى اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع

عليه عمود الغمام حتى تغشى الليل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا فى الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى: يأمره وينهاه افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام، أقبل إليهم فقالوا لموسى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» فأخذتهم الرجفة وهى الصاعقة فأتلفت أرواحهم فماتوا جميعا، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: «رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى» قد سفهوا، أتهلك من ورائي من بنى إسرائيل اهـ. ولا شك أن هذه الرواية ونحوها مأخوذة عن الإسرائيليات وليس فيها شىء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) أي قال موسى لربه مستعطفا: لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل. وفى هذا إيماء إلى أن عقلاء بنى إسرائيل وأصحاب الروية منهم لم يعبدوه إنما عبده السفهاء، وهم الأكثرون. (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) أي ما تلك الفعلة التي كانت سببا فى أخذهم بالرجفة إلا محنة منك وابتلاء، جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية وما يستحقون عليه العقوبة أو المثوبة بحسب سنتك فى خلقك بالعدل والحق، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك ولست بالظالم لهم فى تقديرك، وتهدى من تشاء ولست بالمحابي لهم فى توفيقك، فأمرهم دائر بين العدل والفضل. (أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أي أنت المتولّى أمورنا والقائم علينا بما تكتسب نفوسنا، فاغفر لنا ما تترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك،

والتقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك، وارحمنا وأنت خير الغافرين حلما وكرما وجودا، فكل غافر سواك إنما يغفر لغرض كحب الثناء ودفع الضرر، وأنت تغفر لا لطلب عوض بل لمحض الفضل والكرم، وأنت خير الراحمين رحمة، وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا، فرحمة من سواك نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك. (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أي وأثبت لنا برحمتك وفضلك حياة طيبة فى هذه الدنيا من عافية وبسطة فى الرزق وتوفيق للطاعة، ومثوبة حسنة فى الآخرة بدخول جنتك ونيل رضوانك، فهو بمعنى قوله فيما علّمنا من دعائه: «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» . (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي إنا تبنا مما فرط من سفهائنا من طلب الآلهة وعبادة العجل ومن تقصير عقلائنا فى الإنكار عليهم- مستغفرين مسترحمين كما فعل من قبل آدم إذ تاب إليك من معصيته فتبت عليه واجتبيته فكانت تلك سنتك فى ولده. (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أي قد كان من سبق رحمتى غضبى أن جعلت عذابى خاصا أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة أما رحمتى فقد وسعت كل شىء فى العالمين فهى من صفاتى التي قام بها أمر العالم منذ خلقته، والعذاب من أفعالى المترتبة على صفة العدل، ولولا الرحمة العامة المبذولة لكل أحد لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» . ثم ذكر من ستكتب لهم الرحمة فقال: (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي فأثبت رحمتى بمشيئتى للذين يتقون الكفر والمعاصي ويؤتون الصدقة التي تتزكى بها أنفسهم، وخص الزكاة بالذكر دون ما عداها من الطاعات، لأن النفوس شحيحة ففتنته تقتضى أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين غيرها من الطاعات، كما أن فى ذلك

إيماء إلى أن اليهود أشربوا فى قلوبهم حب المال وفتنوا بجمعه ومنع بذله فى سبيل الله، كما أنى سأكتبها كتبة خاصة للذين يصدّقون بجميع آياتنا التي تدل على توحيدنا وصدق رسلنا تصديق إيقان مبنى على العلم الصحيح دون تقليد للآباء والأجداد. (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) أي إن كتابة الرحمة كتابة خاصة لمن يتصفون بالصفات الثلاث المتقدمة: وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمى وهو وصف خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه غيره من النبيين. فالأمية آية من آيات نبوته، فهو مع أميته قد جاء بأعلى العلوم النافعة التي بها يصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم، فغيّر نظم البشر فى تلك الحقبة الطويلة وأثر فى حياة الأمم التي حوله أكبر الأثر بما شهد له المنصفون فى كل الأديان. وقد وصف الله ذلك الرسول الذي أوجب اتباعه على كل من أدركه من بنى إسرائيل بصفات: (1) إنه نبى أمي. (2) إنه هو (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) أي يجد الذين يتبعونه من بنى إسرائيل وصفه مكتوبا فى التوراة والإنجيل بحيث لا يشكّون أنه هو. فقد جاء فى الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية: «جاء الرب من سينا وأشرق لنا من ساعير واستعلى من جبال فاران ومعه ألوف الأطهار، فى يمينه قبس من نار» فمجيئه من سينا إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام، واستعلاؤه من جبال فاران إنزاله القرآن، لأن فاران من جبال مكة. وجاء فى الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا: «فأما إذا جاء الفار قليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق فهو يشهد لى وأنتم تشهدون لأنكم معى من الابتداء- والفارقليط بالعبرية معناه أحمد- كما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» وجاء فى سفر التكوين: «فلا يزول القضيب من يهوذا والراسم

من تحت أمره إلى أن يجىء الذي هو له وإليه تجتمع الشعوب» وفى هذا دلالة على مجىء محمد عليه السلام بعد تمام حكم موسى وعيسى، لأن المراد من الحاكم موسى لأنه ما جاء بعد يعقوب صاحب شريعة إلا هو، والمراد من الراسم عيسى وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلا محمد عليه الصلاة والسلام. وعلى الجملة، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يتناقلون خبر بعثته صلى الله عليه وسلم فيما بينهم ويذكرون البشارات من كتبهم، حتى إذا ما بعثه الله بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون وكان علماؤهم يصرحون بذلك كعبد الله بن سلام وأصحابه من علماء اليهود وتميم الداري من علماء النصارى وغيرهم من الذين أسلموا فى عصر النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الذين استكبروا فكانوا يكتمون البشارات به فى كتبهم ويؤولون كثيرا منها ويكتمونه عمن لم يطلع عليه، وقد قيّض الله عالما من علماء الهند يسمى الشيخ رحمة الله فى القرن الماضي لتحقيق هذه البشارات فى كتاب سماه: [إظهار الحق] وتناول فيه مسائل غاية فى الأهمية، ويجدر بمن يريد التوسع فى هذه المسائل أن يطلع عليه وهو مطبوع متداول بين أيدى الناس. (3، 4) إنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي لا يأمر إلا بالخير ولا ينهى إلا عن الشر كما قال عبد الله بن مسعود: إذا سمعت الله يقول «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فأرعها سمعك، فإنه خير تؤمر به أو شر تنتهى عنه اهـ. ومن أهم ما أمر به عبادة الله وحده لا شريك له، ومن أهم ما نهى عنه عبادة ما سواه كما هو شأن جميع الرسل فى ذلك كما قال: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» . (5، 6) إنه (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أي إنه يحل لهم ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وفيه فائدة فى التغذية، ويحرّم عليهم ما تستقذره

النفوس: كالميتة والدم المسفوح وما يؤخذ من الأموال بغير حق كالربا والرّشوة والغصب والخيانة. (7) إنه (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي إنه يضع عنهم التكاليف الشاقة كاشتراط قتل الأنفس فى صحة التوبة والقصاص فى القتل العمد أو الخطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة وقطع موضع النجاسة من الثوب وتحريم السبت. وقال ابن كثير: أي إنه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد فى الحديث: «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن. «بشّروا ولا تنفّروا، ويسروا ولا تعسّروا، وتطاوعا ولا تختلفا» . والخلاصة- إن بنى إسرائيل كانوا قد أخذوا بالشدة فى أحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات فكان مثلهم مثل من يحمل أثقالا يئطّ منها وهو موثق بالسلاسل والأغلال فى عنقه ويديه ورجليه، وقد خفف المسيح عليه السلام عنهم بعض التخفيف فى الأمور المادية، وشدد فى الأحكام الروحية إلى أن جاءت الشريعة الوسطى السمحة التي بعث بها خاتم الرسل محمد صلوات الله عليه. ثم بين سبحانه وتعالى كيفية اتباعه عليه الصلاة والسلام وعلو مرتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة فى الدارين إثر بيان نعوته الجليلة فقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن الذين آمنوا بالرسول الأمى حين بعث- من قوم موسى ومن كل أمة، وعزروه بأن منعوه وحموه من كل من يعاديه مع التعظيم والإجلال، لا كما يحمون بعض ملوكهم مع الكره والاشمئزاز، ونصروه باللسان والسّنان، واتبعوا النور الأعظم الذي أنزل مع رسالته وهو القرآن، أولئك هم المفلحون الفائزون بالرحمة والرضوان دون سواهم من حزب الشيطان الذين خذلهم الله فى الدنيا والآخرة.

[سورة الأعراف (7) : آية 158]

[سورة الأعراف (7) : آية 158] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) الإيضاح بعد أن حكى عز اسمه ما فى التوراة والإنجيل من نعوته صلى الله عليه وسلم وذكر شرف من يتبعه من أهلهما ونيلهما سعادة الدنيا والآخرة- قفى على ذلك ببيان عموم بعثته صلى الله عليه وسلم ودعوة الناس كافة إلى الإيمان به وأمره بتبليغهم دعوته فقال: (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أي قل لجميع البشر من عرب وعجم إنى رسول الله إليكم كافة لا إلى قومى خاصة فهو بمعنى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» وقوله «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» أي وأنذر به كل من بلغه من النقلين، وقوله: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» . وجاءت أحاديث صحيحة ناطقة باختصاصه صلى الله عليه وسلم بالرسالة العامة كحديث جاء فى الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلى: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصلّ، وأحلّت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى، وأعطيت لى الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» . ثم وصف الله تعالى نفسه بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وبالإحياء والإماتة فقال: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) أي إن الله الذي

أنا رسوله هو من له التصرف فى السموات والأرض وتدبير العالم كله، إذ وحدة النظام فى جملة المخلوقات وعدم التفاوت فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها، فهو المعبود وحده لا إله إلا هو. وتوحيد الربوبية بالإيمان وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل: أي بعبادة الله وحده- هما أصل الدين والركن الأول فى العقيدة. والركن الثاني الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والركن الثالث عقيدة البعث بعد الموت وهى تتضمن الإحياء والإماتة وتصرف الرب فى خلقه. وقد بنى على تقرر هذه الأمور الثلاثة الدعوة إلى الإيمان فقال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) أي فآمنوا أيها الناس جميعا بالله الواحد فى ربوبيته وألوهيته الذي يحيى كل ما تحلّه الحياة ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة، وهذا أمر مشاهد كل يوم. وآمنوا برسوله النبي الأمى الذي بعثه فى الأميين رسولا إلى الخلق أجمعين، يعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من خرافات الشرك والجهل والتفرق والتعادي ليكونوا بهدايته أمة واحدة يتحقق بها الإخاء البشرى العام، وقد بشر بهذا النبي الأنبياء صلوات الله عليهم، لأنه المتمم لما بعثوا به من هداية الناس. (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ) أي يؤمن بتوحيد الله وكلماته التشريعية التي أنزلها لهداية خلقه على ألسنة رسله وهى مظهر علمه ورحمته، وكلماته التكوينية التي هى مظهر إرادته وقدرته وحكمته. وبعد أن أمرهم سبحانه بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي واسلكوا طريقه، واقتفوا أثره فى كل ما يأتى وما يذر من أمور الدين رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه إلى ما فيه سعادتكم فى الدنيا والآخرة وتلك هى الثمرة التي تجنى منهما، فما آمن قوم بنبي إلا كانوا بعد الإيمان

[سورة الأعراف (7) : آية 159]

به خيرا مما كانوا قبله من العزة والكرامة فى دنياهم وسعادتهم فى آخرتهم بنيل رصوان ربهم والحظوة بالقرب منه. وليس من التشريع الذي يجب فيه امتثال الأمر واجتناب النهى- ما لا تعلق له بحق الله ولا حق خلقه من جلب مصلحة أو دفع مفسدة كمسائل العادات والزراعات والصناعات والعلوم والفنون المبنية على التجارب وما جاء فيها من أمر ونهى فهو إرشاد لا تشريع- وقد ظن بعض الصحابة أن إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأمور الدنيوية المبنية على التجارب من قبيل التشريع كامتناعهم عن تلقيح النخل حين نهاهم عنه فأشاص: (أي خرج ثمره شيصا رديئا) فراجعوه فأخبرهم أن ما قاله كان عن ظن ورأى، لا عن تشريع ووحي، وقال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» والحكمة فى ذلك تنبيه الناس إلى أن مثل هذه الأمور الدنيوية والمعاشية متروكة لمعارف الناس وتجاربهم. [سورة الأعراف (7) : آية 159] وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) المعنى الجملي بعد أن بين عز اسمه كتابته للرحمة لمن يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم من قوم موسى ووصفهم بأنهم هم المفلحون- ذكر هنا حال خواص أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا متبعين له حق الاتباع وعطفهم على المهتدين باتباع خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. الإيضاح (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الأمة: الجماعة الكثيرة، ويهدون: يرشدون ويدلون، والعدل الحكم بين الناس بالحق- يقال هو يقضى بالحق ويعدل وهو حكم عادل أي ومن قوم موسى جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي

[سورة الأعراف (7) : آية 160]

جاءهم به من عند الله ويعدلون به دون غيره إذا حكموا بين الناس، فلا يتبعون هوى ولا يأكلون سحتا ولا رشى، وهؤلاء من كانوا فى عصر موسى وممن بعد عصره حتى بعد ما ضاع أصل التوراة ووجدت النسخ المحرفة بعد السبي، فإن الأمم الكبيرة لا تخلو من أهل الحق والعدل. ونحو الآية قوله: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً» . وقد ورد فى خيار أهل الكتاب ثلاثة أنواع من الآيات: (1) ما كان منها صريحا فى الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به كقوله فى سورة البقرة: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» . (2) ما كان صريحا فى الذين كانوا فى عهد موسى عليه السلام واتبعوه أو اتبعوا من بعده من أنبيائهم إلى عهد البعثة العامة قبل بلوغ دعوتها كالآية التي نحن نفسرها. (3) ما كان محتملا للقسمين كقوله «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ» . [سورة الأعراف (7) : آية 160] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

تفسير المفردات

تفسير المفردات قطعناهم أي صيرناهم قطعا وفرقا كل فرقة منها سبط، والسبط: ولد الولد مطلقا، وقد يخص بولد البنت، وأسباط بنى إسرائيل سلائل أولاده العشرة: أي ماعدا لاوى وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما إفرايم ومنسى، إذ سلائل لاوى نيطت بها خدمة الدين فى جميع الأسباط ولم تجعل سبطا مستقلا، والأمة: الجماعة التي تؤلف بين أفرادها رابطة خاصة أو مصلحة واحدة أو نظام واحد، والاستسقاء: طلب الماء للسقيا، والانبجاس والانفجار واحد، يقال: بجسه فانبجس وبجّسه فتبجس كما يقال فجره: أي شقه فانفجر، وقال الراغب: الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شىء ضيق، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شىء واسع، والغمام: السحاب مطلقا أو الأبيض منه أو الرقيق، والمنّ مادة بيضاء تنزل من السماء كالطلّ حلوة الطعم شبيهة بالعسل وإذا جفّت كانت كالصمغ. والسلوى: طير يشبه السّمانى (السمان) لكنه أكبر منه. المعنى الجملي ذكر سبحانه فى هذه الآية حالين من أحوال بنى إسرائيل، أولاهما: أنه قسمهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر، ثانيتهما: أنهم لما استسقوا موسى ضرب الحجر فانبجس منه اثنتا عشرة عينا بقدر عدد الأسباط وقد تقدم ذكر هاتين الواقعتين فى سورة البقرة. الإيضاح (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) أي وفرقنا قوم موسى الذين كان منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ومنهم الظالمون والفاسقون، فجعلناهم اثنتي عشرة فرقة تسمى أسباطا: أي أمما وجماعات يمتاز كل منهم بنظام خاص فى معيشته وبعض شئونه. (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) أي وأوحينا إلى موسى. حين استسقاه قومه فاستسقى ربه لهم-

أن اضرب بعصاك الحجر فضر به فنبعت منه عقب ضربه إياه اثنتا عشرة عينا من الماء بقدر عدد أسباطهم، وخص كل واحد بعين منها للزحام وحفظا للنظام. وفى سفر العدد من التوراة أن عدد الرجال الصالحين للحرب من بنى إسرائيل كان يزيد على ستمانة ألف من ابن عشرين فما فوق وعلى هذا فيكون عددهم جميعا يزيد على ألفى ألف (مليونين) وابن خلدون قال فى مقدمته: إن هذا العدد لا يتصور بقاؤه فى صحراء مجدبة قليلة المياه بحال فلا ينبغى للمؤرخين اعتماد هذا. كذلك ما ورد من حجم الحجر وشكله ككون رأسه كرأس الشاة أو أكبر وكونه يوضع فى الجوالق أو يحمل على ثور أو حمار فكل ذلك من الخرافات الإسرائيلية التي تلقاها المفسرون بالقبول على غرابتها. (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) أي وسخرنا لهم الغمام يلقى عليهم ظله فيقيهم لفح الشمس من حيث لا يحرمون فائدة نورها وحرها المعتدل، ولولا السحاب فى التيه لأحرقتهم حرارتها إذ لم يكن هناك من الشجر ما يستظلون به. (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) فسهلنا عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه وكان المن يقوم مقام الخبز عندهم ويكفى الألوف من الناس، وتقوم السّمانى مقام اللحوم والطيور الأخرى. (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، أي وأنزلنا عليهم ما ذكر قائلين لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم، وفى ذلك تنبيه وتذكير بما كان يجب عليهم من شكر هذه النعم. (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمونا بكفرهم بهذه النعم، بل ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والإنكار، وقد كان ذلك من دأبهم وعادتهم آنا بعد آن، وقد جاء فى الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذرّ مرفوعا «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضرّى فتضرونى، ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى» .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 إلى 162]

ولا شك أن من ظلم نفسه كان لغيره أظلم، وإن كان ظلمه لنفسه مما يجهل أنه ظلم لها، إذ يتجلى له فى صورة المنفعة وتكون عاقبته مضرة، وهكذا الحال فى جميع الظالمين والمجرمين، فهم يظنون أنهم بظلمهم وإجرامهم ينفعون أنفسهم جهلا منهم للعواقب وقلة تدبر ما ينبغى أن يتفطّن له. [سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162] وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) الإيضاح تقدم مثل هاتين الآيتين فى سورة البقرة غير أن بين الموضعين فروقا: (1) إنه قال هنا: اسكنوا القرية، وفى سورة البقرة: «ادْخُلُوا» والفائدة هنا أتم، لأن السكنى تستلزم الدخول دون العكس. (2) إنه قال هنا: (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) وفى سورة البقرة، «فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً» ، فجاء العطف هناك بالفاء لأن بدء الأكل يكون عقب الدخول كأكل الثمرات والفواكه التي تكون فى كل ناحية من القرية- أما السكنى فأمر ممتد يكون الأكل فى أثنائه لا عقبه، كما وصف هناك الأكل بالرغد وهو: الواسع الهنيء لأن الأكل فى أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى والإقامة لا يكون كذلك. (3) إنه قال هنا: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) وقدم هنا ما أخر هناك وأخر ما قدمه، والواو لا تدل على طلب ترتيب بين الأمرين، فالاختلاف فى التعبير دالّ على عدم الفرق بين تقديم هذا وتأخير ذاك وبين عكسه، إذ لا فارق بين أن يدعوا بقولهم: (حِطَّةٌ) أي حط عنا أوزارنا وخطايانا الذي هو بمعنى قولنا اللهم غفرا-

فى حال التلبس بالتواضع والخضوع وتنكيس الرءوس شكرا لله على نعمه عند دخول القرية، وبين أن يبدءوا بتنكيس الرءوس والخضوع والتواضع ثم يدعوا بقولهم (حِطَّةٌ) . (4) إنه قال هنا: (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بدون واو، وهناك: «وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ» بالعطف والمعنى واحد وترك الواو أدل على أن الزيادة تفضل من الله ليست مشاركة للمغفرة فيما جعل سببا لها من الخضوع والسجود والاستغفار والدعاء بحط الأوزار. (5) إنه قال هاهنا (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) : فزيد منهم على مثله فى سورة البقرة. ومعنى تبديلهم قولا غير الذي قيل لهم: أنهم عصوا بالقول والفعل وخالفوا الأمر مخالفة تامة لا تحتمل اجتهادا ولا تأويلا فلم يراعوا ظاهر مدلول اللفظ ولا الفحوى والمقصود منه، حتى كأن المطلوب منه غير الذي قيل لهم. وما روى فى الإسرائيليات من هذا التبديل من الألفاظ العبرانية أو العربية- فلا ثقة به، وإن خرّج بعضه فى الصحيح والسنن موقوفا ومرفوعا كحديث أبي هريرة فى الصحيحين وغيرهما- قيل لبنى إسرائيل: (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: (حِطَّةٌ) حبة فى شعيرة، إذ هو مروى من طريق هماّم بن منبّه أخى وهب وهما صاحبا الغرائب فى الإسرائيليات، وأبو هريرة لم يصرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار إذ ثبت أنه روى عنه. (6) إنه قال هنا: (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) وقال هناك «فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» فالاختلاف بين الإنزال والإرسال وهو خلاف لفظى، وبين عليهم وعلى الذين ظلموا، وبين يظلمون ويفسقون، وفائدته بيان أنهم كانوا يجمعون بين الظلم الذي هو نقص للحق أو إيذاء للنفس أو للغير، والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة، والرجز كما تقدم العذاب الذي تضطرب له القلوب أو يضطرب له الناس فى شئونهم ومعايشهم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 163 إلى 166]

والعبرة فى هذا القصص أن نعلم أن الله يعاقب الأمم على ذنوبها فى الدنيا قبل أن يعذبها فى الآخرة، وأن نبتعد بقدر الطاقة عن الظلم والفسق، فقد عاقب الله بنى إسرائيل بظلمهم ولم يحل دون عقابه ما كان لهم من فضائل ومزايا ككثرة الأنبياء فيهم وتفضيلهم على العالمين كما تقدم [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) تفسير المفردات القرية: هى أيلة، وقيل مدين، وقيل، طبريّة والعرب تسمى المدينة قرية، حاضرة البحر: أي قريبة منه على شاطئه، ويعدون فى السبت: أي يتجاوزون حكم الله بالصيد المحرّم عليهم فيه، وحيتانهم: سمكهم، ويوم سبتهم: أي تعظيمهم للسبت يقال سبتت اليهود تسبت إذا عظّمت السبت بترك العمل فيه وتخصيصه للعبادة، وشرّعا: واحدها شارع كركّع وراكع: أي ظاهرة على وجه الماء، ونبلوهم: نختبرهم، وأمة منهم: أي جماعة منهم، والمعذرة: بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب، فمعنى معذرة إلى ربكم: قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى، ونسوا ما ذكروا به: أي تركوه

المعنى الجملي

ترك الناسي وأعرضوا عنه إعراضا تاما، والسوء. العمل الذي تسوء عاقبته، والبئيس: الشديد من البأس وهو الشدة، أو من البؤس وهو المكروه أو الفقر، والعتو: الإباء والعصيان، وخاسئين: أي أذلاء صاغرين. المعنى الجملي ذكرت هذه القصة فى سورة البقرة إجمالا وهاهنا ذكرت تفصيلا، إذ كانت سورة الأعراف نزلت بمكة فى أوائل الإسلام ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقى أحدا من اليهود وقد كان أميالا يقرأ كتابا كما قال تعالى: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» فكان ذلك أدل على الإعجاز. الإيضاح (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والسؤال للتقرير المتضمن للتقريع والتوبيخ وبيان أن كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبمعجزاته ليس بدعا جديدا منهم، فإن أسلافهم أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة واعتدوا هذا الاعتداء الشائن الذي قص الله خبره. والمعنى- واسأل بنى إسرائيل عن أهل المدينة التي كانت قريبة من البحر راكبة على شاطئه (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي اسألهم عن حالهم حين كانوا يعتدون فى السبت ويجاوزون حكم الله بالصيد فيه وقد نهوا عنه. (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) أي يأتيهم السمك ظاهرا على وجه الماء يوم تعظيمهم للسبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه ابتلاء من الله واختبارا لهم. (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم

السبت حذرا من صيدهم لاعتيادها أحوالهم قيل إنها اعتادت ألا يتعرض أحد لصيدها يوم السبت فأمنت وصارت تظهر فيه وتخفى فى الأيام التي لا يسبتون فيها لما اعتادت من اصطيادها فيها، فلما رأوا ظهورها وكثرتها فى يوم السبت أغواهم ذلك بالاحتيال على صيدها فيه. (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي مثل هذا البلاء بظهور السمك يوم السبت نبتليهم ونعاملهم معاملة المختبر لحال من يراد إظهار حاله ليترتب الجزاء على عمله بسبب فسقهم المستمر على أمر ربهم واعتدائهم حدود شرعه، فقد جرت سنة الله بأن من أطاعه سهل له أمور الدنيا وأجزل له الثواب فى الآخرة، ومن عصاه: ابتلاه بأنواع المحن والبلاء. (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً؟) أي واسألهم عن حال أهل تلك القرية حين قالت جماعة منهم هذه المقالة، وفى ذلك دلالة على أن الذين كانوا يعدون فى السبت بعض أهل القرية لا جميعهم وأن أهلها كانوا فرقا ثلاثا: (1) فرقة العادين فى السبت التي أشير إليها فى الآية الأولى. (2) فرقة الواعظين لهؤلاء العادين لينتهوا عن عدوانهم ويكفّوا عنه. (3) فرقة اللائمين للواعظين التي قالت لهم: لم تعظون قوما قد قضى الله عليهم بالهلاك بالاستئصال أو بعذاب شديد دون الاستئصال، أو المراد مهلكهم فى الدنيا ومعذبهم فى الآخرة. (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي قال الواعظون للائمين لهم: نعظكم عظة اعتذار نعتذر بها إلى ربكم عن السكوت على المنكر، فإذا طولبنا بإقامة فريضة النهى عن المنكر قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين- إلى أنا نرجو أن ينتغعوا بالموعظة فيحملهم ذلك على اتقاء الاعتداء الذي اقترفوه، إذ نحن لم نيأس من رجوعهم إلى الحق كما أنتم منهم يائسون.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي إنهم لما تركوا ما ذكّرهم به الصالحون وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسىّ فى كونه لا تأثير له. (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) أي أنجينا الذين ينهون عن العمل السيء وهما الفريقان الآخران. (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي وأخذنا الذين ظلموا أنفسهم بشديد العذاب بسبب تماديهم فى الفسق حتى صار ديدنهم وهجّيراهم. والخلاصة- إنه لما ذكّر المذكّرون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين. وقد جرت سنة الله بألا يؤاخذ الظالم فى الدنيا بكل ما يقع منه من ظلم ولو كان قليلا فى الصفة أو العدد كما يدل على ذلك قوله: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وقوله: «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» ولكنه يؤاخذ الأمم والشعوب فى الدنيا قبل الآخرة بما يقع منها من ظلم يظهر أثره بالاستمرار عليه كما قال: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» كما عاقب الله بنى إسرائيل كافّة بتنكيل البابليين ثم النصارى بهم وسلبهم ملكهم حين عم فسقهم ولم يدفع ذلك وجود بعض الصالحين فيهم. وعلى الجملة فالآية صريحة فى هلاك الظالمين الفاسقين ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر، وسكت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم، وهى ناجية أيضا لأنها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له بدليل أنها تفعله، وإنما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهى واعتقادها أن القوم قد استحقوا عقاب الله بإصرارهم على الفسق فلا يفيدهم الوعظ وهذا رأى ابن عباس. (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي فلما تمردوا وتكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهاهم عنه الواعظون قلنا لهم كونوا قردة صاغرين أذلاء بعداء عن الناس: أي تعلقت إرادتنا بأن يكونوا كذلك.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 167 إلى 171]

وهذا الجزاء تفصيل للعذاب البئيس الذي ذكر فى الآية السالفة، وقيل إنه عذاب آخر، فقد عاقبهم أولا بالبؤس والشقاء فى المعيشة، إذ من الناس من لا يربيه ولا يهذبه إلا الشدة والبؤس، ولما لم يزدهم البؤس إلا عتوّا وإصرارا على الفسق والظلم مسخهم مسخ خلق وجسم فكانوا قردة على الحقيقة وهذا ما يراه جمهرة العلماء، أو مسخ خلق ونفس فكانوا كالقردة فى الطيش والشر والإفساد لما تصل إليه أيديهم وهذا رأى مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفّقوا لفهم الحق. وفى الآية إيماء إلى أن هذا المسخ كان لمخالفتهم الأوامر وتماديهم فى العصيان ولم يكن لاصطياد الحيتان فحسب [سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 171] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) تفسير المفردات قال سيبويه: أذّن: أعلم، وأذّن: نادى وصاح للإعلام ومنه «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ» ومثله تأذن، ليبعثن: أي ليسلّطن، ويسومهم: يذيقهم ويوليهم، وقطعناهم: فرقناهم

المعنى الجملي

أمما: أي جماعات، دون ذلك: أي منحطون عنهم، وبلوناهم: امتحناهم، والحسنات النعم، والسيئات: النقم، والخلف: (بسكون اللام) يستعمل فى الأشرار (وبالتحريك) فى الأخيار، والكتاب: التوراة، والعرض (بالتحريك) متاع الدنيا وحطامها، والأدنى: أي الشيء الأدنى والمراد به الدنيا، ودرسوا ما فيه: أي قرءوه فهم ذاكرون له، ويمسكون: أي يتمسكون به ويعملون، ونتقنا الجبل: أي رفعناه كما روى عن ابن عباس، أو زلزلناه وهو مرفوع، يقال نتق السقاء: إذا هزه ونفضه ليخرج منه الزبد، أو اقتلعناه كما هو رأى كثير من العلماء، والظلة: كل ما أظلك من سقف بيت أو سماء أو جناح طائر والجمع ظلل وظلال. المعنى الجملي بعد أن بيّن سبحانه قبائح طائفة من اليهود وذكر عقابهم على ذلك بالمسخ قردة- ذكر هنا أنه كتب على اليهود جميعا الذلة والصغار إلى يوم القيامة عقابا على أفعالهم، وهذه سنة الله فى عقاب الأمم التي تفسق عن أمره وتخالف أوامر دينه، وهى كما تنطبق على اليهود تنطبق على غيرهم من الأمم التي لا ترعوى عن غيها، بل تتمادى فى فجورها وطغيانها وتسير قدما فى غوايتها وضلالها. الإيضاح (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي واذكر أيها الرسول إذ أعلم ربك هؤلاء القوم مرة إثر أخرى أنه قضى عليهم فى علمه وفقا لما قامت عليه نظم الاجتماع، ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يوقع بهم العقاب الشديد على ظلمهم وفسقهم وفسادهم فى الأرض، والآية بمعنى قوله فى سورة الإسراء «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» إلى أن قال: «وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا» أي وإن عدتم بعد عقاب

المرة الآخرة إلى الإفساد عدنا إلى التعذيب والإذلال، وقد عادوا فسلط الله عليهم النصارى فسلبوا ملكهم الذي أقاموه بعد أن نجوا من سبى البابليين وقهرهم واستذلالهم إلى أن جاء الإسلام، فعاداه منهم الذين هربوا من الذل والنكال ولجئوا إلى بلاد العرب فعاشوا فيها آمنين أعزّاء لكنهم نكثوا العهد الذي أعطوه للنبى صلى الله عليه وسلم وبه أمّنهم على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم فنصروا المشركين عليه فسلطه الله عليهم فقاتلهم ونصره عليهم فأجلى بعضهم وقتل بعضا وأجلى عمر البقية الباقية منهم إلى سورية ولما فتحها انتقل اليهود من حكم الروم الجائر إلى سلطة الإسلام العادلة ولكنهم فقدوا الملك والاستقلال فى جميع الحالات. (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) أي إن ربك سريع العقاب للأمم التي تفسق عن أمره وتفسد فى الأرض، فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد، يؤيد هذا قوله: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» أي وإذا أردنا هلاك قرية من القرى أمرنا سادتها وكبراءها بالحق والعدل والرحمة فعصوا أمر ربهم وأفسدوا وظلموا فى الأرض فحق عليهم القول بمقتضى سنته فى خلقه فحل بهم الهلاك وخاق بهم النكال جزاء بما كانوا يعملون. (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن أقلع عن ذنبه، وأناب إليه، وأصلح ما كان قد أفسد فى الأرض قبل أن يحل به عذابه. والآية بمعنى قوله: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» . وقلما ذكر عذاب الفاسقين إلا قرنه بذكر الرحمة والمغفرة للمحسنين حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمة ربه بذنب عمله بجهالة، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بعفوه وكمه وهو مصر على ذنبه. وقد فصل سبحانه عقابهم فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم وتمزيق جامعتهم فقال:

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) أي وفرقنا بنى إسرائيل فى الأرض وجعلنا كل فرقة منهم فى قطر من أقطارها فلا يخلو منهم قطر وليس لهم شوكة ولا دولة، وهذا من معجزات الكتاب الكريم. (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي منهم الصالحون كالذين نهوا من اعتدوا فى السبت عن ظلمهم، والذين كانوا يؤمنون بالأنبياء من بعد موسى، والذين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، ومنهم من دونهم فى الصلاح لم يبلغوا مبلغهم، ومنهم الغلاة فى الكفر والفسق كالذين كانوا يقتلون النبيين بغير حق، ومنهم السماعون للكذب الأكّالون للسحت والرشا لتبديل الأحكام والقضاء بغير ما أنزل الله كما هو شأن الأمم، فإنها تفسد تدريجا لا دفعة واحدة كما نشاهد ذلك فى المسلمين. (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وامتحناهم واختبرنا استعدادهم بالنعم التي تحسن فى عيونهم وتقرّبها أفئدتهم، وبالنقم التي تسوءهم وإن كانت قد تحسن بالصبر عاقبتها لديهم، رجاء أن يرجعوا عن ذنبهم، وينيبوا إلى ربهم، فيعود إليهم فضله ورحمته. (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي نبتت من أولئك الذين منهم الصالح والطالح نابتة ورثوا التوراة: أي وقفوا على ما فيها وكانوا عالمين بأحكامها بعد أسلافهم والحال أنهم يؤثرون حطام الدنيا ومتاعها بما يأكلونه من السحت والرشا والاتجار بالدين والمحاباة فى الحكم، ويقولون سيغفر لنا ولا يؤاخذنا بما فعلنا، فإننا أبناء الله وأحباؤه وسلائل أنبيائه وشعبه الذي اصطفاه من سائر البشر إلى نحو ذلك من الأمانى والأضاليل، وهم والغون فى خطاياهم مصرّون على ذنوبهم، فإن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل يأخذوه ولا يتعفّفوا عنه- وهم يعلمون أن الله إنما وعد بالمغفرة التائبين الذين يقلعون عن ذنبهم ندما وخوفا من ربهم ويصلحون ما كانوا قد أفسدوا.

ثم رد الله عليهم ما زعموه بقولهم: سيغفر لنا، وهم مقيمون على ظلمهم وفسادهم وحبهم للدنيا فقال: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي وقد أخذ الله العهد والميثاق عليهم فى كتابه ألا يقولوا عليه غير الحق الذي بينه فيه، فمنعهم من تحريفه وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشا، وهم قد درسوا الكتاب وفهموا ما فيه فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من تحريم أكل أموال الناس بالباطل والكذب على الله إلى نحو أولئك. (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي والدار الآخرة وما فيها من نعيم للذين يتقون المعاصي ما ظهر منها وما بطن- خير من حطام الدنيا الفاني الذي يؤخذ بالرّشا والسحت وغير ذلك، أفلا تعقلون ذلك وهو واضح لا يخفى على كل ذى عقل لم تطمسه الشهوات، ولم يعم بصيرته حطام الدنيا العاجل، وبذا يرجّح الخير على التسر والنعيم المقيم على المتاع الزائل. وفى هذا إيماء إلى أن الطمع فى متاع الدنيا هو الذي أفسد على بنى إسرائيل أمرهم، واستحوذ عليهم حبّ العاجلة فأذهب عنهم رشدهم. وفى هذا عبرة للمسلمين الذين سرى إليهم كثير من هذا الفساد وغلب عليهم الطمع وحب الدنيا وعرضها الزائل وهم قد درسوا كتابهم الكريم، لكن التحلي بلقب الإسلام والتعلل بأمانى المغفرة مع الإصرار على الذنوب اتكالا على الشفاعات والمكفّرات- هو الذي غرّهم وجعلهم يتمادون فى غيّهم وكتابهم ينهاهم عن الأمانى والأوهام وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله لمن رضى عنه كما قال: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» . (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب ويعتصمون بحبله فى جميع شئونهم، ويقيمون

الصلاة التي هى عماد الدين وركن منه متين كعبد الله بن سلام وأصحابه- لا نضيع أجرهم لأنهم قد أصلحوا أعمالهم، والله لا يضيع أجر المصلحين، وهى بمعنى قوله: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» . ثم ختم سبحانه هذه القصة مذكّرا ببدء حالهم فى إنزال الكتاب عليهم عقب بيان مخالفتهم لأمور دينهم والخروج عنه فقال: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي واذكر أيها الرسول إذ رفعنا جبل الطور فوقهم كما روى عن ابن عباس، أو اقتلعناه وجعلناه فوقهم كأنه غمامة وأيقنوا أنهم إن خالفوا أوامر دينهم وقع لا محالة عليهم. ذاك أنه أخذ عليهم الميثاق ليأخذنّ الشريعة بقوة وعزم فخالفوا الميثاق فرفع فوقهم الطور وأوقع فى قلوبهم الرعب خوف وقوعه بهم، فخرّ كل واحد منهم ساجدا لربه وقبل العمل بالميثاق. روى أن بنى إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة، فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم إن قبلتم العمل بها وإلا ليقعنّ عليكم، فوقع كل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هى السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة حين امتثلنا ما أمرنا به اهـ. وفى الآية تعريض بأنهم إذا كانت حالهم فى مبدإ أمرهم بمخالفتهم لكتابه ما عرفت- فلا عجب إذا آل أمرهم إلى ترك العمل به بعد طول الأمد وقساوة القلوب والأنس بالمعاصي والذنوب. (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي وقلنا لهم فى هذه الحال: خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بعزم واحتمال للمشاقّ والتكاليف. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي واذكروا ما فيه من الأوامر والنواهي، فإن ذلك يعدّكم للتقوى ويجعلها مرجوة لكم، فإن قوة العزيمة فى إقامة الدين تزكى

[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 إلى 174]

النفوس وتهذب الأخلاق، كما أن التهاون فيها يدسّيها ويغريها على اتباع الشهوات «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) تفسير المفردات الظهور: واحدها ظهر، وهو ما فيه العمود الفقرى لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته فيصح أن يعبر به عن جملة الجسد، والذرية: سلالة الإنسان من الذكور والإناث، والشهادة تارة قولية كما قال: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا» الآية، وتارة تكون حالية كما قال: «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» أي حالهم شاهدة عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه هدايته للبشر بإرسال الرسل وإنزال الكتب فى قصة بنى إسرائيل- قفّى على ذلك بذكر هدايته لهم بما أودع فى فطرتهم وركّب فى عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره منذ النشأة الأولى- فهو سبحانه بعد أن أظهر تمادى هؤلاء اليهود فى الغى بعد أخذ الميثاق الخاص الذي دل عليه قوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) وقوله: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا

الإيضاح

فَوْقَكُمُ الطُّورَ» ذكر هنا أنهم نقضوا أيضا الميثاق العام الذي أخذه على بنى آدم جميعا وهم فى صلب آدم وأشركوا بالله وقالوا: عزير ابن الله. الإيضاح (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أي واذكر أيها الرسول للناس كافة ما أخذه الله من ميثاق الفطرة على البشر عامة، إذ استخرج من بنى آدم ذريتهم بطنا إثر بطن، وخلقهم على فطرة الإسلام بما أودع فى قلوبهم من غريزة الإيمان اليقيني بأن كل فعل لا بد له من فاعل وأن فوق كل العوالم القائمة على سنة الأسباب والمسببات سلطانا أعلى على جميع الكائنات هو المستحق للعبادة وحده، وأشهد كل واحد من هؤلاء الذرية الحادثة جيلا بعد جيل على نفسه بما أودعه فى غريزته واستعداده قائلا لهم قول إرادة وتكوين لا قول وحي وتبليغ: ألست بربكم؟ فقالوا بلسان الحال لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا المستحق وحدك للعبادة، فالكلام من قبيل التمثيل، وله نظائر فى القرآن الكريم وأساليب العرب كقوله تعالى بعد ذكر خلق السماء: «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» وقوله: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقول بعض العرب: قال الجدار للوتد لم تشقّنى؟ قال سل من يدّقنى، فإن الذي ورائي، ما خلّانى ورائي: أي ورأيى. وقال ابن كثير فى تفسير الآية: يخبر الله تعالى أنه استخرج ذرية بنى آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» وفى الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة» وفى رواية:

«على هذه الملة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» ؟ وفى صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» اهـ. وقال ابن القيم فى كتاب الروح فى سياق البحث فى خلق الأرواح قبل الأجساد ما خلاصته: إن الله سبحانه استخرج صور البشر وأمثالهم، فميّز شقيّهم وسعيدهم ومعافاهم من مبتلاهم، والآثار متظاهرة به مرفوعة، وإن الله أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته واستشهد عليهم ملائكته كما تدل على ذلك الآية. قال أبو إسحق: جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به كما قال: «قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير. وقال ابن الأنبارى: مذهب أهل الحديث وكبراء العلم فى هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم فى صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون له، فاعترفوا بذلك وفعلوا، وذلك بعد أن ركّب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب، وكما فعل بالبعير لما سجد، وبالنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت اهـ. وقال الحسن بن يحيى الجرجاني: إنه سبحانه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن يبلغ وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها فى نفسه وفى العالم وبالرسل المنفذة إليهم مبشّرين ومنذرين، وبالمواعظ بالمثلات المنقولة إليهم أخبارها، غير أنه عز وجل لا يطالب أحد منهم بالطاعة إلا بقدر ما لزمه من الحجة، وركّب فيهم من القدرة، وآتاهم من الأدلة، وبيّن سبحانه ما هو عامل فى البالغين الذين أدركوا الأمر والنهى، وحجب عنا علم ما قدره فى عير البالغين، إلا أنا نعلم أنه عدل لا يجور فى حكمه، وحكيم لا تفاوت فى صنعه، وقادر لا يسئل

عما يفعل، له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين اهـ. ثم بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) أي إنا فعلنا هذا منعا لاعتذاركم يوم القيامة، بأن تقولوا إذا أشركتم إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين، إذ لم ينبهنا إليه منبّه، ومآل هذا أنه لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل لأنهم نهّوا بنصب الأدلة وجعلوا مستعدّين لتحقيق الحق وإبعاد الشرك عن قلوبهم. (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي أو تقولوا فى ذلك اليوم: إن آباءنا اخترعوا الإشراك وسنّوه من قبل زماننا وكنا جاهلين ببطلان شركهم، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم ولم نهتد إلى التوحيد، أفتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بما فعله المبطلون من آبائنا المضلين، فتجعل عذابنا كعذابهم، مع عذرنا بتحسين الظن بهم؟. والخلاصة- إن الله لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد، إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا يركن إليه ولا ينبغى لعاقل أن يلجأ إليه، كما أن الاعتذار بالجهل بعد ما أقام عليهم من البينات الفطرية والعقلية مما لا يقبل. (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ومثل ذلك التفصيل المستتبع للمنافع الجليلة- نفّصل لبنى آدم الآيات والدلائل ليستعملوا عقولهم فى التبصر فيها والتدبر فى أمرها، لعلهم يرجعون بها عن جهلهم وتقليد آبائهم وأجدادهم. وفى الآية إيماء إلى أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة فى الشرك بالله تعالى ولا بفعل الفواحش والموبقات التي تنفر منها الفطر السليمة وتدرك ضررها العقول الحصيفة، بل يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه ألا يعرف إلا منهم وهو تفصيل العبادات وعالم الغيب وما سيكون فى اليوم الآخر من أحوال العاصين وشئون النبيين والصديقين من عقاب وثواب وكنه ذلك على الحقيقة

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 إلى 177]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) تفسير المفردات التلاوة: القراءة، والنبأ: الخبر الذي له شأن، وانسلاخه منها: كفره بها ونبذه لها من وراء ظهره، ويقال لكل من فارق شيئا بحيث لا تحدّثه نفسه بالرجوع إليه: انسلخ منه، وأتبعه: أدركه ولحقه، قال الجوهري يقال أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم، ومن الغاوين: أي الراسخين فى الغواية بعد أن كان مهتديا، أخلد إلى الأرض. أي ركن إلى الدنيا ومال إليها واللهث (بالفتح) واللهاث (بالضم) التنفس الشديد مع إخراج اللسان ويكون لغير الكلب من شدة التعب والإعياء أو من العطش وللكلب فى كل حال سواء أصابه ذلك أم لا، وتحمل عليه. أي تشدّ عليه وتطرده، وساء الشيء: يسوء فهو سىء إذا قبح، وساءه يسوءه مساءة، والمثل: الصفة: المعنى الجملي بعد أن ذكر تقدست أسماؤه أخذ العهد والميثاق على بنى آدم جميعا وأشهدهم على أنفسهم بأن الله ربهم لا يكون لهم العذر يوم القيامة فى الإشراك بالله جهلا أو تقليدا-

الإيضاح

قفى على ذلك بضرب المثل للمكذبين بآياته المنزلة على رسوله بعد أن أيدها بالأدلة العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها قادرا على بيانها والجدل بها لكنه لم يؤت العمل مع العلم بل كان عمله مخالفا لعلمه فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض. الإيضاح (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أي واتل على اليهود ذلك النبأ العجيب، نبأ ذلك الذي آتيناه حجج التوحيد وأفهمناه أدلته حتى صار عالما بها فانسلخ منها وتركها وراءه ظهريا ولم يلتفت إليها ليهتدى بها، وفى التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنه كان متمكنا منها ظاهرا لا باطنا. (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي وبعد أن انسلخ منها باختياره لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له، إذ لم يبق لديه من نور البصيرة ولا أمارات الهداية ما يحول بينه وبين قبول وسوسته وسلوك فهمه، فصار من الضالين المفسدين. والخلاصة- إنه أوتى الهدى فانسلخ منه إلى الضلال ومال إلى الدنيا فتلاعب به الشيطان وكانت عاقبته البوار والخذلان وخاب فى الآخرة والأولى. وفى الآية عبرة وموعظة للمؤمنين وتحذير لهم من اتباع أهوائهم حتى لا ينزلقوا فى مثل تلك الهوة التي انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا وركونه إلى شهواتها ولذاتها. (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات والعمل بها إلى درجات الكمال والعرفان لفعلنا، بأن نخلق له الهداية خلقا ونلزمه العمل بها طوعا أو كرها، إذ لا يعجزنا ذلك ولكنه مخالف لسنتنا.

(وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي ولكنه ركن إلى الدنيا ومال إليها وجعل كل حظه من حياته التمتع من لذائذها الجسدية، ولم يوجّه إلى الحياة الروحية عزما، وركب رأسه فلم يراع الاهتداء بشىء مما آتيناه من آياتنا. وقد قضت سنة الله فى الإنسان أن يجعله مختارا فى عمله المستعد له بحسب فطرته، ليكون جزاؤه كفاء ما قدمت يداه من خير أو شر، وأن يمتحنه بما خلق فى هذه الأرض من زينة ومتعة كما قال: «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ثم يوّلى كل امرئ منهم وجهة هو مولّيها فيختار منها ناحية بحسب استعداده وميله الفطري كما قال: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» كما مضت سنته أيضا بأن جعل ميل الإنسان مع شهواته فى جميع أعماله دون رعاية للفائدة يضله عن السبيل الموصلة إلى السعادة الأخروية وينحرف به إلى سبل الغواية المردية فى التّهلكة كما قال تعالى مخاطبا داود عليه السلام: «وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وقال مخاطبا خاتم أنبيائه: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟» . وخلاصة ذلك- إن من شأن من يؤتى الآيات أن تسمو نفسه وتصعد فى سلم الكمال لما فيها من الهداية إلى سبيل الخير الحاضّة على عمل النافع وما فيه فائدة روحية له، على شريطة أن يتلقاها بعزيمة ونية صادقة كما جاء فى الحديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . أما من تلقاها بغير قصد أو بنية كسب المال والجاه وفى نفسه ما يصرفه عنها فلن يستفيد منها شيئا وسرعان ما ينسلخ منها.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي إن هذا الرجل كالكلب فى صفته هذه وهى أقبح حالاته وأخسها، فهو لإخلاده وميله إلى الدنيا واتباعه هواه يكون كذلك فى أسوإ حال، فهو فى همّ دائب وشغل شاغل فى جمع عرض الدنيا وزخرفها، يعنى بخسيس أموره وجليلها كشأن عبّاد الأهواء وطلاب الأموال ترى المرء منهم كاللاهث من الإعياء والتعب وإن كان ما يعنى به حقيرا لا يتعب ولا يعيى، وتراه كلما أصاب سعة وبسطة فى الدنيا زاد طمعا فيها كما قال الأول: فما قضى أحد منها لبانته ... ولا انتهى أرب إلا إلى أرب (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ذلك المثل البالغ الحد فى الغرابة مثل هؤلاء القوم الذين جحدوا بآياتنا واستكبروا عنها جهلا بها وتقليدا للآباء والأجداد، فهم قد ظنوا أن إيمانهم بها يسلبهم العزة ويحط من أقدارهم ويحول بينهم وبين ما يتمتعون به من اللذات، فكان ذلك حجابا حائلا بينهم وبين النظر فيها نظر تبصر واستدلال، وإن كانوا نظروا إليها من تلك الناحية التي تروق لهم وهى: حرمانهم من التمتع بالحظوظ والشهوات، إلى ما فيها من الاعتراف بضلال السلف من الآباء والأجداد فما أشبه حالهم بحال من أوتى الآيات فانسلخ منها، وذلك ليس بعيب فيها بل العيب عليه باتباعه هواه الذي حرمه من الانتفاع بها. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفمّ طعم الماء من سقم (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي فاقصص أيها الرسول الكريم قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال أولئك المكذبين بما جئت به من الآيات البينات رجاء أن يتفكروا فيه فيحملهم سوء حالهم وقبح مثلهم على إطالة التأمل والتفكر فى المخلص مما هم فيه، والنظر فى الآيات بعين البصيرة لا بعين الهوى والعداوة. وفى الآية إيماء إلى تعظيم ضرب شأن تلك الأمثال فى الإقناع وكونها أقوى أثرا

من سوق الحجج والأدلة دون أن تكون هى من بينها- كما أن فيها رمزا إلى تعظيم شأن التفكر وأنه مبدأ العلم والسبيل للوصول إلى الحق، ومن ثم حث الله عليه فى مواضع كثيرة من كتابه كقوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وقوله «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» . (ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي قبحت صفة أولئك القوم فى الصفات، وساء مثلهم فى الأمثال بإعراضهم عن التفكر فى الآيات والنظر إليها نظر عداوة وبغضاء، وهم بعملهم هذا إنما يظلمون أنفسهم وحدها بحرمانها من الاهتداء بها وجعلها السبيل الموصلة إلى السعادة فى الدنيا والآخرة. ولم يعيّن الكتاب الكريم اسم من ضرب به المثل ولا جنسه ولا وطنه ولا جاء فى السنة الصحيحة شىء من ذلك، فلا حاجة لنا فى العظة إلى بيانه. ولرواة التفسير بالمأثور روايات كثيرة فى شأنه. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن آتاه الله آياته فتركها، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن عمرو أنه هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفى لفظ: نزلت فى صاحبكم أمية بن أبي الصلت، وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال قال: أمية بن أبي الصلت: ألا رسول لنا منا يخبّرنا ... ما بعد غايتنا من رأس نجرانا قال: ثم خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام أمية بالبحرين ثمانى سنين، ثم قدم فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جماعة من أصحابه فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى فرغ منها فوثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية قال أشهد إنه على الحق، قالوا فهل تتبعه؟ قال حتى أنظر فى أمره، فخرج أمية إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم، فلما أخبر بقتلى بدر ترك الإسلام ورجع،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 إلى 179]

إلى الطائف فمات بها، قال ففيه أنزل الله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشّعبى فى هذه الآية: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) قال: قال ابن عباس هو رجل من بنى إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء، وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق، وكانت ثقيف تقول هو أمية بن أبي الصلت. وذكر البستاني فى دائرة المعارف العربية ملخص قصة بلعام ثم قال: وبعض مفسرى الكتاب المقدس المدققين ذهب إلى أن قصة بلعام المدرجة فى سفر العدد من الإصحاح 22- 24 دخيلة، وعلى الجملة فهذه الروايات الإسرائيلية لا يعتدها كما لم يعتد بها ابن جرير. [سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 179] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) تفسير المفردات الذرء: لغة الخلق، يقال ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم، والخلق: التقدير أي إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا، والجن: الأحياء العاقلة المكلفة الخفيّة غير المدركة بالحواس، والقلب يطلق أحيانا على المضغة الصنوبريّة الشكل فى الجانب الأيسر من جسد الإنسان- وأحيانا على العقل والوجدان الروحي الذي يسمونه أحيانا (بالضمير) وهو محل الحكم فى أنواع المدركات والشعور الوجدانى لما يلائم

المعنى الجملي

أو يؤلم وهو كثير بهذا المعنى فى الكتاب الكريم: «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ- قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ- أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» . وسر استعمال القلب فى هذا المعنى ما يراه الإنسان من انقباض أو انشراح حين الخوف والاشمئزاز أو حين السرور والابتهاج، والفقه: العلم بالشيء والفهم له، وفسره الراغب بالتوصل بعلم شاهد إلى علم غائب، وقد استعمله القرآن فى مواضع كثيرة بمعنى دقة الفهم والتعمق فى العلم ليترتب عليه أثره وهو الانتفاع به، ومن ثم نفاه عن الكفار والمنافقين لأنهم لم يدركوا كنهه المراد مما نفى فقهه عنهم فقاتتهم المنفعة مع العلم المتمكن من النفس. المعنى الجملي بعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقص قصص المنسلخ عن آيات الله على أولئك الضالين الذين حالهم كحاله ليتفكروا فيه ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة ويعودوا إلى حظيرة الحق- قفى على ذلك ببيان أن أسباب الهدى والضلال ينتهيان للمستعد لأحدهما إلى إحدى الغايتين بتقدير الله والسير على سنته فى استعمال مواهبه وهداياته الفطرية من العقل والحواس فى أحد السبيلين كما قال: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» «إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» . الإيضاح (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) أي من يوفقه الله لسلوك سبل الهداية باستعماله عقله وحواسه فيما خلقا له بمقتضى الفطرة وإرشاد الدين فهو المهتدى الذي شكر نعم الله عليه وأدى حقه عليه ففاز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

(وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن يخذله ويحرمه التوفيق فيتبع شيطانه وهواه ويترك استعمال عقله وحواسه فى فقه آياته وشكر ما أنعم به عليه، فهو الكفور الضال الذي خسر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، إذ هو قد خسر تلك المواهب التي كان بها إنسانا مستعد للسعادتين الدنيوية والأخروية. ولا شك أن الهداية الإلهية نوع واحد وهو الإيمان الذي ثمرته العمل الصالح أما أنواع الضلال فلا حصر لها، يرشد إلى ذلك قوله تعالى فى سورة الأنعام: (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) . ثم فصل سبحانه ما أجمله فى الآية السالفة مع بيان سببه فقال: (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي نقسم إنا قد خلقنا فى العالم كثيرا من الجن والإنس لسكنى جهنم والمقام فيها، وخلقنا للجنة مثل ذلك بمقتضى استعداد الفريقين كما قال: «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» وقال: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» . ثم بين سبب كونهم معدّين لجهنم وصفاتهم المؤهلة لذلك فقال: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي إنهم لا يفقهون بقلوبهم ما تزكو به أنفسهم من توحيد الله المبعد لها عن الخرافات والأوهام وعن الذلة والصغار، فإن من يعبد الله وحده تسمو نفسه بمعرفته فلا تذل بدعاء غيره ولا الخوف منه ولا الرجاء فيه والاتكال عليه، بل يطلب من الله ما يحتاج إليه، فإن كان مما أقدر الله عليه خلقه بإعلامهم بأسبابه وتمكينهم منها طلبه بسببه مع مراعاة سننه فى خلقه، وإن لم يكن كذلك توجه إلى الله لهدايته إلى العلم بما لم يعلم من سببه وإقداره على ما يقدر عليه من وسائله أو تسخير من شاء من خلقه لمساعدته عليه كالأطباء لمداواة الأمراض، وأقوياء الأبدان لرفع الأثقال، والعلماء الراسخين للفتوى فى المسائل العلمية وحل إشكال ما غمض من حقيقتها، ولا يتوجه فى طلبه إلى غير ما يعرف البشر من الأسباب المطّردة كالرّقى

والعزائم والتبخيرات وكرامات الصالحين من الأحياء والأموات والدعاء إليهم بما يعدّ من العبادات فالله يقول: «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» ويقول: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» . كما لا يفقهون بقلوبهم الحياة الروحية واللذات المعنوية الموصلة إلى السعادة الأبدية: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» . ولا يفقهون أن ترك الشرور والمنكرات والحرص على فعل الخيرات هو مناط السعادة فى الدنيا والآخرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتربية البدنية الصحيحة. ولا يفقهون سنن الله فى الاجتماع وتأثير العقائد الدينية فى جمع الكلمة وقوة الجماعة ولا سيما فى عهد النبوات ورمن المعجزات، ولا يفقهون معنى الآيات الإلهية فى الأنفس والآفاق ولا آياته التي يؤيد بها رسله من علمية وكونية وما أودعه منها كتابه. (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أي وكذلك لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله فى خلقه، وفيما يسمعون من آياته المنزلة على رسله ومن أخبار التاريخ الدالة على سنته تعالى فى خلقه، فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم. فالآذان إنما خلقت للإنسان ليستفيد من كل ما يسمع، والأبصار خلقت لينتفع بكل ما يبصر، وإنما يكون ذلك بتوجيه الإرادة إلى استعمال كل منهما فيما خلق له كما قال تعالى: أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم إنّ فى ذلك لآيات أفلا يسمعون. أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون. ولكن المسلمين وا أسفا أصبحوا أشد الناس إهمالا لاستعمال أسماعهم وأبصارهم

وأفئدتهم فى النظر فى آيات الله فى الأنفس والآفاق، وصاروا أجهل الشعوب بالعلوم التي تعرف بها آياته فى مشاعر الإنسان وانفعالاته النفسية وقواه العقلية، وآياته فى الحيوان والنبات والجماد والهواء والماء والبخار وسنن النور والكهرباء والعلوم الفلكية. ومن أصاب منهم حظا من معرفتها فإنما يعرفها للانتفاع بها فى الحياة الدنيا من غير مراعاة أنها آيات دالة على أن لها ربّا خالقا مدبّرا عليما قديرا رحيما يجب أن يعبد وحده وأن يخشى ويحب فوق كل أحد، وأن تكون معرفته منتهى كل غاية من هذه الحياة. (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي أولئك الذين اتصفوا بما ذكر من الصفات: كالأنعام من إبل وبقر وغنم، فهم لا حظ لهم من عقولهم إلا استعمالها فيما يتعلق بمعيشتهم فى هذه الحياة، بل هم أضل سبيلا منها، إذ هذه لا تجنى على أنفسها بتجاوز سنن الفطرة وحدود الحاجة الطبيعية فى أكلها وشربها وجميع حاجاتها، لكن عبيد الشهوات يسرفون فى كل ذلك إسرافا عظيما قد تتوالد منه الأمراض الكثيرة، كما قد يجاهدون هذه الشهوات جهادا يفرّطون فيه بحقوق البدن، فلا يعطونه ما يكفيه من الغذاء أو يقصرون فى الحقوق الزوجية فيجنون على أشخاصهم أو على النوع كله بالتفريط كما يجنى عليهما عبيد الشهوات بالإفراط، وهداية الإسلام تحظر هذا وذاك وتوجب الأكل من الطيبات بشرط عدم الإسراف، ولو سلك الناس مسلك الاهتداء بالقرآن فى فهم أسرار الخلق ومعرفة منافعه لاستفادوا السعادة فى معاشهم والاستعداد لمعادهم، وأولئك هم الغافلون عما فيه صلاحهم فى الحياتين. وهم فى الغفلة على درجات، فمنهم الغافلون عن آيات الله فى الأنفس والآفاق التي تهدى العبد إلى معرفة ربه، والغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقولهم فى أفضل ما خلقت لأجله، والغافلون عن ضروريات حياتهم الشخصية والقومية والدينية. والخلاصة- إن أهل النار هم الأغبياء الجاهلون الغافلون الذين لا يستعملون

[سورة الأعراف (7) : آية 180]

عقولهم فى فقه حقائق الأمور، وأبصارهم وأسماعهم فى استنباط المعارف واستفادة العلوم، ولا فى معرفة آيات الله الكونية وآياته التنزيلية، وهما سبب كمال الإيمان والباعث النفسىّ على كمال الإسلام. [سورة الأعراف (7) : آية 180] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) تفسير المفردات الأسماء: واحدها اسم، وهو اللفظ الدالّ على الذات أو عليها مع صفة من صفاتها، والجنسي: مؤنث الأحسن، فادعوه بها. أي سمّوه ونادوه بها للثناء عليه أو للسؤال وطلب الحاجات، وذروا: اتركوا، والإلحاد: الميل عن الوسط حسا أو معنى، والأول هو الأصل فيه، ومنه لحد القبر: وهو ما يحفر فى جانب القبر مائلا عن وسطه وألحد السهم الهدف: أي مال فى أحد جانبيه ولم يصب وسطه، ومن الثاني ألحد فلان: مال عن الحق، سيجزون أي سيلقون جزاء عملهم. المعنى الجملي بعد أن بين عز اسمه فى الآية السالفة أن المخلوقين لجهنم لم يستعملوا عقولهم ومشاعرهم فى الاعتبار بالآيات والتفقه فى تزكية أنفسهم بالعلم النافع، فأورثهم ذلك الإهمال الغفلة التامة عن صلاح أنفسهم بذكر الله وشكره والثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال- قفّى على ذلك بذكر الدواء لتلك الغفلة والوسائل التي تخرج إلى ضدها وهى ذكر الله ودعاؤه فى السر والعلن بكرة وعشيا.

الإيضاح

الإيضاح (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) أي ولله دون غيره جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات، فاذكروه ونادوه بها إما للثناء عليه نحو: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ونحو: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» وإما لدى السؤال وطلب الحاجات. وللذكر فوائد: منها تغذية الإيمان، ومراقبة الله تعالى والخشوع له والرغبة فيما عنده، واحتقار آلام الدنيا، وقلة المبالاة بما يفوت المؤمن من نعيمها، ومن ثم جاء فى الحديث «من نزل به غمّ أو كرب أو أمر مهمّ فليقل لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. وروى الحاكم فى المستدرك عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة «ما يمنعك أن تسمعى ما أوصيك به؟ أن تقولى إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حىّ يا قيّوم برحمتك أستغيث، أصلح لى شأنى، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» . وأسماء الله كثيرة، وكلها حسنى لدلالة كل منها على منتهى كمال معناه وتفضيلها على ما يطلق منها على المخلوقين: كالرحيم والحكيم والحفيظ والعليم. وروى الشيخان من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» وفى رواية له: «إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، وإن الله وتر يحب الوتر» وقد سرد الأسماء التسعة والتسعين الترمذي والحاكم من طريق الوليد بن مسلم قال: «هو الله الذي لا إله إلا هو: الرحمن الرحيم الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفّار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل

اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلى. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوى. المتين. الولي. الحميد. المحصى. المبدئ. المعيد. المحيي. الميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرءوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغنى. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور» . وقد اختلف المحدّثون فى سرد هذه الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج فى الحديث من بعض الرواة؟ والثاني هو الراجح ومن ثم لم يخرّجه الشيخان لتفرد الوليد به واحتمال الإدراج كما قاله الحافظ ابن حجر فى الفتح. (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي ادعوه أيها المؤمنون واتركوا جميع الذين يلحدون فى أسمائه بالميل بألفاظها أو معانيها عن نهج الحق الوسط إلى متفرّق السبل من تحريف أو تأويل أو شرك أو تكذيب أو زيادة أو نقصان أو ما ينافى وصفها بالحسنى كأن يوصف بما لا يصح وصفه به أو تتأول أوصافه على ما لا يليق به. ثم بين العلة فى تركهم فى خوضهم يلعبون فقال: (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لأنهم سيلقون جزاء عملهم وتحل بهم العقوبة فى الدنيا قبل الآخرة، فاجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم مثل ما يصيبهم. والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله وهو ينافى الإيمان ويبطله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب كأن ينظر إليها مع الغفلة عن كونها من خلق الله وتسخيره أو يعتقد أنها مؤثرة بذاتها لا بفعله تعالى، وهذا يوهن عرا الإيمان ولا يبطله. والخلاصة- إن الإلحاد فى أسمائه الحسنى أقسام: (1) تسميته تعالى بما لم يسمّ به نفسه فى كتابه أو ما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم

فقد اتفق أهل الحق على أن أسماءه وصفاته تعالى توقيفية: أي تحتاج إلى إذن من الشارع لصحة إطلاقها عليه تعالى، وكل ما ورد فى الكتاب والأحاديث الصحيحة دعاء ووصفا له وإخبارا عنه يصح إثباته له، ويمنع كل ما دلت على منعه، قال فى الكشاف كقول أهل البدو: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا سخى. (2) ترك تسميته بما سمى به نفسه أو وصفها به أو ترك إسناد ما أسنده تعالى إلى نفسه من الأفعال بناء على أن ذلك لا يليق به تعالى أو أنه يوهم نقصا فى حقه كأن هؤلاء الملحدين أعلم منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم بما يليق به وما لا يليق. (3) تغيير أسمائه بوضعها لغيره مما عبد من دونه كاللات والعزّى. (4) تحريف أسمائه وصفاته تعالى عما وضعت له بضرب من التأويل، فقد ذهب جماعة من المسلمين إلى جعل الرب القدوس الذي ليس كمثله شىء- كرجل من خلقه لأنه تعالى وصف نفسه بصفات يدل مجموعها على ذلك: كالسمع والبصر والكلام والوجه واليد والرجل والضحك والرضا والغضب، وذهب آخرون إلى تأويل جميع صفاته تعالى حتى جعلوها كالعدم. (5) إشراك غيره فيما هو خاص به من أسمائه باللفظ كاسم الجلالة (الله) والرحمن ورب العالمين، وما فى معناه كرب السماء والأرض أو رب الكعبة أو رب البيت (الكعبة) كما قال: َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» . (6) إشراك غيره فى كمال أسمائه كمن يزعم أو يعتقد أن لغيره رحمة كرحمته ورأفة كرأفته وغير ذلك من معانى أسمائه كالمجيب مثلا كما قال تعالى: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» . وبعض الذين يدعون غير الله تعالى من الموتى يعتقدون أنهم أسرع وأقرب فى إجابتهم من الله تعالى فيجمعون بذلك بين شركين: شرك دعاء غير الله مع اعتقاد

[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 إلى 186]

إجابته للدعاء، وشرك الكفر به بتفضيل غيره عليه سبحانه فى سرعة الإجابة مع أن الله يقول: «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» أي لا يجيب المضطر إلا هو فهو المستحق وحده للعبادة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 186] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) تفسير المفردات الاستدراج: إما مأخوذ من درج الكتاب والثوب وأدرجه: إذا طواه، وإما: من الدرجة وهى المرقاة، فعلى الأول سنستدرجهم: أي سنطويهم طىّ الكتاب ونغفل أمرهم كما قال: «وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا» وعلى الثاني سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا كالمراقى والمنازل فى ارتقائها ونزولها، والإملاء: الإمداد فى الزمن والإمهال والتأخير من الملوة والملاوة، وهى الطائفة الطويلة من الزمن، والملوان: الليل والنهار والكيد كالمكر: هو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهى إلى ما يسوءه، وأكثره احتيال مذموم، ومنه ما هو محمود يقصد به المصلحة: ككيد يوسف لأخذ

المعنى الجملي

أخيه الشقيق من إخوته لأبيه برضاهم ومقتضى شريعتهم، والمتين: القوى الشديد، والجنة (بالكسر) نوع من الجنون. والإنذار: التعليم والإرشاد المقترن بالتخويف من مخالفته، والملكوت: الملك العظيم، وملكوت السموات والأرض: مجموع العالم، والحديث: كلام الله وهو القرآن، والطغيان تجاوز الحد فى الباطل والشر من الكفر والفجور والظلم: والعمه. التردد فى الحيرة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه ذرأ لجهنم كثيرا من الثقلين. الجن والإنس وأبان أهمّ أسباب ذلك، وهى أن هؤلاء أفسدوا فطرتهم بإهمال مواهبهم من العقل والحواس، ثم أرشدنا إلى ما يصلح الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، قفّى على ذلك ببيان وصف أمة الإجابة وثنّى، بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلّث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، ثم أرشد إلى التفكر الموصّل إلى الفقه فى الأمور ومعرفة الحقائق، وإلى النظر الهادي إلى الحجة، والبرهان الموصل إلى معرفة صدق الرسول، ثم ختمها ببيان عدم الطمع فى هداية من قضت سنة الله بضلاله وتركه يعمه فى طغيانه. الإيضاح (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي وبعض ممن خلقنا جماعة كبيرة مؤلفة من شعوب وقبائل كثيرة، يهدون بالحق ويدلّون الناس على الاستقامة، وبالحق يحكمون فى الحكومات التي تجرى بينهم ولا يجورون، فسبيلهم واحدة، لأن الحق واحد لا يتعدد، وهؤلاء هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام. أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج فى قوله تعالى «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هذه أمتى، بالحق يحكمون ويقضون، ويأخذون ويعطون» .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة فيها قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها. وهذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) . وأخرج أبو الشيخ عن على بن أبي طالب قال: لتفترقنّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا فرقة، يقول الله (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) فهذه هى التي تنجو من هذه الأمة اهـ. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي والذين كذبوا بآيات الله سندعهم يسترسلون فى غيهم وضلالهم ولا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم، لجهلهم سنن الله فى المنازعة بين الحق والباطل وأن الحق يدفع الباطل، وما ينفع الناس يتغلّب على ما يضرهم كما قال تعالى بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وقال: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» . وقد صدق الله وعده، فقد كان كفار قريش وصناديدها يبالغون فى عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، اغترارا بكثرتهم وثروتهم لا يعتدّون به ولا بغيره ممن آمن به أوّلا وأكثرهم من الضعفاء الفقراء، فما زالوا يتدرّجون فى عداوتهم له وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم فى غزوة بدر فلم يعتبروا، ثم زادهم غرورا تغلّبهم عليه آخر معركة أحد حتى قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر- إلى أن كان الفتح الأعظم: فتح مكة فأظهر رسوله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سنته تعالى. وأثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لما حملت إليه كنوز كسرى: اللهم إنى أعوذ بك أن أكون مستدرجا فأنى سمعتك تقول (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) . (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين فى العمر وأمدّ لهم فى أسباب المعيشة والتدرب على الحرب بمقتضى سننى فى نظام الاجتماع البشرى

كيدا لهم ومكرا بهم لا حبّا فيهم ونصرا لهم كما قال تعالى: «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ، أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» وروى الشيخان من حديث أبي موسى: «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» . وخلاصة ذلك- إن سنة الله قد مضت فى الأمم والأفراد بأن يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق، فالظالم إذا لم ينزل به العقاب عقب ظلمه ازداد بغيا وظلما ولا يحسب للعواقب حسابا فيسترسل فى ظلمه إلى أن تحيق به عاقبة ظلمه فى الدنيا يأخذ الحكام له أو بوقوعه فى المصايب والمهالك، وله فى الآخرة عذاب النار وبئس القرار. (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ؟) أي أكذبوا الرسول ولم يتفكروا فى حاله من بدء نشأته وفى حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، وآيات وحدانية الله وقدرته على إعادة خلقه كما بدأهم؟ إنهم إن تفكروا فى ذلك مليا أو شكوا أن يعرفوا الحق، وما الحق إلا أن صاحبهم ليس به جنة، وقد حكى الكتاب الكريم عنهم أنهم رموه بالجنون كقوله فى كفار مكة: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» وقوله: «وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» وقوله: «وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ» وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا: يا بنى فلان، يا بنى فلان، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون: بات يهوّت (يصيح) حتى أصبح. فأنزل الله: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا

ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ» . وقد جرت عادة الكفار أن يرموا رسلهم بالجنون، لأنهم ادعوا أن الله خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم لا يمتازون من سائر الناس بزعمهم، ولأنهم ادعوا مالم يعهد له نظير عندهم، فقد حكى الله عن قوم نوح أنهم اتهموه بالجنون فقالوا: «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» وقال فى شأنهم: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ» وقال حكاية عن فرعون فى موسى عليه السلام: «قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» وقد بين سبحانه ذلك على وجه عام فقال: «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» . (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنه ليس بمجنون بل هو منذر ناصح ومبلّغ عن الله، فهو ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم إلى ما فيه صلاحكم فى الدنيا بجمع الكلمة وصلاح حال الفرد والمجتمع والسيادة على من سواكم وصلاحكم فى الآخرة بلقاء ربكم وأنتم فى جنات النعيم. والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم (بِصاحِبِهِمْ) لتذكيرهم بأنهم يعرفونه من أول نشأته إلى أن تجاوز الأربعين من عمره، فما عليهم إلا أن يتفكروا فى سيرته ليعلموا أنه ليس من دأبه الكذب ولا هو مما عهد عنه كما شهد بذلك بعض زعمائهم فقال، إن محمدا لم يكذب قط على أحد من الناس، أفيكذب على الله؟ ومن ثم قال تعالى فى أولئك الزعماء: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» . ولو تأمل مشركو مكة فى نشأته صلى الله عليه وسلم وما جرّبوا من أمانته وصدقه إلى أن اكتهل ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله وعبادته وحده، وما دعاهم إليه من إصلاح فى حالهم الدينية والمدنية والاجتماعية لعلموا أن هذا كله لا يصدر من مجنون، بل الذي يقتضيه العقل ويسرع إليه الفكر أن هذا ليس من رأى ذلك النبي الأمى الناشئ بين الأميين، وأن ما أقامه من الحجج والبراهين العقلية والكونية على

ما يدّعى لا يصدر ممن لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدا فيما مضى، إن هو إلا وحي من الله ألقاه فى روعه ونزل من لدنه على روح القدس، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم. (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي أكذّبوا الرسول الذي علموا صدقه وأمانته وقالوا إنه مجنون، وهو الذي شهر لديهم بالروية والعقل، ولم ينظروا نظرة تأمل واستدلال فى هذا الملكوت العظيم من السموات والأرضين، فيروا ذلك النظام البديع فيهما وفى كل ما خلق الله، وإن دق وصغر، إنهم لو تأملوا فى كل ذلك لرأوا آثار قدرته وعلمه، وفضله ورحمته وأنه لم يخلق شيئا من ذلك عبثا، ولا ترك الناس سدى. إن كل ذرة فيهما لدليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد. وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد إنهم لو نظروا فى شىء من ملكوت السموات والأرض لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك لو نظروا فى توقع قرب أجلهم، وقدومهم على ربهم بسوء عملهم، لا حتاطوا لأنفسهم، ورأوا أن من الحكمة أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وسلم لهم، فما جاءهم به لا ينكرون أنه خير لهم فى الدنيا وخير لهم فى الآخرة إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء، وهو صدق وحق لا شك فيه. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟) أي فبأى حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به، وهو أكمل كتب الله بيانا، وأقواها برهانا، فمن لم يؤمن به فلا مطمع فى إيمانه بغيره. (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ) أي إن الله قد جعل هذا الكتاب أعظم أسباب الهداية للمتقين لا للجاحدين المعاندين وجعل الرسول المبلغ له أقوى الرسل برهانا وأكملهم عقلا، وأجملهم أخلاقا، فمن فقد الاستعداد للإيمان بهذا الكتاب وهذا الرسول فهو الذي

[سورة الأعراف (7) : آية 187]

أضله الله: أي هو الذي قضت سنته فى خلق الإنسان وارتباط أعماله بأسباب تترتب عليها مسبباتها، بأن يكون ضالّا راسخا فى الضلال، وإذا كان ضلاله بمقتضى تلك السنن فمن يهديه من بعد الله؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير تلك السنن وتبديلها. (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي وهو جلت قدرته يترك هؤلاء الضالين فى طغيانهم يترددون حيرة ولا يهتدون سبيلا للخروج مما هم فيه، بما كسبت أيديهم من الطغيان وتجاوز الحد فى الظلم والفجور. والخلاصة- إنه ليس معنى إضلال الله لهم أنه أجبرهم على الضلال، وأعجزهم بقدرته عن الهدى، فكان ضلالهم جبرا لا اختيارا، بل المراد أنهم لما مرنت قلوبهم على الكفر والضلال وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه فى الطغيان، فقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان فأصبحت نفوسهم لا تستنير بالهدى وقلوبهم لا ترعوى لدى الذكرى: «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» [سورة الأعراف (7) : آية 187] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) تفسير المفردات الساعة لغة: جزء قليل غير معين من الزمن، وعند الفلكيين: جزء من أربع وعشرين جزءا متساوية يضبط بآلة تسمى (الساعة) وقد كان ذلك معروفا عند العرب فقد جاء فى الحديث «يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة» وقد تطلق بمعنى الوقت الحاضر

المعنى الجملي

وبمعنى الوقت الذي تقوم فيه القيامة، وأكثر استعمال (ساعة) بدون أل فى الكتاب الكريم بمعنى الساعة الزمانية، وبأل بمعنى الساعة الشرعية، وهى ساعة خراب العالم وموت أهل الأرض جميعا، وجاء المعنيان فى قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ. ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» والغالب التعبير بيوم القيامة عن يوم البعث والحشر الذي يكون فيه الحساب والجزاء والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء فى هذا العالم ويضطرب نظامه، فالساعة مبدأ، والقيامة غاية، وأيان: بمعنى متى، فهى للسؤال عن الزمان، ومرساها: أي إرساؤها وحصولها واستقرارها، ويقال رسا الشيء يرسو: إذا ثبت وأرساه غيره، ومنه إرساء السفينة وإيقافها بالمرساة التي تلقى فى البحر فتمنعها من الجريان كما قال تعالى: «بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها» وجلّى فلان الأمر تجلية: أظهره أتم الإظهار، ولوقتها: أي فى وقتها كما يقال كتبت هذا لغرة رمضان: أي فى غرته، وبغتة فجأة من غير توقع ولا انتظار، وحفىّ من قولهم: أحفى فى السؤال ألحف، وهو حفّى عن الأمر: بليغ فى السؤال عنه واستحفيته عن كذا: استخبرته على وجه المبالغة، وتحفى بك فلان: إذا تلطف بك وبالغ فى إكرامك. المعنى الجملي بعد أن أرشد تعالت أسماؤه من كانوا فى عصر التنزيل وعصر نزول السورة إلى النظر والتفكر فى اقتراب أجلهم بقوله: «وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» قفّى على ذلك بالإرشاد إلى النظر والتفكر فى أمر الساعة التي ينتهى بها أجل جميع الناس. والخلاصة- إن هذا كلام فى الساعة العامة بعد الكلام فى الساعة الخاصة بكل فرد وهى انتهاء أجله. الإيضاح (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي يسألونك أيها الرسول عن الساعة- يقولون متى إرساؤها واستقرارها، والسائلون هم قريش، لأن السورة مكية ولم يكن

فى مكة أحد من اليهود، وسؤالهم عن هذا الوقت استبعاد منهم لوقوعه وتكذيب بوجوده كما جاء حكاية عنهم: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وقال تعالى: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» . وفى التعبير عن زمن وقوعها بالإرساء الدال على استقرار ما شأنه الحركة والاضطراب إيماء إلى أن قيام الساعة هو انتهاء أمر هذا العالم وانقضاء عمر هذه الأرض التي تدور بما فيها من العوالم المتحركة المضطربة. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي قل لهم إن علم الساعة عند ربى وحده لا عندى ولا عند غيرى من الخلق، وقد جاء بمعنى الآية قوله: إليه يردّ علم السّاعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها» وقوله «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها؟ إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» . وفى قوله عند ربى إشارة إلى أن ما هو من شأن الرب لا يكون للعبد، فالله قد أعد نبيه ليكون منذرا ومبشرا، والإنذار إنما يكون بالساعة وأهوالها، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها وأوقاتها، إذ تحديد ذلك ينافى هذه الفائدة بل فيه مفاسد، إذ لو وقّت الرسول ميعاد الساعة بتاريخ معين لاستهزأ به المكذبون، ولألحوا فى تكذيبه وازدادوا ارتيابا، حتى إذا ما وقع الأجل وقع المؤمنون فى رعب عظيم ينغّص عليهم حياتهم ويشنج أعصابهم، فلا يستطيعون عملا ولا يسيغون طعاما ولا شرابا، وسخر الكافرون من المؤمنين، وقد حدث أن أخبر بعض رجال الكنيسة فى أوربة أن القيامة ستكون فى سنة كذا فهلعت القلوب، واختلت الأعمال، وأهمل أمر العيال، ولم تهدأ النفوس إلا بعد أن ظهر كذب النبأ.

والخلاصة- إنّ هناك حكمة بالغة فى إبهام أمر الساعة للعالم، والساعة الخاصة بالأفراد والأمم والأجيال، يجعلها من الغيب الذي استأثر الله تعالى به. (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي لا يكشف حجاب الخفاء عنها، ولا يظهرها فى وقتها المحدود عند الله تعالى إلا هو إذ لا وساطة بينه وبين عباده فى إظهارها، ولا الإعلام بميقاتها، وإنما وساطة الرسل فى الإنذار بها. (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل وقتها وعظم أمرها فى السموات والأرض على أهلهما من الملائكة والإنس والجن، لأن الله أنبأهم بأهوالها ولم يشعرهم بميقاتها، فهم دائما يتوقعون أمرا عظيما لا يدرون متى يفجؤهم وقوعه. وقال السدى: خفيت فى السموات والأرض فلا يعلم قيامها ملك مقرّب، ولا نبى مرسل. وقال ابن عباس ليس شىء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة. وروى عن ابن جريج أن ثقلها يكون يوم مجيئها (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) إلى نحو ذلك مما وصفه الله تعالى من أمر قيامها. (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي لا تأتيكم إلا فجأة وعلى حين غفلة بلا إشعار ولا إنذار، وقد جاء فى الصحيحين عن أبي هريرة «ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وهو يليط- يطلى حجارته بجصّ ونحوه ليمسك الماء- حوضه فلا يسقى فيه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها» والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون فى أمور معايشهم، فيجب على المؤمنين أن يخافوا ذلك اليوم، وأن يحملهم ذلك على مراقبة الله تعالى فى أعمالهم بأن يلتزموا فيها الحق ويتحرّوا الخير، ويتقوا الشر والمعاصي ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة، الجدل فيها وكثرة القيل والقال فى شأنها وفى تعيين ميقاتها. (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي يسألونك كأنك حفىّ مبالغ فى سؤال ربك عنها.

وقد يكون المعنى: يسألونك عنها كأنك حفىّ بهم، وبينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم، ويؤيد هذا ما روى عن ابن عباس قال: لما سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة- سألوه سؤال قوم كأن محمدا حفىّ بهم، فأوحى الله إليه- إنما علمها عنده استأثر به فلا يطلع عليه ملكا مقرّبا ولا رسولا. وما روى عن قتادة قال: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة، فأشر إلينا متى الساعة؟ فقال الله عز وجل يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» . (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) هذا تكرار للجواب إثر تكرير السؤال مبالغة فى التأكيد، وإيئاس لهم من العلم بوقت مجيئها وتخطئة لمن يسألون عنه. وعبر هنا بلفظ الجلالة (اللَّهِ) إشارة إلى أنه استأثر بعلم هذا لذاته، كما أشعر ما قبله بأنه من شئون ربوبيته، وكلاهما مستحيل على خلقه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون اختصاص علمها به تعالى ولا حكمة ذلك ولا أدب السؤال ولا نحو ذلك مما ينبغى أن يعلم فى هذا الباب، وإنما يعلم ذلك القليلون، وهم المؤمنون بما جاء فى كتاب الله من أخبارها وبما سمع من رسوله صلى الله عليه وسلم كمن حضروا تمثل جبريل عليه السلام بصورة رجل وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، ثم عن الساعة، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم له عن سؤاله الأخير بقوله. «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» أي إنا سواء فى جهل هذا الأمر فلا يعلم أحد منا متى تقوم الساعة. قال الآلوسى: وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك وظاهر الآيات أنه عليه السلام لم يعلم وقتها، نعم علم عليه الصلاة والسلام قربها على الإجمال وأخبر به فقد أخرج الترمذي وصححه أنس مرفوعا «بعثت أنا والساعة كهاتين،

عمر الدنيا

وأشار بالسبابة والوسطى» وفى الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا أيضا «إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس» اهـ. عمر الدنيا ألف السيوطي رسالة سماها: (الكشف، عن مجاوزة هذه الأمة الألف) أخرج فيها عدة أحاديث فى أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن مدة هذه الأمة تزيد على ألف ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة، وسمى بعضهم الألف الثانية بالألف المخضرمة، لأن نصفها دنيا ونصفها الآخر أخرى: ولا شك أن ما جاء فى هذا الباب كله مأخوذ من الإسرائيليات التي كان يبثها زنادقة اليهود والفرس فى المسلمين حتى رووه مرفوعا، وقد اغتر بها من لا ينظر فى نقد الروايات إلا من جهة أسانيدها، وقد هدمها الزمان وهدم كثيرا مثلها من الأوهام والخرافات التي أريد بها الكيد للإسلام. والخلاصة- إن القول بتعيين مدة الدنيا من أولها إلى آخرها بسبعة آلاف لم يثبت فى نص يعتمد عليه، وإن كانت قد رويت عنه آثار عن السلف أكثرها مأخوذ عن أهل الكتاب وفى أسانيدها مقال. وعلماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) فى هذا العصر يجزمون بأن عمر الدنيا الماضي يعدّ بألوف ألوف السنين بناء على ما عرف بالحفر فى طبقات الأرض، وبناء على ما وجد من آثار للبشر منذ مئات الألوف من السنين، وذلك ينقض ما جاء فى سفر التكوين من التوراة، ولا ينقض من القرآن شيئا: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» ولا من الأحاديث القطعية التي لا شبهة فيها للدسائس الإسرائيلية ولا للمكايد الفارسية المجوسية. قال ابن حزم المتوفّى سنة 456: أما نحن فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا.

أشراط الساعة وأماراتها

ومن ادعى فى ذلك سبعة آلاف سنة، أو أكثر أو أقل فقد قال مالم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لفظة تصح بل صح عنه خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى. قال الله سبحانه «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم فى الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء فى الثور» الأبيض وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض وأنه الأكبر، علم أن للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله اهـ. وعلى الجملة فبطلا الإسرائيليات وينبوع الخرافات فى تحديد عمر الدنيا: هما كعب الأحبار ووهب بن منبّه، وقد جعلاه ستة آلاف وهو فى التوراة سبعة آلاف غشا للمسلمين. أشراط الساعة وأماراتها الأشراط: واحدها شرط كأسباب وسبب وهى العلامات والأمارات الدالة على قربها، وقد ثبت فى الكتاب والسنة أن للساعة أشراطا كما قال تعالى: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» ومن أعظم أشراطها بعثة خاتم النبيين بآخر هداية الوحى الإلهى للناس أجمعين، فبعثته قد كمل بها الدين وبكماله تكمل الحياة البشرية الروحية، ويتلوها كمال الحياة المادية، وما بعد الكمال إلا الزوال. وقد وردت أحاديث فى أشراط الساعة يدل بعضها على أن الشهوات المادية تتنازع مع الهداية الروحية فيكون لها الغلب زمنا ثم تنتصر الهداية الروحية ثم يغلب الضلال والشر والفجور والكفر حتى تقوم الساعة على شرار الخلق. وقد قسموا أشراطها ثلاثة أقسام:

المهدى المنتظر

(1) ما وقع بالفعل منذ قرون خلت كقتال اليهود، وفتح بيت المقدس والقسطنطينية. (2) ما وقع بعضه وهو لا يزال فى ازدياد كالفتن والفسوق وكثرة الزنا وكثرة الدجالين وكثرة النساء وتشبههن بالرجال والكفر والشرك حتى فى بلاد العرب. (3) ما سيقع بين يدى الساعة من العلامات الصغرى والكبرى. المهدى المنتظر أشهر الروايات أن اسمه محمد بن عبد الله، والشيعة يقولون إنه محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه بالحجة والقائم والمنتظر، ويقولون إنه دخل السرداب فى دار أبيه فى مدينة (سرّ من رأى) التي تسمى الآن (سامرّا) سنة 265 وله من العمر تسع سنين وأنه لا يزال فى السرداب حيا، وزعمت الكيسانية أنه محمد بن الحنفية وأنه حىّ مقيم بجبل رضوى (جبل بالمدينة) بين أسدين يحفظانه وعنده عينان نضاختان تفيضان عسلا ولبنا ومعه أربعون من أصحابه. والمشهور فى نسبه أنه علوى فاطمى من ولد الحسن، وهناك رواية مصرحة بأنه من ولد العباس، فقد روى الرافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس: «ألا أبشرك يا عم؟ إن من ذريتك الأصفياء، ومن عترتك الخلفاء، ومنك المهدى فى آخر الزمان، به ينشر الله الهدى ويطفئ نيران الضلالة، إن الله فتح بنا هذا الأمر وبذريتك يختم» ، ومن حديث ابن عساكر عنه مرفوعا «اللهم انصر العباس وولد العباس (ثلاثا) يا عمّ أما علمت أن المهدى من ولدك موفّقا مرضيّا» وفى معناهما أحاديث أخرى لأبى هريرة وأم سلمة وعلىّ. وأكثر العلماء ينكرون هذه الأحاديث ويقولون إنها موضوعة لا نصيب لها من الصحة، ومن ثم لم يعتدّ بها الشيخان، ومن هؤلاء ابن خلدون فقد ذكر الأحاديث التي وردت فى المهدى وضعفها وضعف أسانيدها وانتهت به خاتمة المطاف إلى أنه لم يصح

فيه شىء يوثق به- إلى أن قال: إن لله سننا فى الأمم والدول والعمران، مطردة فى كل زمان ومكان، كما ثبت فى مصحف القرآن وصحف الأكوان، ومنها أن الدول لا تقوم إلا بعصبية، وأن الأعاجم قد سلبوا العصبية من قريش والعترة النبوية، فإن صحت أخبار هذا المهدى فلا يظهر إلا بعد تجديد عصبية هاشمية علوية ولو سمعوا وعقلوا لسعوا وعملوا ولكان استعدادهم لظهور المهدى بالاهتداء بسنن الله رحمة لهم تجاه ما كانوا فى أخباره من الفتن والنقم فيهم، وربما أغناهم عن بعض ما يروّجون من زعمامته إن لم يغنهم عنه كله. هذا، والمسلمون لا يزالون يتكلون على ظهور المهدى ويزعم دهماؤهم أنه سينقض لهم سنن الله أو يبدّلها تبديلا وهم يتلون قوله تعالى: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» فإذا كان من أشراط الساعة آيات وكان فى زمانها خوارق عادات فهل يضرهم أن تأتيهم وهم على هدى من ربهم وإقامة لشرعهم فى عزة وسلطان فى أرضهم؟ ... وكان لكعب الأحبار جولة واسعة فى تلفيق تلك الأخبار اهـ. وقد كانت هذه المسألة أكبر مثارات الفساد والفتن فى الشعوب الإسلامية، إذ تصدّى كثير من محبى الملك والسلطان ومن أدعياء الولاية لدعوى المهدوية فى الشرق والغرب وتأييد دعواهم بالقتال والحرب وبالبدع والإفساد فى الأرض حتى خرج ألوف الألوف من هداة الدين ومرقوا من الإسلام. وقد كان من حصافة الرأى أن يكون خروج المهدى باعثا لهم على الاستعداد لظهوره بتأليف عصبة قوية بزعامته تجدد الإسلام وتنشر العدل فى الأنام، لكنهم لم يفعلوا بل تركوا ما يجب من حفظ سلطان الملة يجمع كلمة الأمة، وبإعداد ما استطاعوا من حول وقوة، واتكلوا على قرب ظهور المهدى، وأنه هو الذي سيردّ إليهم ملكهم بالكرامات وخوارق العادات لا بالمدافع والدبابات، والطيارات والقاذفات، والأساطيل

[سورة الأعراف (7) : آية 188]

والغواصات، وقد فاتهم أن الحرب كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين سجالا، وكان المؤمنون ينفرون منه خفافا وثقالا، فهل يكون المهدى أهدى منه أعمالا، وأحسن منه حالا ومآلا. [سورة الأعراف (7) : آية 188] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) تفسير المفردات الغيب قسمان: حقيقى لا يعلمه إلا الله تعالى، وإضافى يعلمه بعض الخلق دون بعض، والخير: ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية، كالمال والعلم، والسوء ما يرغبون عنه مما يسوءهم ويضرهم، والإنذار: تبليغ مقترن بتخويف من العقاب على الكفر والمعاصي، والتبشير. تبليغ مقترن بترغيب فى الثواب مع الإيمان والطاعة. المعنى الجملي بعد أن أمر الله تعالى خاتم رسله أن يجيب السائلين عن الساعة بأنّ علمها عند الله تعالى وحده، قفّى على ذلك بأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس أن كل الأمور بيده وحده وأن علم الغيب كله عنده. وهذه الآية أسّ من أسس الدين وقواعد عقائده، إذ بينت حقيقة الرسالة، وفصلت بينها وبين الربوبية، وهدمت قواعد الشرك واجتثّت جذور الوثنية. الإيضاح (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي قل يا أيها الرسول للناس فيما تبلّغه لهم من أمر دينهم: إنى لا أملك لنفسى ولا لغيرى جلب نفع ولا دفع ضر

مستقلا بقدرتي على ذلك، وإنما أملكهما بقدرة الله، فإذا أقدرنى على جلب النفع جلبته بفعل أسبابه، وإذا أقدرنى على منع الضر منعته بتسخير الأسباب كذلك. وقد كان المسلمون ولا سيما حديثو العهد بالإسلام يظنون أن منصب الرسالة يقتضى علم الساعة وغيرها من علم الغيب، وأن الرسول يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه وعمن يحبّ أو عمن يشاء، أو منع النفع وإحداث الضر بمن يكره أو بمن يشاء فأمره الله أن يبين للناس أن منصب الرسالة لا يقتضى ذلك، وأن وظيفة الرسول إنما هى التعليم والإرشاد لا الخلق والإيجاد وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما يتعلق بذلك مما علّمه الله بوحيه، وأنه فيما عدا ذلك بشر كسائر الناس: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» . (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا ولا أعلم الغيب، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير كالمال ونحوه، ولما مسنى السوء الذي يمكن الاحتياط لدفعه بعلم الغيب. قال ابن كثير: أمره الله تعالى أن يفوّض الأمر إليه وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب فى المستقبل ولا اطّلاع له على شىء من ذلك إلا ما أطلعه الله عليه كما قال: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» وقوله: «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ» وروى الضحاك عن ابن عباس (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي من المال، وفى رواية «لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه، فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبنى الفقر» وقال ابن جرير: أي لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ولوقت الغلاء من الرّخص. وقال عبد الله بن زيد بن أسلم (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته اهـ.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 إلى 193]

ثم علل نفى امتيازه عن البشر بملك النفع والضر من غير طرق الأسباب وسنن الله فى الخلق ونفى امتيازه عنهم بعلم الغيب فقال: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إنه لا امتياز لى عن جميع البشر إلا بالتبليغ عن الله عز وجل بالإنذار والتبشير، وكل منهما يوجه إلى جميع أمة الدعوة، والآيات فى ذلك كثيرة نحو: «لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» وقوله: «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ» . والخلاصة- إن الرسل عليهم الصلاة والسلام عباد مكرمون لا يشاركون الله فى صفاته ولا فى أفعاله، ولا سلطان لهم على التأثير فى علمه ولا فى تدبيره، وإنما يمتازون باختصاص الله تعالى إياهم بوحيه واصطفائهم لتبليغ رسالته لعباده وجعلهم قدوة صالحة للناس فى العمل بما جاءوا به عن الله من الصلاح والتقوى والأخلاق الفاضلة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 193] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) تفسير المفردات من نفس واحدة: أي من جنس واحد، ليسكن إليها: أي ليأنس بها ويطمئن إليها، وتغشاها: أتاها كغشيها ويراد بالتغشى أداء وظيفة الزوجية، ومقتضى الفطرة

المعنى الجملي

وآداب الدين أن يكون ذلك فى السر، حملت: أي علقت منه، والجمل (بِالْفَتْحِ) ما كان فى بطن أو على شجرة (وبالكسر) ما كان على ظهر ونحوه، فمرت به: أي استمرت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق، واستمرت فى أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال، وأثقلت: أي حان وقت ثقل حملها وقرب وضعها، صالحا. أي نسلا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء، فتعالى الله: أي ارتفع مجده وتعالى جده وتنزه عن شرك هؤلاء الجهلاء. المعنى الجملي بعد أن افتتح عزت قدرته السورة بالدعوة إلى التوحيد واتباع ما أنزل على لسان رسوله وتلاه بالتذكير بنشأة الإنسان الأولى فى الخلق والتكوين والعداوة بينه وبين الشيطان. اختتم السورة بهذه المعاني، فذكر بالنشأة الأولى، ونهى عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان، وأمر بالتوحيد واتباع ما جاء به القرآن. الإيضاح (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) أي هو الذي خلقكم من جنس واحد وجعل زوجه من جنسه فكانا زوجين ذكرا وأنثى كما قال فى آية أخرى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى» . وهكذا خلق من كل الأنواع ومن كل أجناس الأحياء زوجين اثنين كما قال عز من قائل «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . والمشاهد أن كل خلية من الخلايا التي ينمو بها الجسم الحي تنطوى على نواتين ذكر وأنثى إذا اقترنتا ولدتا خلية أخرى وهلم جرا. وفى التوراة إن حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم، وعليه حمل بعض العلماء الحديث «استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شىء فى الضلع

أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، قاستوصوا بالنساء خيرا» رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا. ولكن المحققين ذهبوا فى تفسيره إلى أن المراد أنها ذات اعوجاج وشذوذ تخالف به الرجل، ويؤيده مارواه ابن حبّان عن أبي هريرة «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج» فهو على حد قوله تعالى: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» . وفى التعبير عن ميل الزوج الجنسي إلى زوجه هنا وفى الروم بالسكون، إشارة إلى أن المرء متى بلغ سن الحياة الزوجية يجد فى نفسه اضطرابا لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحد ذلك الاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به. (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ) أي فلما تغشى الذكر الأنثى علقت منه وكان الحمل أول عهده خفيفا لا تكاد تشعر به، وقد تستدل على وجوده بارتفاع الحيض فحسب ومن ثم استمرت فى أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استثقال. (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فلما حان قرب وضعها وكبر الولد فى بطنها، توجها: أي آدم وحواء إلى الله ربهما بدعواته أن يعطيهما ولدا صالحا أي تام الخلق يصلح للقيام بالأعمال النافعة التي يعملها البشر، وأقسما على ما وطّنا عليه أنفسهما من الشكر له إزاء هذه النعمة قولا وعملا واعتقادا. (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) أي فلما أعطاهما ما طلبا وجاء الولد بشرا سويا لا نقص فيه ولا فساد فى تركيب جسمه جعلا له شركاء فيما أعطاه. أي أظهرا ما كان راسخا فى أنفسهما منه. وقد نسب هذا الجعل إلى آدم وحواء والمراد أولادهما، قال الحسن البصري هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهوّدوا ونصرّوا. وقال الحافظ ابن كثير: أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري فى هذا وأنه ليس المراد من السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك ذريته، ولهذا قال «فَتَعالَى اللَّهُ

عَمَّا يُشْرِكُونَ» ثم قال فذكره آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس اهـ. وقال صاحب الانتصاف: إن المراد جنس الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين، وكأن المعنى والله أعلم: خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر، الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون، لأن المشركين منهم كقوله. «وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا» وقوله «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ» وقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» اهـ. وقال صاحب الكشاف. إن المراد بالزوجين الجنس لا فردان معينان، والغرض بيان حال البشر فيما طرأ عليهم من نزعات الشرك الخفي والجلى فى هذا الشأن وأمثاله والجنس يصدق ببعض أفراده اهـ. وبهذا تعلم أن ما روى عن بعض الصحابة والتابعين من أن الآية فى آدم وحواء وما روى فى حديث سمرة بن جندب مرفوعا قال «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فانه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان» ونحوه آثار كثيرة فى هذا المعنى مفصلة ومطولة- فهو خرافة من دس الإسرائيليين نقلت عن مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه فلا يوثق بها، لأن فيها طعنا صريحا فى آدم وحواء عليهما السلام ورميا لهما بالشرك، ومن ثم رفضها كثير من المفسرين، وقال الحافظ ابن كثير وهذه الآثار يظهر عليها والله أعلم أنها من آثار أهل الكتاب وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» . وأخبار أهل الكتاب ثلاثة أقسام: (1) فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله.

(2) ومنها ما علمنا كذبه بما دل الدليل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا. (3) ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون فى روايته بقوله عليه السلام «حدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج» وهو لا يصدّق ولا يكذّب لقوله: «فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم» . ثم بين سبحانه فساد رأيهم وسخافة عقولهم لهذا الشرك فقال: (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي أيشركون به سبحانه وهو الخالق لهم ولأولادهم ولكل مخلوق ما لا يخلق شيئا وإن كان حقيرا كما قال: إنّ الّذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له بل هم مخلوقون أيضا ولا يليق بذي العقل السليم أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق القادر. والآية وما بعدها حكاية لشرك عبّاد الأصنام عامة، وينتظم فيهم مشركو مكة وأمثالهم ممن نزل القرآن فى عهدهم، وتوبيخ لهم بتفصيل أحوال أولئك الشركاء التي تنافى ما اعتقدوه. (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي ولا يستطيعون لعابديهم معونة إذا حزبهم أمر مهمّ وخطب ملمّ كما لا يستطيعون لأنفسهم نصرا على من يعتدى عليهم بإهانة لهم أو أخذ شىء مما عندهم من طيب أو حلى كما قال تعالى: «وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» . والخلاصة- إنهم يحتاجون إليكم فى تكريمهم وفى النضال عنهم وأنتم لا تحتاجون إليهم. (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به رغباتكم أو تنجون به من المكاره التي تحيق بكم، لا يتبعوكم فلا يستجيبوا لكم ولا ينفعوكم. ثم أكد عدم نفعهم فقال: (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي مستولديكم دعاؤكم إياهم وبقاؤكم

[سورة الأعراف (7) : الآيات 194 إلى 198]

على صمتكم، فإنه لا يتغير حالكم فى كلتا الحالين، إذ هم لا يفهمون دعاءكم ولا يسمعون أصواتكم ولا يعقلون ما يقال لهم. والخلاصة- إنه لا ينبغى أن يعبد من كانت هذه صفته، وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الناصر وليّه، الخاذل عدوّه، الهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه. ولا شك أن هذه الحجة قائمة على من يقصدون قبور الأولياء والصلحاء ويعظمونها ويطلبون منها قضاء الحاجات، لأن هذه الأوصاف التي سيقت فى معرض التوبيخ والإنكار تنطبق على حالهم أشد الانطباق، فهم لا ينفعون ولا يضرون و (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) وقد روى البخاري عن ابن عباس فى أصنام قوم نوح التي انتقلت إلى العرب، أنها لم تنصب إلا للتذكير بأناس من الأولياء والصالحين وقد كانت اللات لرجل يلتّ عليها السويق ويطعم الناس. والخلاصة- إن الأصنام والتماثيل والقبور التي تعظّم تعظيما دينيا، عمل لم يأذن به الله، وكلها سواء فى كونها وضعت للتذكير بأناس عرفوا بالصلاح وكانوا هم المقصودين بالدعاء تخيلا من عابديها بأن لها تأثيرا فى إرادة الله أو التصرف الغيبى فى ملك الله، وذلك من أفحش الشرك وأقبحه ولا فرق بين إشراك الصنم والوثن وإشراك الولي أو النبي أو الملك. [سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 198] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)

المعنى الجملي

المعنى الجملي هذه الآيات الكريمة من تتمة ما قبلها مؤكدة له ومقررة لما تتضمنه وهو إثبات التوحيد ونفى الشرك، وهو رأس الإسلام وركنه المتين، فلا غرو أن يتكرر الكلام فيه فى القرآن، نفيا وإثباتا ليتأكد فى النفوس، ويثبت فى القلوب، وبه تخلع جذور الوثنية، ويحل محلها نور الوحدانية. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) الدعاء هو النداء لدفع الضر وجلب النفع الذي يوجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه أن يجيبه إلى ما طلبه إما بذاته وإما بحمله الربّ الخالق على ذلك: أي إن الذين تدعونهم من دون الله هم عباد أمثالكم فى كونهم مخلوقين لله خاضعين لإرادته وقدرته، وإذا كانوا أمثالكم كان من المستحيل عقلا أن تطلبوا منهم مالا يستطيعون نيله بأنفسكم ولا بمساعدة أمثالكم وإنما يدعى الرب الخالق لما وراء الأسباب المشتركة بين الخلق، والذي تخضع لإرادته الأسباب وهو لا يخضع لها، ولا لإرادة أحد يحمله على ما لا يشاؤه منها. (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين فى زعمكم أنهم قادرون على ما تعجزون عنه بقواكم البشرية من نفع أو ضر فادعوهم فليستجيبوا لكم إما بأنفسهم وإما بحملهم الرب تبارك وتعالى على إعطائكم ما تطلبون. ثم ارتقى سبحانه فى الرد عليهم وأثبت أنهم ليسوا أمثالهم، بل أحط منهم منزلة ودونهم رتبة، ووبخهم وأنبهم على عبادة هذه الأحجار والأصنام فقال:

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟) أي إن هؤلاء فقدوا وسائل الكسب التي يناط بها النفع والضر فى هذه الحياة، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم ولا آذان يسمعون بها أقوالكم ويعرفون بها مطالبكم، فهم ليسوا مثلكم، بل دونكم فى الصفات والقوى التي أودعها الله فى الخلق، فكيف ترفعونهم عن مماثلتكم وهم دونكم بالاختبار والمشاهدة. وإنكم تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول ويقول بعضكم لبعض: «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» . فما بالكم تأبون قبول الحق والخير من مثلكم وقد فضله الله عليكم بالعلم والهدى، ثم ترفعون مادونه ودونكم إلى مقام الألوهية مع انحطاطه عن درجة المثلية. ثم أمر رسوله أن يبين لهم حقارة شأنهم فقال: (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين تحتقرون نعم الله عليهم: نادوا شركاءكم الذين اتخذتموهم أولياء، ثم تعاونوا على كيدى جميعا وأوقعوا الضر بى سريعا فلا تنظرون أي لا تؤخرونى ساعة من نهار. والحكمة فى مطالبتهم بهذا، أن العقائد الموروثة يتضاءل دونها كل برهان ولا يجدى معها دليل، ومن ثم طالبهم بأمر عملى ينزع هذا الوهم من أعماق القلوب، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء ويستنجدوا بهم لصدّ دعوة الداعين إلى الكفر بها وإثبات العجز لها وإنكار مالها من سلطان غيبى وتدبير كامن، فإن كان لها حقا سلطان فى أنفسها أو من عند الله فهذا إبّان ظهوره، وإلا فمتى يظهر ليساعد أبطال عبادتها وينصر عابديها ومعظّمى شأنها، ومن الجلى أن القوم كانوا ينكرون البعث فكل ما يرجونه منها من خير أو يخافونه منها من شر فهو فى هذه الحياة.

ثم زاد الأمر بيانا وبالغ فى حقارة هذه المعبودات وعابديها على ما كان به من ضعف وقلة ناصر وهو بمكة حين نزول هذه السورة فقال: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي إن متولى أمرى وناصرى هو الله الذي نزّل علىّ الكتاب المؤيد لوحدانيته ووجوب عبادته ودعائه عند الشدائد والملمات، والناعي على المشركين عبادة غيره من وثن أو صنم، وهو يتولى نصر الصالحين من عباده، وهم من صلحت أنفسهم بصحيح العقائد، وسلمت من الأوهام والخرافات، والأعمال التي تصلح بها شئون الأفراد والجماعات، فينصرهم على ذوى الخزعبلات والأوهام، وفاسدى العقائد والأحلام تصديقا لقوله: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» . ثم أكد ما سلف بقوله. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي وإن من تدعونهم لنصركم وجلب النفع لكم ودفع الضر عنكم عاجزون، فلاهم بالمستطيعين نصركم ولا نصر أنفسهم على من يحقّر شأنهم أو يسلبهم شيئا مما وضع عليهم من طيب أو حلى، فقد كسّر إبراهيم صلوات الله عليه الأصنام فجعلهم جذاذا فما استطاعوا أن يدفعوه عن أنفسهم ولا أن ينتقموا منه لها. وقد روى عن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما- وكانا شابين من الأنصار قد أسلما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة- أنهما كانا يعدوان فى الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك ويرتئوا لأنفسهم رأيا آخر. وكان لعمرو بن الجموح- وكان سيد قومه- صنم يعبده فكانا يجيئان فى الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة فيجىء عمرو فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيغه أيضا،

[سورة الأعراف (7) : آية 199]

حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه فى حبل فى بئر هناك، فلما جاء ورأى ذلك علم أن ما كان عليه من الدين باطل وأنشد: تالله لو كنت إلها مستدن ... لم تك والكلب جميعا فى قرن ثم أسلم وحسن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه. وبعد أن نفى عنهم القدرة على النصرة قفى على ذلك بنفي قدرتهم على الإرشاد إلى الهدى والرشاد فقال: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصّلون به مقاصدكم وتنتصرون به: من أسباب خفية أو ظاهرة- لا يسمعوا دعاءكم فضلا عن مدّ يد المعونة والمساعدة. والآية كقوله: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» . (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي وتراهم أيها المخاطب ينظرون إليك بما وضع لهم من أعين صناعية وحدق زجاجية أو جوهرية موجهة إلى من يدخل عليها كأنها تنظر إليه وهم لا يبصرون بها لأن حاسة الإبصار لا تحصل بالصناعة، وإنما هى من خواصّ الحياة التي استأثر الله بها. وهم إذ فقدوا السمع لا يسمعون نداء ولا دعاء ممن يعبدونهم ولا من غيرهم وإذ فقدوا البصر لا يبصرون حاله وحال خصمه، فكيف يرجى منهم نصر وشد أزر أو أىّ معونة أخرى، أو كيف يخشى منهم إيصال ضر وأذى لمن يحتقرهم؟. [سورة الأعراف (7) : آية 199] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه هو الذي يتولى أمر رسوله وينصره، وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على إيذائه وإيصال الضر إليه- بيّن فى هذه الآية النهج القويم والصراط المستقيم فى معاملة الناس.

الإيضاح

وهذه الآية تشمل أصول الفضائل فهى من أسس التشريع التي تلى فى المرتبة أصول العقيدة المبنية على التوحيد الذي تقرر فيما سلف بأبلغ وجه وأتم برهان. الإيضاح (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أمر الله نبيه فى هذه الآية بثلاثة أشياء هى أسس عامة للشريعة فى الآداب النفسية والأحكام العملية: (1) العفو: وهو السهل الذي لا كلفة فيه: أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهّل من غير كلفة، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى ينفروا، وهذا كما جاء فى الحديث «يسّروا ولا تعسّروا» وقال الشاعر: خذى العفو منى تستديمى مودتى ... ولا تنطقى فى سورتى حين أغضب وقيل إن المعنى خذ العفو وما تسهّل من صدقاتهم. والخلاصة- إن من آداب الدين وقواعده اليسر وتجنب الحرج وما يشق على الناس، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. (2) الأمر بالمعروف: وهو ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه، ولا شك أن هذا مبنى على اعتبار عادات الأمة الحسنة وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة فى مصالحها. وإجمال القول فيه- إنه اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس. وقد ذكر المعروف فى السور المدينة فى الأحكام الشرعية العملية كوصف الأمة الإسلامية وحكومتها كقوله: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» وقوله: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .

وعند ذكر الحقوق الزوجية كقوله «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» وفى أحكام الطلاق كقوله: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» وقوله «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» ومن ذلك ترى أن هذا اللفظ (المعروف) لم يذكر إلا فى الأحكام الهامة، وأن المراد به ما هو معهود بين الناس فى المعاملات والعادات، ولا شك أنه يختلف باختلاف الشعوب والبلاد والأوقات، ومن ثم قال بعض الأئمة: المعروف ما يستحسن فى العقل فعله، ولا تنكره العقول الصحيحة، ويكفى المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة، إذ لا يمكن المؤمن أن يستنكر ما جاء عن الله ورسوله، وليكن للجماعة الإسلامية بعده رأى فيما يعرفون وينكرون، ويستحسنون ويستهجنون، ويكون عمدتهم فى ذلك جمهور العقلاء وأهل الفضل والأدب فى كل عصر. (3) الإعراض عن الجاهلين، وهم السفهاء بترك معاشرتهم وعدم مماراتهم، ولا علاج للوقاية من أذاهم إلا الإعراض عنهم، وقد روى عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: ليس فى القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها، وروى الطبري وغيره عن جابر «أنه لما نزلت هذه الآية سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عنها فقال: لا أعلم حتى أسأل ثم رجع فقال: إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك» وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال: خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين ولن فى الكلام لكل الأنام ... فمستحسن من ذوى الجاه لين وقال بعض العلماء: هذه الآية قد تضمنت قواعد الشريعة، فلم يبق فيها حسنة إلا وعتها، ولا فضيلة إلا شرحتها فقوله: خذ العفو إيماء إلى جانب اللين ونفى الحرج فى الأخذ والإعطاء وأمور التكليف، وقوله: وأمر بالعرف تناول جميع المأمورات والمنهيات، وأنهما ما عرف فى الشريعة حكمه، واتفقت القلوب على علمه، وقوله:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 200 إلى 202]

وأعرض عن الجاهلين تناول جانب الصفح بالصبر الذي يتأتى للعبد به كل مراد فى نفسه وغيره اهـ. [سورة الأعراف (7) : الآيات 200 الى 202] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) تفسير المفردات النزع كالنخس والنغز والوكز: إصابة الجسد برأس محدّد كالإبرة والمهماز والرمح، والمراد به هنا نزع الشيطان بإثارته داعية الشر والفساد فى النفس بغضب أو شهوة بحيث تلجئ صاحبها إلى العمل بتأثيرها كما تنخس الدابة بالمهماز لتسرع، والاستعاذة بالله: الالتجاء إليه، ليقيك من شر هذا النزع، والطوف والطواف بالشيء: الاستدارة به أو حوله، وطيف الخيال: ما يرى فى النوم من مثال الشخص، والمس: يراد به هنا ما ينال الإنسان من شر وأذى، فقد ذكر فى التنزيل مس الضر والضراء والبأساء والسوء والعذاب. والمد والإمداد: الزيادة فى الشيء من جنسه، واستعمل فى القرآن فى الخلق والتكوين كقوله: «وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ» وقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» وفى مدّ الناس فيما يذم ويضر كقوله: «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» والإقصار: التقصير، ويقال أقصر عن الأمر: تركه وكف عنه وهو قادر عليه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السابقة أمثل الطرق فى معاملة الناس بعضهم بعضا مما لو عملوا بهديه لم يجد الفساد إلى نفوسهم سبيلا- قفى على ذلك بالوصية التي تتضمنها

الإيضاح

هذه الآيات الثلاث، وهى اتقاء إفساد الشياطين: أي شياطين الجن المستترة- فالآية السالفة أمرت بالإعراض عن الجاهلين وهم السفهاء اتقاء لشرهم- وهذه الآيات أمرت بالاستعاذة بالله من الشياطين اتقاء لشرهم. الإيضاح (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي وإن يثر فيك الشيطان داعية الشر والفساد بسبب غضب أو شهوة، فيجعلك تتأثر وتتحرك للعمل بها كما تتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز فتسرع- فالجأ إلى الله وتوجه إليه بقلبك ليعيذك من شر هذا النزغ، حتى لا يحملك على ما يزعجك من الشر وعبّر عن ذلك بلسانك فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنه سميع لما تقول عليم بما تحدثك به نفسك ويجيش به صدرك، فهو يصرف عنك تأثير نزغه بتزيين الشر، وقد دلت التجربة على أن الالتجاء إلى الله تعالى وذكره بالقلب واللسان يصرف عن النفس وسوسة الشيطان كما قال تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» والخطاب فى الآية وما ماثلها من الآيات موجه إلى كل مكلف يبلغه، وأولهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه موجه إلى الرسول والمراد أمته، وقد روى مسلم عن عائشة وابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن- قالوا وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياى إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم منه» . ثم بين سبحانه طريق سلامة من يستعذ من الشيطان من الوقوع فى المعصية فقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي إن خيار المؤمنين وهم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون- إذا ألمّ بهم طائف من الشيطان ليحملهم بوسوسته على المعصية أو إيقاع البغضاء بينهم، تذكروا أن هذا من إغواء الشيطان عدوهم الذي أمر الله بالاستعاذة منه والالتجاء إليه

فى الحفظ من غوايته، فإذا هم أولو بصيرة يربئون بأنفسهم أن تطيعه، فهو إنما تأخذ وسوسته الغافلين عن ربهم الذين لا يراقبونه فى شئونهم وأعمالهم، ولا شىء أقوى على طرد وساوس الشيطان من ذكر الله ومراقبته فى السر والعلن، من قبل أنه يقوّى فى النفس حب الحق وداعى الخير، ويضعف فيها الميل إلى الشرور والآثام، فما مثل المؤمن المّتقى الذي لا يتمكن الشيطان من إغوائه وإن تمكن من مسه، إلا مثل الصحيح الجسم القوى المزاج النظيف البدن والثوب والمكان لا تجد النسم (الميكروبات) طريقا لإفساد مزاجه وإصابته بالأمراض، فإن مسه شىء منها بدخوله فى جمسه فتكت بها نسم الصحة فحالت دون فتكها به، وهذا ما يسميه الأطباء (المناعة) . فقوىّ الروح بالإيمان والتقوى غير قابل لتأثير الشيطان فى نفسه، لكن الشيطان دائما يتحين الفرص وعروض بعض الأهواء النفسية من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام، حتى إذا وجد الفرصة سانحة افترصها ولا بس النفس وقوىّ فيها داعى الشر كالحشرات القذرة التي تعرض للنظيف إذا أهملها بالغفلة عنها فعلت فعلها، وإذا تداركها نجا من شرها وضرها، وما سر هذا إلا المناعة النفسية أو الروحية. وإن الإنسان ليشعر بتنازع دواعى الخير والشر فى نفسه، وإن لداعية الخير والحق ملكا يقوّيها، ولداعية الشر والباطل شيطانا يقويها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله «إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» . (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي إن إخوان الشياطين وهم الجاهلون الذين لا يتقون الله- يتمكن الشياطين من إغوائهم فيمدونهم فى غيهم وإفسادهم، لأنهم لا يذكرون الله إذا شعروا بالنزوع إلى الشر ولا يستعيذون به من تزع الشيطان ومسه، إما لأنهم لا يؤمنون بالله وإما لأنهم لا يؤمنون بأن للإنسان شيطانا

[سورة الأعراف (7) : آية 203]

من الجن يوسوس إليه ويغريه بالشر- ثم لا يقصرون ولا يكفون عن إغوائهم وإفسادهم، فلذلك يصرون على الشر والفساد لفقد الوازع النفسي والواعظ القلبي. والخلاصة- إن المؤمنين إذا مسهم طائف من الشيطان يحملهم على المعاصي تذكروا فأبصروا وحذروا وسلموا، وإن ذلوا تابوا وأنابوا، وإن إخوان الشياطين تتمكن الشياطين من إغوائهم فيمدونهم فى غيهم، ولا يكفون عن ذلك، ومن ثم تراهم يستمرون فى شرورهم وآثامهم لفقد الوازع النفسي. [سورة الأعراف (7) : آية 203] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن شياطين الجن والإنس لا يقصرون فى الإغواء والإضلال- قفّى على ذلك بذكر نوع خاص من هذا الإغواء وهو طلبهم آيات معينة ومعجزات مخصوصة تعنتا كما قال تعالى حكاية عنهم: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» أي إذا لم تأتهم بما طلبوا قالوا هلا افتعلتها وأتيت بها من عند نفسك، لأنهم كانوا يقولون: «ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً» . الإيضاح (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها) قال الفرّاء تقول العرب: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك: أي وإذا لم يأتهم الرسول بآية قرآنية بأن تراخى نزول الوحى زمنا ما- قالوا لولا افتعلت نظمها وتأليفها واخترعتها

من تلقاء نفسك، وقد يكون المعنى: وإذا لم تأتهم بآية مما اقترحوا عليك قالوا: هلّا حباك الله بها بأن مكنك منها فاجتبيتها وأبرزتها لنا، إن كنت صادقا فى أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك. (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي إنه ليس لى أن أقترح على ربى أمرا من الأمور، وإنما أنتظر الوحى، فكل شىء أكرمنى به قلته وإلا وجب علىّ السكوت وترك الاقتراح. وفى معنى الآية قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» . وقد يكون المعنى ما أنا بقادر على إيجاد الآيات الكونية ولا بمفتات على الله فى طلبها، وإنما أنا متبع لما يوحى إلىّ فضلا من ربى علىّ إذ جعلنى مبلّغا عنه. وقد وصف الله تعالى القرآن بثلاثة أوصاف: (1) (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) بصائر أي حجج بينة وبراهين نيرة للعقول فى الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد: أي إن هذا القرآن الذي أوحاه الله إلىّ بصائر وحجج من ربكم، من يتأملها حق التأمل يكن بصير العقل بما تدل عليه من الحق، فهى أدل عليه مما تطلبون من الآيات الكونية. ونحو الآية قوله: «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» . (2) (وَهُدىً) أي وهو هدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم. (3) (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ورحمة فى الدنيا والآخرة للذين يؤمنون به كما قال تعالى: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» . وهذه الأوصاف له بالنسبة إلى معتنقيه، ذاك أن منهم من بلغ فى معارف التوحيد

[سورة الأعراف (7) : الآيات 204 إلى 206]

والنبوة والمعاد مرتبة أصبح بها كالمشاهد لها وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والقرآن لهؤلاء بصائر، ومنهم من دون ذلك والقرآن لهم هدى، وهو فى حق المؤمنين عامة رحمة، لا جرم قال «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 204 الى 206] وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) تفسير المفردات الاستماع: أخص من السمع، لأنه إنما يكون بقصد ونية أو توجيه الحاسة إلى الكلام لإدراكه، أما السمع: فيحصل ولو بغير قصد، والإنصات: السكوت للاستماع حتى لا يكون شاغل عن الإحاطة بكل ما يقرأ، والتضرع: إظهار الضراعة، وهى الذلة والضعف والخضوع، والخيفة: حالة الخوف والخشية، ودون الجهر: أي ذكرا دون الجهر برفع الصوت وفوق التخافت والسر: بأن يذكر ذكرا وسطا، والغدو: جمع غدوة، وهى ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والآصال: جمع أصيل، وهو العشى من وقت العصر إلى غروب الشمس، ويسبحونه: ينزهونه عما لا يليق به ويسجدون أي يصلون. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه مزايا القرآن الكريم وأنه آيات بينات للمؤمنين وهدى ورحمة لهم- قفّى على ذلك بذكر الدلائل على الطريق الموصلة لنيل الرحمة به، والفوز بالمنافع الجليلة التي ينطوى عليها وهى الإنصات له إذا قرئ.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قرئ القرآن عليكم أيها المؤمنون فأصغوا له أسماعكم، لتتفهموا آياته وتعتبروا بمواعظه، وأنصتوا له لتعقلوه وتتدبروه ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه، ليرحمكم ربّكم باتعاظكم بمواعظه، واعتباركم بعبره، واستعمالكم ما بينه لكم من فرائضه فى آيه فمن استمع وأنصت كان جديرا أن يفهم ويتدبر، ومن كان كذلك كان حريّا أن يرحم. والآية تدل على وجوب الاستماع والإنصات للقرآن إذا قرئ سواء أكان ذلك فى الصلاة أو فى خارجها وهو المروي عن الحسن البصري، لكن الجمهور خصوه بقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم فى عهده وبقراءة الصلاة والخطبة من بعده، ذلك أن إيجاب الاستماع والإنصات فى غير الصلاة والخطبة فيه حرج عظيم، إذ يقتضى أن يترك له المشتغل بالعلم علمه والمشتغل بالحكم حكمه وكل ذى عمل عمله. أما قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعضها تبليغا للتنزيل وبعضها وعظا وإرشادا، فلا يسع أحدا من المسلمين يسمعه يقرأ أن يعرض عن الاستماع أو يتكلم بما يشغله أو يشغل غيره عنه، وهكذا شأن المصلى مع إمامه وخطيبه، إذ هذا هو المقصود من الصلاة والواجب فيها. وما يفعله جماهير الناس فى المحافل التي يقرأ فيها القرآن كالمآتم وغيرها من ترك الاستماع والاشتغال بالأحاديث المختلفة- فمكروه كراهة شديدة ولا سيما لمن كانوا على مقربة من التالي، ولا يجوز لقارئ أن يقرأ على قوم لا يستمعون له، وإن كان أكثرهم يستمع وينصت فشذ بعضهم بمناجاة صاحبه بالجنب بلا تهويش على القارئ ولا على المستمعين كانت المخالفة سهلة لا تقتضى ترك القراءة ولا تنافى الاستماع. والواجب على كل مؤمن بالقرآن أن يحرص على استماعه عند قراءته كما يحرص على تلاوته وأن يتأدب فى مجلس التلاوة.

وجملة الأمر فى ذلك ألا يصدر من السامع ما يعدّ فى اعتقاده أو فى عرف الناس أنه مناف للأدب: ولا بأس بقراءة القرآن حال القيام والقعود والاضطجاع والمشي والركوب، ولا تكره مع حدث أصغر ولا مع نحاسة ثوب أو بدن، وإن كان يستحب الوضوء حين القراءة حال الحدث ولا سيما للقارئ فى المسحف. وتستحب القراءة بالترتيل والنغم الدالة على التأثير والخشوع من غير تكلف ولا تصنع، فقد روى أبو هريرة مرفوعا «ما أذن (استمع) الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن» رواه الشيخان. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي واذكر ربك الذي خلقك وربّاك بنعمه فى نفسك بأن تستحضر معنى أسمائه وصفاته وآلائه وفضله عليك وحاجتك إليه، متضرعا له خائفا منه راجيا نعمه، واذكره بلسانك مع ذكره فى نفسك ذكرا دون الجهر برفع الصوت من القول وفوق التخافت والسر، بل ذكرا قصدا وسطا كما قال تعالى: «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» . وذكر اللسان وحده دون ذكر القلب وملاحظة معانى القول لا يجدى نفعا، فكم رأينا من ذوى الأوراد والأدعية الذين يذكرون الله كثيرا بالمئين والآلاف ولا يفيدهم ذلك معرفة بالله ولا مراقبة له، لأن ذلك أصبح عادة لهم تصحبها عادات أخرى منكرة، ومن ثم كان الواجب الجمع بين ذكر القلب وذكر اللسان. وأجمل الأوقات لهذا الذكر وقتان أول النهار وآخره لأنهما طرفا النهار، ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديرا بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما، ويكون هذا الذكر فى صلاتى الفجر والعصر اللتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدان عند الله بما وجدا عليه العبد كما ورد فى صحيح الآثار. (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله بل أشعر قلبك الخضوع له والخوف من

خلاصة ما اشتملت عليه السورة من الأغراض والمقاصد

قدرته عليك إذا أنت غفلت عن ذلك، ومن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه، وضعف إيمانه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه نفسه. ثم ختم سبحانه هذه الآيات بما يؤكد به الأمر والنهى السابقين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي إن ملائكة الرحمن المقرّبين عنده لا يستكبرون عن عبادته كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون، وينزهونه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه وجلاله، وعن اتخاذ الندّ والشريك كما يفعل الذين اتخذوا من دون الله شفعاء وأندادا يحبونهم كحبه، وله وحده يصلون ويسجدون، فلا يشركون معه أحدا، فالواجب على كل مؤمن أن يجعل خواص الملائكة والمقربين إليه تعالى من حملة عرشه والحافّين به أسوة حسنة له فى صلاته وسجوده وسائر عبادته. وقد شرع الله لنا السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها، إرغاما لمن أبي ذلك من المشركين، واقتداء بالملائكة المقربين، ومثلها آيات أخرى ستأتى فى مواضعها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول فى سجوده لذلك: «اللهم لك سجد سوادى، وبك آمن فؤادى، اللهم ارزقني علما ينفعنى، وعملا يرفعنى» . وفى الآية إرشاد إلى أن الأفضل إخفاء الذكر، وقد روى أحمد قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الذكر الخفي» فأين هذا مما يفعله جهلة زماننا الذين يجأرون فى ذكرهم بأصوات منكرة يستقبحها الدين والعقل والعرف، ولا علاج لمثل هذا إلا حملة نكراء من رجال الدين عليهم حتى يتفهموا ما طلبه الدين وما رمى إليه من التضرع إليه تعالى خفية ودون الجهر بالقول. وصل الله على سيدنا محمد النبي الأمى وعلى آله وصحبه وسلم. خلاصة ما اشتملت عليه السورة من الأغراض والمقاصد يمكن إجمال القول فى الأغراض التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة فيما يلى: (1) التوحيد: وهو يتضمن دعاء الله وحده وإخلاص الدين له وتخصيصه بالعبادة، فإنه شارع الدين فيجب اتباع ما أنزله ولا يجوز اتباع الأولياء من دونه

فى العقائد والعبادات ولا التحليل والتحريم الديني كما قال «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» . وإن القول عليه بغير علم بتشريع أو غيره لا يجوز لأحد كما قال: «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» . وإن جميع ما يشرعه لعباده حسن وما سواه قبيح: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» ونحن مأمورون بذكره تضرعا وخفية سرا وجهرا. (2) الوحى والكتب، ويتضمن ذلك إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم للإنذار به، والأمر باستماعه والإنصات له رجاء الرحمة بسماعه والاهتداء به وأمر المؤمنين باتباع المنزل عليهم من ربهم. (3) الرسالة والرسل، ويشمل ذلك بعثة الرسل إلى جميع بنى آدم كما قال: «يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» وسؤالهم يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة- ومجىء الرسل بالبينات من الله تعالى تأييدا منه لهم- وعقاب الأمم على تكذيب الرسل كما ذكر فى قصص نوح وهود وصالح وشعيب. (4) عالم الآخرة: ويتضمن ذلك البعث والإعادة فى الآخرة كما قال: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» ووزن الأعمال يوم القيامة وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها وأن الجزاء بالعمل، وإقامة أهل الجنة الحجة على أهل النار، والحجاب بين أهل الجنة وأهل النار ونداء أصحاب النار أصحاب الجنة، واعتراف أهل النار فى الآخرة بصدق الرسل، وصفة أهل النار، وقيام الساعة وكونها تأتى بغتة. (5) أصول التشريع: ويتضمن هذا وجوب اتباع الدين على أنه قربة يثاب فاعلها عليها ويعاقب تاركها فى الآخرة، وتحريم التقليد فيه، والأخذ بآراء البشر وتعظيم شأن النظر العقلي، والتفكر لتحصيل العلم بما يجب الإيمان به ومعرفة آيات الله وسننه

فى خلقه والأمر بالعدل فى الأحكام والأعمال كما قال «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» وحصر أنواع المحرمات الدينية العامة فى قوله «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» إلخ، وبيان أصول الفضائل الأدبية والتشريعية فى قوله «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» . (6) آيات الله وسننه فى الكون- ويتضمن ذلك خلق السموات والأرض فى ستة أيام واستواءه على العرش ونظام الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره- وخلق الرياح والمطر وإحياء الأرض به وإخراجه الثمرات من الأرض- خلق الناس من نفس واحدة وخلق زوجها منها ليسكن إليها وإعداد الزوجين للتناسل- وتفضيل الإنسان على من فى الأرض جميعا- خلق بنى آدم مستعدين لمعرفة الله وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنه ربهم وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم بما منحوه من العقل وحجته تعالى عليهم بذلك- خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات- ضرب الأمثال لاختلاف الاستعداد لكل من الخير والشر وعلامة كل منهما فيهم يكون بما يرى من ثماره- وفى ذلك تعليم لنا بطلب معرفة الشيء بأثره ومعرفة الأثر بمصدره- عداوة إبليس والشياطين من نسله لبنى آدم وإغوائهم بالفساد مع ذكر حكمة ذلك، بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون- منّة الله على البشر بتسهيل أسباب المعاش لهم- آيات الله تعالى ونعمه على بنى إسرائيل إلى نحو أولئك مما فيه سعادة البشر فى دينهم ودنياهم. (7) سننه تعالى فى الاجتماع والعمران البشرى- ويتضمن ذلك إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها وأن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عنها بما اقتضته السنن الإلهية العامة- ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة وبالرخاء والنعماء أخرى- وأن الإيمان بما دعا إليه والتقوى فى العمل بشرعه فعلا وتركا سبب لكثرة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة كما قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» وأن لله فى إرث الأرض واستخلاف الأمم والسيادة

على الشعوب سننا لا تتبدل كما قال: «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي إن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية فتدوم لهم وإنما هى لله، ولله سنن فى سلبها من قوم وجعلها إرثا لقوم آخرين- وقد جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون أسباب الضعف والتخاذل والفساد فى الأرض ويتصفون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال كالصبر على المكاره والاستعانة بالله الذي بيده ملكوت كل شىء. وإنا نرى أن بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة فى هذا العصر باستعمار الدول الأوربية لها يائسة من استقلالها وعزتها لما ترى من رجحان ذوى السيادة عليها فى القوى المادية جهلا منهم بسنة الله التي بينها للناس فإن رجحان فرعون وقومه على بنى إسرائيل كان فوق رجحان قوى السائدين وقهرهم إياهم. وقد كان ينبغى للمسلمين أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من كان قبلهم حتى دالت دولتهم وزال ملكهم ولله الأمر من قبل ومن بعد.

سورة الأنفال

سورة الأنفال آياتها خمس وسبعون، نزلت بعد البقرة، وهى مدنية إلا من آية 30 لغاية 36 فمكية ومناسبتها لسورة الأعراف أنها فى بيان أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه. وسورة الأعراف مبينة لأحوال الرسل مع أقوامهم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) تفسير المفردات الأنفال: واحدها نفل (بالتحريك) من النفل (بالسكون) وهو الزيادة على الواجب، ومنه صلاة النفل، والمراد به هنا الغنيمة- وقيل الغنيمة كل ما حصل مستغنما بتعب أو بغير تعب وقبل الظفر أو بعده، والنفل يحصل للإنسان قبل القسمة من الغنيمة، والبين: يطلق على الاتصال والافتراق وعلى كل ما بين طرفين كما قال: «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» وذات البين: الصلة التي تربط بين شيئين، والوجل: الفزع والخوف، والدرجات: منازل الرفعة ومراقى الكرامة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي نزلت هذه الآيات فى غنائم غزوة بدر، إذ تنازع فيها من حازها من الشبان وسائر المقاتلة، فقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا» فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان: إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شىء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ؟ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقّاص أنه قتل سعيد بن العاص وأخذ سيفه واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه إياه، وأن الآية نزلت فى ذلك فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلى الله عليه وسلم. الإيضاح (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) أي يسألونك أيها الرسول عن الأنفال لمن هى؟ أللشبان أم للشيوخ؟ أو للمهاجرين هى، أم للأنصار؟ أم لهم جميعا؟. (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي قل لهم الأنفال لله يحكم فيها بحكمه، وللرسول يقسمها بحسب حكم الله تعالى، وقد قسمها صلى الله عليه وسلم بالسواء. وقد بين الله بهذا أن أمرها مفوض إلى الله ورسوله، ثم بين مصارفها وكيفية قسمتها فى آية الخمس: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» إلخ، وللإمام أن ينفلّ من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس وقد روى عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قتل أخى عمير يوم بدر فقلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبنى فحئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن الله شفى صدرى من المشركين فهب لى هذا السيف، فقال لى عليه الصلاة والسلام: ليس هذا لى ولا لك، اطرحه فى القبض فطرحته

وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخى وأخذ سلبى، فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد سألتنى السيف وليس لى وقد صار لى فخذه. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي فاجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة والتنازع والاختلاف الموجب لسخط الله، لما فيه من المضارّ ولا سيما فى حال الحرب. (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي وأصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، وهذا الإصلاح واجب شرعا وعليه تتوقف قوة الأمة وعزتها وبه تحفظ وحدتها، روى عن عبادة بن الصامت قال: نزلت هذه الآية فيما معشر أصحاب بدر حين اختلفنا فى النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء وكان فى ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فى كل ما يأمر به وينهى عنه، ويقضى به، ويحكم فالله تعالى مالك أمركم، والرسول مبلّغ عنه ومبيّن لوحيه بالقول والفعل والحكم. وعلى هذه الطاعة تتوقف النجاة فى الآخرة والفوز بثوابها، والرسول صلى الله عليه وسلم يطاع فى اجتهاده أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة ولا سيما فى الشئون الحربية، لأنه القائد العام فمخالفته تخلّ بالنظام وتؤدى إلى الفوضى التي لا تقوم للأمة معها قائمة، ولأئمة المسلمين من حق الطاعة فى تنفيذ الشرع وإدارة شئون الأمة وقيادة الجند ما كان له صلى الله عليه وسلم بشرط عدم معصية الله تعالى ومشاورة أولى الأمر. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم كاملى الإيمان فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة، إذ كماله يقتضى ذلك لأن الله أوجبه فالمؤمن بالله حقا يكون له من نفسه وازع يسوقه إلى الطاعة واتقاء المعاصي إلا أن يعرض له ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة أو سورة غضب ثم لا يلبث أن يفىء إلى أمر الله ويتوب إليه مما عرض له.

ثم وصف الله تعالى المؤمنين بخمس صفات تدل على وجوب التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي إنما المؤمنون حقا المخلصون فى إيمانهم هم الذين اجتمعت فيهم خصال خمس: (1) (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم فزعوا لعظمته وسلطانه أو لوعده ووعيده ومحاسبته لخلقه، والآية بمعنى قوله: «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» . (2) (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أي وإذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم زادتهم يقينا فى الإيمان، وقوة فى الاطمئنان، ونشاطا فى الأعمال إذ أن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج يوجب زيادة اليقين، فابراهيم صلوات الله وسلامه عليه كان مؤمنا بإحياء الله الموتى حين دعا ربه أن يريه كيف يحييها كما قال تعالى: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» فمقام الطمأنينة فى الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا. ويروى أن عليا المرتضى قال: لو كشف عنى الحجاب ما ازددت يقينا، والعلم التفصيلي فى الإيمان أقوى من العلم الإجمالى، فمن آمن بأن لله علما محيطا بالمعلومات، وحكمة قام بها نظام الأرض والسموات، ورحمة وسعت جميع المخلوقات ويعلم ذلك علما إجماليا ولو سألته أن يبين لك شواهده فى الخلق لعجز- لا يوزن إيمانه بإيمان صاحب العلم التفصيلي بسنن الله فى الكائنات فى كل نوع من أنواع المخلوقات، ولا سيما فى العصور الحديثة التي اتسعت فيها معارف البشر بهذه السنن، فعرفوا منها ما لم يكن يخطر عشر معشاره لأحد من العلماء فى القرون الخوالى. وفى معنى الآية قوله تعالى فى وصف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم

القرح فى غزوة أحد: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» وقوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» . (3) (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي إنهم يتوكلون على ربهم وحده ولا يفوضون أمرهم إلى سواه، فمن كان موقنا بأن الله هو المدبر لأموره وأمور العالم كله لا يمكن أن يكل شيئا منها إلى غيره. وإذا كان الشرع والعقل حاكمين بأن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به وأنه يجازى على عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وجب على الإنسان أن يسعى فى تدبير أمور نفسه بحسب ما وضعه الله فى نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات، وأن هذا الارتباط لم يكن إلا بتسخير الله تعالى وأن ما يناله باستعمالها فهو فضل من الله الذي سخرها وجعلها أسبابا وعلّمه ذلك، وأن ما لا يعرف له سبب يطلب به، فالمؤمن يتوكل على الله وحده وإليه يتوجه فيما يطلبه منه. أما ترك الأسباب وتنكب سنن الله فى الخلق فهو جهل بالله وجهل بدينه وجهل بسننه التي لا تتبدل ولا تتحول. (4) (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يؤدونها مقوّمة كاملة فى صورتها وأركانها الظاهرة من قيام وركوع وسجود وقراءة وذكر وفى معناها وروحها الباطن من خشوع وخضوع فى مناجاة الرحمن، واتعاظ وتدبر فى تلاوة القرآن، وبهذا كله تحصل ثمرة الصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر. (5) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون بعض ما رزقناهم فى وجوه البر فى الزكاة المفروضة وبالنفقات الواجبة والمندوبة للأقربين والمعوزين، وفى مصالح الأمة ومرافقها العامة التي بها يعلو شأنها بين الأمم ويكون عليها تقدمها وعمرانها. (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي أولئك الذين اتصفوا بتلك الصفات هم دون من سواهم

هم المؤمنون حق الإيمان، وهو نتيجة لتصديق إذعانى له أثر فى أعمال القلوب والجوارح وبذل المال فى سبيل الله. روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال أصبحت مؤمنا حقا: قال: انظر ماذا تقول فإن لكل شىء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسى عن الدنيا، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهارى، وكأنى أنظر إلى عرش ربى بارزا، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال: يا حارثة عرفت فالزم (ثلاثا) » وروى عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ قال الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألنى عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألنى عن قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ» إلخ فو الله لا أدرى أنا منهم أم لا. وبعد أن ذكر سبحانه أوصافهم ذكر جزاءهم عند ربهم فقال: (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم درجات من الكرامة والزلفى لا يقدر قدرها عند ربهم الذي خلقهم وسوّاهم وهو القادر على جزائهم على جميل أعمالهم فى دار الجزاء والثواب، والله تعالى فضل بعض الناس ورفعهم على بعض درجة أو درجات فى الدنيا وفى الآخرة وعند الله تعالى كما قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» وقال تعالى فى الرسل: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» الآية. وقال فى درجات الدنيا وحدها: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» . ولهم مغفرة من الله لذنوبهم التي سبقت وصولهم إلى درجة الكمال، ولهم رزق

[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 إلى 8]

كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة، والكريم تصف به العرب كل شىء حسن لا قبح فيه ولا شكوى. [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) تفسير المفردات الشوكة: الحدة والقوة، وأصلها واحدة الشوك، شبهوا بها أسنة الرماح، والطائفتان: طائفة العير الآتية من الشام، وطائفة النفير التي جاءت من مكة للنجدة، وغير ذات الشوكة: هى العير، ودابر القوم: آخرهم الذي يأتى فى دبرهم ويكون من ورائهم، ويحق الحق: أي يعز الإسلام لأنه الحق، ويبطل الباطل: أي يزيل الباطل وهو الشرك ويمحقه. المعنى الجملي بدئت القصة بغزوة بدر الكبرى التي كانت أول فوز للمؤمنين، وخذلان للمشركين، مع بيان أحكام الغنائم التي غنمها المسلمون منهم- ثم ذكر هنا أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وكراهة فريق من المؤمنين لذلك، وقد كان من مقتضى الإيمان الإذعان لطاعته والرضا بما يفعله بأمر ربه وما يحكم أو يأمر به.

الإيضاح

الإيضاح (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) أي إن الأنفال لله يحكم فيها بالحق، ولرسوله يقسمها بين من جعل الله لهم الحق فيها بالسوية وإن كره ذلك بعض المتنازعين فيها ممن كانوا يرون أنهم أحق بها، كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين، وقد كان كثير من المؤمنين كارهين لذلك، لعدم استعدادهم للقتال، ولنحو هذا من الأسباب التي تعلم مما يلى. وبيان ذلك- أن رسول الله لما سمع بأبى سفيان مقبلا بعيره من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفّلكموها، فخف بعضهم وثقل بعضهم ظنا منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا- وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار ويسأل من لقى من الرّكبان تخوّفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن مسير قريش إليهم ليمنعوا عيرهم فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بذلك واستشارهم فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ولكن اذهب أنت وربك إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة باليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا علىّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّف ألا تكون الأنصار ترى نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوّه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل، فقال قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فو الذي بعثك بالحق، لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّبه عينك، فسر بنا على بركه الله فسّر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول سعد ونشّطه ذلك ثم قال: «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين: العير القادمة من الشام وعلى رأسها أبو سفيان، أو النفير الآتي من مكة لنجدتهم وعلى رأسهم أبو جهل والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم» . (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي يجادلونك المؤمنون فى الحق وهو تلقى النفير، لإيثارهم عليه تلقى العير، كراهية للقاء المشركين، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم بعد أن تبين لهم الحق بإخبارك أنهم سينصرون أينما توجهوا- ويقولون ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب، وما كان هذا إلا لكراهتهم للقتال. إذ أنهم كانوا فى حال ضعف، فكان من حكمة الله أن وعدهم أولا إحدى طائفتى قريش تكون لهم على طريق الإبهام لا على طريق التعيين، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام، لأنها كسب عظيم لا مشقة فى إحرازه لضعف الحامية، فلما ظهر لهم أنها فاتتهم ونجت إذ ذهبت من طريق سيف البحر (طريق الشاطى) وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما لدى قريش من قوة، وأنها قد قربت منهم ووجب عليهم

قتالها، إذ تبين أنها هى الطائفة التي وعدهم الله تعالى بالنصر عليها- صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها، وضعفهم وقوتها، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها، وطفقوا يعتذرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يخرجوا إلا للعير، لأنه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له. ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدل فيه وجه- فلا ينبغى أن يقال إن طائفة العير هى مراد الله لأنها نجت، ولا بأن يقال إننا لم نعدّ للقتال عدّته، لأنه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر بها لوعد الله به، فإذا لا وجه للجدل إلا الجبن والخوف من القتال. (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي كأنهم لشدة ما هم فيه من جزع ورهب يساقون إلى موت محقق لا مهرب منه، لوجود أماراته وأسبابه حتى كأنهم ينظرون إليه بأعينهم، إذ ما بين حالهم وحال عدوهم من التفاوت فى القوة والعدد والخيل والزاد قاض بذلك، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالظفر والنصر عليهم (ووعده لا يتخلف) أما هذه الأسباب العادية فكثيرا ما تتخلف، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله الذي بيده كل شىء وهو القادر على كل شىء، وهكذا أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين وكان لهم الظفر والفوز على عدوهم وكان هذا نصرا مؤزّرا للمسلمين على المشركين، وبه علا ذكرهم فى البلاد العربية وهابهم قاصيها ودانيها. (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) أي واذكروا حين وعد الله إياكم أن إحدى الطائفتين لكم تتسلطون عليها وتتصرفون فيها. (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي وتتمنّون أن الطائفة غير ذات الشوكة: (وهى العير) تكون لكم، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، وعبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم للقتال وطمعهم فى المال. (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي ويريد الله بوعده غير ما أردتم، يريد أن يثبت الحق الذي أراده بكلماته، أي بآياته المنزلة على رسوله فى محاربة ذات الشوكة،

[سورة الأنفال (8) : الآيات 9 إلى 14]

وبما أمر به الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى به من أسر المشركين وقتلهم وطرحهم فى قليب (بئر) بدر. (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي ويهلك المعاندين جملة، ويستأصل شأفتهم، ويمحق قوتهم، وقد كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة. قال صاحب الكشاف: يعنى أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وألا تلقوا ما يرزؤكم فى أبدانكم وأموالكم، والله عز وجل يريد معالى الأمور وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلوّ الكلمة والفوز فى الدارين، وشتان بين المرادين ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم وأعزكم وأذلهم اهـ. (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي وعد الله بما وعد، وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة، ليحق الحق وهو الإسلام ويثبته، ويبطل الباطل وهو الشرك ويزيله، ولو كره المجرمون أولو الاعتداء والطغيان، ولا يكون ذلك بالاستيلاء على العير بل بقتل أئمة الكفر من صناديد قريش الذين خرجوا إليكم من مكة ليستأصلوكم. [سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 14] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الاستغاثة: طلب الغوث، وهو التخليص من الشدة والنقمة، وممدكم: ناصركم ومغيثكم، ومردفين: من أردفه إذا أركبه وراءه، وتطمئن تسكن بعد ذلك الزلزال والخوف الذي عرض لكم فى جملتكم، وعزيز: أي غالب على أمره، حكيم لا يضع شيئا فى غير موضعه، ويغشيكم: يجعله مغطيا لكم ومحيطا بكم، والنعاس: فتور فى الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم فهو يضعف الإدراك ولا يزيله كله فإذا أزاله كان نوما، والرجز والرجس والركس: الشيء المستقذر حسا أو معنى، ويراد به هنا وسوسة الشيطان، والربط على القلوب تثبيتها وتوطينها على الصبر، والرعب: الخوف الذي يملأ القلب فوق الأعناق: أي الرءوس، والبنان: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، شاقوا: أي عادوا وخالفوا، وسميت العداوة مشاقة لأن كلا من المتعاديين يكون فى شق غير الذي يكون فيه الآخر. المعنى الجملي روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: حدثنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبى الله القبلة ثم مدّ يده وجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه

الإيضاح

وقال يا نبى الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون. وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر «اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك، فخرج وهو يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» . وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بإعلام القرآن أن للنصر فى القتال أسباب حسية ومعنوية، وأن لله سننا مطردة، وهو مع ذلك يعلم أن لله توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به فى هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث. الإيضاح (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي اذكروا وقت استغاثتكم ربكم قائلين ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا، والأمر بهذا الذكر لبيان نعمة الله عليهم حين التجائهم إليه، إذ ضاقت عليهم الحيل وطلبوا مخلصا من تلك الشدة فاستجاب دعاءهم كما قال: (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي فأجاب دعاءكم بأنى ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضا ويتبعه، وهذا الألف هى وجوههم وأعيانهم- وبهذا يطابق ما جاء فى سورة آل عمران: «بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ- بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» .

(وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) أي وما جعل ذلك الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون، ولتسكن به قلوبكم من الزلزال الذي عرض لكم فكان من مجادلتكم للرسول فى أمر القتال ما كان، وبذا تلقون أعداءكم ثابتين موقنين بالنصر. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي ليس النصر إلا من عند الله دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب، فهو سبحانه الفاعل للنصر والمسخّر له كتسخيره للأسباب الحسية والمعنوية، ولا سيما ما لا كسب للبشر فيه كتسخير الملائكة تخالط المؤمنين فتفيد أرواحهم الثبات والاطمئنان. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى غالب على أمره، حكيم لا يضع شيئا فى غير موضعه. وظاهر الآية يدل على أنّ لإنزال الملائكة وإمداد المسلمين بهم فائدة معنوية، فهو يؤثّر فى القلوب فيزيدها قوة وإن لم يكونوا محاربين، وهناك روايات تدل على أنهم قاتلوا فعلا. وفى يوم أحد وعدهم الله وعدا معلقا على الصبر والتقوى، ولكن الشرط الأخير قد انتفى فانتفى ما علق عليه. (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) أي إنه تعالى ألقى عليهم النعاس حتى غشيهم غلب عليهم تأمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم من الفرق الشاسع بينهم وبين عدوهم فى العدد والعدّة ونحو ذلك، إذ من غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف، كما أن الخائف لا ينام ولكن قد ينعس إذ تفتر منه الحواس والأعصاب. روى البيهقي فى الدلائل عن على كرم الله وجهه قال: «ما كان فينا فارس بوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى تحت شجرة حتى أصبح» والمتبادر من الآية أن النعاس كان فى أثناء القتال، وهو يمنع الخوف، لأنه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر.

(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) روى ابن المنذر من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه: أن المشركين غلبوا المسلمين فى أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون، وصلّوا مجنبين محدثين، وكان بينهم رمال فألقى الشيطان فى قلوبهم الحزن وقال: أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء وتصلّون مجنبين محدثين، فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم (أي على الرمل اللين لتلبده بالمطر) وذهبت وسوسته. وقال ابن القيم: أنزل الله فى تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان على المسلمين طلّا طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان ووطّأ به الأرض، وصلّب الرمل، وثبّت الأقدام ومهّد به المنزل، وربط على قلوبهم، فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوّروا ما عداها من المياه ونزل رسول الله وأصحابه على الحياض وبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش على تلّ مشرف على المعركة، ومشى فى موضع المعركة وجعل يشير بيده (هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى فما تعدّى أحد منهم موضع إشارته) اهـ. وقال ابن إسحاق: إن الحباب بن المنذر قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أم هو الرأى والحرب والمكيدة قال: (بل هو الحرب والرأى والمكيدة) قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من القلب (الآبار غير المبنية) ثم نبنى عليها حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أشرت بالرأى، وفعلوا ذلك» . وقد فهم من الآية أنه كان لهذا المطر أربع فوائد:

(1) تطهيرهم حسيا بالنظافة التي تنشّط الأعضاء وتدخل السرور على النفس، وشرعيا بالغسل من الجنابة والوضوء من الحدث الأصغر. (2) إذهاب رجس الشيطان ووسوسته. (3) الربط على القلوب: أي توطين النفس على الصبر وتثبيتها كما قال: «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» وهذا لما للمطر من المنافع التي تكون أثناء القتال. (4) تثبيت الأقدام به، ذاك أن هذا المطر لبّد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم فقدروا على المشي كيف أرادوا، ولو لاه لما قدروا على ذلك. (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يثبت الله الأقدام بالمطر وقت الكفاح الذي يوحى فيه ربك إلى الملائكة آمرا لهم أن يثبّتوا به قلوب المؤمنين ويقووا عزائمهم، فيلهموها تذكر وعد الله لرسوله وأنه لا يخلف الميعاد، فالمراد بالمعية فى قوله (أَنِّي مَعَكُمْ) معية الإعانة والنصر والتأييد فى مواطن الجدّ ومقاساة شدائد القتال، وهذه منّة خفية أظهرها الله تعالى ليشكروه عليها. أخرج البيهقي فى الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل فى صورة الرجل يعرفه فيقول: أبشروا فإنهم ليسوا بشىء والله معكم، كرّوا عليهم. وقال الزجاج: كان ذلك بأشياء يلقونها فى قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدّهم، وللملك قوة إلقاء الخير ويقال له إلهام، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال لها وسوسة. (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) هذا تفسير لقوله أنى معكم، كأنه قيل: أنى معكم فى إعانتكم بإلقاء الرعب فى قلوبهم. (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أي فاضربوا الهام، وافلقوا

الرءوس، واحتزّوا الرقاب وقطّعوها وقطّعوا الأيدى ذات البنان التي هى أداة التصرف فى الضرب وغيره. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بين القتلى ببدر بعد انتهاء المعركة ويقول (نفلق هاما) فيتم البيت أبو بكر رضي الله عنه وهو: نفلق هاما من رجال أعزّة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما وفى ذلك دليل على ألمه صلوات الله عليه من الضرورة التي ألجأته إلى قتل صناديد قومه، فالمشركون هم الذين ظلموه هو ومن آمن به حتى أخرجوهم من وطنهم بغيا وعدوانا ثم تبعوهم إلى دار هجرتهم يقاتلونهم فيها. ثم بين سبب ذلك التأييد والنصر فقال: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي ذلك الذي ذكر من تأييد الله للمؤمنين وخذلانه للمشركين بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله: أي عاد وهما فكان كل منهما فى شق غير الذي فيه الآخر فالله هو الحق والداعي إلى الحق، ورسوله هو المبلغ عنه، والمشركون على الباطل وما يستلزمه من الشرور والآثام والخرافات. َ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يخالف أمر الله ورسوله فهو الحقيق بعقابه، فلا أجدر بالعقاب من المشاقين له الذين يؤثرون الشرك وعبادة الطاغوت على توحيده تعالى وعبادته، ويعتدون على أوليائه بمحاولة ردّهم عن دينهم بالقوة والقهر وإخراجهم من ديارهم ثم اتباعهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه. (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) أي هذا العقاب الذي عجّلت لكم أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله فى الدنيا من انكسار وانهزام مع الخزي والذل أمام فئة قليلة العدد والعدد من المسلمين، فذوقوه عاجلا، واعلموا أن لكم فى الآخرة عذاب النار إن أصررتم على كفركم، وهو شر العذابين وأبقاهما.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 إلى 19]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) تفسير المفردات الزحف: من زحف إذا مشى على بطنه كالحية، أو دبّ على مقعده كالصبى أو على ركبتيه، أو مشى بثقل فى الحركة واتصال وتقارب فى الخطو كزحف صغار الجراد والعسكر المتوجه إلى العدو، لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف، إذ الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بطيئة وإن كانت فى الواقع سريعة، والأدبار: واحدها دبر وهو الخلف، ومقابله القبل ومن ثم يكنى بهما عن السوءتين، وتولية الدبر والأدبار: يراد بهما الهزيمة لأن المنهزم يجعل خصمه متوجها إلى دبره ومؤخره، والمتحرف للقتال وغيره: هو المنحرف عن جانب إلى آخر، من الحرف وهو الطرف والفئة: الطائفة من الناس، والمأوى: الملجأ الذي يأوى إليه الإنسان، والموهن: المضعف، من أوهنه إذا أضعفه، والكيد: التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء عاقبة من يقصد به، والاستفتاح طلب الفتح، والفصل فى الأمر كالنصر فى الحرب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي ذكر سبحانه وتعالى فى هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب فى مستأنف الزمان، وجاء به فى أثناء قصة بدر عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين لقتالكم زحفا، إذ الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فقابلوهم ببدر. (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي فلا تولوهم ظهوركم وأقفيتكم منهزمين منهم وإن كانوا أكثر منكم عددا وعدة، ولكن اثبتوا لهم، فإن الله معكم عليهم. (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ومن يولهم حين تلقونهم ظهره إلا متحرفا لمكان رآه أحوج إلى القتال فيه، أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه حتى إذا انفرد عن أنصاره كرّ عليه فقتله- أو منتقلا إلى فئة من المؤمنين فى جهة غير التي كان فيها ليشدّ أزرهم وينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم فصاروا أحوج إليه ممن كان معهم- من فعل ذلك فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من الله، ومأواه الذي يلجأ إليه فى الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير هى: ذاك أن المنهزم أراد أن يأوى إلى مكان يأمن فيه الهلاك، فعوقب بجعل عاقبته دار الهلاك والعذاب الدائم وجوزى بضد غرضه. وفى الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي، وجاء التصريح بذلك فى صحيح الأحاديث فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا «اجتنبوا السبع الموبقات (المهلكات) قالوا يا رسول الله وما هن؟. قال: الشرك بالله والسحر وقتل

النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولّى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» . وقد خصص بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين. قال الشافعي: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولّوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولّوا، ولا يستوجبون السحط عندى من الله لو ولّوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة. وروى عن ابن عباس قال: من فر من ثلاثة فلم يفرّ، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ. (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) أي يا أيها الذين آمنوا لا تولوا الكفار ظهوركم أبدا فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر الله تعالى، انظروا إلى ما أوتيتم من نصر عليهم على قلة عددكم وعدتكم وكثرتهم واستعدادهم، ولم يكن ذلك إلا بتأييد من الله تعالى لكم وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي أفنى كثيرا منهم بقوتكم وعدتكم ولكن قتلهم بأيديكم، بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم، وبإلقائه الرعب فى قلوبهم، وهذا بعينه هو ما جاء فى قوله تعالى: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» . والمؤمن أحرى بالصبر الذي هو من أجل عوامل النصر من الكافر، إذ هو أقل حرصا على متاع الدنيا وأعظم رجاء لله والدار الآخرة، يؤيد هذا قوله تعالى: «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ» . ثم انتقل من خطاب المؤمنين الذين قتلوا أولئك الصناديد بسيوفهم إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قائدهم الأعظم فقال:

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) أي وما رميت أيها الرسول أحدا من المشركين فى الوقت الذي رميت فيه القبضة من التراب بإلقائها فى الهواء فأصابت وجوههم فإن ما فعلته لا يكون له من التأثير مثل ما حدث، ولكن الله رمى وجوههم كلهم بذلك التراب الذي ألقيته فى الهواء على قلته أو بعد تكثيره بمحض قدرته. فقد روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب وقال: شاهت الوجوه ثلاثا، فأعقبت رميته هزيمتهم» . وروى على بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال فى استغاثته يوم بدر «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا» قال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم، ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولّوا مدبرين. والفرق بين قتل المسلمين للكفار وبين رمى النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالتراب: أن الأول فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن الله فى الأسباب الدنيوية، وأن الثاني لم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم، لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين، ولا غير مشاهد، إذ هو لا يكون سببا لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقتله وبعده عن راميه وكونهم غير مستقبلين له كلهم، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى بيان نقص الأول وعدم استقلاله بالسببية وبيان أنه لولا تأييد الله ونصره لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل لأنك قد علمت ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال وبمجادلة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لو ظلوا على هذه الحال مع قلتهم وضعفهم لكان مقتضى الأسباب العادية أن يمحقهم المشركون محقا. فالفرق بين فعله تعالى فى القتل وفعله فى الرمي- أن الأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل كما هو الحال فى جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل فى حصول غاياتها إلا بفعل الله وتسخيره لهم، وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة كما بين ذلك سبحانه بقوله «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ

أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» فالإنسان يحرث الأرض ويلقى فيها البذر ولكنه لا يملك إنزال المطر ولا إنبات الحب وتغذيته بمختلف عناصر التربة ولا دفع الجوائح عنه. وأن الثاني من فعله تعالى وحده بدون كسب عادى للنبى صلى الله عليه وسلم فى تأثيره، فالرمى منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلى الله عليه وسلم، فما مثله فى ذلك إلا مثل أخيه موسى صلى الله عليه وسلم فى إلقائه العصا «فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» . (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي فعل الله ما ذكر لإقامته حجته وتأييد رسوله، وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا بالنصر والغنيمة وحسن السمعة. (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى سميع لما كان من استغاثة الرسول والمؤمنين ربهم ودعائهم إياه وحده ولكل نداء وكلام، عليم بنياتهم الباعثة عليه والعواقب التي تترتب عليه. (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي ذلكم البلاء الحسن هو الذي سمعتم- إلى أنه تعالى مضعف كيد الكافرين ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد والإصلاح قبل أن يقوى أمرها وتشتد. وبعد أن ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم- انتقل منه إلى توبيخهم على استنصارهم إياه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أيّنا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف فأحنه الغداة فكان ذلك منه استفتاحا. وقال السدى: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فأجابهم الله بقوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما فقد جاءكم الفتح ونصر أعلاهما وأهداهما. وهذا من قبيل التهكم بهم لأنه قد جاءهم الهلاك والذلة.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 إلى 23]

(وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي وإن تنتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله فالانتهاء خير لكم لأنكم قد ذقتم من الحرب ماذقتم من قتل وأسر بسبب ذلك العدوان. (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) أي وإن تعودوا إلى حربه وقتاله نعد إلى مثل ما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجىء الفتح الأعظم الذي به تدول الدّولة للمؤمنين عليكم، وبه يذل شرككم وتذهب ريحكم. (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أي ولن يدفع عنكم رهطكم شيئا من بأس الله وشديد نقمته ولو كثرت عددا، إذ لا تكون الكثرة وسيلة من وسائل النصر أمام القلة إلا إذا تساوت معها فى أمور كثيرة كالصبر والثبات والثقة بالله تعالى، فهو الذي بيده النصر والقوة. (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بمعونته وتوفيقه فلا تضرهم قلتهم ولا كثرة عددكم، فهو يؤتى النصر من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) المعنى الجملي بعد أن هدد الله المشركين بقوله: وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا- قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال فى سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف فى طريق تبليغ دعوته.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي أطيعوا الله ورسوله فى الإجابة إلى الجهاد وترك المال إذا أمر الله بتركه، ولا تعرضوا عن طاعته، وعن قبول قوله، وعن معونته فى الجهاد، وأنتم تسمعون كلامه الداعي إلى وجوب طاعته وموالاته ونصره، ولا شك أن المراد بالسماع هنا سماع الفهم والتصديق بما يسمع، كما هو شأن المؤمنين الذين من دأبهم أن يقولوا «سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» . (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) وهؤلاء القائلون فريقان: فريق الكفار المعاندين، وفريق المنافقين الذين قال فى بعض منهم «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً؟» . (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الدواب، واحدها دابة: وهى كل مادبّ على الأرض كما قال «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» وقلّ أن يستعمل فى الإنسان بل الغالب أن يستعمل فى الحشرات ودواب الركوب، فإذا استعمل فيه كان ذلك فى موضع الاحتقار، أي إن شر مادب على الأرض فى حكم الله وقضائه هم الصم الذين لا يصغون بأسماعهم ليعرفوا الحق ويعتبروا بالموعظة الحسنة، فهم بفقدهم لمنفعة السمع كانوا كأنهم فقدوا حاسته، البكم الذين لا يقولون الحق، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا النطق الذين لا يعقلون الفرق بين الحق والباطل والخير والشر إذ هم لو عقلوا لطلبوه واهتدوا إلى ما فيه المنفعة والفائدة لهم كما قال «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» . والخلاصة- إنهم حين فقدوا منفعة السمع والنطق والعقل كانوا كأنهم فقدوا هذه المشاعر والقوى، بأن خلقوا خداجا ناقصى هذه المشاعر، أو طرأت عليهم آفات

أذهبت هذه القوى بل هم شر منهم، لأن هذه المشاعر خلقت لهم فأفسدوها على أنفسهم، إذ لم يستعملوها فيما خلقت لأجله حين التكليف. (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي ولو علم الله فيهم استعدادا للإيمان والهداية بنور النبوة ولم يفسد قبس الفطرة سوء القدوة وفساد التربية، لأسمعهم بتوفيقه الكتاب والحكمة سماع تدبر وتفهم، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم فهم ممن ختم الله على قلوبهم وأحاطت بهم خطاياهم. (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي ولو أسمعهم- وقد علم أنه لا خير فيهم- لتولوا عن القبول والإذعان وهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به كراهة وعناد للداعى إليه ولأهله فقد فقدوا الاستعداد لقبول الحق والخير فقدا تاما لا فقدا عارضا موقوتا. والخلاصة- إن للسماع درجات باعتبار ما يطالب الله به من الاهتداء بكتابه: (1) أن يتعمد من يتلى عليه ألا يسمعه مبارزة له بالعدوان بادئ ذى بدء خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم. (2) أن يستمع وهو لا ينوى أن يفهم ويتدبر كالمنافقين الذين قال الله فيهم: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً» . (3) أن يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض، كما كان يفعل المعاندون من المشركين وأهل الكتاب وقت التنزيل وفى كل حين إذا استمعوا إلى القرآن أو نظروا فيه. (4) أن يسمع ليفهم ويتدبر ثم يحكم له أو عليه، وهذا هو المنصف، وكم من السامعين أو القارئين آمن بعد أن نظر وتأمل فقد نظر طبيب فرنسى فى ترجمة القرآن فرأى أن كل النظريات الطبية التي فيه كالطهارة والاعتدال فى المآكل والمشارب وعدم

[سورة الأنفال (8) : الآيات 24 إلى 26]

الإسراف فيهما ونحو ذلك من المسائل التي فيها محافظة على الصحة- توافق أحدث النظريات التي استقر عليها رأى الأطباء فى هذا العصر- فرغب فى هذا كله وأسلم ورأى ربّان بارجة إنكليزية ترجمة القرآن واستقصى كل ما فيها من الكلام عن البحار والرياح فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كبار الملاحين فى البحار، وبعد أن سأل عن ذلك وعرف أنه لم يركب البحر قط، وهو مع ذلك أمّىّ لم يقرأ كتابا ولا تلقى عن أحد درسا قال: الآن علمت أنه كان بوحي من الله لأن فيه حقائق لا يعلمها إلا من اختبر البحار بنفسه، أو تلقاها عن غيره من المختبرين، ثم أسلم وتعلم العربية. وكثير من المسلمين يستمعون القراء ويتلون القرآن فلا يشعرون بأنهم فى حاجة إلى فهمه وتدبر معناه، بل يستمعونه للتلذذ بتجويده وتوقيع التلاوة على قواعد النغم، أو يقصدون بسماعه التبرك فقط، ومنهم من يحضر الحفّاظ عنده فى ليالى رمضان، ويجلسهم فى حجرة البوّابين أو غيرهم من الخدم تشبها بالأكابر والوجهاء. [سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التولي حين الجهاد، أردفه الأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين وأحكامه عامة، لما فى ذلك من

الإيضاح

تكميل الفطرة الإنسانية وسعادتها فى الدنيا والآخرة، وكرر النداء بلفظ المؤمنين تنشيطا لهم إلى الإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي، وإيماء إلى أنهم قد حصّلوا ما يوجب عليهم الاستجابة وهو الإيمان. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أي إن الرسول دعاكم بأمر ربكم لما فيه حياتكم الروحية: من علم بسننه فى خلقه ومن حكمة وفضيلة ترفع نفس الإنسان وترقى بها إلى مراتب الكمال حتى تحظى بالقرب من ربها وتنال رضوانه فى الدار الآخرة- فأجيبوا دعوته بقوة وعزم. كما قال فى آية أخرى: «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» وطاعته صلى الله عليه وسلم واجبة فى حياته، وبعد مماته فيما علم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمور الدين الذي بعثه الله به كبيانه لصفة الصلاة وعددها قولا أو فعلا فقد صلى بأصحابه وقال: «صلّوا كما رأيتمونى أصلى» وقال «خذوا عنّى مناسككم» وبيانه لمقادير الزكاة وغيرها من السنن العملية المتواترة وأقواله كذلك، فكل من ثبت لديه شىء منها ببحثه أو بحث العلماء الذين يثق بهم وجب عليه الاهتداء به. أما الإرشادات النبوية فى أمور العادات كاللباس والطعام والشراب والنوم، فلم يعدّها أحد من الأئمة دينا يجب الافتداء به فيه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) نبهنا الله فى هذه الآية لأمرين لهما خطرهما فى سعادة الإنسان الأخروية، وهما: (1) أنه قد جرت سنة الله فى البشر أن يحول بين المرء وقلبه، وهو مركز الإحساس والوجدان والإدراك الذي له السلطان على الإرادة والعمل، أي إنه تعالى يميت القلب فتفوت الفرصة التي هو واجدها من التمكن من معالجة أدوائه وعلله، ورده سليما كما يريده الله، وهذا أخوف ما يخافه المتقى على نفسه إذا غفل عنها وفرّط فى جنب الله،

وكذلك هو أرجى شىء يرجوه المسرف إذا لم ييأس من روح الله، فإنا لنشاهد أن كثيرا من الناس يسيرون على الهدى ويتقون الطرق التي تصل بهم إلى مهاوى الهلاك والردى فإذا بقلوبهم قد تقلبت بعواصف تميل بهم عن الصراط المستقيم كشبهة تزعزع الاعتقاد أو شهوة يغلب بها الغىّ الرشاد فيطيعون أهواءهم ويسيرون وراء وساوس الشيطان. وفى ذلك إيماء إلى أن الطائع المجدّ لا يأمن مكر الله فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه، والعاصي المنصرف عن الطاعة لا ييأس من روح الله فيسترسل فى اتباع هواه، حتى تحيط به خطاياه ومن لم يأمن عقاب الله ولا ييأس من روح الله كان جديرا بأن يراقب قلبه، ويحاسب نفسه على خواطره ويعاقب نفسه على هفواته، لتظل على الصراط المستقيم. والخلاصة- إن من سننه تعالى فى البشر أن من يتبع هواه فى أعماله تضعف إرادته فى مقاومته فلا تؤثر فيه المواعظ القولية ولا العبر المبصرة ولا المعقولة. روى البخاري وأصحاب السنن قال: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم «لا ومقلّب القلوب» . (2) أن نتذكر حشرنا إليه ومحاسبته إيانا على أعمالنا القلبية والبدنية، ومجازاته إيانا بالعذاب أو النعيم، فلا نألو جهدا فى انتهاز الفرصة لنعمل صالح الأعمال. وبعد أن أمرنا سبحانه بتلك الأوامر ونهانا عن النواهي التي تخص أعمال الإنسان الاختيارية، أمرنا أن نتقى الفتن الاجتماعية التي لا تخص الظالمين، بل تتعداهم إلى غيرهم، وتصل إلى الصالح والطالح فقال: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الفتنة: البلاء والاختبار، أي اتقوا وقوع الفتن التي لا تختص إصابتها بمن يباشرها وحده، بل تعمه وغيره كالفتن القومية التي تقع بين الأمم فى التنازع على المصالح العامة من الملك والسيادة أو التفرق فى الدين والشريعة والانقسام إلى الأحزاب الدينية والأحزاب السياسية، ونحو ذلك

من ظهور البدع والتكاسل فى الجهاد وإقرار المنكر الذي يقع بين أظهرهم والمداهنة فى الأمر بالمعروف ونحو ذلك من الذنوب التي جرت سنة الله بأن تعاقب عليها الأمم فى الدنيا قبل الآخرة. أخرج ابن جرير من طريق الحسن قال: لقد خوّفنا بهذه الآية، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ظننا أننا خصصنا بها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر فى الآية قال: نزلت فى علىّ وعثمان وطلحة والزبير، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: علم والله ذوو الألباب من أصحاب محمد حين نزلت هذه الآية أن سيكون فتن. وروى عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين ألا يقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله. بالعذاب. وقال عدىّ بن عميرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة» . وروى أحمد والبزار وابن مردويه عن مطرّف قال: قلنا للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة (عثمان) حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه فقال: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. وعلى الجملة ففتنة عثمان كانت أول الفتن التي اختلفت فيها الآراء، فاختلفت أعمال أهل الحل والعقد، وخلا الجو للمفسدين من زنادقة اليهود والمجوس وغيرهم، ثم أعقبتها فتنة الجمل بصفّين، ثم فتنة ابن الزبير مع بنى أمية، ثم قتل الحسين بكربلاء، إلى نحو ذلك من الفتن التي كان لها آثارها فى الإسلام، ولو تداركوها كما تدارك أبو بكر رضي الله عنه أهل الردة لما كانت فتنة تبعتها فتن كثيرة أكبرها فتن الخلافة والملك وفتن الآراء والمذاهب الدينية والسياسية. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إنه تعالى شديد عقابه للأمم والأفراد

خالفت سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل أو خالفت هدى دينه المزكّى للأنفس المطهر للقلوب. وهذا العقاب منه ما هو فى الدنيا وهو مطرد فى الأمم، وقد أصيبت به الأمة الإسلامية فى القرن الأول الذي كان أهله خير القرون بعده، إذ فصّروا فى درء الفتنة الأولى فعاقبهم الله عقابا شديدا على ذلك، ثم تسلسل العقاب فى كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية على الملك والسلطان حتى دالت الخلافة التي تنافسوا فيها وتقاتلوا لأجلها. وقد يقع هذا العقاب للأفراد لكنهم ربما لا يشعرون به، لأنه يقع تدريجيا فلا يكاد يحسّ به، وأما العقاب الأخروى فأمره إلى الله العالم بالسر والنجوى والذي جعل العقاب آثارا طبيعية للذنوب التي تجترحها الأفراد والأمم. (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) هذا خطاب المهاجرين يذكرهم فيه سبحانه بما كان من ضعفهم وقلتهم، وقد يكون الخطاب للمؤمنين عامة فى عصر التنزيل يذكّرهم فيه بما كان من ضعف أمتهم العربية فى الجزيرة بين الدول القوية من فارس والروم. (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أي تخافون من مبدإ الإسلام إلى حين الهجرة أن يتخطفكم مشركو العرب من قريش وغيرها، والمراد أن ينتزعوكم بسرعة فيفتكوا بكم كما كان يتخطف بعضهم بعضا فى خارج الحرم وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم كما قال تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» . (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فآواكم أيها المهاجرون إلى الأنصار وأيدكم وإياهم بنصره فى غزواتكم، وسيؤيدكم على من سواكم من فارس والروم وغيرهما كما وعدكم بذلك فى كتابه الكريم، ورزقكم من الطيبات

[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 إلى 28]

رجاء أن تشكروا هذه النعم وغيرها مما يؤتيكم من فضله كما وعد فى كتابه: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» . وقد أخرج ابن جرير عن قتادة فى قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) الآية. قال: كان هذا الحي أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالة، معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما فى بلادهم ما يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردّى فى النار، يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منهم منزلا، حتى جاء الله بالإسلام فمكّن به فى البلاد ووسّع به فى الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر فى مزيد من نعم الله عز وجل. وفى الآية من العبرة التي يجب على المؤمنين أن يتذكروها أنه أورث من اهتدى بهديه سعادة الدنيا وبسطة السلطان ومكّن لأهله فى الأرض وأنا لهم ما لم يكونوا يرجونه لولا هدى الدين، وأورثهم فى الآخرة فوزا ورضوانا من ربهم وروحا وريحانا وجنة نعيم هذا حين كانوا يعملون بهديه، فلما أعرضوا عنه ونأوا بجانبهم عاقبهم الله بما جرت به سننه فى الأرض فأضاعوا ملكهم وسلّط عليهم أعداءهم، فليعتبر المسلمون بما حل بهم، وليرجعوا إلى تاريخ أسلافهم، وليستضيئوا بنورهم وليثوبوا إلى رشدهم، لعله يعيد إليهم تراثهم الغابر وعزهم الماضي: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» . [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الخيانة: لغة تدل على الإخلاف والخيبة بنقص ما كان يرجى ويؤمل من الخائن، فقد قالوا خانه سيفه إذا نبا عن الضّربية، وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي، ومنه قوله: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي تنقصونها بعض ما أحل لها من اللذات، ثم استعمل فى ضد الأمانة والوفاء لأن الرجل إذا خان الرجل فقد أدخل عليه النقصان. والأمانة: كل حق مادّى أو معنوى يجب عليك أداؤه إلى أهله قال تعالى: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» والفتنة: الاختبار والامتحان بما يشقّ على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره، فهى تكون فى الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء، فيمتحن الله المؤمنين والكافرين والصادقين والمنافقين، ويجازيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق والباطل وعمل الخير أو الشر. المعنى الجملي روى أن أبا سفيان خرج من مكة: (وكان لا يخرج إلا فى عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين) فأعلم الله رسوله بمكانه، فكتب رجل من المنافقين إلى أبى سفيان: إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله (لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) الآية. وروى أنها نزلت فى أبي لبابة وكان حليفا لبنى قريظة من اليهود، فلما خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد إجلاء إخوانهم من بنى النّضير، أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم أبو لبابة ألا تفعلوا وأشار إلى حلقه (يريد أن سعدا سيحكم بذبحهم) فنزلت الآية. قال أبو لبابة: ما زالت قدماى عن مكانهما حتى علمت أنى خنت الله ورسوله،

الإيضاح

وروى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل امرأته: أيصوم ويصلى ويغتسل من الجنابة؟ فقالت إنه ليصوم ويصلى ويغتسل من الجنابة ويحب الله ورسوله» . وقد روى «أن أبا لبابة شدّ نفسه على سارية من المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علىّ، ثم مكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك، فقال: والله لا أحلّ نفسى حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلّنى فجاء فحله بيده» . الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) أي لا تخونوا الله فتعطّلوا فرائضه أو تتعدوا حدوده وتنتهكوا محارمه التي بينها لكم فى كتابه، ولا تخونوا الرسول فترغبوا عن بيانه لكتابه إلى بيانه بأهوائكم أو آراء مشايخكم أو آبائكم أو أوامر أمرائكم، أو ترك سنته إلى سنة آبائكم وزعمائكم زعما منكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم. (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي ولا تخونوا أماناتكم فيما بين بعضكم وبعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الشئون الأدبية والاجتماعية، فإفشاء السر خيانة محرمة ويكفى فى العلم بكونه سرا قرينة قولية كقول محدثك: هل يسمعنا أحد؟ أو فعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجىء، وآكد أمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين. كذلك لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولى الأمر من شئون سياسية أو حربية فتطلعوا عليها عدوكم وينتفع بها فى الكيد لكم. والخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين، قال أنس بن مالك: قلما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا عهد له» رواه الإمام أحمد.

وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» . (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله لها وسوء عاقبتها فى الدنيا والآخرة، وقد يكون المعنى- وأنتم تعلمون أن ما فعلتموه خيانة لظهوره، فإن خفى عليكم حكمه فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين ضرورة، أو مما يعلم ببداهة العقل، أو باستفتاء القلب كفعلة أبي لبابة التي كان سببها الحرص على المال والولد، ومن ثم فطن لها قبل أن يبرح مكانه. (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوى الألباب، إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه، من أجل ذلك يتكلف فى كسبها المشاق ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ويرغّبه فى القصد والاعتدال، ويتكلف العناء فى حفظها وتتنازعه الأهواء فى إنفاقها، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقا معينة وغير معينة: كالزكاة ونفقات الأولاد والأزواج وغيرهم. وأما الأولاد فحبهم مما أودع فى الفطرة، فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله فى سبيلهم من مال وصحة وراحة. وقد روى عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة» . فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام فى سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم، وكل ذلك قد يؤدى إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الأمة أو الدين وإلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة والحقوق الثابتة كما يحملهم ذلك على الحزن على من يموت منهم بالسخط على المولى والاعتراض عليه

[سورة الأنفال (8) : آية 29]

إلى نحو ذلك من المعاصي كنوح الأمهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن وعلى الجملة ففتنة الأولاد أكثر من فتنة الأموال، فالرجل يكسب المال الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل الأولاد. فيجب على المؤمن أن يتقى الفتنتين، فيتقى الأولى بكسب المال من الحلال وإنفاقه فى سبيل البر والإحسان، ويتقى خطر الثانية من ناحية ما يتعلق منها بالمال ونحوه بما يشير إليه الحديث. ومن ناحية ما أوجبه الدين من حسن تربية الأولاد وتعويدهم الدين والفضائل وتجنيبهم المعاصي والرذائل. (وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فعليكم أن تؤثروا ما عند ربكم من الأجر العظيم بمراعاة أحكام دينه فى الأموال والأولاد على ما عساه قد يفوتكم فى الدنيا من التمتع بهما. [سورة الأنفال (8) : آية 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) تفسير المفردات التقوى: ترك الذنوب والآثام، وفعل ما يستطاع من الطاعات والواجبات الدينية، وبعبارة أخرى: هى اتقاء ما يضر الإنسان فى نفسه وفى جنسه، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة، والفرقان: أصله الفرق والفصل بين الشيئين أو الأشياء، ويراد به هنا نور البصيرة الذي به يفرق بين الحق والباطل والضّارّ والنافع، وبعبارة ثانية: هو العلم الصحيح والحكم الرجيح، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على الأخير قال تعالى «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» من قبل أن كلامه تعالى يفرق فى العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والعدل والجور، والخير والشر.

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما حذر الله تعالى من الفتنة بالأموال والأولاد، قفى على ذلك بطلب التقوى التي ثمرتها ترك الميل والهوى فى محبة الأموال والأولاد. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي إن تتقوا الله فتتبعوا أوامر دينه وتسيروا بمقتضى سننه فى نظام خلقه يجعل لكم فى نفوسكم ملكة من العلم تفرقون بها بين الحق والباطل، وتصلون بين الضار والنافع، وهذا النور فى العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى هو الحكمة التي قال الله تعالى فيها «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» . واتقاء الله يتحقق بمعرفة سننه فى الإنسان وحده أو فيه وهو فى المجتمع الإنسانى كما ترشد إلى ذلك آيات الكتاب الحكيم فى مواضع متفرقة منه، ومن ثم كانت ثمرة التقوى حصول ملكة الفرقان التي بها يفرق صاحبها بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكمة وعمل فيفصل فيها بين ما ينبغى فعله وما يجب تركه. وعلى الجملة فالمتقى لله يؤتيه الله فرقانا يميز به بين الرشد والغى، ومن ثم كان الخلفاء والحكام من الصحابة والتابعين من أعدل حكام الأمم فى الأرض، حتى لقد قال بعض المؤرخين من الإفرنج ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب. (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي ويمح بسبب ذلك الفرقان وتأثيره ما كان من دنس الآثام فى النفوس، فتزول منها داعية العودة إليها، ويغطيها فيسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها، والله الذي يفعل ذلك بكم له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 30 إلى 31]

وفى قوله (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إيماء وتنبيه إلى أن ما وعد به المتقين من المثوبة فضل منه وإحسان تفضل به علينا بدون واسطة وبدون التماس عوض. [سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 31] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) تفسير المفردات ليثبتوك: أي ليشدوك بالوثاق ويرهقوك بالقيد والحبس حتى لا تقدر على الحركة، والمكر: هو التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب، والغالب أن يكون فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل، وإذا نسب إلى الله كان من المشاكلة فى الكلام بتسمية خيبة المسعى فى مكرهم أو مجازاتهم عليه باسمه، والأساطير: واحدها أسطورة كأرجوحة وأراجيح وأحدوثة وأحاديث وهى الأقاصيص التي سطّرت فى الكتب بدون تمحيص ولا تثبيت من صحتها. وفى القاموس: الأساطير الأحاديث لا نظام لها واحدها إسطار وأسطير وأسطور وبالهاء فى الكل، وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر اهـ. المعنى الجملي لما ذكر المؤمنين عامة بنعمه عليهم بقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) ذكر هنا نعمه على رسوله خاصة بدفع كيد المشركين ومكر الماكرين بنصره عليهم وخيبة مسعاهم فى إيقاع الأذى به بعد أن تآمروا عليه وقطعوا برأى معين فيه.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي واذكر أيها الرسول نعمته تعالى عليك فى ذلك الزمن القريب الذي يمكر بك فيه قومك الذين كفروا بما يدبّرون فى السر من وسائل الإيقاع بك، فإنّ فى ذلك القصص على المؤمنين والكافرين فى عهدك ومن بعدك لأكبر الحجج على صدق دعوتك ووعد ربك بنصرتك. (لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) أي إن كلمتهم قد اتفقت على إيقاع الأذى بك بإحدى خلال ثلاث: إما الحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام، وإما القتل بطريق لا يكون ضررها عظيما عليهم كما سيأتى، وإما الإخراج والنفي من الوطن. وقد روى أن أبا طالب قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك؟ قال: يريدون أن يسجنونى أو يقتلونى أو يخرجونى، قال من حدّثك بهذا؟ قال ربى، قال نعم الرب ربك فاستوص به خيرا. قال أنا أستوصى؟ بل هو يستوصى بي فنزلت (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. وقد تحدثوا بهذا الحديث فسمعه أبو طالب فبلّغه للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكن إجماع الرأى عليه والشروع فى تنفيذه قد وقع بعد موت أبي طالب. (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي إن دأبهم معك ومع من اتبعك من المؤمنين تدبير الأذى لكم والله محبط ما دبروا، فقد أخرجك من بينهم إلى دار الهجرة، ووطن السلطان والقوة، والله خير الماكرين، لأن مكره نصر للحق، وإعزاز لأهله، وخذلان للباطل وحزبه. وفى الآية إيماء إلى أن هذه حالهم الدائمة فى معاملته صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من المؤمنين.

وحديث ذلك المكر الذي ترتبت عليه الهجرة إلى المدينة، وبها ظهر الإسلام وخذل الشرك روى من طرق عدة أقربها رواية ابن إسحاق فى سيرته قال: إن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة واعتراضهم إبليس فى صورة شيخ جليل، فلما رأواه قالوا من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم منى رأى ونصح، قالوا أجل فادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا فى شأن هذا الرجل فو الله ليوشكنّ أن يؤاتيكم فى أمركم بأمره، فقال قائل: احبسوه فى وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير والنابغة فإنما هو كأحدهم، فقال عدو الله الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأى والله ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا فى غير هذا الرأى، فقال قائل: فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وكان أمره فى غيركم، فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأى، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجمعنّ إليه ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا صدق والله، فانظروا رأيا غير هذا، فقال أبو جهل والله لأشيرن عليكم برأى لا أرى غيره قالوا وما هذا؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه به ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه فى القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بنى هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل (الدية) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأى، القول ما قال الفتى لا أرى غيره وتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره ألا يبيت

فى مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك فى الخروج وأمره وصحبه بالهجرة. وافترض عليهم القتال فأنزل «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» الآيتين فكان أول ما أنزل فى الحرب وأنزل بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه. (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيتين. ولما قص الله مكرهم فى ذات محمد قص علينا مكرهم فى دين محمد فقال: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أي وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب الله الواضحة لمن شرح الله صدره لفهمه قالوا جهلا منهم وعنادا للحق وهم يعلمون أنهم كاذبون: لو نشاء لقلنا مثل هذا الذي تلى علينا، وقد نسب هذا القول إلى النضر بن الحارث من بنى عبد الدار وكان يختلف إلى أرض فارس فيسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وكبار العجم، ويمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل. ثم عللوا هذه الدعوة الكاذبة بما هو أصرح منها فى الكذب فقالوا: (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم تشبه قصص أولئك الأمم، فهم يستطيعون أن يأتوا بمثلها فما هى من خبر الغيب الدالّ على أنه وحي من الله. وقد يكون النضر أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلفة وأن محمدا هو الذي افتراها، إذ لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما قال تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» . ونحو الآية قوله: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» وهم ما كانوا يعتقدون صدق هذه المقالة، لأنهم يعلمون أنه أمي لا يتعلم شيئا، بل قالوا ذلك ليصدّوا العرب عن القرآن وقد كذبهم الله فيه فما استطاعوا له إثباتا.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 إلى 35]

وقد روى أن النضر هو الذي أنزل فيه «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً» فقد اشترى قينة جميلة تغنى الناس بأخبار الأمم لصرفهم عن سماع القرآن، وهذا منتهى الجحود والعناد. وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث وأبي جهل والوليد بن المغيرة يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن ويمنعون الناس عنه، ثم يختلفون أفرادا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلا يستمعون إليه ويعجبون منه ومن تأثيره وسلطانه على القلوب حتى قال الوليد بن المغيرة كلمته المشهورة: إنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه يحطم ما تحته، فخافوا أن تسمعها العرب وما زالوا يلحون عليه ليقول كلمة منفرّة فقال: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» . [سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 35] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) المعنى الجملي روى أنه لما قال النضر: إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك إنه كلام رب العالمين فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، الآية.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي اللهم إن كان هذا القرآن وما يدعو إليه هو الحق منزلا من عندك ليدين به عبادك كما يدّعى محمد صلى الله عليه وسلم فافعل بنا كذا وكذا. وفى هذا إيماء إلى أنهم لا يتبعونه وإن كان هو الحق المنزل من عند الله، بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء أو بعذاب أليم سوى ذلك، كما أن فيه تهكما وإظهار للحزم واليقين بأنه ليس من عند الله- وحاشاه- ومنه يعلم أيضا أن دعاءهم كفر وعناد، لا لأن ما يدعوهم إليه قبيح وضار. روى أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومى قومك حين قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) ولم يقولوا: فاهدنا له. ثم قال تعالى بيانا للموجب لإمهالهم والتوقف فى إجابة دعائهم. (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) أي وما كان من سنة الله ولا من مقتضى رحمته وحكمته أن يعذبهم وأنت الرسول فيهم، لأنه إنما أرسلك رحمة ونعمة لا عذابا ونقمة- إلى أنه قد جرت سنته أيضا ألا يعذب أمثالهم من مكذبى الرسل وهم بين أظهرهم، بل كان يخرج الرسل أوّلا كما حدث لهود وصالح ولوط. (وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي وما كان الله ليعذبهم هذا العذاب الذي عذّب بمثله الأمم قبلهم فاستأصلهم، وهم يستغفرون، وهم المسلمون الذين بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين. روى ابن جرير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله: (وَما كانَ اللَّهُ

مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وكان من بقي فى مكة من المؤمنين يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله: (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الآية فأذن الله فى فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم به. (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي وأىّ شىء يمنع تعذيبهم بما دون عذاب الاستئصال عند زوال المانع منه، وكيف لا يعذبون وهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام ولو لأداء النسك؟ فما كان مسلم يقدر أن يدخل المسجد الحرام فإن دخل مكة عذبوه إذا لم يكن فيها من يجيره، والمراد بالعذاب هنا عذاب بدر إذ قتل صناديدهم ورءوس الكفر كأبى جهل وأسر سراتهم. (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي وما كانوا مستحقين للولاية عليه لشركهم وعمل المفاسد فيه كطوافهم فيه عراة رجالا ونساء، وهذا ردّ لقولهم: نحن ولاة البيت والحرام، نصد من نشاء وندخل من نشاء. (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي إنه لا يلى أمره إلا من كان برّا تقيا، لامن كان كافرا عابدا للصم. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنهم ليسوا أولياء الله، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله فى خلقه والجديرون بولاية بيته. وقد نسب هذا الجهل إلى الأكثر، إذ كان فيهم من لا يجهل حالهم فى جاهليتهم وضلالهم فى شركهم وكون الله لا يرضى عنهم، كما كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة، وقد جرت سنة القرآن أن يدقق فى الحكم، ولا يقول إلا الحق ولا يقول كما يقول الناس: إن القليل لا حكم له. هذا، وإن جماهير المسلمين الآن صاروا يجهلون ولاية الله لأوليائه، فصارت هذه الولاية عندهم تشمل المجانين والمجاذيب الذين يسيل اللعاب من أشداقهم وترتع الحشرات فى ثيابهم وأجسادهم، وتشمل أصحاب الدجل والخرافات، والدعاوى الباطلة للكرامات، وصاروا يؤيدون دعاويهم من رؤيا الأنبياء والأقطاب فى المنام.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 36 إلى 37]

ثم بين عز اسمه سوء حالهم فى أفضل ما بنى البيت لأجله، وهى الصلاة، فقد كانوا يطوفون عراة فقال: (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، وكان أحدهم يضع يده على الأخرى ويصفر، قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفّق، وروى عنه أن الرجال والنساء منهم كانوا يطوفون عراة مشبّكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفّقون، وروى عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم فى الطواف يستهزئون ويصفرون فنزلت (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) . وعلى الجملة فقد كانت صلاتهم وطوافهم من قبيل اللهو واللعب سواء عارضوا الرسول صلى الله عليه وسلم فى طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته أم لا. (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي فذوقوا عذاب القتل لبعض كبرائكم والأسر للآخرين منهم وانهزام الباقين مدحورين مكسورين يوم بدر. والخلاصة- فذوقوا العذاب الذي طلبتموه، وما كان لكم أن تستعجلوه إذ قلتم (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) . [سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) المعنى الجملي لما بين سبحانه أحوال هؤلاء المشركين فى الطاعات البدنية بقوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية- قفّى على ذلك بذكر أحوالهم فى الطاعات المالية.

الإيضاح

روى عن ابن عباس ومجاهد أن الآية نزلت فى أبي سفيان وما كان من إنفاقه على المشركين فى بدر ومن إعانته على ذلك فى أحد- ذلك أنه لما نجا بالعير بطريق البحر إلى مكة مشى ومعه نفر من المشركين يستنفرون الناس للقتال فجاءوا كل من كان لهم تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ندرك منه ثأرا ففعلوا. وقال سعيد بن جبير إنه استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش (واحدها حباشة: الجماعة ليسوا من قبيلة واحدة) يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية (والأوقية اثنان وأربعون مثقالا من الذهب) . الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) سبيل الله دينه واتباع رسوله: أي إن مقصدهم بالإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك. (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) أي إنه سيقع هذا الإنفاق وتكون عاقبته الحسرة لأنه سيذهب المال ولا يصلون إلى المقصود، بل يغلبون كما قال تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وسينكسرون المرة بعد المرة. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي والذين كفروا يساقون يوم القيامة إلى جهنم إذا هم أصروا على كفرهم حتى ماتوا فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما. وقد كان للمسلمين العبرة فى هذه الآية فينفقون أموالهم فى سبيل الله لأن لهم بها سعادة الدارين، وهكذا كانوا أيام قاموا بحقوق الإسلام والإيمان. والكفار فى هذا العصر ينفقون الكثير من الأموال للصد عن الإسلام وفتنة الضعفاء من العامة بالدعوة إلى دينهم وتعليم أولاد المسلمين فى مدارسهم ومعالجة رجالهم

[سورة الأنفال (8) : الآيات 38 إلى 40]

ونسائهم فى مستشفياتهم إلى نحو ذلك من الوسائل الناجعة فى نشر دينهم وفتنة المسلمين عن دينهم وهم لا يبالون ماذا يفعلون- ألا ساء ما كانوا يعملون. (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي إن الله كتب النصر والغلب لعباده المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكفار للصدّ عن سبيل الله، ليميز الكفر من الإيمان، والحق والعدل من الجور والطغيان. وهذا التمييز بين الأمرين فى سنن الاجتماع هو بقاء أمثل الأمرين وأصلحهما: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» وسنن الله فى الدنيا والآخرة واحدة، فالخبيث فى الدنيا خبيث فى الآخرة ومن ثم قال: (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ويجعل الله الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى فى اجتماع المتشاكلات واختلاف المتناكرات كما جاء فى الحديث «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» ثم يجعل أصحابه فى جهنم إلى يوم القيامة، وبئس المصير لمن خسر نفسه وماله. [سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه حال من يصر على الكفر والصد عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين وعاقبة أعمالهم فى الدنيا والآخرة- قفى على ذلك ببيان من يرجعون عنه ويدخلون فى الإسلام لأن الأنفس فى حاجة إلى هذا البيان فقال:

الإيضاح

الإيضاح (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار: إن ينتهوا عماهم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله، يغفر لهم الله ما قد سلف منهم من ذلك ومن سواه من الذنوب، فلا يعاقبهم على شىء من ذلك فى الآخرة، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون فلا يطالبون قاتلا منهم بدم ولا سالبا أو غانما بسلب ولا غنم. روى مسلم من حديث عمرو بن العاص قال: فلما جعل الله الإيمان فى قلبى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فقبضت يدى، قال مالك؟ قلت أردت أن أشترط. قال ماذا تشترط؟ قلت أن يغفر لى قال أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» . (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي وإن يعودوا إلى العداء والصد والقتال تجر عليهم سننه المطردة فى أمثال لهم من الأولين الذين عادوا الرسل وقاتلوهم، من نصر المؤمنين وخذلانهم وهلاكهم كما حدث لهم يوم بدر كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» . ثم بين ما سلف من قوله: فقد مضت سنة الأولين، ورغب المؤمنين فى قتالهم فقال: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي وقاتلهم أيها الرسول أنت ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة فى الدين بالتعذيب وضروب الإيذاء لأجل تركه كما فعلوا ذلك حين كانت لهم القوة والبطش فى مكة، إذ أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم أتوا لقتالكم فى دار الهجرة، وحتى يكون الدين كله لله فلا يستطيع أحد أن يفتن أحدا عن دينه ويكرهه على تركه إلى دين المكره تقيّة وخوفا. وخلاصة ذلك- قاتلوهم حتى يكون الناس أحرارا فى عقائدهم لا يكره أحد أحدا

على ترك عقيدته إكراها ولا يؤذى ويعذب لأجلها كما قال تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» والمسلمون إنما يقاتلون لحرية دينهم ولا يكرهون عليه أحدا من دونهم. وروى عن ابن عباس تفسير الفتنة بالشرك- والمعنى عليه- قاتلوهم حتى لا يبقى شرك وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام. ويؤيد الرأى الأول أنه جاء رجلان فى فتنة ابن الزبير إلى عبد الله بن عمر فقالا: إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعنى أن الله حرم علىّ دم أخى المسلم. قالا ولم يقل الله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فإن انتهوا عن الكفر وعن قتالكم فإن الله يجازيهم على ما فعلوا بحسب علمه. (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي وإن أعرضوا عن سماع تبليغكم ولم ينتهوا عن كفرهم وفتنتهم وقتالهم لكم فأيقنوا بنصر الله ومعونته لكم وهو متولى أموركم فلا تبالوا بهم ولا تخشوا بطشهم، وهو نعم المولى ونعم النصير فلا يضيع من تولاه ولا يغلب من نصره. وما غلب المسلمون فى العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدى دينهم وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه الله بقوله: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» واتكلوا على خوارق العادات وقراءة الأحاديث والدعوات، وذلك ما لم يشرعه الله ولم يعمل به رسوله- إلى أنهم تركوا العدل والفضائل وسنن الله فى الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فما حرم الله عليهم من الإسراف فى شهواتهم.

وعلى العكس من ذلك اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام فاستعدوا للحرب واتبعوا سنن الله فى العمران فرجحت كفّتهم، ولله الأمر. وما مكّن الله لسلف المسلمين من فتح بلاد كسرى وقيصر وغيرهما من البلاد إلا لما أصاب أهلها من الشرك وفساد العقائد فى الآداب ومساوى الأخلاق والعادات والانغماس فى الشهوات واتباع سلطان البدع والخرافات- فجاء الإسلام وأزال كل هذا واستبدل التوحيد والفضائل بها، ومن ثم نصر الله أهله على الأمم كلها. ولما أضاع جمهرة المسلمين هذه الفضائل واتبعوا سنن من قبلهم فى اتباع البدع والرذائل وقد حذرهم الإسلام من ذلك، ثم قصروا فى الاستعداد المادي والحربي للنصر فى الحرب عاد الغلب عليهم لغيرهم ومكنّ لسواهم فى الأرض: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بما أودع فيها من كنوز وخيرات. وفق الله المسلمين إلى الهدى والرشاد وجعلهم يعيدون سيرتهم الأولى ويهتدون بهدى دينهم ويستمسكون بآدابه ويتبعون سيرة السلف الصالح، فيكتب لهم العز فى الدنيا والسعادة فى الآخرة، والحمد لله أولا وآخرا. وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء فى ليلة العشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين. 5 أوجب الله الهجرة على من يستضعف فى وطنه فيمنع من إقامة دينه فيه. 15 الإيمان الصحيح سبب سعادة الدنيا والآخرة. 16 الأمن من مكر الله خسران ومفسدة كاليأس من رحمته. 17 فى قصص الماضين عبرة للحاضرين. 22 ذكر اسم موسى فى القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة. 24 الفتن السياسية والأكاذيب التي حدثت فى الصدر الأول مرجعها إلى الفرس الذين كانوا يروّجون الغش والتدليس لإفساد الإسلام. 26 السحر وضروبه ورواجه فى البلاد الهمجية. 27 السحر صناعة تتلقّى بالتعليم 35 اتهام فرعون السحرة بالتوطؤ مع موسى. 37 التاريخ المصري يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة. 39 ما كتبه المفسدون عن بنى إسرائيل منقول بالسماع منهم أو مأخوذ من كتب لا يوثق بصدقها. 51 طلب بنو إسرائيل من موسى أن يجعل لهم آلهة يعكفون على عبادتها. 51 سحرة موسى كانوا من العلماء. 53 فى القرآن وعد بزوال الوثنية من مصر.

الصفحة المبحث 59 الأخبار متعارضة فى رؤية الله يوم القيامة. 66 كثير ممن تعلم العلم فى البلاد الغربية من المسلمين يحتقرون هداية الدين الروحية. 68 عجل السامرىّ وصفته، وكيف كان صنعه، وردّ القرآن على من اتخذوه إلها. 78 اختار موسى من قومه سبعين رجلا. 81 صفات النبي صلى الله عليه وسلم فى القرآن. 89 ما جاء فى التوراة عن عدد بنى إسرائيل الذين كانوا فى التيه، وردّ ابن خلدون على ذلك. 93 الحكمة فى كون النبي محمد عليه الصلاة والسلام أمّيا لا يقرأ ولا يكتب. 96 هل كان مسخ بنى إسرائيل فى الخلق أو فى الخلق؟ 109 ضرب الله المثل لمن يميل إلى الدنيا ويتبع هواه بالكلب فى أقبح حالاته 113 المؤمن تسمو نفسه بمعرفة ربه فلا يذل لغيره ولا يخاف منه. 114 المسلمون أهملوا النظر فى آيات الله فى الأنفس والآفاق. 115 الإسلام يحض على استعمال الطيبات فى الحياة بلا تقتير ولا إسراف. 117 إن لله تسعة وتسعين اسما 123 عقاب الأمم مبنى على النواميس التي سنها الله فى الخليقة. 125 الأمر بالنظر فى ملكوت السموات والأرض 128 تأتى الساعة على الناس بغتة وهم لا يشعرون 130 الحكمة فى إخفاء الآجال والأعمال. 131 عمر الدنيا وما جاء فى ذلك من الآثار. 132 أشراط الساعة وأماراتها. 133 المهدى المنتظر 136 الرسول لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه.

الصفحة المبحث 151 قوىّ الروح بالإيمان والتقوى لا تؤثر فيه نزغات الشيطان. 152 المؤمن إذا مسه طائف من الشيطان تذكر فأناب إلى ربه. 153 أوصاف القرآن. 155 ما يفعله جماهير الناس فى المحافل عند سماع القرآن. 156 ذكر الله باللسان وحده لا يجدى نفعا. 168 قصة بدر وسببها. 172 دعاء النبي ربه قبل الغزوة. 173 إنزال الملائكة مددا للمؤمنين. 179 الفرار من الزحف من الكبائر 188 من يتبع هواه لا تؤثر فيه النصائح 190 عقاب الأمم على ذنوبها مطرد دون عقاب الأفراد. 193 الخيانة من صفات المنافقين والأمانة من صفات المؤمنين. 196 المتقى يؤتيه الله فرقانا يميز به بين الرشد والغى. 198 اتفقت كلمة المشركين على إيقاع الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم بإحدى ثلاث. 205 أهل الكفر الآن ينفقون الأموال للصد عن الإسلام وفتنة الضعفاء. 208 ما غلب المسلمون وذهب أكثر ملكهم إلا لتركهم هدى الإسلام.

تتمة سورة الأنفال

الجزء العاشر [تتمة سورة الأنفال] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 44] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الغنم والمغنم والغنيمة: ما يناله الإنسان ويظفر به بلا مقابل مادىّ، وقولهم الغرم بالغنم: أي يقابل به، والفيء: كل ما صار إلى المسلمين من أموال أهل الشرك بعد أن تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار إسلام، وهو لكافة المسلمين. وليس فيه الخمس، والنفل: ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها. المعنى الجملي لما أمر الله سبحانه بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستتبعا لأخذ الغنائم منهم ناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه فى قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه. والجمهور على أن هذه الآية نزلت فى غزوة بدر، وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها. الإيضاح (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين، فاجعلوا أوّلا خمسه لله تعالى ينفق فيما يرضيه من مصالح الدين العامة كالدعوة للإسلام، وإقامة شعائره وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم أعطوا للرسول منه كفايته لنفسه ونسائه مدة سنة، ثم أعطوا منه ذوى القربى من أهله وعشيرته نسبا وولاء، وقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ببني هاشم وبنى أخيه المطّلب

المسلمين، دون بنى عبد شمس ونوفل، ثم المحتاجين من سائر المسلمين، وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل. روى البخاري عن مطعم بن جبير (من بنى نوفل) قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان (من بنى عبد شمس) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله أعطيت بنى المطلب وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شىء واحد» . وسرّ هذا أن قريشا لما كتبت الصحيفة وأخرجت بنى هاشم من مكة وحصرتهم فى الشعب لحمايتهم له صلى الله عليه وسلم دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل- إلى ما كان من عداوة بنى أمية بن عبد شمس لبنى هاشم فى الجاهلية والإسلام، فقد ظل أبو سفيان يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم ويؤكّب عليه المشركين وأهل الكتاب إلى أن أظفر الله رسوله ودانت له العرب بفتح مكة، وكذلك بعد الإسلام خرج معاوية على علىّ وقاتله. والحكمة فى تقسيم الخمس على هذا النحو- أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بد لها من الملل لتستعين به على القيام بالمصالح العامة كشعائر الدين والدفاع عن الأمة، وهو ما جعل لله فى الآية، ثم نفقة رئيس حكومتها، وهو سهم الرسول فيها، ثم ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظهرهم تمثيلا لشرفه وكرامته وهو سهم ذوى القربى، ثم ما يكون لذوى الحاجات من ضعفاء الأمة، وهم الباقون. ولا يزال هذا الاعتبار مراعى معمولا به فى كثير من الدول مع اختلاف شئون الاجتماع والمصالح العامة، فالمال الذي يرصد للمصالح العامة يدخل فى موازين الوزارات المختلفة ما بين جهرية وسرية، ولا سيما الأمور الحربية، وكذلك راتب ممثل الدولة من ملك أو رئيس جمهورية منه ما هو خاص بشخصه، ومنه ما هو لأسرته وعياله، ومن موازين الدولة ما يبذل لإعانة الجماعات الخيرية والعلمية ونحوهما.

ولكن اليتامى والمساكين وابن السبيل لا تجعل لهم الدول فى هذا العصر حقّا فى أموال الدولة، وإن كان بعض الدول يعطيهم أموالا من الأوقاف الخيرية التي تتولى أمر استغلالها وإنفاق ريعها على المستحقين له، وبعضها يخصص إعانات للعمال المتعطلين فى وقت الحاجة فحسب. وعن ابن عباس أنه قال (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مفتاح كلام أي إنه ذكر على سبيل التبرك وإنما أضافه سبحانه إلى نفسه، لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء، وليس المراد منه أن لله سهما مفردا، لأن ما فى السموات والأرض فهو لله، وبهذا قال الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي، فقد قالوا سهم الله وسهم رسوله واحد، وذكر الله للتعظيم. (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إذعان، فاعلموا أن ما غنمتم من شىء قلّ أو كثر فأن لله خمسة لأنه هو مولاكم وناصركم، وللرسول الذي هداكم به وفضلكم على غيركم واقطعوا الأطماع عنكم، وارضوا بحكم الله فى الغنائم، وبقسمة رسوله فيها. ويوم الفرقان هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الإيمان والكفر وهو يوم بدر الذي التقى فيه الجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين فى الحرب والنزال، وقد كان ذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته أن نصركم على قلتكم وجوعكم وضعفكم وبلوغ عدوّكم ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر، وأيد رسوله وأنجز وعده له. (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) العدوة- مثلثة العين- جانب الوادي، والدنيا مؤنث الأدنى وهو الأقرب، والقصوى مؤنث الأقصى وهو الأبعد. والمعنى- إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا فى ذلك اليوم فى الوقت الذي كنتم مرابطين فيه بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة، وفيه نزل المطر لا فى غيره والأعداء فى الجانب الأبعد عنها ولا ماء فيه، وأرضه رخوة تسوخ فيها الأقدام.

(وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي والعير التي خرج المسلمون للقائها فى مكان أسفل من مكانكم وهو ساحل البحر كما تقدم، إذ كان أبو سفيان قادما بها من الشام. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي ولو تواعدتم أنتم وهم القتال، وعلمتم ما لهم وما لكم لاختلفتم فى الميعاد، كراهة للحرب لقلّتكم، وعدم إعداد العدة لها، وانحصار همكم فى العير، ويأسا من الظفر بها، ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال، لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يأمنون نصر الله له، لأن كفر الكثيرين منهم به كان استكبارا وعنادا لا اعتقادا. (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) أي ولكن تلاقيتم على غير موعد ولا رغبة فى القتال ليقضى الله أمرا كان فى علمه وحكمته أنه واقع لا محالة، وهو القتال المفضى إلى خزيهم ونصركم عليهم، وصدق وعده لرسوله، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) البينة الحجة الظاهرة، أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من الكفار من هلك عن حجة بينة مشاهدة بالبصر، على حقية الإسلام، بإنجاز وعده لرسوله ومن معه من المؤمنين، بحيث تنتفى الشبهة، ولا يكون هناك مجال للاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها وعاينها فيزداد يقينا بالإيمان ونشاطا فى الأعمال. (وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شىء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق منهم من الأقوال الصادرة عن عقيدة، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره فى أعماله، ويعلم ما يكنه من ذلك ومن غيره، ويجازى كلّا بحسب ما يسمع ويعلم. والخلاصة- إن غزوة بدر قامت بها الحجة البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما

أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا مجال فى ذلك للمكابرة والتأويل. (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا) أي إنه تعالى سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدد عدوك وعدوهم قليلا فى الرؤيا المنامية، فتخبر بها المؤمنين، وتطمئن قلوبهم، وتقوى آمالهم بالنصر، فيجترئون عليهم. (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرا لفشل أصحابك وخافوا ولم يقدروا على حرب القوم، ولوقع بينهم النزاع وتفرق الآراء فى أمر القتال، إذ منهم القوىّ الإيمان والعزيمة، فيطيع الله ورسوله ويقاتل، ومنهم الضعيف الذي يثبّط عن القتال بمثل الأعذار التي جادلوا بها الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم فى قوله «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ» . (وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ) أي ولكن الله سلمكم من الفشل والتنازع وتفرق الآراء، وما يعقب ذلك من الانكسار والخذلان. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فتحجم عن القتال، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث فى النفس الطمأنينة والصبر فيحملها على الإقدام، ويسخر لكل منهما الأسباب التي تفضى إلى ما يريده منها. (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أي وفى الوقت الذي يريكم الله الكافرين عند التلاقي معهم عددا قليلا، بما أودع فى قلوبكم من الإيمان بوعد الله بنصركم وبتثبيتكم بملائكته والاستهانة بهم، ويقللكم فى أعينهم لقلتكم بالفعل، ولما كان عندهم من عجب وغرور بأنفسهم حتى لقد قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد أكلة جزور (أي لقلتهم يكفيهم جزور واحد فى اليوم) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 إلى 46]

والخلاصة- إنه فعل ذلك ليقدم كل منكم على قتال الآخر، فهذا واثق بنفسه مدلّ ببأسه، وهذا متّكل على ربه، واثق بوعده، حتى إذا ما التقيتم ثبتكم، وثبّطهم ليقضى بنصركم عليهم أمرا كان فى علمه مفعولا، وهو أن تكون كلمة الله هى العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ومن ثم هيأ الأسباب وقدرها تقديرا. [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 46] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر- قفّى على ذلك بذكر أدبين عظيمين إذا التقوا بعدوهم: (1) الثبات وتوطين النفس على اللقاء مع عدم التواني والتكاسل. (2) ذكر الله كثيرا وهو ذكره بألسنتهم وقلوبهم، تنبيها إلى أن الإنسان يجب ألا يخلو قلبه من ذكره فى أشد الأوقات خرجا. وقد طلب إلينا الثبات والطاعة لله ورسوله حتى لا نفشل وتدول علينا الدّولة. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) أي إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار فاثبتوا لهم ولا تفروا أمامهم، فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت السبب فى النصر والغلب بين الأفراد والجيوش، انظر إلى الرجلين الجلدين يتصارعان فيعيا كل منهما وتضعف قوته، ويتوقع كل لحظة أن يقع صريعا، ولكن قد يخطر له أن خصمه

ربما وقع قبله فيثبت إلى اللحظة الأخيرة، فيكون له الفلج والفوز على خصمه، وهكذا فى الحروب، فإن من أهم أسباب النصر فيها الثبات وعدم اليأس، بل الثبات نافع فى كل أعمال البشر، فهو الوسيلة فى الفوز والنجاح فيها. (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً) أي وأكثروا من ذكر الله فى أثناء القتال فى قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه، وبأن النصر بيده ومن عنده يؤتيه من يشاء، وبألسنتكم بالتكبير ونحوه وبالدعاء والتضرع إليه مع اليقين بأنه لا يعجزه شىء. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي إن الثبات وذكر الله هما وسيلتان من وسائل الفوز ويعدّان للفلاح فى القتال فى الدنيا، وفى نيل الثواب فى الآخرة. وفى ذلك إيماء إلى أنه يجب على العبد ألا يفتر عن ذكر الله أكثر ما يكون، همّا، وأشغل ما يكون قلبا، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وأطيعوا الله فيما أمركم به من الأسباب الموجبة للفلاح فى القتال وفى غيره، وأطيعوا رسوله كذلك، فهو المبيّن لكلام ربه، والمنفّذ له بالقول والعمل والحكم، وهو القائد الأعظم فى القتال، فطاعته هى جماع النظام، والنظام ركن من أركان الظفر، وهو المشارك لكم فى الرأى والتدبير والاستشارة فى الأمور. (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي ولا يكن منكم تنازع واختلاف، فإن ذلك مدعاة للفشل والخيبة وذهاب القوة، فيتغلب عليكم العدو. وأصل الريح الهواء المتحرك ثم استعيرت للقوة والغلبة، لأنه لا يوجد فى الأجسام ما هو أقوى منها، فهى تهيج البحار وتقتلع الأشجار وتهدم الدور والقلاع، ومن ثم يقال هبت رياح فلان إذا جرى أمره على ما يريد كما يقال: ركدت رياحه إذا ضعف أمره وولّت دولته.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 47 إلى 49]

(وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي واصبروا على الشدائد وعلى ما تلاقونه من بأس العدو واستعداده وكثرة عدده، فالله مع الصابرين يمدّهم بمعونته وتأييده، ومن كان الله معينا له فلا يغلبه غالب. [سورة الأنفال (8) : الآيات 47 الى 49] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) تفسير المفردات الذين خرجوا: هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير، والبطر: إظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الرياسة، ويعرف ذلك فى الحركات المتكلّفة والكلام الشاذ، والرئاء: أن يعمل المرء ما يحب أن يراه الناس منه ليثنوا عليه ويعجبوا به، وتراءت الفئتان: قربت كل منهما من الأخرى، وصارت بحيث تراها وتعرف حالها ونكص: رجع القهقرى وتولى إلى الوراء، والمنافق من يظهر الإسلام ويسرّ الكفر، والذين فى قلوبهم مرض: هم ضعاف الإيمان تملأ قلوبهم الشكوك والشبهات، فتزلزل اعتقادهم حينا وتسكن حينا آخر.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر فى القتال، ونهاهم عن التنازع- قفّى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير من البطر والكبرياء والصد عن سبيل الله. الإيضاح (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) أي عليكم أن تمتثلوا ما أمرتم به وتنتهوا عما نهيتم عنه، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم فى مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بطرين بما أوتوا من قوة ونعم لا يستحقونها، مرائين الناس بها ليعجبوا بها ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي وهم بخروجهم يصدون عن سبيل الله وهو الإسلام بحملهم الناس على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإعراض عن تبليغ دعوته، وتعذيب من أجابها إذا لم يكن لهم من يمنعهم ويحميهم من قرابة أو حلف أو جوار. (وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي والله عليم بما جاءوا لأجله، ومن ثم فهو يجازيهم عليه فى الدنيا والآخرة بمقتضى سننه فى ترتيب الجزاء على الأعمال وصفات النفوس. وفى هذا زجر وتهديد على الرياء والتصنع والبطر والكبرياء، وأنه سيجازى عليها أشد الجزاء. قال البغوي: نزلت فى المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغى وفخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك

وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني» قالوا ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا- وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام- فنقيم ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فوافوها فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والحسبة فى نصر دينه ومؤازة رسوله صلى الله عليه وسلم. (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين حين زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم بما ألقاه فى روعهم، وخيّل إليهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات، مجير لهم حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين. (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله، وقبل أن يصطلى نار القتال معه- نكص على عقبيه أي رجع القهقرى وتولّى إلى الوراء وهى الجهة التي فيها العقبان، والمراد أنه كفّ عن تزيينه لهم وتغريره بهم. (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ) أي تبرأ منهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة. (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) قد تكون هذه العبارة من كلام الشيطان، وقد تكون من كلامه تعالى. والخلاصة- إن جند الشيطان كانوا منبثّين فى المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة بما يغريهم ويغرّهم، كما كان الملائكة منبثين فى المؤمنين يلهمونهم

بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم، فلما تراءت الفئتان وأوشكا أن يتلاحما فرّ الشيطان بجنوده من بين المشركين، لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين (وهما ضدان لا يجتمعان، ولو اجتمعا لقضى أقواهما وهم الملائكة على أضعفهما وهم الشياطين) . فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين، كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق متلاش أمامه لا يبقى منه شىء. (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم حين يقول المنافقون ومن فى حكمهم من مرضى القلوب: ما حمل هؤلاء المؤمنين على الإقدام على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم- إلا غرورهم بدينهم، ولا غرو أن تصدر هذه المقالة ممن حرم الإيمان الكامل والثقة بالله والتوكل عليه. روى عن مجاهد أنه قال: هم فئة من قريش، قيس بن الوليد بن المغيرة والحارث ابن زمعة بن الأسود بن المطلب ويعلى بن أمية والعاص بن منبّه، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم. (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي ومن يكل أمره إلى الله ويؤمن إيمان اطمئنان بأنه ناصره ومعينه، وأنه لا يعجزه شىء ولا يمتنع عليه شىء أراده- يكفه ما يهمه وينصره على أعدائه وإن كثر عددهم وعظم استعدادهم، لأنه العزيز الغالب على أمره، الحكيم الذي يضع كل أمر فى موضعه بمقتضى سننه فى نظام العالم، ومن ذلك أن ينصر الحق على الباطل.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 إلى 54]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) تفسير المفردات أدبارهم، أي ظهورهم وأقفيتهم، وعذاب الحريق: عذاب النار بعد البعث، والدأب: العادة المستمرة. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه حال هؤلاء الكفار من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورئاء الناس، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم- قفّى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم فى ذلك الوقت. الإيضاح (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي لو عاينت أيها الرسول حال الكفار حين يتوفاهم الملائكة،

فينزعون أرواحهم من أجسادهم ضار بين وجوههم وأقفيتهم، قائلين لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (وهذا الضرب والكلام من عالم الغيب، فلا يقتضى أن يراه الذين يحضرون وفاتهم، ولا أن يسمعوا كلامهم حين يقولون ذلك لهم) لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما هائلا يردّ الكافر عن كفره، والظالم عن ظلمه إذا هو علم عاقبة أمره. وقد روى أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر، كان المؤمنون يضربون من أقبل من المشركين من وجوههم والملائكة يضربونهم من أدبارهم. (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم من سىء الأعمال فى حياتكم الدنيا من كفر وظلم، وهذا يشمل القول والعمل. ونسب ذلك إلى الأيدى وإن كان قد يقع من الأيدى والأرجل وسائر الحواس أو بتدبير العقل، من أجل أن العادة قد جرت بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها. (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي وبأن الله لا يظلم أحدا من عبيده، فلا يعذب أحدا منهم إلا بجرم اجترمه، ولا يعاقبه إلا بمعصيته إياه وقد وقع ذلك منكم، فأنتم الظالمون لأنفسكم فلوموها، ولا لوم إلا عليها. روى مسلم عن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» . (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي فعل هؤلاء المشركين من قريش الذين قتلوا ببدر كعادة قوم فرعون وفعلهم وفعل من قبلهم من الأمم الخالية، كفروا بآيات ربهم فأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ولم يظلم أحدا منهم مثقال ذرة، ونصر رسله والمؤمنين.

وكما كانت سنته تعالى فى أولئك أن أخذهم بذنوبهم، فسنته فى هؤلاء كذلك فقد نصر رسوله والمؤمنين فى بدر، وأهلك هؤلاء بذنوبهم. (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إن الله قوىّ لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، شديد العقاب لمن استحق عقابه وكفر بآياته وجحد حججه، وقد جعل لكل شىء أجلا. روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبى موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» . (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي ذلك الذي ذكر من أخذه لقريش بكفرها بنعم الله عليها، إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، فكذبوه وأخرجوه من بينهم وحاربوه، كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم- فقد جرت سنة الله ألا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة. وفى الآية إيماء إلى أن نعم الله على الأمم والأفراد منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشئون ثابتة لهم متمكنة منهم، كانت تلك النعم ثابتة لهم، والله لا ينتزعها منهم بغير ظلم منهم ولا جرم، فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يلزم ذلك من محاسن الأعمال، غيّر الله حالهم وسلب نعمتهم منهم فصار الغنى فقيرا والعزيز ذليلا والقوى ضعيفا. وليست سعادة الأمم وقوتها وغلبتها منوطة بسعة الثروة ولا كثرة العدد كما كان يظن بعض المشركين وحكاه الله عنهم بقوله «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» . وكذلك لا يحابى الله تعالى بعض الشعوب والأمم بنسبها وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوّة أو ما دونها فيؤتيهم الملك والسيادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إليهم كما كان شأن بنى إسرائيل فى غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم،

[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 إلى 59]

وهكذا شأن النصارى والمسلمين من بعدهم، إذ اتبعوا سنتهم واغتروا بدينهم وإن كانوا من أشد المخالفين له. (وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى سميع لما يقول مكذبو الرسل، عليم بما يأتون وما يذرون، وهو مجازيهم على ما يقولون ويعملون إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا مماثلا لدأب آل فرعون، فهم قد كذبوا كما كذب أولئك فحل بهم مثل ما حل بأولئك السابقين. والدأب الأول فى بيان كفرهم بجحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة، وفى تعذيب الله إياهم فى الآخرة، فهو دأب وعادة فيما يتعلق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته، وفى الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتدىء بالموت وينتهى بدخول النار. والدأب الثاني فى تكذيبهم بآيات ربهم ونعمه من حيث إنه هو المربي لهم، ويدخل فى ذلك تكذيب الرسل وعنادهم وإيذائهم وكفر النعم المتعلقة ببعثتهم، وفى الجزاء على ذلك بتغيير حالهم وعذابهم فى الدنيا. وخلاصة ذلك- إن مادوّنه التاريخ من دأب الأمم وعادتها فى الكفر والتكذيب والظلم فى الأرض، ومن عقاب الله إياها- جار على سننه تعالى المطردة فى الأمم، ولا يظلم ربك أحدا بسلب نعمة منهم ولا بإيقاع أذى بهم، وإنما عقابه لهم أثر طبيعى لكفرهم وظلمهم لأنفسهم. وأما عذاب الاستئصال بعذاب سماوىّ فهو خاص بمن طلبوا الآيات من الرسل وأنذروهم العذاب إذا هم كفروا بها بعد مجيئها ثم فعلوا ذلك. [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 59] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الدابة: لفظ غلب استعماله فى ذوات الأربع، وأصله كل مادب على وجه الأرض، وهو المراد هنا، عند الله: أي فى حكمه وعلمه، والذين عاهدت منهم: هم طوائف من يهود المدينة. وثقفه: أدركه وظفر به، فشرد بهم: أي نكّل بهم تنكيلا يشرّد غيرهم من ناقضى العهد، من خلفهم: هم كفار مكة وأعوانهم من مشركى القبائل الموالية لهم، والنبذ: الطرح، على سواء: أي على طريق واضح لاخداع فيه ولا خيانة ولا ظلم، سبقوا: أي أفلتوا من الظفر بهم، لا يعجزون: أي لا يجدون الله عاجزا عن إدراكهم، بل سيجزيهم على كفرهم. المعنى الجملي بعد أن بين حال مشركى قريش فى قتالهم له ببدر- قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا فى بلاد الحجاز. قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآيات فى ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت، وقال مجاهد: نزلت فى يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبى جهل فى مشركى مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي إن شر ما يدب على وجه الأرض فى حكم الله وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان: (1) الإصرار على الكفر والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمان جملتهم أو إيمان جمهورهم، لأنهم إما رؤساء حاسدون للرسول صلى الله عليه وسلم معاندون له جاحدون بآياته المؤيدة لرسالته على علم منهم، وفيهم يقول سبحانه: «يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» وإما مقلدون جامدون على التقليد لا ينظرون فى الدلائل والآيات. وقد لقبهم الله بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله فى ذوات الأربع، لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضل من العجماوات، لأن لها منافع وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم كما قال تعالى فى أمثالهم: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» . (2) نقض العهد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدا أقرّهم فيه على دينهم وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، فنقض كل منهم عهده. روى عن ابن عباس أنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه بالسلاح فى يوم بدر ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فخالفهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: وهم لا يتقون، أي لا يتقون الله فى نقض العهد ولا فيما قد يترتب عليه من قتالهم والظفر بهم.

وبعد أن بين سبحانه أنهم قد تكرر منهم نقض العهد- أردف ذلك ذكر ما يجب أن يعاملوا به فقال: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي إنك إن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتظفر بهم فى الحرب- فنكّل بهم أشد التنكيل حتى يكون ذلك سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم، فيكون مثلهم مثل الإبل الشاردة النادّة عن أمكنتها. وإنما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإثخان فى هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه، لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم، لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم واعتبار الحرب ضرورة تترك إذا زال سببها كما قال تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» وهم قد أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون فى السلم واعتذروا عن نقضهم العهد وكانوا فى ذلك مخادعين. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لعل من خلفهم من الأعداء يذكّرون النكال فيمنعهم ذلك من نقض العهد ومن القتال. روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فى بعض أيامه التي لقى فيها العدو فقال: «أيها الناس لا تمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف- ثم قال: اللهم منزّل الكتاب، ومجرى السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» . وفى ذلك إيماء إلى شيئين: (1) إن الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله، وإنما هى ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» . (2) إن استعمال القسوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من ورائهم- أمر لا بد منه للعظة والاعتبار حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم.

ولا يزال الأمر كذلك فى هذا العصر، وإن كانوا يريدون به الانتقام وشفاء ما فى الصدور من الأحقاد، والتمتع بالمغانم من مال وعقار. وبعد أن ذكر حكم ناقضى العهد حين سنوح الفرصة- قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال: (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي وإن توقعت من قوم معاهدين خيانة ونكثا للعهد بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تنذر بها، فاقطع عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها بأن تنبذ إليهم عهدهم وتنذرهم بأنك غير مقيّد به ولا مهتم بأمرهم، بطريق واضح لاخداع فيه ولا استخفاء. والحكمة فى هذا أن الإسلام لا يبيج الخيانة مطلقا. وخلاصة ذلك- لا تجاربهم قبل أن تعلمهم أنك قد فسخت العهد الذي بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم فى العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب عليهم. (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي إن الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها، ولا وسيلة لاتقاء ضررها من الكفار إذا ظهرت أماراتها إلا بنبذ عهدهم جهرة. روى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء- من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها، مسلما كان أو كافرا، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه، مسلما كان أو كافرا» . وبعد هذا أنذر أولئك الخائنين ما سيحل بهم من عقاب فقال: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي ولا يظننّ الذين كفروا أنهم سبقونا ونجوا من عاقبة خيانتهم وشرهم، ونحو الآية قوله: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» . (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي إنهم لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه بمكرهم وخيانتهم

[سورة الأنفال (8) : الآيات 60 إلى 63]

بل هو سيجزيهم ويمكّن منهم فى الدنيا بتسليط رسوله والمؤمنين عليهم وإذاقتهم عاقبة كيدهم، والآية بمعنى قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» . وخلاصة ذلك- قطع أطماعهم فى الانتفاع بهذا النبذ والغلبة على المؤمنين. وفى الآية إيماء إلى أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع الأعداء المخالفين فى الدين، وما حرّمه من الخيانة فيها- لم يكن عن ضعف ولا عن عجز، بل عن قوة وتأييد إلهى، فقد نصر الله رسوله والمؤمنين على اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم، وأجلى من أبقاه السيف منهم من جوار معقل الإسلام (شبه جزيرة العرب) . [سورة الأنفال (8) : الآيات 60 الى 63] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) تفسير المفردات الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل، والرباط والمربط: الحبل الذي تربط به الدابة، ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها، والإرهاب والترهيب: الإيقاع فى الرهبة وهى الخوف المقترن بالاضطراب، وجنح للشىء وإليه: مال، يقال جنحت الشمس للغروب أي مالت إلى

المعنى الجملي

جانب الغرب الذي تغيب فى أفقه، والسلم (بفتح السين وكسرها) والسلام: الصلح وضد الحرب، والإسلام دين السلم والسلام كما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» وحسبك الله: أي كافيك وناصرك عليهم. المعنى الجملي بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم- قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مهجره يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء- أردف ذلك ذكر ما يجب على المؤمنين فى معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشرى، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه. الإيضاح (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أمر الله المؤمنين بالاستعداد للحرب التي لا بد منها لدفع العدوان وحفظ الأنفس والحق والفضيلة. ويكون ذلك بأمرين: (1) إعداد المستطاع من القوة، ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمين فى هذا العصر: صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب وقد استعمل الصحابة المنجنيق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة خيبر وغيرها، روى مسلم عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلا هذه

الآية يقول: «ألا إن القوّة الرمي» قالها ثلاثا، وذلك أن رمى العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة أو نحو ذلك، وهذا يشمل السهم وقذيفة المنجنيق والطيارة والمدفع والبندقية ونحوها، فاللفظ يشملها وإن لم تكن معروفة فى عصره صلى الله عليه وسلم. (2) مرابطة الفرسان فى ثغور البلاد وحدودها، إذ هى مداخل الأعداء، ومواضع مهاجمتهم للبلاد. والحكمة فى هذا أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فجأها العدو على غرّة، وقوام ذلك الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء، ومن أجل هذا عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها، ولا يزال للفرسان نصيب كبير فى الحرب فى هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية فى الدول الحربية. (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي أعدوا لهم المستطاع من القوة الحربية ومن الفرسان المرابطة لترهبوا عدو الله الكافرين به وبما أنزله على رسوله وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر، إذ لا شىء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب، فالكفار إذا علموا استعداد المسلمين وتأهبهم للجهاد واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وإلى هذا يشير أبو تمام إذ يقول: وأخافكم كى تغمدوا أسيافكم ... إن الدّم المغبّر يحرسه الدم وهذا الخوف يفيد المسلمين من وجوه: (ا) يجعل أعداءهم لا يعينون عدوا آخر عليهم (ب) يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم. (ج) ربما حملهم ذلك على الدخول فى الإسلام والإيمان بالله ورسوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) أي وترهبون به أناسا غير هؤلاء الأعداء المعروفين لكم، وهم مشركو مكة ومن والاهم ممن يجمعون بين هاتين

العداوتين حين نزول الآية عقب غزوة بدر- ممن لا تعلمون الآن عداوتهم بل يعلمهم الله وهو علام الغيوب. والخلاصة- إن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم أنهم أعداء- يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعا ويمنعهم من الإقدام على القتال، وهذا ما يسمى فى العصر الحديث (السلام المسلح) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي وما تنفقوا من شىء قليلا كان أو كثيرا فى إعداد المستطاع من القوة والمرابطة فى سبيل الله- بالله يعطيكم عليه الجزاء الوافي التام. (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي والحال أنه لا يلحقكم ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم، فإن القوىّ المستعد لمقاومة المعتدى قلما يعتدى عليه أحد، وإن اعتدى عليه فقلّ أن يظفر به. وفى هذا إيماء إلى أن إعداد المستطاع من القوة الحربية والمرابطة فى سبيل الله لا يمكن تحقيقهما إلا بإنفاق الكثير من المال، ومن ثم رغّب سبحانه عباده المؤمنين فى الإنفاق فى سبيله، ووعدهم بأن كل ما ينفقون فيها يوفى إليهم إما فى الدنيا والآخرة أو فى الآخرة فحسب. وإذ كان السلم هو المقصد الأول لا الحرب أكده بقوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) أي وإن مال العدو عن جانب الحرب إلى جانب السلم ولم يعتز بقوته فاجنح لها، لأنك أولى بالسلم منهم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي اقبل السلم وفوّض الأمر إلى الله ولا تخف غدرهم ومكرهم، فالله هو السميع لما يقولون، العليم بما يفعلون، فلا يخفى عليه ما يأتمرون به من الكيد والخداع وإن خفى عليك. (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) أي وإن يريدوا بجنوحهم للسلم

الكيد والخداع ليفترصوا الفرص كانتظار الغرّة التي تمكنهم من أهل الحق، أو الاستعداد للحرب، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم. (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي إن من آثار عنايته بك أن أيدك بتسخير المؤمنين لك، وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصرك، وأن سخر لك ماوراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب يوم بدر. (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه تعالى جمعهم على الإيمان بك، وبذل النفس والمال فى مناصرتك، بعد التفرق والتعادي الذي كان أثر حروب طويلة وضغائن موروثة كما كان بين الأوس والخزرج من الأنصار. ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» . وقد كاد يقع شىء من التباغض بين المهاجرين والأنصار حين قسمة الغنائم فى حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله. وفى الآية إيماء إلى أن النصر ينال بالأسباب التي من أهمها التآلف والاتحاد بفضل مقدّر الأسباب ورحمته بالعباد ومن جرّاء ذلك قال: (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه لولا نعمة الله عليهم بأخوّة الإيمان التي هى أقوى من أخوّة الأنساب والأوطان- لما أمكنك أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، فالضغائن الموروثة والدماء المسفوكة فى الأنصار لا تزول بالأعراض الزائلة، وإنما تزول بصادق الإيمان الذي هو وسيلة السعادة فى الدنيا والآخرة كما أن التآلف بين أغنياء المهاجرين وفقرائهم، وأشرافهم وعامتهم، على ما كان بينهم من فوارق فى الجاهلية، وجمع كلمة البيوت والعشائر مع رسوخ العداوات والإحن، لم يكن مما ينال بالمال والآمال فى المغانم ونحوها، على أن شيئا من ذلك لم يكن فى يد الرسول أول الإسلام وإن كان قد صار فى يده شىء كثير منه فى المدينة بنصر الله له فى قتال المشركين واليهود جميعا.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 64 إلى 66]

وكذلك جمع كلمة المهاجرين والأنصار على ما يدل به كل منهما بميزة لا تتوافر لسواه فالمهاجرون لهم مزية القرب من الرسول والسبق إلى الإيمان، والأنصار لهم ميزة المال والقوة وإنقاذ الرسول وقومه من ظلم مشركى مكة وإيواؤهم ومشاركتهم لهم فى أموالهم، فكل هذا من عوامل التحاسد والتنازع لولا فضل الله وعنايته، ومن ثم قال: (وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) إذ هداهم إلى الإيمان الذي دعوتهم إليه فتآلفت قلوبهم. ونحو الآية قوله: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» . وقد دلت التجارب على أن التآلف من أقوى وسائل التعاون وأنجعها، وأجدى وسائل التحاب والتآلف قوة الإيمان، ومن ثم قال ابن عباس رضى الله عنهما: إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شىء، ثم قرأ: «لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» الآية (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين ولا كيد الماكرين، الحكيم فى أفعاله، فينصر الحق على الباطل، ويفضّل الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب. [سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 66] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

تفسير المفردات

تفسير المفردات حسبك: أي كافيك ما يهمّك، والتحريض: الحث على الشيء، لا يفقهون: أي لا يدركون حكمة الحرب وما يقصد بها من سعادة فى الدنيا والآخرة، والضعف (بالفتح والضم) يشمل المادي والمعنوي، وقيل هو بالضم لما يكون فى البدن، وبالفتح لما يكون فى الرأى والعقل والنفس. المعنى الجملي بعد أن أمر الله رسوله بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء وربما كان جنوحهم لها مظنّة الخداع والمكر، ووعده أن يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر، وامتن عليه بتأييده له بنصره وبالمؤمنين، إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه- قفّى على ذلك بوعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم فى حالى الحرب والسلم وجعل هذا تقدمة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه، كما إذا بدأ العدو بالحرب أو نقض العهد أو خان فى الصلح. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن الله تعالى كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيرهم، وكاف لمن أيدك من المؤمنين. ونحو الآية قوله: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وقوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ» . وإذا كان دأب المؤمنين أن يقولوا «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» فأجدر بأنبيائه أن يكونوا أكمل توحيدا وتوكلا عليه من غيرهم ولا سيما خاتم أنبيائهم.

والمراد بالمؤمنين جماعتهم من المهاجرين والأنصار ولا سيما من شهد منهم بدرا. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي حرض المؤمنين على القتال ورغّبهم فيه لدفع عدوان الكفار من إعلاء كلمة الحق والعدل وأهلهما على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما، إذ ذاك من ضرورات الاجتماع البشرى وسنة التنازع فى الحياة والسيادة. والخلاصة- حثّهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضا أو يكونوا من الهالكين بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم إياهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين. (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن يوجد منكم عشرون صابرون يغلبوا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكافرين الذين جرّدوا من هذه الصفات الثلاث، وهذا عدة منه تعالى وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكافرين بعون الله وتأييده. والخلاصة- ليصبرنّ الواحد لعشرة، فجماعة المؤمنين الصابرين ترجح جماعة الكافرين بهذه النسبة العشرية، سواء قلوا أو كثروا، بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدءوهم بالقتال. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي أنتم تغلبونهم وهم بهذه النسبة بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب وما يراد بها من مرضاة الله عز وجل فى إقامة سننه العادلة وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة ومن وجوب مراعاة أحكامه وسننه بإعداد كل ما يستطاع من قوة، ومن كون غاية القتال عند المؤمنين إحدى الحسنيين النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية. وحالهم يخالف حالكم فى كل ما تقدم، ولا سيما منكرى البعث والجزاء منهم كمشركى العرب فى ذلك العصر، واليهود الذين أعمتهم المطامع المادية وحب

الشهوات، فهم أحرص على الحياة منكم لعدم اعتقادهم بسعادة أخروية، إلى أن أهل الكتاب يظنون أنهم يحصلون عليها بنسبهم وشفاعة أنبيائهم. وفى الآية إيماء إلى أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، ومن ثم كانت المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين. وهكذا كان المسلمون فى العصور الأولى حين كانوا يعملون بهداية دينهم وكانوا بها أرباب ملك واسع وعز وجاه عريض ودانت لهم الشعوب الكثيرة، حتى إذا ما تركوا هذه الهداية زال مجدهم وسؤددهم وذهب ريحهم ونزع منهم أكثر ذلك الملك. وبعد أن بين المرتبة العليا التي ينبغى أن تكون للمؤمنين، قفّى على ذلك ببيان مادونها من مرتبة الضعف فقال: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) روى البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما نزلت «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين» شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: «الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين» قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم. وبهذا الحديث استدل العلماء على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلباه أو طلبهما، وسواء وقع ذلك وهو واقف فى الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر. والخلاصة- إن أقلّ حال للمؤمنين مع الكفار فى القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين، وإن هذه رخصة خاصة بحال الضعف كما كان الحال فى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر حين كان المؤمنون

[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 إلى 69]

لا يجدون ما يكفيهم من القوت ولم يكن لديهم إلا فرس واحد، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب، وكانوا أقل من ثلث المشركين الكاملى الاهبة والعدّة. ولما كملت للمؤمنين القوة كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم، وما تم لهم فتح ممالك الفرس والروم وغيرهم إلا بذلك. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عهده ومن بعده القدوة فى ذلك فقد كان الجيش الذي أرسل إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله الحارث ابن عمير الأزدى ثلاثة آلاف وكان الجيش الذي قاتلهم من الروم ومتنصرة العرب مائة وخمسين ألفا. وقوله بإذن الله: أي بمعونته وتوفيقه، وبمعنى الآية قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» . وفى ذلك إيماء إلى أن من سنن الله فى الغلب أن يكون للصابرين على غيرهم، وفى هذا تحذير للمؤمنين أن يغتروا بدينهم ويظنوا أن الإيمان وحده يقتضى النصر والغلب وإن لم يقترن بالصفات اللازمة لكماله، ومن أهمها وأعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور ومعرفة سنن الله فى خلقه. [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأسرى: واحدهم أسير، وهو من الأسر وهو الشد بالإسار أي القدّ من الجلد، وكان من يؤخذ من العسكر فى الحرب يشد لئلا يهرب، ثم صار يطلق على أخيذ الحرب وإن لم يشدّ، والإتخان فى كل شىء: قوّته وشدته، يقال قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه، وكذلك أثخنته الجراح، والثخانة الغلظ، فكل شىء غليظ فهو ثخين، والعرض: ما يعرض ولا يدوم سمى به حطام الدنيا لأنه حدث قليل اللبث، ومسكم: أي أصابكم، وفيما أخذتم: أي لأجل ما أخذتم من الفداء. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما ينبغى أن يكون عليه المؤمنون فى حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها- قفى على ذلك بذكر أحكام الأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبا كما وقع فى وقعة بدر وكما يقع فى كل زمان. روى ابن أبى شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال: «لما كان يوم بدر جىء بالأسارى، فقال أبو بكر رضى الله عنه يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضى الله عنه أنت فى واد كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس رضى الله عنه وهو يسمع ما يقول: أقطعت رحمك؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئا، فقال أناس: يأخذ بقول أبى بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ليلين قلوب زجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة مثلك

يا أبا بكر مثل إبراهيم قال «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» وإن مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» أنتم عالة فلا يفلتنّ أحد إلا بفداء أو ضرب عنق- فقال عبد الله رضى الله عنه يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإنى سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتنى فى يوم أخوف من أن تقع علىّ الحجارة منى فى ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله تعالى (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) إلى آخر الآيتين» . وروى أحمد من حديث ابن عباس قال: «لما أسروا الأسارى (يعنى يوم بدر) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر: ما ترون فى هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال لا والله لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكننى أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل (أخيه) فيضرب عنقه، وتمكننى من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، ومكّن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يا رسول الله أخبرنى من أىّ شىء تبكى أنت وصاحبك؟ فإن وجدت

الإيضاح

بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكى للذى عرض علىّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة- شجرة قريبة منه- وأنزل الله عز وجل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) . وفى هذا الحديث تصريح بأن الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر فى أكثر الروايات أبو بكر رضى الله عنه، لأنه أول من أشار بذلك، ولأنه أكبرهم مقاما. وروى ابن المنذر عن قتادة قال: أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر ففادوهم بأربعة آلاف، أربعة آلاف. الإيضاح (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي ما كان من شأن نبى من الأنبياء ولا من سنته فى الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المنّ والفداء إلا بعد أن يثخن فى الأرض أي إلا بعد أن يعظم شأنه فيها ويتم له الغلب والقوة بقتل أعدائه، لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتال والقتل كما قال: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم إلى أن كثرة القتل توجد الرعب وشدة المهابة، وذلك يمنع من الجرأة والإقدام على ما لا ينبغى، ومن ثم أمر الله به. وخلاصة ذلك- أن اتخاذ الأسرى إنما يكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل- ففى المعركة الواحدة يإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وفى الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال فبإثخانهم فى الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء.

(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي تريدون عرض الدنيا الفاني الزائل وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداء لهم، والله يريد لكم ثواب الآخرة الباقي بما يشرعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما دمتم تعملون بها، ويدخل فى ذلك الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة إرادة الإثخان فى الأرض والسيادة فيها لإعلاء كلمة الحق وإقامة العدل. وفى ذلك إنكار لعمل وقع من جمهور المؤمنين على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة، وما كان للنبى صلى الله عليه وسلم إقرار مثل هذا العمل، ومن ثم عاتبهم الله على ما فعلوا بعد بيان سنة النبيين، كما عاتب رسوله أيضا. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ومن ثم يجعل أولياءه يغلبون أعداءه ويتمكنون منهم قتلا وأسرا، ويطلق لهم أخذ الفداء، ولكنه يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزّوا، ونحو الآية قوله: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» . ولا تتم لهم العزة إلا بتقديم الإثخان فى الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء الأسرى من المشركين وهم فى عنفوان قوتهم وكثرتهم. وعلى هذه القاعدة جرت الدول العسكرية فى العصر الحديث، فإذا رأت من البلاد التي تحتلها أدنى بادرة من المقاومة بالقوة نكلت بأهلها أشد التنكيل، فتخرّب البلاد وتقتل الأبرياء مع المشاغبين، بل لا تتعفف من قتل النساء والأطفال بنيران المدافع وقذائف الطائرات والدبابات. ولكن الإسلام- وهو دين الرحمة والعدل- لا يبيح شيئا من ذلك. (لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولولا كتاب من الله سبق فى علمه الأزلى ألا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم- لمسكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم. أخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال: «اختلف الناس فى أسارى بدر، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر فادهم، وقال عمر

اقتلهم، فقال قائل: أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدم الإسلام ويأمره أبو بكر بالفداء، وقال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبى بكر ففاداهم فنزل (لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقال رسول الله: إن كاد ليمسّنا فى خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر» . وبعد أن عاتبهم على أخذ الفداء أباح لهم أكل ما أخذوه، وعدّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم فى أول السورة فقال: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً) أي فكلوا مما غنمتم من الفدية حال كونه حلالا بإحلاله لكم، طيبا فى نفسه لا خبث فيه مما حرم لذاته كالدم ولحم الخنزير. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) فى أن تعودوا إلى أكل شىء من أموال الناس كفارا كانوا أو مؤمنين من قبل أن يحلّه لكم ربكم. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه غفور لذنبكم بأخذ الفداء وإيثار جمهوركم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان أولا لإعزاز الحق وأهله بإذلال الشرك وكبت حزبه، رحيم بكم إذ أباح لكم ما أخذتم، وأباح لكم الانتفاع به. وخلاصة ما تقدم- إنه ليس من سنة الأنبياء، ولا مما ينبغى لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمنّ عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين، لئلا يفضى أخذه فداء الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم عليهم، وما فعله المؤمون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا كتاب من الله سبق من عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى وعلى خلاف سنته- لمسهم عذاب عظيم فى أخذهم ذلك، وإنه أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم، الله غفور رحيم.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 إلى 71]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) المعنى الجملي لما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الفداء من الأسرى شق عليهم أخذ أموالهم، فأنزل الله هذه الآية استمالة لهم وترغيبا فى الإسلام ببيان ما فيه من خيرى الدنيا والآخرة، وتهديدا وإنذارا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم وبشارة للنبى صلى الله عليه وسلم، بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين. روى أن الآية نزلت فى العباس وعقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس: كنت مسلما إلا أنهم أكرهونى، فقال عليه الصلاة والسلام: إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، قال العباس فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علىّ فقال: أمّا شىء خرجت لتستعين به علينا فلا، قال: وكلفنى الرسول فداء ابن أخى عقيل بن أبى طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث، فقال العباس: تركتنى يا محمد أتكفف قريشا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدرى ما يصيبنى؟ فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس: وما يدريك؟ قال أخبرنى ربى، قال فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك

الإيضاح

عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها فى سواد الليل، ولقد كنت مرتابا فى أمرك، فأما إذ أخبرتنى بذلك فلا ريب. قال العباس: فأبدلنى الله خيرا من ذلك، لى الآن عشرون عبدا، وإنّ أدناهم ليضرب فى عشرين ألفا، وأعطانى زمزم وما أحب أن لى بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربى. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) أي قل للذين فى أيديكم من الأسرى الذين أخذتم منهم الفداء: إن كان الله تعالى يعلم أن فى قلوبكم الآن إيمانا أو سيظهر فى حينه- كما يدّعى بعضكم- يعطكم إذ تسلمون ما هو خير لكم مما أخذه المؤمنون منكم من الفداء بما تشاركونهم فى المغانم وغيرها من النعم التي وعد المؤمنون بها. روى أبو الشيخ عن ابن عباس: أن العباس وأصحابه قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله فنزل (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) الآية. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ويغفر لكم ما كان من الشرك وما استتبعه من السيئات والأوزار، والله غفور لمن تاب من كفره وذنوبه، رحيم بالمؤمنين فيشملهم بعنايته وتوفيقه ويعدّهم للسعادة فى الدنيا والآخرة. وفى ذلك من الحضّ على الإسلام والدعوة إليه ما لا يخفى. (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) أي وإن يريدوا خيانتك بإظهار الميل إلى الإسلام والرغبة عن قتال المسلمين، فلا تخف مما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال، فإنهم قد خانوا الله من قبل، فنقضوا الميثاق الذي أخذه على البشر بما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية، وبما آتاهم من العقل الذي يتدبرون به سنن الله فى خلقه.

(فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) يقال مكنه من الشيء وأمكنه منه. أي فمكنك أنت وصحبك منهم بنصرك عليهم ببدر مع التفاوت العظيم بين قوتك وقوتهم وعددك وعددهم، وهكذا سيمكنك ممن يخونونك من بعد. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فهو يعلم ما ينتوونه وما يستحقونه من عقاب، حكيم يفعل ما يفعل بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، فينصر المؤمنين ويظهرهم على الكافرين. وفى الآية من العبر: (1) إنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى فى الإيمان، وإنذارهم عاقبة الخيانة إذا ثبتوا على الكفر وعادوا إلى البغي والعدوان. (2) إن فيها بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة فى كل قتال يقع بينهم وبين المشركين ما داموا محافظين على أسباب النصر المادية والمعنوية التي علمت مما تقدم. روى البخاري عن أنس «أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ترك فداء عمه العباس رضى الله عنه وكان فى أسرى المشركين يوم بدر فقالوا: ائذن لنا فنترك لابن أختنا العباس فداءه (كانت جدته أنصارية) فقال صلى الله عليه وسلم: والله لا تذرون منه درهما» . وقد كان فداء الأسير أربعين أوقية ذهبا، فجعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ قال: فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) الآية فقال العباس (بعد إسلامه) وددت لو كان أخذ منى أضعافها لقوله تعالى (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) اه. وبعد أن ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك،

[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 إلى 75]

وولاية الكافرين بعضهم لبعض، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظا غير منبوذ ولا منكوث فقال: [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) المعنى الجملي قسم الله المؤمنين اربعة أقسام، وبين حكم كل منها ومنزلته من بينها: (1) المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر- إلى صلح الحديبية. (2) الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عند هجرتهم إليهم. (3) المؤمنون الذين لم يهاجروا. (4) المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.

الإيضاح

الإيضاح (1) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي هؤلاء الكلمة هم المؤمنون الذين هجروا أوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين إرضاء لربهم ونصرا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله: أي بذلوا الجهد بقدر الوسع، واقتحموا المشاق. أما ما كان من بذل الأموال فهو قسمان: (ا) ما ينفق فى التعاون والهجرة والدفاع عن دين الله ونصر دينه وحماية رسوله. (ب) ما يكون بسخاء الأنفس بترك ما تركوه فى أوطانهم عند خروجهم منها. وما كان من بذل الأنفس فهو أيضا ضربان: (ا) قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم. (ب) ما يكون قبل القتال من احتمال المشاق ومغالبة الشدائد والصبر على الاضطهاد والهجرة من البلاد، وما يصحب ذلك من سغب وتعب ونحو ذلك. (2) (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) أي والذين آووا الرسول ومن هاجر من أصحابه ونصروهم وأمنوهم من المخاوف، فقد كانت يثرب ملجأ المهاجرين، شاركهم أهلها فى أموالهم وآثروهم على أنفسهم وقاتلوا من قاتلهم وعادوا من عاداهم، ومن جراء هذا جعل الله حكمهم حكم المهاجرين فى قوله: (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يتولى بعضهم من أمر الآخرين ما يتولونه من أمر أنفسهم حين الحاجة إلى التعاون والتناصر فى القتال وما يتعلق به من الغنائم لأن حقوقهم ومرافقهم مشتركة، ويجب عليهم كفاية المحتاج، وإغاثة المضطر منهم. (3) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) الولاية بفتح الواو وكسرها، وقيل هى بالفتح خاصة بالنصرة والمعونة والنسب والدين، وبالكسر فى الإمارة وتولى الأمور العامة، لأنها من قبيل الصناعات والحرف،

أي إن المؤمنين المقيمين فى أرض المشركين وتحت سلطانهم وحكمهم، ودارهم دار حرب وشرك لا يثبت لهم شىء من ولاية المؤمنين الذين فى دار الإسلام، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم. أما من أسره الكفار من دار الإسلام فله حكم أهل هذه الدار، ويجب على المسلمين السعى فى فكاكهم بقدر ما يستطيعون من الحول والقوة، بل يجب بذل هذه الحماية لأهل الذمة أيضا. (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إنه لا ولاية لكم عليهم إلا إذا قاتلهم الكفار أو اضطهدوهم لأجل دينهم وطلبوا نصركم عليهم، فعليكم أن تساعدوهم بشرط أن يكون الكفار حربيين لا عهد بينكم وبينهم، أما إن كانوا معاهدين فيجب الوفاء بعهدهم ولا تباح خيانتهم وغدرهم بنقض العهود والمواثيق. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فعليكم أن تقفوا عند حدوده، وأن تراقبوه وتتذكرو اطلاعه على أعمالكم، وتتوخّوا فيها الحق والعدل وتتقوا الهوى الذي يصد عن ذلك. وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سرا وجهرا امتازت الشريعة الإسلامية على الشرائع الوضعية، فشعار أهلها الوفاء بالعهود والبعد عن الخيانة والغدر. وإن أعظم دول المدنية فى العصر الحاضر تنقض عهودها جهرة متى وجدت الفرصة سانحة، ولا سيما عهودها للضعفاء، وتتخذها خداعا مع الأقوياء، وما أكثر ما تنقضها بالتأويل والتحايل فى التفسير إذا رأت فى ذلك مصلحتها، حتى قال رئيس الدولة الألمانية: ما المعاهدات إلا قصاصات ورق، وقال بسمارك أكبر ساسة هذه الدولة: المعاهدات حجة القوى على الضعيف، وأبرع الساسة فى التفصّى منها بالتأويل هم الإنكليز. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي فى النصرة والتعاون على قتال المشركين،

فهم فى جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين. وإن كانوا شيعا يعادى بعضهم بعضا، ولم يكن فى الحجاز حين نزلت هذه السورة إلا المشركون واليهود، وكان اليهود يتولون المشركين وينصرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقضوا العهود التي كانت بينه وبينهم فقاتلهم حتى أجلاهم من خيبر. (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، ومن تناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم، ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضى عهدهم وينبذوه على سواء- يقع من الفتنة والفساد فى الأرض ما فيه أعظم الضرر عليكم بتخاذلكم الذي يفضى إلى فشلكم وظفر الأعداء بكم واضطهادكم فى دينكم بصدكم عنه كما وقع ذلك بضعفائكم بمكة قبل الهجرة. ثم فضل الله المهاجرين والأنصار على غيرهم فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي هؤلاء المهاجرون والأنصار هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوهم. ثم وعدهم بحسن العاقبة فقال: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة تامة من ربهم تمحو ما فرط منهم من السيئات، ورزق كريم فى دار الجزاء، لأنهم قد تركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال وأعرضوا عن سائر اللذات الجسمانية، وعملوا ما يقربهم من ربهم فى دار النعيم. (4) (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى وهاجروا وجاهدوا معكم أعداءكم- فأولئك منكم أي فيلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار وبما تقدم من الولاية والجزاء. وفى جعلهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين يرشد إلى ذلك قوله

تعالى «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» وقوله: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . ولا يخفى ما فى الآية من ترغيب فى الإيمان والهجرة. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ) أولو الأرحام: هم أصحاب القرابات، والأرحام واحدها رحم (بزنة قفل وكتف) وأصله رحم المرأة وهو موضع تكوين الولد، سمى به الأقارب لأنهم من رحم واحد، أي وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتعاون والتناصر، وبالتوارث فى دار الهجرة فى ذلك العهد وفى كل عهد، وقوله: فى كتاب الله، أي فى حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذى القربى. والخلاصة- إن القريب ذا الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره ومقدم عليه فى جميع الولايات المتعلقة به كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغيرها، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب أولى كما قال تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شىء فلأهلك، فإن فضل شىء عن أهلك فلذى قرابتك، فإن فضل عن ذى قرابتك شىء فهكذا وهكذا» ، أي فللمستحق من الأجانب. (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فهو سبحانه إنما شرع لكم هذه الأحكام فى الولاية العامة والخاصة والعهود والمواثيق وصلة الأرحام وأحكام القتال والغنائم وسنن التشريع

موضوعات السور المكية والمدنية

والأحكام- عن علم واسع محيط بكل شىء من مصالحكم الدينية والدنيوية، ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ» . زادنا الله علما بفقه كتابه، ووفقنا للعمل بأحكامه وآدابه، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه هو السميع المجيب. موضوعات السور المكية والمدنية تقدم أن قلنا فى آخر سورة البقرة: إن أمهات المسائل التي ذكرت فى السور المكية هى: أصول الإيمان من الاعتقاد بوحدانية الله والتصديق بالوحى والرسالة والبعث والجزاء، وقصص الرسل مع أقوامهم، ثم أصول التشريع العامة والآداب والفضائل الثابتة، وجاء فى أثناء ذلك محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول ودحض شبهاتهم وإبطال ضلالاتهم والنعي على خرافاتهم. وأمهات ما جاء فى السور المدنية- قواعد التشريع التفصيلية، ومحاجّة أهل الكتاب ببيان ما ضلوا فيه من هداية كتبهم ورسلهم، فكثر فى سورة البقرة محاجة اليهود، وكثر فى سورة آل عمران محاجة النصارى، وكثر فى سورة المائدة محاجة الفريقين، وكثر فى سورة النساء الأحكام المتعلقة بالمنافقين، وكثر فى سورة التوبة فضائح المنافقين. أهم ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الأحكام (1) تعليل أفعاله وأحكامه بمصالح الخلق كقوله: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» وقوله: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» .

(2) كفاية. الله تعالى رسوله مكر مشركى قريش فى مكة حين ائتمارهم على حبسه طيلة حياته أو نفيه من بلده أو قتله كما قال سبحانه: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (3) امتناع تعذيب المشركين ما دام الرسول فيهم كما قال: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» . (4) استغاثة الرسول ربه وإمداده بالملائكة كما قال: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» (5) كراهة مجادلة الرسول فيما يأمر به ويرغّب فيه من أمور الدين ومصالح المسلمين بعد أن تبين لهم أنه الحق كما قال «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» . أما المجادلة والمراجعة فى المصالح الحربية والسياسية قبل أن يتبين الحق فيها فمحمودة، إذ بها تتم المشاورة التي عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم فى مواطن كثيرة. (6) إن من شأن صادق الإيمان أن يتوكل على الله، أي يكل إليه أموره وحده، فلا يتكل على مخلوق مربوب لخالق مثله، فكل المخلوقات سواء فى الخضوع لسننه، ومن شأن المؤمن المتوكل أن يطلب كل شىء من سببه خضوعا لسننه فى نظام خلقه، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها وكل أمره فيها إلى ربه داعيا أن يعلمه ما جهل منها، وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد وحيوان أو إنسان كما قال: «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وبين فائدة ذلك بقوله: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . (7) إن الظلم فى الأمم يقتضى عقابها فى الدنيا بالضعف والانحلال الذي قد يفضى إلى الزوال أو فقد الاستقلال، وإن هذا العقاب يقع على الأمة بأسرها لا على مقترفى الظلم وحدهم كما قال: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» .

(8) إن الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد، فإن حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف إذا لم تهذب بهدى الدين وحسن التربية والتعليم كما قال: «وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» . (9) إن تقوى الله فى الأعمال العامة والخاصة تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل والخير والشر كما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» . (10) إن تغير أحوال الأمم وتنقلها فى الأطوار من نعم إلى نقم أو بالعكس أثر طبيعى لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والآداب «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» . (11) وجوب إعداد الأمة بكل ما تستطيع من قوة لقتال أعدائها، وذلك يشمل السلاح، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وقد كثرت أنواعه من برى وبحرى وهوائى، ومرابطة الفرسان فى ثغور البلاد لإرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على الأمة ومصالحها أو على أفرادها «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» . (12) تفضيل السلم على الحرب إذا جنح لها العدو لأن الحرب ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» . (13) المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق فى الحرب والسلم، وتحريم الخيانة سرا وجهرا: «وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» . (14) وجوب معاملة ناقضى العهد بالشدة التي يكونون بها عبرة ونكالا لغيرهم

تمنعهم من الجرأة والإقدام على العودة لمثل ذلك «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» . (15) جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع الفتنة فيه حتى لا يرجع المشركون أحدا عن دينه «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» . (16) اتقاء التنازع والتفرق حال القتال لأنه سبب الفشل وذهاب القوة، «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» وقد جرت على ذلك الدول فى العصر الحديث، فإنها تبطل تنازع الأحزاب زمن الحرب وتكتفى بالشورى العسكرية التي شرعها الإسلام وعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم، فى غزوة بدر، وفرضت عليه فى غزوة أحد «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» . (17) منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال فى حال الضعف، وجواز ذلك حين الإثخان فى الأرض بالقوة والعزة والسيادة، مع ترغيب الأسرى فى الإيمان وإنذارهم أن يخونوا المسلمين بعد إطلاقهم بمن أو فداء.

سورة التوبة - سورة براءة

سورة التوبة- سورة براءة عدد آيها ثلاثون ومائة، وهى مدنية، ولها أسماء كثيرة: منها الفاضحة لما تضمنته من ذكر أسرار المنافقين وأنبائهم بما فى قلوبهم من الكفر وسوء النيات، والمدمدمة والمخزية. وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك، وهى آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ زمن العسرة، وفى أثنائها ظهر من علامات نفاق المنافقين ما كان خفيّا من قبل. وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا ليقرأها على المشركين فى الموسم. روى البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» وآخر سورة نزلت براءة. ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها- أنها كالمتممة لها فى معظم ما فى أصول الدين وفروعه، وفى التشريع الذي جلّه فى أحكام القتال والاستعداد له، وأسباب النصر فيه، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضى لذلك، وأحكام الولاية فى الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض، والكافرين بعضهم مع بعض، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب، فما بدىء به فى الأولى أتم فى الثانية- وهاك أمثله على ذلك: (1) تفصيل الكلام فى قتال المشركين وأهل الكتاب. (2) ذكر فى الأولى صدّ المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه، وجاء فى الثانية «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ» إلى آخر الآيات (3) ذكرت العهود فى سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها.

[سورة التوبة (9) : الآيات 1 إلى 4]

(4) ذكر فى سورة الأنفال الترغيب فى إنفاق المال فى سبيل الله، وجاء ذلك بأبلغ وجه فى براءة. (5) جاء فى الأولى ذكر المنافقين والذين فى قلوبهم مرض- وفصل ذلك فى الثانية أتمّ تفصيل. [تنبيه] لم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة فى أولها، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة. وقيل لأنها جاءت لرفع الأمان والابتداء بالبسملة مذكورا فيها اسم الله موصوفا بالرحمة يوجبه. [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 4] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) تفسير المفردات البراءة: من برىء من الدّين إذا أسقط عنه، ومن الذنب ونحوه: إذا تركه وتباعد عنه، والمعاهدة: عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها، وكان كل فريق يضع يمينه فى يمين الآخر ويوثقونها بالأيمان، ومن جراء ذلك سميت أيمانا فى قوله تعالى:

المعنى الجملي

(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا عهود لهم، والسياحة فى الأرض: الانتقال والتجوال فيها، ويراد بها هنا حرية الانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر لا يعرض المسلمون لهم فيها بقتال، وقوله: غير معجزى الله، أي لا تفوتونه بالهرب والتحصن والخزي: الذل والفضيحة بما فيه عار، والأذان: الإعلام بما ينبغى أن يعلم، ويوم الحج الأكبر: هو يوم النحر الذي تنتهى فيه فرائض الحج ويجتمع فيه الحاج لإتمام مناسكهم، ثم لم ينقصوكم شيئا، أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا أحدا منكم ولم يضروكم، ولم يظاهروا: أي لم يعاونوا. المعنى الجملي بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بالإسلام وأقام بناء دعوته على أساس البراهين المقنعة، ومنع الإكراه على الدخول فيه والحمل على قبوله بالقوة فقاومه المشركون وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، ولم يكن أحد يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب، فهاجر منهم عدد كثير إلى بلاد الحبشة وإلى جهات كثيرة مرة بعد أخرى، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول حتى ائتمروا فى دار الندوة علنا على حبسه أو نفيه أو قتله، ورجحوا آخر الأمر قتله، فأمره الله بالهجرة إلى المدينة وصار يتبعه من قدر عليها، وقد وجدوا بها أنصارا يحبون الله ورسوله، ويحبون من هاجر إليهم ويؤثرونهم على أنفسهم، وكانت الحال بينهم وبين المشركين حال حرب بطبيعة الحال ومقتضى المألوف فى ذلك العصر، وعاهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى على السّلم والتعاون بينهم، فخانوا ونقضوا العهد وظاهروا المشركين عليه وعاهد المشركين فى الحديبية على السّلم والأمان عشر سنين بشروط كانت منتهى السخاء عن قوة وعزة، لاعن ضعف وقله، حبّا للسلم ونشر الدعوة بالإقناع والحجة فدخلت خزاعة فى عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بكر فى عهد قريش، ثم عدت الثانية على الأولى وأعانتها قريش بالسلاح

الإيضاح

ناقضين العهد، فكان ذلك سبب عودة الحرب بينه وبينهم إلى أن كان فتح مكة، وبه خضدت شوكة الشرك وذل أهله، ولكنهم مازالوا يحاربون حيث قدروا، ودلت التجارب أنه لا عهود لهم ولا يؤمن غدرهم فى حالى القوة والضعف، ولا يستطيع المسلمون أن يعيشوا معهم بحكم المعاهدات ويأمن كل شر الآخر ما داموا على شركهم ولا سيما وقد سبقهم إلى نقض العهد من كانوا أجدر منهم بالوفاء وهم أهل الكتاب. من جرّاء هذا جاءت هذه السورة بنبذ عهودهم المطلقة وإتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها، فحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وتم له الغلب عليهم ومحا الشرك من جزيرة العرب ودانت كلها للإسلام: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» . الإيضاح (بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي هذه براءة آتية من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، كما يقال: هذا كتاب من فلان إلى فلان. نسبه إلى الله ورسوله من قبل أنه تشريع جديد شرعه الله وأمر رسوله يتنفيذه ونسب معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين وإن كان الرسول هو الذي عقد العهد لأنه عقده بوصف كونه الإمام والقائد لهم، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، وللقوّاد من أهل الحل والعقد الاجتهاد فيما لا نص فيه منها ومن أحكام الحرب والصلح ونحوها. قال البغوي: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ» اه. قال الحافظ ابن كثير: اختلف المفسرون فى هذه الآية اختلافا كثيرا، فقال قائلون: هذه الآية لذوى العهود المطلقة غير المؤقتة، ومن

له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت، لقوله تعالى: «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ» ولما سيأتى فى الحديث: «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته» وهذا أحسن الأقوال وأقواها واختاره ابن جرير رحمه الله اه. (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) هذا خطاب من الله للمؤمنين مبيّن لما يجب أن يقولوه للمشركين الذين برىء الله ورسوله من عهودهم، أي قولوا لهم: سيروا فى الأرض وأنتم آمنون لا يتعرض لكم أحد من المسلمين بقتال مدة أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذى الحجة من سنة تسع للهجرة وهو يوم النحر الذي بلّغوا فيه هذه الدعوة، وتنتهى فى عاشر شهر ربيع الآخر من سنة عشر. والحكمة فى تحديد هذه المدة أن يكون لديهم فسحة من الوقت للنظر والتفكر فى عاقبة أمرهم، والتخير بين الإسلام والاستعداد للقتال، إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم، وهذا منتهى ما يكون من السجاحة والرحمة والإعذار إلى أعدى أعدائه المحاربين، حتى لا يقال إنه أخذهم على غرة. (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي واعلموا أنكم لن تعجزوا الله ولن تفوتوه فتجدوا مهربا منه إذا أنتم أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ورسوله، بل سيسلط المؤمنين عليكم ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم به، والعاقبة للمتقين فقد جرت سنة الله بخزي الكافرين منكم ومن غيركم فى معاداتهم وقتالهم لرسله فى الدنيا والآخرة كما جاء فى مشركى مكة ومن نحا نحوهم: «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . (وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي هذا إعلام من الله ورسوله بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافات

شركهم وضلالهم فى وقت يسهل فيه ذلك التبليغ والإعلام، وهو يوم الحج الأكبر يوم النحر الذي فيه تنتهى فرائض الحج، ويجتمع الحجاج لإتمام مناسكهم وسننهم فى منى. ثم أكد ما يجب أن يبلّغوه بلا تأخير بقوله: (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي قولوا لهم: فإن تبتم ورجعتم عن شرككم وعن خيانتكم وغدركم بنقض العهد وقبلتم هدى الإسلام، فذلك خير لكم فى الدنيا والآخرة، لأن فى هدايته سعادتكم فيهما. (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أي وإن أعرضتم عن إجابة الدعوة إلى التوبة فاعلموا أنكم غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه فلن تفلتوا من حكم سننه ووعده لرسله وللمؤمنين بالنصر والغلب كما قال: «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» . (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي وبشر أيها الرسول الكريم من جحد رسالتك ولم يؤمن بالله وملائكته واليوم الآخر بعذاب أليم فى الآخرة. وهذا من أنباء الغيب التي لا تعلم إلا بوحي من الله عز وجل، واستعمال البشارة فيما يسوء ويكره ضرب من التهكم كما لا يخفى. (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي لا تمهلوا الناكثين للعهود فوق أربعة أشهر، إلا الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم، فلا تجروهم مجرى الناكثين فى المسارعة إلى قتالهم، بل أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم بشرط ألا ينقصوا شيئا من شروط الميثاق ولا يضاروكم، ولا يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم، كما عدت بنو بكر على خزاعة فى غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهرتهم قريش بالسلاح. وفى ذلك إيماء إلى أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام مادام العهد معقودا، وإلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وإلى أن من شروط وجوب الوفاء به محافظة العدو المعاهد لنا على ذلك العهد بحذافيره بنصه وفحواه، فإن نقص شيئا منه وأخلّ بغرض من أغراضه عدّ ناقضا له كما قال: (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً)

ويدخل فى الإخلال مظاهرة أحد من الأعداء على المسلمين، لأن المقصد من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر وحرية التعامل بينهما. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون نقض العهد وخفر الذمم وسائر المفاسد التي تخل بالنظام وتمنع جريان العدل بين الناس وفى ذلك إيماء إلى أن مراعاة حقوق العهد تدخل فى حدود التقوى، وإلى أن التسوية بين الوفىّ والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا. وقد ورد فى تنفيذ أمر الله بهذه البراءة والأذان بها: أي التبليغ العلنى أحاديث فى الصحاح أشهرها «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أبا بكر رضى الله عنه أميرا على الحج سنة تسع وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام، ثم أردفه بعلىّ كرم الله وجهه ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا فى أمرهم، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لنبذ العهود وما يتعلق بها من أول سورة براءة، وهى نحو أربعين آية. وقد كان من عادة العرب أن العهود ونبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، وأن عليّا اختص بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبى بكر، وكان يساعده على ذلك بعض الصحابة كأبى هريرة. روى البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال: بعثني أبو بكر فى تلك الحجة فى مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلى بن أبى طالب وأمره أن يؤذن ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

[سورة التوبة (9) : الآيات 5 إلى 6]

[سورة التوبة (9) : الآيات 5 الى 6] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) تفسير المفردات انسلاخ الأشهر: انقضاؤها والخروج منها، يقال: سلخ فلان الشهر وانسلخ منه، قال تعالى: «وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ» وقال شاعرهم: إذا ما سلخت الشهر أهلكت مثله ... كفى قاتلى سلخى الشهور وإهلالى والحرم: واحدها حرام، وهى الأشهر التي حرّم الله فيها قتالهم فى الأذان والتبليغ بقوله: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» وقوله: وخذوهم، أي بالأسر، والأخيذ: الأسير، واحصروهم: أي امنعوهم من الخروج واحبسوهم، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال رصدت فلانا أرصده: إذا ترقبته، أي اقعدوا لهم على كل مرصد، واستجاره: طلب جواره، أي حمايته وأمانه، وقد كان من عادات العرب حماية الجار والدفاع عنه حتى يسمّون النصير: جارا، وأجره: أي، أمنه، ومأمنه: أي مسكنه الذي يأمن فيه، وهو دار قومه، وقوله: لا يعلمون أي ما الإسلام وما حقيقته، فلابد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الأذان العام بالبراءة من عهود المشركين وسائر خرافاتهم وضلالاتهم على الوجه الذي سبق تفصيله، قفّى على ذلك بذكر ما يجب أن يفعله المسلمون معهم حين انقضاء الأجل المضروب لهم والأمان الذي أعطى لهم للضرب فى الأرض.

الإيضاح

الإيضاح (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم عليكم فيها قتال المشركين، فافعلوا معهم كل ما ترونه موافقا للمصلحة من تدابير الحرب وشئونها، لأن الحال بينكم وبينهم عادت إلى حال الحرب بانقضاء أجل التأمين الذي منحتموه، وذلك بعمل أحد الأمور الآتية: (1) قتلهم فى أي مكان وجدوا فيه من حلّ وحرم. (2) أخذهم أسارى، وقد أبيح هنا الأسر الذي حظر فى سورة الأنفال بقوله: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» لأن الإثخان وهو الغلب والقوة والسيادة قد وجد. (3) حصرهم وحبسهم حيث يعتصمون بمعقل أو حصن، بأن يحاط بهم ويمنعوا من الخروج والانفلات حتى يسلموا وينزلوا على حكمهم بشرط ترضونه أو بدون شرط. (4) القعود لهم كل مرصد: أي مراقبتهم فى كل مكان يمكن الإشراف عليهم فيه، ورؤية تجوالهم وتقلّبهم فى البلاد. وهذه الآية تسمى آية السيف، إذ جاء الأمر فيها بالقتال وقد كان مؤجّلا ومنسا إلى أن يقوى المسلمون، وكان الواجب عليهم فى حال الضعف الصبر على الأذى. (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن تابوا عن الشرك الذي يحملهم على عداوتكم وقتالكم ودخلوا فى الإسلام بأن نطقوا بالشهادتين، وأقاموا الصلاة المفروضة كما تقيمونها فى الأوقات الخمسة والصلاة مظهر الإيمان وأكبر أركانه، وهى مطلوبة من الغنى والفقير والأمير والمأمور. وهى حق الله على عباده تزكّى أنفسهم وتهذب أخلاقهم وتؤهلهم للقيام بحقوق عباده «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» وآتوا الزكاة المفروضة فى أموال الأغنياء

للفقراء والمصالح العامة- فخلّوا سبيلهم واتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم إذا كانوا مقاتلين، وبالكف عن حصرهم إذا كانوا محاصرين، وبالكف عن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره إذا كانوا مراقبين، والله يغفر لهم ما سبق من الشرك وغيره من سيئاتهم ويرحمهم فيمن يرحم من عباده، وقد جاء فى الأثر «الإسلام يجبّ ما قبله» . وفى الآية إيماء إلى أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يوجبان لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ الدم والمال إلا بما يوجب عليه الشرع من جناية تقتضى حدا معلوما أو جريمة توجب تعزيرا أو تغريما. روى الشيخان عن عبد الله بن عمر مرفوعا «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» . والخلاصة- إن اشتراط الأشياء الثلاثة للكف عن قتال المشركين للتحقق من دخولهم فى جماعة المسلمين بالفعل، والتزامهم شرائع الإسلام وإقامة شعائره، إذ مقتضى الشهادة الأولى ترك عبادة غير الله، ومقتضى الشهادة الثانية طاعة الرسول فيما يبلغه عن الله تعالى، واكتفى من أركان الإسلام بالصلاة التي تجب فى اليوم والليلة خمس مرات، لأنها الرابطة الدينية الروحية الاجتماعية بين المسلمين، وبالزكاة لأنها الرابطة المالية الاجتماعية، فمن أقامهما كان أجدر بإقامة غيرهما (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا من طلب منكم الأمان ليعلم ما أنزل الله وأمر به من دعوة الإسلام، فإن بعض المشركين لم تبلغهم الدعوة بلاغا مقنعا ولم يسمعوا شيئا من القرآن، أو لم يسمعوا منه ما تقوم به الحجة عليهم، فأعرضوا وعادوا الداعي وقاتلوه، لأنه جاء بتفنيد ما هم عليه من الشرك، وتسفيه ما كان عليه آباؤهم منه. والخلاصة- وإن استأمنك أيها الرسول أحد من المشركين لكى يسمع كلام الله

ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه، أو ليلقاك وإن لم يذكر سببا- فأجره وأمّنه على نفسه وأمواله لكى يسمع أو لكى يراك، فإن هذه فرصة للتبليغ والاستماع، فإن اهتدى وآمن عن علم واقتناع فذاك، وإلا فالواجب أن تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه ويكون حرا فى عقيدته، حيث لا يكون للمسلمين سلطان عليه، وتعود حال الحرب إلى ما كانت عليه من غير غدر. والمراد بالسماع أن يسمع المقدار الذي تقوم به الحجة ويتبين به بطلان الشرك وحقيقة التوحيد والبعث وصدق الرسول فى تبليغه عن الله، فإنه إذا ألقى إليه السمع لا يلبث أن يظهر له الحق إذا لم تصده العصبيّة والعدوان للداعى، فإن لم يفعل ذلك كان له شأنه وكانت له حريته، ولكنه يمنع من مساكنة المسلمين فى دار الإسلام وهو على هذه الحال. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي إن ما ذكر من إجارة المستجير من المشركين إلى أن يسمع كلام الله من جراء أنهم قوم جاهلون لا يدرون ما الكتاب وما الإيمان، وما أعرضوا إلا عن جهل وعصبية واغترار بالقوة وإصرار على الجفوة. فإذا هم شعروا بضعفهم وصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم، وأعدّهم ذلك للعلم بما كانوا يجهلون، وطلبوا الأمان لهذا السبب أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلام الله- أجيبوا إلى ذلك لأن هذه الطريق المثلى لتعليمهم وهدايتهم، والرسول صلوات الله عليه إنما أرسل مبشرا ونذيرا. وفى الآية إيماء إلى أن التقليد فى الدين غير كاف، وأنه لا بد من النظر والاستدلال، لأنه لو كان كافيا لوجب ألا يهمل الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن وإما أن نقتلك، فأمهلناه ليحصل له النظر والاستدلال فإن ظهر على المشرك علامات القبول للحق ببحثه عن الدليل والتفكير فيه أمهل وترك، وإن ظهر أنه معرض عن الحق لم يلتفت إليه ووجب تبليغه إلى مأمنه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 7 إلى 8]

[سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 8] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) تفسير المفردات ظهر عليه: غلبه وظفر به، ورقب الشيء رعاه وحاذره لأن الخائف يرقب العقاب ويتوقعه، ومنه فلان لا يرقب الله فى أموره: أي لا ينظر إلى عقابه، فيركب رأسه فى المعصية، والإلّ: القرابة. قال ابن مقبل: أفسد الناس خلوف خلفوا ... قطعوا الإلّ وأعراق الرّحم والذمة والذمام: العهد الذي يلزم من ضيّعه الذمّ، وكان خفر الذمام ونقض العهد عندهم من العار، فاسقون: أي خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزون لحدود الصدق والوفاء، من قولهم: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها. المعنى الجملي بعد أن ذكر براءة الله ورسوله من المشركين وإمهالهم أربعة أشهر يسيحون فى الأرض أحرارا، ثم ذكر دعوتهم إلى التوبة من الشرك وإنذارهم سوء العاقبة، ثم أمر بما يترتب على النبذ وهو عود حال الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقّتت بها، بمناجزة المشركين بكل أنواع القتال المعروفة فى ذلك العصر من قتل وأسر وحصر وقطع طرق الوصول عليهم، إلا من يستجير بالرسول ليسمع كلام الله فإنه يجار حتى يسمعه- قفى على ذلك ببيان أن هذا النبذ وما يترتب عليه إنما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين أو دونه.

الإيضاح

الإيضاح (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) المراد من المشركين الناكثون للعهد، لأن البراءة إنما هى فى شأنهم، أي بأى حال يكون لهؤلاء المشركين عهد معتدّ به عند الله وعند رسوله يستحق أن يراعى ويحافظ عليه إلى إتمام المدة بحيث لا يتعرض لهم على حسبه قتلا وأخذا، وحالهم ما بين فى الآية التالية- إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة. (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهود إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام وهم بنو كنانة وبنو ضمرة، لأنهم ممن كان قد أقام على عهده ولم يدخل فى نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد. (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فهؤلاء تربصوا بهم ولا تقتلوهم ما استقاموا لكم على العهد، إذ لا يجوز أن يكون نقضه من قبلكم. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون الغدر ونقض العهد، وهؤلاء المعاهدون المذكورون هنا: هم المذكورون أولا بقوله: إلا الذين عاهدتم من المشركين إلخ، وإنما أعيد ذكرهم هنا، لبيان أنه يجب أن تكون الاستقامة على العهد مرعيّة من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته، وبيان استباحة نبذ عهد الذين لا يستقيمون للمعاهد لهم إلا عند العجز عن الغدر حتى إذا ما قدروا عليه نقضوا عهده أو نقصوا منه كما فعلت قريش فى نقض عهد الحديبية بمظاهرتهم لحلفائهم من بنى بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي كيف يكون للمشركين غير هؤلاء الذين جربتم وفاءهم- عهد مشروع عند الله مرعىّ الوفاء عند رسوله- وحالهم المعروفة من أخلاقهم وأعمالهم أنهم إن يظهروا عليكم فى القوّة والغلب، لا يرقبوا الله ولا القرابة فى نقض العهد والميثاق.

[سورة التوبة (9) : الآيات 9 إلى 10]

والخلاصة- إنه لا عهد لمن كان له عهد وغدر فيه، وكذا من لا عهد له منهم لأنهم لشدة عداوتهم للمؤمنين لم يقيّدوا أنفسهم معهم بعهد سلم مطلق ولا مؤقت. ثم بين ما تنطوى عليه جوانحهم من الضغينة للمؤمنين فقال: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أي هم يخادعونكم حال الضعف بما يفوهون به من كلام معسول يرون أنه يرضيكم سواء أكان عهدا أم وعدا أم أيمانا مؤكدة، وقلوبهم مملوءة ضغنا وحقدا «يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» فهم إن ظهروا عليكم نكثوا العهود وحنثوا بالإيمان وفتكوا بكم بقدر ما يستطيعون. وإنما يفعلون ذلك لأن أكثرهم خارجون من قيود العهود والمواثيق متجاوزون لحدود الصدق والوفاء، فليس لهم مروءة رادعة، ولا عقيدة وازعة، ولا يتعفّفون عن الغدر وعما يجر إلى سوء الأحدوثة وثلم العرض. وإنما وصف الأكثر، لأنهم هم الناكثون الناقضون لعهودهم، وأقلهم الموفون الذين استثناهم الله تعالى وأمر المؤمنين بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 9 الى 10] اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) المعنى الجملي بعد أن ذكر غلبة الفسق والخروج من الفضائل الفطرية والتقليدية على أكثرهم حتى مراعاة القرابة والوفاء ونحوهما مما يمدح عندهم- أردف ذلك بذكر السبب فى هاتين الآيتين.

الإيضاح

الإيضاح (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي استبدلوا بآيات الله الدالة على توحيده بالعبادة، وعلى الوحى والرسالة وما فيها من الهداية للناس، وعلى البعث والجزاء على الأعمال- ثمنا قليلا من حطام الدنيا، وهو ما هم فيه من رخاء العيش وكثرة الأموال، فصدوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإسلام وما يقتضيه من الوفاء وصدوا غيرهم أيضا، وجعله قليلا لأنه زائل غير باق وما عند الله باق دائم وهو خير وأبقى، لأن ما عندهم قليل بالنظر إلى ما عند غيرهم. روى أن أبا سفيان لما أراد حمل قريش وحلفائها على نقض عهد الحديبية صنع لهم طعاما استمالهم به فأجابوه إلى ما طلب. (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح عملهم الذي يعملونه من اشتراء الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى، والصد عن دين الله وما جاء به رسوله من البينات والهدى. (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي ومن أجل هذا الكفر لا يرعون فى مؤمن يقدرون على الفتك به قرابة تقتضى الود، ولا ذمة توجب الوفاء بالعهد، ولا ربّا يحرّم الخيانة والغدر، فذنب المؤمن عندهم أنه لا ينقض عهدا ولا يستحل غدرا ولا يقطع رحما. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أي المتجاوزون للغاية القصوى من الظلم، والعلة فى هذا رسوخهم فى الشرك وكراهتهم للإيمان وأهله، فلا علاج لهم إلا الرجوع عن الكفر والاعتصام بالإيمان والتمسك بفضائل الأخلاق وما يقتضيه الإيمان من صالح الأعمال. [سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه عداوة المشركين للمؤمنين- أردف ذلك بما سيكون من أمرهم بعد ذلك وهو لا يعدو أحد أمرين فصّلها فى هاتين الآيتين. الإيضاح (1) (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم بقتالهم عن شركهم بالله، إلى الإيمان به وبرسوله وأنابوا إليه وأطاعوه، فأقاموا الصلاة أي أدّوها بشروطها وأركانها، وآتوا الزكاة المفروضة فهم إخوانكم فى الدين الذي أمركم به، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وبهذه الأخوّة يزول كل ما كان بينكم من إحن وعداوات، ولا تعارف أجمل من التعارف فى المساجد لإقامة الصلوات وأداء الصدقات بمواساة الغنى للفقير، وهذه المزية الدنيوية كانوا محرومين منها، إذ كان بعضهم حربا لبعض إلا ما كان من عهد أو جوار. (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي وإنا نبين حجج الله وأدلته على خلقه لقوم يعلمون ما نبين لهم بعد أن نشرحها مفصلة فيفقهونها، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته. (2) (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) يقال نكث الغزل والحبل: حلّ الخيوط التي تألّف منها وأرجعها إلى أصلها، والأيمان العهود وقد كان كل من العاقدين للعهد يضع يمينه فى يمين الآخر. أي وإن نكث هؤلاء ما أبرمته أيمانهم من الوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم، وعابوا دينكم واستهزءوا به وصدّوا الناس عنه، ومن ذلك الطعن فى القرآن وفى النبي

[سورة التوبة (9) : الآيات 13 إلى 15]

صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم فقاتلوهم فهم أئمة الكفر وحملة لوائه المقدّمون على غيرهم بزعمهم، فهم الأجدر بالقتل والقتال. (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي إن عهودهم لا قيمة لها. فهى مخادعة لسانية لا يقصد الوفاء بها كما قال سبحانه «يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» فما أسرع ما تنقض إذا وجدت الفرصة سانحة. (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي قاتلوهم رجاء أن ينتهوا بقتالكم إياهم عن الكفر ونكث الأيمان ونقض العهود والعودة إلى قتالكم كلما قدروا عليه. وفى ذلك إيماء إلى أن القتال لا يكون اتباعا لهوى النفس، أو إرادة منافع الدنيا من السلب والنهب وإرادة الانتقام، وهذه ميزة الإسلام، إذ جعل الحرب ضرورة لإرادة منع الباطل وتقرير الحق. [سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه يقتال أئمة الكفر- ذكر السبب الذي يبعث على قتالهم، ولعل الله قد علم أن فى نفس جماعة من المؤمنين كرها لقتال من بقي من المشركين بعد فتح

الإيضاح

مكة وظهور الإسلام لأمنهم من ظهورهم عليهم ورجائهم فى إيمانهم، وعلم أنه يوجد من المنافقين من يزيّنون لهم ذلك، والله يريد أن تطهر جزيرة العرب من خرافات الشرك وأدران الوثنية، ويمحّص المؤمنين من النفاق ومثالبه. من جراء هذا أعاد الكرة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين عليهم بالحرب الذين بدءوهم بالقتال وهمّوا بإخراج الرسول أو حبسه أو قتله. الإيضاح (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟) أي قاتلوا هؤلاء المشركين لأسباب ثلاثة: (1) إنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ترك القتال عشر سنين يأمن فيها الفريقان على أنفسهم، ويكونون فيها أحرارا فى دينهم، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بنى بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ليلا بالقرب من مكة على ماء يسمى الهجير، وكان هذا من أفظع أنواع الغدر، ولما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نصرت إن لم أنصركم» وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة. (2) إنهم هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من وطنه أو حبسه حتى لا يبلغ رسالته، أو قتله بأيدى عصبة من بطون قريش ليتفرق دمه فى القبائل، فتتعذر المطالبة به، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» . (3) إنهم بدءوا بقتال المؤمنين فى بدر حين قالوا بعد العلم بنجاة عيرهم: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه ونقيم فى بدر أياما نشرب الخمر وتعزف على رءوسنا القيان، وكذا فى أحد والخندق وغيرهما.

وبعد أن أورد البراهين والحجج الموجبة لقتالهم قال: (أَتَخْشَوْنَهُمْ؟) أي أبعد هذا كله تتركون قتالهم خوفا منكم وجبنا؟. (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فالله أحق أن تخشوا مخالفة أمره وترك مخالفة عدوه، إذ المؤمن حق الإيمان لا يخشى إلا الله، لأنه يعلم أنه هو الذي بيده النفع والضر، ولا يقدر أحد على مضرة أو نفع إلا بمشيئته، فان خشى غيره بمقتضى سننه تعالى فى أسباب الضر والنفع، فلا ترجح خشيته على خشية الله، بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره، بل يرجّح خشيته تعالى على خشية غيره. وهذا احتجاج آخر على جماعة المسلمين الذين لا يخلو أن يكون بينهم جماعة من المنافقين ومرضى القلوب الذين يكرهون القتال إذا لم توجبه الضرورة كما قال: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» أو رجاء انتشار الإسلام بدونه بعد فتح مكة والطائف وهدم دولة الشرك. وخلاصة ما سلف- إنه بعد تلك الحجج التي تقدم ذكرها، لم يبق من سبب يمنع قتالهم إلا الخشية لهم والخوف من قتالهم، وخشية الله أحق وأجدر إن كنتم مؤمنين حقا، كيف وقد نصركم الله عليهم فى مواطن كثيرة مع ضعفكم وقوتهم وقلّتكم وكثرة عديدهم. وفى الآية إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون أشجع الناس وأعلاهم همة ولا يخشى إلا الله وبعد أن أقام الأدلة على وجوب قتالهم، وفنّد الشبه المانعة من ذلك- أمرهم به أمرا صريحا مع وعده لهم بالنصر وإظهار المؤمنين عليهم، وهذه العدة من أخبار الغيب فى وقعه معينة، وقد صدق الله وعده فقال: (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي قاتلوهم كما أمرتكم، فإنكم إن فعلتم ذلك يعذبهم الله بأيديكم ويمكّنكم من رقابهم قتلا، ومن صدورهم ونحورهم طعنا، ويخزهم بذلّ الأسر والقهر والفقر لمن لم

[سورة التوبة (9) : آية 16]

يقتل منهم، وينصركم عليهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد هذا، فلا يعودون إلى قتالكم كما كان شأنهم بعد وقعة بدر، ويشف صدوركم مما نالوا منكم من الأذى ولم تكونوا تستطيعون دفعه- وقد كان فى صدورهم من موجدة القهر والذل ما لا شفاء له إلا بهذا النصر عليهم- وهؤلاء المؤمنون هم الذين غدر بهم المشركون كخزاعة وغيرها ممن كانوا فى دار الشرك عاجزين عن الهجرة. وروى عن ابن عباس أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا إلى مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال صلى الله عليه وسلم «أبشروا فإن الفرج قريب» . (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) الذي كان قد وقر فيها من غدر المشركين وظلمهم، ومن طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه وأكملها فإنه يعظم سروره ويصير ذلك سببا لقوة النفس وصدق العزيمة. وهذا الخزي والتعذيب الذي سينزله بهم لا يعمهم، بل هو خاص بمن استحوذ عليهم الكفر، فلم يبق فيهم استعداد للإيمان. (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي وأما غيرهم فسيتوب الله عليهم من شركهم ويوفقهم للإيمان ويتقبله منهم، وهو العليم بما لا تعلمون من استعدادهم فى الحال والاستقبال، الحكيم فيما يشرع لهم من الأحكام لإقامة دينه وإظهاره على الدين كله. ومن سننه تعالى تفاوت البشر فى العقائد والأخلاق والأعمال، وقابلية التحول من حال إلى حال بما يطرأ عليهم من الأسباب والمؤثرات بحسب المقادير الإلهية الثابتة بآيات التنزيل ونظم الاجتماع. [سورة التوبة (9) : آية 16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الوليجة: ما يلج فى الأمر أو القوم مما ليس منه أو منهم كالدّخيلة، ويطلق على الواحد والكثير، ويراد بها هنا بطانة السوء من المنافقين والمشركين. المعنى الجملي كان الكلام فى الآيات التي قبل هذه فى بيان حال المشركين من مواصلتهم ما بدءوا به من قتال المؤمنين لأجل دينهم، وقتال المؤمنين لهم على الوجه الذي قامت به الحجج الناصعة على كون المؤمنين على الحق فى هذا القتال والكلام الآن فى بيان حال جماعة المسلمين وشأنهم فى الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان والهوادة فى حقوق الإسلام. الإيضاح (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) الخطاب هنا لجماعة المسلمين الذين من بينهم منافقون ومرضى القلوب يثبّطون عن القتال. والمعنى- هل جاهدتم المشركين حق الجهاد، وأمنتم عودتهم إلى قتالكم كما بدءوكم أول مرة، وأمنتم نكث من عاهدتم منهم لأيمانهم كما نكثوا من قبل؟ وهل علمتم أنهم تركوا الطعن فى دينكم وصدّ الناس عنه كما هو دأبهم منذ ظهور الإسلام وهل نسيتم ما اعتذر به المنافقون الذين تخلّفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من أعذار ملفّقة كاذبة، وما كان من تثبيط من خرج منهم معكم عن القتال؟ أم حسبتم أن تتركوا وشأنكم بغير فتنة ولا امتحان، ولم يتبين الخلّص من المجاهدين منكم الذين لم يتخذوا لأنفسهم بطانة من المشركين

[سورة التوبة (9) : الآيات 17 إلى 18]

الذين يحادون الله تعالى بالشرك به، ويحادون الرسول بالصدّ عن دعوته، ويقاتلون المؤمنين أنصار الله ورسوله- من المنافقين الذين يطلعون أولئك الولائج على أسرار الملة ويقفونهم على سياسة الأمة كما يفعل المنافقون فى كل زمان. ونحو الآية قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» . وقد عبر سبحانه عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين وتميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان- بعدم علمه بهم، لأن عدم علمه بالشيء دليل على عدم وجوده. ولا يظهر هؤلاء الممتازون إلا بالابتلاء بالشدائد كما جاء فى قوله: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» . (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) الآن وبعد ذلك وقبله، محيط بكل شىء علما، وقد مضت سنته تعالى بأن التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحصّ ما فى القلوب ويطهّر السرائر بقدر ما فيها من حسن الاستعداد، ويبرز السرائر الخبيثة ويظهر سوء استعدادها. وخلاصة المعنى- أظننتم أن تتركوا قبل أن يتم التمحيص والتمييز بين الصادقين فى جهادهم والكاذبين فاسدى السريرة ومتّخذى الوليجة، وهو لم يعلم الصادقين فى الجهاد لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل، وما لا يعلم الله وجوده فلا وجود له، إذ لا يخفى عليه شىء من أمركم، وهو الخبير بكل ما تعملون. [سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المساجد: واحدها مسجد، وهو مكان السجود ثم صار اسما للبيت الذي يعبد فيه الله وحده كما قال: «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» وعمارة المسجد: تطلق تارة على لزومه والإقامة فيه للعبادة، أو لخدمته بتنظيفه أو ترميمه أو نحو ذلك، وتطلق أخرى على زيارته للعبادة فيه، ومنها النسك المخصوص المسمى بالعمرة. المعنى الجملي بعد أن فتح المسلمون مكة وأدال الله للتوحيد من الشرك وللحق من الباطل، وزالت ولاية المشركين عن المسجد الحرام وطهّره الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان فيه من الأصنام، بقي عليه أن يطهره من العبادات الباطلة التي كان المشركون يأتونها فيه ويبين لهم أن المسلمين أحق به منهم، ومن ثم آذنهم بنبذ عهودهم وأمر عليّا أن يتلو عليهم أوائل سورة براءة على مسامع وفودهم يوم الحج الأكبر من سنة تسع للهجرة، وكان مما يتضمنه هذا البلاغ العام أن يعلموا أن عبادتهم الشركية ستمنع من المسجد الحرام بعد ذلك العام، فنادى علىّ وأعوانه فى يوم النحر بمعنى: لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وإنما أمهلهم هذا العام من قبل أن فيهم أرباب عهد مع المسلمين، كان من شروطه ألا يمنع أحد الفريقين الآخر من دخول المسجد الحرام- إلى أنه كان يتعذر منع من لا عهد لهم بدون قتال فى أرض الحرم، إذ لا يمكن التمييز بين المشرك والمسلم ولا المعاهد من غيره إلا بعد وصولهم إلى البيت وشروعهم فى الطواف فيه. لهذا كله ناسب أن يذكر بعد نبذ العهود وإعلام جماهيرهم به قبل تنفيذه بزمن

الإيضاح

منع عبادة الشرك من المسجد الحرام وإبطال ما كان المشركون يدّعونه ويفخرون به من حق عمارته، مع تيئيسهم من الاشتراك فيها، وهذا هو ما تضمنته الآيتان الكريمتان المذكورتان هنا. روى عن ابن عباس أنه قال: لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ له على فى القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا! فقال على كرم الله وجهه: ألكم محاسن؟ فقال نعم: إننا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقى الحاج فأنزل الله: (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) الآية. الإيضاح (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي ما كان من شأن المشركين ولا مما ينبغى لهم أن يعمروا مساجد الله التي منها المسجد الأعظم وهو بيته الحرام بالإقامة فيه للعبادة أو الخدمة والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين، وقد شهدوا على أنفسهم بالكفر قولا وعملا بعبادتهم للأصنام والاستشفاع بها والسجود لما وضعوه منها فى البيت عقب كل شوط من طوافهم، وقولهم حينئذ: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. إذ فى عملهم هذا جمع بين الضدين، فإن عمارة البيت الحسية إنما تكون لعمارته المعنوية بعبادته تعالى وحده، وذلك لا يقع إلا من المؤمن الموحّد لكنهم يشركون به غيره ويساوونه ببعض خلقه فى العبادة. وخلاصة ذلك- إنهم يجمعون بين أمرين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح، عمارة البيت الحرام بزيارته للحج أو العمرة، والكفر بربه بمساواته ببعض خلقه من الأصنام والأوثان.

وقوله: شاهدين على أنفسهم، أي إنهم كفروا كفرا صريحا معترفا به لا تمكن المكابرة فيه. والمراد بالعمارة الممنوعة عن المشركين للمساجد الولاية عليها والاستقلال بالقيام بمصالحها كأن يكون الكافر ناظرا للمسجد وأوقافه، أما استخدام الكافر فى عمل لا ولاية فيه كنحت الحجارة والبناء والنجارة فلا يدخل فى ذلك. وللمسلمين أن يقبلوا من الكافر مسجدا بناه كافر أو أوصى ببنائه أو ترميمه إذا لم يكن فى ذلك ضرر دينى ولا سياسى، كما لو عرض اليهود الآن على المسلمين أن يعمروا المسجد الأقصى بترميم ما كان قد تداعى من بنائه، أو بذلوا لذلك مالا لم يقبل منهم، لأنهم يطمعون فى الاستيلاء على هذا المسجد، فربما جعلوا ذلك ذريعة لادعاء حق لهم فيه. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي أولئك المشركون الكافرون بالله وبما جاء به رسوله قد بطلت أعمالهم التي يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وقرى الضيف وصلة الرحم ونحو ذلك مما كانوا يعملونه فى دنياهم، فلم يبق له أثر ما فى صلاح أنفسهم ما داموا مقيمين على الشرك ومفاسده. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وقوله: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» . (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أي وهم مقيمون فى دار العذاب إقامة خلود وبقاء لكفرهم الذي أحبط أحسن أعمالهم ودسّى أنفسهم حتى لم يبق لها أدنى استعداد لجوار ربهم فى دار الكرامة والنعيم. (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) أي إن المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه

الذي بيّنه فى كتابه من توحيده واختصاصه بالعبادة والتوكل عليه، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه عباده ويجزى كل نفس ما كسبت، مع إقامة الصلاة المفروضة على وجه جامع بين أركانها وآدابها، وتدبر تلاوتها وأذكارها، وبذا تكسب من يقيمها مراقبة ربه وخشيته والخشوع إليه، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها من الفقراء والمساكين، وخشية الله دون غيره مما لا ينفع ولا يضر كالأصنام وغيرها مما عبد من دون الله خوفا من ضرره أو رجاء نفعه. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي فأولئك الذين يجمعون بين الأركان الهامة من أركان الإسلام هم الذين يرجون أن يكونوا من المهتدين إلى ما يحب الله ويرضيه من عمارة المساجد حسا ومعنى بحسب سننه تعالى فى أعمال البشر وتأثيرها فى نفوسهم، وبذا يستحقون عليها الجزاء فى جنات النعيم، لا أولئك المشركون الذين يجمعون بين أضدادها من الإيمان بالطاغوت والشرك بالله والكفر بما جاء به رسوله، وينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإسلام. هذا، وقد ورد فى عمارة المساجد أحاديث كثيرة، فقد روى الشيخان والترمذي عن عثمان رضى الله عنه أنه لما بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامه الناس قال إنكم أكثرتم، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى لله مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا فى الجنة» . وروى أحمد عن ابن عباس مرفوعا «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص (الموضع الذي تفحص التراب عنه وتكشفه لتبيض فيه) قطاة لبيضها- بنى الله له بيتا فى الجنة» . وروى الشيخان وأبو داود وابن ماجه: أن امرأة كانت تقمّ المسجد- تكنسه- فماتت، فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني بها لأصلّى عليها دلّونى على قبرها، فأتى قبرها فصلى عليها. وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبى سعيد قال: قال رسول الله

[سورة التوبة (9) : الآيات 19 إلى 22]

صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» وتلا (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ) » الآية. [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) تفسير المفردات السقاية: الموضع الذي يسقى فيه الماء فى المواسم وغيرها، وسقاية العباس: موضع بالمسجد الحرام يستقى فيه الناس، وهو حجرة كبيرة فى جهة الجنوب من بئر زمزم لا تزال ماثلة إلى الآن، وقد يراد بالسقاية الحرفة كالحجابة وهى سدانة البيت، والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش وقد أقرّهما الإسلام، وفى الحديث: «كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمىّ إلا سقاية الحاج وسدانة البيت» . وقد كانت قريش تسقى الحاج الزبيب المنبوذ فى الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب فى الجاهلية والإسلام. المعنى الجملي هذه الآيات مكملة لما قبلها مبينة أن عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه.

الإيضاح

روى مسلم وأبو داود عن النعمان بن بشير قال: «كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالى ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر بل الجهاد فى سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه فأنزل الله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ- إلى قوله- وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) » . الإيضاح (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟) الخطاب فى الآية للمؤمنين الذين تنازعوا- أىّ الأعمال أفضل- والمراد- إنه لا ينبغى أن تجعلوا أهل السقاية والعمارة فى الفضيلة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فى سبيل الله، فإن السقاية والعمارة وإن كانتا من أعمال البر والخير فأصحابهما لا يدانون أهل الإيمان والجهاد فى علو المرتبة وشرف المقدار، وقد صرح بهذا فى قوله: (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) أي لا يساوى الفريق الأول الفريق الثاني لا فى صفته ولا فى عمله فى حكم الله ولا فى مثوبته وجزائه عليه لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، فضلا عن أن يفضله كما يزعم كبراء مشركى قريش الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت ويستكبرون على الناس بها. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يهديهم إلى الحق فى أعمالهم ولا إلى الحكم العدل فى أعمال غيرهم، إذ ليس من سننه تعالى فى أخلاق البشر وأعمالهم أن يهدى الظالم إلى شىء من ذلك، ومن أقبح الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت وحفظ مفتاحه وسقاية الحاج على الإيمان بالله وحده، إذ به تطهر الأنفس من أدناس الشرك وخرافاته، وعلى الإيمان باليوم الآخر الذي يزع النفس عن البغي والظلم ويحبب

إليها الحق والعدل، ويرغّبها فى الخير وعمل البر ابتغاء مرضاة الله لا للفخر والرياء، وعلى الجهاد فى سبيل الله بالنفس والمال لإحقاق الحق وإبطال الباطل. ثم بين سبحانه مراتب فضلهم إثر بيان عدم استوائهم هم والمشركين الظالمين فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ) أي هم أعظم درجة وأعلى مقاما فى مراتب الفضل والكمال فى حكم الله وأكبر مثوبة من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الذين رأى بعض المسلمين أن عملهم إياهما من أفضل القربات بعد الإسلام. فالذين نالوا فضل الهجرة والجاد بنوعيه النفسي والمالى أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائنا من كان، ويدخل فى ذلك أهل السقاية والعمارة. (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله وكرامته دون من لم يكن مستجمعا لهذه الصفات الثلاث وإن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام، فإن ثواب المؤمن على هذين العملين دون ثوابه على الهجرة والجهاد، ولا ثواب للكافر عليهما فى الآخرة، فإن الكفر بالله ورسله واليوم الآخر يحبط الأعمال البدنية وإن فرض فيها حسن النية. ثم فصل سبحانه ذلك الفوز العظيم وبينه بقوله: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ. خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي يبشرهم ربهم فى كتابه على لسان رسوله، وعلى لسان ملائكته حين الموت، برحمة منه ورضوان كامل من لدنه لا يشو به سخط، وجنات تجرى من تحتها الأنهار، ولهم فيها نعيم مقيم لا يزول على عظمه وكماله حال كونهم خالدين فيها أبدا. (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إن ما عند الله من الأجر على الإيمان وصالح العمل الذي من أشقه الهجرة والجهاد عظيم لا يقدر قدره إلا الله الذي تفضل به ومنحه لعباده المكرمين، ولا سيما على الإيمان الكامل الباعث على هجر الوطن ومفارقة الأهل

[سورة التوبة (9) : الآيات 23 إلى 24]

والسكن، وعلى إنفاق المال الذي هو أحب شىء إلى النفس، وعلى بذل النفس التي هى أعز شىء على الإنسان. فما أجدرهم أن يبشرهم بأنواع من الأجر والجزاء ما بين روحى وجسمانى فالأول الرحمة والرضوان. والرضوان هو نهاية الإحسان وهو أعلى النعيم وأكمل الجزاء كما يدل على ذلك قوله: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» . وما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟ فيقولون، لبّيك ربّنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون ربّنا وأىّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا» . والثاني: هو النعيم المقيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا. [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) تفسير المفردات استحب كذا وأحبه: بمعنى، والظلم: وضع الشيء فى غير موضعه، والعشيرة:

المعنى الجملي

ذوو القرابة الأدنون الذين من شأنهم التعاون والتناصر، والاقتراف: الاكتساب، وكساد التجارة: ضد رواجها، والتربص: الانتظار، وأمره: عقوبته إن عاجلا أو آجلا. المعنى الجملي لما أعلن الله براءته وبراءة رسوله من المشركين وآذنهم بنبذ عهودهم بعد أن ثبت أنه لا عهد لهم- عزّ ذلك على بعض المسلمين، وتبرّم به ضعفاء الإيمان وكان أكثرهم من الطّلقاء الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وكان موضع الضعف نصرة القرابة وعصبية النسب، إذ كان لا يزال لكثير منهم أولو قرابة من المشركين يكرهون قتالهم ويتمنّون إيمانهم، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان وليجة وبطانة منهم. من أجل هذا بين الله فى هاتين الآيتين أن فضل الإيمان والهجرة والجهاد ونيل ما بشر الله به أهله من رحمته ورضوانه ودخول جناته- لا يكمل إلا بترك ولاية الكافرين وإيثار حب الله ورسوله والجهاد فى سبيله على حب الوالد والولد والأخ الزوج والعشيرة والمال والسكن. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم فى القتال وتظاهرون لأجلهم الكفار أو تطلعونهم على أسرار المؤمنين وما يستعدون به لقتال المشركين إن أصرّوا على الكفر وآثروه على الإيمان، فإن فى ذلك قوة للمشركين على قتال المؤمنين وحضدا لشوكتهم وقد حدث ذلك منذ ظهور الإسلام إلى نزول هذه السورة، فقد كتب حاطب بن أبى بلتعة وهو من أهل بدر وقد استخفّته نعرة القرابة إلى مشركى مكة خفية يعلمهم بما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من قتالهم، ليتخذ له بذلك

يدا عندهم يكافئونه عليها بحماية ما كان له عندهم من قرابة، وفى ذلك نزلت سورة الممتحنة للنهى عن موالاة أعداء الله وأعدائهم. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن يتولهم وهم على تلك الحال فأولئك المتولون لهم هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم بوضعهم الموالاة فى غير موضعها، فهم قد وضعوا الولاية فى موضع البراءة، والمودّة فى محل العداوة، وقد حملهم على هذا الظلم نعرة القرابة وحميّة الجاهلية. ونحو الآية قوله فى سورة الممتحنة: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» . وبعد أن بين ما وصل إليه حالهم من الإخلال بالإيمان انتقل إلى بيان سبب ذلك فقال: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أي قل لهم وإن كنتم تفضّلون حظوظ الدنيا وشهواتها من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد فى سبيله الذي وعدتم عليه أنواع السعادة الأبدية فى الآخرة، فانتظروا حتى يأتى أمر الله: أي عقوبته التي تحل بكم عاجلا أو آجلا. وقد ذكر سبحانه الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وحصرها فى أربعة: (1) مخالطة الأقارب وذكر منهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، ثم ذكر الباقي بلفظ العشيرة. (2) الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة.

(3) الرغبة فى تحصيل الأموال وتثميرها بالتجارة. (4) الرغبة فى الأوطان والدور التي بنيت للسكنى. وخلاصة ذلك- إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة فى سبيله، فتربصوا بما تحبون حتى يأتى الله بعقوبة من عنده عاجلة أو آجلة. ولا يخفى ما فى ذلك من الوعيد والتهديد، ومن الإيماء إلى أنه إذا وقع التعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم نبذ الثانية وإلقاؤها وراءه ظهريا. وبتفصيل ما تقدم فى الآية نجد أنها حوت أمورا ثمانية من أفضل ما يحب. (ا) حب الأبناء للآباء وهو غريزى فى النفوس فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطبائعه من جسمية وخلقية، وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم فى أسواقهم وفى معاهد الحج كما قال تعالى حاثا على ذكره: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» . (ب) حب الآباء للأبناء وهو غريزى أيضا، وحب الوالد للولد أقوى وأبقى من عكسه، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه أو أشد، ويحرم نفسه كثيرا من الطيبات إيثارا له بها فى حاضر أمره ومستقبله، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب، ويقوم بتربيته وتعليمه، إذ هو مناط الآمال وزينة الحياة كما قال تعالى: «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا» . (ج) حب الإخوة وهو يلى فى المرتبة حب البنوة والأبوة، وهو حب يقتضيه التناصر والتعاون فى الكفاح فى الحياة، والبيوت التي سلمت فطرة أهلها وكرمت أخلاقهم يحبون إخوتهم كأنفسهم وأولادهم، ويوقّرون كبيرهم، ويرحمون صغيرهم، ويكفلون من يتركه أبوه صغيرا فيتربى مع أولادهم كأحدهم. (د) حب الزوجة وبالزوجية يتحد بشران يتمم وجود كل منهما وجود الآخر

وينتجان بشرا مثلهما، ومن ثم امتن الله علينا به فقال: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» . (هـ) حب العشيرة، وهو حب عصبية وتعاون وولاية ونصر فى مواطن القتال والنزال والذّود عن الحمى والحريم، وهو يكون على أشده فى أهل البداوة ومن على مقربة منهم من أهل الحضر. (و) حب الأموال المقترفة: أي المكتسبة، وهو أقوى من حب الأموال الموروثة، لأن عناء النفس فى جمعها يجعل لها فى قلبه منزلة لا تكون لما يجىء من المال عفوا. (ز) حب التجارة التي يخشى كسادها فى حال الحرب، وقد كان لبعض المسلمين من أهل مكة تجارة يخشون كسادها فى ذلك الحين، لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين، وكانت أسواقها تنصب فى موسم الحج، وقد منع منه المشركون بنص الآيات السابقة واللاحقة. (ح) حب المساكن الطيبة المرضية، وقد كان لبعض المسلمين دور حسنة فى مكة كانوا يتمتعون فيها بالإقامة والسكنى لما فيها من المرافق وأسباب الراحة. فهذه الثمانية الأنواع من الحب تجعل القتال مكروها مبغوضا لدى النفوس فوق ماله من بغض بمقتضى ذاته كما قال تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» . أما حبه تعالى فيجب أن يكون فوق هذه الأنواع لفضله وإحسانه بالإيجاد والإعدام وتسخير منافع الدنيا للناس، وهو يتفاوت بتفاوت معارف الإنسان فى آلاء الله فى خلقه وإدراك ما فيها من الإبداع والإتقان: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» .

وكذلك حب رسوله يجب أن يكون فوق هذه أيضا، فإنه صلى الله عليه وسلم كان المثل الأعلى فى أخلاقه وآدابه، وقد أرسله الله هداية للعالمين إلى يوم الدين. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي الخارجين من حدود الدين والشريعة ومن سلامة الفطرة إلى فساد الطباع، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد. وقد جرت سنته تعالى أن يكون الفاسقون محرومين من الهداية الفطرية التي يهتدى إلى معرفتها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح، ومن ثم فهم يؤثرون حب القرابة والمنفعة الطارئة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد فى سبيله. هذا وقد جاءت أحاديث كثيرة فى فضل حب الله ورسوله، منها ما رواه الشيخان من حديث أنس مرفوعا «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار» وعنه أيضا «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» وما رواه البخاري عن عبد الله بن هشام قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: لأنت أحبّ إلىّ من كل شىء إلا نفسى التي بين جنبىّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسى بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك التي بين جنبيك. فقال عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إلىّ من نفسى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر» . والوسيلة إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر وتدبر القرآن والتزام أحكام الشرع. والذكر الحق هو ذكر القلب مع حسن النية وصحة القصد وتأمل سنن الله وآياته فى الخلق وأن تذكر حين رؤية كل شىء من صنع الله، وسماع كل صوت من مخلوقات الله، أنه يسبح بحمده تعالى ويدل على قدرته وحكمته ورحمته.

[سورة التوبة (9) : الآيات 25 إلى 27]

ومن أقام فرائض الله كما أمر، وترك معاصيه كما نهى، فإنه يصل بفضل الله إلى المقام الذي أشار إليه فى الحديث القدسي «وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أحبّ إلى مما افترضته عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها» رواه البخاري. [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) تفسير المفردات المواطن: واحدها موطن، وهو مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن والمراد بالموطن هنا مشاهد الحرب ومواقعها، وحنين: واد على ثلاثة أميال من الطائف، وغزوته تسمى غزوة أوطاس وغزوة هوازن، والإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة، والرّحب: السعة، ومدبرين: أي هاربين لا تلوون على شىء، والسكينة: الهيئة النفسية التي تحصل من سكون النفس واطمئنانها، وهى ضد الانزعاج، وقد تطلق على الرزانة والوقار. المعنى الجملي جاءت هذه الآيات لإقامة الحجة على صدق ما قبلها من النهى والوعيد وأن الخير ولمصلحة للمؤمنين فى ترك ولاية أولى القربى من الكافرين، وفى إيثار حب الله

الإيضاح

ورسوله والجهاد فى سبيله على حب أولى القربى والعشيرة والمال والسكن ونحوها مما يحب- إذ أبان فيها أن نصر الله للمؤمنين فى المواطن الكثيرة لم يكن بقوة العصبية ولا بقوة المال ولا بما يشترى به من الزاد والعتاد، بل كان بفضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بذلك الدين القويم، وأن هزيمتهم وتوليهم يوم حنين كان ابتلاء لهم على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك كان بعناية خاصة من لدنه، ليتذكروا أن عنايته تعالى للمؤمنين بالقوة المعنوية لا بالكثرة العددية وما يتعلق بها. الإيضاح (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) أي لقد نصركم الله أيها المؤمنون فى أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم فى صعيد واحد للطعان والنزال إحقاقا للحق وإظهارا لدينه. روى أبو يعلى عن جابر أن عدد غزواته صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرون، قاتل بنفسه فى ثمان: بدر وأحد والأحزاب والمصطلق وخيبر ومكة وحنين والطائف. وبعوثه وسراياه ست وثلاثون، واختار جمع من العلماء أن المغازي والسرايا كلها ثمانون ولم يقع فى بعضها قتال، ونصرهم فى كل قتال، إما نصرا كاملا وهو الأكثر وإما نصرا مشوبا بشىء من التربية على ذنوب اقترفوها كما فى أحد، إذ نصرهم أولا ثم أظهر عليهم العدو لمخالفتهم أمر القائد الأعظم فى أهم أوامر الحرب وهو حماية الرماة لظهورهم، وكما فى حنين من الهزيمة فى أثناء المعركة والنصر التام فى آخرها. (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي ونصركم أيضا فى يوم حنين وهو اليوم الذي أعجبتكم فيه كثرتكم إذ كنتم اثنى عشر ألفا وكان الكافرون أربعة آلاف فقط، فقال قائل منكم: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة: أي فكانت الهزيمة عقوبة على هذا الغرور والعجب وتربية للمؤمنين حتى لا يغتروا بالكثرة

مرة أخرى، فإنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة المؤدية للنصر. ومعنى قوله: فلم تغن عنكم شيئا إلخ- أن تلك الكثرة التي غرتكم لم تكن بكافية لانتصاركم ولم تدفع عنكم شيئا من عار الغلب والهزيمة، وضاقت عليكم الأرض على رحبها وسعتها، فلم تجدوا وسيلة للنجاة إلا الهرب والفرار من العدو فولّيتموه ظهوركم منهزمين لا تلوون على شىء. (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي ثم أفرغ الله سكينة من لدنه على رسوله (بعد أن عرض له الأسف والحزن على أصحابه حين وقوع الهزيمة لهم) فما ازداد إلا ثباتا وشجاعة وإقداما- وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه وأحاطوا ببغلته الشهباء- وعلى سائر المؤمنين الصادقين فأذهب روعهم وأزال حيرتهم وأعاد إليهم ما كان قد زلزل من ثباتهم وشجاعتهم، وخصوصا حين سمعوا نداءه ونداء عمه العباس إذ دعاهم بأمره- وأنزل مع هذه السكينة جنودا من الملائكة لم تروها بأبصاركم، بل وجدتم أثرها فى قلوبكم بما عاد إليها من رباطة الجأش وشدة البأس- وعذب الذين كفروا بالقتل والسبي والأسر، وذلك هو جزاء الكافرين فى الدنيا ما داموا يستحبون الكفر على الإيمان ويعادون أهله ويقاتلونهم عليه. ونحو الآية قوله: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ» (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ثم يتوب الله بعد هذا التعذيب الذي يكون فى الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام إذا لم تحط بهم خطيئات الشرك وخرافاته، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب، وهو غفور لهم يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي، رحيم بهم يتفضل عليهم ويثيبهم بالأجر والجزاء.

وفد هوازن وإسلامهم وغنائهم

وفد هوازن وإسلامهم وغنائهم روى البخاري عن المسور بن مخرمة «أن ناسا منهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، (وقد سبى يومئذ ستة آلاف وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى) فقال عليه الصلاة والسلام: إن عندى من ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم، قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هؤلاء جاءونا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده شىء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه، قالوا رضينا وسلّمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندرى لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا» . [سورة التوبة (9) : آية 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) تفسير المفردات النجس: من نجس الشيء إذا كان قذرا غير نظيف والاسم النجاسة، وقال الراغب: النجاسة: القذارة، وهى ضربان: ضرب يدرك بالحاسة، وضرب يدرك بالبصيرة، وهذا ما وصف الله به المشركين فقال إنما المشركون نجس، ويقال نجّسه، إذا جعله نجسا، ونجّسه: أزال نجسه ومنه تنجيس العرب، وهو شىء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبى ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان، والناجس والنجيس: داء خبيث لا دواء له اه.

المعنى الجملي

والعيلة: الفقر، يقال عال الرجل يعيل عيلا وعيلة إذا افتقر فهو عائل، وأعال: كثر عياله، وهو يعول عيالا كثيرين: أي يمونهم ويكفيهم أمر معاشهم، والفضل: العطاء والتفضل. المعنى الجملي لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر حين أمّره على الحج سنة تسع من الهجرة أن يبلّغ الناس أنه لا يحج بعد هذا العام مشرك، ثم أمر عليا أن يتبع أبا بكر فيقرأ على الناس أول سورة براءة يوم الحج الأكبر وينبذ إليهم عهدهم، وأن الله برىء من المشركين ورسوله- قال ناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة لا نقطاع السبل وفقد الحمولات، فنزلت هذه الآية لدفع تلك الشبهة فقال سبحانه «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» . قال ابن عباس: كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتّجرون فيه، فلما نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون: فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً» الآية. قال فأنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم، وأسلم أهل اليمن وجاءهم الناس من كل فجّ. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي إن المشركين أنجاس فاسدو الاعتقاد يشركون بالله ما لا يضر ولا ينفع، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ويأكلون الميتة والدم وهى أقذار حسية ويستحلون القمار والزنا ويستبيحون الأشهر الحرم وهى أرجاس معنوية- من أجل هذا لا تمكنوهم بعد هذا العام أن يدخلوا المسجد الحرام بدخول أرض الحرم، فضلا عن دخول البيت نفسه وطوافهم فيه عراة يشركون بربهم فى التلبية، وإذا صلوا لم تكن صلاتهم إلا مكاء وتصدية.

وبلاد الإسلام فى حق الكفار أقسام ثلاثة: (1) الحرم، ولا يجوز لكافر أن يدخله بحال لظاهر الآية، وبذلك قال الشافعي وأحمد ومالك، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فى الحرم لا يأذن له فى دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وأبو حنيفة- يجيز للمعاهد دخول الحرم بإذن الخليفة أو نائبه. (2) الحجاز، وهو ما بين عدن إلى ريف العراق فى الطول، ومن جدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا، ويجوز للكافر دخولها بالإذن. ولكن لا يقيمون فيها أكثر من ثلاثة أيام. روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما» وفى رواية لمسلم، وأوصى فقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر فى خلافته، وأخرج مالك فى الموطأ «لا يجتمع دينان فى جزيرة العرب» . وعن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب، ولكن فى التحريش بينهم» . (3) سائر بلاد الإسلام، ويجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم. (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) أي وإن خفتم فقرا بسبب قلة جلب الأقوات، وضروب التجارات التي كان يجلبها المشركون من أرباب المزارع فى الشعاب والوديان من البلاد ذات البساتين والمزارع كالطائف وأرباب المتاجر- فسوف يغنيكم الله من فضله، وفضله كثير، فقد صاروا بعد الإسلام ومنع المشركين من الحرم أغنى مما كانوا قبل ذلك، فقد تعددت وسائل الغنى فيما بعد، وصدق الله وعده فأسلم أهل اليمن وصاروا يجلبون لهم الطعام، وأسلم أولئك المشركون ولم يبق أحد منهم يمنع من الحرم، ثم جاءتهم الثروة من كل جانب بما فتح الله عليهم من البلاد

[سورة التوبة (9) : آية 29]

فكثرت الغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج، ومهد الله لهم سبل الرزق من إمارة وتجارة وزراعة وصناعة، وكان نصيب مكة من ذلك عظيما بكثرة الحاج وأمن طرق التجارة. وقيد هذا الغنى بمشيئته التي لا يشك مؤمن فى حصول ما تتعلق به، لتقوية إيمانهم بربهم واتكالهم عليه دون كسبهم وحده وإن كانوا مأمورين به، لأنه من سننه فى خلقه، ولكن لا يجوز أن ينسوا توفيقه وتأييده لهم فهو الذي نصرهم وأغناهم وسيزيدهم نصرا وغنى. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي إنه عليم بما يكون من مستقبل أمركم فى الغنى والفقر، حكيم فيما يشرعه لكم من أمر ونهى كأمركم بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم، ونهيكم عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد هذا العام، ونهيكم عن اتخاذ آبائكم وإخوانكم منهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان. [سورة التوبة (9) : آية 29] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) تفسير المفردات يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينا وعقيدة، ودين الحق: هو الدين الذي أنزله الله على أنبيائه، والجزية ضرب من الخراج يضرب على الأشخاص لا على الأرض، وجمعها جزى (بالكسر) واليد: السعة والقدرة، والصّغار والصغر: ضد الكبر ويكون فى الأمور الحسية والمعنوية، وللمراد به هنا الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي بها تصغر أنفسهم لديهم بفقد الملك وعجزهم عن مقاومة الحكم.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أحكام المشركين فى إظهار البراءة من عهودهم، وفى إظهار البراءة منهم فى أنفسهم، وفى وجوب مقاتلتهم وإبعادهم عن المسجد الحرام- قفّى على ذلك بحكم قتال أهل الكتاب وبيان الغاية منه، وفى ذلك توطئة للكلام فى غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب والخروج إليها فى زمن العسرة والقيظ، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين وهتك حجب كفرهم وتمحيص المؤمنين، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل فيها الروم لما سيأتى بعد. روى ابن المنذر عن ابن شهاب قال: أنزلت فى كفار قريش والعرب (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ونزلت فى أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ- إلى قوله- حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران قبل وفاته عليه الصلاة والسلام. روى ابن أبى شيبة وأبو الشيخ عن الحسن قال: «قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد على هذه الآية فى شأن أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) الآية، وعلى الجملة فالقتال الواجب فى الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، ومن ثم اشترط أن تقدم عليه الدعوة إلى الإسلام. والناظر إلى غزواته صلى الله عليه وسلم يرى أنها كلها كانت دفاعا عن الدعوة، وكذلك كانت حروب الصحابة فى الصدر الأول، ثم كان القتال بعد ذلك ضرورة من ضرورات الملك والدولة، ومع ذلك فقد كان الإسلام فيها مثال الرأفة والرحمة والعدل

الإيضاح

الإيضاح (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي قاتلوا أهل الكتاب، إذ هم جمعو أربع صفات هى العلة فى عداوتهم للاسلام، ووجوب خضوعهم لحكمه ما داموا فى داره إذ لو أجيز لهم حمل السلاح لأفضى ذلك إلى قتال المسلمين فى دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وجعلهم حلفاء له، وأجاز لهم الحكم فيها بينهم بشرعهم، وسمح لهم بالعبادة على النحو الذي يريدون، وكذلك فعل مع نصارى الروم فى حدود البلاد العربية. وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها هى أصول كل دين إلهى، ومن ثم أمر بقتال الذين لا يقيمونها وهى: (1) إنهم لا يؤمنون بالله، وقد شهد القرآن بأن اليهود والنصارى فقدوه بهدم أساسه وهو التوحيد، إذ هم قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، يشرّعون لهم العبادات ويحرمون ويحللون فيتبعونهم، وبذا أشركوهم فى الربوبية، ومنهم من أشرك به فى الألوهية كالذين قالوا عزير ابن الله، والذين قالوا: المسيح ابن الله، أو هو الله. (2) إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، إذ هم يقولون إن حياة الآخرة حياة روحانية محضة يكون فيها الناس كالملائكة، لكنا نؤمن بأن الإنسان لا تنقلب حقيقته، بل يبقى مؤلفا من جسد وروح، ويتمتع بنعيم الأرواح والأجساد. ولا يوجد فيما بين أيدى اليهود والنصارى من التوراة نصوص صريحة فى البعث والجزاء بعد الموت، بل فيها إشارات غير صريحة فى ذلك. (3) إنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فاليهود لا يحرمون ما حرم فى شرعهم

الذي جاء به موسى ونسخ بعضه عيسى، ولا يلتزمون العمل بما حرّم، فقد استحلوا أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره، واتبعوا عادات المشركين فى القتال والنفي ومفاداة الأسرى، والنصارى استباحوا ما حرّم عليهم فى التوراة مما لم ينسخه الإنجيل، فأباحوا جميع محرمات الطعام والشراب إلا ما ذبح للأصنام، فقد ثبت فى كتبهم أن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها، وحرّم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها. (3) إنهم لا يدينون دين الحق، إذ أن ما يتقلدونه إنما هو دين تقليدى وضعه لهم أساقفتهم وأحبارهم بآرائهم الاجتهادية وأهوائهم المذهبية، لا دين الحق الذي أو حاه الله إلى عيسى وموسى عليهما السلام. فاليهود لم يحفظوا ما استحفظوا من التوراة التي كتبها موسى وكان يحكم بها هو والنبيون من بعده، إلى أن عاقبهم الله بتسليط البابليين عليهم فجاسوا خلال الديار وأحرقوا الهيكل وما فيه من الأسفار وسبوا بقية السيف منهم وأجلوهم عن وطنهم إلى أرض من استعبدهم فدانوا لشريعة غير شريعتهم. ولما أعادوهم إلى أوطانهم وكانوا قد فقدوا نصوص التوراة وحفظوا بعضها دون بعض- كتبوا ما حفظوا من شريعة الرب ممزوجا بما دانوا به من شريعة ملك بابل كما أمرهم كاهنهم عزرا (عزير) ثم هم بعد ذلك حرّفوا وبدلوا ولم يقيموها كما أمروا، والنصارى لم يحفظوا كل ما بلّغهم عيسى عليه السلام من العقائد والوصايا والأحكام القليلة الناسخة لبعض أحكام التوراة الشديدة، وذلك هو دين الله الحق. وكتب كثير منهم تواريخ أودعوا فيها ما عرفوه من ذلك ومن غيره، وجاءت المجامع الرسمية بعد ثلاثة قرون فاعتمدت أربعة أناجيل من نحو نيّف وسبعين إنجيلا رفضتها وجعلتها غير قانونية. وإلى ما تقدم فى أهل الملتين الإشارة بقوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ،

وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» . من هذا النص يعلم أن كلا من اليهود والنصارى نسى حظا مما ذكرهم به نبيهم، ولم يعملوا بالبعض الآخر، فأكثر عباداتهم من وضع أحبارهم. ولقب- أهل الكتاب- والذين أوتوا الكتاب- وإن كان عاما- خص به اليهود والنصارى، لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين لديها كما قال تعالى مخاطبا مشركى العرب «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ» . (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) أي قاتلوا من ذكروا حين وجود ما يقتضى القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد منكم وسلامتكم كما فعل بكم الروم وكان ذلك سببا لغزوة تبوك- إلى أن تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية بشرط أن تكون صادرة عن يد أي من قدرة واسعة فلا يظلموا ولا يرهقوا، وأن يخضعوا لسيادتكم وحكمكم، وبذا يسهل السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يشاهدون من عدلكم وفضائلكم التي يرونها رأى العين. فإن أسلموا عمّ الهدى والعدل، وإن لم يسلموا وأعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم وإعطاؤهم حريتهم فى دينهم ومعاملتهم بالعدل والمساواة كالمسلمين «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» . ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون، ويسمّون حينئذ أهل الذمة، إذ كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله.

أما الذين يعقد بيننا وبينهم صلح بعهد وميثاق يعترف به الطرفان فيسمّون المعاهدين أو أهل العهد. وأول من سن الجزية كسرى أنو شروان، قال أبو حنيفة الدّينورى: إنه وظّف الجزية على أربع طبقات، وأسقطها عن أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتاب ومن كان فى خدمة الملك، ولم يلزم أحدا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين. وقد اقتدى به عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس ولم يكن هو بأول واضع لها. وهاك عهدا كتبه أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان: «هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة وعلينا المنعة. على أن عليكم من الجزاء فى كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه فى معونته عوضا عن جزائه، ولكم الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغيّر شىء من ذلك. شهد بذلك سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس» . وكتب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب قال: «هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين لأهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم فى سنة (أرسل لميدان القتال) وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك» . والجزية التي وضعها عمر على الفقراء من أهل الذمة اثنا عشر درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرون، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعون.

[سورة التوبة (9) : الآيات 30 إلى 33]

[سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) تفسير المفردات عزير: هو الذي يسميه أهل الكتاب عزرا، وينتهى نسبه إلى العازار بن هارون عليه السلام، ويضاهئون: أي يشابهون ويحاكون، وقاتلهم الله: جملة أصلها الدعاء ثم كثر استعمالها حتى قيلت على وجه التعجب فى الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء، والإفك: صرف الشيء عن وجهه، يقال أفك فلان أي صرف عقله عن إدراك الحقائق، ورجل مأفوك العقل، والأحبار واحدهم حبر (بالفتح والكسر) وهو العالم من أهل الكتاب، والرهبان: واحدهم راهب، وهو لغة الخائف، وعند النصارى هو المتبتل المنقطع للعبادة، والإرادة: القصد إلى الشيء، وقد تطلق على ما يفضى إليه وإن لم يرده فاعله فيقال فى الرجل المسرف المبذّر: يريد أن يخرب بيته أي أن تبذيره يفضى إلى ذلك فكأنه يقصده، لأن فعله فعل من يقصد ذلك، ونور الله: هو دين الإسلام، وأظهره على الشيء: جعله فوقه مستعليا عليه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح- قفّى على ذلك بشرح ذلك المجمل فى هذه الآيات، فنقل عنهم أنهم أثبتوا

الإيضاح

لله ابنا، وهذا بمنزلة الشرك بالله فإن طرق الشرك مختلفة، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا يحرّمون ويحللون، وأنهم يسعون فى إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله وصحة دينه. الإيضاح (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) عزير كاهن يهودى وكاتب شهير سكن بابل حوالى سنة 457 ق م أسس المجمع الكبير وجمع أسفار الكتاب المقدس وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا من العبرانية القديمة، وألف أسفار الأيام، وعزرا، ونحميا وعلى الجملة فعصره هو ربيع الدين اليهودي، وهو جدير أن يكون ناشر الشريعة اليهودية، فقد أحياها بعد أن نسيت، ومن أجل هذا فاليهود يقدّسونه حتى إن بعض يهود المدينة أطلق عليه لقب (ابن الله) . وإسناد هذا القول إليهم جملة وإن كان قد صدر من بعضهم- مبنى على أن الأمة تعدّ متكافلة فى شئونها العامة، فما يفعله بعض الفرق أو الجماعات يكون له تأثير فى جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه يؤاخذون به كلهم كما قال تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» . وما مثل ذلك إلا مثل الأوبئة التي تحدث فى الشعب بكثرة الأقذار وإهمال مراعاة القواعد الصحية- لا يعدى بها من تلبس بها فحسب، بل تنتشر العدوى فى الشّعب جميعه. روى ابن إسحاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس ابن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟ والمشهور عند المؤرخين حتى مؤرخى أهل الكتاب أن التوراة التي كتبها

موسى عليه السلام ووضعها فى تابوت العهد أو بجانبه قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام، فانه لما فتح التابوت فى عهده لم يوجد فيه غير اللوحين الذين كتبت فيهما الوصايا العشر كما جاء فى سفر الملوك الأول، وأن عزرا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية ممزوجة ببقايا اللغة العبرانية التي نسى اليهود معظمها، ويقول أهل الكتاب إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله. وخلاصة ما سلف- إن جميع أهل الكتاب يدينون لعزير فى مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم، وإن كان هذا المستند ضعيفا، فقد جاء فى ترجمة عزرا من دائرة المعارف البريطانية: إنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فحسب، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت وأعاد سبعين سفرا غير قانونية (أبو كريف) ثم قال كاتب الترجمة: وإذا كانت هذه الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم ولم يستندوا فى شىء منها إلى كتاب آخر، فكتّاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقا اه. (وقالت النصارى المسيح ابن الله) وهذا قول للقدماء منهم كانوا يريدون به المحبوب أو المكرّم، ثم سرت إليهم وثنية الهنود فاتفقت كلمتهم على أنه ابن الله حقيقة وعلى أن ابن الله بمعنى (الله) وبمعنى (روح القدس) إذ هذه الثلاثة عندهم واحد حقيقة، وهذا تعليم الكنائس الذي قررته المجامع الرسمية بعد المسيح وتلاميذه بثلاثة قرون- وقد خالف فى ذلك خلق كثير منهم يسمّون الموحدين أو العقليين، ولكن الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستنتية لا تعتدّ بنصرانيتهم ولا بدينهم. وكلمة (ثالوث) تطلق عندهم على وجود أقانيم ثلاثة معا فى اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس، وهذا هو تعليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية والبروتستانتية وهو المطابق لنصوص الكتاب المقدس.

وعقيدة التثليث وألوهية المسيح مع مخالفتهما للعقل ليس لهما أصل فى كتب الأنبياء لا قطعى ولا ظنى، وكتب العهد الجديد كذلك ليست نصا فيهما على أن هذه لا يوثق بها، فإن النصارى قد أضاعوا أكثر ما كتب من إنجيل المسيح فى عصره، ثم رفضت مجامعهم الرسمية بعد دخول التعاليم الوثنية فيهم من قبل الرومانيين أكثر ما وجد عندهم من الأناجيل التي كانت تعد بالعشرات واعتمدت أربعا منها فحسب، وهذا مصداق قوله تعالى «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» . (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي هذا الذي قالوه فى عزير والمسيح قول تلوكه الألسنة فى الأفواه، لا يؤيده برهان ولا يتجاوز حركة اللسان، بل البرهان دالّ على عكسه لاستحالة إثبات الولد لمن هو برىء عن الحاجة واتخاذ الصاحبة. وفى معنى الآية قوله: «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» . (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي يشابهون فيها قول الذين كفروا من قبلهم وهم مشركو العرب الذين قالوا مثل هذا القول، إذ قالوا: الملائكة بنات الله. وقد علم من تاريخ قدماء الوثنيين فى الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة والبوذيين فى الهند والصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومانيين، فبيان القرآن الكريم لهذه الحقيقة التي لم يكن أحد من العرب ولا ممن حولهم يعرفها- بل لم تظهر إلا فى هذا الزمان- معجزة من معجزاته الكثيرة التي تظهر على مر الزمان، وتصدّقها المشاهدة والعيان. (قاتَلَهُمُ اللَّهُ) تعجب من شناعة قولهم، وقد شاع استعمالها فى ذلك، وتستعمل فى المدح أيضا فيقال: قاتله الله ما أفصحه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن المراد لعنهم الله. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي كيف يصرفون توحيد الله وتنزيهه، وبه تجزم

العقول، وبلّغه عن الله كل رسول- إلى قول لا يقبله عقل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان من مخلوقات الله الذي خلق هذا الكون العظيم ودبّر أمره، ولا ينبغى لواحد من هذه المخلوقات أن يجعل لخالقه ومدبر شئونه ولدا من جنسه، مع علمه بأنه كان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» . ثم فصل قوله قبل يضاهئون قول الذين كفروا من قبل بقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أربابا، فاليهود اتخذوا أحبارهم وهم علماء الدين أربابا بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وإطاعتهم فيه، والنصارى اتخذوا قساوستهم ورهبانهم: أي عبادّهم الذين يخضع لهم العوام أربابا كذلك. والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين، فاتخاذهم أربابا يقتضى بالأولى أن يتخذوا من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطاركة، إذ الرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء مدونا كان أو غير مدون، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان ولو غير مدون، سواء قالوه تبعا لمن فوقهم أو من تلقاء أنفسهم لثقتهم بدينهم. وانفرد النصارى باتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه، ومنهم من يعبد أمه عبادة حقيقية ويصرحون بذلك، وجميع الكاثوليك والأرثوذكس يعبدون تلاميذه ورسله وغيرهم من القديسين فى عرفهم، ويتوسلون بهم، ويتخذون لهم الصور والتماثيل فى كنائسهم، ولكنهم لا يسمون هذا عبادة. واليهود لم يقتصروا فى دينهم على أحكام التوراة، بل أضافوا إليها من الشرائع ما سمعوه من رؤسائهم من قبل أن يدوّنوه فى المشنة والتّلمود، ثم دونوه فكان هو الشرع العام وعليه العمل عندهم. والنصارى غيّر رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية واستبدلوا بها شرائع أخرى فى العبادات والمعاملات جميعا، وزادوا حق مغفرة الذنوب لمن شاءوا

وحرمان من شاءوا من رحمة الله وملكوته، والله يقول: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟» وزادوا القول بعصمة البابا في تفسير الكتب الإلهية، ووجوب طاعته فى كل ما يأمر به من الطاعات، وينهى عنه من المحرمات. روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدىّ بن حاتم رضى الله عنه أنه لما بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فرّ إلى الشام وكان قد تنصر فى الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم منّ رسول الله عليها وأعطاها فرجعت إلى أخيها ورغبته فى الإسلام وفى القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدى المدينة وكان رئيسا فى قومه طىء (وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم) فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال: (بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلّوا الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عدىّ ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ما يضرك؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله، فهل تعلم إلها غير الله؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون. (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي اتخذوا رؤساءهم أربابا من دون الله، والربوبية تستلزم الألوهية، إذ الرب هو الذي يجب أن يعبد وحده، والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى ومن اتبعهما فيما جاءا به من عند الله، إلا أن يعبدوا ويطيعوا فى الدين إلها واحدا بما شرعه لهم وهو ربهم ورب كل شىء ومليكه. ثم علل الأمر بعبادة إله واحد فقال: (لا إله إلا هو) أي لا إله غيره فى حكم الشرع وفى نظر العقل، وإنما اتخذ المشركون آلهة من دونه بالرأى والهوى جهلا بصفات الألوهية، إذ ظنوا أن لبعض

المخلوقات سلطانا غيبيا وقدرة على الضر والنفع من غير طريق الأسباب للمسخرة للخلق مثل مالله إما بالذات وإما بالوساطة والشفاعة لديه. (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها له عن شركهم فى ألوهيته بدعاء غيره معه أو من دونه، وفى ربوبيته بطاعة الرؤساء فى التشريع الديني بدون إذنه. وأمره تعالى بعبادته وحده على لسان موسى عليه السلام جاء فى مواضع من التوراة، منها أول الوصايا العشر التي جاءت فى سفر الخروج (أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك آلهة أخرى أمامى، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورا مما فى السماء من فوق ولا مما فى الأرض من تحت، ولا مما فى الماء تحت الأرض، لا تسجد لهن، ولا تعبدهن، لأنى أنا الرب إلهك له غيور) إلخ. وأمره بعبادته على لسان عيسى كثير أيضا، من ذلك ما رواه يوحنا فى إنجيله (وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) . (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله وهو دين الإسلام الذي أرسل به جميع رسله، وأفاضه على البشر بما أوحاه على موسى وعيسى وغيرهما من رسله، وأتمه وأكمله ببعثه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم- بالطعن فى الإسلام والصد عنه بالباطل بمثل تلك الأقوال فى عزير والمسيح، وبما ابتدعه لهم الرؤساء من التشريع حتى صار التوحيد الذي به هو محض الشرك عندهم، وصار المربوب ربا على تفاوت بين فرقهم فى ذلك. وهكذا عادى أهل الكتاب الإسلام منذ البعثة المحمدية، وقصدوا إبطاله والقضاء عليه بالحرب والقتال ناحية، وبالطعن وإفساد العقائد من ناحية أخرى، وكل من الأمرين أرادوه لإطفاء نوره. (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ببعثة محمد خاتم النبيين الذي أرسله إلى الخلق أجمعين

وجعل آيته الكبرى وهى القرآن علمية عقلية وكفل حفظها إلى آخر الزمان، وبين لهم فيه ما يحتاجون إليه من عقائد يؤيدها البرهان، وتبطل بها عبادة الإنسان للإنسان، فضلا عن الأصنام الأوثان، وعبادات تتزكى بها النفس وتطهر من كل رجس، وتجعل كفاية الأغنياء للفقراء حقوقا إلهية ويبطل ثوابها المنّ والأذى، وآداب تطبع فى الأنفس الفضائل، وتشريع يجمع بين الرحمة والعدل والمساواة بين جميع الناس فى الحق. وخلاصة ما سلف- إنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده وركنه الركين، وأساسه المتين توحيد الربوبية والألوهية، فتحوّلوا عنه إلى الشرك والوثنية، والله لا يريد إلا أن يتم هذا النور الذي هو كنور القمر فيجعله بدرا كاملا يعم نوره الأرض كلها. (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ذلك بعد تمامه كما كانوا يكرهونه من قبل حين بدء ظهوره، فهم يكيدون له ويفترون عليه ويطعنون فيه، وفيمن جاء به ويحاولون إخفاءه. أما اليهود فكانوا فى أول الإسلام أشد الناس عداوة لأهله، فهم فى ذلك كمشركى العرب سواء. ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم قصدوا إطفاء نوره ببثّ البدع فيه وتفريق كلمة أهله كما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيّع لعلى كرم الله وجهه والغلوّ فى ذلك وإلقاء الشقاق بين المسلمين، ثم فى الفتنة بين علىّ ومعاوية، ولولا ذلك لما قتل أولئك الألوف من صناديد المسلمين، ثم ما كان من منافقيهم من الإسرائيليات الكاذبة التي لا تزال مبثوثة فى تضاعيف كتب التفسير والحديث والتاريخ. وأما النصارى فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم، وأكرم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم، ومنعهم من تعدى المشركين عليهم، ثم انقلب الأمر بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب، فتودد اليهود للمسلمين لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستعبادهم، وصار نصارى أوربة المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين

يقاتلون المسلمين ويعادونهم دون نصارى هذه البلاد، لأنهم رأوا من عدل المسلمين ما فضّلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم- إلى أن جاءت الحروب الصليبية فغلا نصارى أوربا فى عداوة المسلمين ولا يزال الأمر كذلك فى هذا العصر كما هو العصر كما هو مشاهد معروف. ثم بين إتمام نوره فقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) أي إنه تعالى كفل إتمام هذا النور بإرسال رسوله الأكمل بالهدى والدين الحق الذي لا يغيّره دين آخر ولا يبطله شىء آخر. ثم ذكر الغاية من إرسال محمد خاتم النبيين بدين الحق فقال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعلى هذا الدين ويرفع شأنه على جميع الأديان بالحجة والبرهان، والهداية والعرفان، والسيادة والسلطان، ولم يكن لدين من الأديان مثل ما للإسلام من التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعى والسياسى. روى أحمد عن عدى بن حاتم رضى الله عنه قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عدى أسلم تسلم، قلت إنى من أهل دين، قال أنا أعلم بدينك منك، فقلت أنت أعلم بديني منى؟ قال نعم. ألست من الرّكوسية (دين بين الصابئة والنصرانية) وأنت تأكل مرباع قومك (والمرباع ما كان يأخذه رئيس القوم من الغنائم وهو من عادات الجاهلية) قلت بلى (قال فإن هذا لا يحل لك فى دينك) قال فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إنى أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام؟ تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت لم أرها ولكن سمعت بها. قال فوالذى نفسى بيده ليتمّن الله هذا الدين حتى تخرج الظّعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى ابن هرمز. قلت كسرى بن هرمز؟ قال نعم كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد» .

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 إلى 35]

قال عدىّ: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسى بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ذلك الإظهار، وقد وصفهم بالشرك بعد أن وصفهم بالكفر للدلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرسول وتكذيبه، والشرك بالله. وفى الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه وإظهاره جميع الأديان سيكون بالرغم من جميع الكفار المشركين منهم وغير المشركين. [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) تفسير المفردات أكل الأموال: يراد به أخذها والتصرف فيها بسائر وجوه الانتفاع، والصد: المنع، وسبيل الله. هى طريق معرفته الصحيحة وعبادته القويمة، وأساس ذلك التوحيد والتنزيه، والكنز هنا: خزن الدنانير والدراهم فى الصناديق، أو دفنها فى التراب مع الامتناع عن الإنفاق فيما شرعه الله من البر والخير، ويحمى عليها: أي تضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه فى الآيات السالفة أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا فعبدوا غيره من دونه- قفّى على ذلك بذكر سيرة جمهرة هؤلاء الرؤساء الدينيين فى معاملاتهم مع الناس، ليعرف المسلمون حقيقة أحوالهم والدواعي التي تحملهم على إطفاء نور الله، ببيان أن أكثرهم عباد شهوات وأرباب أهواء وذوو أطماع وحرص على أموال الناس بالباطل، وأنه ما حملهم على مقاومة الإسلام إلا خوف ضياع تلك اللذات، وفوات تلك الشهوات. ثم أوعد الباخلين الذين يكنزون الذهب والفضة فى صناديقهم ولا ينفقونها فى سبل البر والخير- بالعذاب الأليم فى نار جهنم يوم يحمى على تلك الأموال المكنوزة فتصير كالنار التهابا ثم تكوى بها الجباه والجنوب والظهور ويقال لهم: هذا جزاء صنيعكم فى الدنيا، صنعتموه البائس الفقير لتتمتعوا به فكان جزاؤكم أن صار وبالا عليكم وميسما تكتوون به على جنوبكم وظهوركم فلم تنتفعوا به فى دين ولا دنيا. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي إن كثيرا من الأحبار والرهبان أشربت قلوبهم حبّ المال والجاه، فمن أجل حب الأول أكلوا أموال الناس بالباطل، ومن أجل حب الثاني صدوا عن سبيل الله، فإنهم لو أقروا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة دينه لزمهم أن يتابعوه فيبطل حكمهم وتزول حرمتهم، ومن ثم كانوا يبالغون فى المنع من متابعته وصد الناس عنه. وأكل الأموال بالباطل: أخذها بغير حق شرعى ويقع ذلك على صور مختلفة منها:

(1) أخذها رشوة لأجل الحكم أو المساعدة على إبطال حق أو إحقاق باطل، ويقوم به صاحب السلطة الدينية أو المدنية، رسمية كانت أو غير رسمية. (2) أخذها بالربا وهو فاش عند اليهود، ومنه ما يحلّه رجال الدين، وإن كانوا يحرمونه فى الفتوى وكتب التشريع، وأحبارهم يفتونهم بأكل الربا من غير الإسرائيليين ويأكلونه معهم مستحلين له بنص توراتهم المحرفة بدلا من نهيهم عنه وهو (لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا شىء مما يقرض بربا، للأجنبى تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرضه بربا، لكى يباركك الرب إلهك فى كل ما تمتد إليه يدك فى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها) . وكذلك عند النصارى، وقد وضع لهم الأساقفة أحكاما للربا والقروض فيما يسمونه اللاهوت الأدبى، فأباحوا فيه بعض الربا دون بعض. (3) أخذ سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم- هدايا ونذورا، والوقف على الدير أو الكنيسة قربة عندهم كالوقف على المسجد عندنا، فأخذ المال وإعطاؤه لبناء المعابد مشروع فى كل دين، لكن البدعة الوثنية أن يوضع فى المعبد قبر أو صورة أو تمثال فيه صاحبه مع الله تارة ومن دونه أخرى، وينذر له وحده حينا ومع الله آخر، فهذه بدع تتبرأ منها أديان الأنبياء جميعا، والنفقة فيها من الباطل، وآكلوها من رؤساء الدين وسدنة المعابد من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل. (4) بذلها لمن يعتقدون فيهم الصلاح والزهد فى الدنيا ليدعوا لهم ويشفعون عند الله فى قضاء حاجاتهم وشفاء مرضاهم، اعتقادا منهم أن الله يستجيب دعاءهم ولا يردّ شفاعنهم، أو لظنهم أن الله قد أعطاهم تصرفا فى الكون يقضون به الحاجات من دفع الضر عمن شاءوا وجلب الخير لمن أحبوا، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون الضالون وقالوا إنها لا تنافى التوحيد الذي جاء به الرسل.

(5) أخذها جعلا على مغفرة الذنوب، ويتوسلون إلى ذلك بما يسمونه سر الاعتراف، فيأتى الرجل أو المرأة لدى القسيس أو الراهب الذي يأذن له الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب، فيخلو به أو بها فيقص عليه الخاطئ ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها لأجل أن يغفرها له، وهم يعتقدون أن ما يغفره هؤلاء يغفره الله. وهذا الجعل يتفاوت ثروة المشترين من الملوك والأمراء وكبار الأغنياء فمن دونهم، ويعطون بالمغفرة صكوكا يحملونها ليلقوا بها الله تعالى. وتلك الطقوس خاصة بالأرثوذكس والكاثوليك، وكانت هذه من الأسباب التي أدت إلى الانقلاب الكبير الذي يسمونه الإصلاح (البر وتستانت) إذ ترتب على هذه العقيدة فساد كبير فى استباحة الفواحش والمعاصي، وقد كان الاعتراف أولا بلا ثمن، ولكن رجال الدين جعلوه وسيلة لسلب الأموال والغنى بغير وجه صحيح. (6) أخذهم للأموال على فتاوى لتحليل الحرام وتحريم الحلال إرضاء لشهوات الملوك وكبار الأغنياء، أو الانتقام من أعدائهم، أو بظلم رعاياهم، فهم يعملون ضروبا من الحيل والتأويلات يصورون بها الوقائع بغير صورها ومن ثم خاطب الله أحبار اليهود خطاب احتجاج وتوبيخ بقوله: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ» . (7) أخذها من أموال مخالفيهم فى الجنس أو الدين خيانة وسرقة ونحو ذلك كما قال تعالى: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .

وفى سرد ما خالف اليهود فيه الحق وادعوا أنه مشروع لهم يقول البوصيرى: وبأن أموال الطوائف حللّت ... لهم ربا وخيانة وغلوّا وصدهم عن سبيل الله هو منعهم الناس عن معرفة الله معرفة صحيحة، وعبادته على الوجه الذي يرضيه، ولا عجب فهم مشركون غير موحدين كما علمت مما سلف، فهم لا يعبدون الله بما شرعه الله، بل بما شرعه البشر، واليهود قد كفروا بالمسيح وهو المصلح الأكبر فى شريعتهم، والنصارى يعبدون المسيح وأمه والقديسين، وجلّ عبادتهم من صلاة وصيام لم تكن فى عهد المسيح. ومن أنكى طرقهم فى الصد الطعن فى النبي الأعظم والكتاب الكريم، وإفسادهم عقائد النشء فى المدارس التي يتعلمون فيها، ولا يخفى ما لذلك من سوء الأثر فى الدين والأخلاق والاجتماع. (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي وكل من يكنز الذهب والفضة، ولا يخرج منهما الحقوق الواجبة، سواء أكان من الأحبار والرهبان أم كان من المسلمين، ويؤيد هذا أن يزيد بن وهب قال: مررت بأبى ذر بالرّبذة (موضع بين مكة والمدينة) فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد، فقال: كنت بالشام فقرأت: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) فقال معاوية هذه الآية نزلت فى أهل الكتاب، فقلت إنها فينا وفيهم، فصار ذلك سببا للوحشة بينى وبينه، فكتب إلىّ عثمان أن أقبل إلىّ، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عنى كأنهم لم يرونى من قبل، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لى تنحّ قريبا، فقلت إنى والله لن أدع ما كنت أقول. ومعنى قوله: ولا ينفقونها فى سبيل الله أي ولا يؤدون ركاتها، فقد أخرج مالك والشافعي عن ابن عمر قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا. وأخرج ابن عدى والخطيب عن جابر رضى

الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أىّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز» وأخرج ابن أبى شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: «لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا ألا يبقى لولده ما لا بعده، فقال عمر: أنا أفرّج عنكم فانطلق وتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبىّ الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم، فكبّر عمر رضى الله عنه، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها الرجل سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته» . (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) أي أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم فى ذلك اليوم الذي يحمى فيه على تلك الأموال المكنوزة فى نار جهنم، أي بأن توضع وتضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها. وفى الآية إيماء إلى أنه يحمى عليها بأعيانها، والله قادر على إعادتها، وأمور الآخرة من عالم الغيب فلا ندرك كنهها ولا صفتها، فنفوض الأمر فيها إلى عالم الغيب وعلينا الاعتبار بما فيها من إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق. روى مسلم عن أبى هريرة مرفوعا «ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره» وروى عنه «من آتاه الله ما لا فلم يؤدّ زكاته مثل له شجاع (ذكر الحيات) أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه (العظمان الناتئان تحت الأذنين) يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا صلى الله عليه وسلم (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) » . (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) وخصت هذه الأعضاء دون بقية الجسد، لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس وأساريرهم منبسطة غبطة لعظم الثروة، ويستقبلون

الفقراء، ووجوههم منقبضة من العبوس، لينفروا ويحجموا عن السؤال ولأن الجنوب والظهور كانوا يتقلبون بها على سرر النعمة اضطجاعا واستلقاء ويعرضون بها عن لقاء المساكين وطلاب الحاجات، فلا يكون لهم فى جهنم استراحة فيما سوى الوقوف إلا بالانكباب على الوجوه كما قال: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» . (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي تقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم: هذا ما كنزتم لمنفعة أنفسكم فكان سبب مضرتها وتعذيبها، أو هذا الميسم الذي تكوون به هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم لتنفردوا بالتمتع به. (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي فذوقوا وبال كنزكم له وإمساككم إياه عن النفقة فى سبيل الله. وخلاصة هذا- إن ما كنتم تظنونه من منفعة كنزه لأنفسكم لا يشارككم فيها أحد، قد كان لكم ضرا وعليكم ضدا، فقد صار فى الدنيا لغيركم، وعذابه فى الآخرة لأحقابكم. وإن من أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي نراه فى المسلمين عامة حتى تمكن أعداؤهم من سلب ملكهم ويحاولون صدهم عن دينهم- بخل أغنيائهم، إذ لو وجهوا همهم لإنشاء المدارس والمصانع والمعامل لتعليم النشء والعلوم الدينية والدنيوية من فنون الحرب وصنع الأسلحة لأمكنهم أن يخرجوا للأمة رجالا يحفظون الدين والملك ويعيدون إليها مجدها الزائل، ويجذبون المعتدين عليها إلى الإسلام ويدخلونهم فيه أفواجا أفواجا.

[سورة التوبة (9) : الآيات 36 إلى 37]

[سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) تفسير المفردات الشهور: واحدها شهر، وهو اسم للهلال سميت به الأيام، والكتاب: هو اللوح المحفوظ كما قال تعالى «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» والحرم: واحدها حرام، من الحرمة بمعنى التعظيم، والدين: الشرع، والقيم: أي الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه، وكافة: أي جميعا، والنسيء من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة: إذا أخره، أي الشهر الذي أنسئ تحريمه: أي أخر عن موضعه. المعنى الجملي هذه الآيات عود على بدء إلى الكلام فى أحوال المشركين، وقد كان الكلام فى قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية- من قبيل الاستطراد اقتضاه ما قبله، وهو حكم قتال المشركين ومعاملتهم. الإيضاح (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي إن مبلغ عدة الشهور اثنا عشر شهرا فيما كتبه الله وأثبته من نظام سير القمر وتقديره منازل منذ خلق السموات والأرض على هذا الوضع المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن.

والمراد بقوله: يوم خلق السموات والأرض، الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه ونهايته فى جملته وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله وخلق كل منهما وما فيهما. وقوله: فى كتاب الله، أي فى نظام الخلق والتقدير والسنن الإلهية فيه، أو فى حكمه التشريعي كحرمة الأشهر الحرم، وكون الحج أشهرا معلومات، وكون ما يتعلق بالشهور من الفرائض والسنن: كالحج والصيام وعدة المطلقات والرضاع، فالمعتبر فيه الأشهر القمرية، ومن حكمة ذلك أنه يجعل الصيام والحج يدور فى جميع أجزاء السنة، ومنها ما يشقّ فيه أداؤهما، ومنها ما يسهل فيه ذلك. (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) أي منها أربعة فرض الله احترامها وحرّم فيها القتال على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولى والعملي وإن كانت قد أخلت بذلك أحيانا اتباعا لأهوائها، وهذه الأشهر منها ثلاثة متواليات، وهى ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، وواحد فرد وهو رجب. روى أحمد عن أبى بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فى حجة الوداع بمنى فى أوسط أيام التشريق قال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، ثم قال: ألا أىّ يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال أليس يوم النحر، قلنا بلى. ثم قال: أىّ شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، ثم قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا بلى، ثم قال: أىّ بلد هذا، قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا بلى قال فإن دماءكم وأموالكم- وأحسبه قال- وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلّغت؟ ألا فليبلّغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» .

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ما ذكر من عدة الشهور وتقسيمها إلى حرم وغيرها وعدد الحرم منها- هو الحق الذي يدان الله تعالى به دون النسيء. وقد يكون المعنى- ذلك هو الشرع الصحيح الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل فى الحج وغيره، وما يتعلق بالأشهر من الأحكام، وقد تمسكت العرب به وراثة منهما حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له بسوء على شدتهم فى أخذ الثأر وضراوتهم بسفك الدماء. (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي فلا تظلموا فى الأشهر الحرم أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظّمها وعظم حرمتها. وقد خصّ بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تقتضى ترك المحرمات فيها تنشيطا للنفوس على زيادة العناية بما يزكّيها ويطهرها، فقد جرت عادة الإنسان أن يسأم الاستمرار على حال واحدة تشق عليه، ومن ثم جعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة فى أدائها كالصلوات الخمس، وخصّ يوم الجمعة بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين تذكيرا وموعظة حسنة تقوّى فى المؤمن حب الخير والتعاون على البر والتقوى، وخص رمضان بوجوب صيامه فى كل سنة، وخص أياما معدودات من ذى الحجة بأداء مناسك الحج، وجعل ما قبلها وما بعدها من الأيام الحرم استعدادا للسفر لأداء النسك، وحرم مكة وما حولها فى جميع السنة لتأمين الحج والعمرة التي تؤدّى فى كل وقت، وحرم رجب فى وسط السنة لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه. (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي قاتلوهم جميعا وكونوا يدا واحدة على دفع عدوانهم وكفّ أذاهم كما يقاتلونكم كذلك، ذاك أنهم إنما يقاتلونكم لدينكم وإطفاء نوره لا للانتقام ولا للعصبية ولا لكسب المال كما هو دأبهم فى قتال قويّهم لضعيفهم، فأنتم حينئذ أجدر وأولى بالاتحاد لدفع العدوان وجعل كلمة الله هى العليا، وكلمة الشيطان هى السفلى، والله عزيز حكيم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بنصرهم ومعونتهم وتوفيقهم لما فيه خيرهم وصلاحهم، فمن يتق الظلم والعدوان فى الأرض وأسباب الفشل والخذلان فى القتال من تفرق الكلمة واختلاف الأهواء ومخالفة سنن الله فى الاجتماع- يكن الله معه، ومن كان الله معه فلا يغلبه أحد. (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ) المراد بالنسيء تأخير حرمة شهر إلى آخر. بيان هذا أن العرب ورثت من ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال فى الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه، ولما طال عليهم الأمد غيروا وبدلوا فى المناسك وفى تحريم الأشهر ولا سيما المحرم، إذ كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارة ثلاثة أشهر متواليات، فأحلوا شهر المحرم وأنسئوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة كما كانت، وفى ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم. وقد كان من عادتهم فى ذلك أن يقوم رجل من كنانة فى أيام منى حيث يجتمع الحجيج فيقول: أنا الذي لا يردّ لى قضاء، فيقولون صدقت، فأخّر عنا حرمة المحرم واجعلها فى صفر، فيحل لهم المحرم، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالا، ثم صاروا ينسئون غير المحرم ويسمون النسيء باسم الأصل، فتتغير أسماء الشهور كلها. وبذلك يعلم أن النسيء تشريع دينى ملتزم غيّروا به ملة إبراهيم اتباعا للهوى وسوء التأويل، ومن ثم سماه الله زيادة فى الكفر، أي إنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله زائد على شركهم بالله وكفرهم به، إذ حق التشريع له وحده، فمنازعته فى ذلك شرك فى ربوبيته، وهم يضلون به سائر الكفار الذين يتبعونهم فيه ويظنون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم، إذ واطئوا عدة ما حرم الله من الشهور فى ملته ولم يزيدوا ولم ينقصوا وإن قدموا وأخروا مع أن المقصد فى ذلك العدد والتخصيص لا مجرد العدد، وإذ لم يفعلوا ذلك فقد استحلوا ما حرم الله.

[سورة التوبة (9) : الآيات 38 إلى 40]

(زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي زين لهم الشيطان أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة، إذ اكتفوا بالعدد ولم ينقصوا منه شيئا ولم يدركوا حكمة التخصيص بالأشهر المعينة. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إلى الحكمة فى أحكام شرعه وجعلها مبنية على مصالح الناس فى دينهم ودنياهم أفرادا وجماعات، فالهداية الموصلة إلى سعادة الدارين من آثار الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ» . وأما الكافرون فيتبعون أهواءهم وما يوسوس لهم به الشيطان فيوقعهم فى الشقاء والخسران. [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 40] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) تفسير المفردات النفر والنفور: الفرار من الشيء أو الإقدام عليه بخفة ونشاط، يقال نفرت الدابة والغزال نفورا، ونفر الحجيج من عرفات نفرا، واستنفر الملك العسكر إلى القتال

المعنى الجملي

وأعلن النفير العام فنفروا خفافا وثقالا، والتثاقل: التباطؤ، وهو من الثقل المقتضى للبطء، والمتاع: ما يتمتع به من لذات الدنيا، والغار: النقب العظيم فى الجبل والمراد به هنا غار جبل ثور. والصاحب: هو أبو بكر رضى الله عنه، والسكينة: سكون النفس واطمئنانها وهو ضد الانزعاج والاضطراب، وكلمة الله: هى التوحيد، وكلمة الذين كفروا: هى الشرك والكفر. المعنى الجملي الكلام من هنا إلى آخر السورة كلام فى غزوة تبوك وما لا بسا من هتك ستر المنافقين وضعفاء الإيمان وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق، إلا آيتين جاءتا فى آخرها وإلا ما جاء فى أثنائها من بعض الحكم والأحكام جريا على سنة القرآن فى أسلوبه الذي اختص به. ومناسبة الآيات لما قبلها أن الكلام السابق كان فى حكم القتال مع اليهود وبيان حقيقة أحوالهم من خروجهم من هداية الدين فى العقائد والأعمال والفضائل التي تهذب النفوس وتزكيها، والكلام هنا فى غزوة تبوك والمراد بها قتال الروم وأتباعهم من عرب الشام وجميعهم نصارى، وبهذا استبان ارتباط الآيات بما قبلها. وتبوك موضع فى منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، فهى تبعد عن الأولى 610 ك وعن الثانية 692 ك وكان السبب فى هذه الغزوة ما بلغ المسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة- من أن الروم جمعت جموعا معهم لخم وجذام وغيرهم من متنصرة العرب حتى وصلت طلائعهم إلى البلقاء بإمرة قائد عظيم منهم يدعى قباذ وعدد جنده أربعون ألفا، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج لقتالهم وأعلمهم الجهة التي يغزونها. وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة، فقال: يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية (من الفضة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يضر

الإيضاح

عثمان ما عمل بعدها» ثم خرج لمقابلتهم، ولما لم يجد من يقاتله عاد ولم يهاجم شيئا من بلاد الشام، وكان ذلك فى رجب سنة تسع. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) ؟ الخطاب للمؤمنين فى جملتهم تربية لهم بما لعله وقع من منافقيهم وضعفائهم- أي يا أيها الذين آمنوا ما الذي عرض لكم مما يخل بالإيمان أو بكماله من التثاقل والتباطؤ عن النهوض بما طلب منكم، وإخلادكم إلى الراحة واللذة، حين قال لكم الرسول انفروا فى سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق الذي هو سبيل سعادتكم؟. فآية صدق الإيمان بذل النفس والمال فى سبيل الله كما قال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» . وكان من أسباب تثاقلهم أمور: (ا) إن الزمن كان وقت حر شديد. (ب) إنهم كانوا قريبى عهد بالرجوع من غزوتى الطائف وحنين. (ح) إنهم كانوا فى عسرة شديدة وجهد جهيد من قلة الطعام. (د) إن موسم الرطب بالمدينة قد تم صلاحه، وآن وقت تلطف الحر، لأن رجبا وافق أكتوبر فى تلك السنة. روى ابن جرير عن مجاهد قال: أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حنين وبعد الطائف، أمروا بالنفير فى الصيف حين اخترفت النخل (اجتنى ثمرها) وطابت الثمار واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج فقالوا منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره فى ذلك كله.

وكان من دأب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أن يورّى بغيرها لما تقتضيه المصلحة من الكتمان إلا فى هذه الغزوة فقد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر. وكانت حكمة الله فى إخراجهم- وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالا- تمحيص المؤمنين وخزى المنافقين وفضيحتهم فيما كانوا يسرّون من الكفر وتربص الدوائر بالمؤمنين. (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي أرضيتم بلذات الدنيا الناقصة الفانية بدلا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية؟ ومن يفعل ذلك فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) أي فما هذا الذي تتمتعون به فى الدنيا مشوبا بالمنغصات والآلام إذا قيس بما فى الآخرة من النعيم المقيم، والرضوان من المولى إلا شىء قليل لا يرضى عاقل أن يتقبله بدلا منه. روى أحمد ومسلم والترمذي عن المسور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله ما فى الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم ثم يرفعها، فلينظر بم يرجع» ؟ أي إن نعيم الدنيا فى قلته وقلة زمنه إذا قيس إلى نعيم الآخرة الطويل الأمد كانت تلك حاله. (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي إن لم تخرجوا إلى ما دعاكم الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج إليه- يعذبكم عذابا أليما فى الدنيا يهلككم به كقحط وغلبة عدو، ويستبدل بكم قوما غيركم يطيعونه ويطيعون رسله، لأنه قد وعد بنصره، وإظهار دينه على الدين كله (ولن يخلف الله وعده) . وقد جرت سنته بأن الأمم التي لا تدافع عن نفسها ولا تحمى ذمارها، لابقاء لها، وتكون طعاما للآكلين، وغذاء شهيا للمستعمرين.

(وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) أي ولا تضروا الله شيئا من الضرر فى تثاقلكم عن طاعته ونصرة دينه، فهو الغنى عنكم فى كل أمر، وهو القاهر فوق عباده، وكل من فى السموات والأرض مسخر بأمره، ولكن قد جعل للبشر شيئا من الاختيار ليكون حجة عليهم فيما سيلقون من الجزاء على أعمالهم. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي والله قادر على كل شىء، فهو يقدر على إهلاككم والإتيان بغيركم (إن أصررتم على عصيان رسوله وتثاقلتم عن الدفاع عن حوزة دينه) ممن يجاهدون فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ولا يخشون فى الحق لومة اللائمين كما قال: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» . ثم رغبهم ثانية فى الجهاد فأبان لهم أنه تعالى المتوكل بنصره- على أعداء دينه- أعانوه أو لم يعينوه وهو قد فعل ذلك به وهو فى قلة من العدد والعدو فى كثرة، فكيف وهو من العدد فى كثرة والعدو فى قلة فقال: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) أي إن لم تنصروا الرسول الذي استنصركم فى سبيل الله على من أرادوا قتاله من أعداء الله وأعداء رسوله- فسينصره الله بقدرته وتأييده، كما نصره حين أجمع المشركون على الفتك به واضطروه إلى الخروج والهجرة حال كونه أحد اثنين وثانيهما أبو بكر فى غار جبل ثور حين كان يقول لصاحبه إذ رأى منه أمارة الحزن: لا تخف ولا تحزن إن الله معنا بنصره ومعونته وحفظه وتأييده فلن يعلم بنا المشركون ولن يصلوا إلينا. روى البخاري ومسلم من حديث أنس قال: «حدثنى أبو بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فى الغار فرأيت آثار المشركين، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه، فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»

[سورة التوبة (9) : آية 41]

وخلاصة ذلك- إلا تنصروه بالنّفر لما استنفركم له، فإن الله قد ضمن له النصر فهو ينصره كما نصره فى الوقت الذي اضطره المشركون إلى الهجرة، حين كان ثانى اثنين فى الغار وكان صاحبه قد ساوره الحزن فقال له: لا تحزن إن الله معنا، ونحن لا نكلّف أكثر مما فعلنا من الاستخفاء. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أي فأنزل الله طمأنينته التي يسكن عندها القلب على رسوله وقوّاه بجنود من عنده وهم الملائكة الذين أنزلهم يوم بدر والأحزاب وأحد، وقيل بل هم ملائكة أيده بهم فى حال الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما، فقد خرج والشبان المتواطئون على قتله وقوف ولم ينظروه. (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا) أي وجعل كلمة الشرك والكفر هى السفلى، وكلمة الله وهى دينه المبنى على أساس توحيده تعالى والمشتمل على الأحكام والآداب الفاضلة، والخالي من شوائب الشرك وخرافات الوثنية- هى العليا بظهور نور الإسلام وإزالة سيادة المشركين فى تلك الجزيرة بعد كفاح طويل دارت فيه الدائرة عليهم: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا» . (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي والله غالب على أمره، حكيم إذ يضع الأشياء فى مواضعها وقد نصر رسوله بعزته وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته، وأذل من ناوأه من المشركين. [سورة التوبة (9) : آية 41] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن توعد من لم ينفروا مع الرسول وتثاقلوا حين استنفرهم- أتبعه بالأمر الجزم الذي لا هوادة فيه، فأوجب النفير العام على كل فرد، فلا عذر لأحد فى التخلف وترك الطاعة. الإيضاح (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا) الخفاف واحدها خفيف، والثقال واحدها ثقيل، وهما يكونان فى الأجسام وصفاتها من صحة ومرض ونحافة وسمن ونشاط وكسل، وشباب وكبر، ويكونان فى الأسباب والأحوال كالقلة والكثرة فى المال، ووجود الراحلة وعدم وجودها، ووجود الشواغل أو انتفائها. أي انفروا على كل حال من يسر أو عسر وصحة أو مرض وغنى أو فقر وقلة العيال أو كثرتهم أو غير ذلك مما ينتظم فى مساعدة الأسباب أو عدم مساعدتها بعد الإمكان والقدرة فى الجملة. فإذا أعلن النفير العام وجب الامتثال إلا حال العجز التام، وهو ما بينه الله تعالى فى قوله: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» . ويؤيد هذا التعميم فى عموم الأحوال قول أبى أيوب الأنصاري وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة: قال الله (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا) فلا أجدنى إلا خفيفا أو ثقيلا، وروى عن أبى راشد الحرّانى قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص- وقد فضل عنها من عظمه- يريد الغزو، فقلت قد أعذر الله إليك، فقال أبت علينا سورة البعوث (يريد براءة) انفروا خفافا وثقالا.

وقد فهم سلفنا الصالح القرآن على هدى النبي وعمله ففتحوا البلاد وسادوا العباد، لكن بعد أن انحرفوا عن هديه وتدبر معانيه واكتفوا بتلاوته والتغني بألفاظه ذلوا وضعفوا واستكانوا وسادتهم الشعوب الأخرى وتقوض ملكهم من أطرافه وأصبحوا من المستضعفين وصاروا عبيدا لأعدائهم. (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي وجاهدوا أعداءكم الذين يقاتلون فى سبيل الطاغوت ويفسدون فى الأرض، وابذلوا أموالكم وأنفسكم فى إقامة ميزان العدل وإعلاء كلمة الحق. فمن استطاع منكم الجهاد بماله ونفسه وجب عليه ذلك، ومن قدر على أحدهما وجب عليه ما كان فى مقدرته. وقد كان المسلمون فى الصدر الأول ينفقون على أنفسهم من أموالهم ويبذلونها لغيرهم إن استطاعوا كما فعل عثمان رضى الله عنه فى تجهيز جيش العسرة فى هذه الغزوة، وكما فعل غيره من ذوى اليسار من الصحابة. ولما أصبح فى بيت المال فضلة من المال بكثرة الغنائم صار الملوك والسلاطين يجهزون الجيوش من بيت المال، وكذلك تفعل الآن الدول المتمدينة، فتخصص جزءا من المال كل عام للنفقات الحربية من برية وبحرية، ويزداد هذا المال إذا دعت الحاجة إلى زيادته، بل قد يجعلون أموال الدولة كلها ومرافقها وقفا على المصالح الحربية، وقد كان المسلمون أحق منهم بذلك وأجدر. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ذلكم الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو الوسيلة فى حفظ كيان الأمم وعلو كلمتها- خير لكم فى دينكم ودنياكم أما فى الدين فلا سعادة إلا لمن ينصر الحق ويقيم العدل باتباع هدى الدين والعمل بالشرع الحكيم. وأما فى الدنيا فإنه لا عز للأمم ولا سيادة لها إلا بالقوة الحربية التي هى وسيلة لدفاع العدو وكبح جماحه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 42 إلى 43]

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون ذلك علما يبعث على العمل، فانفروا وجاهدوا، وقد علم فضل ذلك المؤمنون الصادقون فامتثلوا أمره واهتدوا بهديه. ولما أمرهم بالنفر تخلف بعض المنافقين لأعذار ضعيفة، وتخلف ناس آخرون من المؤمنين فأنزل الله فى أثناء السفر قوله: [سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 43] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) تفسير المفردات العرض: ما يعرض للمرء من منفعة ومتاع مما لا ثبات له ولا بقاء وليس فى الوصول إليه كبير عناء، ويقال سير قاصد وسفر قاصد: أي هين لا مشقة فيه من القصد وهو الاعتدال. والشقة: الطريق لا تقطع إلا بعناء ومشقة، والعفو: التجاوز عن التقصير وترك المؤاخذة عليه. المعنى الجملي بعد أن رغبهم سبحانه فى الجهاد فى سبيل الله، وبين أن فريقا منهم تباطئوا وتثاقلوا- قفى على ذلك ببيان أن فريقا منهم تخلفوا عنه مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية، ويستأذنونه صلى الله عليه وسلم فى القعود والتخلف ليأذن لهم.

الإيضاح

الإيضاح (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ) أي لو كان ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال ليس فى الوصول إليها كبير عناء، وسفرا هينا لا تعب فيه، لا تبعوك وأسرعوا بالنفر إليه، إذ حب المنافع المادية والرغبة فيها طبيعى فى الإنسان، ولا سيما إذ كانت سهلة المأخذ قريبة المنال وكان من يسعى إليها ممن لا يوقنون باليوم الآخر وما فيه من الثواب المقيم والأجر العظيم كأولئك المنافقين. (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد وكلفتهم سفرا شاقا، لأنك استنهضتهم وقت الحر وزمن القيظ، وحين الحاجة إلى الكنّ، فتخلفوا جبنا وحبّا للراحة والسلامة. (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي وسيحلفون لك عند رجوعك من غزوة تبوك كما قال: «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ» قائلين لو استطعنا الخروج إلى الجهاد وانتفت الأعذار المانعة منه لخرجنا معكم، فما كان تخلفنا إلا اضطرارا. (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي يهلكون أنفسهم بإيقاعهم فى العذاب بامتهان اسم الله بالحلف الكاذب لستر نفاقهم وإخفائه، تأييدا للباطل بالباطل، وتقوية للإجرام بالإجرام، روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» . (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فى حلفهم بالله وقولهم لو استطعنا لخرجنا معكم، فهم كانوا للخروج مطيقين، إذ كانوا أصحاء الأبدان أقوياء الأجسام ذوى يسرة فى المال. ثم عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم فى إذنه لمن تخلف عنه من المنافقين حين شخص إلى تبوك لغزو الروم فقال: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) أي عفا عنك ما أدى إليه اجتهادك من الإذن لهم حين استأذنوك وكذبوا عليك فى الاعتذار. (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟) أي لأى شىء أذنت لهم بالقعود والتخلف كما أرادوا، وهلا

[سورة التوبة (9) : الآيات 44 إلى 46]

تريثت فى الإذن لهم وتوقفت عنه حتى ينجلى أمرهم وينكشف حالهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) أي حتى يتبين لك الفريقان، فتعامل كلّا بما ينبغى أن يعامل به، فإن الكاذبين لا يخرجون، أذنت لهم أو لم تأذن، فكان من الأجدر بك أن تتلبّث فى الإذن أو تمسك عنه اختبارا لحالهم. روى عن مجاهد فى قوله (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟) هم ناس قالوا استأذنوا رسول الله، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. وعن قتادة فى قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لقد كانوا يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة فى الجهاد. [سورة التوبة (9) : الآيات 44 الى 46] لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) المعنى الجملي تقدم أن قلنا إن هذه السورة تسمى الفاضحة، لأنها فضحت أنواع النفاق وكشفت أحوال المنافقين، ومن ثم نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شئونهم بهذا التفصيل حتى نزلت. وهذه الآيات أول ما نزل فى التفرقة بين المنافقين والمؤمنين فى القتال.

الإيضاح

الإيضاح (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ليس من شأن المؤمنين بالله الذي كتب عليهم القتال، وباليوم الآخر الذي يوفى فيه كل عامل جزاء ما عمل، أن يستأذنوك أيها الرسول فى أمر الجهاد فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم إذا جدّ ما يدعو إلى ذلك، بل يقدمون عليه عند وجوبه من غير استئذان كما قال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» بل هم يستعدون له وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل. وهم بالأولى لا يستأذنوك فى التخلف عنه بعد إعلان النفر العام، وأقصى ما قد يقع من فريق منهم هو التثاقل والتباطؤ إذا كان النصر بعيدا. روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه فى سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنة يبتغى القتل والموت فى مظانّه إلخ» . والمراد أن خير أعمال الرجل أن يعدّ فرسه رباطا فى سبيل الله، كلما سمع صيحة لقتال، أو فزعة (أي دعوة للإغاثة) طار على فرسه يبتغى القتل والموت فى مظانه، أي المواضع التي يظن أنه يلقى القتل فيها. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي والله عليم بمن خافه فاتقاه باجتناب ما يسخطه وفعل ما يرضيه بالمسارعة إلى طاعته فى غزو عدوه وجهادهم بماله ونفسه، وليس من دأبهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهة للقتال. وفى الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى الاستئذان فى أداء شىء من الواجبات ولا فضائل العادات كقرى الضيف وإغاثة الملهوف وسائر أعمال المعروف. ثم صرح بما فهم من الكلام السابق زيادة فى التوكيد والتقرير فقال: (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي إنما يستأذنك فى التخلف عن الجهاد معك من غير عذر من

لا يصدّقون بالله ولا يقرّون بتوحيده ولا باليوم الآخر، فهؤلاء يرون بذل المال مغرما يفوّت عليهم بعض المنافع، وهم لا يرجون ثوابا عليه كما يرجو المؤمنون، ويرون الجهاد بالنفس آلاما ومتاعب، وقد وقع لهم الريب والشك فى الدين من قبل، فلم تطمئنّ به قلوبهم، ولم تذعن له نفوسهم، فهم متحيّرون فى أمرهم مذبذبون فى عملهم، يوافقون المؤمنين فيما يسهل أداؤه من عبادات الإسلام من صلاة وصيام، ويلتمسون الخلاص فيما يشق عليهم من تكاليفه، ويعتذرون بالمعاذير الكاذبة للهرب من القيام بشىء منها. وقد جاء فى بعض الروايات أن عدد هؤلاء كان تسعة وثلاثين رجلا. (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أي ولو صحت بيتهم للخروج لاستعدوا له وأخذوا الأهبة من زاد وراحلة ونحو ذلك مما يحتاج إليه المسافر لمثل هذا السفر البعيد وقد كانوا مستطيعين لذلك ولم يفعلوا. (وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) الانبعاث: توجيه الإنسان أو الحيوان إلى الشيء بقوة كبعث الرسل وبعث الموتى، والتثبيط: التعويق عن الأمر والمنع منه. أي كره الله نفرهم وخروجهم مع المؤمنين لما فيه من الضرر العائق لهم عما أحبه من نصرهم، فثبطهم بما أحدث فى قلوبهم من المخاوف التي هى مقتضى سننه من تأثير النفاق فيها، ومن ثم لم يعدّوا للخروج عدته، لأنهم لم يريدوه، وإنما أرادوا بالاستئذان ستر ما عزموا عليه من المخالفة والعصيان. (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بعبارة تدل على السخط لا على الرضا، أي اقعدوا مع الأطفال والزّمنى والعجزة والنساء وهم قد حملوه على ظاهره لموافقته لما يريدون.

[سورة التوبة (9) : الآيات 47 إلى 48]

[سورة التوبة (9) : الآيات 47 الى 48] لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) تفسير المفردات الخبال: الاضطراب فى الرأى والفساد فى العمل، كضعف القتال والخلل فى النظام، ويقال وضع الرجل إذا عدا مسرعا، وأوضع راحلته إذا حملها على الإسراع، وخلال الأشياء: ما يفصل بينها من فروج ونحوها، والفتنة: التشكيك فى الدين والتخويف من الأعداء، وسماعون لهم: أي ضعفاء العزيمة يسمعون قولهم، وتقليب الشيء: تصريفه فى كل وجه من وجوهه والنظر فى كل ناحية من أنحائه والمراد أنهم دبروا الحيل والمكايد ودوّروا الآراء فى كل وجه لإبطال دينك. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن استئذانهم فى التخلف عن القتال إنما كان سترا لنفاقهم وتغطية لعصيانهم- قفّى على ذلك ببيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم لو خرجوا وحصرها فى أمور ثلاثة: (1) الاضطراب فى الرأى وفساد النظام (2) تفريق الكلمة بالسعي فيما بينكم بالميمة. (3) إن فيكم ناسا من ضعفاء الإيمان يسمعون كلامهم ويقبلون قولهم.

الإيضاح

الإيضاح (1) (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا) أي لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون فى القعود معكم، ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما كما هو الشأن فى القوى المتحدة فى العقيدة والمصلحة، بل زادوكم اضطرابا فى الرأى وضعفا فى القتال ومفسدة للنظام، كما حدث مثل ذلك فى غزوة حنين، فقد ولّى المنافقون الأدبار فى أول المعركة وولى على إثرهم ضعفاء الإيمان من طلقاء فتح مكة، ومن ثم اضطرب نظام الجيش، فولّى أكثر المؤمنين معهم بلا تدبر ولا تفكير كما هو الشأن فى مثل هذه الأحوال. (2) (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي ولأسرعوا فى الدخول فيما بينكم سعيا فى النميمة وتفريق الكلمة، يبغون بذلك تثبيطكم عن القتال وتهويل أمر العدو وإيقاع الرعب فى قلوبكم. (3) (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي وفيكم ناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم يسمعون كلامهم، فإذا ألقوا إليهم شيئا مما يوجب ضعف العزائم قبلوه وفتروا بسببه عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغى. ووجه العتاب على الإذن فى قعودهم مع ما قص الله تعالى من المفاسد التي تترتب على خروجهم- أنهم لو قعدوا بغير إذن منه لظهر نفاقهم بين المسلمين بادىء ذى بدء، فلم يستطيعوا مخالطتهم ولا السعى فيما بينهم بالأراجيف وقالة السوء التي يقبح أثرها، وتسوء عاقبتها. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) علما يحيط بظواهرهم وبواطنهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر، وبما هم مستعدون له فى كل حال مما وقع ومما لم يقع، فأحكامه فيهم على علم تامّ لاظن فيه ولا اجتهاد كالجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم فى الإذن لهم، والذي تثبت هذه الآية أنه شر لا خير فيه وهو ضعف لا قوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم، فهذا من أخبار الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وهو لم يعلمه قبل نزول هذه الآيات.

[سورة التوبة (9) : الآيات 49 إلى 52]

وقد كان من حكمة الله فى تربية رسوله وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده فيها لتكون أوقع فى نفسه ونفس أتباعه فيحرصوا على العمل بها، ولا يحكموا أهواءهم فيها، وكذلك كان السلف الصالح يسيرون على نهجه، ويهتدون بهديه. (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ) أي ولقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة فى المسلمين وتفريق شملهم من قبل هذه الغزوة فى غزوة أحد حين اعتزلهم عبد الله بن أبىّ ابن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش فى موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد، وطفق يقول للناس: أطاع النبي الولدان ومن لا رأى له، فعلام نقتل أنفسنا؟، وكان من رأيه عدم الخروج إلى أحد فرجع بمن اتبعه من المنافقين، وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة فيرجعون ولكن عصمهما الله من الفتنة. وكان دأب المنافقين أن يدبروا له الحيل والمكايد ليبطلوا أمره، فكان لهم ضلع مع اليهود وضلع مع المشركين فى كل ما فعلا من عداوته وقتال المؤمنين- حتى جاء النصر الذي وعده ربه وظهر دين الله وعلا شرعه بالتنكيل باليهود الغادرين الناكثين للعهود، والنصر على المشركين بفتح مكة ودخول الناس فى الإسلام أفواجا وهم كارهون لذلك، حتى لقد كانوا يمنون أنفسهم بظهور المشركين على المؤمنين فى حنين وعودة الشرك إلى قوته. وفى الآيتين تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المنافقين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله، وفيه هتك أستارهم وإزاحة أعذارهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 49 الى 52] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

المعنى الجملي

المعنى الجملي هذه الآيات سيقت لبيان أقوال قالها المنافقون، بعضها قيلت جهرا، وبعضها أكنّوه فى أنفسهم، وأعذار سيعتذرون بها غير ما سبق منهم، وشئون أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب. الإيضاح (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) أي ومن المنافقين ناس يستأذنونك فى التخلف عن القتال حتى لا يفتتنوا بنساء الروم. روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لجد بن قيس «يا جدّ هل لك فى جلاد بنى الأصفر؟ قال جدّ، وكان من شيوخ المنافقين: أتأذن لى يا رسول الله فإنى رجل أحب النساء وإنى أخشى إن أنا رأيت نساء بنى الأصفر أن أفتتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنه (قد أذنت لك) فنزلت الآية» . وقد ردّ الله شبهته وشبهة من وافقه عليها بقوله: (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي فليعلموا أنهم بمقالتهم هذه سقطوا وتردّوا فى هاوية

الفتنة، حين اعتذروا بالمعاذير الكاذبة، من حيث يزعمون اتقاء التعرض للإثم بالنظر إلى جمال نساء الروم، وشغل القلب بمحاسنهن (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذّب رسله، جامعة لهم يوم القيامة، وكفى بها نكالا ووبالا. وهذا وعيد لهم على الفتنة التي تردّوا فيها، وبيان لأن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار، وإنما تحيط النار بمن أحاطت بهم خطاياهم حتى لا رجاء فى توبتهم منها كما قال تعالى «بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الحسنة ما يسرّ النفس حصوله من غنيمة ونصر ونحوهما: أي إن كل ما يسرك من النصر والغنيمة كما حدث يوم بدر- يورثهم كآبة وحزنا لفرط حسدهم وعداوتهم. (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) أي وإن تصبك شدة كانكسار جيش كما حدث يوم أحد- يقولوا معجبين بآرائهم حامدين ما صنعوا، قد تلافينا ما يهمنا من الأمر بالحذر والحزم كما هو دأبنا، إذ تخلفنا عن القتال ولم نلق بأيدينا إلى الهلاك، وينصرفوا عن الموضع الذي يقولون فيه هذا القول وهم فرحون فرح البطر والشماتة. روى ابن أبى حاتم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا فى المدينة يشيعون أخبار السوء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويقولون إنهم جهدوا فى سفرهم وهلكوا، فبلغهم بعد ذلك كذب خبرهم وعافية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فساءهم ذلك فأنزل الله (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الآية. (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا) أي قل أيها الرسول لأولئك المنافقين

الذين يفرحون بمصابك وتسوءهم نعمتك: لن يصيبنا إلا ما خطّ لنا وكتب فى اللوح المحفوظ بحسب سننه تعالى فى خلقه من نصر وغنيمة أو تمحيص وشهادة، ولا يتغير ذلك بموافقتكم أو مخالفتكم، فالأمور كلها بقضائه تعالى. (هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي هو ناصرنا ومتولى أمورنا بتوفيقنا ونصرنا، ونحن نلجأ إليه ونتوكل عليه، فلا نيأس عند شدة، ولا نبطر عند نعمة، كما قال سبحانه فى بيان سننه تعالى فى خلقه (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) . ومن حق المتوكل على الله وحده أن يقوم بما أوجبه عليه فى شرعه، ويهتدى بسننه فى خلقه، من الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية كإعداد العدّة واتقاء التنازع الذي يولّد الفشل ويفرّق الكلمة، ثم بعد ذلك يكل الأمر إليه فيما لا تصل إليه الأيدى من الأسباب ويتوقف عليه حصول النجاح. ويقابل التوكل بهذا المعنى اتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها، حتى إذا أدركهم العجز خانهم الصبر وأدركهم اليأس حين حلول البأس، واتكال ذوى الأوهام الذين يتعلقون بالأمانى والأحلام، حتى إذا ما استبان لهم فساد أوهامهم نكصوا على أعقابهم وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين، وهو إنما وعد أولياءه لا أولياء الشيطان، وذوى الخرافات والأوهام. (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا، فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أي قل لهم: أيها الجاهلون، هل تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين النصر أو الشهادة، ونحن نتربص بكم إحدى السّوءيين أن يصيبكم ربكم بقارعة سماوية لا كسب لنا فيها، كما فعل بالأمم المكذّبة لرسلها، أو أن يأذن لنا بقتالكم إن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم، فتربصوا

[سورة التوبة (9) : الآيات 53 إلى 55]

بنا إنا معكم متربصون من عاقبتنا وعاقبتكم إن أصررتم على كفركم وظهر أمركم، فنحن على بينة من ربنا ولا بينة لكم، فإذا لقى كل منا ومنكم ما يتربصه، لا نشاهد إلا ما يسوءكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا. والدين لا يأمر بقتل المنافق ما دام يظهر الإسلام ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة. [سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 55] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة، وتعللاتهم الباطلة فى التخلف عن القتال، وذكر ما يجول فى نفوسهم من كراهتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر- قفى على ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد فى هذه الحال طوعا أو كرها لن يتقبلها الله ولا ثواب لهم عليها، لما يبطنونه فى صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر الله، فهم إن فعلوا شيئا من أركان الدين فإنما يفعلونه رئاء الناس وخوفا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها، وأن أموالهم الكثيرة إنما هى عذاب لهم فى الدنيا والآخرة. الإيضاح (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين: أنفقوا من أموالكم ما شئتم فى الجهاد أو فى غيره من

النفقات التي أمر الله بها وحث فى شرعه عليها حال الطوع تقية وحفظا للنفس، وكرها وخوفا من العقوبة، فمهما أنفقتم فلن يتقبّل منكم ما دمتم فى شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال فى الآخرة، لأنكم قوم فاسقون أي خارجون من دائرة الإيمان، والله إنما يتقبل من المؤمنين. (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) أي وما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق، وكفرهم برسالة رسوله وما جاء به من الهدى والبينات. (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي ولا يصلون إلا رياء وتقيّة، لا إيمانا بوجوبها، ولا قصدا إلى ثوابها واحتسابا لأجرها، ولا تكميلا لأنفسهم بما شرعه الله لأجلها، لأنهم لا يأتونها إلا وهم متثاقلون كسالى لا تنشرح لها نفوسهم ولا تنشط لها أبدانهم. (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) أي ولا ينفقون أموالهم فى مصالح الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لذلك غير طيبة به أنفسهم، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم تضرب عليهم ينتفع بها المؤمنون وهم ليسوا منهم، فلا نفع لهم بما أنفقوا لا فى الدنيا وهو واضح ولا فى الآخرة، إذ لا يؤمنون بها. ولما كان من أقوى أسباب إعراضهم عن آيات الله كثرة المال وطغيان الغنى بين سبحانه سوء عاقبة المال لهم فقال: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الإعجاب بالشيء السرور به مع الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، والخطاب لكل من سمع القول أو بلغه. أي فلا تعجبك أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هى من أكبر النعم وأجلها، ولا يجولنّ بخاطرك أنهم- وقد حرموا ثوابها فى الآخرة- صفا لهم نعيمها فى الدنيا، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه:

[سورة التوبة (9) : الآيات 56 إلى 57]

(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما ينالهم بسببها من التنغيص والحسرة. أما الأموال فلأنهم يلاقون النّصب والتعب فى جمعها واكتسابها، ويلاقون ما هو أشد من ذلك فى حفظها وصونها من الهلاك، فالمشغوف بالمال يكون أبدا فى تعب الحفظ والصون، وهو مع ذلك لا ينتفع إلا بالقليل منها كما قال عليه الصلاة والسلام «مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» . وأما الأولاد فإنهم يرون أنهم قد نشئوا فى الإسلام واطمأنت به قلوبهم، فهم يجاهدون فى سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، وربما ماتوا فى الغزو- فيجزعون أشد الجزع، إذ لا يعتقدون شهادتهم، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأن الاجتماع بهم قريب كما يعتقد المؤمنون. (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي ويموتون ويهلكون وهم كافرون، فيعذبون بها فى الآخرة إثر ما عذّبوا بها فى الدنيا، لموتهم على الكفر الذي يحبط أعمالهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57] وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) تفسير المفردات الفرق (بالتحريك) الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه، والملجأ: المكان الذي يلجأ إليه الخائف ليعتصم به كحصن أو قلعة أو جزيرة فى بحر أو قنّة فى جبل، والمغارات: واحدها مغارة وهى الكهف فى الجبل يغور فيه الإنسان ويستتر والمدّخل (بالتشديد) السرب فى الأرض يدخله الإنسان بمشقة، والجماح: السرعة التي تتعذر مقاومتها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن المنافقين يظهرون غير ما يضمرون، فإذا هم طلبوا الإذن خوف الفتنة كانوا كاذبين، وذكر أنهم يتمنّون أن تدور الدوائر على المؤمنين قفّى على ذلك بذكر غلوّهم فى النفاق وأنهم لا يتحرّجون أن يحلفوا الأيمان الفاجرة لستر نفاقهم خوف الفضيحة، وأنهم يتمنون أن يجدوا أىّ السبل للبعد عن المؤمنين، فيلجئوا إليها مسرعين. الإيضاح (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي ويحلفون بالله لكم كذبا إنهم منكم فى الدين والملة وهم ليسوا من أهل دينكم وملتكم بل هم أهل شك ونفاق، ولكنهم يخافونكم فيقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم. (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي إنهم لشدة كرمهم للقتال معكم، ولبغض معاشرتهم إياكم، ولعظيم الخوف من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والعيش فى مكان يعتصمون به من انتقامكم منهم، فلو استطاعوا السكنى فى الحصون والقلاع، أو فى كهوف الجبال ومغاراتها، أو فى أنفاق الأرض وأسرابها- لولّوا إليه مسرعين كالفرس الجموح لا يردّهم شىء. وإنما وصفهم الله سبحانه بتلك الأوصاف، لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم، لأنهم كانوا بين عشيرتهم وفى دورهم وأموالهم، ولم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بإخفاء الكفر ودعوى الإيمان، وفى أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأهل الإيمان به وبالغ الحقد عليهم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 58 إلى 59]

[سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 59] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) تفسير المفردات اللمز: العيب والطعن فى الوجه، والهمز: الطعن فى الغيبة، ورغبه ورغب فيه: أحبه، ورغب عنه: كرهه، ورغب إليه: طلبه وتوجه إليه. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه أن المنافقين لا يتحرجون عن كاذب الأيمان إذا وجدوا فى ذلك طريقا لخدعة المؤمنين فى تصديقهم بأنهم مؤمنون كما هم مؤمنون كى يأمنوا جانبهم، وأنهم يجدّون فى البعد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا- أردف ذلك بذكر سوأة أخرى من سوءاتهم وهى أنهم يتمنّون الفرص للطعن على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يواقعوا الريب فى قلوب ضعفاء الإيمان من المسلك الذي يوافق أهواءهم، وقد وجدوا من ذلك قسمة الصدقات والمغانم، فولجوا هذا الباب وقالوا ما شاءوا أن يقولوا. روى البخاري والنسائي عن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ائذن لى أن أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة فنزلت فيهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الآية» .

الإيضاح

وروى ابن جرير عن داود بن أبى عاصم قال: «أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورأى ذلك رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية. ومجموع الروايات يدل على أن أشخاصا من منافقى المدينة قالوا ذلك لحرمانهم من العطية، ولم يقله أحد من المهاجرين ولا من الأنصار الأولين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فى منى. الإيضاح (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) أي ومن المنافقين من يعيبك ويطعن عليك فى قسمة الصدقات وهى أموال الزكاة المفروضة، إذ يزعمون أنك تحابى فيها وتؤتى من تشاء من الأقارب وأهل المودة ولا تراعى العدل فى ذلك. ثم بين سبحانه أسباب هذا اللمز وأن منشأه حرصهم على حطام الدنيا فقال: (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) أي فإن أعطوا ولو بغير حق كأن أظهروا الفقر كذبا واحتيالا، أو أعطوا لتأليف قلوبهم- رضوا بهذه القسمة واستحسنوا فعلك. (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي وإن لم يعطوا منها فاجئوك بالسخط وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء، إذ لاهمّ لهم إلا المنفعة الدنيوية ونيل حطام الدنيا. (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ) أي ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الله من الغنائم وغيرها وأعطاهم رسوله بقسمة الغنائم والصدقات كما أمره الله، وقالوا الله يكفينا فى كل حال، وسيعطينا من فضله بما يرد علينا من الغنائم والصدقات، لأن فضله لا ينقطع، ورسوله لا يبخص أحدا منا شيئا يستحقه فى شرع الله، وقالوا إنا إلى الله نرغب فى أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم- لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم من الطمع فى غير مطمع ومن همز الرسول ولمزه.

[سورة التوبة (9) : آية 60]

والخلاصة- إنهم لو رضوا من الله بنعمته، ومن الرسول بقسمته، وعلّقوا أملهم بفضل الله وكفايته، وبما سينعم به عليهم فى مستأنف الأيام، وبأن الرسول يعدل فى القسمة لكان فى ذلك الخير كل الخير لهم. وفى ذلك إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون قانعا بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها مع توجيه قلبه إلى ربه، ولا يرغب إلا إليه فى الحصول على رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية. [سورة التوبة (9) : آية 60] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) تفسير المفردات الصدقة: هى الزكاة الواجبة على النقد والأنعام والزرع والتجارة، والفقير، من له مال قليل دون النصاب (أقل من اثنى عشر جنيها) والمسكين من لا شىء له فيحتاج للمسألة لقوته وكسوته، والعامل عليها: هو الذي يولّيه السلطان أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء، والمؤلفة قلوبهم: هم الذين يراد استمالة قلوبهم إلى الإسلام أو التثبيت فيه، وفى الرقاب: أي وللإنفاق فى إعانة الأرقاء لفكاكهم من الرق، والغارمين: أي الذين عليهم غرامة من المال تعذر عليهم أداؤها، وفى سبيل الله: أي وفى الطريق الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته، والمراد بهم كل من سعى فى طاعة الله وسبل الخيرات كالغزاة والحجاج الذين انقطعت بهم السبل ولا مورد لهم من المال وطلبة العلم الفقراء، وابن السبيل: هو المسافر الذي بعد عن بلده ولا يتيسر له إحضار شىء من ماله فهو غنى فى بلده، فقير فى سفره، فريضة من الله: أي فرض الله ذلك فريضة ليس لأحد فيها رأى.

الإيضاح

الإيضاح مصارف الزكاة والأشخاص الذين تعطى لهم أصناف ثمانية: (1) (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) أي إنما تعطى زكاة النقد أو النّعم أو التجارة أو الزرع للفقراء الذين يحتاجون إلى مواساة الأغنياء، لعدم وجود ما يكفيهم من المال بحسب حالهم. (2) (وَالْمَساكِينِ) وهم أسوأ حالا من الفقراء لقوله تعالى: «أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» أي ألصق جلده بالتراب فى حقرة استتر بها مكان الإزار، وبطنه به لشدة الجوع وذلك منتهى الضر والشدة. (3) (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم الذين يبعثهم السلطان لجبايتها أو حفظها، فيشمل الجباة (المحصّلين) وخزنة المال (مديرى الخزائن) وهم يأخذون منها عمالتهم على عملهم لا على فقرهم. روى أحمد والشيخان أن ابن السعدي المالكي قال: استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لى بعمالة، فقلت إنما عملت لله، فقال: خذ ما أعطيت فإنى عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمّلنى (أعطانى العمالة) فقلت مثل قولك، فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدّق» . (4) (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم قوم يراد استمالتهم إلى الإسلام، أو تثبيتهم فيه، أو كفّ شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم فى الدفاع عنهم أو نصرهم على عدوّ لهم، وهم أصناف ثلاثة: (ا) صنف من الكفار يرجى إيمانهم بتأليف قلوبهم كصفوان بن أمية الذي وهب له النبي صلى الله عليه وسلم الأمان يوم فتح مكة وأمهله أربعة أشهر لينظر فى أمره وأعطاه إبلا محمّلة، فقال هذا عطاء من لا يخشى الفقر، وروى أنه قال: والله

لقد أعطانى وهو أبغض الناس إلىّ، فما زال يعطينى حتى إنه لأحبّ الناس إلى، وقد حسن إسلامه. (ب) صنف أسلم على ضعف، ويرجى بإعطائه تثبيته وقوة إيمانه ومناصحته فى الجهاد كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا وكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم. (ح) صنف من المسلمين فى الثغور وحدود بلاد الأعداء يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو. ويرى أبو حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز الله الإسلام، واحتج بأن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه وقال (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وبأنه لم ينقل أن عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا النوع. (5) (وَفِي الرِّقابِ) أي وللإنفاق فى فك الرقاب بإعانة المكاتبين من الأرقاء فى فك رقابهم من لرق، أو لشراء العبيد واعتقاقهم، وهذا من أكبر الإصلاح البشرى الذي هو المقصود من رحمة الإسلام وعدله. روى أحمد والبخاري عن البراء بن عازب قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: دلنى على عمل يقربنى من الجنة ويبعدنى من النار، فقال: أعتق النّسمة وفكّ الرقبة، فقال يا رسول الله أو ليسا واحدا؟ قال لا: عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها» . (6) (وَالْغارِمِينَ) وهم الذين عليهم ديون ركبتهم وتعذر عليهم أداؤها. وقد كان العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة فى دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، وكانوا إذا علموا أن واحدا منهم التزم غرامة أو تحمل حمالة بادروا إلى معونته على أدائها وإن لم يسأل، وكانوا يعدون سؤال المساعدة على ذلك فخرا لا ذلا.

فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: «تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من أهل الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، فما سواها من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا» رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. (7) (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد، وروى عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله ويدخل فى ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك. والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد لأنه واجب على المستطيع فحسب. (8) (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المنقطع عن بلده فى سفر لا يتيسر له فيه شىء من ماله إن كان له مال، فهو غنى فى بلده، فقير فى سفره، فيعطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده. وفى ذلك عناية بالسياحة وتشجيع عليها على شرط أن يكون سفره فى غير معصية، ويكون هذا من أسباب التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان. وسهولة طرق الوصول فى العصر الحاضر ونقل الأخبار فى الزمن القليل جعلت نقل المال من بلد إلى آخر ميسورا بلا كلفة، فيسهل على الغنى أن يجلب ماله فى أي وقت أراد، وإلى أي مكان طلب.

[سورة التوبة (9) : آية 61]

(فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) أي إنما الصدقات لمن ذكر من أصناف المحتاجين، وفيما ذكر من مصالح الأمة فريضة من الله لهم أوجبها عليكم. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بأحوال الناس ومقدار حاجتهم، حكيم فيما يشرعه لهم تطهيرا لأنفسهم وتزكية لها، وشكرا لخالقهم على ما أنعم به عليهم كما قال: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» . [سورة التوبة (9) : آية 61] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) تفسير المفردات الأذى: ما يؤلم الحي المدرك فى بدنه أو فى نفسه ولو ألما خفيفا، يقال أذى بكذا أذى وتأذى تأذيا إذا أصابه مكروه يسير، والأذن: هو الذي يسمع من كل أحد ما يقول فيقبله ويصدّقه، ويقولون رجل أذن: أي يسرع الاستماع والقبول، ويؤمن للمؤمنين: أي يصدقهم لما علم فيهم من علامات الإيمان الذي يوجب عليهم الصدق. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن من دلائل نفاقهم الطعن فى أفعاله صلى الله عليه وسلم كإيذاء الذين لمزوه فى قسمة الصدقات- قفى على ذلك بذكر من طعن فى أخلاقه وشمائله الكريمة بقولهم إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا. روى ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس قال: «كان نبتل بن الحارث يأتى

الإيضاح

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه فأنزل الله الآية» . وروى أنه اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت ومخشّ بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا فى النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم، وقال بعضهم: إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا فنزل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) الآية. الإيضاح (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي ومن المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه ويقولون هو أذن سامعة: أي يسمع من كل أحد ما يقوله ويقبله ويصدقه، وهم يريدون بذلك أنه سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع دون أن يتدبر فيه ويميز بين ما هو جدير بالقبول لوجود أمارات الصدق فيه، وما لا ينبغى قبوله، وهذا عيب فى الملوك والرؤساء لما يترتب عليه من تقريب المنافقين وإبعاد الناصحين، وإنما قالوا ذلك لأنه كان عليه الصلاة والسلام يعاملهم بأحكام الشريعة كما يعامل عامة المؤمنين بالبناء على الظاهر، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له. (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي إنه أذن ولكنه نعم الأذن، لأنه أذن خير لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا ما يعتقد أنه الحق وما فيه المصلحة للخلق، وليس بأذن فى سماع الباطل كالكذب والنميمة والجدل والمراء، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه كما هو شأن الملوك والزعماء الذين يتقرب إليهم أهل الأهواء بالسعاية لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم، وحملهم على إيذاء من يبتغون إيذاءه. ثم بين سبحانه المراد من أذن الخير بقوله: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدق بالله وبما يوحى إليه مما فيه خيركم وخير

غيركم، ويصدق المؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار، لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق فيما يحدثونه به. وفى هذا إيماء إلى أنه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم ولا يصدقهم فى أخبارهم وإن وكدوها بالإيمان اغترار بلطفه وأدبه صلى الله عليه وسلم، إذ كان لا يواجه أحدا بما يكره، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه. (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي وهو رحمة للذين آمنوا منكم إيمانا صحيحا صادقا، إذ كان سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة، لا لمن أظهر الإسلام وأسرّ الكفر نفاقا، إذ هو نقمة عليه فى الدارين. (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين يؤذون الرسول بالقول أو بالفعل فجزاؤهم العذاب الشديد الإيلام. وفى هذه الآية وما فى معناها دليل على أن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كفر إذا كان فيما يتعلق برسالته، لأن ذلك ينافى الإيمان. وأما إيذاؤه فى شئونه البشرية والعادات الدنيوية فحرام لا كفر كإيذاء الذين كانوا يطيلون المكث فى بيوته لدى نسائه بعد الطعام وفيهم نزل: «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ» وإيذاء الذين كانوا يرفعون أصواتهم فى ندائه ويسمونه باسمه كما قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» . وإيذاؤه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كإيذائه فى حال حياته كالخوض فى أبويه وآل بيته بما يعلم أنه يؤذيه لو كان حيا، فالإيمان به صلى الله عليه وسلم مانع من تصدى المؤمن لما يعلم أو يظن أنه يؤذيه صلوات الله عليه إيذاء ما، فهذا الذنب من أكبر الذنوب ومعصية من أعظم المعاصي.

[سورة التوبة (9) : الآيات 62 إلى 63]

[سورة التوبة (9) : الآيات 62 الى 63] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) تفسير المفردات المحادّة من الحد: وهو طرف الشيء كالمشاقة من الشق (بالكسر) وهو الجانب، ونصف الشيء المنشق منه، وهما بمعنى المعاداة من العدوة (بالضم) وهى جانب الوادي لأن العدو يكون فى غاية البعد عمن يعاديه عداء البغض بحيث لا يتزاوران ولا يتعاونان فكأن كلا منهما فى شق وعدوة غير التي فيها الآخر، إذ هما على طرفى نقيض، وهكذا المنافقون يكونون فى الجانب المقابل للجانب الذي يحب الله لعباده والرسول لأمته من الحق والخير والعمل الصالح. المعنى الجملي روى ابن المنذر عن قتادة قال: «ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال فى شأن المتخلفين فى غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمر، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من الحمار، وسعى بها الرجل إلى نبى الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: (ما حملك على الذي قلت؟) فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الآية» . الإيضاح (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا خطاب للمؤمنين أي يحلفون لكم إنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلى الله عليه وسلم ليرضوكم، وقد كان من دأبهم

أن يتكلموا بما لا ينبغى أن يقال ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم. وفى كثرة الاعتذار والحلف للمؤمنين فى كل ما يعلمون أنهم متهمون به من قول أو فعل ليرضوهم فلا يخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم- دليل على أنهم شعروا بظهور نفاقهم وافتضاح أمرهم. (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهرا معلوما باليقين، ولكن الله لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فيوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب ما فيه المصلحة للمؤمنين. وفى التعبير بيرضوه دون يرضوهما إشعار بأن إرضاء رسوله هو عين إرضائه تعالى، لأنه إرضاء له فى اتباع ما أرسله به. (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن كانوا مؤمنين كما يدّعون ويحلفون- فليرضوا الله ورسوله وإلا كانوا كاذبين. وفى الآية عبرة للمنافقين فى زماننا وفى كل زمان، إذ يحلفون حين الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما يحاولون به إرضاء الناس، وبخاصة الملوك والوزراء الذين يتقربون إليهم فيما لا يرضى ربهم، بل فيما يسخطه بأخس الوسائل وأقذر السبل. ثم وبخهم على ما أقدموا عليه مع علمهم بوخامة عاقبته بقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الأمر الحق الذي لا شك فيه أن من يحادد الله ورسوله بتعدي حدوده أو يلمز الرسول فى أعماله كقسمة الصدقات، أو فى أخلاقه وشمائله كقولهم هو أذن- فجزاؤه جهنم يصلاها يوم القيامة خالدا فيها أبدا لا مخلص له منها.

[سورة التوبة (9) : الآيات 64 إلى 66]

(ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي ذلك العذاب هو الذل والهوان العظيم الذي يصغر دونه كل خزى وذل فى الحياة الدنيا. [سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 66] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) تفسير المفردات الحذر: الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه، والإخراج: إظهار الشيء الخفي المستتر كإخراج الحب والنبات من الأرض، والخوض: الدخول فى البحر أو فى الوحل، وكثر استعماله فى الباطل لما فيه من التعرض للأخطار، والاعتذار: الإدلاء بالعذر، وهو ما يراد به محو أثر الذنب وترك المؤاخذة عليه من عذر الصبى يعذره أي ختنه تطهيرا له بقطع عذرته أي قلفته، والطائفة: الجماعة من الناس والقطعة من الشيء: يقال ذهبت طائفة من الليل ومن العمر، وأعطاه طائفة من ماله. المعنى الجملي جاءت هذه الآيات لبيان حال من أحوال المنافقين كشفت عنها غزوة تبوك، أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم عن مجاهد أن المنافقين كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى ألا يفشى علينا هذا. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.

الإيضاح

الإيضاح (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي يحذر المنافقون أن تنزّل على المؤمنين سورة تخبرهم بما فى قلوبهم أي قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشى أسرارهم. وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعى للشك والارتياب، إذ هم كانوا شاكين مرتابين فى الوحى ورسالة الرسول ولم يكونوا موقنين بشىء من الإيمان ولا من الكفر، فهم مذبذبون لا هم بالمؤمنين الموقنين، ولا بالكافرين الجازمين بالكفر، ولو كانوا على واحد منهما لما خطر لهم الخوف على بال، إذ تكون قلوبهم مطمئنة بأحد الأمرين. والخلاصة- إنهم يحذرون أن تنزل سورة فى شأنهم وبيان حالهم، فتكون فى ذلك فضيحتهم وكشف عوراتهم وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم. (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي قل لهم: استهزئوا فإن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبيّن أمركم. ونحو الآية قوله: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» . ولا يخفى ما فى هذا من التهديد والوعيد على فعلهم، وكونه سببا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبئات سرائرهم. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) أي إنك إن سألتهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادّين ولا منكرين، بل هازلين لاعبين للتسلى والتلهي، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول لجهلهم أن اتخاذ الدين هزوا ولعبا كفر محض كما قال تعالى: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» وقال: «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ» .

ويدخل فى عموم الآية المبتدعون فى الدين، والذين يخوضون فى الداعين إلى الكتاب والسنة ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوته إلى تبوك، إذ نظر إلى أناس بين يديه يقولون: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال: (احبسوا على هؤلاء الركب) فأتاهم فقال قلتم كذا وقلتم كذا. قالوا يا نبى الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون» . (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟) أي قل لهم: إن الخوض واللعب فى صفات الله وشرعه وآياته المنزلة استهزاء بها. إذ كل ما يلعب به فهو مستخف به، وكل مستخف به فهو مستهزأ به. وقصارى ذلك- ألم تجدوا ما تستهزئون به فى خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم ذلك عليهما، فهل ضاقت عليكم سبل القول، فلم تجدوا ما تخوضون فيه وتلعبون غير هذا، ثم بعدئذ تظنون أن معاذيركم بمثل هذا تقبل وتدلون بها بلا خوف ولا خجل. (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي لا تذكروا هذا العذر لدفع هذا الجرم، لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغى أن يكون، فاعتذاركم إقرار بذنبكم فهو كما يقال: عذر أقبح من الذنب. (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي إن نعف عن بعضكم لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم كمخشّ بن حمير نعذب بعضا آخر لإجرامهم وإصرارهم عليه. وخلاصة ذلك- إن من تاب من كفره ونفاقه عفى عنه، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به.

[سورة التوبة (9) : الآيات 67 إلى 70]

[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 70] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) تفسير المفردات بعضهم من بعض: أي متشابهون فيه وصفا وعملا كما تقول أنت منى وأنا منك أي أمرنا واحد لا افتراق بيننا، والمنكر: إما شرعى وهو ما يستقبحه الشرع وينكره، وإما فطرى: وهو ما تستنكره العقول الراجحة والفطر السليمة لمنافاته للفضائل والمنافع الفردية والمصالح العامة، وضده المعروف فى كل ذلك، وقبض الأيدى: يراد به الكف عن البذل، وضده بسط اليد، نسوا الله: أي تركوا أوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ، فنسيهم: أي فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم من الثواب على ذلك فى الآخرة، والفاسقون: أي الخارجون عن الطاعة، المنسلخون عن فضائل الإيمان، والوعد: يستعمل فى إعطاء الخير والشر والنافع والضار، والوعيد خاص بالشر،

المعنى الجملي

واللعن: الإبعاد من الرحمة والإهانة والمذلة، والمقيم: الثابت الذي لا يتحول، بخلاقهم: أي بنصيبهم من ملاذ الدنيا، وخضتم: أي دخلتم فى الباطل، وحبط العمل: فسد وذهبت فائدته، والخسارة فى التجارة: تقابل الربح فيها، وأصحاب مدين: قوم شعيب، والمؤتفكات واحدها مؤتفكة من الائتفاك: وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفله بالخسف، وهى قرى قوم لوط. المعنى الجملي ذكر سبحانه فى هذه الآيات أنواعا وضروبا من قبائح المنافقين كان ذكرانهم وإناثهم يفعلونها، وقرنها بالوعيد الشديد بما أعد لهم من الجزاء فى زمرة إخوانهم الكفرة الذين من قبلهم على ما كانوا يقترفون من الفساد والإفساد، وتلاه بضرب المثل الذي يشرح حالهم لبيان السنن العامة فى روابط الاجتماع وآثار الأخلاق فى تلك الروابط. الإيضاح (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي إن أهل النفاق رجالا ونساء يتشابهون فى صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم كما قال تعالى فى آل إبراهيم وآل عمران «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» وقال الشاعر: تلك العصا من هذه العصيّه ... هل تلد الحيّة إلا حيّه ثم بين ذلك التشابه فقال: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي إن بعضهم يأمر بعضا بالمنكر كالكذب والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد كما جاء فى الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» رواه الشيخان عن أبى هريرة.

وينهون عن المعروف كالجهاد وبذل المال فى سبيل الله للقتال كما حكى الله عنهم بقوله «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا» . واقتصر من منكراتهم الفعلية على الامتناع عن البذل، لأنه شرها وأضرها وأقواها دلالة على النفاق كما أن الإنفاق فى سبيل الله أقوى دلائل الإيمان. (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) أي نسوا أن يتقربوا إليه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ولم يعد يخطر ببالهم أن له عليهم حق الطاعة والشكر، واتبعوا أهواءهم ووساوس الشيطان، فجازاهم على ما فعلوا بحرمانهم من لطفه وتوفيقه فى الدنيا، ومن الثواب فى الآخرة. (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي إن المنافقين الناكبين عن الصراط المستقيم إلى سبيل الشيطان هم أكثر الناس فسوقا وخروجا من جميع الفضائل، حتى من الكفار الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة، فهم لا يبلغون مبلغهم فى الفسوق والخروج من طاعة الله والانسلاخ من فضائل الفطر السليمة. ثم بين سبحانه ما أعدّ لهم ولأمثالهم من العقاب جزاء لهم على أعمالهم فقال: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي وعد الله هؤلاء جميعا نار جهنم يصلونها ما كثين فيها أبدا. وقدم المنافقين فى الوعيد على الكفار للإيذان بأنهم وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام- شر من الكفار، ولا سيما المتدينين منهم بأديان محرّفة أو منسوخة كأهل الكتاب. (هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي إن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم عقابا لهم فى الآخرة على أعمالهم، وعليهم لعنة الله فى الدنيا والآخرة بحرمانهم من رحمته التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون، ولهم عذاب مقيم غير عذاب جهنم كالسّموم الذي يلفح وجوههم، والحميم الذي يصهر ما فى بطونهم، والضريع الذي

لا يسمن ولا يغنى من جوع، وحرمانهم من لقاء الله وكرامته والحجاب دون رؤيته كما قال: «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ» . (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم فى أقوام الأنبياء فتنثم بأموالكم وأولادكم وغررتم بدنياكم كما فتنوا وغرّوا بها، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالا وأولادا، وقد كان جلّ مطلبهم وسعيهم هو التمتع بنصيبهم وحفظهم الدنيوي من الأموال والأولاد، فأطغتهم الدنيا وأغرتهم لذاتها، ولم يكن لهم مقاصد شريفة من الحياة كالتى يقصدها أهل الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق وإقامة ميزان العدل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم فى الاستمتاع بخلاقكم، فأنتم فعلتم بدينكم ودنياكم كما فعل الذين كانوا من قبلكم، ولم تفضلوا عليهم بشىء من الاسترشاد بكلام الله وهدى رسوله، إذ لم تعملوا شيئا من الفضائل التي تزكى النفوس وتجعلها أهلا للسعادة، فكنتم أجدر بالعقاب منهم، لأنهم أوتوا من القوة والأموال فوق ما أوتيتم، ولم يروا من آيات الله ما رأيتم. والخلاصة- إنكم حذوتم حذوهم وسلكتم سبيلهم مع توافر الدواعي على فعل ضد ما تعملون. (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي ودخلتم فى الباطل كما دخلوا على ما بين حالكم وحالهم من الفوارق التي كانت تقتضى أن تكونوا أهدى منهم سبيلا. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي إن أولئك المستمتعين بخلاقهم وحظهم والخائضين فى الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية

فكان ضررها أكبر من نفعها لهم، لإسرافهم وإفسادهم فى الأرض، وكذلك أعمالهم الدينية فى الآخرة من عبادات وصلة رحم وصدقة وقرى ضيف، فلم يكن لهم أجر عليها ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة، إذ شرط قبولها فى الآخرة الإيمان والإخلاص، فهم خسروا فى مظنة الربح والمنفعة. ونحو الآية قوله: «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً؟» . ثم نبههم وحذرهم سوء عاقبة أعمالهم فقال: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أي ألم يأت أولئك المنافقين والكفار الذين كانوا فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عصوا رسلهم وخالفوا أمر ربهم فأخذهم العذاب كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح العقيم التي أهلكت عادا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والعذاب الذي هلك به النّمروذ الذي حاول إحراق إبراهيم، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها. وما كان من سنة الله ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب، وقد أعذرهم وأنذرهم ليجتنبوه، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بجحودهم وعنادهم وعدم مبالاتهم بإنذار رسلهم. وقد ضرب هذا المثل للكافرين برسالته صلى الله عليه وسلم والمنافقين، ليبين لهم أن سنة الله فى عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة، فلابد أن يحلّ بهم من العذاب مثل ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا. وقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم فى أول غزوة وهى غزوة بدر، ثم خذل من بعدهم فى سائر الغزوات، وما زال المنافقون يكيدون له فى السر حتى فضحهم الله بهذه السورة، فتاب أكثرهم ومات زعيمهم عبد الله بن أبىّ بغيظه وكفره ولم تقم للنفاق قائمة من بعده.

[سورة التوبة (9) : الآيات 71 إلى 72]

وبهذا التمحيص كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس. نشر الله بها أعلام دينه حتى سادت العالم جميعه. [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه أفعال المنافقين الخبيثة وذكر ما أعده لهم من العذاب فى الدنيا والآخرة- قفّى على ذلك بذكر صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهرت سرائرهم وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم. الإيضاح (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الولاية ضد العداوة، وتشمل ولاية النصرة وولاية الأخوة والمودة، ونصرة النساء تكون فيما دون القتال من الأعمال المتعلقة بتعبئة الجيوش من الأمور المالية والبدنية، وكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء أصحابه يخرجن مع الجيش يسقين الماء ويجهزن الطعام ويحرضن على القتال ويرددن المنهزم من الرجال قال حسان: تظلّ جيادنا متمطّرات ... تلطّمهن بالخمر النساء وقال فى وصف المؤمنين: بعضهم أولياء بعض، وفى وصف المنافقين بعضهم

من بعض- لأن المؤمنين بينهم أخوة ومودة وتعاون وتراحم حتى شبه النبي صلى الله عليه وسلم جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشد بعضه بعضا، وبينهم ولاية النصرة فى الدفاع عن الحق والعدل وإعلاء كلمة الله. أما المنافقون فيشبه بعضهم بعضا فى الشكوك والذبذبة وما يتبعها من الجبن والبخل وهما يمنعان من التناصر ببذل النفس والمال، وقصارى أمرهم التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال، ومن ثم أكذب الله منافقى المدينة فى وعدهم لليهود حلفاتهم بنصرهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاتلوهم فى قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» . (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وصف الله المؤمنين فى هذه الآية بصفات خمس تضادّ مثلها فى المنافقين. (ا) إنهم يأمرون بالمعروف والمنافقون يأمرون بالمنكر. (ب) إنهم ينهون عن المنكر والمنافقون ينهون عن المعروف، وهاتان الخصلتان هما سياج الفضائل ومنع فشوّ الرذائل. (ح) إنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات لله وحضور القلب فى مناجاته، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا وهم كسالى يراءون الناس. (د) إنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم وما وفّقوا له من التطوع، والمنافقون يقبضون أيديهم، والمنافقون وإن كانوا يصلون، لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون ولكن خوفا أو رياء لا طاعة لله تعالى كما قال سبحانه: «وَما مَنَعَهُمْ

أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ» . (هـ) إنهم يستمرون على الطاعة بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به بقدر الطاقة، وبضد ذلك المنافقون فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة كما تقدم. ثم ذكر ما يكون لهم من حسن العاقبة وعظيم الجزاء على جميل أعمالهم فقال: (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) أي إنه تعالى يتعدهم برحمته فى الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته وطاعة رسوله، ويقابل هذا نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه إياهم. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى عزيز لا يمتنع عليه شىء من وعده ولا وعيده حكيم لا يضع شيئا منهما فى غير موضعه. وبعد أن بيّن صفاته ورحمته لهم إجمالا- بين ما وعدهم به من الجزاء المفسّر لرحمته تقصيلا فقال: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) الجنات: البساتين الملتفة الأشجار التي تجنّ ما تحتها: أي تغطيه وتستره، وجريان الأنهار من تحت أشجارها مما يزيد جمالها، والمساكن الطيبة فى جنات عدن هى الدور والخيام التي يطيب لساكنيها المقام فيها لاحتوائها على ما يطلبون من الأثاث والرياش والزينة التي بها تتم راحة المقيم فيها وسروره، والعدن: الإقامة والاستقرار، يقال عدن فى مكان كذا إذا أقام فيه وثبت، فجنات عدن هى جنات الإقامة والخلود كقوله: «جَنَّةُ الْخُلْدِ- جَنَّةُ الْمَأْوى» وقيل إنه منزل من منازل دار النعيم كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها. روى عن أبى هريرة «إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن» .

[سورة التوبة (9) : الآيات 73 إلى 74]

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) رضوان الله هو مقام رؤيته تعالى التي تكمل بها معرفته والإنسان جسد وروح، ففى الجنات ومساكنها أعلى النعيم الجسماني، ورضوان الله هو أعلى النعيم الروحاني. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الوعد بالنعيم الجسماني والروحاني هو الفوز العظيم الذي يجزى به المؤمنون المخلصون، لا غيره من حظوظ الدنيا الفانية التي يتكالب عليها الكفار والمنافقون. وقد ورد فى وصف الجنة ودرجاتها أحاديث بعضها موضوع، وبعضها منكر، ومن ذلك ما روى عن أبى هريرة وعمران بن حصين أنهما قالا لمن سألهما: على الخبير سقطت، وأنهما سألا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرا وصفا طويلا، منه أنه يوجد هناك ألوف من البيوت فى كل منها ألوف من الحور العين، وهو حديث منكر من دسائس الوضاعين ككعب الأحبار وغيره. قال ابن القيم: لم يثبت فى نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجين لكل رجل. [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) تفسير المفردات الجهاد، والمجاهدة: استفراغ الجهد والوسع فى مدافعة العدو، وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر. مجاهدة الشيطان. مجاهدة النفس والهوى، ويشير إلى هذه

المعنى الجملي

كلها قوله تعالى: «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ- وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وقال صلى الله عليه وسلم «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم» وقال «جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم» والجهاد باللسان: إقامة الحجة والبرهان، والجهاد باليد: الجهاد بالسيف وكل الوسائل الحربية والغلظة: الخشونة والشدة فى المعاملة، وهى ضد اللين. ونقم منه الشيء: أنكره وعابه عليه. المعنى الجملي بعد أن وصف الله تعالى المؤمنين بشريف الصفات، ووعدهم بأجزل الثواب وأرفع الدرجات- أعاد الكرّة إلى تهديد المنافقين وإنذارهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفرهم إذا هم استرسلوا فى إظهار ما ينافى الإسلام من الأقوال والأفعال كالقول الذي قالوه وأنكروه بعد أن أظهره الله عليه وكذبهم فى إنكارهم. وجهادهم ألا يعاملوا معاملة المؤمنين الصادقين، فيقابلون بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر إلى نحو ذلك مما سيذكر بعد. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي ابذل أيها النبي جهدك فى مقاومة هاتين الطائفتين اللتين تعيشان بين ظهرانيك بمثل ما يبذلان من جهد فى عداوتك، وعاملهما بالغلظة والشدة التي توافق سوء حالهما. وقد اتفق الأئمة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين، فلا يقاتلون إلا إذا ارتدوا أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. وعن ابن عباس رضى الله عنه قال: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان: أي بالحجة والبرهان.

وكان كفار اليهود يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم حتى بتحريف السلام عليه بقولهم (السام عليكم) ، والسام الموت فيقول: (وعليكم) ثم تكرر نقضهم للعهد حتى كان من أمرهم ما تقدم ذكره، وكان يعامل المنافقين باللطف واللين بناء على حكم الإسلام الظاهر، فجرّأهم هذا على أذاه بنحو قولهم (هُوَ أُذُنٌ) فأمره الله فى هذه الآية بالغلظة على الفريقين فى جهاده التأديبى لهم، لأن أمثالهم لا علاج له إلا هذا كما قال: ووضع النّدى فى موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى وهو جهاد فيه مشقة عظيمة، لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين، وشدته فى قتاله لأعدائه المحاربين، يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم، وأثر عن عمر أنه قال: «أذلّوهم ولا تظلموهم» . وفى هذه الغلظة تربية للمنافقين وعقوبة لهم يرجى أن تكون سببا فى هداية من لم يطبع الكفر على قلبه وتحط به خطايا نفاقه، فتقطيب وجهه صلى الله عليه وسلم فى وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون، ومن ير أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه من الرئيس وغيره يضق صدره، ويحاسب نفسه ويثب إلى رشده ويتب إلى ربه. وهذه السياسة الحكيمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين وإسلام ألوف الألوف من الكافرين. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لا مأوى لهم يلجئون إليه إلا دار العذاب التي لا يموت من أوى إليها، ولا يحيا حياة طيبة، وبئس المصير هى «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» . والخلاصة- إنهم قد اجتمع لهم عذابان: عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة، وعذاب الآخرة بأن تكون جهنم مأواهم. ثم ذكر سبحانه الجرائم الموجبة لجهادهم كالكفار، وهى أنهم أظهروا الكفر بالقول وهموا بشرّ ما يغرى به من الفعل، وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم،

وقد أظهره الله عليه وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم ويحلفون على إنكارهم ليصدقهم كدأبهم من قبل، فقد كانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم كما قال تعالى «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» ويخوضون فى آيات الله وفى رسوله استهزاء خرجوا به من الإيمان الذي يدّعونه إلى الكفر الذي يكتمونه فقال: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أي يحلفون بالله إنهم ما قالوا تلك الكلمة التي نسبت إليهم، والله يكذبهم ويثبت أنهم قد قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم يذكر القرآن هذه الكلمة لأنه لا ينبغى ذكرها، ولئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها، وأصح ما قيل فيها ما رواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فى ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلّموا، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله فقال له: علام تشتمنى أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا، فتجاوز عنهم فأنزل الله: يحلفون بالله ما قالوا» الآية. أما همّهم بما لم ينالوا فهو اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العقبة منصرفه من تبوك- ذاك أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من المنافقين فتآمروا أن يطرحوه من عقبة فى الطريق، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر خبرهم فقال: من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثّموا وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة ابن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع ومعه محجن، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم الله سبحانه حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركه قال: «اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار وراءها» فأسرعوا حتى استووا بأعلاها، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة «هل عرفت من هؤلاء الركب أحدا؟» قال حذيفة عرفت راحلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟» قالوا: لا والله يا رسول الله، قال: «فإنهم مكروا ليسيروا معى حتى إذا طلعت فى العقبة طرحونى منها» قالوا: أولا تأمر بهم يا رسول الله إذا فنضرب أعناقهم؟ قال «أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمدا قد وضع يده فى أصحابه» فسماهم لهما وقال: «اكتماهم» . والصحيح فى عددهم ما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فى أمتى اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل فى سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدّبيلة (خرّاج ودمّل كبير يظهر فى الجوف يقتل صاحبه كثيرا) سراج من النار يظهر فى أكتافهم حتى ينجم من صدورهم» أي كأنه سراج من النار. (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم شيئا يقتضى الكراهة والهم بالانتقام- إلا إغناء الله تعالى إياهم ورسوله من فضله بالغنائم التي هى عندهم أحب الأشياء لديهم فى هذه الحياة، وكانوا كسائر الأنصار فقراء فأغناهم الله

ببعثة الرسول ونصره وبما آتاه من الغنائم كما وعده، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم للأنصار «كنتم عالة فأغناكم الله بي» . (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) أي فإن يتوبوا من النفاق وما يصدر عنه من مساوى الأقوال والأفعال، يكن ذلك المتاب خيرا لهم فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فيما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والعمل لما فيه السعادة فى الآخرة ومعاشرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاهدة فضائله وأخوّة المؤمنين بعضهم لبعض وما فيها من الودّ والوفاء الكامل والإيثار على النفس إلى نحو ذلك. وأما فى الآخرة فبما علمت مما وعد الله به المؤمنين من الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار والمساكن الطيبة. (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي وإن أعرضوا عما دعوا إليه من التوبة وأصروا على النفاق وما ينشأ منه من المساوى الخلقية والنفسية- يعذبهم الله عذابا أليما فى الدنيا بما يلازم قلوبهم من الخوف والهلع كما قال سبحانه «لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ» وقال: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» فهم فى جزع دائم وهمّ ملازم. وأما فى الآخرة فحسبك ما تقدم من وعيدهم بتلك النار التي تطلع على الأفئدة. (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لهم فى الأرض كلها من يتولى أمورهم ولا من ينصرهم ويدافع عنهم، إذ من خذله الله فلا يقدر أحد أن يجيره. أما فى الدنيا فقد أغلقت فى وجوههم الأبواب، فقد خص الله ولاية الأخوة والمودة والنصرة بالمؤمنين والمؤمنات دون المنافقين والمنافقات، وقد قضى الإسلام على جوار الجاهلية وعلى أحلافهم من أهل الكتاب فى الحجاز بالقتل والجلاء. وأما فى الآخرة فقد تظاهرت النصوص على أنه لاولىّ ولا ظهير للكفار والمنافقين.

[سورة التوبة (9) : الآيات 75 إلى 78]

[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) المعنى الجملي هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى من المنافقين أغناهم الله بعد فقر وإملاق، وقد كانوا يلجئون إلى الله وقت البأساء والضراء فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له والطاعة لشرعه إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم، فلما استجاب دعاءهم نكصوا على أعقابهم وكفروا النعمة وهضموا حقوق الخلق- ومثل هؤلاء يوجدون فى كل زمان ومكان. الإيضاح (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله مالا وثروة ليشكرنّ له نعمته بالصدقة منها، وليعملنّ عمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به والإنفاق فى سبيل الله: كإعداد العدة للجهاد وبذل المستطاع لخير الأمة وسعادتها بما يرقى بها فى مختلف شئونها. (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فلما رزقهم وأعطاهم ما طلبوا- بخلوا بما آتاهم وأمسكوه فلم يتصدقوا منه بشىء، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا الله عليه، ولم يكن

ذلك التولي عارضا طارئا، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة بحافز نفسىّ ملك عليهم أمرهم ومنعهم عن التصدق، بحيث إذا ذكّروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دعوا لا يستجيبون. (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) قال الليث: يقال أعقبت فلانا ندامة إذا صيرت عاقبة أمره كذلك كما قال الهذلي: أودى بنىّ وأعقبونى حسرة ... بعد الرّقاد وعبرة لا تقلع أي أعقبهم ذلك البخل والتولي بعد العهد الموثّق بأوكد الأيمان نفاقا فى قلوبهم متمكنا منها وملازما لها إلى يوم الحساب فى الآخرة لأنه لا رجاء معه فى التوبة. ثم ذكر سببين هما من أخص أوصاف المنافقين- إخلاف الوعد والكذب فقال: (بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي إن سنة الله فى البشر قد جرت بأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكّن النفاق فى القلب ويقويه، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيد الإيمان قوة ورسوخا فى النفس، وهكذا جميع الأخلاق والعقائد تقوى وترسخ بالعمل الذي يصدر منها. فهؤلاء لما كان قد رسخ فى نفوسهم خلف الوعد واستمرار الكذب- مكّن ذلك النفاق فى قلوبهم بمقتضى سننه وتقديره. أخرج ابن جزير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس فى قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ) الآية: أن رجلا من الأنصار يقال له ثعلبة أتى مجلسا فأشهدهم قال: لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذى حق حقه وتصدقت وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله شأنه فى القرآن اه. (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرّون، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ولمز الرسول- أن الله يعلم السر الكامن فى أعماق نفوسهم الذي يخصون به من يثقون به

[سورة التوبة (9) : الآيات 79 إلى 80]

ممن هو مشارك لهم فى النفاق، وأن الله يعلم الغيوب كلها لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه. [سورة التوبة (9) : الآيات 79 الى 80] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) تفسير المفردات لمزه: عابه، والمطّوّع: أي المتطوع، وهو من يؤدى ما يزيد على الفريضة، والصدقات: واحدها صدقة، والجهد (بالضم والفتح) الطاقة: وهى أقصى ما يستطيعه الإنسان، وسخر منه: استهزأ به احتقارا. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه بخل المنافقين وشحهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا الله على الصدقة إذا آتاهم من فضله- أردف ذلك ببيان أنهم لم يقتصروا فى جرمهم على هذا الحد، بل جاوزوا ذلك إلى لمز المؤمنين وذمهم فى صدقاتهم غنيهم وفقيرهم، وأنهم لهذا قد وصلوا إلى حدّ لم يعد لهم فيه أدنى حظ من الإسلام، ولا أدنى نفع من استغفار الرسول ودعائه لهم لرسوخهم فى الكفر بالله ورسوله وعدم الرجاء فى إيمانهم. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى مسعود البدري قال: «لما أمرنا بالصدقة

الإيضاح

كنا نتحامل (يحمل بعضنا لبعض بالأجر) فجاء أبو عقيل (اسمه الحبحاح) بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله غنى عن صدقة هذا، وما فعل الآخر هذا إلا رياء. فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) الآية» . وروى ابن جرير عن عكرمة قال: «حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فى غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال: يا رسول الله مالى ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها فقال «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وتصدق يومئذ عاصم بن عدى بماثة وسق (ثلاثمائة وعشرين رطلا) من تمر وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، الحديث. الإيضاح (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) أي أولئك هم الذين يلمزون المتطوعين من المؤمنين ويعيبونهم فى أمر الصدقات التي هى أظهر آيات الإيمان، ويذمونهم فى أكمل فضائلهم ويقولون ما فعلوها لوجه الله وإنما فعلوها رئاء الناس. فلمزهم هنا فى مقدارها وصفة أدائها لا فيها نفسها، واللمز هناك فى قسمتها، وقد جاء فى بعض الروايات «أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عمر بصدقة، وجاء عثمان بصدقة عظيمة وكثير من أصحابه بصدقات، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكّر بنفسه» . (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم: أي الفقراء الذين تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم، فيستهزئون بهم احتقارا لما جاءوا به وعدّا له من الحماقة والجنون. وخص هؤلاء بالذكر وإن كانوا داخلين فى المتطوعين، لأن مجال لمزهم عند المنافقين أوسع، والسخرية منهم أشد، وهم أهل الإجلال والإكبار والأحق بالثناء عند المؤمنين.

(سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) أي فجازاهم الله بمثل ذنبهم، فجعلهم سخرية للمؤمنين وللناس أجمعين بفضيحتهم فى هذه السورة ببيان مخازيهم وعيوبهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تقدم بيانه فى هذه السورة بهذا اللفظ وغيره. ثم بين سبحانه عقابهم وسوّاهم بالكافرين فقال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي إن تدع لهؤلاء المنافقين وتسأل الله أن يستر عليهم ذنوبهم بالعفو عنها وترك فضيحتهم بها أو لا تدع فلن يستر الله عليهم ولن يعفو عنهم، ولكنه يفضحهم على رءوس الأشهاد يوم القيامة. ويراد بالسبعين فى مثل هذا الأسلوب الكثرة لا العدد المعين، فالمراد أنك مهما أكثرت من الاستغفار لهم فلن يستجاب لك فيهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله فيتوب عليهم ويغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له ويقول «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» رواه ابن ماجه. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي من أجل جحودهم وحدانية الله وعدم إيقانهم بما وصف به تعالى نفسه من العلم بالسر والنجوى وسائر الغيوب، وجحودهم وحيه لرسوله صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه من اتباعه، وجحودهم بعثه للموتى وجزاءهم على أعمالهم- لم يعف عن ذنوبهم ولا غما دسّوا به أنفسهم من الآثام والمعاصي. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن سنة الله قد جرت فيمن أصروا على فسوقهم وتمردوا فى نفاقهم وأحاطت بهم خطاياهم- أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان فلا يهتدون إليهما سبيلا.

[سورة التوبة (9) : الآيات 81 إلى 83]

[سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 83] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) تفسير المفردات الفرح: الشعور بارتياح النفس وسرورها، والخلاف والمخالفة بمعنى، ويستعمل خلافه بمعنى بعده، يقال جلست خلاف فلان وخلفه: أي بعده، ومنه: «وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا» والمخلفون من خلّف فلانا: أي تركه خلفه، ويفقهون: أي يعقلون، والخالف: المتخلف. المعنى الجملي بعد أن ذكر بعض سوءات المنافقين من اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال ولمزهم فى قسمة الصدقات وفى إعطائها، عاد إلى الكلام فى ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال فى غزوة تبوك وظلّوا فى المدينة، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها، وقد نزل ذلك أثناء السفر. الإيضاح (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) أي فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك بقعودهم فى بيوتهم مخالفين الله ورسوله، وإنما فرحوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بما فى الخروج معه من أحر عظيم لا تذكر معه راحة القعود فى البيوت شيئا.

(وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي وقالوا لإخوانهم فى النفاق إغراء لهم بالثبات على المنكر وتثبيطا لعزائم المؤمنين: لا تنفروا فى الحر، قل لهم أيها الرسول مفنّدا آراءهم ومسفّها أحلامهم: نار جهنم التي أعدها الله لمن عصاه وعصى رسوله أشد حرا من تلك الأيام فى أوائل فصل الخريف، إذ هذا الحر مما تحتمله الجسوم ولا يلبث أن يخفّ ويزول، ونار جهنم حرها شديد دائم يلفح الوجوه وينضج الجلود، فهم لو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به لما خالفوا وقعدوا ولما فرحوا بقعودهم بل لحزنوا وبكوا كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا. (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي إن الأجدر بهم بحسب ما تقتضيه حالهم وتستوجبه جريمتهم أن يضحكوا قليلا ويبكوا كثيرا لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف من أجر، وما سيحملونه فى الآخرة من وزر، وما يلاقونه فى الدنيا من خزى وضرّ، جزاء لهم على ما اجترحوا من العصيان، وارتكبوا من الإثم والبهتان، وكما يدين الفتى يدان. ونحو الآية قوله صلى الله عليه وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا: يظهر النفاق، وترتفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويتّهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، أناخ بكم الشّرف الجون (الشرف بضمتين جمع أشارف وهى الناقة الكبيرة السن، والجون السود) الفتن كأمثال الليل المظلم» . ثم بين ما يجب أن يعاملوا به فى الدنيا قبل الآخرة مما يقتضى تركهم للفرح والغبطة فى دنياهم بالتمتع بأحكام الإسلام فقال: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) أي فإن ردك الله من سفرك هذا إلى طائفة من المنافقين المتخلفين، فاستأذنوك ليخرجوا معك فى غزاة أو غيرها مما تخرج لأجله، فقل لهم: لن تخرجوا معى أبدا ولن يكون لكم أبدا شرف الصحبة بالخروج معى للجهاد فى سبيل الله

[سورة التوبة (9) : الآيات 84 إلى 85]

ما دمت ودمتم، ولن تقاتلوا معى عدوا لا بالخروج والسفر إليهم ولا بغير ذلك كأن يهاجم للمؤمنون فى عقر دارهم كما حدث يوم وقعة الأحزاب. ثم بين سبب النهى عن صحبتهم فقال: (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) أي إنكم رضيتم لأنفسكم بخزي القعود أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج، إذ طلب إليكم أن تنفروا فلم تنفروا وعصيتم الله ورسوله، فاقعدوا أبدا مع الذين تخلفوا عن النّفر من الأشرار المفسدين الذين خرجوا عن سبيل المهتدين، وربما كان المراد بالخالفين الصبيان والعجزة والنساء الذين لا يكلفون القيام بشرف الجهاد دفاعا عن الحق وإعلاء لكلمة الله. [سورة التوبة (9) : الآيات 84 الى 85] وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) المعنى الجملي بعد أن أمر الله رسوله بإهانة المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات- قفّى على ذلك بذكر إهانة أخرى لهم وهى منع الرسول أن يصلى على من مات منهم بعد إعلامه بحقيقة أمرهم، وفى مقدمتهم زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبىّ والاثنا عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم. الإيضاح (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي ولا تصل أيها الرسول بعد الآن على أحد من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك، ولا تتولّ دفنه والدعاء له بالتثبيت كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم.

روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضى الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال «استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت فإنه الآن يسأل» . ثم بين سبب نهيه عن الصلاة عليهم فقال: (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) أي لأنهم كفروا وماتوا وهم خارجون من حظيرة الإسلام مفارقون أمر الله ونهيه. روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول لما توفّى عبد الله بن أبىّ: دعى رسول الله للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبىّ القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ أعدّد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت قال: «يا عمر أخّر عنى، إنى قد خيّرت: قد قيل لى- استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم- فلو أعلم أنى إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها» ثم صلى عليه ومشى معه حتى قام على قبره إلى أن فرغ منه فعجبت لى ولجراءتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله رسوله أعلم، فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان «ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره» فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل. وقد حكم كثير من العلماء كالقاضى أبى بكر الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم بعدم صحة هذا الحديث لمخالفته للآية من وجوه: (1) جعل الصلاة على ابن أبىّ سببا لنزول الآية، وسياق القرآن صريح فى أنها نزلت فى سفر غزوة تبوك سنة ثمان، وابن أبىّ مات فى السنة التي بعدها. (2) قول عمر للنبى صلى الله عليه وسلم: وقد نهاك ربك أن تصلى عليه- يدل على أن النهى عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبىّ- وقوله بعده- فصلى عليه

[سورة التوبة (9) : الآيات 86 إلى 89]

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) الآية- صريح فى أنه نزل بعد موته والصلاة عليه. (3) قوله إنه صلى الله عليه وسلم قال: إن الله خيره فى الاستغفار لهم وعدمه، إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كالحديث ولم يكن فيها التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم، فأوفيها للتسوية لا للتخيير. وهناك روايات أخرى فى الصلاة على ابن أبىّ من طريق ابن عمرو من طريق جابر. وإنما ذكرنا هذا الحديث مع ما علمت من رأى أئمة الحديث فيه وحكمهم بأنه لا يقبل لما ذكروا من الأسباب- لأنه قلما يخلو تفسيره من ذكره، وقل أن تجد من يشير إلى شىء مما يدل على ضعفه واضطرابه لمخالفته لظاهر الآية، فرأينا أن نجعلك على بينة من أمره إذا أنت قرأته. ثم أكد ما تقدم من النهى عن الاغترار بالأموال والأولاد لأن الأمر جدّ خطير يحتاج إلى التوكيد إذ هما أعظم الأشياء جذبا للقلوب، وجلبا للخواطر للاشتغال بالدنيا، فيجب التحذير منهما مرة بعد أخرى فقال: (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) قد جاء مثل هذا النص فيما سبق إلا أن زيادة (لا) فى الآية السابقة للنهى عن الإعجاب بكل من الأموال والأولاد على حدته، وهو شامل لمن كانت له إحدى المزيتين أو كلاهما، والنهى فى هذه الآية عن الإعجاب بها مجتمعين وهذا أدعى إلى الإعجاب بهما. [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الطّول (بالفتح) : الغنى والثروة، وقد يراد به الفضل والمنة، وذرنا: أي دعنا واتركنا، والخوالف: واحدها خالفة ومثله خالف، وهو من لا خير فيه ولاغناء عنده، والطبع على القلوب: الختم عليها وعدم قبولها لشىء جديد. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن المنافقين عملوا الحيل والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو- قفى على ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم فى التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعنا نكن مع الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال. الإيضاح (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي إنه كلما أنزلت سورة تدعو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم- استأذنك أولو المقدرة على الجهاد المفروض عليهم بأموالهم وأنفسهم- فى التخلف عن الجهاد وقالوا دعنا نكن مع القاعدين فى بيوتهم من الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال والصبيان والنساء غير المخاطبين به.

ونحو الآية قوله: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» . وفى هذا تصريح بجبنهم ورضاهم لأنفسهم بالمذلة والهوان. (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء اللواتى ليس عليهن فرض الجهاد، وهذا منتهى الجبن وتعافه النفس الكريمة التي لا ترضى بالمذلة. ثم بين العلة فى قبولهم هذا الذل فقال: (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي إن الله قد ختم على قلوبهم فلا تقبل جديدا من العلم والمواعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها وصار وصفا لازما لها، لأن النفاق قد أثر فيها بحسب سنة الله فى الارتباط بين العقائد والأعمال، فهم لا يفهمون ما أمروا به، فهم تدبر واعتبار فيعملوا به. (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ولكن الرسول والذين آمنوا به وكانوا معه فى كل المهامّ الدينية لا يفارقونه- جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وقاموا بالواجب خير قيام عملا بداعي الإيمان وأمر الله فى القرآن. (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي وأولئك المجاهدون فى سبيل الله لهم الخيرات التي هى ثمرات الإيمان والجهاد من شرف النصر ومحو كلمة الكفر وإعلاء كلمة الله وإقامة الحق والعدل والتمتع بالمغانم والسيادة فى الأرض، دون المنافقين الجبناء الذين ألفوا الذلة والهوان ولم يكونوا أهلا للقيام بهذه الأعباء، وأولئك هم الفائزون بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة دون المنافقين الذين حرموا منهما بنفاقهم بما له من الأثر فى الأثر فى أخلاقهم وأعمالهم. (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تقدم شرح هذا فى آيات سابقة.

[سورة التوبة (9) : آية 90]

[سورة التوبة (9) : آية 90] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) تفسير المفردات المعذّر: من عذّر فى الأمر إذا قصّر فيه وتوانى ولم يجدّ وهو يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له، وقد يكون أصله المعتذرون من اعتذر، والمعتذر إما صادق أو كاذب، والأعراب: هم سكان البدو، وكذبوا الله ورسوله: أي أظهروا الإيمان بهما كذبا، يقال: كذبته نفسه إذا حدثته بالأمانى والأوهام التي لا يبلغها، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له. المعنى الجملي بعد أن بين حال منافقى الحضر فى المدينة- أردف ذلك ذكر حال الأعراب من البدو الذين طلبوا الإذن بالتخلف والذين تخلفوا بغير إذن. الإيضاح (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) أي وجاء الذين يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم فى التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام من أولى التعذير. قال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا نبى الله: إنا إن غزونا معك أغارت طيىء على نسائنا وأولادنا وأنعامنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنبأنى الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم. واختلفت الروايات بين قائل بصدقهم فى الاعتذار، وقائل بكذبهم فيه، وظاهر كلام ابن عباس أنهم صادقون فى اعتذارهم، وعليه يكون المراد بالذين كذبوا الله ورسوله جماعة غيرهم من المنافقين.

[سورة التوبة (9) : الآيات 91 إلى 93]

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما على غير اعتقاد صادق، قال أبو عمرو بن العلاء: كان كلا الفريقين مسيئا، قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله بقوله: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى، فأوعد المكذبين وبعض المعتذرين بقوله: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي سيصيب الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين والكاذبين من المعتذرين الذين فى قلوبهم مرض- عذاب أليم فى الدنيا والآخرة. [سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 93] لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) المعنى الجملي بعد أن ذكر المعذرين والذين كذبوا الله ورسوله، وذكر وعيدهم على سوء صنيعهم- قفى على ذلك بذكر أصناف ثلاثة أعذارها مقبولة، ثم أردف هذا بذكر شر الأعذار وهو استئذان الأغنياء.

الإيضاح

الإيضاح (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إن التكليف بالغزو ساقط عن أصناف ثلاثة: (1) الضعفاء وهم من لا قوة لهم فى أبدانهم تمكنهم من الجهاد كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان وذوى العاهات التي لا تزول كالكساح والعمى والعرج. (2) المرضى وهم من عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد، وعذرهم ينتهى إذا شفوا منها. (3) الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا ما خرجوا، ولا ما يكفى عيالهم. وقد كان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال، فالفقير ينفق على نفسه، والغنى ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته كما فعلوا فى غزوة تبوك. والخلاصة- إن هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم: أي لا ضيق عليهم ولا إثم فى قعودهم عن الجهاد الواجب على شرط أن ينصحوا لله ورسوله: أي يخلصوا لله فى الإيمان وللرسول فى الطاعة بعمل كل ما فيه مصلحة للأمة الإسلامية ولا سيما المجاهدين منها من كتمان السر والحث على البر ومقاومة الخائنين فى السر والجهر. روى مسلم عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة- قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» . وروى البخاري ومسلم عن جابر قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم» . (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) السبيل: الطريق أي ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذتهم، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليهم. وقد جاء هذا الأسلوب كثيرا فى الكتاب الكريم، وهو عام فى كل من

أحسن عملا من أعمال البر والتقوى كما قال تعالى: «بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ» . وقد تفضل الشارع الحكيم فجازى المحسن بأضعاف إحسانه ولم يؤاخذ المسيء إلا بقدر إساءته. والخلاصة- إن كل ناصح لله ورسوله فهو محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه فى الحرج. ثم قفّى ذلك بذكر الصفح عنهم والتجاوز عن سيئاتهم فقال: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وهو سبحانه كثير المغفرة واسع الرحمة يستر على المقصرين ضعفهم فى أداء الواجبات ما داموا مخلصين النصح لله ورسوله، ويدخلهم فى زمرة الصالحين من عباده. أما المنافقون المسيئون فلا يغفر لهم ولا يرحمهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن النفاق الذي كان سببا فى ارتكاب هذه الآثام. (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) يقال حمله على البعير أو غيره أركبه إياه أو أعطاه إياه ليركبه، وكأنّ الطالب لظهر يركبه يقول لمن يطلب منه: احملني. أي لا حرج على من ذكروا أولا ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل فيخرجوا معك، فلم تجد ما تحملهم عليه، وهؤلاء وإن دخلوا فى عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد لفقدهم الرواحل- قد خصوا بالذكر اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم قسم مستقل. (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) أي انصرفوا من مجلسك وهم يبكون بكاء شديدا يصحبه حزن عميق، فكانت أعينهم تمتلىء دمعا يتدفق من جوانبها حزنا وأسفا على أنهم لا يجدون ما ينفقون ولا ما يركبون فى خروجهم معك للجهاد فى سبيل الله وابتغاء مرضاته.

روى ابن جرير عن ابن عباس قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني فقالوا يا رسول الله احملنا فقال: (والله لا أجد ما أحملكم عليه) فأنزل الله (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الآية، وكانوا يسمون البكائين. وفى رواية أنهم ما سألوه إلا الحملان على البغال، وفى رواية أنهم سألوه الزاد والماء، ولا مانع من وقوع كل هذا فى هذه الغزوة الكبيرة، ولكن الذين فى الآية هم طلاب الرواحل. وعدم وجود ما يحملون عليه يدخل فيه مراكب النقل البرية والبحرية والهوائية فى هذا العصر، ويتحقق العذر بفقد ما يحتاج إليه منها فى كل سفر بحسبه، ويفقد العذر بوجوده. ولما بين من لا سبيل عليهم فى تلك الحال- ذكر من عليهم السبيل فقال: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) أي إنما الطريق الموصل للمؤاخذة والمعاقبة بالحق على من يطلبون الإذن فى القعود عن الجهاد والتخلف عن الغزو وهم أغنياء يستطيعون إعداد العدة من زاد وراحلة ونحو ذلك. ثم ذكر السبب فى استحقاقهم المؤاخذة فقال: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف والخالفين من النساء والأطفال والمعذرين من المفسدين. (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وأحاطت بهم خطاياهم وذنوبهم بحسب سنن الله فى أمثالهم، فهم لا يعلمون حقيقة أمرهم ولا سوء عاقبتهم، وما هو سبب ذلك من أعمالهم، فهم قد رضوا بالمهانة فى الدنيا بانتظامهم فى سلك النساء والأطفال- إلا أنّ تخلف الأفراد عن القتال الذي تسعى إليه الشعوب والأمم يعد من مظاهر الخزي والعار، وقد جعله الدين من أقوى آيات الكفر والنفاق.

وأما سوء عاقبتهم فيكفى فيه فضيحتهم فى هذه السورة كفاء إحجامهم عن الجهاد فى سبيله. وما أعده لهم من العذاب العظيم والخزي والنكال فى نار الجحيم. اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا لدى هول الموقف والحساب، واجعلنا ممن أخلصوا ال؟؟؟؟ السر والنجوى، واحشرنا فى زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وقد كان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء فى الحادي عشر من ذى القعدة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة، وله الحمد أولا وآخرا.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 الغنيمة. الفيء. النفل 5 الحكمة فى تقسيم الخمس 9 الثبات قوة معنوية 10 التنازع مدعاة الفشل 13 الملائكة يلهمون المؤمنين ما يثبت قلوبهم 17 الله لا يحابى بعض الشعوب بنسبها وفضل أجدادها 18 عقاب الله جار على سننه المطردة فيها 21 استعمال القسوة مع ناقضى العهود لا بد منه للعظة والاعتبار 24 الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله 25 الاستعداد للحرب يمنع الحرب 28 التآلف من أقوى وسائل التعاون والتناصر 30 حث المؤمنين على القتال 32 من سنن الله أن يكون الغلب للصابرين 35 عتاب الله لنبيه على أخذ الفداء يوم بدر 38 أخذ الفداء من عمه العباس يوم بدر 40 ترغيب الأسرى فى الإيمان وإنذارهم عاقبة الخيانة 43 امتازت الشريعة الإسلامية بحفظ العهود والمواثيق 53 أمر الله نبيه بنبذ عهود المشركين

الصفحة المبحث 55 الوفاء بالعهود من فرائض الإسلام 67 الأمر بقتال المشركين لأسباب ثلاثة 75 ما ورد فى عمارة المساجد 80 الأمور الداعية إلى مخالفة الكفار 84 محبة الله ورسوله 86 بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه 90 بلاد الإسلام فى حق الكفار أقسام ثلاثة 93 الأمور التي دعت إلى قتال المشركين 98 من عزير؟ 100 عقيدة التثليث 105 حديث بين عدى بن حاتم والنبي صلى الله عليه وسلم 107 أكل أموال الناس بالباطل على صور 110 كل مال أديت زكاته فليس بكنز 114 ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض 116 إنما النسيء زيادة فى الكفر 118 غزوة تبوك 119 أسباب تثاقلهم عن القتال فى غزوة العسرة 122 إنزال الملائكة مدد للمؤمنين يوم بدر 124 الأمر بجهاد الأعداء بالأموال والأنفس 126 عتاب الرسول فى إذنه لمن تخلف من المنافقين فى غزوة تبوك 128 ليس من شأن المؤمن أن يستأذن الرسول فى أمر الجهاد بالأنفس والأموال 130 المفاسد التي تنجم من وجود المنافقين فى الجيش

الصفحة المبحث 132 من تربية الله لرسوله أن يبين الحقائق بعد اجتهاده 134 كان المنافقون يشيعون قالة السوء عن الرسول والمؤمنين 135 التوكل على الله حقا يقوم بما أوجبه عليه فى شرعه 137 أوصاف المنافقين 140 لمزهم للنبى صلى الله عليه وسلم فى قسمته الصدقات 142 مصارف الزكاة 147 كان المنافقون يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون هو أذن 148 إيذاء الرسول فى شأن الرسالة كفر وفى غيرها حرام 150 من يحاد الله ورسوله فله نار جهنم خالدا فيها أبدا 152 كانوا يستهزئون بالله ورسوله ويقولون إنا كنا لاعبين هازلين 159 أقسام الولاية 163 المنافقون يعاملون بأحكام الشريعة كالمؤمنين الصادقين 164 طلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم الغلظة فى معاملة الكفار والمنافقين تربية لهم وعبرة لغيرهم 165 همّ المنافقين باغتيال الرسول عند منصرفه من تبوك 168 من المنافقين من عاهد الله لئن أيسر ليتصدق ثم أخلف 171 حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فى غزوة تبوك 176 ما صلى رسول الله على منافق بعد ابن أبىّ 180 استئذان المعذرين من الأعراب 182 لا حرج على الضعفاء ولا على المرضى فى القعود عن القتال

تتمة سورة البراءة

الجزء الحادي عشر [تتمة سورة البراءة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التوبة (9) : الآيات 94 الى 96] يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) تفسير المفردات الغيب: ما غاب عنك علمه، والشهادة: ما تشهده وتعرفه، الانقلاب: الرجوع، رجس: أي قذر يجب الإعراض عنه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر عزّ اسمه من يستحقون اللوم والمؤاخذة من المعذّرين، ومن لا سبيل إلى مؤاخذتهم وعدم الحرج عليهم- ذكر فى هذه الآيات ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا فى المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودتهم. الإيضاح (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي سيعتذر إليكم أيها المؤمنون أولئك الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وهم أغنياء أصحاء لا عذر لهم عن التخلف عن الغزو وغيره من سيئاتهم عند رجوعكم من السفر. (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول: لا تعتذروا إنا لن نصدّقكم فى معاذيركم أبدا ولن نطمئنّ إليكم. ثم بين السبب فى عدم تصديقهم فقال: (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي قد أنبأنا الله بوحيه إلى رسوله بعض أخباركم التي تسرّونها فى ضمائركم وهى مخالفة لظواهركم التي تعتذرون بها، ونبأ الله هو الحق الذي لا شك فيه، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل ولا يصدّق الكاذب. وإنما قال نبأنا ولم يقل نبأنى إيماء إلى أنه أمره أن ينبّىء بذلك أصحابه ولم يكن هذا النبأ خاصا به، كما أن اعتذارهم للجميع يقتضى أن يكونوا كلهم عالمين بما فضحهم الله به، وفى هذا من التشهير بهم والخزي لهم ما لا خفاء فيه. (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي وسيرى الله عملكم ورسوله فيما بعد، وهو الذي سيدلّ: إما على إصراركم على النفاق أو على التوبة والإنابة إلى ربكم، وأما أقوالكم فلا يعتدّ بها مهما وكدتموها بالأيمان، فإن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وشهد لكم عملكم بصلاح طويّتكم، فإن الله يتقبل منكم توبتكم، ويغفر لكم حوبتكم، ويعاملكم

الرسول بما يعامل به المؤمنين الذين أخلصوا وصدقوا وشهدت لهم أعمالهم بذلك، وإن أنتم أبيتم إلا الإصرار على النفاق وإلا الاعتماد على رواج سوق الكذب بتلك الأيمان التي تحلفونها فسيعاملكم الرسول بما أمره الله به من جهادكم والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهرين. وفى هذا إيماء إلى الرغبة فى توبتهم حين سنوح الفرصة. (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم تردون يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم ما تكتمون وما تظهرون، فينبئكم حينئذ بما كنتم تعملون ويجازيكم عليه بما تستحقون وهو ما أوعدكم به فى كتابه الكريم فى هذه السورة وفى غيرها «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» . وفى الآية إيماء إلى أنه ينبغى تحامى كل ما يعتذر منه من ذنب أو تقصير، وقد ورد فى الحديث «إياك وما يعتذر منه» . ثم أكد ما سبق من نفاقهم بقوله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي سيؤكدون لكم اعتذارهم بما يحلفون به من كاذب الأيمان إذا انقلبتم من سفركم ورجعتم إليهم لتعرضوا عن العتب عليهم والتوبيخ لهم على قعودهم مع الخالفين من العجزة والنساء والأطفال وعلى البخل بالنفقة والمال. (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي فأعرضوا عنهم إعراض الإهانة والتحقير، لا إعراض الصفح وقبول العذر. روى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين قدم المدينة «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» . ثم علل هذا بقوله: (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي إن فى نفوسهم قدرا معنويا يجب الاحتراس منه خوف سريان عدواه، وميل النفوس إليه، كما يحترز صاحب الثوب النظيف من الأقذار الحسّية التي ربما تصيبه إذا لم يحتط لها.

[سورة التوبة (9) : الآيات 97 إلى 99]

(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي وملجؤهم الأخير نار جهنم جزاء لهم بما كسبوا فى الدنيا من أعمال النفاق وغيرها مما دنس نفوسهم، وزادهم رجسا على رجسهم. ثم زاد فى تأكيد نفاقهم فقال: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي يحلفون لكم لتستديموا معاملتهم بظاهر إسلامهم، وهذا أهمّ الأغراض لديهم، فلا حظّ لهم من إظهار الإسلام سواه، ولو كان إسلامهم عن يقين واعتقاد لكان غرضهم الأول إرضاء الله ورسوله. (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فإن ترضوا عنهم كما أرادوا، وساعدتموهم على ما طلبوا فإن رضاكم عنهم لا يجديهم نفعا، فإن الله ساخط عليهم بسبب فسوقهم وخروجهم عن أمره ونهيه. وفى هذا إيماء إلى نهى المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة وأن من يرضى عنهم من المؤمنين يكون فاسقا مثلهم محروما من رضوان الله، وأن من يتوب منهم ويرضى الله ورسوله يخرج من حدود سخطه ويدخل فى حظيرة مرضاته ولا يعدّ حينئذ فاسقا. روى عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت فى الجدّ بن قيس ومعتّب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة بألا يجالسوهم ولا يكلموهم. وقال قتادة: إنها نزلت فى عبد الله ابن أبىّ فإنه حلف للنبى صلى الله عليه وسلم بعد عودته ألا يتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى عنه فلم يفعل. [سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 99] الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأعراب: اسم لبدو العرب: واحده أعرابى والأنثى أعرابية، والعرب اسم لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة بدوه وحضره: واحده عربى، والمغرم: الغرامة والخسران، من الغرام بمعنى الهلاك، والدائرة: ما يحيط بالشيء والمراد بها ما لا محيص منه من تصاريف الأيام ونوائبها التي تحيط شرورها بالناس، والدائرة أيضا: النائبة والمصيبة، والسوء: اسم لما يسوء ويضر، والقربات: واحدها قربة، وهى فى المنزلة والمكانة كالقرب فى المكان والقرابة فى الرحم، والصلوات: واحدها صلاة، ويراد بها الدعاء. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم، بين فى هذه الآيات الثلاث أحوال الأعراب مؤمنيهم ومنافقيهم كذلك. الإيضاح (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ) أي إن طبيعة البداوة اقتضت أمرين: (1) إن كفارهم ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم من أهل الحضر، ولا سيما من يقيم منهم فى المدينة، فهم أغلظ طباعا وأقسى قلوبا، لأنهم يقضون جلّ أعمارهم فى رعى الأنعام وحمايتها من ضوارى الوحوش- إلى أنهم محرومون من العلوم الكسبية والآداب الاجتماعية. (2) إنهم أحق وأحرى من أهل الحضر بألا يعلموا حدود ما أنزل الله على

رسوله من الهدى والبينات فى كتابه وما آتاه من الحكمة التي بيّن بها تلك الحد تارة بالقول وأخرى بالفعل. وكان صحابته فى المدينة وما حولها يتلقّون عنه الكتاب حين نزوله ويشهدون سنته فى العمل به، ويرسل عمّاله إلى البلاد التي افتتحت يبلغون الناس القرآن ويحكمون به وبسنة رسوله المبيّنة له- وكل هذا لم يكن مستطاعا لأهل البوادي، ومن ثم كان الجهل فيهم أكثر لحال المعيشة البدوية. روى أبو داود والبيهقي عن أبى هريرة مرفوعا «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا» ذاك أن السلاطين قلما يرضون عمن يصارحهم القول ويؤثرهم بالنصح ولا يزداد قربا منهم إلا المراءون الذين يعينونهم على الظلم ويثنون عليهم بالباطل. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي واسع العلم بشئون عباده وأحوالهم من إيمان وكفر وإخلاص ونفاق، تامّ الحكمة فيما شرعه لهم، وفى جزائهم من نعيم مقيم، أو عذاب أليم. (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) أي ومن الأعراب ناس كانوا ينفقون أموالهم فى الجهاد رياء وتقيّة، ويعدّون ذاك من المغارم التي يجب على المرء أداؤها طوعا أو كرها لدفع المكروه عن أنفسهم أو عن قومهم ولا منفعة لهم فيها لا فى الدنيا وهو واضح، ولا فى الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قال الضحاك: وهم بنو أسد وغطفان. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي وينتظرون أن تحل بكم نوائب الزمان وأحداثه التي تدور بالناس وتحيط بهم، فتبدّل قوتكم ضعفا وانتصاركم هزيمة، فيستريحوا من أداء هذه المغارم لكم، إذ يستغنون عن إظهار الإسلام نفاقا، وقد كانوا يتوقعون ظهور المشركين واليهود على المؤمنين، فلما أعيتهم الحيل صاروا ينتظررن موت النبي صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أن الإسلام يموت بموته. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) هذا دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به المؤمنين، أي عليهم

وحدهم الدائرة السوءى تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم وليس للمؤمنين عاقبة إلا ما يسرهم من نصر الله وتوفيقه لهم، وما يسوء أعداءهم من خذلان وخيبة وتعذيب لهم فى الدنيا قبل الآخرة. (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما يقولونه مما يعبر عن شعورهم واعتقادهم فى نفقاتهم إذ تحدثوا بذلك فيما بينهم، عليم بما يضمرونه فى سرائرهم، وسيحاسبهم على ما يسمع ويعلم من قول وفعل ويجزيهم به. وبعد أن بيّن حال المنافقين من الأعراب- ذكر حال المؤمنين الصادقين منهم فقال: (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ومن الأعراب من يؤمن بالله ويثبت له القدرة وكمال التصرف فى الكون، واليوم الآخر الذي تجازى فيه كل نفس بما كسبت، قال مجاهد: هم بنو مقرّن من مزينة، وهم الذين قال الله فيهم «وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ» . (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي ويتخذ ما ينفقه وسيلة لأمرين: (1) القربات والزلفى عند الله تعالى جدّه. (2) صلوات الرسول أي أدعيته، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم، ولم يجىء فى نصوص الدين انتفاع أحد بعمل غيره إلا الدعاء وما يكون المرء سببا فيه كالولد الصالح والسنة الحسنة يتّبع فيها. وسميت الصلوات الشرعية بهذا الاسم من قبل أن الدعاء وهو المعنى اللغوي لها هو روحها ومخها وسرها الذي به تتحقق العبودية على أتمّ وجوهها. وقد بين الله جزاءهم على ما انطوت عليه نفوسهم من صدق الإيمان وإخلاص النية فى الإنفاق فى سبيل الله فأخبر بقبول نفقتهم وإثابتهم عليها فقال: (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي ألا إن تلك النفقة التي اتخذت قد تقبلها الله وأثاب عليها بما وعد به فى قوله:

[سورة التوبة (9) : الآيات 100 إلى 102]

(سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي سيرحمهم الله برحمته الخاصة بمن رضى عنهم، وهى هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى جنات النعيم، والمراد بإدخالهم فى الرحمة أن تكون محيطة بهم شاملة لهم وهم مغمورون فيها، وهذا أبلغ فى إثباتها لهم من مثل قوله: «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ» . (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه واسع المغفرة والرحمة لمن يخلصون فى أعمالهم، فهو يغفر لهم ما فرط منهم من ذنب أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم إلى خير العمل وحسن المصير. [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 102] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) تفسير المفردات رضى الله عنهم: أي قبل طاعتهم، ورضوا عنه: أي بما أسبغ عليهم من النعم الدنيوية والدينية، ومردوا: أي مرنوا وحذقوا. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات- قفى على ذلك بذكر منازل أعلى من منازلهم، وهى منازل السابقين من المهاجرين والأنصار

الإيضاح

ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هى شر الجميع مرنت على النفاق وحذقت فنونه، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيىء العمل بأحسنه، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم. الإيضاح (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ذكر الله فى هذه الآية ثلاث طبقات من الأمة هى خيرها: (1) السابقون الأولون من المهاجرين، وهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، وقد كان المشركون يضطهدون المؤمنين ويقاتلونهم فى دار الهجرة وما حولها ولا يمكّنون أحدا من الهجرة متى كان ذلك فى طاقتهم، ولا منجاة للمؤمنين من شرهم إلا بالفرار أو الجوار، فالذين هاجروا فى ذلك الحين كانوا من المؤمنين الصادقين، وأفضل هؤلاء الخلفاء الأربعة ثم العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة. (2) السابقون الأولون من الأنصار، وهم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة فى منى فى المرة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة، وكانوا سبعة، وفى المرة الثانية، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. (3) الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فى الهجرة والنصرة حال كونهم محسنين فى أفعالهم وأقوالهم، فإذا اتبعوهم فى ظاهر الإسلام كانوا منافقين مسيئين غير محسنين فى هذا الاتباع، وإذا اتبعوهم محسنين فى بعض أعمالهم ومسيئين فى بعض كانوا مذنبين. (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي هؤلاء جميعا رضى الله عنهم فى إيمانهم وإسلامهم، فقبل طاعتهم وتجاوز عن زلّاتهم، وبهم أعز الإسلام ونكّل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية فأنقذهم من الشرك، وهداهم من الضلال، وأعزهم بعد الذل، وأغناهم بعد الفقر.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذا الوعد الكريم تقدم فى آيات سابقة فى هذه السورة وغيرها، ولا شك أن نعيم الجنة الخالد بين روحانى وبدنىّ فوز أيّما فوز. والخلاصة- إن هذه الطبقات الثلاث قد استبق أفرادها الصراط، وشهد لهم ربّهم بالمغفرة والتجاوز عن كل ذنب، وما عاد يؤثّر فى كمال إيمانهم شىء، لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب. وبعد أن بيّن كمال إيمان تلك الطبقات الثلاث ورضاه عنهم- بين حال منافقى أهل المدينة ومن حولها فقال (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي إن بعض الأعراب الذين حولكم منافقون. قال البغوي والواحدي: هم من قبائل جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار، وكانت منازلهم حول المدينة، وذلك لا يمنع أن يكون فيهم مؤمنون صادقون دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ومدحهم فقد روى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وعفار موالى الله تعالى ورسوله لا موالى لهم غيره» ، وعنه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها أما إنى لم أقلها، لكن قالها الله تعالى» . وكذلك من أهل المدينة نفسها ناس منافقون، من الأوس والخزرج سوى من أعلم الله رسوله بهم فى هذه السورة بما صدر منهم من أقوال وأفعال تنافى الإيمان. هؤلاء وهؤلاء مرنوا على النفاق وحذقوه حتى بلغوا الغاية فى إتقانه، فلا يشعر أحد به، إذ هم يتقون جميع الأمارات والشبه التي تدل عليه. (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي لا تعرفهم أيها الرسول الكريم بفطنتك ودقيق فراستك لحذقهم فى التقيّة وتباعدهم عن مثار الشبهات، بل نحن نعلمهم بأعيانهم، وهؤلاء أخفى نفاقا ممن قال الله فيهم: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ

يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» . وهؤلاء لم يعلمه الله أعيانهم ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم فى هذه السورة، لأنهم يتحامون ما يكون شبهة فى إيمانهم، وضررهم مقصور عليهم لا يعدوهم إلى سواهم. والحكمة فى إخبارنا بحالهم أن يعلموا هم أنفسهم أن الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم الله كما فضح سواهم، وليتوب منهم من يتوب قبل أن يحل بهم ما أوعدهم به ربهم بقوله: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) أي سنعذبهم فى الحياة الدنيا مرتين: أولاهما ما يصيبهم به من المصايب وانتظار الفضيحة بهتك أستارهم. وثانيتهما آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم فى ذلك الحين، ثم يردون يوم القيامة إلى عذاب جهنم وبئس المصير. والخلاصة- إنهم يعذبون فى الدنيا بالعذاب الباطن بتوبيخ الضمائر وعذاب الخوف من الفضيحة على رءوس الأشهاد فى الظاهر، ثم عذاب النار وبئس القرار. وجملة القول- إن المنافقين فريقان: فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى لا يشعر أحد بشىء يستنكره منهم. وهذان الفريقان يوجدان فى كل عصر، فما من قطر من الأقطار إلا منى أهله بأعوان وأنصار منهم يزعمون أنهم يخدمون أمتهم من طريق استمالة الغاصب واسترضائه، وأنه لولاهم لتمادى فى ظلمه وهضم حقوق الأمة ولم يقف عند حد، ومنهم من يخدمون المستعمرين خدمة خفية لا تشعر بها الأمة لأنهم مرنوا على النفاق. وأشد المنافقين مرودا على النفاق أعوان الملوك المستبدين الذين يلبسون الباطل لباس الحق ويروجونه فى أعين الجماهير خدمة لأولئك الملوك.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) أي وهناك فريق آخر ممن حولكم من الأعوان ومن أهل المدينة ليسوا منافقين ولا من السابقين الأولين، بل من المذنبين الذين خلطوا الصالح من العمل بالسيىء منه، والسيّء بالصالح، فلم يكونوا من الصالحين الخلص ولا من الفاسقين، فهم قد آمنوا وعملوا الصالحات واقترفوا بعض السيئات كالذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين ولم يعتذروا بالكذب كالمنافقين، ثم كانوا حين قعودهم ناصحين لله ورسوله شاعرين بذنوبهم خائفين من ربهم. وقد بين سبحانه حالهم بقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي إنهم محل الرجاء لقبول الله توبتهم بتوفيقهم للتوبة الصحيحة التي هى سبب المغفرة والرحمة- وإنما يكون ذلك بالعلم بقبح الذنب وسوء عاقبته، وتوبيخ الضمير حين تصور سخط الله والخوف من عقابه- ثم الإقلاع عنه بباعث هذا الألم، والعزم على عدم العود إلى قترافه، والعزم على العمل بضده ليمحو أثره من نفسه. ثم علل هذا بقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى يقبل توبتهم، لأنه كثير المغفرة للتائبين، واسع الرحمة للمحسنين. وفى معنى الآية قوله: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» وقوله: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» . قال جماعة من العلماء: إن هذه الآية أرجى آية فى القرآن فى توقع رحمة الله للمذنبين الذين يجترحون السيئات ثم يتوبون إلى ربهم ويقلعون عن ذنوبهم. روى البخاري عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتانى الليلة أي فى المنام ملكان فابتعثانى فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم اذهبوا فقعوا فى ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء

[سورة التوبة (9) : الآيات 103 إلى 105]

عنهم فصاروا فى أحسن صورة، قالا لى هذه جنة عدن وهذا منزلك، قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا لقد تجاوز الله عنهم» . ولا شك أن هذا تمثيل فى الرؤيا لتجميل العمل الصالح للنفس وتشويه العمل القبيح لها، ولتطهيرها بالتوبة وصالح العمل حتى تكون كلها جميلة وأهلا للكرامة بعد أن تبعث كلها فى الصورة التي كانت عليها قبل التوبة، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بنهر جار يفيض على عتبة الإنسان كل يوم خمس مرات فهل يبقى عليها وسخا أو قذرا؟. وفى الحديث: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» . [سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 105] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) تفسير المفردات الصدقة: ما ينفقه المؤمن قربة لله، والتزكية، من قولهم رجل زكىّ: أي زائد الخير والفضل قاله فى الأساس، والصلاة: الدعاء، والسكن: ما تسكن إليه النفس وترتاح من أهل ومال ومتاع ودعاء وثناء. المعنى الجملي جاءت هذه الآيات فى بيان فوائد صدقة الأموال والحث عليها وقبول التوبة لمن قصّر فى الجهاد فى سبيل الله بماله ونفسه.

الإيضاح

روى ابن جرير أن أبا لبابة وأصحابه (ممن تخلفوا وتابوا وسيأتى ذكرهم) جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أطلقوا فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فأنزل الله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فلما نزلت أخذ الثلث من أموالهم فتصدق به عنهم. وهذا النص- وإن كان سببه خاصا- عام فى الأخذ، يشمل خلفاء الرسول من بعده ومن بعدهم من أئمة المسلمين وفى المأخوذ منهم وهم المسلمون الموسرون، ومن ثم قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعى الزكاة من أحياء العرب حتى أدّوا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأفاتلنهم على منعه» . الإيضاح (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) أي خذ أيها الرسول من أموال هؤلاء ومن غيرهم من سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها من نقد وأنعام وأموال تجارة، صدقة بمقدار معين فى الزكاة المفروضة أو بمقدار غير معين فى زكاة التطوع تطهرهم بها من دنس البخل والطمع والقسوة على الفقراء البائسين، وتزكى أنفسهم بها وترفعهم إلى منازل الأبرار بفعل الخيرات حتى يكونوا أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية. وقد نسبت التزكية إلى الله فى قوله: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً، وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» لأنه الخالق الموفق للعبد لفعل ما تزكو به نفسه وتصلح. ونسبت إلى رسول الله فى قوله: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» .

لأنه هو المربى للمؤمنين على ما تزكو به نفوسهم، ويعلوا قدرها باتباعهم سنته العملية والقولية وبيانه لكتاب الله، فهو القدوة الحسنة لهم. ونسبت إلى الفاعل لها فى نحو قوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» وقوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» لأنه قد فعل ما كان سببا فى طهارة نفسه وزكاتها من صدقات ونحوها من أعمال البر. وأما النهى عن تزكية النفس فى قوله: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» وقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» فذاك فى تزكية النفس بدعوى اللسان فقط دون عمل يؤيدها. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي وادع أيها الرسول للمتصدقين واستغفر لهم، فإن دعاءك واستغفارك سكن لهم يذهب به اضطراب نفوسهم وتطمئن قلوبهم بقبول توبتهم، ويرتاحون إلى قبول الله صدقاتهم بأخذك لها ووضعها فى مواضعها. والصلاة من الله على عباده رحمته لهم، ومن ملائكته استغفارهم كما قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» ومن المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم دعاؤهم له بما أمرهم به فى الصلاة بعد التشهد الأخير كالدعاء المأثور (اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد) . (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لاعترافهم بذنوبهم، وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة، عليم بندمهم وتوبتهم منها وإخلاصهم فى صدقاتهم وطيب أنفسهم بها، عليم بما فيه الخير والمصلحة لهم وهو الذي يثيبهم عليها. وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبى أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صلّ على فلان» فأتاه أبى بصدقته فقال «اللهم صلّ على آل أبى أوفى» .

فوائد الصدقات فى إصلاح المجتمع الإسلامى

وفى هذا إيماء إلى أن المراد بالصدقة ما يعمّ الفريضة وغيرها، وإلى أنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على هذا الدعاء، ومن ثم قيل إن هذا الأمر للوجوب وهو خاصّ به صلى الله عليه وسلم. فوائد الصدقات فى إصلاح المجتمع الإسلامى الصدقات تطهّر أنفس الأفراد من أرجاس البخل، والدناءة والاثرة، والطمع والجشع، وتبعدهم عن أكل أموال الناس بالباطل من خيانة وسرقة وغصب وربا، وغير ذلك: فإن من يتعود بذل بعض ما فى يده أو ما أودعه فى خزائنه فى سبيل الله ابتغاء مرضاته ومغفرة ذنوبه- يكن أرفع نفسا من أن يأخذ مال غيره بغير حق، وإذا طهرت أنفس الأفراد وزكت بالعلم والتقوى وهما ثمرة الإيمان طهرت جماعة المؤمنين من أرجاس الرذائل الاجتماعية التي هى مثار التحاسد والتعادي والبغي والعدوان والفتن والحروب، فإن الأموال قوام الحياة المعيشية للفرد والمجتمع، فهى مثار التنازع والتخاصم، ومن ثم أوجب الدين على أصحاب الأموال من النفقات والصدقات ما يجعل الثروات وسيلة للسلام لا إلى الخصام. وقد جمع الإسلام بين مصالح الروح والجسد للوصول إلى السيادة فى الدنيا والسعادة فى الآخرة، فهو وسط بين اليهودية المفرطة فى حب المال، والنصرانية الروحانية الزاهدة، فمن أهمّ مقاصده الإصلاحية فى الاجتماع البشرى هداية الناس إلى العدل فى أمر المال ليبتعدوا عن شر طغيان الأغنياء على الفقراء، ونصوص الدين فى هذا الباب هى الغاية التي لا يطمح مصلح فى التطلع إلى ما بعدها، وهى هادمة لمزاعم من يفتات على الإسلام من أرباب الجهل والهوى. وقد فرضت الزكاة المطلقة فى أول الإسلام وكانت اشتراكية، والباعث عليها القلوب والضمائر لا إكراه الحكام، ثم جعلت معينة محدودة عند ما صار للإسلام دولة. وسر الوضع الأول أن جماعة المسلمين فى مكة قبل الهجرة كانوا محصورين،

ومنهم الموسر والمعسر وصاحب الثروة وذو الفقر المدقع، فوجب أن يقوم أغنياؤهم بكفالة فقرائهم وجوبا دينيا إذا كانت الزكاة المعينة لا تكفيهم. ولا شك أن الأسس الإصلاحية للمال التي وضعها الإسلام لا يتسنى لأقدر الأمم المالية فى العصر الحاضر أن تضع خيرا منها، انظر إليه تره حرّم الربا والقمار، لما أنهما يوجدان التنازع والتخاصم بين الناس وإن كان فيهما بعض المكاسب، وأوجب الحجر على السفهاء فى أموالهم صيانة لها عن الضياع فيما يضرهم ويضر أمتهم، وفرض النفقة الزوجية والنفقة على ذوى القرابة من ذوى الحاجة، وذم الإسراف والتبذير والبخل والجشع والتقتير ومدح القصد والاعتدال فى النفقة على النفس والعيال، وأباح الزينة والطيبات من الرزق بشرط اجتناب الإسراف حفظا للثروة من الضياع وبعدا عن الأمراض والأدواء البدنية، وجعل زكاة النقدين الواجبة هى ربع العشر أي 1- 40 وهو أوسط ربح تدفعه المصارف المالية لمودعى نقودهم فيها للاستغلال. انظر إلى الثروة فى مصر نقدا وتجارة وتأمل مقدار ربع العشر الواجب فيها فى كل عام لفقرائها ومرافقها العامة، ثم قدّر فى نفسك إذا هى قامت بالواجب الديني عليها فى الزكاة، هل يكون فيها فقر مدقع أو شقاء بين أفراد الأمة، هل تتصور أن تنتشر فيها الأمراض المعدية أو يخيم على أفرادها الجهل، أو ترتكب فيها جنايات السرّاق وقطاع الطرقات وذوى الخيانة والغدر، أظن أن الجواب على ذلك: لا. وقد جاء فى الكتاب والسنة الترغيب فى بذل المال فى سبيل البر وجعله علامة من علامات الإيمان الموجبة لثواب الرحمن والدخول فى غرفات الجنان، ولم يجىء مثل ذلك فى أي نوع من أنواع البر وضروب الإحسان. (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) أي ألم يعلم أولئك التائبون من ذنوبهم أن الله هو الذي يقبل توبة التائبين من عباده، ولم يجعل ذلك لأحد من خلقه لا رسول ولا من دونه. وفى الآية حضّ على التوبة والصدقة والترغيب فيهما.

(وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يتقبلها ويثيب عليها ويضاعف ثوابها كما وعد بذلك فى قوله: «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ» . (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى هو الذي يقبل التوبة إثر التوبة من المذنبين الذين ينيبون إلى ربهم، وأنه هو الرحيم بالتائبين الذي يثيبهم على ما قدموا من عمل، ويمنعهم الخوف أن يصرّوا على ذنب كما قال تعالى فى وصف المتقين «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» وجاء فى الحديث «ما أصرّ من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة» رواه الترمذي، وروى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب- ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة، فتربو فى كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربىّ أحدكم فلوّه أو فصيله» والحديث تمثيل لحال الصدقة المقبولة عند الله. (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي وقل لهم أيها الرسول اعملوا لدنياكم وآخرتكم، لأنفسكم وأمتكم، فالعمل هو مناط السعادة، لا الاعتذار عن التقصير ولا دعوى الجدّ والتشمير، وسيرى الله عملكم خيرا كان أو شرا، فيجب عليكم أن تراقبوه فى أعمالكم وتتذكروا أنه عليم بمقاصدكم ونياتكم، فجدير بمن يؤمن به أن يتقيه فى السر والعلن ويقف عند حدود شرعه، وسيراه رسوله والمؤمنون ويزنونه بميزان الإيمان الذي يفرق بين الإخلاص والنفاق، وهم شهداء على الناس. روى أحمد والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان» . وفى الآية إيماء إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان تلى مرضاة الله ورسوله، وفى حديث أنس رضى الله عنه قال: «مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيرا

[سورة التوبة (9) : آية 106]

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله فى الأرض» . وقال ابن عباس ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وستردّون يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم، ومن لا يخفى عليه شىء من بواطن أموركم وظواهرها فيعرفكم أعمالكم ثم يجازيكم عليها بحسن الثواب أو سوء العذاب. [سورة التوبة (9) : آية 106] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) تفسير المفردات مرجون ومرجئون وبهما قرىء: أي مؤخرون، يقال أرجأت الأمر وأرجيته: أي أخرته. المعنى الجملي كان المتخلفون عن الجهاد فى غزوة تبوك أقساما ثلاثة: (1) المنافقون الذين مردوا على النفاق، وهم أكثر المتخلفين. (2) المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا وزكّوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول واستغفاره فتاب الله عليهم. (3) المؤمنون الذين حاروا فى أمرهم ولم يعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم لا عذر لهم، وأرجئوا توبتهم فأرجأ الله الحكم القاطع فى أمرهم لأسباب ستذكر بعد.

قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة، وهم مرارة ابن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك فى جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والتمتع بطيب الثمار، والتفيؤ بالظلال لا شكّا ونفاقا، وكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة الأولين قبل توبة هؤلاء وأرجئت توبة هؤلاء حتى نزلت آية التوبة «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ» إلخ. (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) أي ومن المتخلفين ناس آخرون مؤخرون لحكم الله فى أمرهم، وهم أولئك النفر الذين سبق ذكرهم وكانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الهمّ باللحاق به ولم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلى الله عليه وسلم كما فعل أبو لبابة وأصحابه من الذين ربطوا أنفسهم فى سوارى المسجد فنزل فيهم قوله تعالى. (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) الآية فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن إلى أن نزل قوله (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الآية. (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي إن أمرهم دائر بين هذين: التعذيب والتوبة وقد أبهم الأمر عليهم وعلى الناس فلا يدرون ماذا ينزل بهم؟ هل تنفع توبتهم فيتوب الله عليهم كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم، أو يحكم بعذابهم فى الدنيا والآخرة كما حكم على الخالفين من المنافقين؟ وحكمة إبهام الأمر إثارة الغم والحزن فى قلوبهم لتصحّ توبتهم. وحكمة إبهامه على الرسول والمؤمنين تركهم مكالمتهم ومخالطتهم، تربية للفريقين على ما يجب أن يعامل به أمثالهم ممن يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة الله ورسوله

[سورة التوبة (9) : الآيات 107 إلى 110]

والجهاد لاعلاء كلمة الحق ودفع عدوان أهل الباطل عن المؤمنين. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بما يصلح حال عباده ويربّيهم ويزكيهم أفرادا وجماعات، حكيم فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح إذا عملوا بها: ومن هذه الحكمة إرجاء النص على توبتهم فى كتابه، كما أن تكرار تلاوتها فى مختلف الأوقات مما يوقع فى قلوب المؤمنين الرهبة والخوف ويفيدهم عظة وتهذيبا. [سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) تفسير المفردات الضرار والمضارّة: محاولة إيقاع الضرر، والإرصاد: الانتظار والترقب مع العداوة يقال رصدته: أي قعدت له على طريقه أترقبه، وأرصدت هذا الجيش للقتال، وهذا الفرس للطراد، ولا تقم أي لا تصلّ، والتأسيس: وضع الأساس للبناء ليقوم عليه ويرفع، والتقوى: اسم لما يرضى الله ويقى من سخطه، وشفا أي حرف والجرف

المعنى الجملي

(بضمتين) : جانب الوادي ونحوه، والهار والهائر كالشاك والشائك: الضعيف المتداعى للسقوط، وانهار: سقط، والريبة: من الرّيب، وهو اضطراب النفس وتردد الوهم والحيرة، وتقطع: أي تفرق أجزاء. المعنى الجملي هذه الآيات نزلت فى بيان مكيدة من مكايد المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وذكرت هنا لما فيها من العبرة والعظة والذكرى بإيهام عطفها على من أرجا الله الحكم فى أمرهم ليتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم ولو بصلاتهم معهم فى مسجدهم. روى فى سبب نزول الآيات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، كان قد تنصّر وقرأ علم أهل الكتاب وكان له منزلة كبيرة فيهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا واجتمع عليه المسلمون وعلت كلمة الإسلام وأظهره الله على أهل الشرك خرج فارّا إلى مكة وألبّ المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم فى وقعة أحد وخاطب قومه الأنصار ليستميلهم إلى نصره فسبوه وردوه أقبح رد، ولما فرغ الناس من الموقعة فر إلى هرقل ملك الروم يستنصره فوعده وحباه وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يأوى إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا فى بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموا بناءه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوه أن يصلى فى مسجدهم ليكون ذلك ذريعة إلى تقريره لإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة فى الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على جناح سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» .

الإيضاح

ولما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين فى مسجدهم (مسجد قباء) الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من يهدمه قبل مقدمه المدينة وأمر أن يتّخذ كناسة تلقى فيها القمامة إهانة لأهله. الإيضاح (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) . روى أن الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثنى عشر رجلا من منافقى الأوس والخزرج، وقد بين الله الأغراض التي لأجلها بنى، وهى: (1) مضارة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه من مكة مهاجرا قبل وصوله إلى المدينة. (2) تقوية الكفر وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هناك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم فى مسجد واحد، والتشاور فيما بينهم فى الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيه إلى نحو أولئك من مقاصد المنافقين. (3) التفريق بين المؤمنين المقيمين هنالك، فإنهم كانوا يصلون جميعا فى مسجد قباء، وفى ذلك حصول التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة وهى أهم مقاصد الإسلام الاجتماعية، ومن ثم كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيا لأغراض الدين ومراميه، ومن الواجب أن يصلى المسلمون الجمعة فى مسجد واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فإن تفرقوا عمدا كانوا آثمين. ومن هذا يعلم أن بناء المساجد لا يكون قربة يتقبلها الله إلا إذا دعت الحاجة

إلى ذلك، ولم يكن سببا لتفريق جماعتهم، فكثير من المساجد المتقاربة فى القاهرة وغيرها من الأمصار الأخرى لم تبن لوجه الله بل كان الباعث على ينائها الرياء واتباع الأهواء من جهلة الأفراد والأثرياء وعدم نصح العلماء لهم. (4) الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجىء محاربا فيجد مكانا مرصدا له، وقوما راصدين مستعدين للحرب معه، وهم أولئك المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدا لذلك. (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الخصلة التي تفوق غيرها فى الحسن، وهى الرفق بالمسلمين وتيسير صلاة الجماعة على أولى العجز والضعف ومن يحبسهم المطر منهم، ليصدقهم الرسول صلى الله عليه وسلم وليصلى معهم، والله يعلم إنهم لكاذبون فى إيمانهم لأنهم ما بنوه إلا للسوءى وضرار مسجد قباء. (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي لا تقم فى هذا المسجد للصلاة أبدا. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أي إن مسجدا قصد ببنائه منذ وضع أساسه فى أول يوم تقوى الله بإخلاص العبادة له وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى- هو أحق من غيره أن تقوم فيه أيها الرسول مصليا بالمؤمنين. والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، ولكن روى أحمد ومسلم والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنه فأجاب بأنه مسجده الذي فى المدينة ، والآية لا تمنع إرادة كل من المسجدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بنى كلا من المسجدين ووضع أساسه على التقوى من أول يوم شرع فيه ببنائه. (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي فيه رجال يعمرونه بإقامة الصلاة وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال، ويحبون أن يتطهروا بذلك مما يعلق بأنفسهم من أوضار الذنوب والآثام، كما تطهر المتخلفون منهم من غزوة تبوك بالتوبة والصدقات، ويتبع

العمارة المعنوية بالعكوف فيه للصلاة وغيرها- الطهارة الحسية للثوب والبدن، وطهارة الوضوء والاغتسال. والخلاصة- إن التطهر يشمل الطهارتين النفسية والبدنية، والروايات وردت بكل منهما، والأولى إرادتهما معا. (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي الذين يبالغون فى طهارة الروح والجسد لحبهم إياهما، لأنهم يرون فيهما الكمال الإنسانى، فمن ثم يبغضون نجاسة البدن والثوب، وأشد منهما بغضا لهم نجاسة النفس وخبثها بالإصرار على فعل المعاصي والتخلق بذميم الأخلاق كالرياء فى الأعمال إذ هو فعل المنافقين، والشح بالأموال أو بالأنفس فى سبيل الله ابتغاء لمرضاته. وحب الله إياهم من صفات كماله، إذ العالم بتفاوت الأشياء فى الحسن والقبح والكمال والنقص يكون من صفاته حب الكمال والحق والخير وبغض أضدادها. وحبه تعالى منزه عن مشابهته حبنا كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا، ويظهر أثر حبه لعباده فى أخلاقهم وأعمالهم ومعارفهم وآدابهم كما أشار إليه الحديث القدسي الذي رواه البخاري «ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» الحديث. وفى معنى الآية ما جاء فى عظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهن باتباع أوامره ونواهيه بما يليق بما لهن من مكانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم ذلك بقوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) هذا بيان مستأنف للفرق بين مقاصد أهل مسجد التقوى وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنصاره، ومقاصد أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسا إلى رجسهم.

والأساس على شفا الجرف الهارى، مثل يضرب لما يكون فى منتهى الوهي والانحلال والإشراف على الزوال، أي أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه موطنا لراحته وهناء معيشته ويتقى به العوامل الجوية، وعدوان الكائنات الحية على أمتن الأسس وأقواها على مصابرة العواصف والسيول وصد الهوامّ والوحوش- خير بنيانا، أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاء واستمساكا فكانت عرضة للانهيار فى كل حين من ليل أو نهار؟. وقد ضرب الله مثل البنيان على تينك الصفتين لبيان حال الفريقين المتقدمين من صدق الإيمان، والنفاق والارتياب، أي أفمن كان مؤمنا صادقا يتقى الله فى جميع أحواله ويبتغى مرضاته فى جميع أعماله، قاصدا تزكية نفسه وإصلاح سريرته- خير أم من هو منافق مرتاب، يبتغى بأعماله الضرر والضرار وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار وتفريق جماعة المؤمنين والإرصاد لمساعدة من حارب الله ورسوله مع ما يكون لعمله فى الدنيا من العار والفضيحة والخزي والبوار، وفى الآخرة من الانهيار فى النار. وخلاصة المثل- بيان ثبات الإسلام وقوته وسعادة أهله به وثمرته فى أعمالهم وجزائهم عليه برضوان الله عنهم، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله ووهيه وقرب زواله وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله، وبيان أن شر أعمال أهله المنافقين، ما اتخذوه من مسجد الضرار لمفاسده الأربع المتقدمة. فالإيمان وما يلزمه من صالح العمل هو الثابت، والنفاق وما يستلزمه من فاسد العمل هو الباطل الزاهق بحكم ناموس الاجتماع وبقاء الأصلح فى الوجود، وقد صدق الله وعده وثبّت المؤمنين بالقول الثابت، وهداهم إلى العمل الصالح ففتحوا البلاد وأقاموا سبل الحق والعدل، وأهلك المنافقين، وقد جرت سنته فى كل زمان ومكان أن يكون الفوز حليف أهل الحق، والخيبة لأهل الباطل ما استمسكوا به، ولم يقلعوا عنه.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي مضت سنته تعالى ألا يكون الظالم مهتديا فى أعماله إلى الحق والعدل ولا إلى الرحمة والفضل: (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي لا يزال بنيانهم سبب ريبة وشك فى الدين، لأنهم يظهرون فيه حال قيامه ما فى قلوبهم من آثار الكفر والنفاق ويدبرون أمورهم ويتشاورون فى ذلك ويلقى بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكا فى الدين، وحين أمر صلى الله عليه وسلم بتخريبه وهدمه ثقل ذلك عليهم وعظم خوفهم وارتابوا فى أمرهم: أيتركون على حالهم أم يؤمر بهم فيقتلون وتنهب أموالهم، إلى أنهم اعقدوا أنهم كانوا محسنين فى البناء، فلما أمر بتخريبه أصبحوا شاكين فى أمره، ولأى سبب كان ذلك. ولا يزال هذا شأنهم فى جميع الأحوال إلا حال تقطع القلوب أفلاذا وصيرورتها جذاذا، فتكون غير قابلة للإدراك. وفى هذا إيماء إلى أن تمكن الريبة فى قلوبهم وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ماداموا أحياء. والخلاصة- إنه لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق واضطراب النفس وإن ذلك لا يزول ما دامت القلوب سالمة- أما إذا تفرقت قطعا وتقطعت أجزاء بقتلهم فحينئذ يسلون عنه. وقد يكون المراد: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بكل شىء، حكيم فى أفعاله، ومن حكمته أن بيّن حال المنافقين وأظهر ما خفى من أمرهم لتعرفوا كنه الحقيقة فى ذلك.

[سورة التوبة (9) : الآيات 111 إلى 112]

[سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فضائح المنافقين بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأصناف المقصّرين من المؤمنين، أردف ذلك بذكر حال المؤمنين الصادقين فى إيمانهم البالغين فيه حد الكمال، وبذا تمّ معرفة جميع أحوال المؤمنين. الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) هذا ترغيب فى الجهاد على أبلغ وجه وأحسن صورة. فقد مثل الله إثابة المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم فى سببله بتمليكهم الجنة التي هى دار النعيم والرضوان الدائم السرمدي تفضلا منه تعالى وكرما- بصورة من باع شيئا هو له لآخر- وعاقد عقد البيع هو رب العزة والمبيع هو بذل الأنفس والأموال، والثمن هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجعل هذا العقد مسجلا فى الكتب السماوية، وناهيك به من صكّ لا يقبل التحلل والفسخ، وفى هذا منتهى الربح والفوز العظيم، وكل هذا لطف منه تعالى وتكريم لعباده المؤمنين، فهو المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها، ولأموالهم إذ هو الذي رزقها، ولهذا قال الحسن: اشترى أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها، إلا أنه تعالى غنى عن أنفسهم وأموالهم والمبيع والثمن له وقد جعله بفضله وكرمه لهم. روى ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر قال: نزلت هذه الآية على رسول الله

صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد فكبّر الناس فى المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفى ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت فينا هذه الآية، قال «نعم» فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل. وأخرج ابن جرير أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة اشترط لنفسك ولربك فقال: «أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قال ربح البيع لا نقيل ولا نستقبل، فنزلت الآية» . وأخرج ابن سعد فى طبقاته عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت، أن سعد ابن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فقال: يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدا؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس كافة. فقالوا نحن حرب لمن حارب، وسلم لمن سالم. فقال يا رسول الله اشترط علىّ. فقال: «تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا تنازعوا الأمر أهله، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم» قالوا نعم. قال قائل الأنصار: نعم هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ قال «الجنة والنصر» . وأخرج ابن سعد عن الشّعبى قال: «انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بالعباس ابن عبد المطلب وكان ذا رأى إلى السبعين من الأنصار عند العقبة، فقال العباس ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم للمشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم فقال قائلهم: يا محمد سل لربك ما شئت، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك؟، فقال: أسألكم لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسى وأصحابى أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم، قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة» فكان الشعبي إذا حدّث هذا الحديث قال: ما سمع الشّيب والشباب بخطبة أقصر ولا أبلغ منها.

وروى ابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا «من سل سيفا فى سبيل الله فقد بايع الله» وروى ابن أبى حاتم عن الحسن قال: «ما على ظهر الأرض مؤمن إلا وقد دخل فى هذه البيعة» وفى رواية «اسعوا إلى بيعة بايع الله بها كل مؤمن. إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم» . ثم بين صفة تسليم البيع فقال: (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي إنهم يقاتلون فى سبيل الحق والعدل التي توصل إلى مرضاة الله تعالى ببذل أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله، وإما مقتولين شهداء فى هذه السبيل، ولا فرق بين القاتل والمقتول فى الفضل والمثوبة عند الله، فكل منهما كان فى سبيله ولم يكن رغبة فى سفك الدماء، ولا حبّا للأموال ولا توسلا إلى ظلم العباد كما يفعل الذين يقاتلون لأغراض الدنيا من الملوك والأمراء. (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي وعدهم وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا وأثبته فى التوراة والإنجيل، وضياعه منهما فى النسخ التي بين يدى أهل الكتاب لا يضير فى ذلك لأنه قد ضاع منهما كثير وحرّف بعضهما لفظا ومعنى، ويكفى إثبات القرآن لذلك وهو المهيمن عليهما. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟) أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق فى إنجاز وعده من الله، إذ لا يمنعه من ذلك عجز عن الوفاء ولا يعرض له تردد ولا رجوع عما يريد إمضاءه من شأنه. (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) أي فإذا كان الأمر على هذه الحال فأظهروا السرور على ما فزتم به من الجنة. (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وذلك الفوز الذي لا فوز أعظم منه، وما يتقدمه من النصر والسيادة والملك لا يعد فوزا إلا بكونه وسيلة لإقامة الحق والعدل.

وفى هذا الأسلوب من التأكيد واستحقاق المجاهدين للثواب ما لا يخفى، إذ جعلهم مالكين معه ومبايعين له ومستحقين الثمن الذي بايعهم به، وأكد لهم أمر الوفاء وإنجاز وعده. وعن جعفر الصادق أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها. يريد أن الذي يقتل أو يموت فى سبيل الله بذل بدنه الفاني، لا روحه الباقي. ثم وصف الله هؤلاء المكملة من المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم بجنته بصفات هى: (1) (التَّائِبُونَ) أي هم الراجعون إلى الله بتركهم كل ما يبعد عن مرضاته، وتوبة الكفار هى رجوعهم عن الكفر الذي كانوا عليه كما قال: «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ» وتوبة المنافق تكون بترك نفاقه، وتوبة العاصي من معصيته تكون بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله كتوبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين، وتوبة المقصّر فى شىء من البر وعمل الخير تكون بالاستزادة منه، وتوبة من يغفل عن ربه تكون بالإكثار من ذكره وشكره. (2) (الْعابِدُونَ) لله المخلصون فى جميع عباداتهم، فلا يتوجهون إلى سواه بدعاء ولا استغاثة ولا يتقربون إلى غيره بعمل قربان ولا طلب مثوبة فى الآخرة. (3) (الْحامِدُونَ) لله فى السراء والضراء، روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه الأمر يسرّه قال «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: «الحمد لله على كل حال» . (4) (السَّائِحُونَ) فى الأرض لغرض صحيح كعلم نافع للسائح فى دينه أو دنياه، أو نافع لقومه وأمته، أو النظر فى خلق الله وأحوال الأمم والشعوب للاعتبار والاستبصار وقد حث الله كثيرا على السير فى الأرض والضرب فيها كما قال «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ» .

[سورة التوبة (9) : الآيات 113 إلى 116]

وعلى السفر والسياحة لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها. والإسلام الذي يجيز سفر النساء فى الغزوات- وهن غير مكلّفات- بالقتال للمساعدة عليه بتهيئة الطعام والشراب وتضميد الجراح فهو بالأولى يجيز صحبتهن فى سائر الأسفار، وفى ذلك إحصان لكل من الزوجين ومنع لهما عن التطلع إلى الأجنبى. وفسر بعضهم السياحة بالصيام لما روى عن عائشة: «سياحة هذه الأمة الصيام» لأن الصوم يعوق عن اللذات كما أن السياحة كذلك غالبا. (5، 6) (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) فى صلواتهم المفروضة، وخصا بالذكر لما فيهما من الدلالة على التواضع والعبودية والتذلل لله سبحانه. (7، 8) (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الداعون إلى الإيمان وما يتبعه من أعمال البر والخير، والناهون عن الشرك وما بسبيله من المعاصي والسيئات. (9) (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) أي الحافظون لشرائعه وأحكامه التي بيّن فيها ما يجب على المؤمنين اتباعه وما يحظر عليهم فعله منها، وكذا ما يجب على أئمة المسلمين وأولى الأمور منهم إقامته وتنفيذه بالعمل فى أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلّوا بما يجب عليهم حفظه منها. ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول المؤمنين المتصفين بهذه الصفات بخيرى الدنيا والآخرة. وخصت تلك الخلال بالذكر لأن بها تكون المحافظة على حدود الله. [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأوّاه: الكثير التأوّه والتحسر، أو الخاشع الكثير الدعاء والتضرع إلى ربه، وقيل إنها كلمة حبشية الأصل، ومعناها المؤمن أو الموقن، وأصل التأوه: قول أوه أو آه أو نحوهما مما يقوله الحزين أو أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها، وآه بالكسر منونا وغير منون، والحليم: الذي لا يستفزه الغضب ولا يعبث به الطيش ولا يستخفه هوى النفس، ومن لوازم ذلك الصبر والثبات والصفح والتأنى فى الأمور واتقاء العجلة فى الرغبة والرهبة المعنى الجملي كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين فى جميع الأحوال، وهنا بين أنه يجب البراءة من أمواتهم وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه وهو وعده بالاستغفار بقوله «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» فلما أصرّ على كفره تبرأ منه، وبعدئذ بين رحمته بعباده وأنه لا يعاقبهم على شىء إلا بعد بيان شاف لما يعاقبون عليه. أخرج أحمد وابن أبى شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية، فقال: «أي عمّ قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال

الإيضاح

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وأنزل الله فى أبى طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقد كان موت أبى طالب بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، ومن ثم استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت فى أبى طالب، وأجاب آخرون بأن الذي حصل قد يكون أحد أمرين: (1) إنها نزلت عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين. (2) إنها نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية يستغفر لأبى طالب، فإن التشديد على الكفار، والبراءة منهم إنما جاء فى هذه السورة وفى الآية إيماء إلى تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك كقولهم المغفور له والمرحوم فلان، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبى هريرة قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: استأذنت ربى أن أستغفر لها فلم يأذن لى، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لى فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت» . الإيضاح (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) أي ما كان من شأن النبي ولا مما ينبغى أن يصدر منه من حيث هو نبىّ، ولا من شأن المؤمنين، ولا مما يجوز أن يقع منهم أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين. (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي ولو كان لهم حق البر وصلة الرحم، وكانت عاطفة القرابة تقتضى الحدب والإشفاق عليهم.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار، بأن ماتوا على الكفر، أو بأن نزل وحي يسجل عليهم ذلك كإخباره تعالى عن بعض الجاحدين المعاندين بنحو قوله: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» ؟. وخلاصة ذلك- إن النبوة والإيمان الصادق لا يبيحان الاستغفار للمشركين فى كل حال، حتى ولو كانوا أولى قربى إذا ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب الجحيم. ثم أجاب عن سؤال قد يختلج بالخاطر مما تقدم، فيقال كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم وقد استغفر إبراهيم لأبيه فقال: (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي وما استغفر إبراهيم لأبيه آزر بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي، إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي وفّقه للإيمان واهده إلى سبيله- إلا عن موعدة وعدها إياه بقوله: «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي» أي لا أملك لك هداية ولا نجاة، وإنما أملك أن أدعو الله لك. وقد وفّى إبراهيم بما وعد، ولم يكن إلا وفيا كما شهد الله له بقوله: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» . (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه، قال ابن عباس، وقيل تبين له ذلك بوحي من الله فتبرأ منه ومن قرابته وترك الاستغفار له، إذ هذا مقتضى الإيمان كما قال تعالى: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ» الآية. ثم بين السبب الذي حمل إبراهيم على الوعد بالاستغفار لأبيه مع شكاسته له وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» فقال:

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) أي إن إبراهيم لكثير المبالغة فى خشية الله والخضوع له، صبور على الأذى والصفح عن زلّات غيره عليه. (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) أي وما كان من سنن الله فى خلقه ولا من رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال ويجرى عليهم أحكامه بالذم والعقاب بعد إذ هداهم إلى الإيمان، وشرح صدورهم للإسلام- بقول يصدر منهم عن غير قصد أو عمل يحدث منهم باجتهاد خاطئ. (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) من الأقوال والأفعال بيانا واضحا بوحي صراحة أو دلالة. (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى عليم بجميع الأشياء، ومن جملتها حاجة الناس إلى البيان، فهو يبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع، حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء أنفسهم، ومن أجل هذا لم يؤاخذ إبراهيم فى استغفاره لأبيه قبل أن تتبين له حاله، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولى القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله تعالى. ولما منعهم من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولى قربى، وذلك يستدعى التبرؤ منهم وعدم انتظار النصرة من أحد- بين أن النصر لا يكون إلا من جهته تعالى فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي إنه تعالى مالك كل موجود، ومتولى أمره فى السموات والأرض، وهو الذي يهب الحياة بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه فى التكوين، ويميت من يشاء حين انقضاء أجله، وليس لكم أيها المؤمنون من يتولى أموركم، ولا من ينصركم على عدوكم غير الله تعالى، فلا تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولى القربى الذين هم أهل الولاية والنصرة من ذوى الأرحام، ولا فى غير ذلك من أوامره ونواهيه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 117 إلى 119]

[سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) تفسير المفردات العسرة: الشدة والضيق، وزاغ: مال، الرّحب: السعة، ولجأ إلى الحصن وغيره: لاذ إليه واعتصم به، الرأفة: العناية بالضعيف والرفق به، والرحمة: السعى فى إيصال المنفعة. المعنى الجملي بعد أن استقصى سبحانه أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف- عاد مرة أخرى إلى الكلام فى توبتهم جيا على سنة القرآن الكريم فى تفريق الآيات فى الموضوع الواحد، لأنه أفعل فى النفس وأشد تأثيرا فى القلب وأجدى فى تجديد الذكرى وأدنى ألا يسأم التالي لها فى الصلاة وغيرها. إلى أنه مناسب لما قبله من النهى عن الاستغفار للمشركين، إذا كلّ مما يتاب منه، وكلّ عثرة يطلب منها الصفح والعفو. الإيضاح (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أي لقد تفضل سبحانه وعطف على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار فتجاوز عن هفوات صدرت

منهم فى هذه الغزوة وغيرها لبلائهم الحسن فيها، ولأنهم لم يصروا على شىء منها. وقد كانت هفواتهم على سنن الطباع البشرية واجتهاد الرأى فيما لم يبينه الله بيانا قطعيا بحيث يعد مخالفه عاصيا، وقد فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله فى سياق هذه الغزوة «عفا الله عنك- لم أذنت لهم؟» أي إن التوبة كانت من اجتهاد لم يقره الله عليه إذ غيره كان خيرا منه، وتوبة المهاجرين والأنصار، وهم خلّص المؤمنين كانت من تثاقلهم فى الخروج حتى ورد الأمر الحتم والتوبيخ على التثاقل إلى الأرض، ومنهم من كان ذنبه السماع للمنافقين فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين. وتوبة الله على عباده توفيقهم للتوبة وقبولها منهم، وإنما يتوبون من ذنب، وما كل ذنب معصية لله عز وجل. (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي الذين اتبعوه ولم يتخلفوا عنه وقت الشدة والضيق، وكانت عسرة فى الزاد إذ كان الوقت نهاية فصل الصيف الذي نفدت فيه مئونتهم من التمر، وأول فصل الخريف الذي بدأ فيه إرطاب الموسم الجديد، ولا يمكن حمل شىء منه، فكان يكتفى الواحد منهم أو الاثنان بالتمرة الواحدة من التمر القديم ومنه المدوّد واليابس، ومنهم من تزوّد بالشعير المسوس والإهالة (الشحم المذاب) الزنخة المتغيرة الرائحة- وعسرة فى الماء حتى كانوا ينحرون البعير على قلة الرواحل ليعتصروا الفرث الذي فى كرشه ويبلّوا به ألسنتهم- وعسرة فى الظهر (فى الإبل) حتى كان العشرة يتعقبون بعيرا واحدا- وعسرة فى الزمن إذ كان فى حرارة القيظ (شدة الحر) . قال جابر بن عبد الله رضى الله عنه فى ساعة العسرة: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء، وقال ابن عباس لعمر رضى الله عنهم: حدّثنا من شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فى قيظ شديد فنزلنا منزلا

فأصابنا فيه عطش شديد، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل لينحر بعيره ليعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: يا رسول الله إن الله قد عودك فى الدعاء خيرا فادفع لنا، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي إنه تاب على المؤمنين كافة من بعد ما كاد يزيغ بعضهم عن الإيمان وهم الذين تخلفوا لغير علة النفاق، وهم الذين وصفهم الله بأنهم عملوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم، فقبل الله توبتهم كما ذكر فيما سلف. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) هذا تكرير للتوكيد كما يقال عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، فيدل ذلك على أنه عفو متأكد بلغ الغاية القصوى من القدرة والكمال. ثم علل قبول توبتهم بقوله: (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن ربهم رءوف رحيم بهم، فلا يهملهم بأن ينزع الإيمان منهم بعد ما أبلوا فى الله وأبلوا مع رسوله وصبروا فى البأساء والضراء. (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلّفوا عن الخروج إلى تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المرجون لأمر الله، وتقدم أنهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعا خوفا من العاقبة وجزعا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنهم، وهجرهم إياهم فى المجالسة والمحادثة. وهذا مثل للحيرة فى الأمر، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقّرون فيه قلقا وجزعا مما هم فيه، قال قائلهم: كأنّ فجاج الأرض وهى فسيحة ... على الخائف المطلوب كفّة حابل ثم ترقى وانتقل من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم فى أنفسهم فقال:

(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي وضاقت أنفسهم على أنفسهم، لما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم بامتلائها بالهمّ والغم حتى لا متسع فيها لشىء من البسط والسرور، فكأنهم لا يجدون لأنفسهم مكانا ترتاح إليه وتطمئن به. (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي واعتقدوا أنه لا ملجأ من غضب الله ورسوله، إلا إليه تعالى بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته، وقد أعرض عنهم رسوله البرّ الرحيم بأصحابه، فلم يكونوا يستطيعون أن يطلبوا دعاءه واستغفاره- إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع فى الدنيا، ولا فى الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي ثم عطف عليهم وأنزل قبول توبتهم. (لِيَتُوبُوا) ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى كثير القبول لتوبة التائبين، الواسع الرحمة للمحسنين، المتفضل عليهم بضروب النعم مع استحقاقهم لأعظم أنواع العقاب. وكان من حديث هؤلاء الثلاثة ما حدثه كعب قال: «لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّمت عليه فرد علىّ كالمغضب بعد ما ذكرنى وقال: «ليت شعرى ما خلّف كعبا» فقيل له ما خلّفه إلا حسن برديه والنظر فى عطفيه فقال: «معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما» ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب أو بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع (جبل بالمدينة) أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا، وكنت كما وصفني ربى و (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) وتتابعت البشارة، فلبست ثوبى وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس فى المسجد وحوله المسلمون فقام إلىّ طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحنى وقال: لتهنك توبة الله، فلن أنساها لطلحة،

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر، أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية» . وفى هذه القصة عبرة للمؤمنين تخشع لها قلوبهم وتفيض لها عبراتهم، وقد كان لإمام أحمد لا يبكيه شىء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات. انظر إلى هذا وتأمل قسوة قلوب الجاهلين المغرورين، الذين يقترفون الفواحش والمنكرات، ويتركون الفرائض ويصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ولا يتوبون إلى الله ولا هم يذّكرون، وإذا وعظهم الواعظ وجدهم بين جازم بالمغفرة والعفو عنه، ومتكل على شفاعة الشافعين له، ومنهم من يحفظ من أخبار مكفرات الذنوب مما لا أصل له فى الدين، أو له أصل يراد به تكفير الصغائر بشرط اجتناب الكبائر، كما قال تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» . (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله اتقوا الله وراقبوه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه، وكونوا فى الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا فى الآخرة مع الصادقين فى الجنة، ولا تكونوا مع المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب ويؤيدونه بالحلف. أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له، اقرءوا إن شئتم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» وأخرج البيهقي مرفوعا «إن الصدق يهدى إلى البرّ، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، إنه يقال للصادق: صدق وبرّ، ويقال للكاذب: كذب وفجر، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا» . ولا رخصة فى الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب، أو إصلاح بين اثنين، أو رجل يحدّت امرأته ليرضيها، أي فى التحبب إليها بوصف محاسنها ورضاه عنها، لا فى مصالح الدار والعيال وغيرها.

[سورة التوبة (9) : الآيات 120 إلى 121]

أخرج ابن أبى شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب فى خديعة حرب أو صلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها» . ولا شك أن فى المعاريض ما يغنى العاقل عن الكذب كما جاء فى الحديث «إن فى المعاريض لمندوحة عن الكذب» [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) تفسير المفردات رغب فى الشيء: أحبه وآثره، ورغب عنه: كرهه، وقد جمع بينهما فى الآية. والظمأ: شدة العطش، والنصب: الإعياء والتعب، والمخمصة: الجوع الشديد، والغيظ: الغضب، ونيلا: أي أسرا وقتلا وهزيمة، والوادي: كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل. المعنى الجملي بعد أن ذكر عزّ اسمه توبته على المتخلفين الذين حسنت نياتهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون- أكد هنا وجوب متابعة الرسول والغزو معه لما فيه من الأجر العظيم، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه.

الإيضاح

الإيضاح (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي لا ينبغى لأهل المدينة حاضرة الإسلام ومقر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من حولهم من الأعراب كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم- أن يتخلفوا عن رسول الله، فى غزو فى سبيل الله كما فعل بعضهم فى غزوة تبوك، ولا فى غيره من شئون الأمة ومصالح الملة، ولا أن يفضّلوا أنفسهم على نفسه فيرغبوا فى الراحة والسلامة ولا يبذلوها فيما يبذل فيها نفسه الشريفة، بل عليهم أن يصحبوه فى البأساء والضراء وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض فى شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها، ويضنّوا بها على ما سمح بنفسه عليه. والخلاصة- إن المتخلّف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه. وفى ذلك نهى شديد عن عملهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهيج لمتابعته صلى الله عليه وسلم بأنفة وحمّية. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) أي لم يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الاتباع بسبب أن كل ما يصيبهم فى جهادهم من أذى وإن كان قليلا كظمأ لقلة الماء، أو نصب لبعد الشّقة، أو لقلة الظهر، أو مجاعة لقلة الزاد، ومن إيذاء للعدو وإن صغر كوطء أرضه الذي يعده استهانة بقوته فيغيظه أن تمسّه أقدام المؤمنين أو حوافر خيولهم، أو النيل منه بجرح أو قتل أو أسر أو هزيمة أو غنيمة- إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح يجزى عليه بالثواب العظيم، وما أكثر هذه الأعمال الصالحات التي تشمل كل حركة من بطشة يد أو وطأة قدم أو عروض جوع أو عطش أو نحو ذلك.

وفى الآية إيماء إلى أن من قصد خيرا كان سعيه فيه من قيام أو قعود أو مشى أو كلام أو نحو ذلك مشكورا مثابا عليه، وإلى أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش فى الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم، ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لا بنى عامر وقد قدما بعد تقضّى الحرب. ثم علل هذا الأجر العظيم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن الله لا يدع محسنا أحسن فى عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه- أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله، ومن ثم كتب لمن أطاعه من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب الثواب على كل ما فعلوا فلم يضع لهم أجرا على عمل عملوه. (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أي كذلك شأنهم فيما ينفقون فى سبيل الله صغر أو كبر، قلّ أو كثر، وفى كل واد يقطعونه فى سيرهم غادين أو رائحين- إلا كتب لهم أجرهم على ذلك جزاء لهم على عملهم ولا يترك شىء منه أو ينسى. (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ليجزيهم بكتابته فى صحف أعمالهم كأحسن ما يجزيهم على خير أعمالهم التي كانوا يعملونها، وهم مقيمون فى منازلهم. وخلاصة ذلك- إنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر جزاء أحسن من جزائهم على أعمالهم الجليلة فى غير الجهاد بالمال والنفس، بأن تكون النفقة الصغيرة فيه كالنفقة الكبيرة فى غيره من أنواع المبرات، والمشقة القليلة فيه كالمشقة الكبيرة فما عداه من الأعمال الصالحات.

[سورة التوبة (9) : آية 122]

[سورة التوبة (9) : آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) تفسير المفردات نفر: خرج للقتال، ولولا: كلمة تفيد الحضّ والحث على ما يدخل عليها إذا كان مستقبلا، واللوم على تركه إذا كان ماضيا، فإن كان مما يمكن تلافيه فربما أفاد الأمر به، والفرقة: الجماعة الكثيرة، والطائفة: الجماعة القليلة، وتفقه: تكلف الفقاهة والفهم وتجشم مشاق تحصيلها، وأنذره: خوّفه، وحذره: تحرز منه. المعنى الجملي هذه الآية جاءت متممة لأحكام الجهاد مع بيان حكم العلم والتفقه فى الدين من قبل أنه وسيلة للجهاد بالحجة والبرهان، وهو الركن الركين فى الدعوة إلى الإيمان وإقامة دعائم الإسلام، ولم يشرع جهاد السيف إلا ليكون حماية وسياجا لتلك الدعوة من أن تلعب بها أيدى المعتدين من الكافرين والمنافقين. روى الكلبي عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: لما شدّد الله على المتخلفين قالوا لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ففعلوا ذلك وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فنزل (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) الآية. الإيضاح (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي وما كان شأن المؤمنين ولا مما يطلب منهم أن ينفروا جميعا فى كل سرية تخرج للجهاد، فإنه فرض كفاية متى قام به بعض سقا

[سورة التوبة (9) : آية 123]

عن الباقين، لا فرض عين على كل شخص، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للجهاد. (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي فهلا نفر للقتال من كل فرقة كبيرة منهم، كأهل بلد أو قبيلة طائفة وجماعة ليتسنى لهم: أي للمؤمنين فى جملتهم التفقه فى الدين، بأن يتكلف الباقون فى المدينة الفقاهة فى الدين بما يتجدد نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات وما يكون منه صلى الله عليه وسلم من بيانها بالقول والعمل، فيعرف الحكم مع حكمته، ويوضح المجمل بالعمل به، ولينذروا قومهم الذين نفروا للقاء العدو إذا رجعوا إليهم: أي ليجعلوا أهمّ قصد لهم من الفقاهة إرشاد هؤلاء وتعليمهم، وإنذارهم عاقبة الجهل وترك العمل بما علموا، رجاء أن يخافوا الله ويحذروا عاقبة عصيانه، وأن يكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته والحجاج عنه وبيان أسراره للناس، لا أن يوجهوا أنظارهم إلى الرياسات والمناصب العالية والترفع عن سواد الناس وكسب المال والتشبه بالظلمة والجبارين فى ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا. وفى الآية إشارة إلى وجوب التفقه فى الدين والاستعداد لتعليمه فى مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه بالمقدار الذي تصلح به حالهم فلا يجهلون الأحكام الدينية العامة التي يجب على كل مؤمن أن يتعرفها، والناصبون أنفسهم لهذا التفقه على هذا القصد لهم عند الله من سامى المراتب ما لا يقل فى الدرجة عن المجاهد بالمال والنفس فى سبيل إعلاء كلمة الله والذود عن الدين والملة، بل هم أفضل منهم فى غير الحال التي يكون فيها الدفاع واجبا عينيا على كل شخص. [سورة التوبة (9) : آية 123] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما أمر سبحانه فيما سبق بقتال المشركين كافة- أرشدهم فى هذه الآية إلى طريق السداد فى هذا الباب، وهو أن يبدءوا بقتال من يليهم ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد وهكذا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كذلك، فقد حارب قومه ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ثم إلى غزو الشام، ولما فرغ صحابته من الشام دخلوا العراق وكذلك فى أمر الدعوة فقد قال تعالى: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ثم أمر بالدعوة العامة وقتال من يقف فى طريقها من المشركين فقال: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» . الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي قاتلوا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ذاك أن القتال إنما شرع لتأمين الدعوة إلى الدين والدفاع عن أهله، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار كما قال تعالى لرسوله: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» . وهذا الترتيب أولى لوجوه كثيرة: منها قلة النفقات، والحاجة فيه إلى الدواب والآلات، وسهولة معرفة حال الأقرب من الأسلحة والعسكر، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بالأبعد لا يؤمن معه من هجوم العدو على الذراري والضعفاء، ومن ثم كان هذا هو الطريق المتبع فى الدعوة والنفقات والصدقات وما يدار فى المجالس من شراب ونحوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى من على يمينه وإن لم يكن أفضل الجالسين ثم الذي يليه ثم الذي يليه، وقال للأعرابى الذي كان يمديده إلى الجوانب البعيدة من المائدة «كل مما يليك» . (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) الغلظة- مثلثة-: الشدة والخشونة، أي وليجدوا فيكم

[سورة التوبة (9) : الآيات 124 إلى 127]

جرأة وصبروا على القتال وعنفا فى القتل والأسر ونحو ذلك كما قال: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» . والغلظة فى زمن الحرب مما تقتضيه الطبيعة والمصلحة، لما فيها من شدة الزجر والمنع عن القبيح. وفى الآية إيماء إلى أنه قد يحتاج حينا إلى الرفق واللين، وأخرى إلى العنف والشدة، لا أن يقتصر على الغلظة فحسب فإن ذلك مما ينفّر ويوجب تفرق الناس عنهم، وإنما أمروا بذلك فى القتال وما يتصل بالدعوة إلى الإسلام، للإرشاد إلى أنه يجب أن تكون حالهم فى الأمور العامة مبنية على الرفق والعدل والتؤدة فى المعاملة ومن ثم صار ذلك من أخصّ صفات المسلمين. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي واعلموا أن الله معكم بالمعونة والنصر إذا اتقيتموه وراعيتم أحكامه وسننه، وابتعدتم عن التقصير فى أسباب النصر والغلب من إعداد العدة المناسبة للزمان والمكان التي عناها الله بقوله «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» ومن الثبات والصبر، والطاعة وحسن النظام، وترك التنازع والاختلاف، وكثرة ذكر الله والتوكل عليه فيما وراء الأسباب والسنن المعروفة [سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 127] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ضروبا من مخازى المنافقين كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة- ذكر هنا ضروبا أخرى من تلك المثالب كتهكمهم بالقرآن وتسللهم لو إذا حين سماعه، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم وفى المؤمنين. الإيضاح (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) أي وإذا أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة من سور كتابه الكريم، فمن المنافقين من يقول لإخوانه على سبيل الاستهزاء هذه المقالة ليثبتوا على النفاق، أو يقول لمن يلقاه من المؤمنين مشكّكا لهم: (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) أي يقينا بحقية القرآن والإسلام وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أيكم زادته تصديقا جازما مقترنا بإذعان النفس وخضوعها، وأشعرته بلزوم العمل بها لتيقنه بصدق الرسول الذي أنزلت عليه. والإيمان على هذا النحو يزيد بنزول القرآن فى عهد الرسول ولا سيما من يحضر نزوله ويسمعه منه، وكذا يزيد بسماعه من غيره فى قلب المؤمن قوة إذعان ورغبة فى العمل والقرب من الله. قال تعالى مجيبا عن هذا السؤال مبينا حالهم وحال المؤمنين فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن زيادة اليقين واطمئنان القلب، ويزيدهم قوة فى العمل به والتقرب إلى ربهم، وهم يستبشرون بنزولها لما يرجون من خير هذه الزيادة، بتزكية أنفسهم وسعادتهم فى الدنيا والآخرة. (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي وأما الذين فى قلوبهم شك وارتياب دعاهم إلى النفاق بإسرار الكفر وإظهار

الإسلام، فزادتهم كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق، واستحوذ ذلك عليهم واستحكم فيهم إلى أن ماتوا على الكفر والنفاق على مقتضى سننه تعالى فى تأثير الأعمال فى صفات النفس وتغيير هواجس الفكر. ثم عجّب من حالهم وقد كان لهم زاجر فيما يرون فقال: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟) أي أيجهلون هذا ويغفلون عن حالهم فيما يعرض لهم عاما بعد عام من ضروب الابتلاء والاختبار التي تظهر استعداد النفوس للإيمان والكفر والتفرقة بين الحق والباطل، وينظرون إلى الآيات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فى كل ما أخبر به من نصر الله لمن اتبعه وخذلان أعدائه ووقوع ما أنذرهم به، ومن إنباء الله بما فى قلوبهم وفضيحتهم بما يكتمون من أعمالهم. (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ثم هم مع كل هذا تمر عليهم الأعوام تلو الأعوام ولا يتوبون من نفاقهم ولا يتعظون بما يحلّ بهم من العذاب، أفبعد هذا برهان على قلة الاستعداد للإيمان وانطفاء نور الفطرة، ولله در القائل: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفمّ طعم الماء من سقم وبعد أن بين حال تأثير إنزال السورة فى المنافقين وهم غائبون عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم- بيّن حالهم وهم فى مجلسه صلى الله عليه وسلم حين نزولها واستماع تلاوته لها فقال: (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي وإذا أنزلت سورة وهم فى المجلس تسارقوا النظر وتغامزوا بالعيون، على حين تخشع أبصار المؤمنين وتنحنى رءوسهم، وتشاوروا فى الانسلال من المجلس خفية، لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من سخرية وإنكار قائلا بعضهم لبعض: (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟) أي هل يراكم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو المؤمنون إذا قمتم من المجلس.

[سورة التوبة (9) : الآيات 128 إلى 129]

(ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي ثم انصرفوا جميعا عن مجلس الوحى متسللين لواذا كراهة منهم لسماعه وانتظارا لسنوح فرصة الغفلة عنهم، فكلما لمح أحد منهم غفلة عنه انصرف. (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أي صرف الله قلوبهم عن الإيمان الصادق والاسترشاد بآيات كتابه إلى ما فى ملكوت السموات والأرض من دلائل قدرته. وهذه الجملة: إما إخبار بذلك، أو دعاء عليهم به، والمآل فى هذه واحد فى كلامه تعالى. (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الصرف بسبب أنهم قوم فقدوا فهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال، فلا يفقهون ما يسمعون من الآيات لعدم تدبرها والتأمل فى معانيها مع موافقتها للعقل وهدايتها إلى الحق والعدل. لأنهم وطّنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به من غير بحث ولا تأمل، أحق هو أم باطل، أخير هو أم شر؟ وأنى لمثل هؤلاء- وتلك حالهم- أن يهتدوا بنزول الآيات والسور؟. [سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) تفسير المفردات من أنفسكم: أي من جنسكم، وعزيز: أي شاقّ، والعنت: المشقة ولقاء المكروه الشديد، والحرص: شدة الرغبة فى الحصول على مفقود، وشدة عناية بموجود، والرأفة: الشفقة، والرحمة: الإحسان.

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما أمر الله رسوله فى هذه السورة أن يبلغ الخلق تكاليف شاقة يعسر تحملها إلا على من خصّ بوجوه التوفيق والكرامة- ختمها بما يوجب تحملهم تلك، التكاليف فبيّن أن هذا الرسول منهم، فما يحصل له من عز وشرف فهو عائد إليهم، إلى أنه يشقّ عليه ضررهم، وتعظم رغبته فى إيصال خيرى الدنيا والآخرة إليهم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم عليهم، والطبيب الحاذق ربما أقدم على علاج يصعب تحمله، والأب الرحيم ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها كما قال: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم قال أبىّ بن كعب رضى الله عنه: إن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن، لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب أنه قال: آخر آية نزلت «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» وآخر سورة نزلت براءة، وعن ابن عباس: آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلم ثمانون يوما. الإيضاح (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم، والآية بمعنى قوله «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» . ذاك أن منّته على قومه أعظم، وحجته بكتابه أنهض، وأولى قومه به قبيلته قريش ثم عشيرته الأقربون بنو هاشم وبنو المطلب، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم، وقد وجه دعوته إلى الأقرب فالأقرب، فآمن العرب بدعوته مباشرة، وآمن العجم بدعوة العرب، والعرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه له صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والعمل وبما شاهدوا من آيات الله فى شخصه.

وقد امتنّ الله عليه وعلى قومه بالقرآن المجيد فقال «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» أي وإنه لشرف لك ولهم تذكرون به فى العالم ويدوّن لكم فى بطون الكتب والدفاتر: وإنما قاومه أكابر قومه أنفه واستكبارا عن اتباعه، إذ هم يرونه دونهم- إلى أن فى اتباعه إقرارا بكفرهم وكفر آبائهم الذين يفاخرون بهم، إلى أنهم لم يكونوا على ثقة من فوزه ونيلهم باتباعه مجد الدنيا وسعادة الآخرة. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه لأنه منكم، فليس من الهين عليه أن تكونوا فى الدنيا أمة ذليلة يعنتها أعداؤها بالسيطرة عليها والتحكم فيها، ولا أن تكونوا فى الآخرة من أصحاب النار التي وقودها الناس والحجارة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على اهتدائكم وصلاح شأنكم كما قال الله تعالى «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» . (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي هو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فكل ما يدعو إليه من العمل بشرائع الله فهو دليل على ثبوت هذه الصفات له، وكل شاق منها كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال فى قوله (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريّها وربيعيها ويمانيها- يريد أن نسبه تشعب فى جميع قبائل العرب وبطونها. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) أي فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك والاهتداء بما جئتهم به، فقل حسبى الله فإنه يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله، وقد بلّغت وما قصرت. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود سواه ألجأ إليه بالدعاء والإعانة، وهو الكافي والمعين. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه وحده توكلت فلا أكل أمرى فيما أعجز عنه إلى غيره.

(وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) العرش مركز تدبير أمور الخلق كما قال تعالى «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» وعظمته بعظمة الرب الذي استوى عليه، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره، وعظمة العرش والملك فى الملأ الأعلى وفيما دونه هى مظهر عظمة الله سبحانه وتعالى، ودليل على أنه وحده الإله الحق الذي لا ينبغى أن يعبد غيره ولا يتوكل على سواه، وهو المالك للعالم كله والمدبر لهم. روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت فى جمع القرآن وكتابته فى عهد أبى بكر أنه قال: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخرها- يريد أنه لم يجدهما مكتوبتين عند ما جمع المكتوب فى الرقاع والأكتاف والعسب إلا عنده، وقد كانتا محفوظتين معروفتين للكثير كما صرح بذلك فى الروايات الأخرى فقد أخرج ابن أبى داود فى المصاحف عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ- إلى قوله وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلا أنى أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما وحفظتهما، فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كانت ثلاث آيات لجعلتهما سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها بها، فألحقت فى آخر براءة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر، فقال عمر لا أسألك عليها بينة أبدا، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها. ومن هذه الروايات يعلم أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين، إلا أنهم اختلفوا فى موضعهما ففى بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وفى بعضها أنهما وضعتا بالرأى والاجتهاد، ولكن المعتمد هو الأول، لأن من حفظ التوقيف حجة على من لم يحفظ.

قال الحافظ بن حجر فى شرح البخاري: إن زيدا لم يكن يعتمد فى جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه، واكتفاؤه بخزيمة وحده إنما كان لأنه لم يجدهما مكتوبتين عند غيره، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، وحسبك دليلا على ذلك قوله: إنهم كانوا يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فهو صريح فى أن البحث عمن كتبها فقط اه. فجملة القول إن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة وإنما اختلفوا حين الجمع فى موضع كتابتهما حتى شهد من شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعهما فى آخر سورة براءة، وفاقا لقول أبىّ بن كعب وهو أحد الذين تلقّوا القرآن كله مرتبا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا زيد بن ثابت وكان عدد المختلفين فى موضعهما قليلا، فلما كتبتا فى المصاحف وافق الجميع على وضعهما هذا، ولم يروا أىّ اعتراض على ذلك ممن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم كابن مسعود رضى الله عنه.

سورة يونس

سورة يونس مكية إلا الآيات 40، 94، 95، 96 نزلت بعد سورة الإسراء وقبل سورة هود، وعدد آيها تسع ومائة، وموضوعها يدور على إثبات أصول التوحيد وهدم الشرك وإثبات الرسالة والبعث والجزاء وما يتعلق بذلك من مقاصد الدين وأصوله، وهى موضوعات السور المكية. ووجه مناسبتها لما قبلها أن السابقة ختمت بذكر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم واختتمت بها هذه، وأن جلّ تلك فى أحوال المنافقين وما كانوا يقولونه وما كانوا يفعلونه حين نزول القرآن، وهذه فى أحوال الكفار وما كانوا يقولونه فى القرآن. وليس التناسب بين السور سببا فى هذا الترتيب الذي بينهما، فكثيرا ما نرى سورتين بينهما أقوى تناسب فى موضوع الآيات، وقد فصل بينهما كما فعل بسورتى الهمزة واللهب وموضوعهما واحد، وقد يجمع بينهما تارة أخرى كما فعل بين سور الطواسين، وسور آل حاميم، وسورتى المرسلات والنبأ. ومن الحكمة فى الفصل بين القوية التناسب فى المعاني- أنه أدنى إلى تنشيط تالى القرآن وأبعد به عن الملل وأدعى له إلى التدبر، ولهذه الحكمة عينها تفرّق مقاصد القرآن فى السورة الواحدة كالعقائد والأحكام العملية والحكم الأدبية والترغيب والترهيب والأمثال والقصص، والعمدة فى كل ذلك التوقيف والسماع. [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الكتاب: هو القرآن العظيم، والحكيم: ذو الحكمة، لاشتمال الكتاب عليها، والوحى: الإعلام الخفىّ لامرىء بما يخفى على غيره، والإنذار: الإخبار بما فيه تخويف، والتبشير: الإعلام المقترن بالبشارة بحسن الجزاء، والصدق: يكون فى الأقوال ويستعمل فى الأفعال، فيقال صدق فى القتال إذا وفّاه حقه، وكذب فيه إذا لم يفعل ذلك، ويطلق على الإيمان والوفاء وسائر الفضائل، وجاء فى التنزيل: مقعد صدق، ومدخل صدق، ومخرج صدق، وقدم صدق، ويراد بالقدم هنا السابقة والتقدم والمنزلة الرفيعة، سحر: أي يؤثّر فى القلوب ويجذب النفوس فهو جار مجرى السحر، ومبين: ظاهر. الإيضاح (الر) هذه الحروف تقرأ ساكنة غير معربة هكذا: ألف. لام، راء. والأخير منها غير مهموز، والحكمة فى مجيئها أول السورة تنبيه السامع إلى ما يتلى عليه بعدها لأجل العناية بفهمه حتى لا يفوته شىء مما يسمع، فهى من وادي حروف التنبيه نحو (ألا) و (ها) الداخلة على اسم الإشارة. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي تلك آيات الكتاب المحكم الذي أحكمه الله وبينه لعباده كما قال جل شأنه: «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» ذاك أنه كتاب أحكمت معانيه ومبانيه، وهو هاد لمتدبّره وواعيه. (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي عجيب من أمرهم أن ينكروا إنزال الوحى على رجل من جنسهم ويتخذوه أعجوبة بينهم يتفكهون بها ويستغربون شأنها، كأن مشاركتهم له فى البشرية يمنع اختصاص الله إياه بما شاء من العلم، وهو بمعنى قوله تعالى حكاية عنهم «أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا» وقوله: «لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» .

وهذه الشبهة التي تمسكوا بأذيالها قد سبق إليها أقوام الأنبياء قبلهم كما جاء فى قصة نوح وهود من سورة الأعراف «أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟» . وقد يكون وجه العجب كونه من أفنائهم من جهة المال كما جاء على لسانهم وحكاه الله عنهم «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» وحكى عنهم أنهم قالوا: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا إلا يتيم أبى طالب. فإن كانوا قد عنوا الأول، فهو عجب عاجب، لأن بعث الملك إنما يتسنى إذا كان المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى منكرا عليهم ذلك «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» . وإن كانوا أرادوا الثاني فهو أغرب منه، لأن مدار الاصطفاء للإيحاء هو التبريز فى إحراز الفضائل ونيل المكرمات، وللنبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك القدح المعلّى فقد شهر من بينهم بالأمانة والصدق وحسن السمعة وبلوغ الغاية فى الكمالات، ولله در القائل: خلقت مبرّأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء وكما قال الآخر: ولو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع وليس للتقدم فى حظوظ الدنيا ولا للسبق فى رياساتها مدخل فى ذلك لا بقبيل ولا دبير، ولا قليل ولا كثير، فليس الغنى سببا للقرب والزلفى عند الله كما قال تعالى: «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى» . (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس كافة وأعلمهم بالتوحيد والبعث وسائر مقاصد الدين مع التخويف بعاقبة ما هم فيه من كفر وضلال.

[سورة يونس (10) : الآيات 3 إلى 4]

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي وبشر الذين آمنوا بما أوحيناه إليك بأن لهم أعمالا صالحة استوجبوا بها الثواب منه تعالى، ومنزلة رفيعة نالوها بصدق القول وحسن النية. (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله: إن هذا الذي جاء به محمد لسحر مبين أي ظاهر واضح يبين لكم أنه مبطل فيما يدعيه. وجعلوه سحرا لأنه خارق للعادة فى تأثيره فى القلوب وجذبه النفوس إلى الإيمان به واحتقار الحياة ولذاتها فى سبيل الله. وخلاصة ذلك- إنه كلام مزخرف حسن الظاهر لكنه واضح البطلان فى الحقيقة. وقد كذبوا فى تسميته سحرا، لأن السحر ما يكون بأسباب خفيّة يتعلمها بعض الناس من بعض إما بالحيل والشعوذة، وإما باستخدام خواص طبيعية علمية مجهولة للجماهير، وإما بتأثير قوى النفس وتوجيه الإرادة، وجميعها من الأمور التي يشترك فيها الكثير من العارفين بها، والقرآن ليس بسحر يؤثّر بالعلم والصناعة، بل هو أقوال مشتملة على آداب عالية وتشريع حكيم فيه مصلحة للناس، معجز فى أسلوبه ونظمه ومعانيه، أتى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس، ولم يكن ليقدر على شىء من مثله، وبهذا ثبت أنه نبى من عند الله، وأن ما جاء به وحي من لدنه. [سورة يونس (10) : الآيات 3 الى 4] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الخلق: لغة التقدير، واليوم لغة الوقت الذي يحدّه حدث يحدث فيه وإن كان ألوف السنين من أيام هذه الأرض الفلكية التي وجدت بعد خلق الليل والنهار، والعرش: مركز التدبير ولا نعلم كنهه ولا صفته، والتدبير: النظر فى أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود، وتدبير الأمر، أو القول: هو التفكر فيما وراءه وما يراد منه وينتهى إليه، والقسط: العدل، والحميم: الماء الشديد الحرارة. المعنى الجملي بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر آيات الكتاب، وأنكر على الناس عجبهم أنه يوحى إلى رجل منهم يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وينذرهم على الكفر والمعاصي بالعقاب- قفى على ذلك بذكر أمرين: (1) إثبات أن لهذا العالم إلها قادرا نافذ الحكم بالأمر والنهى يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير. (2) إثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال من ثواب وعقاب وهما اللذان أخبر بهما الأنبياء. الإيضاح (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي إن ربكم هو الله الذي خلق العوالم السماوية التي فوقكم، وهذه الأرض التي تعيشون على ظهرها فى ستة أزمنة قد تمّ فى كل زمن منها طور من

أطوارها وقدرها بمقادير أرادها، ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير لهذا الملك العظيم، استواء يليق بعظمته وجلاله، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام واقتضته حكمته من الإحكام، ولا يستنكر من رب هذا الخلق المدبر لأمور عباده أن يفيض ما شاء من علمه على من اصطفى من خلقه، ما يهديهم به لما فيه كمالهم من عبادته وشكره، وبذلك تصلح أنفسهم وتطهر قلوبهم وتستنير أفئدتهم، لتتم لهم بذلك الحياة السعيدة فى الدنيا والنعيم المقيم فى الآخرة، كما لا يستنكر أن هذا الوحى منه عزّ وجل إذ هو من كمال تقديره وتدبيره ولا يقدر عليه سواه. (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي لا يوجد شفيع يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه، والآية بمعنى قوله سبحانه «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وقد جاء فى كتابه تعالى أنه لا يشفع أحد عنده بإذنه إلا من ارتضاه للشفاعة كما قال: «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» ومن أذن له بالشفاعة لا يشفع إلا لمن رضى له الرحمن لإيمانه وصالح عمله كما قال: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» . وفى هذا إيماء لدحض العقيدة التي كان يعتقدها مشركو العرب ومقلدوهم من أهل الكتاب من أن الأصنام والأوثان وعبادة المقربين من الملائكة والبشر يشفعون لهم عند الله بما يدفع عنهم الضرر ويجلب لهم النفع كما حكى الله عن عبدة الأصنام قولهم «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» . وفى هذه العقيدة حجة عليهم إذ يقال لهم- إنكم إذا كنتم تؤمنون بأن لله شفعاء من أوليائه وعباده المقربين يشفعون لكم بما يقربكم إليه زلفى. وهو قول عليه تعالى بغير علم- فما بالكم تنكرون وتعجبون أن يوحى إلى من يشاء ويصطفى من عباده من يعلّمهم ما يهديهم إلى العمل الموصل إلى السعادة والهادي إلى طريق الرشاد. (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي ذلكم الموصوف بالخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف فى أمر الشفاعة يأذن بها لمن يشاء- هو الله ربكم المتولى شؤونكم فاعبدوه

وحده ولا تشركوا به شيئا ولا تشركوا معه أحدا لا فى شفاعة ولا غيرها، فالشفعاء لا يملكون لكم من دونه نفعا ولا ضرا، بل هو الذي يملك ذلك وحده وهو قد هداكم إلى أسباب النفع والضر الكسبية بالعقول والمشاعر التي سخرها لكم، وإلى أسباب النفع والضر الغيبية بوحيه، فلا تطلبوا نفعا ولا ضرا إلا بالأسباب التي سخرها لكم، وما تعجزون عنه أو تجهلون أسبابه، فادعوه فيه تعالى وحده يحصل لكم ما فيه ترغبون، أو يدفع عنكم ما تكرهون. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أتجهلون هذا الحق الواضح فلا تتذكرون أن الذي خلق السموات والأرض، وانفرد بتدبير هذا العالم هو الذي يجب أن يعبد ولا يعبد سواه، وذلك هو مقتضى الفطرة، والإعراض عنه غفلة يجب التنبيه إليها. وفى ذلك إيماء إلى أنه لا ينبغى أن نوجه وجوهنا شطر قبور الأولياء والصالحين ونشد الرحال إلى من بعد منهم ونتقرب إليهم بالنذور ونطوف بهم كما يطوف الحاج بيت الله الحرام، داعين متضرعين خاشعين نطلب منهم ما عجزنا عنه بكسبنا من دفع ضر أو جلب نفع، وكيف نتذكر هذه الآيات وأمثالها التي تجعل العبادة خاصة به تعالى وما الدعاء إلا مخ العبادة وروحها وأجلى مظاهرها كما جاء فى الأثر «الدعاء مخ العبادة» . ولكن أكثر العلماء وجمهرة الناس يتأولون هذه العبادة ويسمونها توسلا واستشفاعا، والأسماء لا تغير من قيمة الحقائق شيئا، فذلك بعينه هو ما كان يدّعيه المشركون وأهل الكتاب «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» . (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي إلى ربكم وحده دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون جميعا بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه لا يتخلف منكم أحد. (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) أي وعد الله ذلك وعدا حقا لا خلف فيه. (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي إن شأنه تعالى أن يبدأ الخلق وينشئه حين التكوين، ثم يعيده فى نشأة أخرى بعد انحلاله وفنائه.

وقد اتفق العلماء جميعا ما ديّهم وروحيهم على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية قد وجدت بعد أن لم تكن وإن كانوا لا يزالون يبحثون عن كيفية تلك النشأة والقوة المتصرفة فى أصل مادتها. وهم جميعا متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة بها فى هذا النظام الشمسى الجامع لها بأن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية تبسّها بسّا فتكون هباء منبثا. وها هو ذا قد حصل البدء بالفعل والإعادة أهون من البدء، فمن قدر على البدء يكون أقدر على الإعادة كما قال فى سورة الروم: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» . ومما يقرّب ذلك أن علماء الطبيعة أثبتوا أن هذه الأجساد الحية فى انحلال وتجدد دائمين فما ينحل منها ويبخر فى الهواء أو يموت فى داخل الجسم ثم يخرج منه تحلّ محله موادّ حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان فى سنين قليلة ويتجدد غيره. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي إنه تعالى يعيدهم لأجل جزائهم بالعدل، فيعطى كل عامل حقه من الثواب الذي جعله لعمله، وهذا المعنى قد جاء فى آيات كثيرة كقوله: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» وقوله: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» . والعدل فى الأمور كلها مما يتطلبه الإيمان كما قال: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» وقال: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» . والجزاء بالعدل لا يمنع أن يزيدهم ربهم شيئا من فضله ويضاعف لهم كما وعد على ذلك فى آيات أخرى، منها قوله: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» وقوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» . (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي إن

[سورة يونس (10) : الآيات 5 إلى 6]

الكافرين لهم من الجزاء شراب من حميم يقطع أمعاءهم وعذاب شديد الألم بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر المستمرّة إلى الموت كدعاء غير الله من الأوثان والأصنام، وسائر المعاصي التي يزينها لهم الشيطان ويصدهم بها عن الإيمان. وتعليل الرجوع إليه تعالى بأنه لجزاء المؤمنين الصالحين، بيان منه بأنه المقصود بالذات، إذ هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشرى للذين زكّوا أنفسهم وطهروا قلوبهم وأخبتوا إلى ربهم فيلقى من عمل الصالحات من النعيم المادي ما هو خال من الشوائب التي تخالطه فى نعيم الدنيا، ومن النعيم الروحي (وهو رضوان الله الأكبر) مما لا يعلم كنهه فى هذه الحياة أحد كما قال «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» وجاء فى الحديث القدسي «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» رواه البخاري. وأما جزاء الكافرين الظالمين لأنفسهم وللناس على تدسيتهم لأنفسهم بالكفر والخطايا، فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية فى خلق الإنسان، ولكنها مقتضى العدل ومقتضى مشيئته تعالى فى ارتباط الأسباب بالمسببات والعلل بالمعلولات. [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 6] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) تفسير المفردات الضوء والنور: بمعنى واحد لغة، والضوء أقوى من النور استعمالا بدليل هذه الآية، وقيل الضوء لما كان من ذاته كالشمس والنار، والنور لما كان مكتسبا من

المعنى الجملي

غيره، ويدل على ذلك قوله: «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» والسراج: نوره من ذاته، والضياء والضوء ما أضاء لك، وشعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة التي ترى فى قوس السحاب فهو سبعة أضواء، وقد كشف ترقى العلوم الفلكية عن ذلك، وكان الناس يجهلونه عصر التنزيل، والتقدير: جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة فى الذات أو الصفات أو الزمان أو المكان كما قال: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» وقال: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» والمنازل: واحدها منزل، وهو مكان النزول، وهى ثمانية وعشرون منزلا معروفة لدى العرب بأسمائها. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الآيات الدالة على وجوده، وهو خلق السموات والأرض على ذلك النظام المحكم- ذكر هنا أنواعا من آياته الكونية الدالة على ذلك وعلى أنه خلقها على غاية من الإحكام والإتقان، وهو تفصيل لما تقدم وبيان له على وجه بديع وأسلوب عجيب. الإيضاح (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) أي إن ربكم الذي خلق السموات والأرض- هو الذي جعل الشمس مضيئة نهارا والقمر منيرا ليلا، ودبّر أمور معاشكم هذا التدبير البديع، فأجدر به وأولى أن يدبّر أمور معادكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب. (وقدره منازل) أي وقدر سير القمر فى فلكه منازل ينزل كل ليلة فى واحد منها لا يجاوزها ولا يقصر دونها وهى ثمانية وعشرون يرى القمر فيها بالأبصار، وليلة أو ليلتان يحتجب فيهما فلا يرى. (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لتعلموا بما ذكر من صفة النيرين وتقدير

المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم المالية والمدنية، ولولا هذا النظام المشاهد لتعذر العلم بذلك على الأميين من أهل البدو والحضر إذ حساب السنين والشهور الشمسية لا يعلم إلا بالدراسة، ومن ثم جعل الشارع الحكيم الصوم والحج وعدة الطلاق بالحساب القمري الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة، ولعبادتى الصيام والحج حكمة أخرى وهى دورانهما فى جميع فصول السنة، فيعبد المسلمون ربهم فى جميع الأوقات من حارة وباردة ومعتدلة. وقد حث الشارع على الانتفاع بالحساب الشمسى بنحو قوله: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ» وقوله: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» . (ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما خلق الله الشمس ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لها فتنبعث الحرارة فى جميع الأحياء، وبها يبصر الناس جميع المبصرات ويقومون بأمور معايشهم وسائر شئونهم، وما خلق القمر ذا نور مستمد من الشمس تنتفع به السيارة فى سيرهم، وقدره منازل يعرف بها الناس السنين والشهور، ما خلق ذلك إلا مقترنا بالحق الذي تقتضيه الحكمة والمنفعة لحياة الخلق ونظام معايشهم فلا عبث فيه ولا خلل، فكيف يعقل بعد هذا أن يخلق هذا الإنسان ويعلمه البيان ويعطيه من كمال الاستعداد ما لم يعط غيره، ثم يتركه بعد ذلك سدى يموت ويفنى ولا يعود ويبعث، لتجزى كل نفس بما كسبت فيجزى المتقون بصالح أعمالهم، والمشركون والظالمون المجرمون بكفرهم وجرائمهم كما قال تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» . (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يبين الدلائل من حكم الخلق على رسوله مفصلة منوعة من كونية وعقلية لقوم يعلمون دلالة الأدلة ويميزون بين الحق والباطل باستعمال عقولهم فى فهم هذه الآيات فيجزمون بأن من خلق النيّرين على هذا النظام البديع لا يمكن أن يخلق الإنسان سدى.

[سورة يونس (10) : الآيات 7 إلى 10]

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي فى حدوثهما وتعاقبهما بمجىء كل منهما خلقة للآخر وفى طولهما وقصرهما بحسب اختلاف مواقع الأرض من الشمس، وما لهما من نظام دقيق بحسب حركة الشمس اليومية والسنوية، وفى طبيعة كل منهما وما يصلح فيه من نوم وسكون وعمل دنيوى ودينى (وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أحوال الجماد والنبات والحيوان، ويدخل فى ذلك أحوال الرعود والبروق والسحاب والأمطار، وأحوال البحار من مدّ وجزر، وأحوال المعادن العجيبة فى تركيبها وأوضاعها المختلفة إلى نحو ذلك مما ذكر فى علم المواليد الثلاثة. (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) أي لدلائل عظيمة على وجود الصانع ووحدانيته وحكمته فى الإبداع والإتقان وفى تشريع العقائد والأحكام- لقوم يتقون مخالفة سننه تعالى فى التكوين وسننه فى التشريع، فلله سنن فى حفظ الصحة من خالفها مرض، وله سنن فى تزكية الأنفس من خالفها وأفسدها بارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن جوزى على ذلك فى الآخرة أشد الجزاء. [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) تفسير المفردات قال فى المصباح: رجوته: أمّلته أو أردته قال تعالى «لا يَرْجُونَ نِكاحاً» أي لا يريدونه، ويستعمل بمعنى الخوف لأن الراجي يخاف ألا يدرك ما يرجوه، وقيل

المعنى الجملي

الرجاء مجرد التوقع الذي يشمل ما يسرّ وما يسوء، واللقاء: الاستقبال والمواجهة، والاطمئنان: سكون النفس إلى الشيء وارتياحها به، والمأوى: الملجأ الذي يأوى إليه المتعب أو الخائف أو المحتاج من مكان آمن أو إنسان نافع، وقد أطلق على الجنة فى ثلاث آيات، وعلى النار فى بضع عشرة آية، والدعوى: الدعاء، وهو للناس النداء والطلب المعتاد بينهم فى دائرة الأسباب المسخرة لهم، ولله هو دعاؤه وسؤاله والرغبة فيما عنده مع الشعور بالحاجة إليه والضراعة له فيما لا يقدر عليه أحد من خلقه من دفع ضر أو جلب نفع، سبحانك: أي تنزيها لك وتقديسا، والتحية: التكرمة بقولهم حياك الله، أي أطال عمرك والسلام: السلامة من كل مكروه. المعنى الجملي بعد أن ذكر الأدلة على وجوده تعالى من خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وأثبت بذلك البعث والجزاء على الأعمال يوم العرض والحساب- قفى على هذا بذكر حال من كفر به وأعرض عن البينات الدالة عليه، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات موقنين بلقاء ربهم- ثم ذكر جزاء كلّ من الفريقين. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي إن الذين لا يتوقعون لقاءنا فى الآخرة للحساب والجزاء على الأعمال لإنكارهم للبعث، ورضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة فقصروا كل همهم من الحياة على الحصول على أغراضهم منها، وسكنت نفوسهم إلى شهواتها ولذاتها. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) فلا يتدبرون منها ما نزل على رسولنا وما حوته من عبر ومواعظ ومعاد وحكم، ولا يتفكرون فى صحائف الكون وما فيها من حكمته وسننه فى الخلق، وبهذا شاركوا الفريق الأول فى الشغل بالدنيا عن الآخرة، ومن ثم لم يستعدوا لحسابنا وما يعقبه من نعيم مقيم، وعذاب أليم.

(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أولئك الذين سلف ذكرهم مأواهم فى الآخرة النار جزاء ما اجترحوا من السيئات طوال حياتهم، فهم قد دنسوا أنفسهم بشرور الوثنية وظلمات الشهوات الحيوانية فلم يعد لنور الحق والخير مكان فيها، ومن ثم لا يجدون ملجأ بعد هول الحساب إلا جهنم دار العذاب. وبعد أن أبان جزاء الفريق الأول كان من الواضح أن تستشرف نفس القارئ والسامع إلى جزاء الفريق الثاني فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به ولم يغفلوا عن الآيات التي غفل عنها الغافلون ورجوا لقاء ربهم وخافوا حسابه وعقابه، يهديهم ربهم بسبب إيمانهم صراطه المستقيم فى كل ما يعملون وينتهى ذلك بهم إلى دخول الجنة التي أعدها لعباده المخبتين. وفى هذا إيماء إلى أن الإيمان والعمل الصالح هما سبب الهداية والفوز برفيع الدرجات والوصول إلى أقصى الغايات. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي تجرى من تحت غرفهم فى الجنات ومن تحت الأشجار. (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إنهم يبدءون كل دعاء وثناء عليه تعالى يناجونه به بهذه الكلمة (سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ) أي تنزيها وتقديسا لك يا الله، وأن تحيتهم فيها كلمة (سَلامٌ) الدالة على السلامة من كل مكروه، وهى تحية المؤمنين فى الدنيا. وهذه التحية تكون منه عز وجل حين لقائه كما قال فى سورة الأحزاب: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» ومن الملائكة لهم عند دخول الجنة كما قال: «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» وتكون منهم بعضهم لبعض كما قال: «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً» .

[سورة يونس (10) : الآيات 11 إلى 12]

وإن آخر كل حال من أحوالهم من دعاء يناجون به ربهم، ومطلب يطلبونه من إحسانه وكرمه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كما أنه أول ثناء عليه حين دخولها كما قال «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» كما أنه آخر كلام الملائكة كما قال: «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . فعلى كل مؤمن أن يستعدّ لها بتزكية نفسه وترقية روحه، ويعلم أنه لن يكون أهلا لها إلا بالعمل ومجاهدة النفس والهوى، لا بالتوسلات للأولياء والتمني لشفاعتهم كما قال تعالى: «لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» . وروى عن أبىّ بن كعب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «إن أهل الجنة إذا قالوا- سبحانك اللهم، أتاهم ما يشتهون» وكذلك روى مثله عن بعض التابعين- فالكلمة إذا علامة بين أهل الجنة وخدمهم على إحضار الطعام وغيره فإذا أكلوا حمدوا الله تعالى. [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 12] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)

تفسير المفردات

تفسير المفردات تعجيل الشيء. تقديمه على أوانه المقدر له أو الموعود به، والاستعجال به: طلب التعجيل له، والعجلة من غرائز الإنسان كما قال تعالى «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» فاستعجاله بالخير لشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها، واستعجاله بالضر لا يكون من دأبه بل بسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز، أو للنجاة مما هو شر منه، وقضاء الأجل: انتهاؤه، ونذر: نترك، والطغيان: مجاوزة الحد فى الشر من كفر وظلم وعدوان، والعمه: التردد والتحير فى الأمر أو فى الشر، ومرّ: أي مضى فى طريقته التي كان عليها من الكفر بربه. المعنى الجملي بعد أن ذكر تعجب القوم من تخصيص محمد بالنبوة، وأزال هذا التعجب بقوله «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ» ثم ذكر دلائل التوحيد والبعث والجزاء- ذكر هنا جوابا عن شبهة كانوا يقولونها أبدا وهى: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فى ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء. وخلاصة الجواب أنه لا مصلحة لهم فى إيصال الشر إليهم إذ لو أوصله إليهم لماتوا وهلكوا، ولا صلاح فى إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك أو خرج من صلبهم من يكون مؤمنا. الإيضاح (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم فى الشر وفيما عليهم فيه مضرة فى نفس أو مال كاستعجال مشركى مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب الذي أنذرهم نزوله بهم كما حكى الله عنهم من نحو قوله «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ

الْمَثُلاتُ» وقوله «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً» وقوله «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . كاستعجالهم بالخير الذي يطلبونه بدعاء الله أو بعلاج الأسباب التي يظنون أنها قد تأتى به قبل أوانه، لقضى أجلهم قبل وقته الطبيعي كما هلك الذين كذبوا الرسل واستعجلوهم بالعذاب من قبلهم. ولكن الله أرحم بهم من أنفسهم، وقد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهداية الدائمة، وقضى بأن يؤمن به قومه العرب ويحملوا دينهم إلى العجم، وأنه يعاقب المعاندين من قومه فى الدنيا بما فيه تأديب لهم كما بين ذلك بقوله «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ» ويؤخر عذاب سائر الكافرين إلى يوم القيامة، ولم يقض بإهلاكهم واستئصالهم، بل يذرهم إلى نهاية آجالهم كما قال: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي فنترك الذين لا يرجون لقاءنا ممن تقدم ذكرهم فيما هم فيه من طغيان فى الكفر والتكذيب، يترددون فيه متحيرين لا يهتدون سبيلا للخروج منه، ولا نعجل لهم العذاب فى الدنيا بالاستئصال حتى يأتى أمر الله فى جماعتهم بنصر رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم، وفى أفرادهم بقتل بعضهم وموت بعض، ومأواهم النار وبئس القرار، إلا من تاب وآمن منهم. وقد يكون المراد: ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه بما يقترفونه من ظلم وفساد فى الأرض لأهلكهم كما جاء فى قوله «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» ومن هذا دعاؤهم على أنفسهم حين اليأس، ودعاء بعضهم على بعض حين الغضب كما قال «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» أي وما دعاء الكافرين بربهم أو بنعمه فيما يخالف شرعه وسننه فى خلقه إلا فى ضياع لا يستجيبه الله لهم لحلمه عليهم ورحمته بهم.

[سورة يونس (10) : الآيات 13 إلى 14]

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) أي إن الإنسان إذا أصابه من الضر ما يشعر فيه بشدة ألم أو خطر على نفسه كغرق ومسغبة وداء عضال دعانا ملحّا فى كشفه عند اضطجاعه لجنبه أو قعوده فى كسر بيته أو قيامه على قدميه حائرا فى أمره، ولا ينسى حاجته إلى رحمة ربه مادام يشعر بمسّ الضر ويعلم من نفسه العجز عن النجاة منه، وقدم من هذه الحالات الثلاث ما يكون الإنسان أشد عجزا وشعوره بالحاجة إلى ربه أقوى ثم التي تليها ثم التي تليها. (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) أي فلما كشفنا عنه ضره الذي دعانا إليه حال شعوره بعجزه عن كشفه بنفسه أو بغيره من الأسباب- مرّ ومضى فى طريقه التي كان عليها من الغفلة عن ربه والكفر به كأن الحال لم تتغير ولم يدعنا إلى شىء ولم نكشف عنه ضرا. (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي مثل هذا الطريق من معرفة الله والإخلاص فى دعائه وحده فى الشدة، ونسيانه والكفر به بعد كشفها، زين للمشركين من طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك، حتى بلغ من عنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم واستهزائهم بما أنذرهم من عذاب أن استعجلوه به فقالوا اللهم ربنا أمطر علينا حجارة من السماء. [سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14] وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) تفسير المفردات القرون: الأمم، واحدها قرن، وهم القوم المقترنون فى زمن واحد، وجاء فى الحديث الشريف «خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم» والخلائف: واحدها خليفة، وهو من يخلف غيره فى شىء، وننظر: نشاهد ونرى.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فى الآيات السالفة أنهم كانوا يتعجلون العذاب، وذكر أنه لا صلاح لهم فى إجابة دعائهم، ثم ذكر أنهم كاذبون فى هذا الطلب إذ لو نزل بهم الضر جأروا وتضرعوا إلى الله فى كشفه وإزالته. بين هنا ما يجرى مجرى التهديد، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال كما حدث للأمم قبلهم حتى يكون ذلك رادعا لهم وزاجرا عن هذا الطلب. الإيضاح (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الخطاب إلى قوم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل وطنه مكة، أي ولقد أهلكنا كثيرا من الأمم قبلكم بسبب ظلمهم. والآية بمعنى قوله «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» وهلاك الله للأمم بالظلم ضربان: (1) ضرب بعذاب الاستئصال للأقوام الذين بعث الله تعالى فيهم رسلا لهدايتهم بالإيمان والعمل الصالح كقوم نوح وعاد وثمود، فعاندوا الرسل فأنذروهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيئهم بالآيات الدالة على صدقهم. (2) ضرب بعذاب هو مقتضى سنته تعالى فى نظم الاجتماع البشرى، فالظلم مثلا سبب لفساد العمران وضعف الأمم، ولاستيلاء القوية على الضعيفة كما قال «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» - وهو إما ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسوق والإسراف فى الشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق، وإما ظلم الحكام الذي يفسد بأس الأمة ويهن من قوتها. (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أهلكناهم لما ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالبينات الدالة على صدقهم.

(وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي وما كان من شأنهم ولا من مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا لأنهم قد مرنوا على الكفر وصار ديدنهم حب الشهوات واللذات من الجاه والرياسة والظلم والفسق والفجور. (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل هذا العذاب الشديد وهو الاستئصال نجزيه لكل قوم مجرمين. وفى هذا وعيد شديد لأهل مكة على تكذيبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه. (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعد أولئك الأقوام بما آتيناكم فى هذا الدين من أسباب الملك والحكم، إذ فى شريعتكم ما به سعادة الأمة فى دينها ودنياها. وفى الآية بشارة لهذه الأمة بأنها ستخلفهم فى الأرض إذا آمنت به واتبعت النور الذي أنزل معه كما قال «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» ولقد صدق الله وعده فملكهم ملك الأكاسرة والقياصرة والفراعنة وكثير من الأمم غيرها. (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي لنرى ماذا تعملون فى خلافتكم فنجازيكم به بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم، كما قال «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» وجاء فى الأثر «إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» وقال قتادة: صدق الله ربنا، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل أو النهار. وفى ذلك إيماء إلى أن هذه الخلافة منوطة بالأعمال حتى لا يغتروا بماسينالونه ويظنوا أنه باق لهم وأنهم يتفلتون من سننه تعالى فى الظالمين.

[سورة يونس (10) : الآيات 15 إلى 17]

[سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 17] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) المعنى الجملي بعد أن بدأ سبحانه السورة بذكر الكتاب الحكيم وإنكار المشركين الوحى على رجل منهم، ثم أقام الحجة على الوحى والتوحيد والبعث بخلق العالم علويّه وسفليّه، وبطبيعة الإنسان وتاريخه وغرائزه- أعاد هنا الكلام فى شأن الكتاب نفسه، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنه، وحجته البالغة عليهم فى كونه وحيا من عند الله تعالى. الإيضاح (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) أي وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آيات الكتاب الذي أنزل إليك حال كونها بارزات فى أعلى أسلوب من البيان، دالات على الحق، ساطعات الحجة والبرهان قالوا لمن يتلوها عليهم، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، أي ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما لا نؤمن به من البعث والجزاء على الأعمال، ولا ما نكرهه من ذم آلهتنا والوعيد على عبادتها، أو بدّله بأن تجعل بدل الآية المشتملة على الوعيد آية أخرى، ولم يكن مقصدهم من هذا إلا أن يختبروا حاله بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره فى جملة ما بلّغهم من سوره فى أسلوبها ونظمها، أو بالتصرف فيه بالتغيير والتبديل لما يكرهونه منه من تحقير آلهتهم وتكفير آبائهم حتى إذا

فعل هذا أو ذاك كانت دعواه أنه كلام الله أوحاه إليه دعوى لا يعوّل عليها، وكان قصارى أمره أنه امتاز عنهم بنوع من البيان خفيت عليهم أسباب معرفته، ولم يكن بوحي من الله كما يزعمه. (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي قل لهم أيها الرسول إنه ليس من شأنى ولا مما تجيزه لى رسالتى أن أبدله من تلقاء نفسى ومحض رأيى وخالص اجتهادي. ثم أكد ما قبله فقال: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما أتبع فيه إلا تبليغ ما يوحى إلىّ والاهتداء بهديه، فإن بدّل الله منه شيئا بنسخه بلغت عنه ما أراد، وما علىّ إلا البلاغ. ثم علل ما سبق بقوله: (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف إن فعلت أىّ عصيان، عذاب يوم عظيم الشأن، ألا وهو يوم القيامة، فكيف بي إذا عصيته بتبديل كلامه اتباعا لأهوائكم. ثم لقّنه الله الجواب عن الشق الأول وهو التغيير لأهميته بقوله: (قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) يقال دريته ودريته به، أي علمته، أي قل لهم لو شاء الله ألا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم، فإنما أتلوه بأمره وتنفيذ مشيئته ولو شاء الله ألا يعلمكم به بإرسالى إليكم لما أرسلنى ولما أدراكم به، ولكنه شاء أن يمنّ عليكم بهذا العلم النافع لتهتدوا به وتكونوا بهدايته خلائف فى الأرض، وهذا لن يكون بكتاب آخر كما قال «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» فهو قد أنزله عالما بأن فيه كل ما يحتاج إليه البشر من الهداية وأسباب السعادة. (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أي فقد مكثت بين ظهرانيكم عمرا طويلا من قبله وهو أربعون سنة لم أتل عليكم سورة من مثله ولا آية تشبه آياته، لا فى العلم والهداية، ولا فى البيان والبراعة.

[سورة يونس (10) : آية 18]

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون أن من عاش أربعين سنة لم يقرأ كتابا ولم يلقّن من أحد علما ولم يتقلد دينا ولم يمارس أساليب البيان وأفانين الكلام من شعر ونثر وخطابة وفخر وعلم وحكمة- لا يمكنه أن يأتى بمثل هذا القرآن المعجز لكم ولجميع الدارسين لكتب الأديان، فكيف تقترحون علىّ أن آتى بقرآن غيره. وقد كان أكثر أنبياء بنى إسرائيل قبل نبوتهم على شىء من العلم كما قال تعالى فى موسى «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» وقال فى يحيى «وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» . (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي إن شر أنواع الظلم والإجرام فى البشر شيئان: (1) افتراء الكذب على الله، وذلك بما اقترحتموه على الإتيان بقرآن غيره. (2) التكذيب بآيات الله بما اجترحتموه من السيئات. وقد نعيت عليكم الثاني منهما، فكيف أرضى لنفسى الأول وهو شر منه، وإنّ أهم أغراض رسالتى الإصلاح، ولأجله أحتمل المشاقّ، وأقبل فى سبيله كل إرهاق، فلا فائدة لى فى هذا الإجرام. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أي إنه لا يفوز الذين اجترموا الكفر فى الدنيا إذا لقوا ربهم ولا ينالون الفلاح. [سورة يونس (10) : آية 18] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين فى الآيات السالفة أنهم طلبوا منه أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله لأن فيه نبذا لآلهتهم وطعنا فيها وتسفيها لآرائهم فى عبادتها- نعى عليهم هنا عبادة الأصنام وبين لهم حقارة شأنها إذ لا تستطيع نفعا ولا ضرا، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها من دون الله، ويجعل لها الشفاعة عنده وليس لديهم برهان على ما يدّعون، سبحانه وتعالى عما يشركون. الإيضاح (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي ويعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا من الأصنام وغيرها حال كونهم متجاوزين ما يجب من عبادته تعالى وحده فهم يعبدونه ويعبدون معه غيره كما قال تعالى «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» . وفى الآية إيماء إلى أن سبب عبادتها وضلالهم فيما يدّعون هو اعتقادهم فيها القدرة على الضر والنفع، فرد عليهم خطأهم بأنه وحده هو القادر على نفع من يعبده وضر من يشرك بعبادته غيره فى الدنيا والآخرة. وقد دل تاريخ البشر فى كل طور من أطواره على أن كل ما عبده من دون الله من صنم أو وثن فإنما عبده لاعتقاده فيه القدرة على النفع والضر بسلطان له فوق الأسباب المعروفة كعبادته للأوثان المتخذة من الحجارة أو الخشب والأصنام المصنوعة من المعادن والحجارة أو غير المصنوعة كاللات، وهى صخرة كانت بالطائف يلتّ عليها السويق عظّمت حتى عبدت، أو الأشجار كالعزّى معبودة قريش. (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) أي ويقولون فى سبب عبادتهم لهم مع اعتقادهم أنهم لا يملكون الضر والنفع بأنفسهم إيمانهم بأن الرب الخالق هو الله تعالى، وهؤلاء شفعاء عنده ونحن إنما نعبدهم ونعظم هيا كلهم ونطيّبها بالعطر ونقدم لهم النذور

ونهلّ لهم عند ذبح القرابين بذكر أسمائهم وبدعائهم والاستغاثة بهم، لأنهم يشفعون لنا عند الله ويقربوننا إليه زلفى ويدفعون بجاههم عنا البلاء ويعطوننا ما نطلب من النعماء. وقد روى عكرمة أن النضر بن الحارث قال: إذا كان يوم القيامة شفعت لى اللات والعزّى. فأساس عقيدة الشرك أن جميع ما يطلب من الله لا بد أن يكون بوساطة المقربين عنده، إذ هم لا يمكنهم التقرب من الله والحظوة عنده بأنفسهم لأنها مدنّسة بالمعاصي- أما الموحدون فيعتقدون أنه يجب على العاصي أن يتوجه إلى الله وحده تائبا إليه طالبا مغفرته ورحمته. (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي قل لهم أيها الرسول مبينا لهم كذبهم ومنكرا عليهم افتراءهم على ربهم: أتخبرون الله بشىء لا يعلمه من أمر هؤلاء الشفعاء فى السموات من ملائكته وفى الأرض من خواص خلقه، ولو كان له شفعاء يشفعون لكم عنده لكان أعلم بهم منكم، إذ لا يخفى عليه شى فى الأرض ولا فى السماء، فإذا هؤلاء لا وجود لهم عنده، وأنكم قد اتخذتم ذلك قياسا على ما ترونه من الوساطة عند الملوك الجاهلين بأمور رعيتهم والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم، بدون وساطة الوزراء وذوى المكانة فيهم. وبهذا ثبت بطلان الشرك فى الألوهية وهو عبادة غير الله مهما يكن المعبود، وبطلان الشرك فى الربوبية بادعاء وساطة المعبود فى الخلق والتدبير، أو الشفاعة عند الله إذ ليس لمعبود بذاته ولا بتأثير خاص له عند خالقه يحمله على نفع من شاء ولا ضر من شاء أو كشف ضر عنه كما يعتقده عباد الأولياء من البشر إلى اليوم، فكل ذلك للرب وحده ولا يعلم إلا بوحيه، فادعاء ذلك لغيره كذب لا مستند له. وفى هذا حجة أيّما حجة على زوار الأضرحة والقبور الذين يقولون: إن هؤلاء

[سورة يونس (10) : آية 19]

الأولياء أحياء عند ربهم كالشهداء، فهم يضرون وينفعون لا كالأصنام، وقد جهلوا أن الله يقول للنصارى إن المسيح لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعبادتهم له مع ما آتاه من المعجزات، وأظن أن الأمر لا يبلغ بهم أن يجعلوا السيد البدوي وسيدنا الحسين والسيدة زينب أفضل عند الله ولا أقرب منه. وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» . (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه ربنا وعلا علوا كبيرا عما يشركون به من الشفاعة والوسطاء وما يفترونه عليه من أنّ لأحد من خلقه وساطة عنده وشفاعة لديه تقرب إليه زلفى، ففى هذا تحقير لمقام الربوبية والألوهية وتشبيه الرب بعبيده من الملوك الجاهلين. وفى هذا إيماء إلى أن شئون الرب وسائر ما فى عالم الغيب لا يعلم إلا بخبر الوحى ومن ذلك اتخاذ الشفعاء والوسطاء عنده، فيكون كفرا صراحا. [سورة يونس (10) : آية 19] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) المعنى الجملي بعد أن أقام الأدلة على فساد عبادة الأصنام، وبين سبب هذه العبادة- ذكر هنا بيان ما كان عليه الناس من الوحدة فى الدين وما صاروا إليه من الاختلاف والفرقة فيه. الإيضاح (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) أي إن الناس جميعا كانوا أمة واحدة على فطرة الإسلام والتوحيد ثم اختلفوا فى الأديان، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» .

[سورة يونس (10) : آية 20]

فبعث الله فيهم النبيين والمرسلين لهدايتهم وإزالة الاختلاف بكتاب الله ووحيه، ثم اختلفوا فى الكتاب أيضا بغيا بينهم واتباعا لأهوائهم. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي ولولا كلمة حق سبقت من ربك فى جعل الجزاء العام فى الآخرة لعجّله لهم فى الدنيا بإهلاك المبطلين المعتدين. وفى الآية وعيد شديد على احتلاف الناس المؤدى إلى العدوان والشقاق، ولا سيما الاختلاف فى الكتاب الذي أنزل لإزالة الشقاق. [سورة يونس (10) : آية 20] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه عن المشركين إنكارهم للوحى إلى بشر مثلهم ورد عليهم مقالتهم بالحجج التي تثبت بطلان شركهم وإنكارهم للبعث، ثم حكى عنهم مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإتيان بقرآن غير هذا الذي يدل فى نظمه وأسلوبه وعلومه وهدايته على أنه وحي من كلام الله- حكى عنهم فى هذه الآية الاحتجاج على إنكار نبوته بعدم إنزال آية كونية غير القرآن مع ما فيه من الآيات العلمية والعقلية الدالة على النبوة والرسالة ثم رد على ذلك. الإيضاح (وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي قالوا مرارا وتكرارا ولا يزالون يقولون: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية كونية كآيات الأنبياء الذين يحدثنا عنهم كنوح وشعيب وهود، وقد جاء هذا الاقتراح هنا مجملا وأجاب عنه جوابا مجملا

لأن كلا منهما سبق مفصلا فى سور أخرى كقوله فى سورة الفرقان: «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» وحكى عنهم أنهم طالبوه بواحدة من بضع آيات وعلّقوا إيمانهم على إجابة مطلبهم فقال: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» . فلقنه الله الرد عليهم بقوله: «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ» أي وما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحوها إلا تكذيب الأولين كعاد وثمود بها، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال كما مضت بذلك سنتنا، وقد قضينا ألا نستأصلهم لأنهم أمة خاتم النبيين الباقية وأنه هو رحمته العامة الشاملة، وفيهم من يؤمن أو يولد له من يؤمن، وقد آتى الله رسوله صلى الله عليه وسلم آيات علمية وكونية ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته ولا أمره بالتحدي بها، بل كانت لضرورات استدعتها كاستجابة بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم كشفاء المرضى وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل فى غزوة بدر وغزوة تبوك، وتسخير الله السحاب لإسقاء المسلمين، وتثبيت أقدامهم التي كانت تسيخ فى الرمل ببدر. وعلى الجملة فحجة النبي صلى الله عليه وسلم على نبوته هى كتابه المعجز بهدايته وعلومه. روى الشيخان والترمذي عن أبى هريرة مرفوعا «ما من نبى إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»

[سورة يونس (10) : الآيات 21 إلى 23]

(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي إن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلّقتم إيمانكم بنزوله من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ولا علم لى به، فإن كان قدّر إنزال آية علىّ فهو يعلم وقتها وينزلها فيه، ولا أعلم إلا ما أوحاه إلىّ. (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعله الله بي وبكم، فقد اجترأتم على جحود الآيات واقتراح غيرها، والآية بمعنى قوله: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» وقد جاء تفسير ما ينتظره وينتظرونه منه فى قوله فى آخر هذه السورة «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» . وفى الآية إنذار بما سيحل بهم من العذاب بخذلانهم ونصر الرسل عليهم فى الدنيا وما وراءها من عذاب الآخرة. [سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 23] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أصل الذوق: إدراك الطعم بالفم، ويستعمل فى إدراك الأشياء المعنوية كالرحمة والنعمة والعذاب والنقمة، والمكر: التدبير الخفىّ الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه ومكره تعالى تدبيره الذي يخفى على الناس بإقامة سننه وإتمام حكمه فى نظام العالم، وكله عدل وحق، فإن ساء الناس سمّوه شرا، وإن كان جزاء عدلا، والرسل هنا: الكرام الكاتبون من الملائكة، والتسيير: جعل الشيء أو الشخص يسير بتسخيره تعالى أو إعطائه ما يسير عليه من دابة أو سفينة، والفلك: السفينة أو السفن واحد وجمع، والطيب: من كل شىء ما يوافق الغرض والمنفعة، يقال رزق طيب ونفس طيبة وشجرة طيبة، والعاصف: الذي يعصف الأشياء ويكسرها، يقال ريح عاصف وعاصفة، وأحيط به هلك كما يحيط العدو بعدوه فيسدّ عليه سبل النجاة، والبغي: مازاد على القصد والاعتدال، من بغى الجرح إذا زاد حتى ترامى إلى الفساد. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه أن القوم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم آية أخرى سوى القرآن، وذكر جوابا عن هذا بأنه مما لا يملك ذلك لأن هذا من الغيب الذي استأثر بعلمه، قفّى على ذلك بجواب آخر، وهو أن أولئك المشركين لا يقنعون بالآيات إذا رأوها بأعينهم، بل يكابرون حسّهم ولا يؤمنون، إذ من عاداتهم اللجاج والعناد فكثيرا ما جاءتهم الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله فى أفعاله، ثم هم يمكرون فيها ولا تزيدهم إلا ضلالا.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي وإذا رزقنا المشركين بالله فرجا بعد كرب ورخاء بعد شدة أصابتهم، بادروا إلى المكر وأسرعوا بالمفاجأة به فى مقام الشكر، فإذا كانت الرحمة مطرا أحيا الأرض وأنبت الزرع ودرّ به اللبن بعد جدب وقحط أهلك الحرث والنسل، نسبوا ذلك إلى الكواكب أو الأصنام، وإذا كانت نجاة من هلكة وأعوزهم معرفة عللها وأسبابها علّلوها بالمصادفات، وإذا كان سببها دعاء نبىّ أنكروا إكرام الله له، وتأييده بها كما فعل فرعون وقومه عقب آيات موسى، وكما فعل مشركو مكة إثر القحط الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفع عنهم بدعائه عليه الصلاة والسلام فما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه «أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسنى سيدنا يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ» فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا لهم فكشف الله عنهم العذاب ومطروا فعادوا الى حالهم ومكرهم الأول يطعنون فى آيات الله ويعادون رسوله صلى الله عليه وسلم ويكذّبونه» . (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي قل لهم: إن الله أسرع منكم مكرا، فهو قد دبّر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبّروا كيف تعملون فى إطفاء نور الإسلام، وقد سبق فى تدبيره لأمور العالم وتقديره للجزاء على الأعمال قبل وقوعها أن يعاقبكم على مكركم فى الدنيا قبل الآخرة، وهو عليم بما تفعلون لا تخفى عليه خافية.

(إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أي إن الحفظة من الملائكة الذين وكلهم الله بإحصاء أعمال الناس وكتبها للحساب عليها فى الآخرة يكتبون ما تمكرون به. وفى ذلك تنبيه إلى أن ما دبّروا ليس بخاف عليه تعالى، وإلى أن انتقامه واقع بهم لا محالة. وعلينا أن نعتقد بأن الملائكة تكتب الأعمال كتابة غيبية لم يكلفنا الله تعالى بمعرفة صفتها، وإنما كلفنا أن نؤمن بأن له نظاما حكيما فى إحصاء أعمالنا لأجل أن نراقبه فيها فنلتزم الحق والعدل والخير ونجتنب أضدادها. ثم ضرب مثلا من أبلغ أمثال القرآن ليظهر لهم ويتضح به ما هم عليه فقال: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي أنه تعالى هو الذي وهبكم القدرة على السير فى البر وسخر لكم الإبل والدواب، وفى البحر بما سخر لكم من السفن التي تجرى فى البحر والقطر التجارية والسيارات، وفى الهواء بالطائرات التي تسير فى الجوّ. (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي حتى إذا كنتم فى الفلك التي سخرناها لكم وجرت بمن فيها بسبب ريح مواتية لهم فى جهة سيرهم، وفرحوا بما هم فيه من راحة وانتعاش وتمتع بمنظره الجميل وهوائه العليل- جاءت ريح شديدة قوية فاضطرب البحر وتموّج سطحه كله فتلقاهم من جميع الجوانب والنواحي بتأثير الريح، واعتقدوا أنهم هالكون لا محالة بإحاطة الموج بهم، فبيما يهبط الريح العاصف بهم فى الحج البحر حتى كأنهم سقطوا فى هاوية إذا به يثب بهم إلى أعلى كأنهم فى قمّة الجبل الشاهق- فإذا ما نزلت بهم نذر العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، دعوا الله مخلصين له الدين ليكشف عنهم ما حل بهم ولا يتوجهون معه إلى ولىّ ولا شفيع ممن كانوا يتوسلون بهم إليه حال الرخاء. وقد صمموا العزيمة على طاعته وقالوا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة

لنكونن من جماعة الشاكرين، ولا نتوجه فى تفريج كروبنا وقضاء حاجتنا إلى وثن ولا صنم، ولا إلى ولىّ ولا نبىّ. وفى الآية إيماء إلى أن الناس جبلوا على الرجوع إلى الله حين الشدائد، ولكن من لا يحصى عددهم من المسلمين فى هذا العصر لا يدعون حين أشد الأوقات حرجا إلا الميتين من الأولياء والصالحين، كالسيد البدوي والرفاعي والدسوقى والمتولى وأبى سريع وغيرهم ويتأول ذلك لهم بعض العلماء ويسمونه توسلا أو نحو ذلك. قال السيد حسن صديق الهندي فى تفسيره [فتح الرحمن] : فيا عجبا لما حدث فى الإسلام من طوائف يعتقدون فى الأموات، فإذا عرضت لهم فى البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا لله كما فعله المشركون كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع. فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية، وأين وصل بها أهلها، وإلى أين رمى بهم الشيطان؟ وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمع فى مثله ولا فى بعضه من عباد الأصنام «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» اه. وقال الآلوسى فى تفسيره: وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم فى برّ أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يستغيث بأحد الأئمة. ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة، ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمرّ له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال، فبالله تعالى عليك قل لى: أىّ الفريقين أهدى سبيلا، وأىّ الداعيين أقوم قيلا، وإلى الله المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، واتّخذت الاستعانة بغير الله للنجاة ذريعة، وخرقت سفينة الشريعة اه. (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي فلما نجاهم مما نزل بهم من الشدة والكربة فاجئوا الناس فى الأرض التي يعيشون فيها بالبغي عليهم والظلم لهم مع الإمعان فى ذلك والإصرار عليه.

وفى قوله: بغير الحق- تأكيد للواقع وتذكير بقبحه وسوء حال أهله، أو لبيان أنه بغير حق عندهم أيضا بأن يكون ظلما ظاهرا لا يخفى على أحد قبحه كما جاء فى قوله: «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» . وبعد أن حكى المثل خاطب البغاة فى أي مكان كانوا وفى أي زمان وجدوا منبها واعظا فقال: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي يا أيها الغافلون عن أنفسكم، أما كفا كم بغيا على المستضعفين منكم اغترارا بقوتكم وكبريائكم، إنما بغيكم فى الحقيقة على أنفسكم، لأن عاقبة وباله عائدة إليكم، وإنما تتمتعون ببغيكم متاع الحياة الدنيا الزائلة وهى تنقضى سراعا، والعقاب باق، وأقله توبيخ الضمير والوجدان. (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم إنكم ترجعون إلينا بعد هذا التمتع القليل فننبئكم بما كنتم تعملون من البغي والظلم والتمتع بالباطل ونجازيكم به. وفى الآية إيماء إلى أن البغي مجزىّ عليه فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فلقوله: إنما بغيكم على أنفسكم، ولما جاء فى الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة فى الدنيا مع ما يدّخر له فى الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» ، والذي رواه أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر والنّكث والبغي، ثم تلا: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) - (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) - و (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) . وأما فى الآخرة فكفى دلالة على ذلك ما أفادته الآية من التهديد والوعيد. والخلاصة- إن البغي وهو أشنع أنواع الظلم يرجع على صاحبه- لما يولّد من العداوة والبغضاء بين الأفراد ولما يوقد من نيران الفتن والثورات فى الشعوب، انظر إلى من يبغى على مثله تجده قد خلق له عدوا أو أعداء ممن يبغى عليهم. ولا شك أن وجود الأعداء ضرب من العقوبة، فهم يقتصون لأنفسهم منه بكل

[سورة يونس (10) : آية 24]

الوسائل التي يقدرون عليها- وإن هم لم يفعلوا ذلك فإنه يرى فى أعينهم من أنواع الحنق والغضب ما لا يخفى عليه فيتأجج قلبه حسرة وندامة على ما فعل، ويود أن لو لم يكن قد خلق لنفسه هذه الحزازات والضغائن المتغلغلة فى النفوس. [سورة يونس (10) : آية 24] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) المعنى الجملي لما كان سبب بغى الناس فى هذه الدنيا هو إفراطهم فى حبها والتمتع بزينتها- ضرب بذلك مثلا يصرف العاقل عن الغرور بها، ويرشده إلى الاعتدال فى طلبها والكفّ عن التوسل فى الحصول على لذّاتها بالبغي والظلم والفساد فى الأرض- فشبه حال الدنيا وقد أقبلت بنعيمها وزينتها وافتتن الناس بها بعد أن تمكّنوا من الاستمتاع بها، ثم أسرع ذلك النعيم فى التقضي وانصرم غبّ إقباله واغترار الناس به، بحال ما على الأرض من أنواع النبات يسوق الله إليها المطر، فيلتفّ بعضها على بعض وتصبح بهجة للناظرين، ثم لا تلبث أن تنزل بها فجأة جائحة تستأصلها وتجعلها حطاما كأن لم تكن بالأمس. الإيضاح (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) أي إنما صفة الحياة فى صورتها ومآلها كصفة ماء نزل من السماء

فأنبتت به الأرض أزواجا شتى من النبات تشابكت واختلط بعضها على كثرتها واختلاف ألوانها وأنواعها من أصناف شتى تكفى الناس فى أقواتهم ومراعى أنعامهم. (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي حتى إذا كانت الأرض بها فى خضرتها السندسية وألوان أزهارها المختلفة (كعروس حلّيت بالذهب والجواهر والحلل المختلفة الألوان ذات البهاء والبهجة، وازينت بها فى ليلة زفافها) وظن أهلها أنهم قادرون على التمتع بثمراتها متمكنون من ادّخار غلاتها. (أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي نزل بها فى تلك الحال أمرنا المقدر لهلاكها فجاءتها جائحة وضرب زرعها بعاهة كجراد أو صقيع شديد أو ريح سموم ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم غافلون فجعلناها كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها ولم يبق منه شى، أو كأنها لم تنبت ولم تكن زروعها نضرة بالأمس. وجاء هذا المعنى فى قوله: «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ» . (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي كهذا المثل الواضح الذي يمثل حال الدنيا وغرور الناس مع سرعة زوالها وتعلق الآمال بها- نفصل الآيات الدالة على حقيقة التوحيد وأصول التشريع والآداب والمواعظ وتهذيب الأخلاق. وكل ما فيه صلاح للناس فى معاشهم ومعادهم لمن يستعمل عقله ويزن أعماله بموازين الحكمة. وقد غفل الناس عن الهداية بهذه الآيات وأمثالها. واهتدى بها الشعب العربي فخرج من خرافة شركه إلى نور التوحيد والعلم والحضارة. ثم اهتدى بدعوته الملايين من الشعوب الأخرى فشار كوه فى السعادة والنعيم، ولم يكن للمسلمين الآن حظ منها إلا التمتع بحسن ترتيلها فى بعض المواسم والمآتم ولم يخطر لهم ببال أن يتدبروا معانيها وأن يهتدوا بهديها- وهم لو فعلوا ذلك لعلموا أن كل ما يشكو منه الناس من العداوات

[سورة يونس (10) : الآيات 25 إلى 27]

القومية والحروب الدولية والرذائل النفسية. والشقاء الذي عمت جرثومته البشر، إنما سببه التنافس فى متاع هذه الحياة، ولو التزموا القصد والاعتدال فى مطالبهم منها وصرفوا همهم فى قوة الدولة وإعلاء كلمة الله والاستعداد للآخرة لسعدوا فى الدارين ونالوا رضاء الله فى الحالتين. [سورة يونس (10) : الآيات 25 الى 27] وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) تفسير المفردات دار السلام: هى الجنة، والسلام: السلامة من جميع الشوائب والنقائص والأكدار، ورهقه: غشيه وغلب عليه حتى غطّاه وحجبه، وقوله: «ولا ترهقنى من أمرى عسرا» أي لا تكلفنى ما يشق علىّ ويعسر، والقتر: الدخان الساطع من الشّواء والحطب، وكذا كل غبرة فيها سواد، والعاصم: المانع. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه غرور المشركين الجاهلين بمتاع الدنيا وضرب لهم الأمثال على ذلك- قفى على هذا بالترغيب فى الآخرة ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها فقال:

الإيضاح

الإيضاح (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) أي ذلك الإيثار لمتاع الدنيا والغرور بها هو ما يدعو إليه الشيطان، فيوقع متّبعيه فى جهنم دار النكال والوبال والله يدعو عباده إلى دار السلام، إذ يأمرهم بما يوصّل إليها. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ويهدى من يشاء إلى الطريق الموصّل إليها بلا تعويق، لأنه طريق مستقيم لا عوج فيه وهو الإسلام: عقائده وفضائله وأحكامه. وأصل الهداية الدلالة بلطف، وهى إما بالتشريع ببيانه وتفصيله للناس عامة، وإما بالتوفيق للسير على سنن الدين والاستقامة عليه، وهى خاصة بالمستعدين للعمل به، ومن ثم قيدها بالمشيئة. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) أي للذين أحسنوا أعمالهم فى الدنيا المثوبة الحسنى أي التي تزيد فى الحسن على إحسانهم وهى مضاعفتها بعشرة أمثالها أو أكثر، وجاء هذا المعنى فى قوله: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» أي ولهم زيادة على هذه الحسنى فوق ما يستحقون على أعمالهم بعد مضاعفتها. وقد ورد من طرق عدة أن هذه الزيادة هى النظر إلى وجه الله الكريم وذلك هو أعلى مراتب الكمال الروحي الذي لا يصل إليه إلا المحسنون العارفون فى الآخرة. (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) أي ولا يغشى وجوههم شىء مما يغشى الكفرة من الغبرة التي فيها سواد، ولا أثر هوان ولا كسوف بال. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الذين هذه صفتهم هم أصحاب الجنة وسكانها وهم ساكنون فيها أبدا، فهى لا تبيد فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمحرجين منها، فتنغّص عليهم لذاتهم. (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) أي والذين عملوا السيئات فى الدنيا

[سورة يونس (10) : الآيات 28 إلى 30]

فعصوا الله فيها وكفروا به وبرسوله صلى الله عليه وسلم، جزاء سيئة من عملهم السيء الذي عملوه فى الدنيا بمثلها من عقاب الله فى الآخرة جزاء وفاقا، ولا يزادون على ما يستحقونه من العذاب شيئا. (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي وتغشاهم ذلة الفضيحة وكسوف الخزي بما يظهره حسابهم من شرك وظلم وزور وفجور. (ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ما لهم من الله من مانع يمنعه إذا هو عاقبهم أو يحول بينه وبينهم، كالذين اتخذوهم فى الدنيا شركاء وزعموهم شفعاء، فذلك هو اليوم الذي تتقطع فيه الأسباب التي كانت تفيد فى الدنيا «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» . (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) أي كأنما ألبست وجوههم قطعا من أديم الليل حال كونه حالكا مظلما لابصيص فيه من نور القمر الطالع ولا النجم الثاقب، فتشقها قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك الذين لهم تلك الصفات هم أصحاب النار هم فيها خالدون لا يبرحونها لأنه ليس لهم مأوى سواها. وقد جاء فى معنى هذه الآيات فى وصف الفريقين قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» وقوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» . [سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 30] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الحشر: الجمع من كل جانب إلى موقف واحد، ومكانكم: كلمة يراد بها التهديد والوعيد، أي الزموا مكانكم، وزيلنا: فرقنا وميزنا، وتبلو: تختبر، وأسلفت: قدّمت وضل: ضاع وذهب. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه وتعالى جزاء الذين كسبوا السيئات وما يكون لهم من الذلة والهوان- قفّى على ذلك بذكر اليوم الذي يحصل فيه هذا الجزاء. الإيضاح (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي واذكر أيها الرسول الكريم لكلام الفريقين الذين أحسنوا الحسنى، والذين كسبوا السيئات- يوم نحشرهم جميعا بلا تخلف أحد فى موقف الحساب. (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي ثم نقول لمن أشرك منهم بعد طول مكث لا يكلّمون بشىء- الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم لا تبرحوه حتى تنظروا ما يفعل بكم ويفصل بينكم فيما كان من سبب عبادتكم إياهم والحجة التي يدلى بها كل فريق منكم. وفى هذا وعيد شديد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد، وتقريع بكون هذا معظم سيئاتهم. (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ففرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله سبحانه وتعالى

وميزّنا بعضهم من بعض، كما يميز بين الخصوم عند الحساب ويراد بهذا التفريق تقطيع ما كان بينهم فى الدنيا من صلات وروابط وبيان خيبة ما كان للمشركين فى الشركاء من آمال. (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) أي وقال شركاؤهم: ما كنتم تخصوننا بالعبادة، وإنما كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم التي كانت تقوّيكم، وتتخذون تماثيلنا هياكل لمنافعكم وأغراضكم، والمعبود الحق هو الذي يعبد، لأنه صاحب السلطان الأعلى على الخلق وبيده النفع والضر. (فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي فكفى الله شهيدا وحكما بيننا وبينكم، فهو العليم بحالنا وحالكم. (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) أي إننا كنا فى غفلة عن عبادتكم لا ننظر إليها ولا تفكّر فيها. (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي فى موقف الحساب تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة، ومؤمنة وجاحدة، ما قدمت فى حياتها الدنيا من عمل، وما كان لكسبها فى صفاتها من أثر، خير أو شر، بما ترى من الجزاء عليه، فهو ثمرة طبيعية له، لا شأن فيه لولىّ ولا شفيع، ولا معبود ولا شريك. (وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) أي وأرجعوا إلى الله الذي هو مولاهم الحق، دون ما اتخذوا من دونه بالباطل من الأولياء والشفعاء، والأنداد والشركاء. وقد جاء هذا المعنى فى آيات كثيرة كقوله: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ» وقوله: «إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» وقوله: «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» . (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وضاع عنهم ما كانوا يفترون عليه من الشفعاء والأولياء، فلم يجدوا أحدا ينصرهم ولا ينقذهم من هول ذلك الموقف كما قال: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» وقد تكرر هذا المعنى فى آيات

[سورة يونس (10) : الآيات 31 إلى 33]

كثيرة، منها ما جاء مجملا، ومنها ما جاء مفصلا، فمنها ما يسأل الله فيه العابدين، ومنها ما يسأل فيه المعبودين، ومنها ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين. [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) المعنى الجملي بعد أن بين جنايات المشركين على أنفسهم، وبين فساد معتقداتهم وما سيلقونه من الجزاء على ما فعلوا- قفى على ذلك بإقامة الحجج على المشركين فى إثبات التوحيد والبعث، ثم أردفه بإثبات النبوة والرسالة والقرآن: الإيضاح (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المعاندين من أهل مكة: من يرزقكم من السماء بما ينزله عليكم من الأمطار، ومن الأرض بما ينبته من شتى النباتات من نجم وشجر تأكلون منه وتأكل أنعامكم؟ (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أي وقل لهم من يملك ما تتمتعون به من حاستى السمع والبصر؟ وأنتم بدونهما لا تدرون شيئا من أمور العالم، وتكون الأنعام والهوامّ بل الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها. وخص هاتين الحاستين بالذكر لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية وكمال الحياة الإنسانية، إذ بهما تحصيل العلوم الأولية

وخلاصة ذلك- من خلق هذه الحواس ووهبها للناس وحفظها مما يعتريها من الآفات؟ ولا شك أن الجواب عن ذلك السؤال لا حاجة فيه إلى الفكر، فإن هم تأملوا فى ذلك ازدادوا علما وإعجابا بإنعام الله بهما، وإيمانا بأنه لا يقدر غيره على إيجادهما. (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي ومن ذا الذي بيده أمر الموت والحياة فيخرج الحي من الميت والميت من الحي فيما تعرفون من المخلوقات وما لا تعرفون، فالله هو الذي يخرج النبات من الأرض الميتة بعد إحيائه إياها بماء المطر النازل عليها من السماء كما قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» . وعلامة الحياة فى النبات النموّ، وفى الحيوان النمو والإحساس والحركة بالإرادة، ولم يكونوا يصفون أصول الإحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه، ومن ثم مثلوا إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة والطائر من البيضة وعكسهما، وهو تفسير صحيح عند علماء اللغة، غير صحيح عند علماء المواليد الثلاثة، وبه تحصل الدلالة على قدرة الله وحكمته وتدبيره ورحمته لدى المخاطبين. وإذا كان أرباب الفنون أثبتوا أن فى أصول النبات كالبذور والنوى والبيض والمنىّ حياة، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء فى الأرض كلها خرجت من مادة ميتة، فقد قالوا إن الأرض كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس ثم صارت ماء، ثم نبتت اليابسة فى الماء ثم تكوّن من الماء النبات والحيوان فى أطوار شتى وقالوا، أيضا إن الغذاء من الطعام الميت الذي يحرق بالنار ويتولد منه الدم، ومن هذا الدم يكون البيض والمنى المشتملان على مادة الحياة، وقالوا أيضا: إن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن، وتتجدد فيه مواد جديدة تحل محل ما خرج منها وفنى. والخلاصة- إن علماء المواليد قالوا: الحىّ لا يخرج إلا من حى، ولكن الحياة الأولى هى من خلق الله الحي بذاته المحيي لغيره.

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي ومن يلى تدبير أمر الخليقة جميعا بما أودعه فى كل منها من السنن وقدّره من النظام. (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) أي فسيجيبون عن هذه الأسئلة الخمسة بلا تلعثم ولا تلكّؤ بأن فاعل هذا كله هو الله رب العالم كله ومليكه- إذ لا جواب غيره وهم لا يجحدون ذلك ولا ينكرونه. (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي فقل لهم أيها الرسول الكريم: أفلا تتقون سخطه وعقابه لكم بشرككم وعبادتكم لغيره ممن لا يملك لكم ضرا ولا نفعا. (فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) أي فذلكم المتصف بكل تلك الصفات السالفة هو الله المربى لكم بنعمه والمدبر لأموركم، وهو الحق الثابت بذاته الحي المحيي لغيره المستحق للعبادة دون سواه. (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي فماذا بعد الرب الحق الثابتة ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل، فالذى يفعل تلك الأمور هو الرب الحق، وعبادته وحده هى الهدى، وما سواها من عبادة الشركاء والوسطاء ضلال، وكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) أي فكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال؟ مع علمكم بما كان به الله هو الرب الحق، فما بالكم تقرّون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية فتتخذون مع الله آلهة أخرى. (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي مثل ذلك الذي حقّت به كلمة ربك من وحدة الربوبية والألوهية، وكون الحق ليس بعده لمن تنكّب عنه إلا الضلال- حقت كلمة ربك: أي وعيده على الذين خرجوا من حظيرة الحق، وهو توحيد الألوهية والربوبية وهداية الدين الحق.

[سورة يونس (10) : الآيات 34 إلى 36]

(أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي هى أنهم لا يؤمنون بما يدعوهم إليه رسلنا من التوحيد والهدى مهما تكن الآية بيّنة، والحجة ظاهرة قوية. وليس المراد أنه يمنعهم من الإيمان بالقهر، بل هم يمتنعون منه باختيارهم لفقدهم نور البصيرة واستقلال العقل فلا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل، والهدى والضلال لرسوخهم فى الكفر، واطمئنانهم به بالتقليد كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» . [سورة يونس (10) : الآيات 34 الى 36] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) المعنى الجملي هذا ضرب آخر من الحجة أقامه سبحانه دليلا على توحيده وبطلان الإشراك به جاء بطريق السؤال للتوبيخ وإلزام الخصم، فإن الكلام إذا كان ظاهرا جليا، ثم ذكر على سبيل الاستفهام وفوّض الجواب إلى المسئول، يكون أوقع فى النفس وأبلغ فى الدلالة على الغرض.

الإيضاح

الإيضاح (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي قل لهم أيها الرسول: هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله أو من دون الله من الأصنام أو الأرواح الحالّة فيها كما تزعمون، أو الكواكب السيارة أو غيرها من الأحياء كالملائكة والجن، من له هذا التصرف فى الكون ببدء الخلق فى طور ثم إعادته فى طور آخر؟. ولما كانوا لا يجيبون عن هذا السؤال كما أجابوا عن الأسئلة الأولى لإنكارهم للبعث والمعاد، لقّن الله رسوله الجواب فقال: (قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إذ القادر على بدء الخلق يكون قادرا على إعادته بالأولى، وهم ينكرون إعادة الأحياء الحيوانية دون الأحياء النباتية، إذ هم يشاهدون بدء خلق النبات فى الأرض حين ما يصيبها ماء المطر فى فصل الشتاء وموته بجفافها فى فصل الصيف والخريف، ثم إعادته بمثل ما بدأه مرة بعد أخرى، ويقرون بأن الله هو الذي يفعل البدء والإعادة، لأنهم يشاهدون كلا منهما وهم لا يسلمون إلا بما يرون بأعينهم أو يلمسونه بأيديهم. وقد أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى جهلهم وينبههم للتفكير فى أمرهم فقال: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تصرفون من الحق الذي لا محيد عنه، وهو التوحيد إلى الضلال البيّن، وهو الإشراك وعبادة الأصنام، وذلك من دواعى الفطرة وخاصة العقل حين تفكيره فى المصير. ثم جاء باحتجاج آخر على ما ذكره إلزاما لهم عقب الإلزام الأول، فسألهم عن شأن من شئون الربوبية المقتضى لاستحقاق الألوهية وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية فقال: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) أي قل لهم أيها الرسول: هل من

أولئك الشركاء من يهدى إلى الحق بوجه من وجوه الهداية التي بها تتم حكمة الخلق. كما يدل على ذلك قوله (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) . والهداية أنواع- هداية الغريزة والفطرة التي أودعها الله فى الإنسان والحيوان، وهداية الحواس من سمع وبصر ونحو ذلك، وهداية التفكير والاستدلال بوساطة هذه الوسائل، وهداية الدين، وهو للنوع البشرى فى جملته بمثابة العقل للأفراد، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبله ومنع الصوارف عنه. ولما كانوا لا يستطيعون أن يدّعوا أن أحد من أولئك الشركاء يهدى إلى الحق لا من ناحية الخلق ولا من ناحية التشريع، لقن الله رسوله الجواب فقال: (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) أي قل هو الله سبحانه الذي يهدى إلى الحق دون غيره بما نصب من الأدلة والحجج، وأرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، وهدى إلى النظر والتدبّر، وأعطى من الحواس. (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) قرأ يعقوب وحفص يهدى بكسر الهاء، وتشديد الدال وأصله يهتدى، أي أفمن يهدى إلى الحق وهو الله أحق أن يتّبع فيما يشرّعه، أم من لا يهدى غيره ولا يهتدى بنفسه إلا أن يهديه غيره وهو الله تعالى، إذ لا هادى غيره. ويدخل فيمن نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء- المسيح عيسى بن مريم وعزير والملائكة. وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى فى سورة الأنبياء «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» . (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي أىّ شىء أصابكم وماذا حلّ بكم حتى اتخذتم هؤلاء شركاء وجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا هادى لكم سواه، كيف تحكمون بجواز عبادتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه. وفى هذا تعجيب من حالهم وسوء صنيعهم وقبيح فعلهم.

وبعد أن أقام الحجج على توحيد الربوبية والألوهية، بيّن حال المشركين الاعتقادية فقال: (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي إن أكثرهم لا يتبعون فى شركهم وعبادتهم لغير الله، ولا فى إنكارهم للبعث وتكذيبهم للرسول عليه الصلاة والسلام إلا ضربا من ضروب الظن قد يكون ضعيفا كأن يقيسوا غائبا على شاهد، ومجهولا على معروف ويقلدون الآباء اعتقادا منهم أنهم لا يكونون على باطل فى اعتقادهم، ولا ضلال فى أعمالهم وقليل منهم كان يعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق والهدى وأن أصنامهم وسائر معبوداتهم لا تضرّ ولا تنفع، ولكنهم يجحدون بآيات الله، ويكذبون رسوله صلى الله عليه وسلم عنادا واستكبارا وخوفا على زعامتهم أن تضيع سدى فيصبحون تابعين بعد أن كانوا متبوعين. ثم بين حكم الله فى الظن فقال: (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) الحق هو الثابت الذي لا ريب فى ثبوته وتحققه أي إن الشك لا يقوم مقام اليقين في شىء ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين. وخلاصة ذلك- إن الظن لا يجعل صاحبه غنيّا بعلم اليقين فيما يطلب فيه ذلك كالعقائد الدينية، وبهذا تعلم أن إيمان المقلد غير صحيح. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي إن الله عليم بما كانوا يعملون بمقتضى اعتقاداتهم الظنية والقطعية، فهو يحاسبهم ويجازيهم على كل عمل منها، كتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم مع قيام الأدلة القطعية على صدقه، واتباعهم للظن كالتقليد باتباع الآباء والأجداد. وفى الآية إيماء إلى أن أصول الإيمان تبنى على اليقين دون الظن، فالعلم المفيد للحق ما كان قطعيا من كتاب أو سنة، وهو الدين الذي لا يجوز للمسلمين التفرق والاختلاف فيه، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به فى الاعتقاد وهو متروك

[سورة يونس (10) : الآيات 37 إلى 39]

للاجتهاد فى الأعمال، اجتهاد الأفراد فى الأعمال الشخصية، واجتهاد أولى الأمر فى القضاء مع سلوك طريق الشورى حتى يتحقق العدل والمساواة فى المصالح العامة. [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 39] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) المعنى الجملي بعد أن ذكر عزّ اسمه الأدلة على أن القرآن من عنده، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عاجز كغيره عن الإتيان بمثله، ثم أتى بالحجج على بطلان شركهم واتباع أكثرهم لأدنى الظن وأضعفه فى عقائدهم- عاد إلى الكلام فى تفنيد رأيهم فى الطعن على القرآن بمقتضى هذا الظن الضعيف لدى الأكثرين منهم، والجحود والعناد من الأقلين كالزعماء والمستكبرين. الإيضاح (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي لا يصح ولا يعقل أن يفتريه أحد على الله من دونه وينسبه إليه، إذ لا يقدر على ذلك غيره عز وجل، فإن ما فيه من علوم عالية، وحكم سامية، وتشريع عادل، وآداب اجتماعية، وأنباء بالغيوب الماضية والمستقبلة ليس فى طوق البشر ولا هو داخل تحت قدرته وفى حيّز مكنته، ولئن سلم أن بشرا فى مكنته ذلك فلن يكون إلا أرقى الحكماء والأنبياء والملائكة، ومثل هذا لن يفترى على الله شيئا.

ولقد ثبت أن أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبو جهل قال: إن محمدا لم يكذب على بشر قط، أفيكذب على الله؟. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولكن كان تصديق الذي تقدمه من الوحى لرسل الله تعالى بالإجمال كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم بدعوته إلى أصول الدين الحق من الإيمان بالله واليوم الآخر وصالح الأعمال بعد أن نسى بعض هذا بقية أتباعهم وضلّوا عن بعض، ولم يكن محمد النبي الأمى يعلم شيئا من ذلك لولا الوحى عن ربه. (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي وتفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع والأحكام والعبر والمواعظ وشئون الاجتماع. (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ينبغى لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه، لأنه الحق والهدى. (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي من وحيه لا افتراء من عند غيره ولا اختلافا كما قال: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» . وبعد أن أبان أنه أجلّ وأعظم من أن يفترى لعجز الخلق عن الإتيان بمثله. انتقل إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين الذين قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افتراه وفنّد مزاعمهم وتعجّب من حالهم وشنيع مقالهم وتحداهم أن يأتوا بمثله فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ما كان ينبغى أن تقولوا إن محمد صلى الله عليه وسلم افتراه من عند نفسه واختلقه، إذ لو كان الأمر كما تقولون وأنه اختلقه وافتراه، فأتوا بسورة مثله فى نظمه وأسلوبه وعلمه مفتراة فى موضوعها، لا تلتزمون أن تكون حقا فى أخبارها، فإن لسانه لسانكم، وكلامه كلامكم، وأنتم أشد مرانا وتمرسا للنثر والنظم منه، واطلبوا من يعينكم على ذلك من دون الله، ولن تستطيعوا أن تفعلوا شيئا، فإن جميع الخلق عاجزون عن

هذا «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» إن كنتم صادقين فى زعمكم أنه مفترى. وإذ قد عجزتم عن ذلك مع شدة تمرّسكم، ولم يوجد فى كلام أولئك الذين نصبت لهم المنابر فى سوق عكاظ، وبهم دارت رحى النظم والنثر، وتقضّت أعمارهم فى الإنشاء والإنشاد مثله- فهو ليس من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القوى والقدر. ومن البين أنه ما كان لعاقل مثله- صلى الله عليه وسلم أن يتحداهم هذا التحدي لو لم يكن موقنا أن الإنس والجن لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن فى جملته ولا بسورة مثله، إذ لو كان هو الذي أنشأه وألّفه لمصلحة الناس برأيه لكان عقله وذكاؤه يمنعانه من الجزم بعجز عقلاء الخلق من العوالم الظاهرة والباطنة عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به. إذ العاقل الفطن يعلم أن ما يمكنه من الأمر قد يمكن غيره، بل ربما وجد من هو أقدر منه عليه. والخلاصة- إن محمد صلى الله عليه وسلم كان على يقين بأنه من عند ربه، وأنه صلى الله عليه وسلم كغيره لا يقدر على الإتيان بمثله. ثم انتقل من إظهار بطلان ما قالوه فى القرآن بتحدّيه لهم- إلى إظهار بطلانه ببيان أن كلامهم ناشىء من عدم علمهم بحقيقة أمره واختبار حاله فقال: (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي بل هم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما احتوى عليه من الأدلة والبراهين الدالة على أنه كما وصف آنفا، ومن قبل أن يعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بمثله. (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي ولم يأتهم إلى الآن ما يئول إليه ويكون مصداقا له بالفعل ويقع ما أخبر به من الأمور المستقبلة.

[سورة يونس (10) : الآيات 40 إلى 41]

وخلاصة ذلك- أنهم على إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى والإخبار بالغيب- قد أسرعوا فى تكذيبه قبل أن يتدبروا أمره أو ينتظروا وقوع ما أخبر به- وفى تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع حصوله- شناعة وقصر نظر لا تخفى على عاقل، وفيه دليل على أنهم مقلدون. (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي مثل هذا التكذيب بلا تدبر ولا تأمل كذب الذين من قبلهم من مشركى الأمم رسلهم بما لم يحيطوا بعلمه قبل أن يأتيهم تأويله من عذاب الله الذي أوعدهم به. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر أيها الرسول الكريم كيف كان عاقبة الظالمين لأنفسهم بتكذيب رسلهم، لتعلم مصير من ظلموا أنفسهم من بعدهم، وهذه العاقبة هى التي بينها الله فى قوله: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» . وقد أنذر الله قوم محمد صلى الله عليه وسلم بمثل ما نزل بالأمم قبلهم فى الدنيا بهذه الآية وغيرها من هذه السورة، كما أنذرهم عذاب الآخرة وكذبه المعاندون المقلدون فى كل ذلك ظنا منهم أنه لا يقع. [سورة يونس (10) : الآيات 40 الى 41] وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فى الآية السالفة أنهم كذبوا بالقرآن قبل أن يأتيهم تأويله وقبل أن يحيطوا بعلمه- قفّى على ذلك بذكر حالهم بعد أن يأتيهم التأويل المتوقع، وبيّن أنهم حينئذ يكونون فريقين: فريق يؤمن به، وفريق يستمر على كفره وعناده.

الإيضاح

الإيضاح (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي ومن هؤلاء المكذبين من يؤمن به حين إتيان تأويله وظهور حقيقته بعد أن سعوا فى معارضته ورازوا قواهم فيها فتضاءلت دونها. (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) أي ومنهم من يصرّ على الكفر ويستمر عليه. (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي وربك أعلم بمن يفسدون فى الأرض بالشرك والظلم والبغي، لفقدهم الاستعداد للإيمان، وهؤلاء سيعذبهم فى الدنيا ويخزيهم وينصركم عليهم، ويجزيهم فى الآخرة لفسادهم وسوء معتقداتهم. (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي وإن أصروا على تكذيبك فقل لى عملى، وهو البلاغ المبين والإنذار والتبشير، وما أنا بمسيطر ولا جبّار، ولكم عملكم وهو الظلم والفساد الذي تجزون به يوم الحساب كما قال تعالى: «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» . (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، وهذا كقوله: «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» [سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 44] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) المعنى الجملي بعد أن أنبأ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن من قومه من لا يؤمن به لا حالا ولا استقبالا، بل يصرّون على التكذيب بعد ما جاءتهم البينات، وكان ذلك من

الإيضاح

شأنه صلى الله عليه وسلم أن يثير عجبه ويجعله يطيل الحزن والأسف إن لم يؤمنوا بهذا الحديث- ذكر سبب هذا، وهو أنهم قوم طبع الله على قلوبهم وفقدوا الاستعداد للإيمان، فلا وسيلة له صلى الله عليه وسلم فى إصلاح حالهم، ولا قدرة له على هدايتهم. الإيضاح (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي ومن المكذبين ناس يصيخون بأسماعهم إذا قرأت القرآن أو بينت ما فيه من أصول الشرائع والأحكام، ولكنهم لا يسمعون إذ يستمعون، فهم لا يتدبرون القول ولا يتفقهون ما يراد منه، بل جلّ همهم أن يتسمعوا غرابة نظمه وجرس صوته بترتيله، كمن يستمع إلى الطائر يغرّد على غصن الشجرة ليتلذذ بصوته لا ليفهم ما يغرد به، وقد وصف الله حالهم فى آي أخرى فقال: «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» وقال: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» . والآن نرى من المسلمين من يستمع إلى قراءة القرآن من قارئ حسن الصوت للتلذذ بترتيله وتوقيع صوته لا لينتفع بعظاته وعبره، ولا ليفهم عقائده وأحكامه. (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي إن السماع النافع للمستمع هو الذي يعقل به ما يسمعه ويفقهه ويعمل به، ومن فقد هذا كان كالأصم الذي لا يسمع، وإنك أيها الرسول الكريم لم تؤت القدر على إسماع الصم الذين فقدوا حاسة السمع حقيقة فكذلك لا تستطيع أن تسمع إسماعا نافعا من فى حكمهم وهم الذين لا يعقلون ما يسمعون ولا يفقهون معناه فيهتدوا به وينتفعوا بعظاته. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي ومنهم من يتجه نظره إليك حين تقرأ القرآن

[سورة يونس (10) : آية 45]

ولكنه لا يبصر ما آتاك الله من نور الإيمان والخلق العظيم وأمارات الهدى والتزام الصدق. (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي إنك أيها الرسول الكريم كما لا تقدر على هداية العمى بدلائل البصر الحسية، لا تقدر على هدايتهم بالدلائل العقلية، ولو كانوا فاقدين لنعمة البصيرة التي تدركها. وخلاصة ما تقدم- إن هداية الدين كهداية الحس لا تكون إلا للمستعدّ بهداية العقل، وإن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحة القصد، وهؤلاء قد انصرفت نفوسهم عن استعمال عقولهم استعمالا نافعا فى الدلائل البصرية والسمعية لإدراك أىّ مطلب من المطالب الشريفة التي وراء شهواتهم وتقاليدهم. (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) يراد بالظلم هنا المعنى الذي تدل عليه اللغة وهو نقص ما تقتضى الخلقة الكاملة وجوده كما فى قوله: «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» أي إنه لم يكن من سنن الله تعالى فى خلقة أن ينقصهم شيئا من الأسباب التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم من إدراكات وإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة التي توصلهم إلى سعادتهم فى الدنيا والآخرة. (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي إنهم يظلمون أنفسهم وحدها دون غيرها، لأن عقاب ظلمهم واقع عليها، فهم يجنون عليها بكفرهم بما أنعم الله عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله من اتباع الحق فى الاعتقاد والهدى فى الأعمال، وذلك هو الصراط المستقيم الموصل لسعادة الدارين. [سورة يونس (10) : آية 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما وصف الله هؤلاء المشركين بترك التدبر والإصغاء وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن قبل أن يأتيهم تأويله- قفّى على ذلك بالوعيد بما سيكون لهم من الجزاء على هذا يوم القيامة. الإيضاح (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) الساعة يضرب بها المثل فى القلة: أي وأنذرهم أيها الرسول يوم يجمعهم الله بالبعث بعد الموت ويسوقهم إلى مواقف الحساب والجزاء، وكأنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا مدة قليلة ثم تقضّت. وخلاصة ذلك- إن هذه الدنيا التي غرّتهم بمتاعها الحقير الزائل قصيرة الأمد ستزول بموتهم، وسيقدّرون يوم القيامة قصرها بساعة من النهار لا تسع لأكثر من التعارف. والآية بمعنى قوله: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ، لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» . وقوله: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ، كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» . وقوله: «قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ، قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» . (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي إن هؤلاء آثروا الحياة القصيرة المنغّصة بالأكدار السريعة الزوال على الحياة الأبدية بما فيها من النعيم المقيم، فلم يستعدوا لها ويعملوا الأعمال الصالحة التي تزكى نفوسهم وتهذب أرواحهم، فخسروا السعادة فيها وما كانوا مهتدين فيما اختاروه لأنفسهم من إيثار الخسيس الزائل على النفيس الخالد.

[سورة يونس (10) : الآيات 46 إلى 56]

[سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 56] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه وتعالى فى الآية السالفة أن هؤلاء المشركين الذين كذبوا بلقاء الله تعالى قد خسروا وما كانوا مهتدين، وهذا يتضمن تهديدا ووعيدا بالعذاب الذي سيلقونه فى الدنيا والآخرة- قفّى على ذلك ببيان أن بعض هذا العذاب ستراه

الإيضاح

أيها الرسول الكريم وتقرّ عينك برؤيته، وبعض آخر سيكون لهم يوم الجزاء، وهو عليم بما فعلوه فيجازيهم به قدر ما يستحقون. الإيضاح (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي وإن أريناك بعض ما نعدهم من العقاب فى الدنيا، فذاك الذي يستحقونه وهم له أهل، وقد أراه ما نزل بهم من القحط والمجاعة بدعائه صلى الله عليه وسلم عليهم، ونصره عليهم نصرا مؤزّرا فى أول معركة هاجمه بها رؤساؤهم وصناديدهم وهى غزوة بدر فقتلّهم وشرّدهم شر تقتيل وتشريد، وكذلك فعل بهم صلى الله عليه وسلم فى غيرها من الغزوات حتى فتح عاصمتهم أمّ القرى ودخل الناس فى الدين أفواجا. (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي أو نتوفينك هم قبل أن نريك ذلك فيهم فمصيرهم بكل حال إلينا، وآنئذ سيلقون من الجزاء ما يعلمون به صدق وعيدنا. (ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) فيجزيهم به على علم وشهادة حق. وقد جاء بمعنى الآية قوله: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» وقوله. «وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» . (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) أي إنه تعالى رحمة بعباده وإزالة للحجة جعل لكل أمة من الأمم الخالية رسولا بعثه فيها وقت الحاجة إليه، ليبين لهم ما يجب عليهم من الإيمان به وباليوم الآخر وما ينجيهم من العقاب فى ذلك اليوم وهو العمل الصالح الذي يكون سببا فى سعادتهم فى الدارين. وفى الآية دليل على أن الله تعالى قد أرسل إلى كل جماعة من الأمم السالفة رسولا وما أهمل أمة قط، ويدل على ذلك قوله: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» وقوله: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وقوله: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .

(فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي فإذا جاء رسولهم وبلّغهم ما يجب عليهم معرفته من أمور دينه، لم يبق لهم حينئذ عذر فى مخالفته، فهنالك فى يوم الحساب يقضى الله تعالى بينهم بالعدل ولا يظلمون فى قضائه شيئا مما سيحل بهم من عذاب لا يكون ظلما لهم، لأنه من قبل أنفسهم وهم الذين دنسوها بسيء الأعمال فاستحقوا على ذلك شديد العقاب. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه من المؤمنين مكذبين له فيما أخبرهم به من نزول العذاب بالأعداء والنصرة للأولياء: متى يقع هذا الوعد الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين فى قولكم: إن الله تعالى سينتقم لكم منا وينصركم علينا: أي فى نحو ما جاء فى قوله: «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» وقوله: «قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» . وقد لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب عن هذا السؤال بقوله: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي قل أيها الرسول لمن يستعجل الوعيد ويقول لك متى هذا الوعد. إنى بشر رسول لا أملك لنفسى فضلا عن غيرى شيئا من التصرف فى الضر فأدفعه عنها، ولا شيئا من النفع فأجلبه لها من غير طريق الأسباب التي يقدر عليها غيرى، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين ولا بذل النصر والمعونة للمؤمنين، لكن ما شاء الله تعالى من ذلك يكون متى شاء ولا شأن لى فيه، لأنه خاص بمقام الربوبية دون الرسالة التي من وظيفتها التبليغ لا التكوين. وقد جاء فى معنى الآية قوله: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .

(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي لكل أمة من الأمم الذين أصرّوا على تكذيب رسولهم أجل لعذابهم يحلّ بهم عند حلوله لا يتعداهم إلى أمة أخرى، إذا جاء ذلك الأجل فلا يملك رسولهم من دون الله تعالى أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة عن الزمان المقدر له وإن قلّت. قال فى فتح البيان: وفى هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجّيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه وتعالى وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه وتعالى فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم فكيف يطلب من نبىّ من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ويترك الطلب من رب الأرباب القادر على كل شىء الخالق الرازق المعطى المانع. وحسبك ما فى الآية من موعظة، فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأنه يقول لعباده «لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً» فكيف يملكه لغيره، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته؟. فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجل، كيف لا يتّعظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا يتنبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ومدلول «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وأعجب من هذا إطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق، المحيي المميت، الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين لهم إليه وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على

الضر والنفع وينادونهم تارة على الاستقلال وتارة مع ذى الجلال (وكفاك من شر سماعه) والله ناصر دينه ومطهّر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر. وقد توسل الشيطان أخزاه الله تعالى بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه ويثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» إنّا لله وإنّا إليه راجعون اه. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) أي قل لهم أيها الرسول: أخبرونى عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه إن أتاكم عذا به الذي تستعجلون به فى وقت مبيتكم بالليل أو وقت اشتغالكم بلهوكم ولعبكم أو بأمور معاشكم بالنهار. (ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي أىّ نوع من العذاب يستعجل منه المجرمون الكذابون؟ أعذاب الدنيا أم عذاب يوم القيامة؟ وأيا ما استعجلوا فهو حماقة وجهالة. (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) أي أيستعجل مجرموكم بالعذاب الذين هم أحق بالخوف منه بدل الإيمان الذي يدفعه عنهم ثم إذا وقع بالفعل آمنتم به حين لا ينفع الإيمان، إذ هو قد صار ضروريا بالمشاهدة والعيان، لا تصديقا للرسول عليه السلام. (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي وقيل لكم على سبيل التوبيخ آلآن آمنتم به اضطرارا، وقد كنتم به تستعجلون تكذيبا به واستكبارا. (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالرسالة والوعد والوعيد تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا بحيث لا فناء له ولا زوال. ثم بين أن هذا العذاب جزاء ما صنعوا فى الدنيا فقال: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟) أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون باختياركم من الكفر والظلم والفساد فى الأرض والعزم على الثبات عليه وعدم التحول عنه، وليس فى هذا الجزاء شىء من الظلم، لأنه أثر لازم لما عملوا فلم يعودوا أهلا للكرامة وجوار المولى فى جنة الخلد.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟) أي ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به فى الدنيا والآخرة أحق إنه سيقع جزاء على ما كنا نكسبه من المعاصي فى الدنيا، أم هو إرهاب وتخويف فحسب؟. (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إي بكسر الهمزة وسكون الياء كلمة يجاب بها عن كلام سبق بمعنى نعم، وأعجزه الأمر: فاته، أي نعم أقسم لكم بربي إنه لحق واقع ماله من دافع، وما أنتم بواجدى من يوقع العذاب بكم عاجزا عن إدراككم وإيقاعه بكم. وخلاصة ذلك- إنه حين ينزل بكم عذابه لستم بفائتيه سبحانه بهرب أو امتناع بل أنتم فى قبضته وسلطانه، إذا أراد فعل ذلك بكم فاتقوه فى أنفسكم أن يحل بكم غضبه. روى أحمد والشيخان عن أنس قال: «بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه فى المسجد ثم عقله ثم قال: أيكم محمد؟ قلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال: أبن عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أجبتك، فقال إنى أسألك فمشدّد عليك فى المسألة فلا تجد علىّ فى نفسك، قال سل ما بدا لك، فقال أسألك بربك ورب من قبلك: آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تصلى الصلوات الخمس فى اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللهم نعم قال أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال: اللهم نعم، قال آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومى، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بنى سعد بن بكر» . وفى رواية أحمد أنه قال أيضا: «آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدونها معه؟ قال: اللهم نعم، وأنه كان أشعر داغديرتين وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة» . وذكر أنه خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال:

بئست اللات والعزّى، قالوا مه (أي كفّ عن هذا!) يا ضمام، اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله ما يضرّان ولا ينفعان، إن الله قد بعث إليكم رسولا وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وأنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فو الله ما أمسى فى ذلك اليوم فى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. ثم ذكر ما فى هذا اليوم من الأهوال فقال: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أي ولو أن لكل نفس كفرت بالله- جميع ما فى الأرض من أنواع الملك وصنوف النعم وأمكنها أن تجعله فداء لها من ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه- لافتدت به ولم تدّخر منه شيئا. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) إسرار الشيء: إخفاؤه وكتمانه، وإسرار الحديث: خفض الصوت به، والندم والندامة: ما يجده الإنسان فى نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل يظهر له ضرره، وقد يجهر به بالكلام كما قال تعالى: «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ» أو يخفيه ويكتمه حين لا يجد فائدة من إعلانه أو اتقاء للشّماتة أو الإهانة. أي وأسر أولئك الذين ظلموا غمّهم وأسفهم على ما فعلوا من الظلم حين معاينة العذاب بأبصارهم إذ برزت لهم نار جهنم وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها، فما مثلهم إلا مثل من يقدّم للصلب يثقله ما نزله به من الخطب الجلل، ويغلب عليه الحزن الفادح فيخرسه، ولا يستطيع أن ينطق ببنت شفة ويبقى جامدا مبهوتا لا حراك به. ثم بين أنه لا ظلم اليوم فقال: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وقضى الله بينهم وبين خصومهم بالحق والعدل، وخصومهم هم الرسل والمؤمنون بهم، وكذلك من أضلّوهم وظلموهم من المرءوسين والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر ويصدّونهم عن الإيمان. وجاء فى معنى هذه الآية قوله فى سورة سبأ «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وقوله:

َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» وقوله: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» . ثم أتبع ما تقدم بالدليل على قدرته على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده، وكون الظالمين لا يعجزونه ولا يستطيعون منه مهربا فقال: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى مالك السموات والأرض وكل من فيهما من العقلاء وغيرهم، فليس للكافرين به شىء يملكونه فيفتدون به أنفسهم من ذلك العذاب، بل الأشياء كلها لله الذي إليه عقابهم جزاء ما كسبت أيديهم. والخلاصة- فليتذكر من نسى، وليتنبّه من غفل، وليعلم من جهل، أن لله وحده جميع ما فى العوالم العلوية والعوالم الأرضية يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يملك أحد من دونه شيئا من التصرف والفداء، فى يوم البعث والجزاء. ثم أكد ما سلف بقوله: (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن كل ما وعد به على ألسنة رسله حق لا ريب فيه، لأنه وعد المالك القادر على كل شىء ولا يعجزه شىء، ولكن أكثر الكفار منكرى البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة لغفلتهم عنها وقصور أنظارهم عن الوصول إلى ما يكون فيها. ثم أقام الدليل على قدرته على ذلك فقال: (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي إنه تعالى هو المحيي المميت، لا يتعذر عليه فعل ما أراد من الإحياء والإماتة، ثم إليه ترجعون حين يحييكم بعد موتكم ويحشركم إليه للحساب والجزاء بأعمالكم.

[سورة يونس (10) : الآيات 57 إلى 58]

[سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) تفسير المفردات العظة: الوصية بالحق والخير، واجتناب الباطل والشر، بأساليب الترغيب والترهيب التي يرقّ لها القلب، فتبعث على الفعل أو الترك، والشفاء: الدواء، والهدى بيان الحق المنقذ من الضلال، ويكون فى الاعتقاد بالحجة والبرهان، وفى العمل ببيان المصالح والحكم، والرحمة: الإحسان، وفضل الله: هو توفيقهم لتزكية أنفسهم بالموعظة والهدى، ورحمته: هى الثمرة التي نتجت من ذلك، وبها فضلوا جميع الناس. المعنى الجملي بعد أن ذكر الأدلة على أسس الدين الثلاثة وهى الوحدانية والرسالة والبعث- قفى على ذلك بذكر التشريع العملي وهو القرآن الكريم، وقد أجمل مقاصد هذا التشريع فى أمور أربعة: الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي قل لهم أيها الرسول: قد جاءكم كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من المواعظ الحسنة التي تصلح أخلاقكم وأعمالكم، والشفاء للأمراض الباطنية والهداية الواضحة للصراط المستقيم الذي يوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، والرحمة الخاصة للمؤمنين من رب العالمين. والخلاصة- إن الآية الكريمة أجملت إصلاح القرآن الكريم لأنفس البشر فى أربعة أمور: (1) الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب بذكر ما يرقّ له القلب فيبعثه على الفعل أو الترك.

وقد جاء فى معنى الآية قوله: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ» وقوله: «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» . (2) الشفاء لما فى القلوب من أدواء الشرك والنفاق وسائر الأمراض التي يشعر من أحبّها بضيق الصدر كالشك فى الإيمان والبغي والعدوان وحب الظلم وبغض الحق والخير. (3) الهدى إلى طريق الحق واليقين والبعد من الضلال فى الاعتقاد والعمل. (4) الرحمة للمؤمنين وهى ما تثمر لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم، ومن آثارها بذل المعروف وإغاثة الملهوف وكف الظلم ومنع التعدي والبغي. وإجمال ذلك- إن موعظة القرآن وشفاءه لما فى الصدور من أمراض الكفر والنفاق وجميع الرذائل وهداه إلى الحق والفضائل موجّهات إلى أمة الدعوة وهم جميع الناس، والمؤمنون قد اختصّوا بما تثمره هذه الصفات الثلاث من الرحمة لأنهم هم الذين ينتفعون بها. ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المؤمنين بأنه يحق لهم أن يفرحوا بفضل الله عليهم بنعمة الإيمان وبالرحمة الخاصة بهم الجامعة لكل ما ذكر قبلها من مقاصد الشريعة فقال: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أي قل لهم ليفرحوا بفضل الله وبرحمته أي إن كان شىء فى الدنيا يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته. روى ابن مردويه وأبو الشيخ عن أنس مرفوعا «فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله» . وعن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد «فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن» . (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي إن الفرح بهما أفضل وأنفع مما يجمعونه من الذهب والفضة والأنعام والحرث والخيل المسومة وسائر خيرات الدنيا، لأنه هو سبب السعادة فى الدارين. وتلك سبب السعادة فى الدنيا الزائلة فحسب. فقد نال المسلمون فى العصور

[سورة يونس (10) : الآيات 59 إلى 60]

الأولى بسببه الملك الواسع والمال الكثير مع الصلاح والإصلاح مما لم يتسنّ لغيرهم من قبل ولا من بعد. وبعد أن جعلوا ديدنهم جمع المال ومتاع الدنيا ووجهوا همتهم إليه وتركوا هداية القرآن فى إنفاقه والشكر عليه ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أيدى أعدائهم. [سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) المعنى الجملي بعد أن أقام سبحانه وتعالى الأدلة العقلية على إثبات الوحى والرسالة- قفى على ذلك بذكر فعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون فى وجوده وهو يثبت صحة وجودهما. ذاك أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حق الله تعالى وحده وأن الأصل فى الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الإباحة، فتحريم بعض الأشياء وتحليل بعض إما بأمره تعالى بوساطة رسله وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال، وإما بالافتراء على الله وهو الذي يلزمكم بإنكار الأول، إذ لا واسطة بينهما. الإيضاح (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا) أي قل لهؤلاء المشركين: أخبرونى أيها الجاحدون للوحى والرسالة- أهذا الذي أفاضه الله عليكم من فضله وإحسانه من رزق تعيشون به من نبات وحيوان، فجعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الأنعام فقال «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ

وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا» إلخ وقوله فى سورة المائدة: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» . (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) أي قل لهم إن حق التحريم والتحليل لا يكون إلا لله، فهل الله هو الذي أذن لكم بذلك بوحي من عنده؟ أم أنتم على الله تفترون بزعمكم أنه حرم ما حرمتم وحلّل ما حلّلتم. والخلاصة- إنه لا مندوحة لكم من الاعتراف بأحد الأمرين، إما دعوى الإذن من الله لكم بالتحريم والتحليل، وذلك اعتراف بالوحى، وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال، وإما الافتراء على الله وهو الذي يلزمكم إذا أنكرتم الأول. وبعد أن سجل سبحانه وتعالى عليهم جريمة افتراء الكذب على الله، قفى عليه بالوعيد مع الإيماء إلى ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة فقال: (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أىّ شىء ظنهم فى ذلك اليوم الذي تجزى فيه كل نفس ما عملت؟ أيظنون أنهم يتركون بلا عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله وتعمده فيما هو خاص بربوبيته ونزاع له فيها وشرك به كما قال: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» وقال: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» . (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي إن الله ذو فضل على الناس فى كل ما خلقه لهم من الرزق، وكل ما شرع لهم من الدين، ومن ذلك أن جعل الأصل فيما أنزله إليهم من الرزق الإباحة، وأن جعل حق التحريم والتحليل له وحده كيلا يتحكم فيهم أمثالهم من عباده كمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وهو سبحانه لم يحرم عليهم إلا ما كان ضارّا بهم، وحصر محرمات الطعام فى أمور معينة.

[سورة يونس (10) : آية 61]

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ذلك الفضل كما يجب كما قال تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» ومن ثم تراهم يحرّمون ما لم يحرمه الله ويكفرون نعمه فيغالون فى الزهد وترك الزينة والطيبات من الرزق، أو يسرقون فى الأكل والشرب والزينة ابتغاء الشهرة والتكبر على الناس، مع أن الإسلام يأمر بالاعتدال كما قال تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» . أخرج أحمد عن أبى الأحوص عن أبيه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رثّ الهيئة فقال: هل لك مال؟. قلت: نعم، قال: من أىّ المال؟ قلت: من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم. فقال: إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته» . وأخرج البخاري والطبراني عن زهير بن أبى علقمة مرفوعا «إذا آتاك الله مالا فلير عليك، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس» . [سورة يونس (10) : آية 61] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) تفسير المفردات الشأن: الأمر العظيم، وجمعه شئون، تقول العرب: ما شأن فلان، أي ما حاله، وأفاض فى الشيء أو من المكان: اندفع فيه بقوة أو بكثرة، وعزب الرجل بإبله يعزب أي بعد وغاب فى طلب الكلأ، والذرة: النملة الصغيرة، وبها يضرب المثل فى الصغر

المعنى الجملي

والخفة، وتطلق على الدقيقة من الغبار الذي يرى فى ضوء الشمس الداخل من الكوى إلى البيوت، والكتاب: هو اللوح المحفوظ. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فى سابق الآيات أن فضله على عباده كثير، وأن الواجب عليهم أن يشكروه بدوام طاعته وترك معصيته، وأن القليل منهم هم الشاكرون- قفى على ذلك بتذكيرهم بإحاطة علمه بشئونهم وأعمالهم ما دق منها وما عظم فى جميع ملكوت السموات والأرض حتى يحاسبوا أنفسهم على تقصيرهم فى ذكره وشكره وعبادته. الإيضاح (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي وما تكون أيها الرسول الكريم فى أمر من أمورك الهامة، خاصة كانت أو عامة مما تعالج بها شئون الأمة بدعوتها إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، إنذارا لها وتبشيرا وتعليما وعملا. (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أي وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن أنزل عليك تعبدا به أو تبليغا له. وفى التعبير بالشأن وهو الأمر ذو البال دلالة على أن جميع أموره صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة حتى ما كان منها من مجرى العادات، لأنه صلى الله عليه وسلم كان فيها قدوة صالحة. وبعد أن خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم- انتقل إلى خطاب الأمة كلها فى شئونها وأعمالها فقال: (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي ولا تعملون

أىّ عمل، خيرا كان أو شرا، شكرا كان أو كفرا، وإن كان كمثقال الذرة، إلا كنا رقباء عليكم إذ تخوضون فيه، فنحفظه عليكم ونجازيكم به. (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي وما يبعد عن علمه ولا يخفى عليه أقل شىء يبلغ وزنه ثقل ذرة فى الوجود السفلى والعلوي. وفى التعبير بالإفاضة دليل على أن ما يفيض الإنسان مهتمّا به مندفعا فيه- جدير بألا يغفل عن مراقبة ربه فيه واطلاعه عليه، وكذلك فى التعبير بيعزب الدالّ على الخفاء والبعد دليل على أن ما شأنه أن يغيب ويبعد عنا من أعمالنا لا يغيب عن علمه تعالى، وقدم ذكر الأرض لأن الكلام مع أهلها. ثم أكد سبحانه ما سبق وبيّن إحاطة علمه بكل شىء فقال: (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي ولا شىء أصغر من الذرة مما لا تبصرونه من دقائق الكون وخفاياه، ولا أكبر من ذلك وإن عظم مقداره كعرشه تعالى، إلا وهو معلوم له ومحصى عنده فى كتاب عظيم الشأن وهو الكتاب الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها إكمالا للنظام وبيانا لضبط جميع الأعمال. وفى معنى الآية قوله: «فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ» . وفى ذلك إشارة إلى أن فى الوجود أشياء لا تدركها الأبصار. وقد أثبت العلم الحديث بوساطة الآلات التي تكبّر الأشياء أضعافا مضاعفة (المكروسكوبات) أن هناك أشياء لا يمكن رؤيتها إلا إذا كبرت عن حقيقتها آلاف المرات كالجراثيم (المكروبات) ولم تكن تخطر على البال فى عصر التنزيل، وقد ظهرت للناس الآن فهى من روائع الإعجاز العظيمة الدالة على أنه من كلام العليم الخبير.

[سورة يونس (10) : الآيات 62 إلى 64]

[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) تفسير المفردات الأولياء: جمع ولىّ من الولي: وهو القرب يقال تباعد بعد ولى: أي بعد قرب، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، والبشرى: هى الخبر السارّ الذي تنبسط به بشرة الوجه فتتهلل وتبرق أساريره. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه لعباده سعة علمه، ومراقبته لعباده، وإحصاء أعمالهم وجزاءهم عليها، وذكّرهم بما يجب عليهم من شكره على تفضله عليهم- ذكر هنا حال الشاكرين المتقين الذين لهم حسن الجزاء يوم القيامة. الإيضاح (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن أولياء الله الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده والتوكل عليه ولا يتخذون له أندادا يحبونهم كحبه، ولا يتخذون من دونه وليا ولا شفيعا يقربهم إليه زلفى- لا خوف عليهم- فى الآخرة مما يخاف منه الكفار والفساق والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الآخرة كما قال تعالى «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» ولا هم يحزنون من لحوق مكروه أو ذهاب محبوب، ولا يعتريهم ذلك فيها، لأن مقصدهم نيل رضوان الله المستتبع للكرامة والزلفى، ولا ريب فى حصول ذلك ولا خوف من فواته بموجب الوعد الإلهى.

وكذلك فى الدنيا لا يخافون مما يخاف منه غيرهم من الكفار وضعفاء الإيمان وعبيد الدنيا من مكروه يتوقع كما قال تعالى: «فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) التقوى- هى اتقاء كل ما لا يرضى الله من ترك واجب وفعل محرم، واتقاء مخالفة سنن الله تعالى فى خلقه من أسباب الصحة والقوة والنصر والعزة وسيادة الأمة، أي أولياء الله الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح بالله وملائكته وكتبه، وملكة التقوي له عز وجل وما تقتضيه من عمل. َهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي لهم البشرى فى الحياة الدنيا بالنصر وحسن العاقبة فى كل أمر- وباستخلافهم فى الأرض ما أقاموا شرع الله وسننه ونصروا دينه وأعلوا كلمته، وبإلهام الحق والخير كما ورد من حديث ابن مسعود مرفوعا عند الترمذي والنسائي «إن للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله تعالى، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان» وفى الآخرة بما أشارت إليه الآية الكريمة: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» . تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ) أي لا تغيير ولا خلف فى مواعيده تعالى، ومن جملتها بشارة المؤمنين المتقين بجنات النعيم والخير العميم. لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الذي ذكر من البشرى بسعادة الدارين هو الفوز الذي ليس بعده فوز، لأنه ثمرة الإيمان الحق والتقوى فى حقوق الله وحقوق الخلق.

[سورة يونس (10) : الآيات 65 إلى 67]

[سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 67] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) تفسير المفردات العزة: الغلبة والقوة، والخرص: الحزر والتقدير للشىء الذي لا يجرى على قياس من وزن أو كيل أو زرع كحرص الثمر على الشجر والحب فى الزرع، ويستعمل بمعنى الكذب أيضا لأنه يغلب فيه الحزر والتخمين، والمبصر: ذو الإبصار، تقول العرب: أظلم الليل وأبصر النهار وأضاء. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم صفة أوليائه وما بشرهم به ووعدهم فى الدنيا والآخرة، وفى هذا إيماء إلى الوعد بنصره ونصر من آمن به من أوليائه وأنصار دينه على ضعفهم وفقرهم، وكان أعداؤهم يغترون بقوتهم فى مكة بكثرتهم، وكانوا لغرورهم بها يكذبون بوعد الله، وكان ذلك مما يحزنه كما قال: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» . قفّى على ذلك بتسليته له صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من أذى أعدائه، وتبشيره بالنصر والعزة والوعيد لأعدائه.

الإيضاح

الإيضاح (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي لا تحزن لقولهم ولا تبال بما يتفوّهون به فى شأنك مما لا خير فيه. (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي لأن الغلبة والقهر لله تعالى لا يملك أحد من دونه شيئا منها، فهو يهبها لمن يشاء ويحرمها من يشاء وليست للكثرة دائما كما يدعون «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» وقد وعد الله بها رسله والذين آمنوا بهم واتبعوهم من أوليائه كما قال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقال: «وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ» . (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هو السميع لما يقولون من تكذيب بالحق وادعاء للشرك فيكافئهم على ذلك، وهو العليم بما يفعلون من إيذاء وكيد، فهو مذلّهم ومحبط أعمالهم. ثم أقام الدليل على كون العزة لله جميعا وكون الجزاء بيده فقال: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي ألا إن لله كل من فى السموات والأرض عبيدا مملوكين له، لا مالك لشىء من ذلك سواه، فكيف يكون إلها معبودا ما يعبده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام، والعبادة للمالك دون المملوك، وللرب دون المربوب. ثم بين أنه لا شريك له أبدا. (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ) أي إن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى بدعائهم فى الشدائد واستغاثتهم فى النوازل والتقرب إليهم بالقرابين والنذور- لا يتبعون شركاء له فى الحقيقة يدبرون أمور العباد ويكشفون الضر عنهم، إذ لا شريك له. ثم أكد ما سلف وزاده بيانا فقال: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما يتبعون فى الحقيقة فيما يقولون

إلا الظن فى دعواهم أنهم أولياء لله وشفعاء عنده، فهم يقيسونه على ملوكهم الظالمين المتكبرين الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا بوسائل حجّابه ووزرائه ووسائطه. ثم زاد ذلك توكيدا بقوله: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي وما هم فى اتباع هذا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا إلا متخرصون قائلون بغير علم بما يقولون. والخلاصة- إنهم إنما اتبعوا ظنونهم الفاسدة وأوهامهم الباطلة، فقاسوا الرب فى تدبير أمور عباده على الملوك، وجهلوا أن أفعاله تعالى إنما تجرى بمقتضى مشيئته الأزلية وفق علمه الذاتي وحكمته البالغة العادلة، وأن جميع أوليائه وأنبيائه وملائكته عبيد مملوكون له: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» أي إن أقرب أولئك الذين يدعونهم ويتوسلون إليه بهم كالمسيح والملائكة ومن دونهم- يتوسلون إليه راجين خائفين لا كأعوان الملوك الذين لا ينتظم أمر ملكهم بدونهم. ثم أقام البرهان على مضمون ما قبله من نفى الشركاء له فى الخلق والتقدير، والشفعاء عنده حين التصرف والتدبير فقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي هو الذي جعل لكم الوقت قسمين بمقتضى علمه ومشيئته بدون مساعد ولا شفيع، فجعل الليل مظلما لأجل أن تسكنوا فيه بعد طول التعب والنصب والحركة للمعاش، وجعل النهار مضيئا ذا إبصار لتنتشروا فى الأرض وتقوموا بجيمع أعمال العمران والكسب والشكر للرب. وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» . (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن فى اختلاف الليل والنهار وحال أهلهما فيهما لدلائل وآيات على أن المعبود بحق هو الذي خلق الليل والنهار وخالف بينهما-

[سورة يونس (10) : الآيات 68 إلى 70]

لقوم يسمعون ما يتلى عليهم من التذكير بحكمته تعالى ووجه النعمة فى ذلك، سماع تدبر وعظة لما يسمع. وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . [سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) تفسير المفردات الولد: يستعمل مفردا وجمعا، وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما، وسبحان كلمة تنزيه وتقديس، وتستعمل للتعجب، والسلطان: الحجة والبرهان. المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه وتعالى أن من المشركين من اتخذوا الأوثان والأصنام شفعاء عنده- قفى على ذلك بذكر ضرب آخر من أباطيلهم، وهو زعمهم أنه تعالى جدّه اتخذ ولدا، وتلك مقالة اشترك فيها المشركون واليهود والنصارى على السواء.

الإيضاح

الإيضاح (قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) أي وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله. (سُبْحانَهُ) أي تنزه ربنا عما لا يليق بربوبيته وألوهيته، ويمكن أن يكون المعنى- عجيب أن تصدر منهم تلك الكلمة الحمقاء. ثم أكد هذا التنزيه بقوله: (هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن الله غنى عن خلقه جميعا، فإن كل ما فى الوجود من العالم العلوي والسفلى ملك له ولا حاجة له إلى شىء منه وجميعه فى حاجة إليه، ولا يجانسه شىء منه، فالإنسان يحتاج إلى الولد إما للنصرة والمعونة وإما للاعتزاز به لدى الأهل والعشيرة، وإما لأنه زينة يلهو به فى صغره ويفخر به فى كبره، وإما للحاجة إليه فى قضاء مصالحه أو لانتظار رفده وبره حين عجزه أو فقره، وإما لبقاء ذكره بعد موته، والله غنىّ عن كل ذلك، ولا حاجة له إلى شىء من هذه المنافع فهو مستغن أزلا وأبدا. (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ليس عندكم من الدلائل والبراهين ما يؤيد صحة هذا القول الذي تقولونه بلا علم ولا وحي إلهى. ثم أكد ما سلف بقوله: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وتنسبون إليه تعالى ما لا يجوز إضافته إليه، ولا سيما بعد مجىء ما ينقضه من الأدلة العقلية والوحى الإلهى. وفى الآية إيماء إلى أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد الدينية لا بد فيها من دليل قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغ. (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي قل لهم إن الذين يفترون على الله الكذب بنسبة الشركاء إليه، أو باتخاذه ولدا لنفسه أو بدعوى أن

[سورة يونس (10) : الآيات 71 إلى 73]

الأولياء يطلعون على أسرار خلقه ويتصرفون فى ملكه، لا يفوزون بالتمتع بالنعيم بشفاعة الولد أو الشركاء الذين اتخذوهم له تعالى، ولا ينجون من عذاب الآخرة. (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي هؤلاء لهم متاع فى الدنيا حقير يتلهّون به فى حياة قصيرة هى الحياة الدنيا، إذ مهما يبلغ هذا المتاع من العظمة ككثرة مال أو عظم جاه فهو قليل بالنسبة إلى ما عند الله فى الآخرة للصادقين المتقين- ثم يرجعون إلى ربهم بالبعث بعد الموت وما فيه من أهوال الحشر والحساب، فيذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بآياته وبالافتراء عليه وتكذيب رسله بعد أن قامت عليهم الحجة. وفى الآية إيماء إلى أن ما يظن أنه فلاح بالحصول على منافع الدنيا المادية والمعنوية فهو لا يعتد به بالنسبة إلى ما عند الله من حظ عظيم، ونعيم مقيم. [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) تفسير المفردات النبأ: الخبر له خطر وشأن، والمقام: الإقامة والمكث، والإجماع العزيمة على الأمر عزما لا تردد فيه كما قال شاعرهم:

المعنى الجملي

أجمعوا أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء والغمة: الستر واللبس، يقال إنه لفى غمة من أمره: إذا لم يهتد له، وقضاء الأمر: أداؤه وتنفيذه، قال تعالى «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» . والإنظار: التأخير والإمهال، خلائف، أي يخلفون الذين هلكوا بالغرق، المنذرون: المخوّفون بالله وعذابه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه عناد المشركين لرسوله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له بعد أن قامت البراهين على صدقه- قفى على ذلك بذكر أقوام الرسل قبله تسلية له صلى الله عليه وسلم وبيانا بأن قومه لم يكونوا بدعا فى عنادهم وتكذيبهم له بل سبقهم فى مثل فعلهم كثير من سالفى الأمم وكانت العاقبة فوز الرسل عليهم، وأتم الله لهم النصر، فلعل أولئك القوم يتدبرون حالهم فينزجروا بما فيه مزدجر لهم ويعترفوا بصدقه صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به قبل أن تفوت الفرصة السانحة فيندمون، ولات ساعة مندم. الإيضاح (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ) أي واقرأ أيها الرسول على المشركين من أهل مكة وغيرهم فيما أوعدتهم به من عقاب الله لهم على مقتضى سننه فى المكذبين لرسله من قبلك- خبر نوح حين قال لقومه يا قوم إن كان قد شق عليكم قيامى فيكم بالدعوة إلى عبادة ربكم وتذكيرى إياكم بآياته الدالة على وحدانيته ووجوب عبادته- فإننى وقد وكلت أمرى إلى الله الذي أرسلنى واعتمدت عليه وحده بعد أن أديت رسالته بقدر طاقتى. (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) أي فأعدّوا أمركم واعزموا على ما تقدمون عليه فى أمرى مع شركائكم الذين تعبدونهم من دون الله كما أدعو ربى وأتوكل عليه.

(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي ثم لا يكن أمركم الذي تعتزمونه خفيّا عليكم فيه حيرة ولبس، بل كونوا على بصيرة كيلا تتحولوا عنه. (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) أي ثم أدوا إلىّ ذلك الأمر بعد إجماعه واعتزامه، وبعد استبانته التي لا غمة فيها ولا التباس بأن تنفذوه بالفعل بعد استيفاء مقدماته كلها، ولا تمهلونى بتأخير هذا القضاء. والخلاصة- إن نوحا طلب إلى قومه على كثرتهم وقوتهم أن يفعلوا ما استطاعوا من الإيقاع به، مطالبة المدلّ ببأسه وقوته، المعتصم بإيمانه بوعد ربه وتوكله عليه، فأمرهم بإجماع أمرهم بصادق العزيمة وقوة الإرادة، وأن يضموا إلى هذه القوة النفسية قوة الإيمان بشركائهم وآلهتهم، وألا يكون فى أمرهم الذي أجمعوا عليه شىء من الغمة والخفاء الذي قد يوجب الوهن والتردد فى التنفيذ. (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي فإن أعرضتم عن تذكيرى بعد دعائى إياكم وتبليغ رسالة ربى إليكم فلن يضرنى، فإنى لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرا ولا جزاءا، وما جزاء عملى وثوابى إلا على ربى الذي أرسلني إليكم، فهو يوفينى إياه، آمنتم أو توليتم، وأمرت أن أكون من المنقادين بالفعل لما أدعوكم إليه. (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي فأصروا على تكذيبه بعد أن أقام عليهم الحجة بقوله وعمله على حقيقة دعوته، فنجيناه هو ومن آمن معه فى السفينة التي كان يصنعها بأمرنا. (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي وجعلنا الذين نجينا مع نوح فى السفينة خلائف فى الأرض من قومه الذين كذبوه بعد أن أنذرناهم فأغرقناهم وحقت عليهم كلمة ربك. فانظر أيها الرسول بعين بصيرتك وعقلك كيف كانت عاقبة الذين أنذرهم رسولهم

[سورة يونس (10) : آية 74]

وقوع عذاب الله بهم وأصروا على تكذيبه، وهكذا تكون عاقبة من يصرّون على تكذيبك من قومك، وعاقبة المؤمنين المتقين لك. [سورة يونس (10) : آية 74] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) تفسير المفردات الطبع على القلوب: هو عدم قبولها شيئا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها، والمعتدى: المتجاوز حدود الحق والعدل اتباعا لهوى النفس وشهواتها. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه قصص نوح مع قومه وبيّن عاقبة أمرهم حين كذبوه ونصر الله له عليهم، بيّن هنا عبرة أخرى من عبر مكذبى الرسل وسنة من سننه فيهم، عسى أن يعتبر بها أهل مكة فيعلموا أن لله سننا لا تبديل فيها ولا تحويل فيتقوا مثل تلك العاقبة التي حلّت بمن قبلهم من المكذبين من قوم نوح وغيرهم، واتقاؤه فى مكنتهم وهو بأيديهم يمكنهم أن يجتنبوه ويبتعدوا عن أسبابه كالكفر والاعتداء والظلم ونحوها. الإيضاح (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي ثم بعثنا من بعد نوح رسلا مثله إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه فى تكذيب رسلهم فقد أرسل هود إلى عاد، وصالح إلى ثمود، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام الذين كانوا فى زمانه إلا شعيبا فإنه أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى جيرانهم أصحاب المؤتفكة فقد كانوا متحدين معهم لغة ووطنا، فجاء كل رسول منهم قومه بالحجج الدالة على صدقه فى رسالته بحسب ما يتسنى لهم فهمه من الأدلة العقلية والحسية.

[سورة يونس (10) : الآيات 75 إلى 78]

(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي فما استقام لقوم من أولئك الأقوام أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل ممن كان مثله فى سبب كفره وهو استكبار الرؤساء وتقليد الدهماء. (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي مثل هذا الطبع وعلى ذلك النهج نطبع على قلوب المعتدين أمثالهم فى كل قوم كقومك إذ كانوا مثلهم فى اللجاج والعتوّ والاستكبار فى الأرض «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» . [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 78] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) تفسير المفردات الملأ: أشراف القوم الذين يجتمعون على رأى، ولفته عن كذا: صرفه. المعنى الجملي أفردت قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه وفصلت تفصيلا وافيا لما لها من شديد الخطر وعظيم الأثر، إذ فيها من العبرة أن قوة الحق تثلّ العروش وتهدّ أركان الباطل وإن علا أصحابه، فقد كان الفلج والظفر لموسى على ذلك الطاغية الذي قال أنا ربكم الأعلى، وانتهى أمره بالغرق وصار مثلا للآخرين.

الإيضاح

الإيضاح (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل صلوات الله عليهم موسى وهارون إلى فرعون مصر وأشراف قومه وخصهم بالذكر لأن قومهم القبط كانوا تبعا لهم يكفرون بكفرهم ويؤمنون بإيمانهم إن آمنوا ويرجعون إليهم فى إقامة المصالح والمهمات، مؤيدين له بآياتنا التسع المبينة فى سورة الأعراف، فأعرضوا عن الإيمان كبرا وعلوا مع علمهم بأن ما جاءا به هو الحق لما كانوا عليه من العلم بصناعة السحر ولكنهم كانوا راسخين فى الإجرام والظلم والفساد فى الأرض كما قال تعالى «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» . (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءهم موسى بالحجج والبينات الدالة على الربوبية والألوهية قالوا من فرط عتوّهم وعنادهم: إن هذا لسحر واضح لمن رآه وعاينه. (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي قال لهم موسى على وجه الإنكار والتوبيخ: أتقولون للحق الواضح الظاهر وهو أبعد الأشياء عن السحر الذي هو باطل حين جاءكم دون أن تتروّوا وتتدبروا فيه: إنه سحر وما ترونه بأعينكم من آيات الله وترجف له قلوبكم من عظمته لا يمكن أن يكون سحرا من جنس ما تعرفونه وتصنعونه بأيديكم، وقد مضت سنة الله بأن السحرة لا يفوزون فى الأمور الهامة كالدعوة لدين، والتأسيس لملك، وذلك ما تتهموننى به على ضعفى وقوتكم، فإن السحر شعوذة لا تلبث أن تفتضح وتزول. وبعد أن أفحمهم بحجته ولم يجدوا ردّا مقنعا اضطروا إلى التشبث بذيل التقليد للآباء والأجداد، وتلك حجة العاجز المضعوف فى رأيه، ذى الخطل فى تصرفه، فلم يكن منهم إلا تلك المقالة.

[سورة يونس (10) : الآيات 79 إلى 82]

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي قالوا له منكرين: ما جئتنا إلا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من ديننا، لنتبع دينك وتكون لك ولأخيك كبرياء الرياسة الدينية وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية التابعة لها فى أرض مصر كلها، وما نحن بمتّبعين لكما اتباع إيمان وإذعان فيما يخرجنا من دين آبائنا الذي تدين به عامتنا، وتتمتع بكبريائه خاصتنا، وهم الملك وأشراف قومه. والخلاصة- إنه لا غرض لك من تلك الدعوة إلا هذا وإن لم تعترف به وقد وجهوا الخطاب أوّلا لموسى لأنه هو الداعي لهم، وأشركوا معه أخاه فى فائدة الدعوى والغرض منها وهى الكبرياء فى الأرض لأنهما سيشتركان فيها. [سورة يونس (10) : الآيات 79 الى 82] وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) المعنى الجملي كانت الآيات الماضية فى ذكر الحوار بين موسى وفرعون- وهنا ذكر ما فعل فرعون فى مقاومة دعوة موسى لصدّ الناس عن اتباعه باعتبار أنه ساحر، فأحضر السحرة ليقاوموا عمله، ويتغلبوا عليه فيبطلوا حجته.

الإيضاح

الإيضاح (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي قال لملئه بعد أن يئس من إلزامه بالقول: اعملوا على دفع حجته بالفعل، فأتونى بكل ساحر عليم بفنون السحر، حاذق ماهر فيها. (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي فأتوا بهم فلما جاءوا قال لهم موسى هذه المقالة بعد أن خيّروه بين أن يلقى ما عنده أوّلا أو يلقوا ما عندهم كما جاء ذلك فى سورتى الأعراف وطه- ليظهر الحق ويبطل الباطل. (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي فلما ألقوا حبالهم وعصيّهم السحرية قال لهم موسى غير مكترث بهم ولا بما صنعوا: إن هذا الذي فعلتم وألقيتموه أمام النظّارة هو السحر، لا ما جئت به من الآيات البينات من عند الله وقد سماه فرعون وملؤه سحرا. (إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) أي إن الله سيظهر بطلانه بما يظهره على يدىّ من المعجزة حتى يظهر للناس أنه صناعة لا آية خارقة للعادة، وحجة واضحة على بطلان حجتى. ثم علل ما قال ببيان سنن الله فى تنازع الحق والباطل والصلاح والفساد فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي إن الله لا يجعل عمل المفسدين صالحا للبقاء، فيقوّيه بالتأييد الإلهى ويديمه، بل يزيله ويمحقه، ويثبت الحق الذي فيه صلاح الخلق وينصره على ما يعارضه ما يعارضه من الباطل بكلماته التكوينية، وهى مقتضى إرادته التشريعية التي يوحيها إلى رسله، ومن ثم سينصر موسى على فرعون وينقذ قومه من عبوديته. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي ولو كره كل من اتصف بالإجرام كفرعون وملئه. [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 87] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الذرية فى اللغة: صغار الأولاد، وتستعمل فى الصغار والكبار عرفا، والفتون: الابتلاء والاختبار الشديد للحمل على الفعل أو الترك، والمراد هنا الاضطهاد والتعذيب، والعلو: القهر والاستبداد، ومسلمين: أي مذعنين مستسلمين، وتبوأ الدار: اتخذها مباءة ومسكنا يبوء ويرجع إليها كلما فارقها لحاجة، والقبلة: ما يقابل الإنسان ويكون تلقاء وجهه، ومنه قبلة الصلاة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما فعله فرعون لمقاومة دعوة سيدنا موسى- قفى على ذلك بذكر ما كان من بنى إسرائيل مع موسى توطئة لإخراجهم من أرض مصر. الإيضاح (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي إن إصرار فرعون وقومه على الكفر بموسى بعد خيبة السحرة وظهور حقّه على باطلهم ثم عزمه على قتله، كما جاء فى قوله: «وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ» .

كل هذا أوقع الرعب والخوف فى قلوب بنى إسرائيل قوم موسى فما آمن له إلا ذرية من قومه، وهم الأحداث والشبان وكانوا خائفين من فرعون وأشراف قومهم الجبناء المرائين الذين هم عرفاؤهم عند فرعون فيما يطلب منهم- أن يضطهدوهم ويعذبوهم ليرتدّوا عن دينهم. (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي وإن فرعون لشديد العتوّ قوى القهر فى أرض مصر فهو جدير بأن يخاف منه كما حكى الله عنه بقوله: «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ» كما أنه من المسرفين المتجاوزين الحد فى الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء وغمص الحق واحتقار الخلق، ومن ثم ادعى الربوبية واسترقّ أسباط الأنبياء. (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي وقال موسى لمن آمن من قومه وقد رأى خوفهم من الفتنة والاضطهاد: إن كنتم آمنتم بالله حق الإيمان فعليه توكلوا، وبوعده فثقوا إن كنتم مستسلمين مذعنين، إذ لا يكون الإيمان يقينا إلا إذا صدّقه العمل وهو الإسلام، وليس فى الآية دلالة على إيمان جميع قومه، إذ الإيمان بالله غير الإيمان لموسى المتضمن معنى الإسلام والاتباع الذي أشير إليه بقوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» فهم قد طلبوا منه بعد ما نجاهم من الغرق أن يجعل لهم آلهة من الأصنام ثم اتخذوا العجل المصنوع وعبدوه. (فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فقالوا على الفور ممتثلين أمره حين علموا أن إنجاز الوعد موقوف على ذلك: على الله توكلنا، ودعوا بأن يحفظهم ربهم من فتنة القوم الظالمين. ذاك أن التوكل على الله وهو أعظم علامات الإيمان لا يكمل إلا بالصبر على الشدائد، والدعاء لا يستجاب إلا إذا كان مقرونا باتخاذ الأسباب بأن تعمل ما تسطيع عمله، وتطلب إلى الله أن يسخّر لك ما لا تستطيع.

وخلاصة ما قالوا- ربنا لا تسلّطهم علينا فيفتنونا، ولا تفتنا بهم فنتولى عن اتباع نبينا أو نضعف فيه فرارا من شدة ظلمهم لنا، ولا تفتنهم بنا فيزدادوا كفرا وعنادا وظلما بظهورهم علينا ويظنوا أنهم على الحق ونحن على الباطل. وقد دلت التجارب على أن سوء حال المؤمنين من ضعف أو فقر تجعلهم موضعا لافتتان الكفار بهم، باعتقاد أنهم خير منهم كما جاء فى قوله: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ» ؟. (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي وبحنا برحمتك فخلّصنا من أيدى القوم الكافرين قوم فرعون، لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم فى المهن الحقيرة، ومثل هذا قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم والدين آمنوا معه: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) أي وقلنا لهما: اتخذا لقومكما بيوتا فى مصر تكون مساكن وملاجىء تعتصمون بها. (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي واجعلوا بيوتكم متقابلة فى وجهة واحدة. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيها متجهين إلى جهة واحدة، لأن الاتحاد فى الاتجاه يساعد على اتحاد القلوب. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بحفظ الله إياهم من فتنة فرعون وملئه الظالمين لهم وتنجيتهم من ظلمهم. وإنما خص موسى بالتبشير لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة، وأشرك معه هرون فى أمر قومهما بالتبوؤ لأنه مما يتولاه الرؤساء بتشاور بينهم، فهو تدبير عملى يقوم به هو ووزيره المساعد على تنفيذه.

[سورة يونس (10) : الآيات 88 إلى 89]

[سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 89] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) تفسير المفردات الزينة: الحلل والحلىّ والأثاث والرياش والماعون، والأموال: ما وراء ذلك من الذهب والفضة والأنعام والزروع ونحو ذلك، والطّمس: الإزالة، يقال طمس الأثر وطمسته الريح: إذا زال، والشد على القلب: الطبع عليه وقسوته حتى لا ينشرح للإيمان. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه جبروت فرعون وملئه وخوف بنى إسرائيل من بطشهم وأنهم امتنعوا لأجل ذلك عن الإيمان، إلا قليلا من شبانهم استجابوا لدعوة موسى بعد حثّ لهم وتحريض على الإيمان وطلب موسى من بنى إسرائيل أن يتخذوا بيوتا لهم بمصر يقيمون فيها مراسم دينهم، ثم بشّرهم بالفوز والغلبة والنصر- قفّى على ذلك بدعوة موسى على فرعون وقومه مع ذكر السبب الذي دعاه إلى ذلك، وهو الجحود والعناد لدعوته، لما أوتوه من بسطة النعمة التي أبطرتهم، فتركوا الدين وراءهم ظهريا. الإيضاح (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وقال موسى بعد أن أعدّ قومه بنى إسرائيل للخروج من مصر على قدر ما يستطيع من الإعداد الديني والدنيوي، وغرس فى قلوبهم الإيمان وحب العزة والكرامة ونحو

ذلك، وتوجه إلى الله أن يتم أمره: ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وكبراءه زينة من حلىّ وحلل وآنية وماعون وأثاث ورياش وأموالا كثيرة من صامت وناطق أي من ذهب وفضة وزروع وأنعام يتمتعون بها وينفقون منها فى حظوظهم وشهواتهم. (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي لتكون عاقبة ذلك إضلال عبادك عن السبيل الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل وصالح العمل. وقد جرت سنة الله بأن كثرة الأموال تورث الكبرياء والخيلاء والبطر والطغيان وتخضع رقاب الناس لأربابها كما قال تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» . وقد أثبت البحث والتنقيب فى نواويس قبور المصريين التي كشفت حديثا، وفيما حفظ فى دور الآثار المصرية وغيرها من العواصم الأوربية، ما يشهد بكثرة تلك الأموال ووجود أنواع من الزينة والحلي لم تكن لتخطر على البال، ويدل على أرقى أنواع المدنية والحضارة التي لا تضارعها مدنية العصر الحاضر مع ما بلغه العلم والرقى العقلي فى الإنسان. (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي ربنا امحق أموالهم بالآفات التي تصيب زروعهم والجوائح التي تهلك أنعامهم وتنقص مكاسبهم فيذوقوا ذل الحاجة، واطبع على قلوبهم وزدها قسوة على قسوتها وإصرارا وعنادا، فيستحقوا شديد عقابك، ولا يؤمنوا إلا إذا رأوا عذابك، ولا ينفعهم إيمانهم إذ ذاك. وسبب غضبة موسى أنه عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا، وردد عليهم المواعظ والنصائح ردحا من الزمن، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما هم عليه من الكفر والضلال المبين، ثم لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعتوا واستكبارا فى الأرض، ولم يبق له مطمع فيهم وعلم بالاختبار أنه لا يكون منهم إلا الضلال، وأن إيمانهم كالمحال- فاشتد عليهم ومقتهم ودعا عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، إذ لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه، ويسيرون قدما فى طريق الغى والهلاك.

[سورة يونس (10) : الآيات 90 إلى 92]

وخلاصة ذلك- كأنه قيل فليثبتوا على ضلالهم وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا، وما علىّ منهم، هم أهل لذلك وأحق به، وما مثله إلا مثل قول الأب المشفق على ولده الذي انحرف عن جادّة الاستقامة ولم يقبل منه نصيحة: فلتمض فى غوايتك ولتعث فى الأرض فسادا، وهو لا يريد غوايته بل حردا وغضبا عليه. وقد روى أن موسى دعا بهذا الدعاء وهرون عليه السلام كان يؤمّن على دعاء أخيه، ومن ثم قال تعالى: (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي قال لهما عز اسمه قد قبلت دعوتكما فى فرعون وملئه وأموالهم، فامضيا لأمرى واثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الحق، ومن إعداد شعبكما للكفاح والجلاد والخروج من مصر، ولا تسلكا سبيل الذين لا يعلمون سنتى فى خلقى، فيستعجلا الأمر قبل ميقاته، ويستبطئا وقوعه فى حينه. وفى سفر الخروج من التوراة ما بدل على استجابة دعاء موسى، فقد كانت تنزل النوازل على مصر وأهلها، فيلجأ فرعون إلى موسى حين كل نازلة منها ليدعوا ربه فيكشفها عنهم فيؤمنوا به، حتى إذا كشفها قسّى الرب قلب فرعون فأصر على كفره، وما قاله المفسرون فى تفسير الطمس على الأموال فهو من ترّهات الأباطيل الإسرائيلية التي روّجها كعب الأحبار وأمثاله ممن كان مقصدهم صدّ اليهود عن الإسلام بما يرونه فى تفسيره مخالفا لما هو متفق عليه عندهم وعند غيرهم من المؤرخين فى وقائع عملية وأمور حسية. [سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 92] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يقال: جاز المكان وجاوزه وتجاوزه: إذا قطعه حتى خلفه وراءه، ويقال تبعته حتى أتبعته إذا كان قد سبقك فلحقته، المسلمين: أي المنقادين لأمره، وننجيك: نجعلك على نجوة من الأرض، والنجوة: المكان المرتفع من الأرض، والآية: العبرة والعظة. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه مادار من الحوار بين موسى وفرعون، وذكر ما أتى به موسى من الحجج والبينات الدالة على صدقه وغلبه لسحرة فرعون ولم يزده ذلك إلا كبرا وعتوّا، فدعا عليه بالطمس على الأموال والشد على القلوب، وذكر استجابة الله دعوته- قفّى على ذلك بذكر خاتمة القصة وهو ما كان من تأييد الله لموسى وأخيه على ضعفهما وقوة فرعون وقومه، إذ كانت دولته أقوى دول العالم فى عصره. الإيضاح (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي جاوز بنو إسرائيل البحر بمعونته تعالى وقدرته وحفظه وكان آية من آياته لنبيه موسى عليه السلام بفرقه تعالى بهم البحر وانفلاقه لهم، فلحقهم فرعون وجنوده ظالمين عادين عليهم، ليفتكوا بهم أو يعيدوهم إلى مصر ليسوموهم سوء العذاب ويجعلوهم

عبيدا لهم، وخاض البحر وراءهم حتى إذا أشرف على الغرق قال آمنت أنه لا إله بحق إلا الرب الذي آمنت به جماعة بنى إسرائيل بدعوة موسى، وأنا ممن أذعنوا لأمره بعد ما كان منى من جحود بآياته وعناد لرسوله. وكرر المعنى الواحد بثلاث عبارات حرصا منه على القبول المفضى إلى النجاة، ولكن هيهات فقد فات الوقت وجاء الإيمان حين اليأس وهو لا يجدى فتيلا ولا قطميرا- وهذا ما بينه سبحانه بقوله موبخا له. (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي وقيل له أتسلم الآن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات؟ وقد عصيت قبل ذلك وكنت من المفسدين فى الأرض الظالمين للعباد، فدعواك الإسلام الآن لا تقبل، فقد صار إسلامك اضطرارا لا اختيارا. وخلاصة المعنى- آلآن تقرّ لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة وتخلص له الألوهية، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين فى الأرض الصادّين عن سبيله، فهلا أقررت بما أقررت به الآن وباب التوبة لك منفتح. (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك ينظر إليك من كذّب بهلاكك، لتكون عبرة لمن بعدك من الناس يعتبرون بك فينزجرون عن معصية الله والكفر به والسعى فى الأرض بالفساد. ووجه العبرة فى ذلك- أنه يكون شاهدا على صدق وعد الله لرسله، ووعيده لأعدائهم كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات لإقامة حجج الله عليهم قبل غيرهم. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) أي وإن كثيرا من الناس لفى غفلة عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة له وحده خالصة، فهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، فلا يتفكرون فى أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها.

[سورة يونس (10) : آية 93]

وفى ذلك إيماء إلى ذم الغفلة وعدم التفكر فى أسباب الحوادث وعواقبها واستبانة سنن الله فيها للعظة والاعتبار. ووا أسفا قد صار من نزل فيهم القرآن من بينهم بل فى مقدمتهم وهو حجة عليهم وهو منهم براء. [سورة يونس (10) : آية 93] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) تفسير المفردات مبوأ صدق: أي منزلا صالحا مرضيا. وأصل الصدق ضد الكذب، ولكن جرت عادة العرب أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا مكان صدق إذا كان كاملا فى صفته صالحا للغرض المقصود منه، كأنهم أرادوا أن كل ما يظهر فيه من الخير فهو صادق، والعلم هنا علم الدين. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه خاتمة فرعون وجنوده- قفى على ذلك بذكر عاقبة بنى إسرائيل، وفى هذا عبرة لمكذبى محمد صلى الله عليه وسلم والجاحدين من قومه المفترين بقوتهم وكثرتهم وثروتهم- فقد كان فرعون وقومه أكثر منهم عددا وأشد قوة وأوفر ثروة، وقد جعل الله سننه فى المكذبين واحدة، ففكّروا أيها المكذبون فى عاقبة أمركم وتدبروا مليّا خوف أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وهاهو ذا أهلك أكثر زعمائهم وجعل العاقبة لأتباعه المؤمنين وأعطاهم أعظم ملك فى العالمين.

الإيضاح

الإيضاح (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي ولقد أسكناهم منزلا مرضيا وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية وهى بلاد فلسطين، وهو بمعنى قوله «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» . (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي ورزقناهم من اللذائذ فيها، وقد جاء وصفها فى كتبهم بأنها تفيض لبنا وعسلا، وفيها كثير من الغلات والثمرات والأنعام وصيد البر والبحر. (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي فما اختلف بنو إسرائيل إلا بعد ما علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها، ذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوته والإقرار به وبمبعثه غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعض وآمن آخرون. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن هذا النوع من الاختلاف لا سبيل لإزالته فى دار الدنيا، بل سيقضى الله بينهم فى الآخرة، فيميّز المحقين من المبطلين، ويدخل الأولين الجنة والآخرين النار وبئس القرار. [سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 97] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن قص سبحانه قصص الأنبياء السالفين وما لا قوه من أقوامهم من العناد والجحود والاستكبار والعتو، وفى كل حال كان النصر حليف المؤمنين والخذلان نصيب الظالمين- قفّى على ذلك بذكر صدقه فيما قال ووعد وأوعد، وكون ذلك سنة الله فى المكذبين قبل، وسيكون ذلك فيهم من بعد وليس فى هذا سبيل للافتراء والشك وقد ساق ذلك بطريق التلطف فى الأسلوب، فوجه الكلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد قومه فجاء على نحو قولهم: إياك أعنى واسمعي يا جارة، وقد جاء مثل هذا فى قوله تعالى «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» وقوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» . الإيضاح (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) المراد بالكتاب جنسه أي الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل، أي فإن كنت أيها الرسول فى شك مما قلناه فى تلك الشواهد من قصة هود ونوح وموسى وغيرهم فرضا وتقديرا، فاسأل الذين يقرءون كتب الأنبياء كاليهود والنصارى، فإنهم يعلمون أن ما أزلناه إليك حق لا يستطيعون إنكاره. وقد جرت عادة العرب أن يقدّروا الشك فى الشيء ليبنوا عليه ما ينفى احتمال وقوعه فيقول أحدهم لابنه: إن كنت ابني فكن شجاعا، وجاء من هذا قول المسيح عليه السلام مجيبا ربه تعالى عن سؤاله إياه «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» فهو عليه السلام يعلم أنه لم يقله ولكنه يفرضه ليستدل على ذلك بأنه لو قاله لعلمه الله منه، ويجرى العلماء فى محاوراتهم بينهم وبين نظرائهم

أو بينهم وبين تلاميذهم على هذا النمط، فيشككونهم فيما لا شك فيه عندهم، ليبنوا على ذلك أحكاما أخرى فيقولون: إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة إلى متساويين أي إن كون الخمسة زوجا يستلزم ذلك، وهذا لا يدل على أن الخمسة زوج وهكذا ما فى الآية فهو يدل على أنه لو حصل الشك لكان الواجب هو فعل كذا وكذا، وليس فيها دليل على وقوعه. (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) الامتراء: الشك والتردد، أي لقد جاءك الحق الواضح بأنك رسول الله، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك ويجدون نعتك فى كتبهم، فلا تكونن من الشاكين فى صحة ذلك. وهذا النهى وما بعده يدلان على أن فرض الشك والسؤال فيما قبلهما تعريض بالشاكين والمكذبين له من قومه ممن لم تستنر بصيرتهم بنبوته صلى الله عليه وسلم فأظهروا الإيمان بألسنتهم ولم يثبت فى قلوبهم فهم فى شك فيه. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولا تكونن أيها الرسول ممن كذب بآيات الله وحججه فى الأكوان مما يدل على وحدانيته وقدرته على إرسال الرسل لهداية البشر فتكونن ممن خسروا أنفسهم بالحرمان من الإيمان وما يتبعه من سعادة الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فالشك والامتراء فيما أنزل إليك كالتكذيب بآيات الله جحودا بها وعنادا، كلاهما سواء فى الخسران، لحرمان الجميع من الهداية بها، والوصول إلى السعادة فى الدارين. (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن الذين ثبتت عليهم كلمة ربك بعذابهم بحسب سننه تعالى فى خلقه بفقدهم الاستعداد للاهتداء لا يؤمنون لرسوخهم فى الكفر والطغيان، وإحاطة خطاياهم بهم، وإعراضهم عن آيات الله التي خلقها فى الأكوان، بما يرشد إلى وحدانيته وكمال قدرته. (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي ولو جاءتهم كل آية من

[سورة يونس (10) : الآيات 98 إلى 100]

الآيات الكونية كآيات موسى عليه السلام التي اقترحوا مثلها عليك، والآيات المنزلة عليك كآيات القرآن العقلية الدالة بإعجازها على أنها من عند الله وعلى حقّية ما تدعوهم إليه وتنذرهم به، حتى يروا العذاب الأليم بأعينهم ويذوقوه حين ينزل بهم، فيكون إيمانهم اضطرارا لا اختيارا منهم، فلا يترتب عليه عمل منهم يطهرهم ويزكيهم ويقال لهم إذ ذاك «آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» . [سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 100] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) تفسير المفردات لولا: كلمة تفيد التحضيض والتوبيخ كهلا، والمراد بالقرية أهلها وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى، والخزي: الذل والهوان، والحين: مدة من الزمن والمراد بها العمر الطبيعي الذي يعيشه كل شخص، والإذن بالشيء: الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه والرجس: لغة الشيء القبيح المستقذر، والمراد به هنا العذاب. المعنى الجملي هذه الآيات الثلاث تكملة لما قبلها، وبيان لسنن الله تعالى فى الأمم مع رسلهم، وفى خلق البشر مستعدين للإيمان والكفر والخير والشر، وفى تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها وفقهما، فبعد أن بين أن الذين حقت عليهم كلمة

الإيضاح

ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم- أتبعه بذكر هذه الآيات للدلالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان. الإيضاح (فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل آمنوا بعد دعوتهم وإقامة الحجة عليهم، فنفعهم إيمانهم قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به. وخلاصة ذلك- إنه لم يؤمن قوم منهم بحيث لم يشذ منهم أحد. (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) يونس عليه السلام بعث فى أهل نينوى بأرض الموصل، وكانوا أهل كفر وشرك، فدعاهم إلى الإيمان بالله وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه، فأخبرهم أن العذاب مصبّحهم بعد ثلاث ليال- فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من حوف الليل، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب، فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى ربهم وأخلصوا النية فرحمهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب. والخلاصة- إن قوم يونس لما آمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم- صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان فى الدنيا بعد ما أظلّهم وكاد ينزل بهم، ومتعناهم بمتاعها إلى زمن معلوم وهو الوقت الذي يعيش فيه كل منهم بحسب سنن الله فى استعداد بنيته ومعيشته. وفى ذلك تعريض بأهل مكة وإنذار لهم، وحض على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا العذاب بعنادهم، حتى إذا أنذرهم نبيهم بقرب وقوعه وخرج من بينهم اعتبروا وآمنوا قبل اليأس وقبل أن ينزل بهم البأس.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) أي ولو شاء ربك أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا بأن يلجئهم إلى الإيمان قسرا، أو يخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة لا استعداد فى فطرتهم لغير الإيمان. وجاء فى معنى الآية قوله «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» وقوله «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» . وخلاصة ذلك- أنه لو شاء ربك ألا يخلق الإنسان مستعدا بفطرته للخير والشر والإيمان والكفر، ومرجحا باختياره لأحد الأمور الممكنة على ما يقابله بإرادته ومشيئته- لفعل ذلك، ولكن اقتضت حكمته أن يخلقه هكذا يوازن باختياره بين الإيمان والكفر، فيؤمن بعض ويكفر آخرون. (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن هذا ليس بمستطاع لك ولا من وظائف الرسالة التي بعثت بها أنت وسائر الرسل الكرام كما قال تعالى «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» وقال «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» وقال «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» . (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي وما كان لنفس بمقتضى ما أعطاها الله من الاختيار والاستقلال فى الأفعال، أن تؤمن إلا بإرادة الله ومقتضى سننه فى الترجيح بين المتقابلين، فالنفس مختارة فى دائرة الأسباب والمسببات، ولكنها غير مستقلة فى اختيارها استقلالا تاما- بل مقيدة بنظام السنن والأقدار الإلهية. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي وإذا كان كل شىء بإذنه وتيسيره ومشيئته التي تجرى بقدره فهو يجعل الإذن وتيسير الإيمان للذين يعقلون آياته ويوازنون بين الأمور، فيختارون خير الأعمال ويتقون شرها، ويرجّحون أنفعها على أضرها بإذنه تعالى وتيسيره، ويجعل الخذلان والخزي المرجح للكفر والفجور على الذين لا يعقلون ولا يتدبرون، إذ هم لخطل رأيهم وسلوك سبيل الهوى يرجحون الكفر على الإيمان والفجور على التقوى.

[سورة يونس (10) : الآيات 101 إلى 103]

[سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 103] قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أن سننه فى نوع الإنسان، أن خلقه مستعدا للإيمان والكفر والخير والشر، ولم يشأ أن يجعله على طريقة واحدة إما الكفر وحده وإما الإيمان وحده وإنك أيها الرسول لا تقدر على جعله على غير ذلك- بين هنا أن مدار سعادته على استعمال عقله فى التمييز بين الخير والشر. وما على الرسول إلا التبشير والإنذار وبيان الطريق المستقيم الذي يوصل إلى السعادة، وما الدين الا مساعد للعقل على حسن الاختيار إذا أحسن النظر والتفكر اللذين أمر الله بهما. فليحذر أولئك القوم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المكذبين، فإن سنننا لا تغيير فيها ولا تبديل، فننجى رسلنا والذين آمنوا معهم ونهلك من كذبهم وندخله سواء الجحيم. الإيضاح (قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل أيها الرسول لمن تحرص على هدايتهم من قومك: انظروا بأبصاركم وبصائركم ماذا فى السموات والأرض من كواكب نيرات، ثوابت وسيارات، وشمس وقمر، وليل ونهار، وسحاب ومطر، وهواء وماء، وليل ونهار، وإيلاج أحدهما فى الآخر حتى يطول هذا ويقصر ذاك وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات، وماذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران، وما فى البحر من عجائب وهو مسخّر

مذلّل للسالكين، يحمل سفنهم ويجرى بها برفق بتسخير القدير العليم الذي لا إله غيره ولا رب سواه «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» إنه يريكم كل هذه الآيات ثم أنتم تشركون. (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) تغنى: تنفع وتفيد، والنذر واحدها نذير، أي إن الآيات الكونية على ظهور دلالتها، والرسل على بلاغة حجتها، لا تجدى نفعا لقوم لا يتوقع إيمانهم، لأنهم لم يوجهوا أنظارهم إلى الاعتبار بالآيات والاستدلال بها على ما تدل عليه من وحدانية الله وقدرته. والاعتبار بسننه فى خلقه والاستفادة منها فيما يزكّى النفس ويرفعها عن الأرجاس والأدناس. (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم محذّرا مشركى قومه من حلول عاجل نقمة ربهم بهم وقد حل بمن قبلهم من سائر الأمم الخالية التي سلكت فى تكذيب رسله وجحودهم مسلكهم: هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون بما جئتهم به من عند الله تعالى إلا يوما يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذين كانوا على مثل ما هم عليه من الشرك والتكذيب. والخلاصة- إنهم لا ينتظروا إلا مثل وقائعهم مع رسلهم مما بلغهم مبدؤه وغايته. (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي قل لهم منذرا مهدّدا: انتظروا عقاب الله ونزول سخطه بكم، إنى من المنتظرين هلاككم بالعقوبة التي تحل بكم، وإنى على بينة بما وعد الله به وصدق وعده للمرسلين، وإن الذين يصرّون على الجحود والعناد سيكونون من الهالكين. (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي إن سنتنا فى رسلنا مع أقوامهم الذين يبلغونهم الدعوة، ويقيمون عليهم الحجة، وينذرونهم سوء عاقبة التكذيب، فيؤمن بعض ويصر آخرون على الكفر- أن نهلك المكذبين وننجى رسلنا والذين آمنوا بهم.

[سورة يونس (10) : الآيات 104 إلى 107]

(كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ومثل هذا الإنجاء ننجى المؤمنين معك أيها الرسول ونهلك المصرين على تكذيبك، وعدا حقا علينا لا نخلفه كما قال تعالى «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا» . [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) المعنى الجملي بعد أن ذكر الأدلة على صدقه فى رسالته وصحة الدين الذي جاء به، وبسطها غاية البسط حتى لم يبق فيها مجال للشك- قفّى على ذلك بالأمر بإظهار دينه، وبإظهار الفارق بينه وبين ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع وبيان أن الذي بيده النفع والضر هو الله الذي خلقهم. وبيده تصريف أمورهم. الإيضاح (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي قل لهم أيها

الرسول إن كنتم فى شك من دينى الذي أدعوكم إليه ولم يتبين لكم أنه الحق، فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه، لتعلموا أنه لا مدخل فيه للشك، إنى لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون إلهكم وخالقكم، بل أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذا شاء، وينفعهم ويضرهم إذا أراد، ومثل هذا هو الحقيق بأن يعبد وأن يخاف وأن يتّقى دون من لا يقدر على شىء من ذلك. وفى ذلك تعريض لطيف وإيماء إلى أن مثل هذا الدين لا يشكّ فيه، وإنما ينبغى أن تشكّوا فيما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، إذ عبادة الخالق لا يستنكرها ذو والفطرة السليمة، أما عبادة الأصنام فيستنكرها كل ذى لبّ وعقل سليم. وقد أمرت أن أكون من المؤمنين الذين وعدهم الله بالنجاة من عذابه، وينصرهم على أعدائهم واستخلافهم فى الأرض. (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأمرت أن أقيم وجهى للدين القيم الذي لا عوج فيه حال كونى حنيفا أي مائلا عن غيره من الشرك والباطل، وذلك بالتوجه إلى الله وحده فى الدعاء وغيره بدون التفات إلى شىء سواه ونحو الآية قوله «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . فمن توجه قلبه إلى غيره فى عبادة من العبادات ولا سيما مخّ العبادة وروحها وهو الدعاء فهو عابد له مشرك بالله. ثم نهى رسوله عن ضد ذلك فقال: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولا تكونن ممن يشرك فى عبادة ربه الآلهة والأنداد كأرباب الديانات الوثنية الباطلة الذين يجعلون بينهم وبين الله حجابا من الوسطاء والأولياء والشفعاء يوجهون قلوبهم إليهم عند الشدة تصيبهم والحاجة تستعصى عليهم، ليضوا لهم حاجتهم إما بأنفسهم أو بشفاعتهم ووساطتهم عند ربهم، فإن فعلت ذلك كنت من الهالكين.

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي ولا تدع أيها الرسول غيره تعالى دعاء عبادة لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك بوساطة الشفعاء- مالا ينفعك فى الدنيا ولا فى الآخرة، ولا يضرك إن تركت دعاءه ولا إن دعوت غيره. (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) أي فإن فعلت هذا ودعوت غيره كنت فى هذه الحال من الذين ظلموا أنفسهم، ولا ظلم لها أكبر من الشرك بالله تعالى، فدعاؤه وحده أعظم العبادات، ودعاء غيره شرك وظلم للنفس، لإضافة التصرف إلى مالا يصدر منه، فهو وضع للشىء فى غير موضعه. وقد جاء فى معنى الآية آيات كثيرة متفرقة فى السور لانتزاع هذا الشرك من قلوب السواد الأعظم من الناس، وقد انتزع من قلوب الذين أخذوا دينهم من كتاب ربهم، وكانت عبادتهم له دعاءه بالغدوّ والآصال والليل والنهار، وفيها نعى على الذين هجروا تدبر القرآن وتلقّوا عقائدهم من الآباء والأمهات والمعاشرين الأميين الجاهليين فتوجهوا إلى القبور فزيّنوها بالسرج والمصابيح ودعوها من دون الله وتقربوا إليها بالهدايا والنذور لتكشف عنهم الضر وتعطيهم ما يرجون من النفع، ويتأولون هذه الآيات الكثيرة فيزعمون أنها خاصة بعبادة الأصنام والنذر للأوثان، والتعظيم للصلبان كأن الشرك بالله جائز من بعض المخلوقين دون بعض. ثم أكد سبحانه المعنى السالف ودحض شبهة الذين يدعون غير الله، لأنهم طالما استفادوا من دعائهم والاستغاثة بهم فشفيت أمراضهم وكشف الضر عنهم فقال: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي وإن يمسسك الله أيها الإنسان بضر كمرض يصيبك بمخالفة سننه فى حفظ الصحة، أو نقص فى الأموال والثمرات بأسباب لك فيها عبرة، أو ظلم يقع عليك من غيرك، فلا كاشف له إلا هو، وقد جعل سبحانه للأشياء أسبابا يعرفها خلقه بتجاربهم ككشف الأمراض بمعرفة أسبابها ومعرفة خواصّ العقاقير التي تداوى بها، فعلينا أن نطلبها من الأسباب ونأتى البيوت من الأبواب، ونتوجه إلى الله وحده، وندعوه مخلصين له، متوكلين عليه.

[سورة يونس (10) : الآيات 108 إلى 109]

(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي وإن يردك ربك برخاء ونعمة وعافية فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين فضله الذي تعلقت به إرادته تعالى، فما شاء كان حتما، فلا يرجى خير ونفع إلا من فضله، ولا يخاف ردّ ما يريده. فهو يصيب بالخير من يشاء من عباده بكسب أو بغير كسب، وبسبب ما قدّره فى السنن العامة وبغير سبب، ففضله تعالى على عباده عام بعموم رحمته، بخلاف الضر فإنه لا يقع إلا بسبب من الأسباب الخاصة بكسب العبد أو العامة فى نظام الخلق كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية جهلا أو تقصيرا، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل وكثرة الظلم. (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي وهو الغفور لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته، الرحيم بمن آمن به منهم فلا يعذبه بعد التوبة، ولولا مغفرته الواسعة ورحمته العامة لأهلك الناس جميعا بذنوبهم فى الدنيا قبل الآخرة كما قال تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وقال: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» . [سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) المعنى الجملي بعد أن قرر سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد- ختم السورة بهذا البلاغ للناس كافة بمقتضى البعثة العامة، وهو إجمال لما تقدم من التفصيل فيها.

الإيضاح

الإيضاح (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول مخاطبا جميع الناس، من حضر منهم فسمع هذه الدعوة منك ومن ستبلغه عنك. قد جاءكم الحق المبيّن لحقيقة هذا الدين، وقد أوحى به إلى رجل منكم، وكان خفيا عنكم بما جهل من دعوة الرسل السالفين أو حرّف وبدل، ففصّله هذا الكتاب العربي المبين. (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن سلك سبيل الحق وصدّق بما جاء من عند الله فى كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإنما فائدة ذلك عائدة إليه، لأنه يفوز بالسعادة فى دنياه ودينه، وذلك إنما يكون بعمله لا بعمل غيره، ولا بتأثيره بشفاعته أو وساطته. (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن اعوجّ عن الحق الذي أتاه من عند الله وأعرض عن كتابه وعن آياته فى الأنفس والآفاق، فإنما وبال ضلاله على نفسه، بما يفوته من فوائد الاهتداء فى الدنيا، وما يصيبه من العذاب على كفره وجرائمه فى الآخرة (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنا بموكّل من عند الله بأموركم، ولا بمسيطر عليكم، فأكرهكم على الإيمان، وأمنعكم بقوتي من الكفر والعصيان، ولا أملك لكم ضرا ولا نفعا، وما أنا إلا رسول مبلغ إليكم أمر ربكم، بشير لمن اهتدى، ونذير لمن ضل وغوى، وقد أعذر من أنذر. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) أي واتبع أيها الرسول وحي الله الذي أنزله إليك فى كتابه، واعمل به وعلّمه أمتك، واصبر على ما يصيبك من الأذى والمكاره وعلى ما ينالك من قومك، حتى يقضى الله بينك وبين المكذبين لك، وينجز لك ما وعدك.

(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أي وهو خير القاضين، وأعدل الفاصلين، فهو لا يحكم إلا بالحق، وغيره قد يحكم بالباطل، إما لجهله بالحق أو مخالفته له باتباع الهوى، وقد امتثل رسوله أمر ربه، وصبر حتى حكم الله بينه وبين قومه، وأنجز وعده له صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه من المؤمنين، فاستخلفهم فى الأرض، وجعلهم الأئمة الوارثين ما أقاموا الدين. وغير خاف ما فى هذه الآيات من التسلية لنبيه ووعده للمؤمنين ووعيده للكافرين.

سورة هود عليه السلام

سورة هود عليه السلام وهى مكية كالتى قبلها، وعدد آيها ثلاث وعشرون ومائة، نزلت بعد سورة يونس، وتصمنت ما تضمنته تلك من أصول الإسلام، وهى التوحيد والنبوة والبعث والحساب والجزاء. وفصّل فيها ما أجمل فى سابقتها من قصص الرسل عليهم السلام وهى مناسبة لها فى فاتحتها وخاتمتها وتفصيل الدعوة فى أثنائها، فقد افتتحتا بذكر القرآن بعد (الر) وذكر رسالة النبي المبلغ عن ربه، وبيان أن وظيفة الرسول إنما هى التبشير والإنذار وفى أثنائهما ذكر التحدي بالقرآن والرد على الذين زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد افتراه، ومحاجّة المشركين فى أصول الدين، وختمتا بخطاب الناس بالدعوة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فى الأولى بالصبر حتى يحكم الله بينه وبين الكافرين، وفى الثانية بانتظار هذا الحكم منه تعالى مع الاستقامة على عبادته والتوكل عليه. وعلى الجملة فقد أجمل فى كل منهما ما فصل فى الأخرى مع فوائد انفردت بها كل منهما، فقد اتفقتا موضوعا فى الأكثر واختلفتا نظما وأسلوبا مما لا مجال للشك فى أنهما من كلام الرحمن، الذي علم الإنسان البيان. [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

تفسير المفردات

تفسير المفردات (الر) تقدم أن قلنا إنها حرف تنبيه كألا وتقرأ بأسمائها ساكنة فيقال: (ألف لام، را) وإحكام البناء كالقصر والحصن: إتقانه حتى لا يقع فيه خلل، وتفصيل العقد بالفرائد: جعل خرزة أو مرجانة بلون بين كل خرزتين من لون آخر، والمتاع: كل ما ينتفع به فى المعيشة وحاجة البيوت، والأجل المسمى: هو العمر المقدر. المعنى الجملي جاءت هذه الآيات فى أصول الدين وهى القرآن وما بيّن فيه من توحيد الله وعبادته وحده والإيمان برسله والبعث والجزاء فى اليوم الآخر. الإيضاح (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي هذا كتاب عظيم الشأن جليل القدر، جعلت آياته محكمة النظم والتأليف واضحة المعاني، لا تقبل شكا ولا تأويلا ولا تبديلا، كأنها الحصن المنيع الذي لا يتطرق إليه خلل- وجعلت فصولا متفرقة فى سورة، تبين حقائق العقائد والأحكام والمواعظ وجميع ما أنزل له الكتاب من الحكم والفوائد، فكأنها العقد المفصّل بالفرائد، ولا عجب فقد أنزلت من لدن حكيم يقدر حاجة عباده، ويعطيهم ما فيه الخير لهم، خبير بعواقب ذاك ومصادره وموارده. (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي أحكمت وفصلت بألا تعبدوا إلا الله، أي نزل هذا القرآن المحكم المفصّل لعبادة الله وحده لا شريك له،

وهذا كقوله: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» وقوله: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» وقل للناس إنى من عند الله نذير ينذركم عقابه، ويبشركم ثوابه على طاعته والإخلاص له. وهذا بيان لوظيفة الرسالة، ومبيّن لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي واسألوه أن يغفر لكم ما كان منكم من أعمال الشرك والكفر والإجرام، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة له دون سواه مما تعبدون من دونه من الأصنام والأوثان فإن فعلتم ذلك واستغفرتم من كل ذنب وتبتم من الإعراض عن هدايته وتنكّب سننه، يمتعكم فى دنياكم متاعا حسنا فيرزقكم من زينة الدنيا وينسألكم فى آجالكم إلى الوقت الذي قضى عليكم فيه الموت وهو العمر المقدر لكم فى علمه المكتوب فى نظام الخليقة وسنن الاجتماع البشرى فى عباده، ولا يقطعه بعذاب الاستئصال ولا بفساد العمران ولا ينقصه ما ينقص من أدمن على الشرك والمعاصي. ذاك أن الله ما حرم إلا الأشياء الضارة بالعقل أو بالصحة أو بنظام الاجتماع المالى أو البدني، وإنما يكمل ضررها بإصرار فاعليها عليها، فاذا أقلعوا عنها وندموا على ما فعلوا وبادروا إلى التوبة من قريب، امتنع ذلك الفساد. وهذه سنة مطردة فى ذنوب الأمم، وهى فيها أظهر من ذنوب الأفراد، فالمشاهد أن الأمم التي تصرّ على الظلم والفسوق والعصيان يهلكها الله تعالى فى الدنيا بالضعف والشقاق وخراب العمران حتى تزول منعتها وتتمزق وحدتها. (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي وإن تجتنبوا الشرك وتؤمنوا بالله وتستغفروه يمتعكم متاعا حسنا تكونون به خير الأمم نعمة وقوة وعزة ويعط كل ذى فضل من علم وعمل جزاء فضله، أما فى الآخرة فهو مطّرد دائما، وأما فى الدنيا فقد يكون ناقصا مشوبا بأكدار، ولا يكون مطردا لقصر أعمار الأفراد.

[سورة هود (11) : آية 5]

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أي وإن توليتم وأعرضتم عما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده وعدم عبادة غيره، فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير الهول شديد البأس، فيصيبكم مثل ما أصاب أقوام الرسل الذين عاندوهم وأصروا على تكذيبهم وعصيانهم، أو قريب منه بعد نصر الرسول والمؤمنين. (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إليه تعالى رجوعكم بعد موتكم جميعا أمما وأفرادا لا يتخلّف منكم أحد، وحينئذ تلقون جزاءكم بالعدل والقسطاس، وهو سبحانه قدير على كل شىء. [سورة هود (11) : آية 5] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) تفسير المفردات ثنى الشيء: عطف بعضه على بعض فطواه، وإثناء الثوب: إطواؤه، وثناه عنه: لواه وحوّله، وثناه عليه: أطبقه وطواه ليخفيه فيه، وثنى عنانه عنّى: تحول وأعرض، والاستخفاء: محاولة الخفاء، واستغشى الثوب تغطّى به كما قال حكاية عن نوح عليه السلام: «وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» . المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنهم إن أعرضوا حاق بهم عذاب يوم كبير- بين فى هذه الآية حالهم وصفتهم العجيبة الدالة على إعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل.

الإيضاح

الإيضاح (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم وينكسون رءوسهم كأنهم يحاولون طىّ صدورهم على بطونهم حين سماع القرآن ليستخفوا منه صلى الله عليه وسلم حين تلاوته فلا يراهم حين نزول هذه القوارع على رءوسهم، روى ابن جرير وغيره أن ابن شداد قال: كان أحدهم ذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره كيلا يراه أحد. (حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي إن ثنى صدورهم وتنكيس رءوسهم ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم لا يغنى عنهم شيئا، فإن ربهم يعلم ما يسرون ليلا حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم، ثم ما يعلنون نهارا. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى عليم بأسرار الصدور وخواطر القلوب، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون فى صدوركم الشك فى شىء من توحيده أو أمره أو نهيه. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين. تمت مسودة هذا الجزء فى السادس والعشرين من ذى الحجة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف هجرية بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 8 من أتى أبواب السلطان افتتن 8 من الأعراب من كان يظن أن الصدقات مغارم، ومنهم من كان يظن أنها قربات عند الله 11 المسلمون ثلاث طبقات 12 من أهل المدينة ناس مردوا على النفاق 13 المنافقون فريقان 16 خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها 17 كان الرسول يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم 18 فوائد الصدقات فى إصلاح المجتمع الإسلامى 18 فرضت الزكاة فى أول الإسلام مطلقة 20 ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة 21 كان المتخلفون عن الجهاد فى غزوة تبوك أقساما ثلاثة 25 الأغراض التي لأجلها بنى مسجد الضرار 27 حب الله للمتطهرين 31 بيعة العقبة 33 المؤمنون الكملة 36 النبوة والإيمان الصادق لا يبيحان الاستغفار للمشركين فى حال 40 غزوة العسرة 43 لا يرخص فى الكذب إلا فى ثلاث

الصفحة المبحث 44 فى المعاريض ما يغنى عن الكذب 48 وجوب التفقه فى الدين والاستعداد لتعليمه 54 الأب الرحيم ربما لجأ إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها 60 ليس الغنى سببا للزلفى والقرب من الله 61 ليس القرآن بسحر 63 العرش مركز تدبير هذا الملك العظيم 64 لا ينبغى أن نوجه وجوهنا شطر قبور الأولياء والصالحين 65 الإعادة أهون من البدء 67 منازل القمر وسيلة لمعرفة عدد السنين والحساب 71 تحية أهل الجنة 72 لا يكون المؤمن أهلا للجنة إلا بالعمل ومجاهدة النفس والهوى 74 لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة 75 الإنسان عند الشدة يدعو ربه وعند الرخاء ينساه 76 هلاك الله للأمم ضربان 80 شر الظلم افتراء الكذب على الله والتكذيب بآياته 82 الشرك ضربان شرك فى الربوبية وشرك فى الألوهية 83 شئون الرب وسائر ما فى عالم الغيب لا تعلم إلا بوحي 84 معجزة النبي صلى الله عليه وسلم هى كتابه المعجز 88 دعا رسول الله على المشركين فقال: اللهم أنزل عليهم سنين كسنى يوسف 90 الناس الآن أشد من المشركين إشراكا فإذا نزلت بهم ضائقة دعوا الأموات وقد كان المشركون يدعون الله فى مثل هذا 91 ثلاث هن رواجع على أهلها- المكر. والنكث. والبغي

الصفحة المبحث 92 مثل الحياة الدنيا فى القرآن 94 صفات المحسن والمسيء يوم القيامة 95 وعد الله المحسن بالحسنى وزيادة وأوعد الذين كسبوا السيئات بسيئة مثلها 98 لا شفيع ولا ناصر يوم القيامة 100 علامة الحياة فى النبات والحيوان 102 الأدلة على بطلان الشرك 105 أصول الإيمان تبنى على اليقين دون الظن 106 ما فى القرآن ليس فى طوق البشر أن يأتى بمثله 107 تحدّيهم أن يأتوا بسورة مثله 108 إسراعهم فى تكذيبهم قبل أن يتدبروا معناه 110 النبي ليس بمسيطر ولا جبار 111 المسلمون الآن يسمعون القرآن لترتيله لا لتدبر معانيه 112 هداية الله لا تكون إلا للمستعد لها 113 الدنيا كساعة من نهار 115 ما ترك الله أمة بلا رسول 116 المشركون كانوا يستعجلون العذاب 117 عجبا لقوم يطلبون الحاجات ممن دفنوا تحت أطباق الثرى 119 حديث ضمام بن ثعلبة مع النبي صلى الله عليه وسلم 120 يتمنى الظالم أن يكون له فداء فى ذلك اليوم 122 القرآن عظة وشفاء وهدى ورحمة 124 التحليل والتحريم لله وحده 125 جزاء المفترين على الله الكذب يوم القيامة

الصفحة المبحث 127 الله رقيب وشهيد على أعمال المرء فى هذه الحياة 128 لا يغيب عن ربنا مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء 129 أولياء الله 130 للشيطان لمة وللملك لمة 130 الذين يتوسلون بهم يتوسلون إلى ربهم راجين خائفين 130 قال المشركون الملائكة بنات الله وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله 135 العقائد الدينية لا بد فيها من دليل قاطع والتقليد فيها غير سائغ 137 مقالة نوح لقومه 141 حين جاء موسى بالآيات البينات قال فرعون وقومه- إن هذا إلا سحر مبين- 141 الساحر لا يفوز بمطلوب 142 قالوا لموسى ما غرضك من هذه الدعوة إلا امتلاك البلاد 143 مقالة موسى للسحرة 145 الدعاء لا يستجاب إلا مع اتخاذ الأسباب 146 كان المصريون يستعملون بنى إسرائيل فى المهن الحقيرة 148 دعوة موسى على المصريين فى ذلك الحين 151 غرق فرعون فى بحر القلزم 153 عاقبة بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر 157 قوم يونس لما آمنوا 158 لو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا 160 لا تغنى الآيات والنذر لمن لا يفكر فيها 162 الإله الذي ينبغى أن يعبد 163 لا يكشف الضر إلا رب العالمين 165 الرسول ليس بمسيطر ولا جبار

تتمة سورة هود

الجزء الثاني عشر [تتمة سورة هود] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة هود (11) : الآيات 6 الى 8] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) تفسير المفردات الدابة: اسم لكل نسمة حية تدبّ على الأرض زحفا، أو على قوائم ثنتين فأكثر، وغلب عرفا على ما يركب من الخيل والبغال والحمير، والدبّ والدبيب: الانتقال لخفيف البطيء كدبيب الطفل والشيخ المسنّ والعقرب والمستقر: مكان الاستقرار

المعنى الجملي

من الأرض، والمستودع: حيث كان مودعا قبل الاستقرار فى صلب أو رحم أو بيضة، والعرش: مركز نظام الملك ومصدر التدبير، والبلاء: الاختبار والامتحان، والأمة: الطائفة أو المدة من الزمن كما قال تعالى: «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» وأصلها الجماعة من نوع واحد أو دين واحد أو زمن واحد، مصروفا عنهم: أي مدفوعا ومجبوسا، وحاق: نزل وأحاط. المعنى الجملي بعد أن بين فى الآيات السالفة شمول قدرته تعالى لكل شىء وإحاطة علمه بما يسرون وما يعلنون بما فى الصدور- قفى على فى ذلك بذكر ما يهمّ الناس من آثار قدرته ومتعلقات علمه، وهو ما يتعلق بحياتهم وشئونهم المختلفة، ثم بذكر خلقه للعالم كله، ومكان عرشه قبل هذا من ملكه، وبلاء البشر بذلك ليظهر أيّهم أحسن عملا، ثم بعثه إياهم بعد الموت لينالوا جزاء أعمالهم مع إنكار الكفار لذلك وطلب استعجال العذاب الذي أوعدهم به مع بيان أنه واقع بهم لا محالة إن أصرّوا على كفرهم. الإيضاح (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) أي وما من دابة من أي نوع من أنواع الدواب فى الأرض إلا على الله رزقها، لا فرق فى ذلك بين الجنّة (المكروبات) التي لا ترى بالأبصار، وبين ضخام الأجسام، والوسطى بين هذه وتلك، وقد أعطى كلا خلقه المناسب لمعيشته، ثم هداه إلى تحصيل غذائه بالغريزة والفطرة، ولله تعالى حكم فى خلق كل نوع منها، فإن خفى علينا أمر خلق الحيات والسنانير ونحوها، فلنا أن نقول مثلا إنه لولاها لضاقت الأرض بكثرة إحيائها، أو لأنتنت من كثرة أمواتها. ومعنى كفالته تعالى لرزقها أنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله كما قال: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» وقد علم بنصوص القرآن وسنن

الله فى الخلق وأسباب الرزق أن مشيئته تعالى لا تكون إلا بمقتضى سننه فى ارتباط الأسباب بالمسببات مع الحكمة فى ذلك، لا أنه يأتيها بمحض قدرته سواء طلبته أم لا. (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أي ويعلم حيث تستقر وتقيم، وحيث كانت مودعة إلى حين، ويرزقها فى كلتا الحالين. (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كل الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مرقوم فى كتاب مبين أي فى لوح محفوظ كتب الله فيه مقادير الخلق كلها. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي فى ستة أيام من أيام الله فى الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار، لا من أيامنا فى هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامنا، ويؤيد هذا قوله تعالى: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» وقوله: «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» . وقد أثبت علماء الفلك أن أيام غير الأرض من الكواكب التابعة لنظام شمسنا تختلف عن أيام هذه الأرض فى طولها بحسب أجرامها وأبعادها وسرعتها فى دورانها، وأن أيام التكوين بخلقه تعالى من الدخان الذي يعبرون عنه بالسديم شموسا مضيئة تتبعها كواكب منيرة- يقدر اليوم منها بألوف الألوف من سنينا هذه. (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي وكان سرير ملكه فى أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء، وعرش الرحمن من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا، لا نستطيع تصويره بأفكارنا، فلا نعلم كنه استوائه عليه ولا صدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم، ومن ثم روى عن أمّ سلمة رضى الله عنها وعن مالك وربيعة قولهم: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. ومن الآية نعلم أن الذي كان دون العرش من مادة الخلق قبل تكوين السموات والأرض هو الماء الذي جعله الله أصلا لخلق جميع الأحياء كما قال: «أَوَلَمْ يَرَ

الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟» أي إنه يجب عليهم أن يعلموا أن السموات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق فيها ولا انفصال، وهى ما تسمى لدى علماء الفلك السديم، ويسميها القرآن الدخان، ففتقناهما بفصل بعضهما من بعض فكان منها ما هو سماء ومنها ما هو أرض، وجعلنا من الماء كل شىء حى، أفلا يؤمنون بأن الرب الذي خلق كل هذا هو الذي يعبد وحده ولا يشرك به شىء، وأنه قادر على إعادة الخلق كما بدأه أول مرة؟ والخلاصة- إن الماء أصل جميع الأحياء وهو الذي يتنزل إليه أمر التدبير والتكوين. ثم علل خلقه بما ذكر ببعض حكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي ليجعل ذلك ابتلاء واختبارا لكم فيظهر أيّكم أحسن إتقانا لما يعمله لنفسه وللناس، ذاك أنه تعالى سخر لنا ما فى الأرض وجعلنا مستعدين لإبراز ما أودعه فيها من منافع وفوائد مادية ومعنوية، ومستعدين للإفساد والضرر، ليجزى كل عامل بما يعمل، وإنما يتم ذلك ويظهر فى الآخرة. (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ولئن أخبرت هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم، ليجزيهم فيما بلاهم به كما قال: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» ليجيبنّك الذين كذبوا بلقاء الله قائلين: ما هذا الذي جئتنا به من هذا القرآن لتسحرنا لطاعتك وتمنعنا عن لذات الدنيا- إلا سحر بين ظاهر تسحر به العقول وتسخّر به الضمائر والقلوب وبعد أن ذكر ما يقوله المنكرون للبعث ذكر ما يقوله المنكرون لإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم عذاب الدنيا والآخرة بتكذيبهم له فقال: (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ؟) أي ولئن أخرنا

[سورة هود (11) : الآيات 9 إلى 11]

عنهم عذابنا الذي توعّدهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حين من الزمن مقدر فى علمنا وهو مقتضى سنتنا فى خلقنا، وبيناه فى كتابنا بقولنا «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» ليقولن استهزاء، أي شىء يمنع هذا العذاب من الوقوع إن كان حقا. (ثم توعدهم نزوله فقال أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي ألا إن له يوما يأتيهم فيه حين تنتهى المدة المضروبة دونه، ويومئذ لا يصرفه صارف، ولا يحبسه حابس. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب ما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه، فلا هو يصرف عنهم، ولا ينجون منه. [سورة هود (11) : الآيات 9 الى 11] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) تفسير المفردات الإذاقة هنا: الإعطاء القليل، والنزع: السلب والحرمان، واليئوس: شديد اليأس من عود تلك النعمة، والكفور: كثير الكفران والجحود لما سلف عليه من النعم، والنعماء والنعمة والنّعمى: الخير والمنفعة، ويقابلها الضراء والضّر، وفرح: بطر مغتر بهذه النعمة، فخور: متعاظم على الناس بما أوتى من النعم، مشغول بذلك عن القيام بشكرها. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه خلق السموات والأرض ليبلو الإنسان أيشكر أن يكفر؟ - قفّى على ذلك بذكر طبيعة الإنسان فى ذلك، وهى أنه إذا أصابته نعماء ثم نزعت منه

الإيضاح

قنط من روح الله وكفر بها، وإذا أذاقه نعمة بعد بؤس بطر وفخر- هكذا شأن الإنسان- إلا من صبر وشكر وعمل صالحا. الإيضاح (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) أي ولئن أعطينا الإنسان نوعا من أنواع النعم كرخاء عيش وبسطة رزق وصحة وأمن وولد بارّ، رحمة مبتدأة منا أذقناه لذاتها فكان شديد الاغتباط بها، ثم سلبنا ذلك بما يحدث من الأسباب التي قدرها الله فى الخليقة كالمرض والموت والعسر، إنه ليظل فى هذه الحال شديد اليأس من الرحمة، قاطعا للرجاء من عود تلك النعمة، كثير الكفران لغيرها من النعم التي لا يزال يتمتع بها فضلا عما سلف منها. والخلاصة- إنه يجمع بين اليأس بعودة ما نزع منه والكفر بما بقي له، لحرمانه من فضيلتى الصبر والشكر. (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي ولئن كشفنا عنه الضراء التي أصابته وحل محلها نعماء، كشفاء من مرض، وزيادة قوة، وخروج من عسر إلى يسر، ونجاة من خوف وذل، إنه ليقولن: ذهب ما كان يسوءنى من المصايب والضراء ولن يعود، وما هى إلا سحابة صيف قد تقشّعت، وعلىّ أن أنساها وأتمتع بتلك اللذات، وإنه حينئذ لشديد الفرح بما يهيجه البطر بتلك النعمة، وإنه ليغالى فى الفخر والتعالي على الناس والاحتقار لمن دونه فيها. والخلاصة- أنا إذا منحنا هذا الإنسان اليئوس الكفور نعماء أذقناه لذتها بعد ضراء مسته باقترافه أسبابها لم يقابلها بشكر الله عليها، بل يبطر ويفخر على الناس ولا يقوم بما يجب عليه من مواساة البائسين الفقراء وعمل الخير لبنى الإنسان كفاء ما هو متمتع به من تلك النعم. ثم استثنى سبحانه من جنس الإنسان فيما ذكر من حاليه السالفتين قبل الصابرين الذين يعملون الصالحات فقال:

[سورة هود (11) : الآيات 12 إلى 14]

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إلا الذين صبروا على ما أصابهم من الضراء إيمانا بالله واحتسابا للأجر عنده، وعملوا الصالحات حينما يكشفها ويبدّل النعماء بها ويشكره باستعمالها فيما يرضيه من عمل البر والخير لعباده، أولئك لهم مغفرة من ربهم تمحو ما علق بأنفسهم من ذنب أو تقصير، وأجر كبير فى الآخرة على ما وفّقوا لعمله من بر وخير كثير. والخلاصة- إن الإنسان وإن كان مؤمنا حق الإيمان لا يسلم من ضيق صدر حين حلول الضراء والمصايب، وذلك مما ينافى كمال الرضا، كما لا يسلم حين النعماء من شىء من الزّهو والتقصير فى الشكر، فيغفر له كل منهما بصبره وشكره وإنابته إلى ربه. وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» . ووصف الأجر بالكبير- لما حواه من نعيم سر مدى وأمن من العذاب ورضا من الله عز وجل ونظر إلى وجهه الكريم «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» . [سورة هود (11) : الآيات 12 الى 14] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) تفسير المفردات لعل هنا للاستفهام الإنكارى الذي يفيد النهى، وضيق الصدر: يراد به الغم والحزن، والكنز: ما يدّخر من المال فى الأرض، والوكيل: الرقيب الحفيظ للأمور،

المعنى الجملي

الموكّل بحراستها، والاستجابة للداعى: إجابته، والإسلام: الإذعان والخضوع والانقياد: المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه فى بدء السورة قولهم فى القرآن: إنه سحر مبين، وأنهم يستغشون ثيابهم كى لا يسمعوه- قفّى على ذلك بذكر تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وبيان أن همه وحزنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من كلامهم كل مبلغ، ثم أعقبه بتحدّيه لهم بالقرآن كى يأتوا بعشر سور مثله، حتى إذا ما عجزوا علم أنه وحي من عند الله. روى عن ابن عباس أن الآية نزلت حين قال رؤساء مكة: يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا، وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوّتك فقال لا أقدر على ذلك. الإيضاح (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي أفتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك، مما يشقّ سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهى عن الشرك والإنذار والوعيد لهم، والنعي على معبوداتهم وتسفيه أحلامهم، وضائق به صدرك أن تبلّغهم إياه كما أنزل. ذاك أنهم كانوا يتهاونون به فيضيق صدره أن يلقى إليهم ما لا يقبلون وما يضحكون منه، فاستحثه سبحانه على أداء الرسالة وعدم المبالاة باستهزائهم، وطرح مقالاتهم الساخرة وراءه ظهريا. وخلاصة ذلك- تحمّل أخف الضررين وهو تحمل سفاهتهم، على ترك بعض الوحى والوقوع فى الخيانة فيه

(أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) أي كراهة أن يقولوا: هلا أعطاه ربه كنزا من عنده يغنيه ويمتاز به عن غيره، أو جاء معه ملك يؤيده فى دعوته كما حكى الله عنهم فى سورة الفرقان «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» . وجملة المعنى- إن عنادهم وجحودهم وإعراضهم عن الإيمان وشدة اهتمامك بأمرهم مما من شأنه أن يقتضى ضيق الصدر بحسب الطباع البشرية أو أن يخطر على البال ترك بعض الوحى، ولولا عصمتنا إياك وتثبيتنا لك لاجترحت ذلك واستسلمت لما لمثله جرت العادة، ولكن الله حفظك حتى تؤدى رسالته وترحم العالمين بنور نبوتك كما قال: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» . وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقوله: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» وقوله: «المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» . (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحى إليك غير مبال بما يصدر منهم ويطلق ألسنتهم، والله هو الرقيب على عباده وليس عليك من أعمالهم شىء. وقد جاء بمعنى الآية قوله: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقوله «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» .

وبعد أن ذكر ضيق صدره لتكذيب المشركين له، قفى على ذلك بذكر ما قالوه فى القرآن فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكة إن محمدا قد افترى هذا القرآن؟ فقل لهم إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم لا تدّعون أنها من عند الله، فإنكم أهل اللّسن والبيان والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة وفنون الشعر والخطابة، ولم يسبق لى مع العمر الطويل الذي عشته بينكم أن أزاول شيئا من ذلك، فإن كان من كلام البشر فأنتم على مثله أقدر، وإنكم لتعلمون أنى لم أكذب على بشر قط، فكيف أفترى على الله، وإن زعمتم أن لى من يعيننى على تأليفه ووصفه، فادعوا من استطعتم ممن تعبدون غير الله، ومن جميع خلقه ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر، ولتكن مثله مفتريات تشتمل على مثل ما فيه من تشريع دينى ومدنى وحكم ومواعظ، وآداب وأنباء غيبية إخبارا عن ماض، وأنباء غيبية إخبارا عن مستقبل، بمثل هذا النظام البديع والأسلوب البالغ حد الإعجاز، والبلاغة الساحرة للألباب، والسلطان الحاكم على الأنفس والأرواح- إن كنتم صادقين فى دعواكم. والخلاصة- إن مشركى مكة المعاندين لم يجدوا شهة فى القرآن بعد شبهة السحر التي لم تجد آذانا صاغية عند العرب، لأنهم أرباب الفصاحة واللسن فعرفوا فضله على سائر الكلام- إلا زعمهم أن محمدا قد افتراه جملة وليس بوحي من عند الله، فتحداهم بالإتيان بعشر سور مثله فى النظم والأسلوب، محتوية على التشريع القيّم من دينى ومدنى وسياسى، وحكم ومواعظ وآداب، وكلّفهم دعوة من استطاعوا من دون الله ليظاهروهم ويعاونوهم على ذلك، فعجزوا ولم يجدوا من فصحائهم من يستجيب لهم، فقامت الحجة عليهم وعلى غيرهم إلى يوم الدين، وهذا معنى قوله: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) أي فإن لم يستجب لكم من

افتراء النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن

تدعونهم من دون الله ليعاونوكم على الإتيان بالعشر السور المماثلة للقرآن من فحول الكتاب ومصاقع الخطباء وعلماء أهل الكتاب العارفين أخبار الأنبياء، فاعلموا أنما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمقتضى علم الله وإرادته أن يبلغه لعباده على لسان رسوله ولا يقدر عليه محمد ولا غيره ممن تدّعونه زورا أنهم أعانوه، لأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله به. (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي واعلموا أنه لا إله يعبد بحق إلا هو، إذ من خصائص الإله أن يعلم ما لا يعلمه غيره، وأن يعجز من عداه عن مثل ما يقدر عليه. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي فهل أنتم بعد أن قامت عليكم الحجة داخلون فى الإسلام الذي أدعوكم إليه بهذا القرآن، مؤمنون بما فيه من عقائد ووعد ووعيد وأحكام وحكم وآداب. والخلاصة- إنه لم يبق لكم بعد أن دحضت شبهتكم وانقطعت معاذيركم إلا جحود العناد وإعراض الاستكبار، والعاقل المنصف لا يرضى لنفسه بمثل هذا دعاء المشركين. افتراء النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن افتراء القرآن يشمل ناحيتين: (1) افتراء فى جملته بإسناده إلى الله ادعاء أنه من كلامه أوحاه إليه. (2) افتراء أخبار الغيب التي يدّعى أنها من عند الله ولا يعلمها إلا هو وبها استدل على نبوته، وقد حكى الله عنهم ادعاء الأمرين فى سورة الفرقان بقوله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» . وأساطير الأولين: هى قصصهم وأكاذيبهم التي سطروها، وكانت العرب تسلّى نفسها عن جهلها بالأديان والتواريخ بزعمهم أنها أساطير الأولين.

ما حوته قصص القرآن

وأنباء الغيب ضربان: (ا) أنباء الغيب الماضية، وتشمل قصص الرسل مع أقوامهم، وأخبار التكوين كخلق السموات والأرض وما بينهما كخلق الإنسان والجانّ. (ب) أنباء الغيب الآتية، وتشمل وعد الله بنصره لرسله والمؤمنين وجعل العاقبة لهم واستخلافهم فى الأرض وخذلان أعدائهم الكافرين، والقيامة والبعث والحساب والجزاء على العقائد والأعمال، وقد كانوا ينكرون ذلك ويستبعدونه. ما حوته قصص القرآن إن فى قصص القرآن لأشعة من ضياء العلم والهدى جاءت على لسان كهل أمي لم يكن منشئا ولا راوية ولا حافظا، ويمكن أن بحمل أغراضها فيما يلى: (1) بيان أصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان بالله وتوحيده وعلمه وحكمته وعدله ورحمته والإيمان بالبعث والجزاء. (2) بيان أن وظيفة الرسل تبليغ وحي الله لعباده فحسب، ولا يملكون وراء ذلك نفعا ولا ضرا: (3) بيان سنن الله فى استعداد الإنسان النفسي والعقلي لكل من الإيمان والكفر والخير والشر. (4) بيان سنن الله فى الاجتماع وطباع البشر وما فى خلقه للعالم من الحكمة. (5) آيات الله وحججه على خلقه فى تأييد رسله. (6) نصائح الأنبياء ومواعظهم الخاصة بكل قوم بحسب حالهم كقوم نوح فى غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون وملئه فى ثروتهم وعتوهم، وقوم عاد فى قوتهم وبطشهم، وقوم لوط فى فحشهم. فإن أمكن أن يكون كل هذا حديثا مفترى، فان مفتريه يكون أكمل منهم جميعا علما وعملا وهداية وإصلاحا، فما أجدرهم أن يتبعوه، وما أحقهم أن يهتدوا بهديه،

[سورة هود (11) : الآيات 15 إلى 16]

ولن يكشف حقيقة أمره إلا من يستطيع أن يأتى بحديث مثله ولو مفترى فى صورته وموضوعه، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين. ومن المعلوم أن الاحتذاء والاتباع، أهون من الابتداء والابتداع. ولكن افتراء الأمى لهذه العلوم الإلهية والنفسية والتشريعية محال، فقد عجز عن مثلها حكماء العلماء- أفهكذا يكون الافتراء، والحديث المفترى الذي ينهى عنه العقلاء وفى التحدي بهذه السور العشر توسيع على المنكرين إن حدثتهم أنفسهم أن يتصدّوا لمعارضته، لكنهم لم يستطيعوا فقامت عليهم وعلى غيرهم الحجة إلى يوم القيامة. [سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) تفسير المفردات نوف إليهم: أي نوصّل إليهم، ولا يبخسون: لا ينقصون، وحبط: أي فسد وبطل ولم ينتفعوا به. المعنى الجملي بعد أن أقام الحجة على حقية دعوة الإسلام، وعلى أن القرآن من عند الله وليس بالمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما يدعيه المشركون- قفّى على ذلك ببيان أن الباعث لهم على المعارضة والتكذيب ليس إلا شهواتهم وحظوظهم الدنيوية والإسلام يدعو إلى إيثار الآخرة على الأولى.

الإيضاح

الإيضاح (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي من كان حظهم من الدنيا التمتع بلذاتها من طعام وشراب، وزينتها من اللباس والأثاث والرياش والأموال والأولاد دون استعداد للحياة الآخرة بعمل البر والإحسان وتزكية النفس بعمل الطاعات بباعث الإيمان- نؤد إليهم ثمرات أعمالهم وافية تامة بحسب سنتنا فى الأسباب ولا ينقصون شيئا من نتاج كسبهم لأجل كفرهم، إذ مدار الأرزاق فيها على الأعمال لا على النيات والمقاصد، وإن كان لهداية الدين أثر فى ذلك كالاستقامة والصدق، واجتناب الخيانة والزور والغش ونحو ذلك. والخلاصة- إن جزاء الأعمال فى الدنيا منوط بأمرين: كسب الإنسان، وقضاء الله وقدره به، وأما جزاء الآخرة فهو بفعل الله تعالى بلا وساطة أحد. «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هؤلاء الذين لا همّ لهم إلا الدنيا وزينتها، ليس لهم فى الآخرة إلا النار، لأن الجزاء فيها على الأعمال كالجزاء فى الدنيا، وهم لم يعملوا للآخرة شيئا، فإن العمل لها يكون بتزكية النفس بالإيمان وعمل الفضائل- وبالتقوى باجتناب المعاصي والرذائل، وما صنعوه فيها مما ظاهره البر والإحسان كالصدقة وصلة الرحم ونحو ذلك لم يكن تزكية لأنفسهم تقرّبهم إلى ربهم، بل كان لأغراض نفسية من شهواتها كالرياء والسمعة والاعتزاز بذوي القرابة على الأعداء ولو بالباطل، فلا أجر له فيها وقد انقطع أثره الدنيوي. وقد جاء فى معنى الآية قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ

[سورة هود (11) : آية 17]

وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» وقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» . والخلاصة- أن الدين يبيح التمتع بالطيبات من المآكل والمشارب، ويبيح الزينة فى غير سرف ولا خيلاء، على شريطة ألا يجعلها المرء كل همه فى الحياة، فيحتقر المواهب الإنسانية من عقلية وروحية وهى التي سما بها الإنسان على غيره من المخلوقات، ألا ترى أن الثور يفضله فى كثرة الأكل، والبعير فى كثرة الشرب، والعصفور فى كثرة السّفاد، والطاوس فى الزينة ولمعان اللباس. [سورة هود (11) : آية 17] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) تفسير المفردات البينة: ما يتبين به الحق كالبرهان فى الأمور العقلية، والنصوص فى الأمور النقلية، والتجارب فى الأمور الحسية، والشهادة فى القضاء، ويتلوه: يتبعه، والشاهد: هو القرآن، والموعد: مكان الوعد وهى النار يردها كما قال: «لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ» والمرية: الشك

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه مآل من كان يريد الدنيا وزينتها ولا يهتمّ بالآخرة وأعمالها- قفى على ذلك بذكر من كان يريد الآخرة ويعمل لها، وكان على بينة من ربه فى كل ما يعمل ومعه شاهد يدل على صدقه، وهو القرآن، ومآل من أنكر صحته وكفر به. الإيضاح (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) أي أفمن كان على نور وبصيرة فى دينه ويؤيده نور غيبى يشهد بصحته وهو القرآن المشرق النور والهدى، ويؤيده شاهد آخر جاء من قبله. وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام حال كونه إماما متّبعا فى الهدى والتشريع، ورحمة لمن آمن وعمل به من بنى إسرائيل (وشهادة موسى لهذا النبي الكريم شهادة مقال بالبشارة بنبوته، وشهادة حال وهى التشابه بين رسالتيهما) - أي أفمن كان على هذه الأوصاف كمن يريد الحياة الفانية وزينتها الموقوتة، ويظل محروما من الحياة العقلية والروحية التي توصل إلى سعادة الآخرة الباقية. ونحو الآية قوله: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» وإجمال المعنى- أفمن كان كامل الفطرة والعقل، وعرف حقيقة الوحى وهو القرآن وما فيه من نور وهداية، وعرف تأييده بالوحى السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل، فتظاهرت لديه الحجج الثلاث فى الهداية (كمال الفطرة، ونور القرآن والوحى الذي أنزل على موسى) كمن حرم من ذلك وكان همه مقصورا على الحياة الفانية ولذاتها. (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي أولئك الذين جمعوا بين البينة الوهبية، والبينة الكسبية النقلية، يؤمنون بهذا القرآن إيمان يقين وإذعان، على علم بما فيه من الهدى والفرقان، فيجزمون بأنه ليس بالمفترى من دون الله ولم يكن من شأنه أن يكون كذلك.

[سورة هود (11) : الآيات 18 إلى 24]

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أي ومن يكفر بهذا القرآن فيجحد أنه من عند الله ممن تحزبوا من أهل مكة وزعماء قريش للصدّ عنه. قال مقاتل هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي وآل طلحة بن عبيد الله، والذين سيتحزبون لمثل ذلك من أهل الكتاب- فإنه يصير إلى جهنم من جرّاء تكذيبه لوعيده الذي جاء فى نحو قوله «أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ» . (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي فلا تكن أيها المكلف فى شك من أمر هذا القرآن إنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه آتيا من ربك وخالقك الذي يربّيك بما تكمل به فطرتك، ويوصلك إلى سعادتك فى دنياك وآخرتك. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون هذا الإيمان الكامل، أما المشركون منهم فلاستكبار زعمائهم ورؤسائهم، وتقليد مرءوسيهم وعامتهم لهم، وأما أهل الكتاب فلتحريفهم دين أنبيائهم وابتداعهم فيه. [سورة هود (11) : الآيات 18 الى 24] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأشهاد: واحدهم شاهد، واللعنة: الطرد من الرحمة، والصدّ عن سبيل الله: الصرف عنه، والعوج: الالتواء، ومعجزين فى الأرض، أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابه، وضل: أي غاب، ولا جرم: أي حقا، وأخبتوا: أي خشعوا وخضعوا وأصله من الخبت، وهو الأرض المطمئنة. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فيما سبق أن الناس فريقان: فريق يريد الدنيا وزينتها وفريق على بينة من ربه، قفّى على ذلك ببيان حال كل من الفريقين فى الدنيا وما يكون عليه فى الآخرة. الإيضاح (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله كذبا فى أقواله أو أفعاله، أو أحكامه أو صفاته، أو فى اتخاذ الشفعاء والأولياء له بدون إذنه أو فى زعم أنه اتخذ له ولدا من الملائكة كالعرب الذين قالوا الملائكة بنات الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، أو فى تكذيب ما جاء به رسله من دينه لصدّ الناس عن سلوك سبيله.

(أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي ويوم القيامة تعرض أعمال هؤلاء وأقوالهم على ربهم لمحاسبتهم، ويقول الذين يقومون للشهادة عليهم من الملائكة والأنبياء وصالحى المؤمنين: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم بالافتراء عليه، ويفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة باللعنة الدالة على خروجهم من محيط الرحمة. وقد جاء فى معنى الآية قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» وفى حديث ابن عمر فى الصحيحين وغيرهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدنى المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى فى نفسه أنه قد هلك قال فإنى سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول: الأشهاد (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) » . (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي إن الظالمين هم الذين يمنعون الناس ويصرفونهم عن سبيل الله (وهى دينه القيم وصراطه المستقيم) ويصفونها بالعوج والالتواء لينّفروا الناس منها، والحال أنهم كافرون بالآخرة لا يؤمنون ببعث ولا جزاء. (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) أي إن هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله لم يكونوا بالذين يعجزون ربهم بهربهم منه فى الأرض إذا أراد عقابهم، بل هم فى قبضته وملكه، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربا إذا طلبهم، ولم يكن لهم أنصار ينصرونهم من دونه ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذّبهم، ويضاعف لهم العذاب من أجل ضلالهم وإضلالهم.

ثم بين علة هذه المضاعفة بقوله: (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاء لدعوة الحق، لاستحواذ الباطل على أنفسهم ورين الكفر والظلم على قلوبهم، كما حكى الله عنهم بقوله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» وما كانوا يبصرون ما يدل على صدقه فى الأنفس وفى الآفاق. وإجمال المعنى- إنهم لشدة انهماكهم فى الكفر واتباع الهوى والشهوات صاروا يكرهون الحق والهدى، فيثقل عليهم سماع ما يبينه من الآيات السمعية وما يثبته من الآيات البصرية، فهم قد ختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم فلا يسمعون الحق سماع منتفع ولا يبصرون حجج الله إبصار مهتد. (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي أولئك الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله، بافترائهم عليه واشتراء الضلالة بالهدى، وبطل كذبهم بادعاء أن له شركاء وشفعاء يقربونهم إليه زلفى، ثم سلك بما كانوا يدعونه من دون الله غير مسلكهم إذ سلك بهم إلى جهنم وصارت آلهتهم عدما لأنها كانت فى الدنيا أحجارا أو خشبا أو نحاسا، وذلك هو ضلالهم وبعدهم عنهم. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي حقا إنهم فى الآخرة أشد الناس خسرانا، إذ هم قد اعتاضوا عن نعيم الجنان، بحميم آن، وعن شرب الرحيق المختوم، بسموم وحميم، وظلّ من يحموم، وعن الحور العين، بطعام من غسلين، وعن قرب الرحمن، بعقوبة الملك الديان. وبعد أن بين حال الكافرين وأعمالهم ومآلهم، بيّن حال المؤمنين وعاقبة أمرهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا فى الدنيا الأعمال الصالحة، فأتوا

[سورة هود (11) : الآيات 25 إلى 27]

بالطاعات وتركوا المنكرات، وخشعت نفوسهم واطمأنت إلى ربهم- أولئك هم قطّان الجنة الذين لا يخرجون منها ولا يموتون، بل هم ما كثون فيها أبدا. (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أي مثل فريقى الكافرين والمؤمنين وصفتهما الحسية التي تطابق حالهما كمثل الأعمى الفاقد لحاسة البصر فى خلقته، والأصم الفاقد لحاسة السمع الذي حرم وسائل العلم والمعرفة الإنسانية والحيوانية، ومن هو كامل حاستى السمع والبصر، فهو يستمد العلم من آيات الله فى خلقه بما يسمع من القرآن وبما يرى فى الأكوان، وهما وسيلتا العلم والهدى لعقل الإنسان. (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي هل يستوى الفريقان صفة وحالا ومآلا؟ كلا، إنهما لا يستويان، أتغفلون عن ذلك المثل الجلى الواضح أفلا تتذكرون ما بينهما من التباين والاختلاف فتعتبروا به؟ وإجمال المعنى- إنه شبه الكافرين بالعمى الذين لا يستعملون أبصارهم فيما يفضلون به الحيوان العجم من فهم آيات الله التي تزيدهم علما وهدى، وبالصمّ الذين لا يسمعون داعى الله إلى الرشاد والهدى فيجيبونه ويهتدون به، وشبه المؤمنين الذين انتفعوا بأسماعهم وأبصارهم واهتدوا إلى الجنة وتركوا ما كانوا خابطين فيه من كفر وضلال، بحال من هو سميع بصير فيهتدى بسمعه إلى ما يبعده من مواضع الهلاك، ويهتدى ببصره بواسطة النور حين السير فى الظلام. قصة نوح عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الملأ: الأشراف والزعماء وأراذل: واحدهم أرذل، وهو الخسيس الدنيء، وبادى الرأى: أي ظاهره قبل التأمل فى باطنه، وفضل: أي زيادة. المعنى الجملي بعد أن ذكر بعثة النبي الكريم، وأثبت بالبرهان أنه رسول من رب العالمين، وأن القرآن وحي من الرحمن الرحيم، قفىّ على ذلك بقصص الأنبياء قبله ليبين لقومه أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل وأنه إنما بعث بمثل ما بعث به من قبله من الدعوة إلى عبادة الله وحده والإيمان بالبعث والجزاء، فحاله معهم كحال من قبله من الرسل عليهم السلام مع أقوامهم جملة وتفصيلا كما قال: «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا» . الإيضاح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه قائلا لهم إنى لكم نذير من الله أنذركم بأسه على كفركم به، فآمنوا به وأطيعوا أمره. ثم فسر هذا الإنذار بقوله: (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي بألا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا، وكانوا أول من أشرك بالله واتخذوا الأنداد، وكان هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض.

[سورة هود (11) : الآيات 28 إلى 31]

ثم علل هذا بقوله: إنى أخاف عليكم إلخ، أي إن لم تخصوه بالعبادة وتفردوه بالتوحيد وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان- أخف عليكم من الله عذاب يوم مؤلم عقابه وعذابه، لمن عذّب فيه. وقد أجابوه عن مقالته بأربع حجج داحضة ظنا منهم أنها تكفى فى رد دعوته. (1) (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) أي إن الأشراف والزعماء بادروا إلى الجواب بقولهم: ما أنت إلا بشر مثلنا فى الجنس لا مزية لك علينا تجعلنا نطيعك ونذعن لنبوتك. (2) (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) أي وإنا لم نر متبعيك إلا الأخساء كالزرّاع والصناع ومن فى حكمهم فى المكانة الاجتماعية، بادى الرأى قبل التأمل فى عواقبه، والنظر فى مستنده، وترجيح العقل له، وهذا مما يرجح رد الدعوة والتولي عنها. (3) (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي وما نرى لك ولمن اتبعك أدنى امتياز عنا من قوة أو كثرة أو علم أو أصالة رأى يحملنا على اتباعكم ويجعلنا ننزل عن جاهنا ومالنا ونكون نحن وأنتم سواء. (4) (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) أي بل إنا نرجح الحكم عليك وعليهم بالكذب، فأنت كاذب فى دعوى النبوة، وهم كاذبون فى تصديقك، وهذه الشبهة الأخيرة طعن على نوح عليه السلام أشركوا فيها أتباعه ولم يجابهوه بها وحده كما أنهم جعلوها ظنا ولم يجزموا بها، لأن ذلك كاف فى رد دعوته، وعدم الدخول فى دينه. [سورة هود (11) : الآيات 28 الى 31] قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أرأيتم: أي أخبرونى، والبينة. ما يتبين به الحق، وعميت: أخفيت، وطرده: أبعده ونحّاه، وتجهلون: أي تسفهون عليهم، وهو من الجهالة التي تضادّ العقل والحلم، وتذكرون أصله تتذكرون، وزرى على فلان زراية: عابه واستهزأ به. المعنى الجملي بعد أن ذكر مقالتهم وطعنهم فى نوح عليه السلام بتلك الشبه السالفة، قفى على ذلك بدحض نوح لها، ورد شبهات أخرى قد تكون صدرت منهم ولم يحكها، لعلها من الرد عليها، وربما لم يقولوها وإن كان كلامهم يستلزمها، وهذا من خواصّ أسلوب الكتاب الكريم، وسرّ من أسرار بلاغته. الإيضاح (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي قال يا قومى: أخبرونى ماذا ترون وماذا تقولون، إن كنت على حجة فيما جئتكم به من ربى يتبين لى بها أنه الحق من عنده، لا من عندى ومن كسبى البشرى الذي تشاركوننى فيه، وآتاني رحمة من عنده وهى النبوة وتعاليم الوحى التي هى سبب رحمة

خاصة لمن يهتدى بها، فحجبها عنكم جهلكم وغروركم بالمال والجاه فلم تتبينوا منها ما تدل عليه من التفرقة بينى وبينكم، فمنعتم فضل الله عنى بحرمانى من النبوة. (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي أنكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين لها، كلا، إنا لا نفعل ذلك، بل نكل أمركم إلى الله حتى يقضى فى أمركم ما يرى ويشاء، وما علىّ إلا البلاغ. وهذا أول نصّ فى دين الله على أنه لا ينبغى أن يكون الإيمان بالإكراه. وفى هذه الآية إثبات لنبوته عليه السلام، وردّ لإنكارهم لها وتكذيبه ومن معه فيها، وإبطال لشبهتهم فى أنه بشر مثلهم، وقد فاتهم أن المساواة فى البشرية لا تقتضى استواء أفراد الجنس فى الكمالات والفضائل؟ فالمشاهدة والتجارب تدل على التفاوت العظيم بين أفراد البشر فى العقل والفكر والرأى والأخلاق والأعمال، حتى إن الواحد منهم ليأتى بضروب من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل يعجز عن مثلها الألوف من الناس فى أجيال كثيرة. والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عرا فما بالك بمن يختصهم الله من عباده بما شاء مما لا كسب لهم فيه كالأنبياء والرسل الكرام. (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) أي لا أسألكم على نصيحتى لكم ودعوتكم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له إلا خيركم ومصلحتكم ولا أريد بذلك مالا فأكون متهما فيه عندكم لمكانة حبّ المال من أنفسكم واعتزازكم به علىّ وعلى الفقراء من أتباعى، فما أجري على ذلك إلا على الله الذي أرسلنى، فهو الذي يجازينى ويثيبنى عليه. ومثل هذه المقالة قد صدرت من جميع الأنبياء بعده، فجاءت على لسان هود وصالح وشعيب ومحمد، صلوات الله عليهم أجمعين كما ترى ذلك فى سورة الشعراء محكيا عنهم.

(وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليس من شأنى ولا بالذي يكون منى أن أبعد من يؤمن بي، وأنحّيه عنى احتقارا له على أىّ حال كانت صفته. وفى هذا إيماء إلى الجواب عن قولهم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) وقد روى أنهم قالوا له يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء، فإنا لن نرضى أن نكون نحن وهم فى الأمر سواء. ثم علل الامتناع من طردهم بقوله: (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي إن هؤلاء الذين تسألوننى طردهم- صائرون إلى ربهم وهو سائلهم عما كانوا يعملون فى الدنيا، ولا يسألهم عن حسبهم وشرفهم. (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي تجهلون ما يمتاز به البشر بعضهم عن بعض من اتباع الحق والتحلي بالفضائل وعمل البر والخير، وتظنون أن الميزة إنما تكون بالمال والجاه. وقد جاء هذا المعنى فى قصته من سورة الشعراء: «قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ. قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» . (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي ويا قوم لا أجد أحدا يمنع عنى ما أستحقه من عقاب الله إن طردتهم بعد إيمانهم واتباعهم إياى فيما بلغتهم- فإن ذلك ظلم عظيم يستحق شديد العقاب مهما تكن صفة من اجترحه كما قال فى سورة الأنعام: «فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» . (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتفكرون فيما تقولون، وهو ظاهر الخطأ لائحه فتنتهوا عنه؟، فإن لهم ربّا ينصرهم وينتقم لهم. (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ) أي ولا أقول لكم بادعائى للنبوة والرسالة إن عندى خزائن رزق الله: (أنواع رزقه التي يحتاج إليها عباده للانفاق منها)

أتصرّف فيها بغير وسائل الأسباب المسحرة لسائر الناس، فأنفق على نفسى وعلى من تبعني بالتصرف فيها بخوارق العادات، بل أنا وغيرى فى الكسب سواء، إذ ذلك ليس من موضوع الرسالة ولا من خصائص النبي، ولو كان كذلك لا تبع الناس الرسل لأجلها. بل الغاية من بعث الرسل تزكية الأنفس بمعرفة الله وعبادته، وتأهيلها لمثوبته فى دار كرامته، ورضاه عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون. (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فلا أمتاز عن سائر البشر بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبي من مصالحهم ومنافعهم ومضارهم فى معايشهم وكسبهم، فأخبر بها أتباعى ليفضلوا عليكم، ومن ثم أمر الله نبيه أن يقول لقومه: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) من الملائكة أرسلت إليكم فأكون كاذبا فيما أدعى، بل أنا بشر مثلكم أمرت بدعائكم إلى الله وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم. وفى هذا دحض لشبهتهم، إذ زعموا أن الرسول من الله إلى البشر يجب أن يفضلهم ويمتاز عنهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يكون ملكا يعلم ما لا يعلمه البشر، ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر. (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً) أي ولا أقول للذين اتبعونى وآمنوا بالله وحده، وأنتم تنظرون إليهم نظرة استصغار واحتقار فتزدريهم أعينكم لفقرهم ورثاثة حالهم: لن يؤتيهم الله خيرا وهو ما وعدوه على الأيمان والهدى من سعادة الدنيا والآخرة. (اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أي الله أعلم بما فى صدورهم وبما آتاهم من الإيمان على بصيرة، ومن اتباع رسوله بإخلاص وصدق سريرة، لا كما زعمتم من اتباعهم إياى بادى الرأى بلا بصيرة ولا علم. (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إنى إذا قضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته لى ألسنتهم على غير علم منى بما فى نفوسهم أكون ظالما لهم بهضم حقوقهم.

[سورة هود (11) : الآيات 32 إلى 34]

[سورة هود (11) : الآيات 32 الى 34] قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) تفسير المفردات أصل الجدال. هو الصراع وإسقاط المرء صاحبه على الجدالة وهى الأرض الصّلبة ثم استعمل فى المخاصمة والمنازعة بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، والنصح: تحرّى الخير والصلاح للمنصوح له، والإخلاص فيه قولا وعملا، والإغواء: الإيقاع فى الغى، وهو الفساد الحسى والمعنوي، والإجرام: الفعل القبيح الضارّ الذي يستحق فاعله العقاب. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه شبهاتهم فى رفض نبوة نوح عليه السلام وردّ نوح عليهم بما فيه مقنع لهم لو كانوا يعقلون، ذكر هنا مقالتهم التي تدل على العجز والإفحام، وأن الحيل قد ضاقت عليهم فلم يجدوا للرد سبيلا، وفى ذلك إيماء إلى أن الجدال فى تقرير أدلة التوحيد والنبوة والمعاد وفى إزالة الشبهات عنها هى وظيفة الأنبياء، والتقليد والجهل والإصرار على الباطل والإنكار والجحود هو ديدن الكفار المعاندين.

الإيضاح

الإيضاح (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له: قد حاججتنا فأكثرت جدالنا واستقصيت فيه فلم تدع حجة إلا ذكرتها حتى مللنا وسئمنا ولم يبق لدينا شىء نقوله كما قال فى سورة نوح حكاية عنه: «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» أي فأتنا بما تعدنا من عذاب الله الدنيوي الذي تخافه علينا وهو الذي أراده بقوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) إن كنت صادقا فى دعواك أن الله يعاقبنا على عصيانه فى الدنيا قبل عقاب الآخرة. (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي قال لهم نوح حين استعجلوا العذاب: يا قوم إن هذا العذاب بيد الله لا أملكه وهو الذي يأتيكم به إن تعلقت مشيئته فى الوقت الذي تقتضيه حكمته، ولستم بفائتيه هربا منه إن أخره لحكمة يعلمها، وهو واقع لا محالة متى شاء، لأنكم فى ملكه وسلطانه، وقدرته نافذة عليكم. (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي إن نصحى لكم لا ينفعكم بمجرد إرادتى له فيما أدعوكم إليه، بل يتوقف نفعه على إرادة الله تعالى له، وقد مضت سنته كما دلت عليه التجارب أن النصح إنما يقبله المستعد للرشاد، ويرفضه من غلب عليه الغى والفساد، باجتراحه أسبابه من غرور بغنى وجاه، أو باتباع هوى وحب شهوات، تمنع من طاعة الله تعالى. والخلاصة- إن معنى إرادة الله إغواءهم اقتضاء سننه فيهم أن يكونوا من الغاوين لا خلقه للغواية فيهم ابتداء من غير عمل منهم ولا كسب لأسبابها، فإن الحوادث مرتبطة بأسبابها والنتائج متوقفة على مقدماتها. (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي هو مالك أموركم ومدبرها بحسب سننه المطردة

[سورة هود (11) : آية 35]

فى الدنيا، ولكل شىء عنده قدر، ولكل قدر أجل، وإليه ترجعون فى الآخرة فيجازيكم بما كنتم تعملون من خير وشر، ولا تظلمون نقيرا. [سورة هود (11) : آية 35] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) المعنى الجملي قال مقاتل وغيره: هذه الآية معترضة فى قصة نوح حكاية لقول مشركى مكة فى تكذيب هذه القصص. وللجمل والآيات المعترضة فى القرآن حكم وفوائد، منها تنبيه الأذهان ومنع السآمة وتجديد النشاط بالانتقال من غرض إلى آخر والتشويق إلى سماع بقية الكلام، ومن المتوقع هنا أن يخطر فى بال المشركين حين سماع ما تقدم من هذه القصة أنها مفتراة، لاستغرابهم هذا السبك فى الجدال، والقوة فى الاحتجاج فكان إيراد هذه الآية تجديد للرد عليهم وتجديدا لنشاطهم. الإيضاح (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل أيقول مشركو مكة: إن محمد افترى خبر قوم نوح. فأمره الله أن يجيبهم بقوله: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي إن كنت افتريته على الله كما تزعمون فما عليكم فى ذلك من بأس، إنما إثم ذلك وعقابه علىّ، ومن كان يؤمن أن هذا إجرام يعاقب عليه فاعله، فما الذي يحمله على اقترافه؟. (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي كما أنى برىء من آثامكم وذنوبكم، فحكم الله العدل أن يجزى كل امرئ بعمله كما قال: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» .

[سورة هود (11) : الآيات 36 إلى 39]

[سورة هود (11) : الآيات 36 الى 39] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) تفسير المفردات ابتأس: اشتد بؤسه وحزنه، والفلك: السفينة، ويطلق على الواحد والجمع، والمراد بالأعين هنا: شدة الحفظ والحراسة، وسخر منه: استهزا به، ويخزيه: يذله ويفضحه: ومقيم: أي دائم: المعنى الجملي بعد أن أخبر سبحانه أن نوحا قد أكثر فى حجاجهم وجدالهم، وأنه كلما ازداد فى ذلك زادوا عتوّا وطغيانا حتى تعجلوا منه العذاب وقالوا له: ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين- قفّى على ذلك بذكر ما أيأسه من إيمانهم وأعلمه بأن ذلك كالمحال الذي لا يكون فالجدال والحجاج معهم عبث ضائع، فلن يؤمن منهم إلا من قد حصل منه إيمان من قبل. فإياك أن تغتمّ على ما كان منهم من تكذيب فى تلك الحقبة الطويلة، فقد حان حينهم وأزف وقت الانتقام منهم. الإيضاح (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي وأوحى الله إلى نوح بعد أن استعجل قومه العذاب، ودعا عليهم دعوته

التي حكاها الله عنه «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» : أنه لن يؤمن أحد منهم فيتّبعك على ما تدعوه إليه إلا من قد آمن من قبل فيظل على إيمانه فلا يشتدنّ عليك البؤس والحزن بعد اليوم، بما كانوا يفعلون فى السنين الطوال من العناد والإيذاء والتكذيب لك ولمن آمن معك، فأرح نفسك بعد الآن من جدالهم ومن إعراضهم واحتقارهم، فقد آن زمن الانتقام، وحان حين العذاب. (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي واصنع الفلك الذي سننجيك ومن آمن معك فيه وأنت محروس ومراقب برعايتنا، أي إننا حافظوك فى كل آن، فلا يمنعك من حفظنا مانع، وملهموك ومعلموك بوحينا كيف تصنعه، فلا يعرضنّ لك خطأ فى صنعته ولا فى وصفه. ونحو الآية قوله لموسى «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» وقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» . (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي ولا تراجعنى فى شىء من أمرهم من دفع العذاب عنهم وطلب الرحمة لهم، فقد حقت عليهم كلمة العذاب وقضى عليهم بالإغراق. والخلاصة- لا تأخذنك بهم رأفة ولا شفقة. (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي وشرع يصنع الفلك وكلما مر عليه جماعة من كبراء قومه استهزءوا به وضحكوا منه، وتنادروا عليه ظنا منهم أنه أصيب بالهوس والجنون. روى أنهم قالوا له: أتحولت نجارا بعد أن كنت نبيّا، وليس ذلك بالغريب منهم فإنه ما من أحد يسبق أهل عصره بما فوق عقولهم من قول أو فعل إلا سخروا منه قبل أن يكتب له النجاح فيه.

[سورة هود (11) : الآيات 40 إلى 44]

(قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي قال نوح مجيبا لهم عن سخريتهم، إن تسخروا منا اليوم وتستجهلونا لرؤيتكم ما لا تتصورون له فائدة، فإنا نسخر منكم كما تسخرون جزاء وفاقا، نسخر منكم اليوم لجهلكم، وغدا لما سيحلّ بكم. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي فإن كنتم لا تعلمون اليوم فائدة ما نعمل وما له من عاقبة محمودة فسوف تعلمون بعد تمامه من يأتيه عذاب يفضحه ويجلب له العار والخزي فى الدنيا وهو عذاب الغرق، ويحل عليه عذاب دائم فى الآخرة بعد ذلك، وكل ما فى الدنيا فهو هيّن لين بالنسبة إلى ما يكون فى الآخرة لانقضائه وزواله، وبقاء ذاك ودوامه. [سورة هود (11) : الآيات 40 الى 44] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) تفسير المفردات الفور والفوران: الارتفاع القوى، يقال فى الماء إذا نبع وجرى، وإذا غلا

المعنى الجملي

وارتفع، والمراد منه هنا اشتداد غضب الله على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس، وحلول وقت انتقامه منهم، والتنور: ما يخبز فيه الخبز، اتفقت فيه لغة العرب والعجم وأهل بيت الرجل: نساؤه وأولاده وأزواجهم، ومجريها ومرساها: أي إجراؤها وإرساؤها، ومعزل: أي مكان عزلة وانفراد، وآوى: أي ألجأ، وعصمه: حفظه، والبلع: ازدراد الطعام والشراب بسرعة، وغاض الماء غار فى الأرض ونضب، والجودي: جبل بالموصل. المعنى الجملي هذه الآيات غاية لما ذكر قبلها من الاستعداد لهلاكهم، ومقابلة السخرية بغير ابتئاس ولا ضجر. الإيضاح (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) أي حتى إذا جاء وقت أمرنا بهلاكهم، ونبع الماء من التنور وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها، وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام، والأقرب أن يكون المراد من التنور وجه الأرض، ويكون المعنى حتى إذا نبع الماء من وجه الأرض. (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي حتى إذا أمرنا قلنا لنوح آنئذ: احمل فى السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين ذكرا وأنثى، لتبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض. (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل فيها أهل بيتك ذكرانا وإناثا إلا من سبق عليه القول بأنهم من المغرقين بسبب ظلمهم كما قال: (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) واحمل من صدقك واتبعك من قومك. (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) منهم، قيل إنهم كانوا ثمانية: نوحا عليه السلام وأهله

وأبناءه الثلاثة وأزواجهم، ولم يبين الله ورسوله لنا عددهم، فحصره فى عدد معين من قبيل الحدس والتخمين، كما لم يبين لنا أنواع الحيوان التي حملها ولا كيف حملها وأدخلها السفينة، وقد فصل ذلك فى سفر التكوين. (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي فحملهم نوح وقال اركبوا فيها باسم الله جريانها وإرساؤها، فهو الذي يتولّى ذلك بحوله وقوته، وحفظه وعنايته، وقد يكون المعنى: إن نوحا أمرهم بأن يقولوها كما يقولها على تقدير: اركبوا فيها قائلين باسم الله أي بتسخيره وقدرته مجراها حين تجرى، ومرساها حين يرسيها، لا بحولنا ولا بقوتنا. (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربى لواسع المغفرة لعباده حيث لم يهلكهم بذنوبهم، بل يهلك الكافرين الظالمين منهم، رحيم بهم إذ سخر لهم هذه السفينة لنجاة بقية الإنسان والحيوان من هذا الطوفان الذي اقتضته مشيئته. أخرج الطبراني وغيره عن الحسن بن على رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمان لأمتى من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: باسم الله الملك الرحمن الرحيم (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) الآية» . (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) أي هى تجرى بهم فى موج يشبه الجبال فى علوه وارتفاعه وامتداده، ومن كابد ما يحدث فى البحار العظيمة من الأمواج حين ما تهيجها الرياح الشديدة عرف أن المبالغة فى هذا التشبيه غير بعيدة، فإن السفينة لترى كأنها تهبط فى غور عميق كواد سحيق يرى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليها، وبعد هنيهة يرى أنها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنها فى شاهق جبل تريد أن تنقضّ منه، والملاحون يربطون أنفسهم بالحبال على ظهرها وجوانبها لئلا يجرفهم ما يفيض من الموج عليها. ثم بين أن نوحا دعته الشفقة على ابنه فناداه كما أشار إلى ذلك بقوله: (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ)

أي وناداه حين الركوب فى السفينة، وقبل أن تجرى بهم، وكان فى مكان منعزل بعيد عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه، يا بنى اركب معنا الفلك ولا تكن مع الكافرين الذين قضى عليهم بالهلاك. فردّ ابنه عليه: (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي قال سأصير إلى جبل أتحصن به من الماء فيحفظنى من الغرق: فأجابه نوح مبيّنا له خطأه: (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أي قال نوح لابنه لا شىء يعصم أحدا فى هذا اليوم العصيب من عذاب الله الذي قضاه على الكافرين، فليس الأمر أمر ماء يتّقى بالأسباب العادية، وإنما هو انتقام من أشرار العباد الذين أشركوا بالله وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بطغيانهم فى البلاد، لكنه يحفظ من رحم ويعصمه، وقد اختص بهذه الرحمة من حملهم فى السفينة، وكان الماء قد بدأ يرتفع أثناء الحديث حتى حال بين الولد ووالده فكان من المغرقين الهالكين. وقد وصف سبحانه هذا الطوفان فى سورة القمر قال: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» . وإنه لمنظر تشيب من هوله الولدان، ماء ينهمر من السماء انهمارا، وأرض تتفجر فتفيض ماء ثجاجا يصير بحرا متلاطم الأمواج، تغطت من تحته الأرض بجبالها ووديانها،

[سورة هود (11) : الآيات 45 إلى 49]

وخفيت من فوقه السماء بكواكبها وشمسها، وكانت عليه السفينة كما كان عرش الله على الماء فى بدء التكوين. ثم ذكر ما حدث بعد هلاكهم مبينا قدرته تعالى فقال: (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجاء نداء من الملأ الأعلى خوطبت به الأرض والسماء: يا أرض ابلعي ماءك الذي عليك والذي تفجر من باطنك، ويا سماء كفّى عن المطر، فلم يلبث أن غاض الماء امتثالا للأمر، وقضى الأمر بإهلاك الظالمين واستقرت السفينة راسية على جبل الجودي، وقيل هلاكا وسحقا للظالمين، وبعدا لهم من رحمة الله بما كان من ظلمهم وفقدهم الاستعداد للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل. [سورة هود (11) : الآيات 45 الى 49] وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

المعنى الجملي

المعنى الجملي الآيات الثلاث الأولى تبين أن حكم الله فى خلقه العدل بلا محاباة لولىّ ولا نبى، وأن الأنبياء قد يجوز عليهم الخطأ فى الاجتهاد ويعدّ ذلك ذنبا بالنظر إلى مقامهم الرفيع ومعرفتهم بربهم، وذلك ما عرض له نوح عليه السلام من الاجتهاد فى أمر ابنه الذي تخلّف عن السفينة فكان من المغرقين، كما أن فى الآية الأخيرة استدلالا على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وطلب صبره على أذى قومه. الإيضاح (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أي ونادى نوح ربه إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة ودعاه إليها فلم يستجب، فقال يا رب إن ابني هذا من أهلى الذي وعدتني بنجاتهم إذ أمرتنى بحملهم فى السفينة، وإن وعدك الحق الذي لا خلف فيه، وأنت خير الحاكمين بالحق، كما قلت «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» فحكمك يصدر عن كمال العلم والحكمة فلا يعرض له الخطأ ولا الحيف والظلم. والخلاصة- إن نوحا كان يريد أن ينجو ابنه الذي تخلف عن السفينة من الغرق بعد أن دعاه إليها، ومن البيّن أن هذا الدعاء لا بد أن يكون بعد المحاورة مع ابنه قبل أن يحول بينهما الموج. (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي قال تعالى: يا نوح إنه ليس من أهلك الذين أمرتك أن تحملهم فى الفلك لإنجائهم، وقد بين سبحانه سبب ذلك بأنه ذو عمل غير صالح: أي فهو يتنكّب الصلاح ويلتزم الفساد.

(فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي فلا تسألنى فى شىء ليس لك به علم صحيح، وقد سمى دعاءه سؤالا، لأنه تضمن ذكر الوعد بنجاة أهله، ومارتبه عليه من طلب نجاة ولده. وفى الآية إيماء إلى أنه لا يجوز الدعاء بطلب ما هو مخالف لسنن الله فى خلقه بإرادة قلب نظام الكون لأجل الداعي، ولا بطلب ما هو محرم شرعا، وإنما يجوز الدعاء بتسخير الأسباب والتوفيق فيها والهداية إلى العلم بالمجهول من السنن والنظام، لنكثر من عمل الخير، ونزيد من عمل البر والإحسان. (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي إنى أنهاك أن تكون من زمرة من يجهلون، فيسألونه تعالى أن يبطل حكمته وتقديره فى خلقه، إجابة لشهواتهم وأهوائهم فى أنفسهم أو أهليهم أو محبيهم. وفى ذلك دليل على أن من أكبر الجهالات أن نسأل بعض الصالحين والأولياء ما نهى الله عنه نبيّا من أولى العزم من رسله أن يسأله إياه، فإن ذلك يقضى بأن الله يعطيهم ما لم يعط مثله لرسله. ثم ذكر طلب نوح المغفرة من ربه على ما فرط منه من السؤال فقال حاكيا عنه: (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي قال نوح رب إنى ألتجئ إليك وأحتمى بك من أن أسألك بعد الآن شيئا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة، وإن لم تغفر لى ذنب هذا السؤال الذي سوّلته لى الرحمة الأبوية وطمعى فى الرحمة الربانية، وترحمنى بقبول توبتى برحمتك التي وسعت كل شىء- أكن من الخاسرين فيما حاولته من الربح بنجاة أولادى كلهم وسعادتهم بطاعتك وأنت أعلم بهم منى. والعبرة فى الآية من وجوه: (1) إن ما سأله نوح لابنه لم يكن معصية لله تعالى خالف فيها أمره أو نهيه، وإنما

كان خطأ فى اجتهاد بنية صالحة، وعدّ هذا ذنبا، لأنه ما كان ينبغى لمثله من أرباب العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء، فهم يقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم حينا بعد حين. (2) إنه لا علاقة للصلاح بالوراثة والأنساب، بل يختلف ذلك باختلاف استعداد الأفراد وما يحيط بهم من البيئة والآراء والمعتقدات، ولو كان للوراثة تأثير كبير لكان جميع أولاد آدم سواء، ولكان سلائل أبناء نوح المؤمنين الذين نجوا معه فى السفينة كلهم مؤمنين. (3) إنه تعالى يجزى الناس فى الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، لا بأنسابهم، ولا يحابى أحدا منهم لأجل الآباء والأجداد وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين. (4) إن من يغترّ بنسبه ولا يعمل ما يرضى ربه، ويزعم أنه أفضل من العلماء العاملين والأولياء الصالحين، فهو جاهل بكتاب ربه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قال الذي بيده ملكوت كل شىء ومدبر أمر العالم كله لنوح، بعد أن انتهى الطوفان، وأقلعت السماء عن المطر، وابتلعت الأرض ماءها وصارت السكنى على الأرض والعمل عليها سهلا ممكنا: يا نوح اهبط من الجودي الذي استوت عليه السفينة، ممتّعا بسلام وتحية. منا كما قال تعالى «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ» وبركات فى المعايش والأرزاق تفيض عليك وعلى من معك فى السفينة وعلى ذريات يتناسلون منهم ويتفرقون فى الأرض فيكونون أمما مستقلا بعضها من بعض، ومنهم أمم آخرون من بعدهم سنمتعهم فى الدنيا بالأرزاق والبركات، ولا يصيبهم لطف من ربهم ورحمة منه كما يصيب المؤمنين، فإن الشيطان سيغويهم ويزين لهم الشرك والظلم والبغي، ثم يمسهم العذاب الأليم فى الدنيا والآخرة، لأنهم لا يحافظون

على السلام، بل يبغى بعضهم على بعض لتفرقهم واختلافهم فى هداية الدين التي بعث بها المرسلون، ويكون جزاؤهم فى الآخرة النار وبئس القرار. ثم ذكر لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن هذا قصص من عالم الغيب لا يعرفه هو ولا قومه من قبل فقال: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) أي هذا القصص الذي قصصته عليك من خبر نوح وقومه من أخبار الغيب التي لم تشهدها حتى تعلمها، نوحيها إليك نحن فنعرّفكها تفصيلا، وما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل الوحى الذي نزل مبيّنا لها، وربما كان يعلمها هو وقومه على سبيل الإجمال. (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أي فاصبر على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من قومك من أذى كما صبر نوح على قومه، فإن سنة الله فى رسله وأقوامهم أن تكون العاقبة بالفوز والنجاة للمتقين الذين يجتنبون المعاصي ويعملون الطاعات، فأنتم الفائزون المفلحون، والمصرّون على عداوتكم هم الخاسرون الهالكون.

تتمة لقصة نوح عليه السلام

تتمة لقصة نوح عليه السلام هل كان الطوفان عامّا أو خاصا؟ سئل الأستاذ الإمام محمد عبده فى ذلك فأجاب بما يلى: ليس فى القرآن نص قاطع على عموم الطوفان ولا على عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين، والمطلوب فى تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن إذا عدّ اعتقادها من عقائد الدين. وأما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوى أو المؤرخ أو صاحب الرأى، وما يذكره المؤرخون والمفسرون فى هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها، ولا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد دينى. من أجل هذا كانت هذه المسألة موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر فى طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرخى الأمم. فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عاما لكل الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة فى أعالى الجبال، لأن هذه الأشياء مما لا تتكون إلا فى البحر، فظهورها فى رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامّا، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها، غير أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل فى آيات الكتاب العزيز، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفى شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلى يقطع بأن الظاهر غير مراد، والوصول إلى ذلك فى مثل هذه المسألة يحتاج

حادثة الطوفان

إلى بحث طويل وعناء شديد. وعلم غزير فى طبقات الأرض وما تحتوى عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية، ومن هذى برأيه بدون علم يقينىّ فهو مجازف لا يسمع له قول، ولا يسمح له ببثّ جهالاته، والله ورسوله أعلم اه بتصرف. وخلاصة هذا- إن ظواهر القرآن والأحاديث تدل على أن الطوفان كان عامّا شاملا لقوم نوح الذين لم يكن فى الأرض غيرهم فيجب اعتقاده، ولكنه لا يقتضى أن يكون عاما للأرض، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملئون الأرض، وكذلك وجود الأصداف والحيوانات البحرية فى قنن الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان، بل الأقرب أنه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة فى الماء، فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفى لحدوث ما ذكر فيها. ولما كانت هذه المسألة التاريخية ليست من مقاصد الدين لم يبينها بنص قطعى، ومن ثم نقول إنه ظاهر النصوص ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية، فإن أثبت علم طبقات الأرض (الجيلوجيا) خلافه فلا يضيرنا، لأنه لا ينقض نصّا قطعيا عندنا. حادثة الطوفان فى القرآن والتوراة والتاريخ القديم ذكرنا فيما سلف أن أحداث التاريخ وضبط وقائعه وأزمنتها وأمكنتها ليس من مقاصد القرآن، وأن ما فيه من قصص الرسل مع أقوامهم فإنما هو بيان لسنة الله فيهم. وذكرنا أيضا أن قصة نوح عليه السلام جاءت فى عدة سور فى كل سورة منها ما ليس فى سائرها، ولم يذكر من حادثة الطوفان إلا ما فيه العبرة والموعظة. وجاءت هذه القصة فى سفر التكوين فى أربعة فصول ذكر فى أولها سبب الطوفان وهو فى جملته على نحو ما جاء فى القرآن الكريم إلا أن الأسلوب على نحو أساليب التوراة، وذكر فى الرابع منها رجوع المياه من الأرض بالتدريج واستقرار الفلك على جبل أراراط ثم خروج نوح ومن معه من السفينة.

عمر نوح عليه السلام

وقد ورد فى تواريخ أكثر الأمم القديمة ذكر الطوفان، منها ما هو موافق لما فى سفر التكوين، ومنها ما هو مخالف له فروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون قال: إن كهنة المصريين قالوا لسولون (الحكيم اليوناني) إن السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض، وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد والشر بفعل (اهريمان) إله الشر، وقالوا إن هذا الطوفان فار أولا من تنور العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، ولكن المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا إنه كان خاصا بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان. عمر نوح عليه السلام جاء فى الكتاب الكريم فى سورة العنكبوت: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ» . وجاء فى سفر التكوين نحو من هذا، وقد اشتبه الأمر على الناس فى أزمنة مختلفة حتى زعم بعضهم أن السنة عند المتقدمين أقل من السنة عند أهل القرون المعروفة بعد تدوين التاريخ، ولا دليل على هذا. والذي يظهر أن أعمار آدم وذريته إلى ما قبل الطوفان أو قبل ما كشف من آثار التاريخ لا تقاس بما عرف بعد ذلك، لأن معيشة الإنسان الفطرية كانت أسلم للأبدان وأقل توليدا للأمراض: وقول الله هو الحق ويجب الإيمان به على كل حال، قال الشاعر: نجيت يا رب نوحا واستجبت له ... فى فلك ماخر فى اليمّ مشحونا وعاش يدعو بآيات مبيّنة ... فى قومه ألف عام غير خمسينا قصة هود عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 52] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)

المعنى الجملي

المعنى الجملي هذا القصص ذكر فى سورة الأعراف بأسلوب ونظم يخالف ما هنا، وفى كل منهما من العظة والعبرة ما ليس فى الآخر، وسيأتى فى السور التالية بسياق آخر. وقد جاء فى بعض الروايات أن هودا أول من تكلم بالعربية، فهو أول رسول عربى من ذرية نوح، وآخر رسول هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو عربى أيضا. الإيضاح (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي وأرسلنا إلى عاد الأولى أخاهم فى النسب والوطن هودا فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره فلا تعبدوا من دونه وثنا ولا صنما، فما أنتم فى عبادتكم غيره من الأنداد والشركاء إلا مفترون الكذب عليه بتسميتكم إياهم شفعاء تتقربون بهم أو بقبورهم أو بصورهم وتماثيلهم وترجون النفع وكشف الضر عنكم بجاههم عنده. (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله والبراءة من الأوثان أجرا فتتهمونى بأنى أريد المنفعة لنفسى، ما ثوابى الذي أرجوه على تبليغى إياكم إلا على الله الذي خلقنى على الفطرة السليمة مبرّأ من هذه البدع الوثنية التي ابتدعها قوم نوح حين صنعوا التماثيل لحفظ ذكرى الصالحين، فزيّن لهم الشيطان تعظيم هذه التماثيل فعبدوها، أفلا تعقلون ما يقال لكم فتميزوا بين ما يضر وما ينفع، وإنى لكم ناصح أمين فلا أغشكم فيما أدعوكم إليه.

[سورة هود (11) : الآيات 53 إلى 57]

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) السماء هنا: المطر، والمدرار: الكثير الدرور، وأصله فى كثرة درّ اللبن، يقال درّت الشاة تدرّ فهى دار: أي كثر فيض لبنها، أي يا قوم استغفروا ربكم من الشرك ثم أخلصوا له التوبة، يرسل عليكم المطر متتابعا من غير ضرر (وقد كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمائر) ويزدكم عزّا إلى عزكم وقد كانوا يهتمون بذلك ويفخرون على الناس، وقد بسط الله لهم الأجسام وأعطوا القوة فيها كما قال تعالى: «فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» . (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أي ولا تعرضوا عما دعوتكم إليه مما ربما كان سببا فى نعيم العيش وسعة الرزق وزيادة القوة، وأنتم مصرون على ما أنتم عليه من الإجرام. [سورة هود (11) : الآيات 53 الى 57] قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر تبليغ هود عليه السلام قومه دعوة ربه، ذكر هنا ردّ قومه لتلك الدعوة فى جحودهم للبينة، ثم إنذاره لهم. الإيضاح (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي قالوا يا هود: ما جئتنا بحجة واضحة تدل على صحة دعواك أنك مرسل من عند الله، وقد قالوا ذلك عنادا منهم وجحودا للحق، وما نحن بتاركي عبادة آلهتنا بسبب قولك الذي لا بيّنة عليه، وما نحن بمصدقين ما جئت به. ثم بالغوا فى الردّ وقالوا: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أي لا نجد من قول نقوله فيك إلا أن بعض آلهتنا أصابك بمسّ من جنون أو خبل لإنكارك لها وصدّك إيانا عن عبادتها. والخلاصة- إن ما تقوله لا يصدر إلا عمن أصيب بشىء اقتضى خروجه عن قانون العقل، فلا يعتدّ به لأنه من قبيل الخرافات والهذيانات التي لا تصدر إلا عن المجانين فكيف نؤمن بك؟. والخلاصة- إنهم ترقوا فى حجاجهم من سيئ إلى أسوأ، إذ قالوا أولا ما جئتنا بالبينة: ثم نفوا تصديقهم له مع كونه مما يقبل التصديق، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا. ثم ذكر رده عليهم على طريق الحكاية. (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) . هذا جواب منه عن مقالتهم وهو يتضمن جملة أمور: (1) البراءة من إشراكهم الذي اقترفوه ولا حقيقة له.

(2) إشهاد الله على ذلك ثقة منه بأنه على بيّنة من ربه. (3) إشهادهم أيضا على ذلك إعلاما منه بعدم مبالاته بهم وبما يزعمون من قدرة شركائهم على إيذائه وضرره: (4) طلبه منهم أن يجمعوا كلهم على الكيد له والإيقاع به بلا إمهال ولا تأخير إن استطاعوا. وفى هذا دليل واضح على أنه لا يخافهم ولا يخاف آلهتهم، وقد صدرت مثل هذه المقالة عن نوح عليه السلام إذ قال «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» كما لقن الله نبيه مثل هذا بقوله «قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ» . (5) عدم الخوف منهم ومن آلهتهم، إذ وكل أمر حفظه وخذلانهم إلى ربه وربهم، ومالك أمره وأمرهم، المتصرف فى كل مادب على وجه الأرض والمسخر له وهو سبحانه مطلع على أمور العباد، مجاز لهم بالثواب والعقاب، كاف لمن اعتصم به، وهو لا يسلّط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق من رسله ولا يفوته ظالم. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) أي فإن استمررتم على ما أنتم عليه من التولّى والإعراض وأبيتم إلا تكذيبى، فقد أبلغتكم رسالة ربى التي أرسلنى بها إليكم، وليس علىّ غير البلاغ وقد لزمتكم الحجة وحقت عليكم كلمة العذاب. (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي إن الله يهلككم ويستخلف فى دياركم وأموالكم قوما آخرين. (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتوليكم عن الإيمان، فإنه غنىّ عنكم وعن إيمانكم، وهو بمعنى قوله «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» . (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي إن ربى رقيب على كل شىء قائم بالحفظ

[سورة هود (11) : الآيات 58 إلى 60]

عليه على ما اقتضته سننه وتعلقت به إرادته، ومن ذلك أنه ينصر رسله ويخذل أعداءهم إذا أصروا على الكفر بعد قيام الحجة عليهم. [سورة هود (11) : الآيات 58 الى 60] وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه إصرار قوم هود على العناد والعتوّ وتكذيب هود فيما جاء به من الآيات- ذكر هنا عاقبة أمره وأمرهم، وأنه تعالى أصابه برحمة من لدنه، وأنزل بهم العذاب الغليظ، كفاء كفرهم بآياته وعصيان رسله. الإيضاح (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي ولما نزل عذابنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة من لدنا وميزناهم عن الكافرين فيما نزل بهم من ذلك العذاب الغليظ، وهو الريح العقيم التي لا تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، كما فصل ذلك فى سورة القمر بقوله: «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» . ثم ذكر سبب ما نزل بهم من البلاء فقال: (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وقد أحللنا بهم نقمتنا، لأنهم جحدوا بآيات ربهم وحججه، وعصوا رسله الذين

[سورة هود (11) : الآيات 61 إلى 63]

أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره، وهم وإن كانوا قد عصوا رسولا واحدا فإن عصيان واحد منهم عصيان للجميع، لأنه ما كان إلا لنفى الرسالة نفسها بدعوى أن الرسول لا يكون بشرا. وقد اتبع سوادهم ودهماؤهم كل جبار عنيد من رؤسائهم الطغاة العتاة المستبدين الذين يأبون الحق ولا يذعنون له وإن قام عليه الدليل. (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولحقت بهم لعنة فى هذه الدنيا، فكان كل من علم بحالهم ومن أدرك آثارهم، وكل من بلّغه الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم، وتلحقهم أيضا يوم القيامة حين ما يلعن الأشهاد الظالمين أمثالهم: قال قتادة: تتابعت عليهم لعنتان من الله، لعنة فى الدنيا ولعنة فى الآخرة. ثم أكد كفرهم بشهادته عليهم فقال: (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي إن عادا كفروا نعمه عليهم بجحودهم بآياته وتكذيبهم لرسله كبرا وعنادا. (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) هذا دعاء عليهم بالهلاك والبعد من الرحمة، وهو تسجيل عليهم باستحقاقه وإعلام بدوامه. قصة صالح عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 63] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أعمرته الأرض واستعمرته إياها: إذا فوضت إليه عمارتها، والريب، الظن والشك يقال رابنى الشيء يريبنى: إذا جعلك شاكا، وغير تخسير: أي غير إيقاع فى الخسران باستبدال الشرك بالتوحيد. المعنى الجملي جاء هذا القصص فى بيان دعوة صالح لقومه ثمود وردهم لها بعد احتجاجه عليهم، وصالح هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته ثمود- الحجر وهى بين الحجاز والشام وسيأتى ذكر قصصهم فى سورة الشعراء والنمل والقمر والحجر وغيرها، وفى كل منها من الموعظة والعبرة ما لا يغنى عنه غيره. الإيضاح (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الكلام فى هذا كالكلام فى نظيره السابق فى تبليغ هود عليهما السلام. (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتدأ خلقكم منها، فهى المادة الأولى التي خلق منها آدم أبو البشر، ثم خلقكم أنتم من سلالة من طين بالوسائط، فإن النطفة التي تتحول إلى علقة ثم إلى مضغة، ثم إلى هيكل عظمى يحيط به لحم- أصلها دم. والدم من الغذاء وهو إما من نبات الأرض، وإما من اللحم الذي يرجع إلى النبات بعد طور أو أكثر. (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي جعلكم عمّارا لها فقد كانوا زرّاعا وصبناعا وبنائين كما جاء فى الآية الأخرى «وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ» . والخلاصة- إنه هو المنشئ لخلقكم والممدّ لكم بأسباب العمران والنعم فى الأرض فلا ينبغى أن تعبدوا فيها غيره، فهو ذو الفضل عليكم، وشكرانه واجب عليكم بإخلاص العبادة له وحده.

(فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي فاسألوه أن يغفر لكم ما تقدم من ذنوبكم بإشراككم به سواه، وبما اجترحتم من الآثام، ثم ارجعوا إليه بالتوبة كلما فرط منكم ذنب عسى أن يغفر لكم. (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أي قريب من عباده لا يخفى عليه استغفارهم ولا الباعث عليه ومجيب لدعاء من دعاه وسأله إذا كان مؤمنا مخلصا. ونحو الآية ما تقدم فى سورة البقرة من قوله «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» . ثم ذكر ما ردوا به عليه. (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي قد كنت عندنا موضع الرجاء لمهام أمورنا لما لك من رجاحة عقل وأصالة رأى، ولحسبك ونسبك قبل هذه الدعوة التي تطلب بها إلينا أن نبدل ديننا زعما منك أنه باطل، فالآن قد انقطع رجاؤنا منك ثم ذكروا أسباب انقطاع رجائهم بقولهم: 1- (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي عجيب منك أن تنهانا عن عبادة ما كان يعبد آباؤنا من قبلنا، وقد سرنا نحن على نهجهم ولم ينكره أحد علينا ولم يستقبحه، فكيف تنكره؟. 2- (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي وإنا لفى شك من دعوتك إلى عبادته تعالى وحده دون أن نتوسل إليه بأحد من الشفعاء المقربين عنده، ولا أن نعظم ما وضعه آباؤنا لهم من صور وتماثيل تذكّرنا بهم، فكل هذا يوجب الريب والتهمة وسوء الظن وعدم الطمأنينة إلى دعوتك. فأجابهم صالح: (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أي أخبرونى عن حالى معكم إن كنت على برهان وبصيرة من ربى مالك أمرى وآتاني من قبله رحمة خاصة من عنده جعلنى بها نبيّا مرسلا إليكم.

[سورة هود (11) : الآيات 64 إلى 68]

(فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟) أي فمن يمنعنى من عذابه إذا أنا كتمت الرسالة، أو كتمت ما يسوءكم من بطلان عبادة الأصنام والأوثان تقليدا لآبائكم- أي لا أحد يدفع ذلك عنى فى هذه الحال فلا أبالى إذا بقطع رجائكم فىّ ولا بما أنتم فيه من شك وريب فى أمرى. ثم ذكر مآل أمره إذا هو اتبعهم فقال: (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي فما تزيدوننى باتقاء سوء ظنكم وارتيابكم غير إيقاعى فى الخسران بإيثار ما عندكم على ما عند الله واشتراء رضاكم بسخطه تعالى. [سورة هود (11) : الآيات 64 الى 68] وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) تفسير المفردات الآية: المعجزة الدالة على صدق نبوته، وذروها: اتركوها، وعقر الناقة بالسيف: قطع قوائمها به أو نحرها، والتمتع: التلذذ بالمنافع، والدار: البلد كما يقال ديار بكر: أي بلادهم، وكذب فلانا حديثا وكذبه الحديث: أي كذب عليه فيه، والوعد: خبر موقوت كأن الواعد قال للموعود إننى أفي به فى وقته، فإن وفى فقد صدق ولم يكذبه، وأصل الأخذ: التناول باليد، ثم استعمل فى الأشياء المعنوية كأخذ الميثاق

المعنى الجملي

والعهد وفى الإهلاك، والصيحة: الصوت الشديد والمراد بها هنا صيحة الصاعقة، وجاثمين: أي ساقطين على وجوههم مصعوفين لم ينج منهم أحد، وغنى بالمكان: أقام فيه. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن قومه قالوا له إننا لفى شك مما تدعونا وسألوه الآية على ما دعاهم إليه- ذكر هنا أنه قال لهم إن آيته على رسالته هى الناقة، وأن من يمسها بسوء يصيبه عذاب أليم. الإيضاح (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) أي يا قومى هذه ناقة ممتازة عن سائر الإبل بما ترون من أكلها وشربها وجميع شئونها، قد جعلها الله لكم آية بينة منه تدل على صدقى وعلى إهلاككم إن أنتم خالفتم أمره فيها. (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) أي فاتركوها تأكل مما فى الأرض من المراعى وليس عليكم مؤنتها. (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) أي ولا يمسها أحد منكم بأذي فيأخذكم عذاب عاجل لا يتأخر عن مسكم إياها بسوء إلا يسيرا. ثم ذكر أنهم لم يستمعوا نصحه فقال: (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي فكذبوه فعقروها فقال لهم صالح: استمتعوا بحياتكم فى دار الدنيا ثلاثة أيام، وهذا الأجل الذي أجّلتم وعد من الله وعدكم حين انقضائه بالهلاك ونزول العذاب، لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك. ثم ذكر وقوع ما أوعدوا به فقال: (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ)

[سورة هود (11) : الآيات 69 إلى 73]

أي فلما جاء ثمود عذابنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة خاصة منا، ونجيناهم من عذاب ذلك اليوم ونكاله باستئصالهم من الوجود وبما يتبعه من سوء الذكر والطرد من رحمة الله. ثم بيّن عظيم قدرته على التنكيل بأمثالهم من المشركين فقال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي إن ربك أيها الرسول الذي فعل هذا بهم قادر أن يفعل مثل ذلك بقومك إذا أصروا على الجحود، إذ لا يعجزه شىء، وهو الغالب على أمره. ثم ذكر مآل أمرهم وشديد عقابه بهم فقال: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فأخذتهم صيحة الصاعقة التي نزلت بهم فأحدثت رجفة فى القلوب وزلزلة فى الأرض وصعقوا بها جميعا فانكبّوا على وجوههم لم ينج منهم أحد. (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) أي كأنهم لسرعة زوالهم وعدم بقاء أحد منهم لم يقيموا فى ديارهم البتة، وما سبب هذا إلا أن كفروا بآيات ربهم فجحدوها، ألا بعدا وهلاكا لهم. بشارة الملائكة لابراهيم وامرأته بإسحاق [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 73] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فما لبث: أي ما أبطأ، وحنيذ: أي مشوىّ بالرضف وهى الحجارة المحماة، ولا تصل إليه: أي لا تمتد للتناول، ونكره وأنكره: ضد عرفه، وأوجس القلب فزعا: أحسّ به، ولوط: هو ذلك النبي الكريم، وهو ابن أخى إبراهيم وأول من آمن به، ويا ويلتنا: أصلها يا ويلى: وهى كلمة تقال حين يفجأ الإنسان أمر مهمّ من بليّة أو فجيعه أو فضيحة على جهة التعجب منه أو الاستنكار له أو الشكوى منه، والبعل: الزوج وجمعه بعولة، وأمر الله: قدرته وحكمته، وحميد: أي تحمد أفعاله، ومجيد: أي كثير الخير والإحسان. الإيضاح (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي ولقد جاءت رسلنا من الملائكة، واختلفت الرواية فيهم، فعن عطاء إنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام، وعن غيره إنهم جبريل وسبعة أملاك معه، ومثل هذا لا يعلم إلا بتوقيف من الوحى ولم يثبت، والبشرى: البشارة بالولد لقوله: «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ» الآية وقوله فى الذاريات: «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» . (قالُوا سَلاماً) أي قالوا: نسلم عليك سلاما. (قالَ سَلامٌ) أي قال: عليكم سلام. (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي فما أبطأ أن جاءهم بعجل مشوىّ على الحجارة المحماة (وقد اهتدى البشر إلى شيى اللحم من صيد وغيره على الحجارة المحماة بحر الشمس قديما قبل الاهتداء إلى إنضاجه بالنار) .

وجاء فى سورة الذاريات: «فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ» وفى هذا دليل على أنه كان مشويّا معدا لمن يجىء من الضيوف، وربما كان قد شوى عند وصولهم بلا إبطاء ولا تريث. (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فلما رأى إبراهيم أيديهم لا تمتد إلى الطعام الذي قدم إليهم نكر ذلك منهم ووجده على غير ما يعهد من الضيوف (فالعادة قد جرت أن الضيف إذا لم يطعم مما قدّم إليه ظنّ أنه لم يجىء بخير وأنه يحدّث نفسه بشر) وأحس فى نفسه خوفا وفزعا، حين شعر أنهم ليسوا بشرا وربما كانوا من ملائكة العذاب. (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أي قالوا له حين علموا ما يساور قلبه من الخوف: لا تخف، فنحن لا نريد بك سوءا، وإنما أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم، وكانت ديارهم قريبة من دياره، وجاء فى سورة الحجر أنه صارحهم بالخوف فطمأنوه وبشروه بغلام عليم، وكذا فى سورة الذاريات. (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) أي وكانت امرأة إبراهيم واقفة للخدمة فضحكت سرورا بالأمن من الخوف، أو لقرب عذاب قوم لوط لكراهتها لسيرتهم الخبيثة. (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي فبشرناها بالتبع لبشارة إبراهيم بإسحاق، ومن بعد إسحاق يعقوب أي إنه سيكون لإسحاق ولد أيضا كما قال تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» : (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) أي قالت سارّة لما بشرت بإسحاق: كيف ألد وقد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء، وهذا زوجى شيخا كبيرا لا يولد لمثله، إن هذا الذي بشرتمونا به لشىء عجيب مخالف لسنن الله التي سلكها فى عباده. وقد جاء فى سفر التكوين (إن إبراهيم كان عمره يومئذ مائة سنة، وإن زوجه

[سورة هود (11) : الآيات 74 إلى 76]

سارة كانت ابنة تسعين سنة) ومثلها لا يلد، بل الغالب أن ينقطع حيض المرأة فى سن الخمسين فيبطل استعدادها للحمل والولادة، على أنها كانت عقيما كما فى سورة الذاريات. وربما كانت زوجه سارة علمت من حال زوجها بعد ولادة هاجر لابنه إسماعيل بمدة قليلة أو كثيرة أنه أصبح غير مستعد لمباشرة النساء، أو كانت تعتقد كما يعتقد أن مثله فى تلك السن لا يولد له. (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي قالوا لها: لا ينبغى لك أن تعجبى من شىء يصدر عن أمر الله الذي لا يعجزه شىء كما قال: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . والله الخالق للسنن، والواضع لنظام الأسباب هو الذي أراد أن يستثنى منها واقعة بعينها يجعلها من آياته لحكمة من حكمه أرادها لبعض عباده. (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي رحمة الله وبركاته الكثيرة عليكم يا أهل بيت النبوة تتوارث فى نسلكم إلى يوم القيامة، وما تلك بأول آية لإبراهيم فقد نجّاه من نار قومه الظالمين، وآواه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين. (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي إنه جل ثناؤه مستحق لجميع المحامد، حقيق بالخير والإحسان. [سورة هود (11) : الآيات 74 الى 76] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) تفسير المفردات الروع: (بالفتح) الخوف والفزع: (وبالضم) النفس، والحليم: الذي لا يحب المعاجلة بعقاب، والأوّاه: الكثير التأوه مما يسوء ويؤلم، والمنيب الذي يرجع إلى الله فى كل أمر، وغير مردود: أي غير مدفوع لا بجدال ولا بشفاعة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه بعض ما جرى بين إبراهيم والملائكة، وصل به بعضا آخر كالتتمة له. الإيضاح (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أي فلما سرّى عن إبراهيم وانكشف له ما أوجس منه الخيفة، إذ علم أن هؤلاء الرسل من ملائكة العذاب، وجاءته البشرى بالولد واتصال النسل أخذ يجادل رسلنا فيما أرسلناهم به من عقاب قوم لوط (وجعلت مجادلتهم مجادلة لله لأنها مجادلة فى تنفيذ أمره) وهذه المجادلة قد فصلت فى سورة العنكبوت فجاء فيها: «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» . كما جاءت هذه المجادلة فى الفصل الثامن عشر من سفر التكوين من التوراة ففيه: (إن الرب ظهر لإبراهيم وهو جالس فى باب الخيمة، فظهر له ثلاثة رجال فاستضافهم وأتى لهم بعجل وخبز ملّة فأكلوا وبشروه بالولد، فسمعت امرأته سارة فضحكت وتعجبت لكبرها وانقطاع عادة النساء عنها فقال الرب لإبراهيم لماذا ضحكت سارة، هل يستحيل على الرب شىء؟ ... وانصرف الرجال (أي الملائكة) من هناك وذهبوا نحو سدوم (قرية قوم لوط) وإبراهيم لم يزل قائما أمام الرب فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البارّ مع الأثيم؟ عسى أن يكون هناك خمسون بارا فى المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه؟ فقال الرب إن وجدت فى سدوم خمسين بارا فإنى أصفح عن المكان كله من أجلهم، ثم كلمه إبراهيم مثل هذا فى خمسة وأربعين ثم فى أربعين ثم فى ثلاثين ثم فى عشرين ثم فى عشرة، والرب يعده فى كل من هذه

[سورة هود (11) : الآيات 77 إلى 80]

الأعداد بأنه من أجلهم لا يهلك القوم ... وذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم إلى مكانه) اه. (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) أي إنه جادل الملائكة فى عذاب قوم لوط، لأنه كان حليما لا يعجل بالانتقام من المسيء، كثير التأوّه مما يسوء الناس ويؤلمهم، يرجع إلى الله فى كل أموره. (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي يا إبراهيم أعرض عن الجدال فى أمر قوم لوط والاسترحام لهم، إنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وإنهم آتيهم عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده بجدل ولا شفاعة ولا بغيرهما. وفى هذه الآية عبرة لمن يتخذ من الله أندادا من أوليائه، ويزعم أنهم يتصرفون فى الكون كما يريدون ولا يردّ لهم طلب كما قال: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» وفيها أكبر رد عليهم فيما يتخرصون به، فهذا جدّ الأنبياء وأفضلهم بعد محمد صلى الله عليه وسلم وهو إبراهيم نهاه الله عن التعرض لما قضى به فأراده. قصة لوط عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 80] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)

تفسير المفردات

تفسير المفردات سىء بهم: أي وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم، الذرع والذراع: منتهى الطاقة، يقال مالى به ذرع ولا ذراع: أي مالى به طاقة، ويقال ضقت بالأمر ذرعا إذا صعب عليك احتماله، والعصيب: الشديد الأذى، ويقال هرع وأهرع (بالبناء للمفعول) : إذا حمل على الإسراع، وقال الكسائي لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمّى أو شهوة، ولا تخزون: أي لا تخجلوني، والضيف يطلق على الواحد والجمع، والرشيد: ذو الرشد والعقل، لو أن لى يكم قوة: أي على الدفع بنفسي، أو آوى إلى ركن شديد من أرباب العصبيات القوية الذين يحمون اللاجئين ويجيرون المستجيرين. الإيضاح فى سفر التكوين: إن لوطا عليه السلام ابن هرون أخى إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما (أور الكلدانيين) فى العراق إلى أرض الكنعانيين وسكن إبراهيم فى أرض كنعان، ولوط فى سدوم بالأردن، ويظن بعض الباحثين أن بحيرة لوط غمر موضعها بعد الخسف، ويقال إن الباحثين فى العصر الحاضر عثروا على آثارها. (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي ولما جاءت ملائكتنا لوطا ساءه مجيئهم، وعجز عن احتمال ضيافتهم، لما كان يتوقعه من اعتداء قومه عليهم كعادتهم (وقد روى أنهم جاءوه بشكل غلمان حسان الوجوه) وقال هذا يوم شديد شرّه، عظيم بلاؤه.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي وجاء لوطا قومه يهرولون كأن سائقا يسوقهم مما بهم من طلب الفاحشة. (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي ومن قبل هذا المجيء كانوا يعملون السيئات الكثيرة التي أفظعها ما أنكرته الفطر البشرية والشرائع الإلهية والوضعيه، وهو إتيان الرجال شهوة من دون النساء ومجاهرتهم بها فى أنديتهم كما حكى الله عنهم بقوله: «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فتزوجوهن، أراد ببناتى بنات قومه لأن النبي فى قومه كالوالد فى عشيرته كما قال ابن عباس، ويدخل فيهن نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدّات للزواج، ومراده أن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط، فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي فاخشوا الله واحذروا عقابه فى إتيانكم الفاحشة التي تطلبونها ولا تذلونى وتمتهنونى بفضيحتي فى ضيوفى فإن إهانة الضيوف إهانة للمضيف وفضيحة لهم. (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي أليس منكم رجل ذو رشد وحكمة ينهى من أرادوا ركوب الفاحشة من ضيوفى، فيحول بينهم وبين ما يريدون. (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) أي لقد علمت من قبل أنه ليس لنا- فى بناتك من رغبة فى تزوّجهن فتصرفنا بعرضهن علينا عما نريده، وقد يكون المعنى- لقد علمت الذي لنا فى نسائنا اللواتى تسميهن بناتك من حق الاستمتاع وما نحن عليه معهن، فلا ينبغى عرضك إياهن علينا لتصرفنا عما نريده. (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) أي وإنك لتعرف حق المعرفة ما نريد من الاستمتاع بالذكران، وإننا لا نؤثر عليه شيئا. والخلاصة- إنهم أجمعوا أمرهم على فعل ما يريدون.

[سورة هود (11) : الآيات 81 إلى 83]

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضىّ لما قد جاءوا له من طلب الفاحشة وأيس من أن يستجيبوا له إلى شىء مما عرض عليهم: لو أن لى بكم قوة بأنصار تنصرنى عليكم وأعوان تعيننى، أو أنضم إلى عشيرة تجيرنى منكم لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منى فى أضيافى. [سورة هود (11) : الآيات 81 الى 83] قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) تفسير المفردات السرى: (بالضم) والإسراء فى الليل: كالسير فى النهار، والقطع من الليل: الطائفة منه، والسجيل: الطين المتحجر كما جاء فى الآية الأخرى «حِجارَةً مِنْ طِينٍ» . وقال الراغب: هو حجر وطين مختلط أصله فارسىّ فعرّب، ومنضود: أي وضع بعضه على بعض وأعد لعذابهم، ومسومة: أي لها سومة (بالضم) أو علامة خاصة فى علم ربك. المعنى الجملي بعد أن بين عز اسمه ما يدل على أن لوطا كان قلقا على أضيافه مما يوجب الفضيحة لهم، وذلك قوله: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ» ذكر هنا أن الرسل بشروه بأن قومه لن يصلوا إلى ما هموا به، وأن الله مهلكهم ومنجيه مع أهله من العذاب.

الإيضاح

الإيضاح (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) أي قالت الملائكة للوط بعد أن رأوا شديد الكرب الذي لحقه بسببهم وتمنيه أن يجد قوة تدفعهم عن أضيافه: إنا رسل ربك أرسلنا لإهلاكهم وتنجيتك من شرهم. (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ولا إلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر، وحينئذ طمس الله أعينهم فلم يعودوا يبصرون لوطا ولا من معه كما جاء فى سورة القمر: «وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ» فانقلبوا عميا يتخبطون لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم وصاروا يقولون: النجاء النجاء فإن فى بيت لوط قوما سحرة. (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي فاخرج من هذه القرى أنت وأهلك ببقية من الليل تكفى لتجاوز حدودها، وجاء فى سورة الذاريات: «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» . (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي ولا ينظر أحد إلى ما وراءه ليجدّوا فى السير أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقّوا لهم، وجاء فى سورة الحجر: «وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» . (إِلَّا امْرَأَتَكَ) فقد كان ضلعها مع القوم وكانت كافرة خائنة. (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) أي إنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم ومقضىّ عليها بذلك، فهو واقع لا بد منه. ثم علل الإسراء ببقية من الليل فقال: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) أي موعد عذابهم الصبح ابتداء من طلوع الفجر إلى الشروق كما جاء فى سورة الحجر «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ» . ثم أكد ما سبق فأجاب عن استعجال لوط لهلاكهم فقال: (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) أي أليس موعد الصبح بموعد قريب لم يبق له إلا ليلة واحدة فانج فيها بأهلك.

وحكمة تخصيص هذا الوقت أنهم يكونون مجتمعين فى مساكنهم فلا يفلت منهم أحد. (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أي فلما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك قلبنا قراها كلها وخسفنا بها الأرض. وقد جرت سنة الله أنه إذا أراد خسف أرض فى جهة ما أحدث تحتها فراغا بتفاعل الأبخرة التي فى جوفها فيندكّ الجزء الأعلى وينهدم ويغور إلى أسفل إما عموديا إن كان الفراغ بقدر ما انخسف من الأرض وإما مائلا إلى جانب من الجوانب إن كان الفراغ تحته أوسع، وفى بعض هذه الحالات يكون عاليها سافلها ويرجع بعض علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) أن قرى قوم لوط خسف بها تحت الماء المعروف ببحيرة لوط أو بحر لوط، وقد عثر الباحثون على بعض آثارها من عهد قريب. وقد روى المفسرون فى خسفها من الخرافات ما لم يثبته نقل ولا يقبله عقل، فقالوا إن جبريل عليه السلام قلعها من تخوم الأرض بجناحه وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج ونهيق الحمير، ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها، مع أن المشاهدة فى هذا العصر أثبتت أن الطائرات المطاردة التي تحلّق فى الجو تصل فقط إلى حيث يخفّ ضغط الهواء وتستحيل الحياة حينئذ، ومن ثم يضعون فيها من أو كسجين الهواء ما يكفى استنشاقه وتنفسه للحياة فى طبقات الجوّ العليا ثم يصعدون فيها وقد أشار الكتاب الكريم إلى ما يكون للتصعيد فى جو السماء من التأثير فى ضيق الصدر وعسر التنفس بقوله: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» . (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) أي وأمطرنا عليهم قبل القلب أو فى أثنائه حجارة من سجيل: أي من طين متحجر كما جاء فى سورة الذاريات: «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ» ومثل هذا المطر يحدث

عادة بإرسال الله تعالى ريحا شديدة تحمل بعض الأحجار من المستنقعات أو الأنهار فتلقيها حيث يشاء الله. وهذا السجيل قد نضد وتراكب بعضه فى أثر بعض بحيث يقع طائفة بعد طائفة، وقد وضع على تلك الأحجار سومة: أي علامة خاصة فى علم ربك بحيث لا تصيب غير أهلها. وقد يكون المعنى: إنه سخرها عليهم وحكّمها فى إهلاكهم بحيث لا يمنعها شىء، من قولهم: سوّمت فلانا فى الأمر إذا حكّمته فيه وخلّيته وما يريد، لا تثنى له يد فى تصرفه. ويرى بعض المفسرين أن التسويم كان حسيا بخطوط فى ألوانها أو بأمثال الخواتيم عليها أو بأسماء أهلها، وكل ذلك من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بسلطان ونص من خاتم الرسل، وأنى هو؟. (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي وما هذه القرى التي حل بها العذاب بمكان بعيد عنكم أيها المشركون من أهل مكة الظالمون لأنفسهم بتكذيبك والمماراة فيما تنذرهم به، بل هى قريبة منكم على طريقكم فى رحلة الصيف إلى الشام كما قال فى سورة الصافات: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» أي وإنكم لتمرون على آثارهم ومنازلهم فى أسفاركم وقت النهار وبالليل، أفلا تعتبرون بما حل بهم. وفى هذا عبرة للظالمين فى كل زمان وإن اختلف العذاب باختلاف الأحوال وأنواع الظلم كثرة وقلة ومقدار أثره فى الأمة من إفساد عام أو خاص. قصة شعيب عليه السلام

[سورة هود (11) : الآيات 84 إلى 86]

[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 86] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) المعنى الجملي تقدم ذكر قصة شعيب فى سورة الأعراف، وذكرت هنا مرة أخرى، وقد جاء فى كل موضع منهما من العظات والأحكام والحكم ما ليس فى الآخرة مع الإحكام فى السبك وحسن الرّصف، والسلامة من التعارض والاختلاف والتفاوت. الإيضاح (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي فلما أتاهم قال يا قوم اعبدوا الله وحده ولا تعبدوا معه غيره، فما لكم من إله إلا هو. وقد جرت سنة الأنبياء أن يبدءوا بالدعوة إلى التوحيد، لأنه جذر شجرة الإيمان، ثم يتبعونه فالأهم بالأهم فيما يرون لدى أقوامهم، ومن ثم ثنى بالنهى عن نقص الكيل والميزان، لأن أهل مدين اعتادوا ذلك فقال: (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي ولا تنقصوا الناس حقوقهم فى مكيالكم وميزانكم كما هى عادتكم، وقد جاء مثل هذا النهى فى قوله: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» أي ينقصون. (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي إنى أراكم بثروة وسعة فى الرزق تغنيكم عن الدناءة فى بخس حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل بما تنقصون لهم من المبيع فى مكيل أو موزون

وكانوا تجارا مطففين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصون المكيال والميزان. إلا أن فى هذا كفرانا لنعمة الله عليكم، إذ كان يجب عليكم شكرانها بالزيادة على سبيل الصدقة والإحسان. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي وإنى أخشى عليكم يوما يحيط بكم عذابه إذا أنتم أصررتم على شرككم بالله بعبادة غيره، وكفرتم بنعمه بنقص المكيال والميزان. وهذا العذاب إما فى الدنيا بعذاب الاستئصال، وإما فى يوم القيامة. (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي ويا قوم أتمّوهما بالعدل بلا زيادة ولا نقصان. وقد أمرهم بالواجب بعد أن نهاهم عن ضده لتأكيده وللتنبيه إلى كون عدم التعمد للنقص لا يكفى لتحرّى الحق، بل يجب معه تحرى الإيفاء بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقص، وإن كان التيقن من ذلك لا يكون إلا بزيادة طفيفة، وتعمدها فى الكيل والوزن للناس سخاء وفضيلة يمدح فاعلها عليها، وفي الاكتيال أو الوزن عليهم طمع فهو رذيلة مذمومة. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) البخس: النقص فى كل الأشياء، يقال بخسه ماله وبخسه علمه وفضله، أي لا تظلموا الناس أشياءهم، وذلك يشمل ما للأفراد وما للجماعات من مكيل وموزون ومعدود ومحدود بحدود حسية وحقوق مادية أو معنوية. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الإفساد تعطيل يشمل مصالح الدنيا وأمور الدين وأخلاق النفس وصفاتها، وكل ذلك فاش فى عصرنا أي لا تفسدوا فى الأرض وأنتم تتعمدون الإفساد، وإنما اشترط فى النهى تعمد الإفساد، لأن بعض ما هو إفساد فى الظاهر قد يراد به الإصلاح أو دفع أخف الضررين كما يقع فى الحرب من قطع

[سورة هود (11) : الآيات 87 إلى 90]

الأشجار أو فتح سدود الأنهار أو إحراق بعض الغابات، وكما فعل الخضر عليه السلام للسفينة التي كانت لمساكين يعملون فى البحر، لأجل منع الملك الظالم الذي وراءهم من أخذها إذا أعجبته. وهذا نهى عام يشمل غير ما سبق، كقطع الطرق، وتهديد الأمن، وقطع الشجر، وقتل الحيوان، ونحو ذلك. (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ما يبقى لكم بعد إيفاء الكيل والميزان من الربح الحلال خير لكم مما تأخذونه بالتطفيف ونحوه من الحرام، إن كنتم مؤمنين به حق الإيمان، فالإيمان يطهّر النفس من رذيلة الطمع ويحلّيها بفضيلة السخاء والكرم. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي وما أنا بالذي أستطيع أن أحفظكم من القبائح، وإنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذرت إذ أنذرت، ولم آل جهدا فى ذلك. [سورة هود (11) : الآيات 87 الى 90] قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الحليم: ذو الأناة والتروّى الذي لا يتعجل بأمر قبل الثقة من فائدته، والرشيد: الذي لا يأمر إلا بما استبان له من الخير والرشد، والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر فى قوله أو فعله أو حاله، يقال خالفنى فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه، وخالفنى عنه إذا ولى عنه وأنت قاصد له، وأناب إلى الله: رجع إليه، وجرم الذنب أو المال: كسبه، ورحيم: عظيم الرحمة للمستغفرين، ودود: كثير اللطف والإحسان إليهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر أمر شعيب لقومه بعبادة الله وحده وعدم النقص فى الكيل والميزان ذكر هنا ردهم على كلا الأمرين، فردوا على الأول بأنهم إنما ساروا على منهج آبائهم وأسلافهم فى التدين والإيمان، وردوا على الثاني بأنهم أحرار فى أموالهم يتصرفون فيها بما يجلب لهم المصلحة فيها. ثم أعاد النصح لهم بأنه لا يريد لهم إلا الإصلاح، وأنه يخشى أن يصيبهم ما أصاب الأمم فيهم كقوم نوح أو قوم هود وما الأحداث التي اجتاحت قوم لوط ببعيدة عنكم، فعليكم أن تتوبوا إلى ربكم، عله أن يرحمكم، فهو واسع الرحمة، محب لمن تاب وأناب إليه. الإيضاح (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟) أي أصلاتك التي هى من نتاج الوسوسة وفعل المجانين تأمرك بأن نترك ما سار عليه آباؤنا جيلا إثر جيل من عبادة الأوثان والأصنام، وإنما جعلوه مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة الله وغيرها من الشرائع، لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل بوحي من ربه ويبلغهم أنه مأمور بذلك، وإسناد الأمر إلى الصلاة دون غيرها من العبادات لأنه كان

كثير الصلاة معروفا بذلك حتى إنهم كانوا إذا رأوه يصلّى تغامزوا وتضاحكوا، فكانت هى من بين الشعائر ضحكة لهم. (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) أي أو أن نترك فعلنا ما نشاء فى أموالنا من التطفيف وغيره من التنمية والاستغلال والتصرف فى الكسب بما نستطيع من الحذق والاحتيال والخديعة، فما ذاك إلا حجر على حريتنا وتحكّم فى إرادتنا وذكائنا. والخلاصة- إنهم ردوا عليه الناحيتين الدينية والدنيوية بما رأوا من شبه مزيّفة، وحجج آفنة. ثم أتبعوا ذلك بما يدل على السخرية والهزء به فقالوا: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أي أنت ذو الجهالة والسفاهة فى الرأى، والغواية فى الفعل بهوس الصلاة، لكنهم عكسوا القضية تهكما واستهزاء كما يقال للبخيل: لو رآك حاتم لاقتدى بك فى سخائك. (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي قال يا قوم أخبرونى عن شأنى وشأنكم إن كنت على حجة واضحة من ربى ومالك أمرى فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به ونهيتكم عنه فكان وحيا منه لا رأيا منى. (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) فى كثرته وفى صفته وقد كان ذلك بالحلال بلا تطفيف مكيال ولا ميزان ولا بخس لحق أحد من الناس، فما أقوله لكم صادر عن تجربة فى الكسب الطيب وما فيه من خير وبركة، لا عن آراء نظرية ممن ليست له خبرة- فماذا أقول غير الذي قلت عن وحي من ربى وعن تجربة فى مالى هل يسعنى بعد هذا التقصير فى التبليغ والكتمان لأوامر الله. (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي وما أريد بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف أن أقصده بعد ما ولّيتم عنه، فأستبدّ به دونكم مؤثرا لنفسى عليكم، بل أنا مستمسك به قبلكم. (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي ما أريد إلا الإصلاح بالنصيحة والموعظة

ما استطعت إلى ذلك سبيلا لا آلو فيها جهدا، وليس ذلك عن هوى ولا منفعة خاصة، ولولا ذلك ما فعلته. وفى ذلك إيماء إلى إثبات عقله ورشده وحكمته، وإبطال لتهكمهم، واستهزائهم بتلقيبهم إياه (بالحليم الرشيد) . (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) التوفيق الفوز والفلاح فى كل عمل صالح وسعى حسن، وحصول ذلك يتوقف على كسب العامل وطلبه من الطريق الموصّل إليه، وتيسير الأسباب التي يسهل معها الحصول عليه، وذلك إنما يكون من الله وحده، أي وما توفيقى لإصابة الحق والصواب فى كل ما آتى وما أذر إلا بهداية الله تعالى ومعونته. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي عليه توكلت فى أداء ما كلّفنى من تبليغكم ما أرسلت به لا على حولى وقوتى، وإليه أرجع فى كل ما أهمنى فى الدنيا، وهو الذي يجازينى على أعمالى فى الآخرة. والخلاصة- إنه لا يرجو منهم أجرا ولا يخشى منهم ضيرا. (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) أي لا تحملنكم عداوتى وبغضي وفراق الدين الذي أنا عليه على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان وبخس الناس فى المكيال والميزان، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق أو قوم هود من العذاب أو قوم صالح من الرجفة. (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) زماما ولا مكانا أي إن لم تعتبروا بمن ذكرنا قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء، فإنهم بمرأى منكم ومسمع. وقد يكون المعنى- ليسوا ببعيد منكم فى الكفر والمساوى فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم من العذاب. (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي واطلبوا من ربكم المغفرة مما أنتم عليه من عبادة الأوثان وبخس الناس حقوقهم فى المكيال والميزان، ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه.

[سورة هود (11) : الآيات 91 إلى 95]

(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) أي إن ربى رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة، كثير الود والمحبة، فيحب من يتوب ويرجع إليه. وفى الآية إرشاد إلى أن الندم على فعل الفساد والظلم بالتوبة واستغفار الرب تعالى من أسباب خير الدنيا وخير الآخرة. [سورة هود (11) : الآيات 91 الى 95] قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) تفسير المفردات الفقه: الفهم الدقيق المؤثّر فى النفس الباعث على العمل، والرهط: الجماعة من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة، لرجمناك: لقتلناك بالرمي بالحجارة، بعزيز: أي ذى عزة ومنعة، واتخذه ظهريا (بالكسر والتشديد) أي جعله نسيا منسيا لا يذكر كأنه غير موجود، ومحيط: أي محص ما تعملون، وعلى مكانتكم: على غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، يقال مكُن مكانة: إذا تمكن أبلغ تمكن، وارتقبوا: أي وانتظروا، والصيحة: أي صيحة العذاب، وجاثمين: أي باركين على ركبهم مكبّين على وجوههم، وغنى بالمكان: أقام به، وبعدا: أي هلاكا لهم.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن جادلوه أوّلا بالتي هى أحسن، وعمّيت عليهم العلل، وضاقت بهم الحيل، ولم يجدوا للمحاورة ثمرة- تحوّلوا إلى الإهانة والتهديد، وجعلوا كلامه من الهذيان والتخليط الذي لا يفهم معناه، ولا تدرك فحواه، فقابلهم بالإنذار بقرب الوعيد، ونزول العذاب الشديد. الإيضاح (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) أي ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به، من بطلان عبادة آلهتنا، وقبح حرية التصرف فى أموالنا، ومجىء عذاب يحيط بنا، وإصابتنا بمثل الأحداث التي أصابت من قبلنا، كأنّ أمرها بيدك، يصيب بها ربك من يشاء لأجلك. (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا قوة لك ولا قدرة على شىء من الضر والنفع، ولا تستطيع أن تمتنع منا إن أردنا أن نبطش بك. (وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أي ولولا عشيرتك الأقربون لقتلناك بالحجارة حتى تدفن فيها. (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي وما أنت بذي عزة ومنعة تحول بيننا وبين رجمك، وإنما نعزّ رهطك على قلتهم لأنهم منا وعلى ديننا الذي نبذته وراء ظهرك وأهنته، ودعوتنا إلى تركه لبطلانه فى زعمك. فوبخهم شعيب على سفاهتهم كما حكى سبحانه عنه. (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ) أي قال يا قوم: أرهطى أعز عليكم وأكرم من الله حتى كان امتناعكم عن رجمى بسبب انتسابي إليهم، وأنهم رهطى لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى الذي أدعوكم إليه بأمره. (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي واستخففتم بربكم فجعلتموه خلف ظهوركم،

لا تأمرون لأمره، ولا نخافون عقابه، ولا تعظمونه حق التعظيم، وكان القوم يؤمنون بالله ويشركون به سواه. وأكثر الناس اليوم لا يراقبون الله فى أقوالهم ولا فى أعمالهم. فيرجوه إذا أحسنوا، ويخافوه إذا أساءوا، ويتسابقوا إلى الإحسان ابتغاء مرضاته: (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي إن ربى محيط علمه بعملكم فلا يخفى عليه شىء منه وهو مجازيكم عليه، وأما رهطى فلا يستطيعون لكم ضرا ولا نفعا. ولا يخفى ما فى ذلك من التهديد والوعيد. ثم هددهم مرة أخرى فقال: (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي ويا قوم اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم فى قوتكم وعصبيتكم. وخلاصة ذلك- اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقّة وسائر ما لا خير فيه، وهذا كلام من واثق بقوته بربه، وضعف قومه على كثرتهم، وإدلالهم عليه، وتهديدهم له بقوتهم. (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتى على قدر ما يؤيدنى الله به من وسائل التأييد والتوفيق. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) أي سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويذله، أنا أم أنتم؟ ومن هو كاذب فى قوله، ومن هو صادق منى ومنكم- وهذا تصريح منه بالوعيد بعد التلميح بالأمر بالعمل المستطاع تعجيزا لهم. (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي وانتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه، إنى مرتقب منتظر. ثم ذكر أنه كان صادقا فى وعيده لهم فحل بهم سوء العذاب فقال: (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي ولما جاء أمرنا بعذابهم الذي أنذروه نجينا رسولنا شعيبا والذين آمنوا به فصدّقوه على ما جاءهم به من عند ربهم برحمة خاصة بهم. (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي وأخذت أولئك

[سورة هود (11) : الآيات 96 إلى 99]

الظالمين بسبب ظلمهم صيحة العذاب كالتى أخذت ثمود فأصبحوا جميعا باركين على ركبهم مكبين على وجوههم فى ديارهم. (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي كأنهم لم يقيموا فيها متصرفين فى أطرافها متقلبين فى أكنافها. ثم دعا عليهم بالهلاك فقال: (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي هلاكا لهم وبعدا من رحمة الله كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإنزال سخطه بهم. والخلاصة- إن الله أرسل على كل من ثمود ومدين صاعقة ذات صوت شديد فرجفت أرضها، وزلزلت من شدتها، وخروا ميتين، وكانت صاعقتها أشد من الصاعقة التي أخذت بنى إسرائيل حين قالوا (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) وقد أحياهم الله عقبها، لأن هذه تربية لقوم نبىّ فى حضرته، وتلك صاعقة كانت عذاب خزى لمشركين ظالمين معاندين أنجى الله نبىّ كل منهما ومؤمنيهما قبلها. قصة موسى وفرعون [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) تفسير المفردات الآيات: هى الآيات التسع المعدودة فى سورة الإسراء والمفصّلة فى سورة الأعراف وغيرها، والسلطان المبين: هو ما آتاه الله من الحجة البالغة فى محاوراته مع فرعون

المعنى الجملي

وملئه، والملأ: أشراف القوم وزعماؤهم، وما أمر فرعون: أي ما شأنه وتصرفه، برشيد: أي بذي رشد وهدى، وقدم يقدم (كنصر ينصر) : تقدم، فأوردهم النار: أي أدخلهم إياها، والورد بلوغ الماء فى مورده من نهر وغيره، والمورود: الماء والمراد به هنا النار، وأتبعوا: أي وألحقت به لعنة، والرفد: (بالكسر) : العطاء والعون فيقال رفده وأرفده: أعانه وأعطاه، والمرفود: المعطى. المعنى الجملي ذكر سبحانه فى هذه الآيات قصص موسى مع فرعون وملئه للإعلام بأن عاقبة فرعون وأشراف قومه اللعنة والهلاك ككفار أولئك الأقوام الظالمين وإن كان عذاب الخزي وهو الغرق فى البحر لم يعمّ جميع قومه، بل لحق من اتبع موسى وسار أثره للأسباب التي سلف ذكرها فى سورة الأعراف. الإيضاح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي ولقد أرسلنا موسى إلى فرعون وملئه مصحوبا بآيات بينات دالة على توحيد الله، وفيها السلطان المبين، والحجة الواضحة على صدق نبوته، وإنما خص الملأ بالذكر وقد أرسل إلى قومه جميعا، لأنهم أهل الحل والعقد والاستشارة فى دولته، ويعهد إليهم يتنفيذ ما يقرره من الأمور، فغيرهم يكون تبعا لهم فى كل ما يأتون ويذرون. (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) فى كل ما قرره من الكفر بموسى وردّ ما جاءهم به من عند الله، وتشديد الظلم على بنى إسرائيل بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم إلى نحو أولئك مما جاء فى السور الأخرى مفصلا. (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي وما شأنه وتصرفه بصالح حميد العاقبة، بل هو محض غىّ وضلال، ظلم وفساد، لغروره بنفسه، وكفرانه بربه، وطغيانه فى حكمه.

ثم ذكر جزاءه مع قومه فى الآخرة فقال: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) أي يتقدم قومه يوم القيامة ويكونون تبعا له كما كانوا تابعين فى الدنيا إلا من آمن، فيوردهم جهنم معه: أي يدخلهم إياها. وقد ورد أن آله يعرضون على النار منذ ماتوا صباحا ومساء من كل يوم كما قال تعالى: «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» . (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي وبئس الورد الذي يردونه النار، لأن وارد الماء إنما يرده لتبريد كبده وإطفاء غلّته من حر الظمأ، ووارد النار يحترق فيها احتراقا. قال ابن عباس رضى الله عنه فى الآية: الورود الدخول وقد ذكر فى أربعة مواضع: فى هود «وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» وفى مريم «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» وفى الأنبياء «حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» وفى مريم أيضا «وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً» وكان يقول: والله ليردنّ جهنم كلّ برّ وفاجر «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» . (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وألحقت بهم لعنة عظيمة ممن بعدهم من الأمم، ويوم القيامة أيضا يلعنهم أهل الموقف جميعا فهى تابعة لهم حيثما ساروا، ودائرة أينما داروا. والآية بمعنى قوله: «وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ» وقد سمى الله هذه اللعنات رفدا تهكّما بهم فقال: (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العطاء المعطى هذه اللعنة التي أتبعوها فى الدنيا والآخرة.

[سورة هود (11) : الآيات 100 إلى 102]

وفى الآيات من العبرة أن فى البشر فراعنة كثيرين يغوون الناس ويستعبدونهم، فيطيعونهم ويذلّون لهم ذل العبيد، ولا تفيدهم هداية القرآن شيئا. ومنهم من يدّعون الإسلام ولا يفقهون قول الله لرسوله فى آية مبايعة النساء (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وقوله صلى الله عليه وسلم «لا طاعة لأحد فى معصية الله إنما الطاعة فى المعروف» . العبرة بقصص الأمم الظالمة وبما آل إليه أمرها [سورة هود (11) : الآيات 100 الى 102] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص الأمم الماضية والقرون السالفة مع الرسل الذين أرسلوا إليهم، نبه إلى ما فى ذكرها من عظة واعتبار بقوله: (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) فالسامع لها والقارئ يلين قلبه، وتخضع نفسه، فيحمله ذلك على النظر والاعتبار بها- إلى ما فى إخباره صلى الله عليه وسلم بها من غير مطالعة كتب ولا مدارسة مع معلّم، من عظيم الدلالة على نبوته، إذ أن هذا لا يكون إلا بوحي من العلي الأعلى أتاه به روح القدس. الإيضاح (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) أي ذلك الذي قصصناه عليك بعض أخبار لأمم الماضية، وأهمّ أطوار اجتماعها فى المدائن والقرى من قوم نوح ومن بعدهم، نقصه

عليك فى هذا القرآن، لتتلوه على الناس ويتلوه المؤمنون آناء الليل وأطراف النهار إنذارا وتبليغا عنا. (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي من تلك القرى ما بقيت آثارها ماثلة كالزرع القائم فى الأرض كقوم صالح، ومنها ما عفت ودرست آثارها كالزرع المحصود الذي لم يبق منه بقية فى الأرض كقرى قوم لوط. (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي وما كان إهلاكهم بغير جرم استحقوا به الهلاك، ولكن ظلموا أنفسهم بشركهم وإفسادهم فى الأرض وإصرارهم على ذلك حتى لم يبق فيهم استعداد لقبول الحق، ولو بقوا زمانا ما ازدادوا إلا ظلما وفجورا وفسادا فى الأرض كما قال نوح عليه السلام: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» وقد بالغ رسلهم فى وعظهم وإرشادهم فما زادهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا، وأنذروهم بالنّذر فما زادهم ذلك إلا إصرارا وعنادا، ثقة منهم بأن آلهتهم تدفع عنهم كل مخوف. وتبعد عنهم كل محذور، جهلا منهم بما كانوا يعملون، ومن ثم قال: (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي فما نفعتهم ولا دفعت بأس الله عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ويطلبون منها أن تدفع عنهم الضر بنفسها أو بشفاعتها عنده- لما جاء عذاب ربك تصديقا لما أنذرهم به رسله. (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) يقال تبّبه تتبيبا: أهلكه، وتبّ فلان وتبت يده: خسر أو هلك، وتبّا لفلان: دعاء عليه بالهلاك، أي وما زادوهم إلا هلاكا وتدميرا، إذ أنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا على الظلم والفساد، ظنا منهم أنهم ينتقمون لهم من الرسل كما حكى الله تعالى عن بعضهم قوله: «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» .

[سورة هود (11) : الآيات 103 إلى 109]

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي ومثل ذلك الأخذ بالعذاب وعلى نهجه وطريقه، أخذ ربك أهل القرى وهى متلبّسة بالظلم، فذلك عقاب لا مفرّ منه ولا مهرب. وفى هذا إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم لكل قرية ظالمة فى كل زمان ومكان (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي إن أخذه وجيع قاس لا يرجى منه الخلاص. روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» فليعتبر الظالمون بهذا، ولا يغترّوا بالدين الذي ينتسبون إليه دون أن يعملوا ما يرفع عنهم غضب ربهم ونقمته، فربما كان ذلك إملاء منه تعالى واستدراجا لهم. العظة بعذاب الآخرة [سورة هود (11) : الآيات 103 الى 109] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر العبرة فى إهلاك الأمم الظالمة فى الدنيا- ذكر هنا العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء، فالألون يصلون النار التي لهم فيها شهيق وزفير، والآخرون يمتعون بالجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وهم فيها خالدون. الإيضاح (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي إن فيما قصه الله من إهلاك أولئك الأمم وبيان سنته فى عاقبة الظالمين، لحجة بيّنة وعبرة ظاهرة لمن يخاف عذاب الآخرة يعتبر بها فيتقى الظلم فى الدنيا على سائر ضروبه، إذ يعلم أن من عذّب الظالمين فى الدنيا قادر أن يعذبهم فى الآخرة، وأن ما حاق بهم فى دار الفناء، أنموذج لما يكون لهم فى دار البقاء. والماديون فى هذا العصر وفى عصور سابقة كما حكاه البيضاوي عن بعض أهل عصره يقولون: إن الطوفان والصاعقة وخسف الأرض كل أولئك قد حدث بأسباب طبيعية لا بإرادة الله واختياره لتربية الأمم- ويكفى فى الرد عليهم أن يقال: إن حدوث هذه الأشياء وغيرها بالأسباب الموافقة لسنن الله فى نظام العالم هو المراد بالقضاء والقدر فى القرآن الكريم، والله تعالى أحدث هذه الأسباب فى أوقات معينة بحكمته لعقاب تلك الأمم بها، ولم تكن من قبيل المصادفات. والدليل على ذلك أن أولئك الرسل أنذروا أقوامهم بحدوثها قبل أن لم تكن، ومنهم من ذكر وقتها على سبيل التعيين والتحديد، وهكذا يفعل الله بالظالمين فى كل

زمان وإن لم يكن فيهم من ينذرهم بوقوع ما يحل بهم اكتفاء بإنذار القرآن كما قال: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» . (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم يجمع له الناس كلهم ليحاسبوا على ما عملوا ثم يوفّوا جزاءهم بالعدل والقسطاس. (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي وذلك يوم يشهده الخلائق جميعا من الإنس والجن والملائكة وغيرهم. (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء مدة معلومة فى علمنا لا تزيد ولا تنقص، وهى انتهاء مدة الدنيا، وكل شىء معدود محدود فهو قريب، ولم يطلع الله أحدا من خلقه على معرفة ذلك اليوم. (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي فى ذلك الحين الذي يجىء فيه اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذنه تعالى، إذ لا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه كما قال تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» وقال: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» وقال: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» . (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي فمن يجمع فى ذلك اليوم شقى مستحق للعذاب الأليم الذي أوعد به الكافرون، وسعيد مستحق لما وعد به المتقون، من الثواب والنعيم الدائم. والأطفال والمجانين لا يدخلون فى هذا التقسيم لعدم التكليف- ويدخل فيه من استوت حسناتهم وسيئاتهم من المؤمنين، ومن تغلب سيئاتهم ويعاقبون عليها إلى حين ثم يدخلون الجنة، لأنهم من فريق السعداء باعتبار العاقبة. فالسعداء درجات، والأشقياء دركات.

روى الترمذي وأبو يعلى وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: لما نزلت «فمنهم شقى وسعيد» قلت: يا رسول الله فعلام نعمل؟ على شىء قد فرغ منه أو على شىء لم يفرغ منه قال: «بل على شىء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كلّ ميسر لما خلق له» وروى عن على كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان فى جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت فى الأرض فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وقرأ: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» والمراد أن الله يعلم الغيب وأنه يعلم المستقبل كله بجميع أجزائه وأطرافه، ومنه عمل العاملين وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده فى كتابه المنزل وكتابته للمقادير، والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن الجزاء بالعمل، وأن كل إنسان ميسر له ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة، أو شقاوة النار، وأن ما وهبه من الاستعداد والعزيمة يكون له تأثير فى تربية النفس توجيهها إلى ما تعتقد أن فيه سعادتها وخيرها. ثم فصل جزاء الفريقين فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير تنفس الصّعداء من الهم والكرب إذا امتد واشتد وسمع صوته، والشهيق النشيج فى البكاء إذا اشتد تردده فى الصدر وارتفع به الصوت، أي فأما الذين شقوا فى الدنيا بما كانوا يعملون من أعمال الأشقياء لفساد عقيدتهم الموروثة وسوء القدوة فى العمل حتى أحاطت بهم خطيئاتهم وانطفأ نور الفطرة من أنفسهم، فلهم فى النار التي هى مستقرهم ومثواهم زفير وشهيق من حرج صدورهم وضيق أنفاسهم وشدة كروبهم. (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي ما كثين فيها مكث خلود وبقاء مدة دوام السموات التي تظلهم والأرض التي تقلّهم، والمراد التأبيد ونفى الانقطاع على منهج قولهم: لا أفعله ما بدا كواكب، وما أضاء الفجر، وما تغنّت حمامة، والنصوص متظاهرة على تأبيد قرارهم فيها.

وسماء كل من أهل الجنة والنار ما هو فوقهم، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم، كما قال تعالى «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» وقال ابن عباس والسّدّى والحسن: لكلّ أرض وسماء. (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أي إن هذا الخلود دائم إلا ما شاء ربك من تغيير فى هذا النظام فى طور آخر، إذ أنه إنما وضع بمشيئته وسيبقى كذلك، ويراد بمثل هذا فى سياق الأحكام القطعية الدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئته تعالى فقط، لا لإفادة عدم عمومها كما فى قوله: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أي لا أملك شيئا من ذلك بقدرتي إلا ما شاء الله أن يملكنيه منه بتسخير أسبابه وتوفيقه، ونحو ذلك قوله: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أي إنه تعالى ضمن لنبيه حفظ القرآن الذي يقرئه إياه وعصمه ألا ينسى منه شيئا كما هو مقتضى الضعف البشرى إلا أن يكون بمشيئة الله فهو وحده القادر على ذلك. (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومشيئته تعالى إنما تتعلق بما سبق به علمه واقتضته حكمته، وما كان كذلك لم يكن إخلافا لشىء من وعده ولا من وعيده كخلود أهل النار فيها. (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) المجذوذ: المقطوع، من جذّه إذا قطعه أو كسره، وهو كقوله: «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي إن هذا الجزاء هبة منه وإحسان دائم غير مقطوع، وقد كثر وعد الله تعالى للمؤمنين المحسنين بأنه يزيدهم من فضله، وبأنه يضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها، وبأكثر من ذلك إلى سبعمائه ضعف، وبأنه يجزيهم بالحسنى، وبأحسن مما عملوا- ولم يوعد بزيادة جزاء الكافرين والمجرمين على ما يستحقون، بل أوعدهم بأنه يجزيهم بما عملوا، وبأن السيئة بمثلها وهم لا يظلمون، وبأنه لا يظلم أحدا، وهذا الجزاء وهو الخلود فى النار أثر طبيعى لتدسية النفس بالكفر والظلم والفساد.

[سورة هود (11) : الآيات 110 إلى 111]

وبعد أن شرح سبحانه أقاصيص عبدة الأوثان، ثم أتبعه بأحوال الأشقياء والسعداء، أنذر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين من قومه بما حل بالأمم المهلكة من العذاب فقال: (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) أي إذا كان أمر الأمم المشركة الظالمة فى الدنيا ثم فى الآخرة كما قصصناه عليك، فلا تكن فى أدنى ريب مما يعبد قومك هؤلاء فى عاقبته بمقتضى تلك السنن التي لا تبديل لها. وفى ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ووعيد لقومه كما لا يخفى. ثم بين حالهم فى عبادتهم وجزاءهم عليها فقال: (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) أي إنهم أشبهوا آباءهم فى الجهل والتقليد فهم مقلدون لهم، وإنا لمعطوهم نصيبهم من جزاء أعمالهم فى الدنيا وافيا تامّا لا ينقص منه شىء كما وفينا آباءهم الأولين من قبل فأعمال الخير التي يعملونها فى الدنيا كبرّ الوالدين وصلة الأرحام وإغاثة الملهوف يوفون جزاءهم عليها بسعة الرزق وكشف الضر جزاء تاما وافيا ولا يجزون عليها فى الآخرة، ومثل هذا الجزاء متاع عاجل لا يلبث أن يزول. [سورة هود (11) : الآيات 110 الى 111] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) المعنى الجملي بعد أن ذكّر مشركى مكة بأقوام غلب عليهم الكفر والجحود ولم يؤمن إلا القليل منهم، فوفّاهم جزاء أعمالهم فى الدنيا وسيوفيهم جزاءهم فى الآخرة- ذكّرهم فى هاتين

الإيضاح

الآيتين بقوم موسى الذين آتاهم الكتاب فاختلفوا فيه، وأن مثل الذين يختلفون من أمته فى الكتاب مثل هؤلاء. الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي فاختلف فى الكتاب وكونه من عند الله فآمن به قوم وكفر به آخرون، فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن كقولهم «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ» وزعمهم أن القرآن مفترى. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الكلمة هى كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المسمى بحسب الحكمة الداعية إلى ذلك، أي ولولا ما تقدم من حكم الله بتأخير إهلاك البغاة المثيرين للاختلاف فيه بأهوائهم، وإبقاء المعتصمين بالوحدة والاتفاق على هدايته، لأهلكهم، كما أهلك الذين ردوا دعوة الرسل جحودا وعنادا. (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن المكذبين به منهم لفى شك موقع فى الريب والاضطراب، فلا يدرون أحق هو أم باطل. وجاء فى معنى الآية قوله «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ. وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» والذين أورثوا الآيات بعد من تقدم ذكرهم من الأنبياء هم اليهود والنصارى وقد عرض لهم من الشك والريب فى كتبهم ما لم يكن فى عهد

[سورة هود (11) : الآيات 112 إلى 113]

سلفهم، إذ أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فقدت فى إحراق البابليين لهيكل سليمان، والنصارى كانوا أشد اختلافا فى كتبهم ومذاهبهم. (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وإن كل أولئك المختلفين الذين قصصنا عليك قصصهم ليوفيهم ربك جزاء أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، إذ لا يخفى عليه شىء منها. [سورة هود (11) : الآيات 112 الى 113] فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) المعنى الجملي بعد أن بين أمر المختلفين فى التوحيد والنبوة، وأطنب فى وعدهم ووعيدهم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ومن تاب معه بالاستقامة وهى كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل والأخلاق الفاضلة. الإيضاح (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) أي فالزم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه واثبت عليه، وكذلك فليستقم من تاب من الشرك وآمن معك، ولا تنحرفوا عما رسم لكم بتجاوز حدوده غلوّا فى الدين، فإن الإفراط فيه كالتفريط كلاهما زيغ عن الصراط المستقيم. وفى هذا إيماء إلى وجوب اتباع النصوص فى الأمور الدينية من عقائد وعبادات واجتناب الرأى وبطلان التقليد فيها.

وإيضاح هذا- إن تحكيم العقل البشرى فى الخوض فى ذات الله وصفاته وفيما دون ذلك من عالم الغيب كالملائكة والعرش والجنة والنار- تجاوز لحدوده، فإن اكبر العلماء والفلاسفة عقولا عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم وأنفس ما دونهم من المخلوقات صغيرها وكبيرها حتى الحشرات منها كالنحل والنمل، فأنىّ لهم أن يعرفوا كنه ذات الله وصفاته أو معرفة حقيقة ملائكته وغيرهم من جند الله؟. ولما خرج متأخر والأمة عن هدى سلفهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان زاغوا فكانوا: «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» فسقط بعضهم فى خيال التشبيه، وبعضهم فى خيال التعطيل. ولو كانوا قد نهجوا نهج السابقين لتجنبوا أسباب الخلاف والتفرق فى الدين الذي أوعد الله أهله بالعذاب العظيم وبرأ رسوله منهم. والواجب التزام كتاب الله وما فسرته به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من العبادات العملية بدون تحكم بالرأى والقياس، والمعاملات على النحو الذي بينه الكتاب والسنة على السنن القويم دون تأويل ولا تخريج لهما على غير ما يفهم من ظاهرهما. أما الاختلاف فيما عدا ذلك من أمور القضاء والسياسة وأمور المعاش من زراعات وتجارات فهو أمر طبيعى لا يمكن الغنى عنه، فلولاه لما تقدمت شئون الحياة، ولما حصل التنافس لدى أرباب المهن والصناعات، ولما جدّ كل يوم بدع جديد (موضه) ولكان الناس دائما على الفطرة الأولى، وأنّي لعقل الإنسان أن يسمتر على حال واحدة وقد أوتى الخلافة فى الأرض وحسن استعمارها، وبهذا وحده فضل الملائكة ولله فى خلقه شئون. وقد بين سبحانه لنا المخرج إذا حدث بيننا الخلاف فى الدين فقال: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» الآية وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه

وسلم بقوله لمعاذ بن جبل حين ولاه القضاء فى اليمين «بم تقضى؟ قال بكتاب الله. قال فإن لم تجد؟ قال فبسنة رسوله. قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيى- فأقرّه على ذلك» . وهذا هو الاستقامة فى الدين التي بها فى يرقى المرء إلى أعلى عليين، وقد حثّ الله رسوله عليها فى هذه الآية وحث موسى وهارون عليها فقال: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما» . ومدح من اتصفوا بها ووعدهم بالخير والفلاح فى الآخرة فقال: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» . وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال: «قلت يا رسول الله قل لى فى الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: (قل آمنت بالله ثم استقم) » . (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه تعالى بصير بعملكم ومحيط به فيجزيكم به، فاتقوه أن يطلع عليكم وأنتم عاملون بخلاف أمره. ونظير هذه الآية قوله «فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» . (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الركون إلى الشيء: الاعتماد عليه، وركن الشيء: جانبه الأقوى، وما تتقوى به من ملك وجند وغيره ومنه قوله تعالى «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» والمراد من الظالمين هنا أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردّوهم عنه، فهم بمعنى الذين كفروا فى الآيات الكثيرة، وتمسكم النار، أي تصيبكم، أي لا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين ولا من غيرهم فتجعوهم ركنا لكم

تعتمدون عليه فتقروهم على ظلمهم وتوالوهم فى شئونكم الحربية وأعمالكم الدينية، فإن الظالمين بعضهم أولياء بعض. وخلاصة ذلك- لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم رضيتم عن أعمالهم، فإن فعلتم ذلك أصابتكم النار التي هى جزاء الظالمين بسبب ركونكم إليهم والاعتزاز بهم والاعتماد عليهم، والركون إلى الظلم وأهله ظلم «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» . وليس لكم فى هذه الحال التي تركنون فيها إليهم غير الله وليّا ينقذكم ويخلصكم من عذابه، ثم لا تنصرون: أي لا ينصركم الله لأن الذين يركنون إلى الظالمين يكونون منهم وهو لا ينصر الظالمين كما قال «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» بل تكون عاقبتكم الحرمان مما وعد الله رسله ومن ينصره من المؤمنين. والخلاصة- إن الركون إلى الظالمين المنهي عنه هو الاعتماد على أعداء المؤمنين الذين يفتنونهم ويصدونهم عن دينهم، ويؤيده ما روى عن ابن عباس رضى الله عنه أنه فسر الظلم هنا بالشرك، والذين ظلموا بالمشركين، وقيل إنها عامة فى الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومن ابتلى بمخالطة الظلمة فليزن أقوالهم وأفعالهم بميزان الشرع، فإن زاغوا عن ذلك فعلى أنفسهم قد جنوا، وطاعتهم واجبة على كل من دخل تحت أمرهم ونهيهم فى كل ما يأمرون به ما لم يكن فى معصية الله، فمن أمروه أن يدخل فى شىء من الأعمال التي وكلها إليهم كالمناصب الدينية ونحوها فليدخل فيه إذا وثق من نفسه القدرة على القيام به، إلى أنه يجب الأخذ على أيدى الظالمين عامة وعلى أئمة الجور والأمراء خاصة ويجب تغيير المنكر أولا باليد فإن لم يستطع ذلك فباللسان، وإلا فبالقلب، وذلك أضعف الإيمان، روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبى بكر أنه قام فحمد الله

[سورة هود (11) : الآيات 114 إلى 115]

وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية- يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم حتى أتى على آخر الآية، ألا وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك الله أن يعمهم بعقابه، ألا وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه» . [سورة هود (11) : الآيات 114 الى 115] وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) تفسير المفردات طرف الشيء: الطائفة منه والنهاية، فطرفا النهار: الغدو والعشى. وروى عن الحسن وقتادة والضحاك أنهما صلاة الصبح والعصر، والزلف واحدها زلفة وهى الطائفة من أول الليل لقربها من النهار، وقال الحسن: هما زلفتان صلاة المغرب وصلاة العشاء، وذكرى: عبرة وعظة، وللذاكرين: أي المعتبرين المتعظين. المعنى الجملي بعد أن أمر رسوله بالاستقامة وعدم تجاوز ما رسمه الدين، وعدم الركون إلى أولى الظلم- أمره هنا بأفضل العبادات وأجلّ الفضائل التي يستعان بها على ما سلف. الإيضاح (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) أي أدّها على الوجه القويم وأدمها فى طرفى النهار من كل يوم، وفى زلف من الليل، ونظير هذه الآية قوله فى سورة

طه «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى» والتسبيح عام يشمل الصلاة وغيرها. والآية الصريحة فى أوقات الصلوات الخمس قوله تعالى «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» فالمساء ما بين الظهر والمغرب وهو صلاة العصر، وصلاة المغرب العشاء الأولى، وصلاة العتمة العشاء الآخرة التي يزول عندها الشفق وهو آخر أثر لنور النهار. وخصت الصلاة بالذكر لأنها أس العبادات المغذّية للإيمان والمعينة على سائر الأعمال. ثم بين فائدة الأمر السابق وحكمته فقال: (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) أي إن الأعمال الحسنة تكفر السيئات وتذهب المؤاخذة عنها، لما فيها من تزكية النفس وإصلاحها، فتمحو منها تأثير الأعمال السيئة فى النفس وإفسادها لها، والمراد بالحسنات ما يعم الأعمال الصالحة جميعا حتى ما كان منها تركا لسيئة كما قال تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» وجاء فى الحديث الشريف «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» والمراد بالسيئات الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة بدليل ما رواه مسلم «الصلوات الخمس كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر» . (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي إن فيما ذكر من الوصايا السابقة من الاستقامة والنهى عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلاة فى تلك الأوقات، لعبرة للمتعظين الذين يراقبون الله ولا ينسونه، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بها. (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي ووطّن نفسك على احتمال المشقة فى سبيل ما أمرت به، وما نهيت عنه فى هذه الوصايا وفى غيرها، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا بل يوفيه ثواب عمله من غير بخس له. وفى الآية إيماء إلى أن الصبر من باب الإحسان.

[سورة هود (11) : الآيات 116 إلى 119]

[سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) تفسير المفردات لولا: كلمة تفيد التحضيض والحث على الفعل، والقرون واحدهم قرن: وهو الجيل من الناس، قيل هو ثمانون سنة، وقيل سبعون، وشاع تقديره بمائة سنة، والبقية: ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره، واستعمل كثيرا فى الأنفع والأصلح، لأن العادة قد جرت بأن الناس ينفقون أردأ ما عندهم ويستبقون الأجود، ويقال أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته، وكلمة ربك: أي قضاؤه وأمر المعنى الجملي بعد أن ذكر عاقبة الأمم المكذبة لرسلها فى الدنيا والآخرة وإنذار قومه صلى الله عليه وسلم بهم، وبيّن ما يجب عليه وعلى من آمن به وتاب معه من الاستقامة والصلاح واجتناب أهل الظلم والفساد. ذكر هنا بيان السنن العامة فى إهلاك الأمم الذين قص الله قصصهم وأمثالهم ممن عصوا رسل ربهم بعد أن أنذروهم عقابه، ووعدوهم إذا أطاعوهم ثوابه.

الإيضاح

الإيضاح (فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) أي فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم فى الأرض جماعة أو لو عقل ورأى وصلاح ينهونهم عن الفساد فى الأرض باتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم، فيحولون بينهم وبين الفساد، ومن سنة الله ألا يهلك قوما إلا إذا عمّ الفساد والظلم أكثرهم. (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) أي ولكن كان هناك قليل من الذين أنجيناهم مع رسلهم منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم مهددين مع رسلهم بالإبعاد والأذى. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي واتبع الظالمون وهم الأكثرون ما رزقناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا واستكبروا وصدوا عن سبيل الله، وكانوا ذوى جرائم بما ولده الترف والنعيم، فكان هو المسخّر لعقولهم، وبذا رجّحوا ما أتوا على اتباع الرسل. وخلاصة ذلك- إن العقول السليمة كافية لفهم ما فى دعوة الرسل من الخير والصلاح لو لم يمنع استعمال هدايتها الافتتان بالترف والنعيم بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر المنعم عليه، وقد هدت التجارب إلى أن الترف هو الباعث على الفسوق والعصيان والظلم والإجرام، ويظهر ذلك بديئا فى الرؤساء والسادة، ومنهم ينتقل إلى الدهماء والعامة فيكون ذلك سببا فى الهلاك بالاستئصال، أو فى فقد العزة والاستقلال، وتلك هى سنة الله فى خلقه كما قال: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» . ثم بين سبحانه ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال: (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الظلم هو الشرك أي إنه تعالى ليس من سنته أن يهلك القرى بشرك أهلها ماداموا مصلحين فى أعمالهم الاجتماعية والعمرانية والمدنية، فلا يبخسون الناس حقوقهم كما فعل قوم شعيب، ولا يبطشون بالناس

بطش الجبارين كقوم هود، ولا يذلّون لمتكبر جبار كقوم فرعون ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون فى ناديهم المنكر كقوم لوط، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد فى الأعمال والأحكام، ويفعلوا الظلم المدمّر للعمران، ومن ثم قالوا: الأمم تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم والجور، ويؤيد هذا ما أخرجه الطبراني والديلمي وابن مردويه عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية فقال: «وأهلها ينصف بعضهم بعضا» . (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء ربك أيها الرسول الكريم، الشديد الحرص على إيمان قومك، الحزين من أجل إعراض أكثرهم عن إجابة دعوتك واتباع هديك- لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا اختيار لهم فيما يفعلون، فكانوا فى حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل، وفى حياتهم الروحية أشبه بالملائكة مفطورين على طاعة الله واعتقاد الحق وعدم الميل إلى الزيغ والجور، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين، وعاملين بالاختيار لا مجبورين ولا مضطرين وجعلهم متفاوتين فى الاستعداد وكسب العلم، وكانوا فى أطوارهم الأولى لا اختلاف بينهم، ثم لما كثرت وتنوعت حاجاتهم وكثرت مطالبهم ظهر فيهم الاستعداد للاختلاف كما قال تعالى: «وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا» . (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي ولا يزالون مختلفين فى شئونهم الدنيوية والدينية بحسب استعدادهم الفطري، إلا من رحم الله منهم فإنهم يتفقون على حكم كتابه فيهم وهو الذي عليه مدار جمع كلمة الأمة ووحدتها. (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي ولمشيئته تعالى فيهم الاختلاف والتفرق فى علومهم ومعارفهم وآرائهم، وما يتبع ذلك من الإرادة والاختيار فى الأعمال- خلقهم، وبهذا كانوا خلفاء فى الأرض، ومن ذلك اختلافهم فى الدين والإيمان والطاعة والعصيان، وبذا كانوا مظهر لأسرار خلقه الروحية والجسدية أو المادية والمعنوية، وقال ابن عباس

[سورة هود (11) : الآيات 120 إلى 123]

خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، فذلك قوله: «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» . والخلاصة- إن الناس فريقان: فريق اتفقوا فى الدين فجعلوا كتاب الله حكما بينهم فيما اختلفوا فيه فاجتمعت كلمتهم وكانوا أمة واحدة فرحمهم الله ووقاهم شر الاختلاف فى الدنيا وعذاب الآخرة، وفريق اختلفوا فى الدين كما اختلفوا فى منافع الدنيا فكان بأسهم بينهم شديدا فذاقوا عقاب الاختلاف فى الدنيا وأعقبه جزاؤهم فى الآخرة، فحرموا من رحمة الله بظلمهم لأنفسهم، لا بظلم منه تعالى لهم. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي قد سبق فى قضائه وقدره وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأن الجنة والنار لا بد أن يملآ من عالمى الجن والإنس الذين لا يهتدون بما أرسل به رسله وبما أنزل عليهم من كتبه لهداية المكلفين والحكم بين المختلفين. [سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) تفسير المفردات القص: تتبع أثر الشيء للإحاطة به كما قال تعالى: «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» والنبأ: الخبر الهام، ونثبت: أي نقوّى ونجعل فؤادك راسخا كالجبل، على مكانتكم: أي على تمكنكم واستطاعتكم.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن قص عز وجل قصص أشهر الأنبياء مع أممهم الماضين- بين هنا ما لذلك من فائدة لرسوله وللمؤمنين وهى تثبيت الفؤاد والعظة والاعتبار، ثم أمر رسوله بالعبادة والتوكل عليه وعدم المبالاة بعداوة المشركين والكيد له الإيضاح (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أي وكل نبأ من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم، وما جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه وخذل أعداءه الكافرين، نقصّه عليك على وجهه لفائدتين: (1) (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ما به يقوى فؤادك ويكون ثابتا كالجبل لتقوم بأعباء الرسالة ونشر الدعوة، لما لك من الأسوة بإخوانك المرسلين. (2) (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإن فى هذه، الأنباء بيان الحق الذي دعا إليه الرسل وهو اعتقاد أنه تعالى واحد مع إخلاص العبادة له وحده والتوبة إليه وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وفيها موعظة وذكرى للذين يتعظون بما حلّ بأولئك الأمم من عقاب، وبيان أن ذلك إنما نالهم بسبب الظلم والفساد. (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي وقل للكافرين الذين لا يؤمنون فلا يتعظون: اعملوا على ما فى مكنتكم وعلى قدر ما تستطيعون من مقاومة الدعوة وإيذاء الداعي والمستجيبين له. وفى هذا تهديد ووعيد لهم بما يلقونه من العذاب جزاء ما كسبت أيديهم. (إِنَّا عامِلُونَ) على مكانتنا وعلى قدر ما نستطيع من الثبات على الدعوة وتنفيذ أمر الله وطاعته.

(وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي وانتظروا بنا ما تتمنّونه من انتهاء أمرنا إما بموت أو غيره مما تحدّثون به أنفسكم كما حكى الله عنهم فى قوله: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» إنا منتظرون أن ينزل بكم مثل ما نزل بأمثالكم من عقابه تعالى بعذاب من عنده أو بأيدى المؤمنين، وأن يكفل لنا النصر والغلبة وتكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم، وقد أنجز وعده ونصر رسوله وأيده، ونظير الآية قوله تعالى: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» . (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه سبحانه يعلم كل ما هو غائب عن علمك أيها الرسول وعن علمهم، مما هو فى السموات والأرض، وهو المالك المتصرف فيه، وهو العالم بكل ما سيقع فيهما والعالم بوقته الذي يقع فيه. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فأمرك وأمرهم لا محالة راجع إليه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) أي وإذا كان أمر كل شىء يرجع إليه فاعبده بإخلاص الدين له وحده، وادع إلى طاعته واتباع أمره بالحكمة والموعظة الحسنة، وتوكل عليه فيما لا يدخل فى مكنتك واستطاعتك مما ليس لك سبيل إلى الحصول عليه، إذ لا يدخل تحت كسبك ولا تناله يدك. والتوكل لا يجدى نفعا بغير العبادة والأخذ بالأسباب المستطاعة، وبدون ذلك يكون من التمني الكاذب، والعبادة لا تكمل إلا بالتوكل إذ به يكمل التوحيد والإخلاص له تعالى. روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى» . وخلاصة ذلك- امتثل ما أمرت به وداوم على التبليغ والدعوة وتوكل عليه فى سائر أمورك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضيق صدرك بهم.

بيان بإجمال للمقاصد الدينية التي حوتها هذه السورة

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت أيها النبي ومن اتبعك من المؤمنين من عبادته والتوكل عليه والصبر على أذى المشركين فيوفيكم جزاءكم فى الدنيا والآخرة، وعما يعمل المشركون من الكيد لكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا وسيجزيهم على أعمالهم يوم تجزى كل نفس بما كسبت، وقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأظهر دينه على الدين كله. ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وصل ربنا على خير خلقك محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين. بيان بإجمال للمقاصد الدينية التي حوتها هذه السورة قد اشتملت هذه السورة على ما اشتملت عليه سابقتها من أصول الدين ومبادئه العامة التي لا يكون المؤمن مؤمنا حقا إلا إذا سلك سبيلها ونهج نهجها، ومن ذلك: (1) التوحيد وهو ضربان: (ا) توحيد الألوهية- وهو أول ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم ودعا إليه كل رسول قبله، وهو عبادته تعالى وحده وعدم عبادة أحد معه كما قال: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» فعبادة غيره من الأصنام كحجر وشجر وكوكب أو بشر ولىّ أو نبى أو شيطان أو ملك إذا توجه العبد إليها توجها تعبديا ابتغاء النفع أو كشف الضر فى غير الأسباب التي سخرها الله لجميع الناس- كل ذلك كفر لا فرق بينه وبين عبادة الأصنام أو الأوثان إذ جميع ما عدا الله فهو عبد وملك له لا يتوجّه بالعبادة إليه. (ب) توحيد الربوبية- أي اعتقاد أن الله وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون والمتصرف فيه على مقتضى حكمته ونظام سنته وتسخيره الأسباب لمن شاء بما شاء، وكان أكثر المشركين من العرب ومن قبلهم يؤمنون بأن الرب الخالق المدبر واحد، ولكن يقولون بتعدد الآلهة التي يتقرّب بها إليه توسلا وطلبا للشفاعة عنده. (2) إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم بالقرآن بتحديهم بالإتيان بعشر سور مثله

مفتريات ودعوة من استطاعوا من دون الله لمظاهرتهم وإعانتهم على الإتيان بها إن كانوا صادقين، وقوله بعد ذلك: «فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ» وما جاء فى قوله: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» . (3) جاءت آيات البعث والجزاء فى القرآن لدعوة المشركين إلى الإيمان والاستدلال بها على قدرة الخالق، ولتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب والموعظة والجزاء كما جاء فى قوله: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وقوله: «وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» . (4) إهلاك الأمم بالظلم كما جاء فى قوله لخاتم رسله: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ» وقوله: «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» . (5) سنته تعالى فى ضلال الناس وغوايتهم- بأن يكونا بارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية والإصرار عليها إلى أن تتمكن من صاحبها وتحيط به خطيئته حتى يفقد الاستعداد للهدى والرشاد. (6) من طباع البشر العجل والاستعجال لما يطلب من النفع والخير وما ينذر به من الشر كما قال: «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ» . (7) سنته تعالى فى تكوين الخلق وأنه كان أطوارا فى أزمنة مختلفة بنظام محكم ولم يكن شىء منه فجائيا بلا تقدير ولا ترتيب كما قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» فكلمة الخلق معناها التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة ثم أريد بها الإيجاد التقديري فالسموات السبع

المرئية للناظرين والأجرام السماوية قائمة بسنن دقيقة النظام، وما فيها من البسائط والمركّبات الغازية والسائلة والجامدة كذلك، والكون فى جملته قائم بسنة عامة فى ربط بعضه ببعض وحفظ نظامه، بأن يبنى بعضه على بعض وهو ما يسميه العلماء الجاذبية العامة والجاذبية الخاصة. (8) إن الطغيان والركون إلى الظالمين من أمهات الرذائل كما قال: «وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» . (9) الاختلاف فى طبائع البشر، فيه فوائد ومنافع علمية وعملية وعملية لا تظهر مزاياه بدونها، وفيه مضار وشرور أكبرها التفرق والتعادي به، وقد شرع الله لهم الدين لتكميل فطرتهم والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بكتابه الذي لا مجال فيه للاختلاف، فاستحق الذين يحكّمونه فيما يتنازعون فيه رحمته وثوابه، والذين يختلفون فيه سخطه وعقابه. (10) اتباع الإتراف وما فيه من الفساد والإجرام- ذلك أن مثار الظلم والإجرام الموجب لهلاك الأمم هو اتباع أكثرها لما أترفوا فيه من أسباب النعيم والشهوات واللذات، والمترفون هم مفسدو الأمم ومهلكوها. وقد علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن من الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين فكانوا مثلا صالحا فى الاعتدال فى المعيشة أو تغليب جانب الخشونة والشدة على الإتراف والنعمة ففتحوا الأمصار وأقاموا دولة عز على التاريخ أن يقيم مثلها باتباع هدى القرآن وبيان السنة له وبذلك خرجوا من ظلمات الجهالة إلى نور العلم والعرفان، ثم أضاعها من خلف من بعدهم من متبعى الإتراف، وكيف ضلّوا بعد أن استفادوا الفنون والعلوم والملك والسلطان، ولله الأمر من قبل ومن بعد. (11) إقامة الصلاة فى أوقاتها من الليل والنهار، لأن الحسنات يذهبن السيئات، وأعظم الحسنات الروحية الصلاة لما فيها من تطهير النفس وتزكية الروح.

(12) النهى عن الفساد فى الأرض، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهما سياج الدين والأخلاق والآداب. (13) سننه تعالى فى اختبار البشر لإحسان أعمالهم كما قال: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» . (14) أول أتباع الرسل والمصلحين هم الفقراء كما حكى عن قوم نوح «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» . (15) التنازع بين رجال المال ورجال الإصلاح فى حرية الكسب المطلقة أو تقييد الكسب بالحلال ومراعاة الفضيلة. (16) من سننه تعالى جعل العاقبة للمتقين وذلك هو الأساس الأعظم فى فوز الجماعات الدينية والسياسية والأمم والشعوب فى مقاصدها وغلبها لخصومها ومناوئيها. (17) بيان أن الاختلاف فى الدين ضرورى للعباد كما قال: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» . (18) بيان أن نهى أولى الأحلام عن الفساد يحفظ الأمة من الهلاك كما قال: «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ»

سورة يوسف عليه السلام

سورة يوسف عليه السلام تقدمة لتفسير سورة يوسف رأينا أن نقدّم لك أيها القارئ صورة موجزة تبين لك حال هذا النبي الكريم والعبرة من ذكر قصته فى القرآن العظيم، لتكون ذكرى للذاكرين، وسلوة للقارئين والسامعين. يوسف الصديق: مثل كامل فى عفّته يوسف عليه السلام آية خالدة على وجه الدهر، تتلى فى صحائف الكون بكرة وعشيا، تفسّر طيب نجاره وطهارة إزاره، وعفته فى شبابه، وقوّته فى دينه، وإيثاره لآخرته على دنياه، وأفضل هداية تمثل للنساء والرجال المثل العليا فى العفة والصيانة التي لا تتم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان بالله ومراقبته له فى السر والعلن. وسورته منقبة عظمى له، وآية بينة فى إثبات عصمته، وأفضل مثل عملى يقتدى به النساء فالرجال، فبتلاوتها يشعر القارئ بما للشهوة الخسيسة على النفس من سلطان ويسمع بأذنه تغلب الفضيلة فى المؤمن على كل رذيلة، بقوة الإرادة ووازع الشرف والعصمة ففيها أحسن الأسوة للمؤمنين من الرجال والنساء، فيها قصة شاب كان من أجمل الناس صورة، وأكملهم بنية، يخلو بامرأة ذات منصب وسلطان وهى سيدة له وهو عبدها، يحملها الافتتان بجماله على أن تذلّ نفسها له، وتخون بعلها فتراوده عن نفسه (وقد جرت العادة حتى فى الطبقات الدنيا منزلة وتربية أن يكون النساء مطلوبات لا طالبات) فيسمعها من حكمته، ويريها من كماله وعفته ما هو أفضل درس فى الإيمان بالله والاعتصام بحبله المتين، وفى حفظه أمانة سيده الذي أحسن مثواه فيقول: «إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» فتشعر حينئذ بالذل والمهانة، والتفريط فى الشرف والصيانة، وتحقير مقام السيادة والكرامة. إلا أن فيها أعظم دليل على صبره وحلمه وأمانته وعدله، وحكمته وعلمه، وعفوه وإحسانه، فكفى شاهدا على صبره أن إخوته حسدوه فألقوه فى غيابة الجب وأخرجته

ما فى قصص يوسف من عبرة

السيارة وباعوه بيع العبيد، وكادت له امرأة العزيز فزجّ فى السجن فصبر على أذى الإخوة وكيد امرأة العزيز ومكر النسوة، إذ علم ما فى الفاحشة من مفاسد، وما فى العدل والإحسان من منافع ومصالح، فآثر الأعلى على الأدنى فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الإثم، وكانت العاقبة أن نجّاه الله ورفع قدره، وأذل العزيز وامرأته، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته، ومكّن له فى الأرض وكانت عاقبته النصر، والملك والحكم، والعاقبة للمتقين، قال سبحانه: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» . وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته فقد ظهرت جليّا حين تولى الحكم فى مصر أيام السبع السنين العجاف التي أكلت الحرث والنسل وكادت توقع البلاد فى المجاعات، ثم الهلاك المحقق لولا حكمته وعدله بين الناس والسير بينهم بالسوية وعلى الصراط المستقيم بلا جنف ولا ميل مع الهوى. ما فى قصص يوسف من عبرة إن فى هذه القصة لعبرة أيّما عبرة لعلية القوم وساداتهم، رجالهم ونسائهم، مجّانهم وأعفائهم، من نساء ورجال، فإن امرأة العزيز لم تكن من قبل غويّة ولا كانت فى سيرتها غير عادية، لكنها ابتليت بحب هذا الشاب الفاتن الذي وضعه عزيز مصر فى قصره، وخلّى بينه وبين أهله، فأذلت نفسها له، بمراودته عن نفسه فاستعصم وأبى وآثر مرضاة ربه، فشاع فى مصر دورها وقصورها ذلها له، وإباؤه عليها كما قال سبحانه «وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ» . وقد ذكرنها بالوصف (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) دون الاسم الصريح استعظاما لهذا الأمر منها، ولا سيما وزوجها عزيز مصر أو رئيس حكومتها، وقد طلبت الفاحشة من مملوكها

وفتاها الذي هو فى بيتها وتحت كنفها، وذلك أقبح لوقوعها منها، وهى السيدة وهو المملوك وهو التابع وهى المتبوعة، وقد جرت العادة بأن نفوس النسوة تعزف عن مثل هذه الدناءة ولا ترضى لنفسها بهذه الذلة التي تشعر بالمساواة لا بالسيادة، وبالضعة لا بالعظمة ولله فى خلقه شئون. وقد تضمن وصف النسوة لها بهذا الوصف أنها لم تقتصد فى حبها ولا فى طلبها. أما الأولى فقولهن فيها: «قَدْ شَغَفَها حُبًّا» أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها (الغشاء المحيط به) وغاض فى سويدائه كما قال شاعرهم: الله يعلم أن حبّك منّى ... فى سواد الفؤاد وسط الشغاف وأما الثاني فقولهن: «تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ» . فلما سمعت بهذا المكر القولى قابلتهن عليه بمكر فعلىّ فقد جمعتهن وأخرجته عليهن، فلم يشعرن إلا وأحسن خلق الله قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك الحسن الفتّان، وفى أيديهن مدى يقطعن بها مما يأكلنه فقطّعن أيديهن وهن لا يشعرن بما فعلن مأخوذات بذلك الحسن كما جاء فى قوله سبحانه: «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» . فلما هددته بالسجن والإذلال بعد أن هتك سترها وكاشفت النسوة فى أمرها وتواطأن معها على كيدها- آثر عليه السلام الاعتقال فى السجن على ما يدعونه إليه من الفحش والخنا: «قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .

وإنه ليستبين من هذا القصص أن امرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها الوزير الكبير، تصرفه كيف شاءت وشاء لها الهوى، إذ كان فاقدا للغيرة كأمثاله من كبراء لدنيا صغار الأنفس عبيد الشهوات. قال فى الكشاف عند ذكر ما رأوا من الشواهد الدالة على براءته: وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه فى الذروة والغارب، وكان مطواعة لها، وجملا ذلولا زمامه فى يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها فى سجنه لإلحاق الصغار به كما أوعدته، وذلك لما أيست من طاعته، وطمعت فى أن يذلله السجن ويسخره لها اه. وإنا لنستخلص من هذه القصة الأمور التالية: (1) أن النقم قد تكون ذريعة لكثير من النعم، ففى بدء القصة أحداث كلها أتراح، أعقبتها نتائج كلها أفراح. (2) أن الإخوة لأب قد توجد بينهم ضغائن وأحقاد ربما تصل إلى تمنى الموت أو الهلاك أو الجوائح التي تكون مصدر النكبات والمصايب (3) أن العفة والأمانة والاستقامة تكون مصدر الخير والبركة لمن تحلى بها، والشواهد فيها واضحة، والعبرة منها ماثلة، لمن اعتبر وتدبر ونظر بعين الناقد البصير. (4) إن أسها ودعامتها هو خلوة الرجل بالمرأة فهى التي أثارت طبيعتها وأفضت بها إلى إشباع أنوثتها، والرجوع إلى هواها وغريزتها، ومن أجل هذا حرم الدين خلوة الرجل بالمرأة وسفرها بغير محرم، وفى الحديث «ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما» . وإنا لنرى فى العصر الحاضر أن الداء الدوىّ، والفساد الخلقي، الذي وصل إلى الغاية (وكلنا نلمس آثاره، ونشاهد بلواه) ما بلغ إلى ما نرى إلا باختلاط الرجال بالنساء فى المراقص والملاهي، والاشتراك معهم فى المفاسد والمعاصي كمعاقرة الخمور، ولعب القمار فى أندية الخزي والعار، وسباحة النساء مع الرجال فى الحمامات المشتركة.

وبعد فهل لهذه البلوى من يفرّج كربتها، وهل لهذا الليل من يزيل ظلامه، وهل لهذه الجراح من آس وهل لهذه الفوضى من علاج، ولهذه الطامة من يقوم بحمل عبئها عن الأمة ويكون فيه من الشجاعة ما يجعله يرفع الصوت عاليا بالنزوع عن تلك الغواية ويرد أمر المجتمع والحرص على آدابه إلى ما قرره الدين وسار عليه سلف المسلمين المتقين: فيصلح أمره وتزهو الفضيلة وتنشأ نابتة جديدة تقوم على حراسة الدين فى بلاد المسلمين ولله الأمر من قبل ومن بعد. هدانا الله إلى سبيل الفلاح، وسدد خطانا إلى طريق النجاح، إنه نعم المولى ونعم النصير.

[سورة يوسف (12) : الآيات 1 إلى 3]

سورة يوسف عليه السلام هى مكية، وآياتها إحدى عشرة ومائة، والمناسبة بينها وبين سورة هود أنها متممة لما فيها من قصص الرسل والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيا من عند الله دالا على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، والفرق بين القصص فيها وفيما قبلها، أن السابق كان قصص الرسل مع أقوامهم فى تبليغ الدعوة والمحاجة فيها وعاقبة من آمن منهم ومن كذبوهم لإنذار مشركى مكة ومن تبعهم من العرب. وأما هذه السورة فهى قصة نبى ربى فى غير قومه قبل النبوة وهو صغير السن حتى بلغ أشده واكتهل فنبىء وأرسل ودعا إلى دينه ثم تولى إدارة الملك لقطر عظيم فأحسن الإدارة والسياسة فيه وكان خير قدوة للناس فى رسالته وفى جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة وتصريف أمورها على أحسن ما يصل إليه العقل البشرى، ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته آل بيت النبوة، وكان من حكمة الله أن يجمعها فى سورة واحدة، ومن ثم كانت أطول قصة فى القرآن الكريم. [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) المعنى الجملي جاءت فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة يونس، خلا أن القرآن وصف هنا بالمبين وهناك بالحكيم ذلك أن موضوع الأولى قصص نبى تقلبت عليه صروف الزمان بين نحوس وسعود كان فى جميعها خير أسوة، وموضوع الثانية أصول الدين من توحيد الله

الإيضاح

وإثبات الوحى والرسالة والبعث والجزاء، وهذه يناسبها الوصف بالحكمة. وروى عن سعد بن أبى وقاص فى سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غبر يتلو القرآن زمانا على أصحابه فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فيكون فى ذلك ترويج لنفوسنا وإحاطة بما يتضمنه من عبر وعظات. الإيضاح (الر) تقدم الكلام فى هذا بما فيه الكفاية. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي آيات هذه السورة هى آيات الكتاب البين الظاهر بنفسه، والمظهر لما شاء الله من حقائق الدين وأحكام التشريع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين والمرشد إلى مصالح الدنيا وسبيل الوصول إلى سعادة الآخرة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إنا أنزلنا هذا الكتاب على النبي العربي، ليبين لكم بلغتكم العربية ما لم تكونوا تعلمونه من أحكام الدين وأنباء الرسل والحكمة وشئون الاجتماع وأصول العمران وأدب السياسة، لتعقلوا معانيه وتفهموا ما ترشد إليه من مطالب الرّوح ومدارك العقل وتزكية النفس وإصلاح حال الجماعات والأفراد بما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم. (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أي نحن نقص عليك ونحدثك أحسن ما يقصّ ويتحدث عنه موضوعا وفائدة، لما يتضمنه من العبر والحكم، بإيحائنا إليك هذه السورة من القرآن الكريم، إذ هى الغاية فى بلاغتها وتأثيرها فى النفس وحسن موضوعها، وقد كنت من قبل ذلك فى زمرة الغافلين عنه من قومك الأميين الذين لا يخطر فى بالهم التحديث بأخبار الأنبياء وأقوامهم وبيان ما كانوا عليه من دين وشرع كيعقوب وأولاده وهم فى بداوتهم ولا ما كان فيه المصريون الذين جاء يوسف إليهم من حضارة وترف،

[سورة يوسف (12) : الآيات 4 إلى 6]

ولا ما حدث له فى بعض بيوتات الطبقة الراقية، ولا حاله فى سياسة الملك وإدارة شئون الدولة وحسن تنظيمها. [سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 6] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) تفسير المفردات لأبيه: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، روى أحمد والبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب ابن إسحق بن إبراهيم» . أحد عشر كوكبا: هم إخوته وكانوا أحد عشر نفرا، والشمس والقمر: أبوه وأمه، والسجود: من سجد البعير، إذا خفض رأسه لراكبه حين ركوبه، وكان من عادة الناس فى تحية التعظيم بفلسطين ومصر وغيرهما الانحناء مبالغة فى الخضوع والتعظيم، وقد استعمله القرآن فى انقياد كل المخلوقات لإرادة الله وتسخيره، ولا يكون السجود عبادة إلا بالقصد والنية للتقرب إلى من يعتقد أن له عليه سلطانا غيبيا فوق سلطان الأسباب المعهودة، وقص الرؤيا: الإخبار بها على وجه الدقة والإحاطة، وكاد له إذا دبر الكيد لأجله لمضرّته أو لمنفعته كما قال «كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ» . والاجتباء من جبيت الشيء: إذا حصّلته لنفسك والتأويل: الإخبار بما يئول إليه الشيء فى الوجود، وسميت الرؤيا أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها، والآل أصلها

المعنى الجملي

أهل، وهو خاص بمن لهم شرف وخطر فى الناس كآل النبي صلى الله عليه وسلم وآل الملك. المعنى الجملي هذه الآيات الثلاث فى قصّ يوسف رؤياه على أبيه وهو صغير، وفيما أجابه به أبوه من منعه عن قصه لإخوته خيفة الحسد والكيد له، وفى تعبير تلك الرؤيا له، وما فيها من البشارة وحسن العاقبة وأنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس، وقد شغف أبوه بحبه وتعلّق به أمله وكان ذلك بدءا لما جدّله من أحداث ضر وبؤس، ثم عاقبة حميدة كانت ذكرى للذاكرين وعبرة للمتقين، ولم يذكر ذلك إلا فى أواخر السورة، وقد احتذى هذا الأسلوب كثير ممن وضعوا كتب القصص (الروايات) فتراهم يبدءون بذكر نبأ هامّ يشغل بال القارئ ويحيره فى فهم علله وأسبابه وما يزالون يتدرجون به من حال إلى حال ومن شرح معمّى وكشف خفّى رويدا رويدا بأناة وحذق حتى يشرحوا ذلك النبأ فى نهاية القصص. الإيضاح (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) أي قال يوسف لأبيه يعقوب إنى رأيت فى منامى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لى سجّدا، وقد علم أبوه أن هذه رؤيا إلهام، لا أضغاث أحلام، تثيرها فى النوم الهواجس والأفكار، وأن يوسف سيكون له شأن عظيم وسلطان يسود به أهله حتى أباه وأمه وإخوته، وخاف أن يسمع إخوته ما سمعه ويفهموا ما فهمه، فيحسدوه ويكيدوا لإهلاكه، ومن ثم نهاه أن يقص عليهم رؤياه كما دل على ذلك قوله: (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي لا تخبر

إخوتك بما رأيت فى منامك خيفة أن يحسدوك فيحتالوا للإيقاع بك بتدبير يحكّمونه بالتفكير والرؤية. ثم بين السبب النفسي لهذا الكيد بقوله: (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إن الشيطان عدو لآدم وبنيه، قد أظهر لهم عداوته فاحذر أن يغرى إخوتك بك بحسدهم لك إن أنت قصصت عليهم رؤياك، إذ من دأبه أن ينزغ بين الناس حين تعرض لهم داعية من هوى النفس ولا سيما الحسد الغريزي فى فطرة البشر، وقد أرشد إلى هذا يوسف بقوله «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» . (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي وكما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر سجّدا لك، يجتبيك لنفسه ويصطفيك على آلك وغيرهم بفيض إلهى يكملك به بأنواع من المكرمات بلا سعى منك فتكون من المخلصين من عباده. (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ويعلمك من علمه اللّدنى تأويل الرّؤيا وتعبيرها أي تفسيرها بالعبارة والإخبار بما تئول إليه فى الوجود كما حكى الله قول يوسف لأبيه «هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» . وتعليم الله تعالى يوسف التأويل: إعطاؤه إلهاما وكشفا لما يراد، أو فراسة خاصة فيها، أو علما أعم من ذلك كما يدل عليه قوله لصاحبى السجن «لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» . (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي ويتم نعمته عليك باجتبائه إياك واصطفائك بالنبوة والرسالة والملك، وعلى أبيك وإخوتك وذريتهم بإخراجهم من البدو وتبوئهم مقاما كريما فى مصر ثم فى تسلسل النبوة فى أسباطهم حينا من الدهر. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) أي كما أتم النعمة من قبل هذا العهد على جدك وجد أبيك، وقدم إبراهيم لأنه الأشرف منهما والعرب وغيرها تفعل ذلك وقد كانوا يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم يا ابن عبد المطلب.

[سورة يوسف (12) : الآيات 7 إلى 10]

وقد قال يعقوب ذلك لما كان يعلمه من وعد الله لإبراهيم باصطفاء آله وجعل النبوة والكتاب فى ذريته، وما علمه من رؤيا يوسف وأنه الحلقة الأولى فى السلسلة النبوية التي ستكون من بعده من أبنائه. (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي إن ربك عليم بمن يصطفيه ومن هو أهل للفضل والنعمة فيسخّر له الأسباب التي تبلغ به الغاية إلى ما يريده له، حكيم فى تدبيره فيفعل ما يشاء جريا على سنن علمه وحكمته. وخلاصة ما تقدم- إن يعقوب عليه السلام فهم من هذه الرؤيا فهما جمليّا كل ما بشر به ابنه يوسف الرائي لها، وأما كيد إخوته له إذا قصها عليهم فقد استنبطه من طبع البشر وعداوة الشيطان له، ثم قفّى على ذلك ببشارته بما تدل عليه الرؤيا من اجتباء ربه ومن تأويل الأحاديث وهو الذي سيكون وسيلة بينه وبين الناس فى رفعة قدره وعلوّ مقامه وإتمام نعمته عليه بالنبوة والرسالة كما كان ذلك لأبويه من قبله. [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 10] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) المعنى الجملي صدّر سبحانه هذا القصص بمقدمتين: أولاهما فى وصف القرآن وكونه تنزيلا من عند الله دالّا على رسالة من أنزل عليه وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبله

الإيضاح

غافلا عما جاء فيه لا يدرى منه شيئا. ثانيتهما رؤيا يوسف وما فهمه منها أبوه فهما جمليّا وبنى عليه تحذيره وإنذاره وما يستهدف له من كيد إخوته ثم تبشيره بحسن العاقبة، ثم بنى على الأولى قوله بعد تمام القصة «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ» وبنى على الثانية قوله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له «يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» . الإيضاح (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) أي لقد كان فى قصة يوسف وإخوته لأبيه عبر أيما عبر دالة على قدرة الله وعظيم حكمته وتوفيق أقداره ولطفه بمن اصطفى من عباده، وتربيته لهم، للسائلين عنها الراغبين فى معرفة الحقائق والاعتبار بها، فإنهم هم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها. تأمل: تر أن إخوة يوسف لو لم يحسدوه لما ألقوه فى غيابة الجب، ولو لم يلقوه فيها لما وصل إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيز بصادق فراسته أمانته وصدقه لما أمّنه على بيته ورزقه وأهله، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم منها لما ظهرت نزاهته ولو لم تفشل فى كيدها وكيد صويحباتها لما ألقى فى السجن، ولو لم يسجن ما عرفه ساقى ملك مصر وعرف صدقه فى تعبير الرؤيا وإرشاد ملك مصر إليه فآمن به وجعله على خزائن الأرض، ولو لم يتبوأ هذا المنصب ما أمكنه أن ينقذ أبويه وإخوته وأهله أجمعين من الجوع والمخمصة ويأتى بهم إلى مصر فيشاركوه فيما ناله من عز وبذخ ورخاء عيش ونعيم عظيم، وما من مبدإ من هذه المبادئ إلا كان ظاهره شرا مستطيرا، ثم انتهى إلى عاقبة كانت خيرا وفوزا مبينا. فتلك ضروب من آيات الله فى القصة لمن يريد أن يسأل عن أحداثها الحسية الظاهرة وعلومها الباطنة كعلم يعقوب بتأويل رؤيا يوسف وعلمه بكذبهم فى دعوى أكل الذئب له، ومن شمه لريح يوسف منذ فصلت العير من أرض مصر ذاهبة إلى

أرض كنعان، ومن رؤية برهان ربه، ومن كيد الله له ليأخذ أخاه بشرع الملك، ومن علمه بأن إلقاء قميصه على أبيه يعيده بصيرا بعد عمى بقي كثيرا من السنين. (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي إن فى شأنهم لعبرة حين قالوا: ليوسف وأخوه شقيقه بنيامين أحب إلى أبينا منا فهو يفضّلهما علينا بمزيد محبة على صغرهما وقليل نفعهما، ونحن رجال أشداء أقوياء نقوم بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والكفاية. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إن أبانا لقد أخطأ فى إيثاره يوسف وأخاه من أمه علينا بالمحبة، وهو قد ضل طريق العدل والمساواة ضلالا بيّنا لا يخفى على أحد، فكيف يفضّل غلامين ضعيفين لا يقومان له بخدمة نافعة على العصبة أولى القوة والكسب والحماية عن الذمار. وفى الآية من العبرة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة واتقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم واجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى. (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أي قال إخوة يوسف بعضهم لبعض: اقتلوا يوسف حتى لا يكون لأبيه أمل فى لقائه، أو انبذوه فى أرض بعيدة عن العمران بحيث لا يهتدى إلى العودة إلى أبيه إن هو سلم من الهلاك. (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) أي يخل لكم وجه أبيكم من شغله بيوسف فيكن كل توجهه إليكم وكل إقباله عليكم، بعد أن تخلو الديار ممن يشغله عنكم أو يشارككم فى عطفه وحبه وتكونوا من بعد قتله قوما صالحين تائبين إلى الله مصلحين لأعمالكم بما يكفّر إثمها مع عدم التصدي لمثلها، وبذا يرضى عنكم أبوكم ويرضى عنكم ربكم. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) الجب: البئر غير المبنية بالحجارة، وغيابته: ما يغيب عن رؤية البصر

[سورة يوسف (12) : الآيات 11 إلى 14]

من قعره، والسيارة جماعة المسافرين الذين يسيرون فى الأرض من مكان إلى آخر للتجارة أو غيرها. أي قال قائل منهم وهو روبين: لا تقتلوا يوسف وألقوه فى قعر البئر حيث يغيب خبره فيلتقطه بعض المسافرين ويأخذوه إلى حيث ساروا فى الأقطار البعيدة، وبذا يتم لكم ما تريدون، وهو إبعاده عن أبيه إن كنتم فاعلين ما هو المقصد لكم بالذات، إذ لا شك أن قتله لا يعنيكم لذاته، فعلام تسخطون خالقكم باقتراف جريمة القتل والغرض يتم بدونها وجاء فى سفر التكوين من التوراة أن روبين مكربهم إذ كان يريد إخراجه من الجب وإرجاعه إلى أبيه فإنهم وضعوه فى بئر لا ماء فيها، فمرت بها سيارة من تجار العرب مسافرة إلى مصر، فاقترح عليهم يهوذا إخراجه وبيعه لهم، إذ لا فائدة لهم من قتله وهو من لحمهم ودمهم ففعلوا. [سورة يوسف (12) : الآيات 11 الى 14] قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) تفسير المفردات الناصح: المشفق المحب للخير، والرّتع: الاتساع فى الملاذ، والمراد باللعب لعب المسابقة والانتضال بالسهام ونحوهما مما يتدرّب به لمقاتلة الأعداء وتعليم فنون الحرب، والحزن: ألم النفس من فقد محبوب أو وقوع مكروه، والخوف: ألم النفس من توقع مكروه قبل وقوعه، والعصبة: الجماعة التي تعصب بها الأمور، وتكفى بآرائها الخطوب وخاسرون: ضعفاء عاجزون. أو هالكون لاغناء عندهم ولا نفع.

المعنى الجملي

المعنى الجملي هذا بيان جىء به لبيان ما كادوا به أباهم بعد أن ائتمروا بيوسف ليرسله معهم، وفيه إيماء إلى أنه كان يخافهم عليه، ولولا ذلك ما قال لهم تلك المقالة التي أظهروا فيها أنهم فى غاية المحبة والشفقة له. الإيضاح (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي قالوا له: لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به ونخلص النصح له؟ وكانوا قد شعروا منه بهذا بعد ما كان من رؤيا يوسف، وربما علموا بهذا منه. (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي أرسله معنا غداة غد حين نخرج كعادتنا إلى المرعى فى الصحراء يشاركنا فى الرياضة والأنس والسرور وأكل الفواكه والبقول وغيرهما مما يطيب، وقد كان أكثر لعب أهل البادية السباق والصراع والرمي بالعصى والسهام إن وجدت، وإنا لحافظوه من كل أذى يصيبه. (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) أي قال مجيبا لهم: إنى ليحزننى ويقض على مضجعى أن تذهبوا به معكم إلى الصحراء خيفة أن يأكله الذئب وأنتم لا تشعرون به، لاشتغالكم عن مراقبته وحفظه بلعبكم، ولعله لو لم يذكر هذا لهم لما خطر ببالهم أن يقع، ولكن شدة الحذر والاحتياط هو الذي جعله يقول ذلك. (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي قالوا له والله لئن اختطفه منا الذئب فى الصحراء ونحن جماعة شديدة البأس تكفى بنا الخطوب وتدفع مهمات الأمور- إنا إذا لهالكون ولا غناء عندنا ولا نفع ولا ينبغى أن يعتدّ بنا ويركن إلينا.

[سورة يوسف (12) : الآيات 15 إلى 18]

[سورة يوسف (12) : الآيات 15 الى 18] فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) تفسير المفردات أجمعوا: أي عزموا عزما لا تردد فيه، وأوحينا إليه: أي ألهمناه كما فى قوله: «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى» والعشاء: من الغروب إلى العتمة: أي حين يخالط سواد الليل بقية بياض النهار، والاستباق: تكلف السبق فى العدو أو فى الرمي، والمتاع: فضل الثياب وماعون الطعام والشراب، ومؤمن: أي مصدق، وسولت: زينت وسهّلت، والصبر الجميل: ما لا شكوى فيه إلى الخلق، على ما تصفون: أي من هذه المصيبة وعظيم الرزء. المعنى الجملي جاءت هذه الآيات الأربع لبيان ما اعتزموا عليه ونفذوه بالفعل وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم به من تكذيب وصبر واستعانة بالله عز وجل. الإيضاح (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له وقد عزموا عزما

إجماعيا لا تردد فيه على إلقائه فى غيابة الجب، نفذوا ذلك وحينئذ أوحينا إليه وحيا إلهاميا تطييبا لقلبه وتثبيتا لنفسه: لا تحزن مما أنت فيه، فإن لك من ذلك فرجا، ومخرجا حسنا، وسينصرك الله عليهم، ويرفع درجتك، وستخبرهم بما صنعوا وهم لا يشعرون بأنك يوسف. وفى هذا إيماء إلى أنه سيخلص من هذه المحنة ويصيرون تحت سلطانه وقهره. (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ. قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) أي جاءوه وقت العشاء حين خالط سواد الليل بياض النهار- حال كونهم يبكون ليقنعوه بما يريدون قائلين له: إنا ذهبنا من موضع اجتماعنا نتسابق ونترامى بالنبال، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأزوادنا ليحفظها، إذ لا يستطيع مجاراتنا فى استباقنا الذي يرهق القوى فأكله الذئب، إذ بعدنا عنه ولم نسمع استغاثته ولا صراخه، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا ولو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا فى ذلك؟ ولك العذر فى هذا لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق لنا فى ذلك الأمر. (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي إنهم جاءوا بقميصه ملطّخا ظاهره بدم غير دم يوسف، وهم يدّعون أنه دمه، ليشهد بصدقهم، فكان دليلا على كذبهم، ومن ثم قال: (عَلى قَمِيصِهِ) ليستبين للقارىء والسامع أنه موضوع وضعا متكلّفا، إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزّق القميص، وتغلغل الدم فى كل قطعة منه، ومن أجل هذا كله لم يصدقهم وقال: هيهات، ليس الأمر كما تدعون، بل سهلت لكم أنفسكم الأمّارة بالسوء أمرا نكرا وزيّنته فى قلوبكم فطوعته لكم حتى اقترفتموه، وسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرّجه الله بعونه ولطفه، وإنى أستعين به على أن يكفينى شر ما تصفون من الكذب.

[سورة يوسف (12) : الآيات 19 إلى 20]

[سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 20] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) تفسير المفردات السيارة: الرفقة تسير معا، والوارد: الذي يرد الماء ليستقى للقوم، وأسروه: أي أخفوه من الناس، والبضاعة: القطعة من المال يفرز للاتجار به، وشرى الشيء: باعه واشتراه: ابتاعه، والبخس: الناقص والمعيب كما قال «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» والمراد هنا الحرام أو الظلم لأنه بيع حر. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن إخوة يوسف أجمعوا أمرهم على إلقائه فى غيابة الجب ونفّذوا ذلك، ذكر هنا طريق خلاصه من تلك المحنة بمجىء قافلة من التجار ذاهبة إلى مصر، فأخرجوه من البئر وباعوه فى مصر بثمن بخس الإيضاح (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي وجاءت ذلك المكان قافلة تسير من مدين إلى مصر فأرسلوا واردهم الذي يجلب لهم الماء للاستسقاء فأرسل دلوه ودلّاه فى ذلك الجب فتعلق به يوسف، ولما خرج ورآه قال مبشّرا جماعته السيارة: يا بشرى هذا غلام أي آن وقت البشرى فاحضرى، كما يقال يا أسفا ويا حسرتا إذا وقع ما هو سبب لذلك فاستبشرت به السيارة وأخفوه من الناس، لئلا يدّعيه أحد من أهل ذلك المكان لأجل أن يكون يضاعة لهم من جملة تجارتهم، والله عليم بما يعمله هؤلاء السيارة وما يعمله إخوة يوسف،

[سورة يوسف (12) : الآيات 21 إلى 22]

فلكل منهم مقصد خاص فى يوسف، فالسيارة يدّعون بالباطل أنه عبد لهم فيتجرون به، وإخوة يوسف يريدون إخفاءه عن أبيه ويدّعون أن الذئب قد أكله، وذلك كيد بالباطل، ليمضى فيه وفيهم حكمه السابق فى علمه، وليرى إخوة يوسف ويوسف وأبوه قدرته تعالى على تنفيذ ما أراد. وفى هذا تذكير من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتسلية له على كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فكأنه يقول له: اصبر على ما نالك فى الله، فإنى قادر على تغيير ذلك، كما قدرت على تغيير ما لقى يوسف من إخوته، وسيصير أمرك إلى العلوّ عليهم كما صار أمر يوسف مع إخوته إذ صار سيدهم. (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي وباعه السيارة فى مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن مثله من الدراهم القليلة التي تعد عدّا ولا توزن وزنا، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية (أربعين درهما) فما فوقها ويعدون ما دونها، ومن ثم يعبرون عن القليل بالمعدود، وفى سفر التكوين من التوراة أن إخوته قرروا بيعه للاسماعيلين أي للعرب، وقد أخرجه من الجب جماعة من أهل مدين وباعوه لهم، وكان الذين باعوه من الراغبين عنه الذين يبغون الخلاص منه، لئلا يظهر من يطالبهم به لأنه حر، والثمن لم يكن مقصودا لهم حين بيعه ومن ثم قنعوا بالبخس منه. [سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 22] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المثوى: مكان الثواء والإقامة، مكنا ليوسف: أي جعلنا له مكانة رفيعة فى أرض مصر، من تأويل الأحاديث: أي بعض تعبير الرؤيا التي عمدتها رؤيا الملك وصاحبى السجن، وغالب على أمره. أي لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد، وأشده: هو رشده وكمال قوته باستكمال نموه الجسماني والعقلي حكما أي حكما صحيحا يزن به الأمور بميزان صادق، وعلما بحقائق الأشياء. المعنى الجملي هاتان الآيتان مبدأ قصص يوسف فى بيت العزيز الذي اشتراه، وفيهما بيان تمكين الله له وتعليمه تأويل الأحاديث وإيتائه حكما وعلما وشهادة من الله له بأنه من زمرة المحسنين. الإيضاح (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) لم يبين الكتاب الكريم اسم الذي اشتراه فى مصر ولا منصبه ولا اسم امرأته، لأن ذلك لا يهم فى العبرة من القصة ولا يزيد فى العظة، ولكن لقبه النسوة فيما يأتى (بالعزيز) وهو اللقب الذي لقب به يوسف بعد أن تولى إدارة الملك فى مصر، والظاهر أنه لقب أكبر وزراء الملك، وفى سفر التكوين أنه كان رئيس الشرط وحامية الملك، وناظر السجون، وأن اسمه فوطيفار وقد تفرس هذا الوزير فيه أصدق الفراسة، إذ وصّى امرأته بإكرام مثواه أي بحسن معاملته فى كل شئونه حتى يكون كواحد منهم ولا يكون كالعبيد والخدم. وخلاصة ما قال- أحسنى تعهده، وانظري فيما يقتضيه إكرام الضيف على أبلغ وجه وأتمه.

وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته (أَكْرِمِي مَثْواهُ) والمرأة التي قالت لأبيها (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) الآية وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب رضى الله عنهما. ثم بين علة إكرامه برجائه فيه وعظيم أمله فى جليل مساعدته فقال: (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي علّه أن ينفعنا فى أمورنا الخاصة إذا تدرّب فيها وعرف مواردها ومصادرها أو شئون الدولة العامة لما يلوح عليه من مخايل الذكاء والنجابة، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد فيكون قرة عين لنا ووارثا لما لنا ومجدنا، إذا تم رشده ونضج عقله. وفى الآية إيماء إلى شيئين. (1) إن العزيز كان عقيما. (2) إنه كان صادق الفراسة ثاقب الفكر، فقد استدل من كمال خلقه وخلقه على أن حسن عشرته وكرم وفادته وشرف تربيته مما يكمل استعداده الفطري، فالتجارب دلت على أنه لا يفسد الأخلاق شىء أكثر مما تفسدها البيئة الفاسدة وسوء القدوة (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي وعلى ذلك النحو من التدبير جعلنا ليوسف مكانة عالية فى أرض مصر كان مبدؤها عطف العزيز عليه ورجاءه فيه، فوقع له فى بيته ثم فى السجن من الأحداث ما كان سببا فى اتصاله بساقى الملك ثم بالملك نفسه. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ولنعلمه بعض تعبير الرؤيا، ومعرفة حقائق الأمور، مما ينتهى إلى غاية التمكين لدى الملك، حتى ليقول له: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» ويقول له الملك «إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي والله غالب على كل أمر يريده، فلا يغلب على شىء منه، بل يقع كما أراد «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» فما حدث من إخوة يوسف له وما فعله مسترقّوه وبائعوه وما وصّى به الذي اشتراه امرأته من إكرام مثواه، وما وقع له مع هذه المرأة من الأحداث ومن دخوله السجن- قد كان من الأسباب التي أراد الله تعالى له بها التمكين

فى الأرض، ولكن أكثر الناس يأخذون الأمور بظواهرها كما زعم إخوة يوسف أنه لو أبعد يوسف عنهم خلالهم وجه أبيهم وكانوا من بعده قوما صالحين، وقوله: أكثر الناس، إيماء إلى أن الأقل يعلمون ذلك كيعقوب عليه السلام، فإنه يعلم أن الله غالب على أمره، فهاهى ذى أقواله السابقة واللاحقة صريحة فى ذلك، ولكن علمه إجمالي لا تفصيلى، إذ لا يحيط بما تخبئه الأقدار. وبعد أن بيّن سبحانه أن إخوة يوسف أساءوا إليه وصبر على تلك الشدائد حتى مكن الله له فى أرض مصر، بين هنا أنه آتاه الحكم والعلم حين استكمال سن الشباب وبلوغ الأشد، وأن ذلك جزاء منه سبحانه على إحسانه فى سيرته فقال عز اسمه: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي ولما بلغ سن رشده وكمال قوته باستكمال نموه البدني والعقلي، وهبناه حكما صحيحا فيما يعرض له من مهامّ الأمور، ومشكلات الحوادث، مقرونا بالحق والصواب، وعلما لدنيا وفكر يا بما ينبغى أن تسير عليه الأمور. وقدر الأطباء هذه السن بخمس وعشرين سنة، وقد أثبت علماء الاجتماع أن الاستعداد الإنسانى يظهر رويدا رويدا حتى إذا ما بلغ المرء خمسا وثلاثين سنة وقف عند هذا الحد ولم يظهر فيه شىء جديد غير ما ظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن ولهذا قال ابن عباس إنها ثلاث وثلاثون سنة. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجازى به المتحلين بصفة الإحسان الذين لم يدنسوا أنفسهم بسيئات الأعمال، فنؤتيهم نصيبا من الحكم بالحق والعدل، وعاما يظهره القول الفصل، إذ يكون لذلك الإحسان تأثير فى صفاء عقولهم، وجودة أفهامهم، وفقههم لحقائق الأشياء غيرما يستفيدون بالكسب من غيرهم، ولا يتهيأ مثل ذلك للمسيئين فى أعمالهم المتبعين لأهوائهم وطاعة شهواتهم.

[سورة يوسف (12) : الآيات 23 إلى 25]

[سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 25] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) تفسير المفردات راودته على الأمر مراودة: طلبت منه فعله مع المخادعة، فالمراود يتلطف فى طلبه تلطف المخادع ويحرص عليه، وقال الراغب: المراودة أن تنازع غيرك فى الإرادة فتريد منه غير ما يريد كما قال إخوة يوسف (سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل بنيامين معنا، وهيت لك بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وضمها أي أي هلم أقبل وبادر، وقد روى أنها لغة عرب حوران، واختيرت لأنها أخص ما يؤدى المراد مع النزاهة الكاملة، ومعاذ الله: أي أعوذ وأتحصن بالله من أن أكون من الجاهلين الفاسقين، وهمت به: أي همت لتبطش به لعصيانه أمرها، وهمّ بها ليقهرها فى الدفع عما أرادته ويرد عنفها بمثله، وبرهان ربه: إما النبوة التي تلى الحكم والعلم اللذين آتاه الله إياهما بعد بلوغ الأشد، وإما مراقبة الله تعالى ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه كما جاء فى الحديث فى تفسير الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والمخلصون: هم الذين اجتباهم الله واختارهم لطاعته، واستبقا الباب: اى تسابقا إلى الباب وقصد كل منهما سبق الآخر إليه، فهو ليخرج وهى لتمنعه من الخروج، وقدّت قميصه من دبر: أي قطعته طولا من خلف، وألفيا: أي وجدا.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه، وعلل ذلك بحسن الرجاء فيه ثم بين عنايته سبحانه به وتمهيد سبل كماله بتمكينه فى الأرض- ذكر هنا مراودة امرأته له ونظرها إليه بغير العين التي نظر بها زوجها إليه وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراد الله من فوقهما وأعدت العدة لذلك فغلقت الأبواب فهرب منها إلى باب المخدع فقدّت قميصه من خلف ووجدا زوجها بالباب الخارجي فبادرت إلى اتهامه بالسوء إلى أن استبانت براءته. الإيضاح (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) أي وخادعت امرأة العزيز يوسف عن نفسه ورواغته، ليريد منها ما تريد هى منه مخالفا لإرادته وإرادة ربه، والله غالب على أمره، قال فى الكشاف: كأن المعنى خادعته عن نفسه، أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن شىء لا يريد إخراجه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه، وهى عبارة عن التمحل فى مواقعته إياها اه. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أي وأحكمت إغلاق باب المخدع الذي كانا فيه وباب البهو الذي يكون أمام الغرف فى بيوت العظماء وباب الدار الخارجي وربما كان هناك غيرها. (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي وقالت هلمّ أقبل، وزيدت كلمة (لَكَ) لبيان المخاطب كما يقولون: سقيا لك ورعيا لك، وهذا الأسلوب هو الغاية فى الاحتشام فى التعبير، وقد يكون هناك ما زادته من إغراء وتهييج مما تقتضيه الحال. وما نقل من الإسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة فكذب، فمثل هذا لا يعلم إلا من الله أو من الرواية الصحيحة عنها أو عنه، ولا يستطيع أحد أن يدّعى ذلك. (قالَ مَعاذَ اللَّهِ) أي أعوذ بالله عز وجل وألتجئ إليه مما تريدين منى فهو يعيذنى أن أكون من الجاهلين كما سيأتى من قوله «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ» .

(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) أي إنه سيدى المالك لرقبتى، قد أحسن معاملتى فى إقامتى عندك وأوصاك بإكرام مثواى، فلا أجزيه بالإحسان إساءة وأخونه فى أهله، ثم علل ما صنع بقوله: (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه تعالى لا يفلح الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس بخيانة وتعدّ على الأعراض لا فى الدنيا ببلوغ الإمامة والرياسة ولا فى الآخرة بالوصول إلى رضوان الله تعالى ودخول جنات النعيم. وفى هذا إيماء إلى الاعتزاز به، والأمانة لسيده، والتعريض بخيانة امرأته، واحتقارها بما أضرم نار الغيظ فى صدرها. (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي ولقد همت بأن تبطش به، إذ عصى أمرها وخالف مرادها وهى سيدته وهو عبدها، وقد استذلت له بدعوته إلى نفسها بعد أن احتالت عليه بمراودته عن نفسه، وكلما ألحّت عليه ازداد عتوّا واستكبارا، معتزا عليها بالديانة والأمانة، والترفع عن الخيانة، وحفظ شرف سيده وهو سيدها، ولا علاج لهذا إلا تذليله بالانتقام، وهذا ما شرعت فى تنفيذه أو كادت بأن همت بالتنكيل به. (وَهَمَّ بِها) لدفع صيالها عنه وقهرها بالبعد عما أرادته. (لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي ولكنه رأى من ربه فى سريرة نفسه ما جعله يمتنع من مصاولتها واللجوء إلى الفرار منها. والخلاصة- إن الفارق بين همها وهمه، أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها إذ فشلت فيما تريد، وأهينت بعتوه واستكباره وإبائه لما أرادت، وأراد هو الاستعداد الدفاع عن نفسه، وهمّ بها حين رأى أمارة وثوبها عليه، فكان موقفهما موقف المواثبة والاستعداد للمضاربة، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر مثله إذ ألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي به تتم حكمته فيما أعده له، فاستبقا باب الدار وكان من أمرهما ما يأتى بيانه فيما بعد، هذا خلاصة رأى نقله ابن جرير وأيده الفخر الرازي وأبو بكر الباقلاني.

ويرى غيرهم من المفسرين أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا ممانع، وهمّ هو بمثل ذلك، ولولا أن رأى برهان ربه لاقترفها. وقد فنّده بعض العلماء لوجوه: (1) إن الهم لا يكون الا بفعل للهامّ، والوقاع ليس من أفعال المرأة حتى تنهم به، وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه. (2) إن يوسف لم يطلب منها هذا الفعل حتى يسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه همّا لها، فالآيات قبل هذه وبعدها تبرئه من ذلك بل من وسائله ومقدماته. (3) إنه لو وقع ذلك لوجب أن يقال (ولقد هم بها وهمت به) لأن الهم الأول هو المقدم بالطبع وهو الهم الحقيقي والهم الثاني متوقف عليه. (4) إنه قد علم من هذه القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما ومصرّة عليه، فلا يصح أن يقال إنها همت به، إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، بل الأنسب فى معنى الهمّ هو ما فسرناه به أوّلا، وذلك لإرادة تأديبه بالضرب. وقد روواهنا أخبارا من الإسرائيليات عن تهتك المرأة وتبذلها مما لا يقع مثله من أوقح الفساق الذين تجردوا من جلابيب الحياء فضلا عمن ابتلى بالمعصية أول مرة من سليمى الفطرة الذين لم تغلبهم ثورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وحيائهم من نظر ربهم إليهم (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) أي جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف عنه دواعى ما أرادت به من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء- بعصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية فى نفسه، حتى لا يخرج من جماعة المحسنين إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو فى رده عليها بأنهم لا يفلحون، وقال: لنصرف عنه السوء والفحشاء، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء، لأنه لم يعزم عليهما بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي إنه من جماعة المخلصين وهم آباؤه الذين أخلصهم بهم وصفّاهم من الشوائب وقال فيهم «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ

أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» . (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إلى الباب ففر يوسف من أمامها هاربا إليه طالبا النجاة منها مرجحا الفرار على الدفاع الذي لا تعرف عاقبته، وتبعته هى تبغى إرجاعه حتى لا يفلت من يدها، وهى لا تدرى إذا هو خرج إلى أين يذهب، ولا ماذا يقول ولا ما يفعل؟ لكنها أدركته. (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي جذبته من ردائه وشدت قميصه فانقدّ. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وجدا زوجها عند الباب، وقد كان النساء فى مصر يلقبن الزوج بالسيد، ولم يقل سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعى، وهذا كلام ربه العليم بأمره، لا كلام من استرقّه. (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وحينئذ خرجت مما هى فيه بمكرها وكيدها، وقالت لزوجها متنصلة من جرمها وقاذفة يوسف: ما جزاء من أراد بأهلك شيئا يسوءك صغيرا كان أو كبيرا إلا سجن يعاقب به، أو عذاب مؤلم موجع يؤد به ويلزمه الطاعة. قال الرازي: وفى هذا القول ضروب من الحيل. (1) إيهام زوجها أن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوءها ويسوءه. (2) إنها لم تصرح بجرمه حتى لا يشتد غضبه ويقسو فى عقابه. كأن يبيعه أو يقصيه عن الدار، وذلك غير ما تريد. (3) إنها هددت يوسف وأنذرته بما يعلم منه أن أمره بيدها ليخضع لها ويطيعها. (4) إنها قالت. إلا أن يسجن والمراد منه أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخويف فحسب، أما الحبس الدائم فكان يقال فيه: (يجب أن يجعل من المسجونين) ألا ترى أن فرعون حين هدد موسى قال (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 26 إلى 29]

وجملة القول فى هذا- أن يوسف عليه السلام كان قوى الإرادة لا يمكّن غيره أن يحتال عليه ويصرفه عن رأيه ويجعله خاضعا له، ومن ثم لم تستطع امرأة العزيز أن تحوّل إرادته إلى ما تريد بمراودتها، ولا عجب فى ذلك فهو فى وراثته الفطرية والمكتسبة ومقام النبوة عن آبائه الأكرمين، وما اختصه به ربه من تربيته والعناية به وما شهد له به من العرفان والإحسان والاصطفاء، وما صرف عنه من دواعى السوء والفحشاء- فى مكان مكين وحرز حصين من أن تتطلع نفسه إلى اجتراح السيئات، وارتكاب المنكرات، فكل ما صوّروه به من الصور البشعة الدالة على الميل إلى الفجور إنما هو من فعل زنادقة اليهود، ليلبسوا على المسلمين دينهم، ويشوّهوا به تفسير كلام ربهم ولا يغّرّنك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة والتابعين فهى موضوعة عليهم، ولا ينبغى أن يعتدّ بها، لأن نصوص الدين تنبذها، إلى أنه من علم الغيب فى قصة لم يعلم الله رسوله غير ما قصه عليه فى هذه السورة، وكفى بهذا دلالة على وضعها. تحقيق زوجها وحكم قريبها وظهور براءة يوسف [سورة يوسف (12) : الآيات 26 الى 29] قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) المعنى الجملي بعد أن ذكر فى الآيات السابقة مخادعتها ليوسف عن نفسه وتغليقها الأبواب وهربه منها إلى الباب وجذبها لقميصه ورؤية سيدها لذلك الحادث واتهامها ليوسف

الإيضاح

بإرادة السوء منها- ذكر هنا تبرئة يوسف لنفسه وحكم قريبها فى القضية بعد بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها، ثم علم الزوج ببراءة يوسف وثبوت خطيئتها. الإيضاح (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) أي هى طلبتنى فامتنعت وفررت كما ترى، وقد قال هذه المقالة وهتك سترها خوفا على النفس والعرض، ولا شك أن هذه حال تحتاج إلى بحث وتشاور وأخذ وردّ لم يبينه لنا الكتاب الكريم وإن كان لا بد أن يحصل حتما كما هو مقتضى العادة والعقل، لأن المقصد من القصة بيان نزاهة يوسف وفضائله لتكون عبرة لغيره. وكانت الأمارات دالة على صدق يوسف لوجوه: (1) إن يوسف كان مولى لها، وفى مجرى العادة أن المولى لا يجرؤ أن يتسلط على سيدته ويتشدد إلى مثل هذا. (2) إنهم رأوا يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج، ومن يطلب امرأة لا يخرج على هذا النحو. (3) إنهم رأوا الزينة قد بدت على وجه المرأة، ولم يكن لها من أثر على وجه يوسف. (4) إنهم لم يشاهدوا من أخلاق يوسف فى تلك الحقبة الطويلة ما يؤيد مثل هذه التهمة أو يقوى الظن عليه بأنه هو الطالب لا الهارب. وقد أظهر الله لبراءته ما يقوّى تلك الدلائل الكثيرة التي تظاهرت على أن بدء الفتنة كانت منها لامنه وأنها هى المذنبة لا هو وذلك ما أشار إليه بقوله: (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي وحكم ابن عمّ لها مستدلا بما ذكر، وكان عاقلا حصيف الرأى فقال: قد سمعنا جلبة وضوضاء ورأينا

شق القميص إلا أنا لا ندرى أيّكما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدام فصدقت فى دعواها أنه أراد بها سوءا، إذ الذي يقبله العقل أنه لما وثب عليها أخذت بتلابيبه فجاذبها فانقدّ قميصه وهما يتنازعان ويتصارعان، وهو من الكاذبين فى دعواه أنها راودته فامتنع وفرّ هاربا فتبعته وجذبته تريد إرجاعه، وإن كان قميصه قدّ من الخلف فكذبت فى دعواها أنه هجم عليها يريد ضربها، وهو من الصادقين فى قوله: أنه فرّ هاربا منها. روى أن هذا الشاهد كان صبيا فى المهد وأيدوه بما نقل عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ما شطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» وما روى عن أبى هريرة قال «عيسى بن مريم وصاحب يوسف وصاحب جريج تكلموا فى المهد» وهذا موقوف لا يصلح الاحتجاج به، والأول قد ضعفه رجال الحديث، إلا أنه لو نطق الطفل بهذا لكان قوله كافيا فى تفنيد زعمها دون حاجة إلى الاستدلال بتمزيق القميص، لأنه من الدلائل الظنية، وكلامه فى المهد من الدلائل اليقينية، وأيضا لو كان كذلك لما كان هناك داع إلى قوله: من أهلها الذي ينفى التحامل عليها ويمنع إرادة الضربها، وأيضا فإن لفظ (الشاهد) لا يقع عرفا إلا على من تقدمت معرفته لما يشهد وإحاطته به. (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) أي فلما نظر إلى القميص ورأى الشق من الخلف أيقن بصدق قوله واعتقد كذبها، وقال إن هذا محاولة للتنصل من جرمها باتهامها له بضروب الكيد المعروفة عن النساء، فهو سنة عامة فيهن، فهن يجتهدن فى التبري من خطاياهن ما وجدن إلى ذلك سبيلا، وكيد النساء عظيم لا قبل للرجال به، ولا يفطنون لحيلهن حتى يدفعوها قدر المستطاع، ولا شك أن هذه شهادة من قريب لها لا يتهم بالتحامل عليها ولا بظلمها وتجريحها برميها بما هى منه براء. (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) أي يا يوسف

[سورة يوسف (12) : الآيات 30 إلى 35]

أعرض عن ذكر هذا الكيد الذي حصل ولا تتحدث به، كى لا ينتشر أمره بين الناس ولا تخف من تهديدها وكيدها لك، وأنت أيتها المرأة توبى إلى ربك، واستغفري لذنبك، إنك كنت من زمرة المجرمين الذين يتعمدون ارتكاب الخطايا ويجترحون السيئات وهم مصرّون عليها. حديث النسوة فى المدينة ومكر امرأة العزيز بهن [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) تفسير المفردات فتاها: عبدها ورقيقها، والشغاف: الغلاف المحيط بالقلب ويقال شغفت فلانا إذا أصبت شغاف قلبه، كما يقال: كبدته إذا أصبت كبده، والضلال: الحيدة عن طريق

المعنى الجملي

الرشد وسنن العقل، بمكرهن: أي بقولهن، وسمى ذلك مكرا لأنهن كن يردن إغضابها كى تعرض عليهن يوسف لتبدى عذرها فيفزن بمشاهدته، وأعتدت: أعدّت وهيأت، والمتكأ: ما يجلس عليه من كراسى وأرائك، وأكبرنه: أعظمنه ودهشن من جماله الرائع، وقطّعن أيديهن: أي جرحنها، حاش لله أي تنزيها لله أن يكون هذا المخلوق العجيب من جنس البشر، واستعصم: استمسك بعروة عصمته التي ورثها عمن نشئوا عليها، الصاغرين: أي الأذلة المقهورين، وأصب إليهن: أمل إلى موافقتهن على أهوائهن، والجاهلين: أي السفهاء الذين يرتكبون القبائح، فاستجاب له: أي أجاب دعاءه، وبدا: ظهر، والآيات هى الشواهد الدالة على براءته عليه السلام، والحين: وقت من الزمن غير محدود. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه تحقيق زوجها فى الحادث وحكم أحد أقاربها بما رأى، وقد استبان منه براءة يوسف، ذكرهنا أن الأمر قد استفاض فى بيوت نساء الوزراء والكبراء فأحببن أن يمكرن بها، لتريهن هذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها خشية لله وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه أن يخونه فى أعز شىء لديه- عله بعد هذا يصبو إليهن ويجذبه جمالهن ويكون له فيهن رأى غير ما رآه فيها، فإنه قد ألف جمالها قبل أن يبلغ الأشد، وكان ينظر إليها نظر العبد إلى سيدته، أو الولد إلى والدته. الإيضاح (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) لم يشر الكتاب الكريم إلى عددهن ولا إلى صفاتهن، لأن العبرة ليست فى حاجة إلى ذلك، والذي يقتضيه العرف ومجرى العادة أنه عمل

جماعة قليلة من بيوتات كبار الدولة يعهد منهن فى العرف أن يأتمرون ويتفقن على الاشتراك فى مثل هذا المكر، إذ نساء البيوت الدنيا أو الوسطى لا تتجه أنظارهن إلى الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الدولة، ولا إلى مشاركتها فى سلب عشيقها ولا إلى التمتع بجماله الساحر، وحادث مثل هذا جدير بأن ينتقل من بيت إلى بيت بوساطة الخدم، ويكون الشغل الشاغل للنساء فى مجالسهن الخاصة وسمرهن فى البيوت، وخلاصته: (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) وهذا كلام يقال للإنكار والتعجب من حصوله لوجوه عدة: (1) إنها امرأة العزيز الأكبر فى الدولة، ولها المنزلة السامية بين نساء العظماء. (2) إن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها. (3) إنها قد بلغ بها الأمر أن جادت بعفتها فكانت هى المراودة والطالبة لا المراودة المطلوبة. (4) إنها وقد شاع ذكرها فى المدينة لم ينثن عزمها عما تريد، بل لا تزال مجدّة فى نيل مرغوبها، والحصول على مطلوبها، كما يفيد ذلك قولهن (تُراوِدُ) وهو فعل يدل على الاستمرار فى الطلب. ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي قد شق حبّه شغاف قلبها أي غلافه المحيط به وغاص فى سويدائه، فملك عليها أمرها، فلا تبالي بما يكون من عاقبة تهتكها، ولا بما يصير إليه حالها. ثم زادوا ذلك تأكيدا بقولهم: (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنا لنعلم أنها غائصة فى مهاوى الضلالة البينة البعيدة عن طريق الهدى والرشاد، ولم يكن قولهن هذا إنكارا للمنكر، ولا كرها للرذيلة، ولا نصرا للفضيلة، بل قلنه مكرا وحيلة، ليصل الحديث إليها، فيحملها ذلك

على دعوتهن، والرؤية بأبصارهن ما يكون فيه معذرة لها فيما فعلت. وذلك منهن مكر لا رأى، وقد وصلن إلى ما أردن كما قال تعالى: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي فلما سمعت مقالتهن التي يردن بها إغضابها حتى تريهن يوسف إبداء لمعذرتها فينلن ما يبغين من رؤيته، وقد كان من المتوقع أن تسمع ذلك، لما اعتيد بين الخدم من التواصل والتزاور، وهن ما قلنه إلا لتسمعه، فإن لم يتم لهن ما أردن احتلن فى إيصاله، وقد كان ما أردن كما قال: (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي مكرت بهن كما مكرن بها، ودعتهن إلى الطعام فى دارها، وهيأت لهن ما يتكئن عليه من كراسى وأرائك كما هو المعروف فى بيوت العظماء، وكان ذلك فى حجرة المائدة، وأعطت كل واحدة منهن سكينا، لتقطع بها ما تأكل من لحم وفاكهة. (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) أي وأمرته بالخروج عليهن، وفى هذا إيماء إلى أنه كان فى حجرة فى داخل حجرة المائدة التي كن فيها محجوبا عنهن، وقد تعمدت إتماما للحيلة والمكر بهن أن يفجأهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه علما منها بما يكون لهذه المفاجأة من الدهشة، وقد تم لها ما أرادت كما يشير إلى ذلك قوله: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي فخرج عليهن فلما رأينه أعظمنه ودهشن لذلك الجمال البارع وذهلن فقطّعن أيديهن بدلا من تقطيع ما يأكلن ذهولا عما يعملن أي فجرحنها بما فى أيديهن من السكاكين، لفرط دهشتهن وخروج حركات الجوارح عن منهاج الاختيار، حتى لم يشعرن بما عملن، ولا ألمن لما نالهن من أذى، واستعمال القطع بمعنى الجرح كثير فى كلامهم فيقولون كنت أقطع اللحم فقطعت يدى، يريدون فأخطأتها فجرحت يدى حتى كدت أقطعها. (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي وقلن هذا على نهج التعجب والتنزيه لله تعالى أن يكون هذا الشخص الذي لم يعهد مثاله فى جماله ولا فى عفته من النوع الإنسانى، إن هو إلا ملك تمثل فى تلك الصورة البديعة التي تخلب الألباب وتدهش الأبصار.

روى عن زيد بن أسلم من مفسرى السلف: أعطتهن أترنجا (ثمر من نوع الليمون الحامض كبير مستطيل يؤكل بعد إزالة قشرته) وعسلا فكن يحززن بالسكين ويأكلنه بالعسل، فلما قيل له: اخرج عليهن خرج، فلما رأينه أعظمنه وتهيمّن به حتى جعلن يحززن أيديهن بالسكين وفيها الترنج ولا يعقلن ولا يحسبن إلا أنهن يحززن الأترنج، قد ذهبت عقولهن مما رأين وقلن حاش لله ما هذا بشرا، أي ما هكذا يكون البشر، ما هذا إلا ملك كريم. (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي حينئذ قالت لهن: إذا كان الأمر ما رأيتنّ بأعينكن، وما أكبرتن فى أنفسكن، وما فعلتن بأيديكن، وما قلتن بألسنتكن، فذلكن هو الذي لمتنّنى فيه، وأسرفتن فى لومى وتعنيفى، وقلتن فيما قلتن، فما يوسف بالعبد العبراني، أو المملوك الكنعانى، ولا بالخادم الصعلوك الذي شغف مولاته حبا وغراما، وراودته عن نفسه ضلالا منها وهياما، بل هو ملك تجلّى فى صورة إنسان، فماذا أنتن قائلات فى أمرى، وهو المالك لسمعى وبصرى، وإنى لأراه بشرا سويا، إنسيا لا جنيا، وجسدا لا ملكا روحانيا، فأتصبّاه بكل ما أملك من كلام عذب، فلا بصبو إلىّ، ولا يظهر نحوى عطفا، ولا يرفع إلىّ طرفا. (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي ولقد راودته عن نفسه فامتنع عما أرادته منه، واستمسك بعروة العصمة التي ورثها عمن نشئوا عليها، ولا عجب فإنّ نظره إلى الله لم يدع فى قلبه البشرى مكانا خاليا لنظرات هذه العاشقة التي شغفها حبا. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي ولئن لم يفعل ما آمره به مستقبلا كما لم يفعله ماضيا: ليسجنن وليكونن من الأذلة المقهورين، فإن زوجى لا يخالف لى رغبة، ولا يعصينى فى أمر وسيعاقبه بما أريد، ويلقيه فى غيابات السجون، ويجعله كغيره من العبيد بعد إكرام مثواه وجعله كولده. وفى ذلك إيماء إلى أنها ستشدد العقوبة عليه أكثر مما توعدت به أوّلا، فهناك أنذرته بسجن قد يكون على أخف صورة وأقلها، وعذاب بأهون أنواعه وألطفها كحبس

فى حجرة الدار، أو لطمة على خديه تزيل منها الاحمرار، وهنا أنذرته بسجن مؤكد وذل وصغار تأباه الأنفس الكريمة كنفس يوسف عليه السلام فأشقّ الأعمال أهون على كرام الناس من الهوان والصغار. وفى هذا التهديد من ثقتها بسلطانها على زوجها مع علمه بآمرها واستعظامه لكيدها، ما كان من حقه أن يجعل يوسف يخاف من تنفيذ إرادتها ويثبت لديه عدم غيرته عليها كما هو الحال لدى كثير من العظماء المترفين العاجزين عن إحصان أزواجهن والمحرومين من نعمة الأولاد منهن. وربما تكون مبالغتها فى تهديده بمحضر من هؤلاء النسوة لما فى قلبها منه من غل وجوى بظهور كذبها وصدقه، وتصميمه على عصيان أمرها، ولتظهر ليوسف أنها ليست فى أمرها على خيفة من أحد فتضيق عليه الحيل، ولينصحنه فى موافقتها ويرشدنه إلى الخلاص من عذابها. يا لله! إن هذا لموقف يهدّ الجبال الراسيات، وتدبير لا قبل لأشد العزائم على احتماله، فامرأة ما كرة هتكت سترها، وكاشفت نسوة بلدها بما تسر وتعلن من أمرها، ونسوة تواطأن معها على الكيد له كما كادت له من قبل بمراودته عن نفسه، ولا سبيل إلى دفع هذه الضراء، وإبعاد تلك اللأواء، إلا بمعونة من ربه، وحفظه من نزغات الشيطان وكلاءة الرحمن، ومن ثم جرى على لسانه ما أكنه جنانه: (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أي قال ربى أنت العليم بالسر والنجوى، والقدير على كشف تلك البلوى: إن السجن الذي هددت به والمكث فى بيئة المجرمين على شظف العيش ورقة الحال- أحب إلى نفسى مما يدعو إليه أولئك النسوة من الاستمتاع بهن فى ترف القصور، والاشتغال بحبهن عن حبك وبقربهن عن قربك. وفى قوله مما يدعوننى إليه إيماء إلى أنهن خوفنه مخالفتها، وزينّ له مطاوعتها فقلن له: أطع مولاتك وأنلها ما تهوى، لتكفى شرها، وتأمن عقوبتها.

(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أي وإن لم تبعد عنى شراك كيدهن وتثبّتنى على ما أنا عليه من العصمة، أمل إلى موافقتهن على أهوائهن وأقع فى شباك صيدهن وأرتع فى حمأة غوايتهن، وقد لجأ يوسف إلى ألطاف ربه، وسلك سبيل المرسلين من قبله، فى فزعهم إلى مولاهم لينيلهم الخيرات، ويبعد عنهم الشرور والموبقات، وإظهارهم أن لا طاقة لهم إلا بمعونته سبحانه مبالغة فى استدعاء لطفه وعظيم كرمه ومنه. (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي من السفهاء الذين تستخفهم الأهواء والشهوات، فيجنحون إلى ارتكاب الموبقات واجتراح السيئات، فمن يعش بين هؤلاء النسوة الماكرات المترفات لا مهرب له من الجهل إلا أن تعصمه بما هو فوق الأسباب والسنن العادية. وفى هذا إيماء إلى أنه ما صبا إليهن، ولا أحب أن يعيش معهن، بل سأل ربه أن يديم له ما عوده من كشف السوء عنه فى قوله «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ» . (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) أي فأجاب له ربه دعاءه الذي تضمنه قوله: وإلا تصرف عنى كيدهن إلخ فصرف عنه كيدهن وعصمه من الجهل والسفه باتباع أهوائهن. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه هو السميع لدعاء من تضرع إليه وأخلص الدعاء له، العليم بصدق إيمانهم وبما يصلح أحوالهم. وفى هذا إرشاد إلى أن ربه حرسه بعنايته فى جميع أطواره وشئونه، ورباه أكمل تربية وما خلّاه ونفسه فى أهون أموره. (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي ثم ظهر للعزيز وامرأته ومن يهمه أمرهما كالشاهد الذي شهد عليها من أهلها- من الرأى ما لم يكن

ظاهرا لهم من قبل- بعد أن رأوا من الآيات ما اختبروه بأنفسهم وشهدوه بأعينهم، مما يدل على أن يوسف لم يكن إنسانا كالذين عرفوا في أخلاقه وعفته واحتقاره للشهوات واللذات التي يتمتع بها سكان القصور، وفى إيمانه بأن ربه لن يتركه بل يكلؤه بعين عنايته، ويحرسه بوافر رعايته، وقد استبان لهم ذلك من وجوه: (1) إن افتنان سيدته فى مراودته وجذبها خلسات نظره لم تؤثر فى ميل قلبه إليها، بل ظل معرضا عنها متحاهلا لها حتى إذا ما صارحته بما تريد استعاذ بربه ورب آبائه، وعيّرها بالخيانة لزوجها. (2) إنها لما غضبت وهمت بالبطش به هم بمقاومتها والبطش بها، ولم يمنعه إلا ما رأى فى دخيلة نفسه من برهان ربه الذي يدل على أن ربه صارف عنه السوء والفحشاء. (3) إنها حين اتهمته بالتعدي عليها شهد شاهد من أهلها أنها كاذبة فى اتهامها إياه وهو صادق فيما ادعاه من مراودتها إياه عن نفسه بدلالة القميص على ذلك. كل هذا أثبت لهم أن بقاءه فى هذه الدار بين ربتها وصديقاتها مثار فتنة لا تدرك غايتها، وأن الحكمة هو تنفيذ رأيها الأول بسجنه لإخفاء ذكره وكف ألسنة الناس عنها فى أمره، وأقسموا ليسجننه حتى حين دون نقيد بزمن معين ليروا ماذا يكون فيه من تأثير السجن وحديث الناس عنه. وفى تنفيذ هذا العزم دلالة على ما كان لهذه المرأة الماكرة من سلطان على زوجها تقوده كيف شاءت، حتى فقد الغيرة عليها، فهو يجرى وراء هواها، ويستجلب رضاها، حتى أنساه ذلك ما رأى من الآيات وعمل برأيها فى سجنه لإلحاق الهوان والصغار به حين أيست من طاعته وطمعت فى أن يذلله السجن لأمرها ويقف به عند مشيئتها.

[سورة يوسف (12) : الآيات 36 إلى 38]

[سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 38] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانة مكر النسوة بامرأة العزيز لتريهن يوسف، ثم مكر امرأة العزيز بهن حتى قطّعن أيديهن وقلن فى يوسف ما قلن من وصف جماله، ثم إظهار امرأة العزيز المعذرة لنفسها فيما فعلت، وعزمها على سجنه إن لم يكن مطواعا لها، ثم حماية الله له من كيدها بعد دعائه إياه، ثم تدبير مؤامرة بين العزيز وامرأته وأهلها على إدخاله السجن مع كل ما رأوا من الآيات حتى ينسى الناس هذا الحديث وتسكن تلك الثائرة فى المدينة. ذكر هنا تنفيذهم لما عزموا عليه من إدخالهم إياه السجن، وما كان من لطف الله به إذ أتاه من علم تعبير الرؤيا ما يستطيع به أن يعبر لكل حالم عما يراه، ويخبر كل أحد عما يسأله عنه مما لم يكن حاضرا لديه وما سيأتى له من طعام وشراب ونحو ذلك، ثم ذكر قول يوسف إن هذا كله نعمة من نعم الإيمان بالله عليه وعلى آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب.

الإيضاح

الإيضاح (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) أي فسجنوه ودخل معه فتيان مملو كان من غلمان ملك مصر أحدهما خبازه والآخر ساقيه- لخيانة نسبت إليهما كانت ستودى بحياته، وبعد أن استقر بيوسف المقام فى السجن- سأله من فيه عن عمله فقال إنى أعبر الرؤى، فقال أحد الفتيين لصاحبه تعالى فلنجرّ به وكان من شأنهما معه ما قصه الله علينا بقوله (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) أي قال صاحب شرابه: إنى رأيت فى المنام أنى أعصر خمرا أي عنبا ليكون خمرا، إذ الخمر لا يعصر، وقيل إن عرب غسان وعمّان يسمون العنب خمرا. روى أنه قال رأيت حبلة من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد فكنت أعصرها وأسقى الملك. (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) أي وقال الآخر وهو الخباز، وقد روى أنه قال: رأيت أنى أخرج من مطبخ الملك وعلى رأسى ثلاث سلال فيها خبز والطير تأكل من أعلاه. (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي قال كل واحد منهما: نبئنى بتأويل ما رأيت أي بتفسيره الذي يئول إليه فى الخارج إذا كان حقا لا أضغاث أحلام. ثم بينا له ثقتهما به فقالا: (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يحسنون تأويل الرؤيا، وما قالا هذا إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن ما جعله كعبة قصادهم وقبلة استفتائهم. وقد يكون المعنى: إنا نراك من الذين يحسنون بمقتضى غريزتهم، ويريدون الخير للناس وإن لم يكن لهم فيه منفعه خاصة لهم. وقد وجد يوسف عليه السلام من ثقة السائلين بعلمه وفضله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤياهما ما جعله يحدثهما بما هو المهم عنده وهو دعوتهما وجميع من فى السجن

إلى توحيد الله، ولكنه جعل فى صدر كلامه ما يطمئنهم على الثقة بصدقه، وذلك بإظهار ما منّ الله به عليه من تعليمه ما شاء من أمور الغيب، وأقرب ذلك إلى اقتناعهم ما يختص بمعيشتهم، ومن ثم جعله بدء الحديث معهم كما حكى سبحانه عنه. (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي قال لهما لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما به وهو عند أهله وبما يريدون من إرساله وما ينتهى إليه بعد وصوله إليكما روى أن رجال الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين طعاما مسموما يقتلونهم به، وأن يوسف أراد هذا من كلامه. وفى ذلك إيماء إلى أنه أوتى علم الغيب، وهذا يجرى مجرى قول عيسى عليه السلام: «وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» . ومن هذا يعلم أن وحي الرسالة جاءه وهو فى السجن، وبذلك تحقق قوله: «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» كما أن وحي الإلهام جاءه حين إلقائه فى غيابة الجب كما تقدم ذكره، وكأنه سبحانه جعل فى كل محنة منحة، وفى كل ما ظاهره أنه بلاء نعمة. (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي ذلكما الذي أنبأتكما به بعض ما علمنى ربى بوحي منه إلى لا بكهانة ولا عرافة ولا ما يشبه ذلك من تعليم بشرى يلتبس به الحق بالباطل ويشتبه فيه الصواب بالخطأ. (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) القوم هنا الكنعانيون وغيرهم من سكان أرض الميعاد، والمصريون الذين هو بينهم فقد كانوا يعبدون آلهة منها الشمس ويسمونها (رع) ومنها عجلهم (أبيس) ومنها فراعنهم، وكان التوحيد خاصا بحكمائهم وعلمائهم، ومعنى تركها أنه ترك دخولها واتباع أهلها من عبدة الأوثان على كثرة أهلها، وفى ذلك لفت لأنظارهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها. والمعنى- إنى برئت من ملة من لا يصدق بالله ولا يقر بوحدانيته وأنه خالق السموات والأرض وما بينهما.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وهم يكفرون بالآخرة والحساب والجزاء على الوجه الذي دعا إليه الأنبياء، إذ أنهم كانوا يصورون حياة الآخرة على صور مبتدعة، منها أن فراعنتهم يعودون إلى الحياة الآخرة بأجسادهم المحنطة ويرجع إليهم الحكم والسلطان كما كانوا فى الدنيا، ومن ثم كانوا يضعون معهم فى مقابرهم جواهرهم وحليهم، ويبنون الأهرام لحفظ جئثهم وما معهم، ولهم معتقدات أخرى فى تلك الحياة لا تشا كل ما جاء عنها على ألسنة الرسل عليهم السلام. (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي واتبعت ملة آبائي الذين دعوا إلى التوحيد الخالص وهم إبراهيم وإسحق ويعقوب، وفى ذكر ذلك ترغيب لصاحبيه فى الإيمان والتوحيد وتنفير لهما عما هما فيه من الشرك والضلال. ثم بين أساس الملة التي ورثها عن أولئك الآباء الكرام فكانت يقينا له بقوله: (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لا ينبغى لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله شيئا فنتخذه ربا مدبرا معه ولا إلها معبودا من الملائكة أو البشر كالفراعنة، فضلا عما دونهما من البقر كالعجل أبيس أو من الشمس والقمر، أو ما يتخذ من التماثيل والصور لهذه الآلهة. (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) أي عدم الإشراك من فضل الله علينا، إذ هدانا إلى معرفته وتوحيده فى ربوبيته وألوهيته، بوحيه وآياته فى الأنفس والآفاق، وعلى الناس بإرسالنا إليهم، ننشر فيهم الدعوة، ونقيم عليهم الحجة، فنهديهم سبيل الرشاد، ونبين لهم محجة الصواب، ونبعدهم عن طرق الغواية والضلال. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعم الله عليهم، فيشركون به أربابا وآلهة من خلقه، يذلون أنفسهم بعبادتهم، وهم مخلوقون لله مثلهم أو أدنى منهم.

[سورة يوسف (12) : الآيات 39 إلى 40]

[سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 40] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) المعنى الجملي بعد أن أبطل يوسف عليه السلام ما هما عليه من الشرك فيما سلف، وذكر أنه قد اتبع ملة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب، وبين أن هذا فضل من الله ومنة عليهم وعلى الناس، وكثير من الناس لا يشكرون الخالق لهذه النعم فيعبدوه وحده دون أن يشركوا به أحدا- دعاهما هنا إلى التوحيد الخالص وأيده بالبرهان الذي لا يجد العقل محيصا من التسليم به والإقرار بصحته فقال: الإيضاح (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا صاحبىّ فى السجن، وناداهما بعنوان الصحبة فى هذه الدار التي هى دار الأشجان وموضع الهموم والأحزان، وفيها تصفو المودة وتخلص النصيحة ليصغيا إلى مقاله، ويقبلا على استماع ما يلقى إليهما به، فالآذان حينئذ مرهفة، والقلوب قد انصرفت عن الدنيا ولذاتها، وتفرغت لعالم آخر غير ما يشغل الناس من زبرج هذه الحياة وزخرفها. (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) هذا استفهام لتقرير ما يذكر بعده وتوكيده، والمراد بالتفرق فى الذوات والصفات المعنوية التي ينعتونهم بها، والصفات الحسية التي يصورها لهم بها الكهنة والرؤساء من رسوم منقوشة، وتماثيل منصوبة، فى المعابد والهياكل، والقهار: الغالب على أمره الذي لا يغلبه أحد.

والمعنى- أأرباب كثيرون هذا شأنهم فى التفرق والانقسام، وما يقتضيه ذلك من التنازع والاختلاف فى الأعمال والتدبير الذي يفسد النظام- خير لكما ولغيركما فيما تطلبون من كشف الضر وجلب النفع وكل ما تحتاجون فيه إلى المعونة من عالم الغيب، أم الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا ينازع ولا يعارض فى تصرفه وتدبيره، وله القدرة التامة والإرادة العامة، وهو المسخر لجميع القوى والنواميس الظاهرة التي تقوم بها نظم العوالم السماوية والأرضية من نور وهواء وماء، والغائبة عنا كالملائكة والشياطين مما كان الجهل بحقيقتها هو سبب عبادتها والقول بربوبيتها؟ ولا شك أن الجواب عن هذا مما لا يختلف فيه عاقل، فلا خير فى تفرق المعبودات التي لا تستطيع ضرّا فى الأرض والسموات. ثم بين لهما أن ما يعبدونه ويسمونه آلهة إنما هى جعل منهم، وتسمية من تلقاء أنفسهم، تلقاها خلف عن سلف ليس لها مستند من العقل ولا الوحى السماوي فقال: (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي ما تعبدون من دون الواحد القهار إلا أسماء لمسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم من قبلكم ونحلتموها صفات الربوبية وأعمالها، وما هى بأرباب تخلق وترزق، وتضر وتنفع، ما أنزل الله حجة وبرهانا على أحد من رسله بتسميتها أربابا، حتى يقال إنكم تتبعونها تعبدا له وحده وطاعة لرسله. والخلاصة- إنها تسمية لا دليل عليها من نقل سماوى فتكون أصلا من أصول الإيمان، ولا دليل عليها من عقل فتكون من نتاج الحجة والبرهان. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم الحق فى الربوبية والعبادة إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله ولا يمكن بشرا أن يحكم فيه بهواه ورأيه، ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، وهذه قاعدة اتفقت عليها كل الأديان، دون اختلاف فى الأمكنة والأزمان. ثم بين ما حكم به الله فقال: (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر ألا تعبدوا غيره ولا تدعوا سواه، فله وحده

[سورة يوسف (12) : الآيات 41 إلى 42]

اركعوا واسجدوا، وإليه وحده توجهوا حنفاء غير مشركين به شيئا من ملك من الملائكة ولا ملك من الملوك الحاكمين، ولا شمس ولا قمر ولا نجم ولا شجر، ولا حيوان كالعجل أبيس لدى المصريين. فالمؤمن الصادق الإيمان لا يذل ولا يخزى لأحد غير الله مما خلق، بدعاء ولا استغاثة ولا طلب فرج من ضيق، لإيمانه بأنه هو الرب المدبر لكل شىء، وأن كل ما سواه فهو خاضع لسلطانه، ولا يملك لنفسه ولا لغيره غير ما أعطاه من القوى، فإليه وحده الملجأ فى كل ما يعجز عنه الإنسان أو يجهله من الأسباب، وإليه المصير فى الجزاء على الأعمال يوم يقوم الحساب. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي إن تخصيصه بالعبادة هو الدين الحق الذي لا عوج فيه، والذي دعا إليه جميع الرسل، ودلّت عليه براهين العقل والنقل. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك هو الدين الحق الذي لا اعوجاج فيه، لا ما ساروا عليه تبعا لآبائهم الوثنيين من الاعتقاد بأرباب متفرقين. وقد خفيت هذه الحقيقة على كثير ممن يدعون اتباع القرآن، فتراهم يتوجهون إلى غير الله من الأولياء والصلحاء إذا مسهم الضر، ويدعونهم خاشعين متذللين، ويسمونهم شفعاء ووسائل عند الله، وما هذا إلا مثل فعل من قبلهم من المشركين، فليس لهم من صفات الربوبية أدنى حظ، ولا من صفات الألوهية أقل نصيب. وبعد أن بين لهما الحق فى مسألة التوحيد وعبادة الله وحده شرع فى إنبائهما عما استنبآه عنه فقال: [سورة يوسف (12) : الآيات 41 الى 42] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)

الإيضاح

تأويل يوسف عليه السلام رؤيا صاحبى السجن ووصيته للناجى منهما الإيضاح (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) وهو الساقي الذي رأى أنه يعصر خمرا، ولم يعيّنه ثقة بدلالة الحال، ورعاية لحسن الصحبة. (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي فيسقى سيده ومالك رقبته. وقد روى أن يوسف قال له فى تعبير رؤياه: ما أحسن ما رأيت، أما الكرمة فهى الملك وحسنها حسن حالك عنده، وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام تمضى فى السجن ثم تخرج وتعود إلى عملك. (وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه. (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أي الطير الكواسر كالحدأة والرّخمة ونحوهما روى أنه عليه السلام قال له: ما رأيت من السلال الثلاث، فثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب. (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) الاستفتاء فى اللغة: السؤال عن المشكل المجهول والفتوى جوابه: أي إن الأمر الذي يهمكما ويشكل عليكما وتستفتيانى فيه قد بتّ فيه وانتهى حكمه. وهذه الفتوى من يوسف عليه السلام زائدة على تعبير رؤياهما داخلة فى باب المكاشفة والإنباء عن الغيب، قالها لهما ليثقا بقوله، ويعلما أنه إنما قالها بوحي من ربه، وأن الملك قد حكم فى أمرهما بما قاله. (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) وهو الذي أول له رؤياه بأنه يسقى ربه خمرا، وتأويلها يدل على نجاته دلالة ظنية لا قطعية، وقد يكون هذا بناء على وحي فيكون

[سورة يوسف (12) : الآيات 43 إلى 49]

الظن بمعنى اليقين وهو كثير فى القرآن الكريم كما قال: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» وقال: «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» . (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي اذكرني لدى سيدك الملك بما رأيت منى وما سمعت وعلمت من أمرى، علّه ينصفنى ممن ظلمنى ويخرجنى من ضائقة السجن، ومما هو جدير أن يذكره به دعوته إياهم إلى التوحيد وتأويله للرؤيا، وإنباؤهم بكل ما يأتيهم من طعام وشراب وغيرهما قبل إتيانه وفتياه التي أفتى بها. (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي فأنسى الشيطان ذلك الساقي الناجي تذكر إخبار ربه أي أن يذكر يوسف للملك. (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) منسيا مظلوما، والبضع من ثلاث إلى تسع، وأكثر ما يطلق على السبع وعليه الأكثرون فى مدة سجن يوسف. [سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

تفسير المفردات

تفسير المفردات السمان: واحدها سمين وسمينة، والعجاف: واحدها عجفاء أي هزيلة ضعيفة، والسنابل: واحدها سنبلة وهى ما يكون فيها الحب، واليابس من السنبل: ما آن حصاده، وعبرت الرؤيا وعبّرتها (بالتخفيف والتشديد) فسرتها ببيان المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي كمن يعبر النهر بالانتقال من ضفّة إلى أخرى، والأضغاث: واحدها ضغث وهو الحزمة من النبات، والأحلام واحده حلم (بضمتين وبالتسكين للتخفيف) : ما يرى فى النوم، وهو قد يكون واضح المعنى كالأفكار التي تكون فى اليقظة، وقد يكون مهوّشا مضطربا فهو يشبّه بالتضاغيث كأنه مؤلف من حزم مختلفة من العيدان والحشائش التي لا تناسب بينها، واذكر: تذكر (أصله اذتكر) ، والدأب: استمرار الشيء على حال واحدة يقولون هو دائب بفعل كذا إذا استمر فى فعله، فذروه: أي اتركوه وادخروه. والشداد الصعاب التي تشتد على الناس. وتحصنون أي تحرزون وتدخرون للبذر، وأغاثه: أعانه ونجاه، وغوّث الرجل: قال: واغوثاه، واستغاث ربه: استنصره وسأله الغوث، ويعصرون: أي ما من شأنه أن يعصر كالزيت من الزيتون والشيرج من السمسم، والأشربة من القصب والنخيل والعنب. المعنى الجملي رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها ذكر المؤرخون أن ملك مصر فى عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة (الهكسوس) وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها،

الإيضاح

وقالوا أضغاث أحلام، وكان من هذا أن لجئوا إلى يوسف فى تأويل الرؤيا، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له. الإيضاح (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي إنى رأيت فيما يرى النائم رؤيا جلية كأنى أراها الآن، سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأيت سبع سنبلات خضر قد انعقد حبّها، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكهنة والعلماء وقال: (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي عبّروها لى وبيّنوا حكمها وما تئول إليه، إن كنتم تعبرون الرؤى وتبينون المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي، فيكون حالكم حال من يعبر النهر من ضفة إلى أخرى. (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) أي قالوا هذه رؤيا من نوع أضغاث الأحلام: أي الأحلام المختلطة من خواطر وأخيلة يتصورها الدماغ فى النوم فلا تومىء إلى معنى معيّن مقصود، وما نحن بأولى علم بتأويل مثل هذه الأحلام المضطربة، بل نحن نعلم غيرها من الأحلام المفهومة المعقولة. وقد يكون مرادهم نفى العلم بجنس الأحلام لأنها مما لا يعلم أو مما لا يكون له معنى تدل عليه تلك الصور المتخيلة فى النوم كما هو رأى الماديين الآن. وقد كان حديث الملك فى رؤياه مع كهنته وعلمائه ورجال دولته مذكرا للذى نجا من الفتيين بيوسف وحسن تعبيره للرؤى بعد أن مضى على ذلك ردح من الزمان كما يشير إلى هذا ما بعده: (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي إنّ عجز الملأ كان فرصة سانحة للذى نجا من الفتيين أن يخبر الملك بأن فى الحبس رجلا صالحا

عالما كثير الطاعة- خبيرا بتأويل الرؤى، فإن أنت أذنت لى مضيت إليه وجئتك بالجواب (وكان ذلك الفتى تذكر بعد مدة من الزمن وصية يوسف له بأن يذكره عند سيده الملك فأنساه الشيطان ذلك) فأرسلوه إليه فجاءه فاستفتاه فيما عجزوا عنه وقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يا يوسف البالغ غاية الكمال بصدقك فى أقوال وأفعالك وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام، أفتنا فى ذلك المنام الذي رآه الملك، وإنى لأرجو أن يحقق الله أملك بالخروج من السجن وانتفاع الملك وملئه بفضلك وعلمك، (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي قال يوسف للملك وملئه مبينا لهم ما يجب عليهم أن يعملوه لتلافى ما تدل عليه الرؤيا من الخطر على البلاد وأهلها قبل وقوع تأويلها، من زراعة القمح سبع سنين متوالية بلا انقطاع ثم بادخار ما يحصد منه فى كل زرعة فى سنابله على طريق تحفظه من السوس بتسرب الرطوبة إليه حتى يكون القمح لغذاء الناس والتبن للدواب حين الحاجة إليه، إلا قليلا من ذلك تأكلونه فى كل سنة مع الاقتصاد والاكتفاء بما يسد الحاجة ويكفى دفع المخمصة، وهذه السنون السبع هى تأويل البقرات السبع السمان. أما السنبلات الخضر فعلى حقيقتها فى كون كل سنبلة تأويلا لزرع سنة. (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي ثم تأتى بعد ذلك سبع سنين كلهن جدب وقحط، يأكل أهلها كل ما ادخرتم فى تلك السنين لأجلهم، إلا قليلا مما تحزنون وتدخرون للبذر، ونسبة الأكل إلى السنين هو ما جرت به عادتهم فيقولون أكلت هذه السنة كل شىء ولم تبق لنا خفا ولا حافرا ولا سبدا ولا لبدا: أي لا شعرا ولا صوفا. فهذا تأويل البقرات السبع العجاف وأكلهن للسبع السمان، وللسنبلات اليابسات.

[سورة يوسف (12) : الآيات 50 إلى 52]

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي ثم يعقبهم بعد تلك الشدائد عام فيه يغاث الناس: أي يغيثهم الله من تلك الشدة أتم إغاثة ويعينهم بجميع أنواع المعونة، فتغلّ البلاد وتكثر المحصولات بجميع أنواعها ويعصرون ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمن ونحوها من الفواكه. وخلاصة ذلك- إن العام يكون عام خصب وإقبال، ويكون للناس فيه ما يبغون من النعمة والإتراف، والإنباء بهذا العام زائد على تأويل الرؤيا ولم يعرفه يوسف على التخصيص والتفصيل إلا بوحي من الله عز وجل. [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) طلب الملك ليوسف وتريثه فى الإجابة حتى يحقق حادثة النسوة بعد أن رجع الرسول إلى الملك وملئه وأبلغهم ما قاله يوسف عليه السلام، فهموا منه سعة علمه وحسن تدبيره لدى ذلك الخطب الجلل الذي سيحل بالبلاد، فطلب الملك رؤيته ليتحقق بنفسه صدق ما فهمه من كلامه، إذ ليس الخبر كالخبر وليس السماع كالمشاهدة، وذلك هو الرأى والحزم.

الإيضاح

الإيضاح (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) كى أستمع كلامه وأعرف درجة عقله وأعلم تفضيل رأيه (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وبلّغه أمر الملك وطلب إليه إنفاذه. (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) البال: هو الأمر الذي يبحث عنه ويهتم به: أي ارجع إلى سيدك قبل شخوصى إليه ومثولى بين يديه، وسله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن ليعرف حقيقة أمره، إذ لا أود أن آتيه وأنامتهم بقضية عوقبت من أجلها بالسجن وقد طال مكثى فيه دون تعرف الحقيقة ولا البحث فى صميم التهمة. (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى هو العالم بخفيّات الأمور، وهو الذي صرف عنى كيدهن فلم يمسسنى منه سوء. وقد دل هذا التريث والتمهل من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور: (1) جميل صبره وحسن أناته، ولا عجب فمثله ممن لقى الشدائد جدير به أن يكون صبورا حليما، ولا سيما ممن ورث النبوة كابرا عن كابر، وقد ورد فى الصحيحين مرفوعا «ولو لبثت فى السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» ، وفى رواية أحمد «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر» (2) عزة نفسه وصون كرامته، إذ لم يرض أن تكون التهمة بالباطل عالقة به، فطلب إظهار براءته وعفته عن أن يزنّ بريبة أو تحوم حول اسمه شائبة السوء. (3) إنه عفّ عن اتهام النسوة بالسوء والتصريح بالطعن عليهن حتى يتحقق الملك بنفسه حين ما يسألهن عن السبب فى تقطيع الأيدى ويعلم ذلك منهن حين الإجابة. (4) إنه لم يذكر سيدته معهن وهى السبب فى تلك الفتنة الشعواء وفاء لزوجها ورحمة بها، وإنما اتهمها أولا دفاعا عن نفسه حين وقف موقف التهمة لدى سيدها وبعد أن طعنت فيه.

(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب إما لغرابته وإما لإنكاره، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ» وقوم موسى: «فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ» أي إن الرسول بعد أن أبلغ الملك قول يوسف: إنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق قصة النسوة- جمعهن وسألهن: ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه: هل كان عن ميل منه إليكن، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها، وماذا كان السبب فى إلقائه فى السجن مع المجرمين. (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي معاذ الله. ما علمنا عليه سوءا يشينه ويسوءه لا قليلا ولا كثيرا. (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) حصحص: ظهر بعد أن كان خفيا أي إن الحق فى هذه القضية كان فى رأى من بلغهم- موزّع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف، لكل مناحصة بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظهر الحق فى جانب واحد لا خفاء فيه، وهن قد شهدن بما علمن شهادة نفى، وهأنذا أشهد على نفسى شهادة إيجاب. (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) لا أنه راودنى، بل استعصم وأعرض عنى. (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فى قوله حين افتريت عليه: هى راودتنى عن نفسى، والذي دعاها إلى هذا الاعتراف مكافأة يوسف على ما فعله من رعاية حقها وتعظيم جانبها وإخفاء أمرها حيث قال: (ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) ولم يعرض لشأنها. وفى هذا الاعتراف شهادة مريحة من امرأة العزيز ببراءة يوسف من كل الذنوب، وطهارته من كل العيوب. (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي ذلك الاعتراف منى بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علمته منه، ليعلم أنى لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أنل

من أمانته، أو أطعن فى شرفه وعفته، بل صرحت لأولئك النسوة بأنى راودته عن نفسه فاستعصم، وهأنذا أقر بهذا أمام الملك ورجال دولته وهو غائب عنا. (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا ينفذه بل يبطله وتكون عاقبته الفضيحة والنكال، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا، وسجنّاه فبرأه الله وفضح مكربا، حتى شهدنا على أنفسنا فى مثل هذا الحفل الرهيب والمقام المنيف ببراءته من كل العيوب، وسلامته من كل سوء. وعلى الجملة فالتحقيق أسفر عن أن يوسف كان مثل الكمال الإنسانى فى عفته ونزاهته لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة، وأن امرأة العزيز أقرّت فى خاتمة المطاف بذنبها فى مجلس الملك إيثارا للحق وإثباتا لبراءة يوسف عليه السلام. نسألك سبحانك الهداية والتوفيق، وأن تسدد خطانا إلى أقوم طريق، بمنك وكرمك وجزيل معونتك، إنك نعم المولى ونعم النصير. وصل ربنا على محمد وآله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد كان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثمان بقين من صفر من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف هجريه.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 5 كان عرش الله على الماء فى أثناء خلق العالم قبل تكوين السموات والأرض. 6 الماء أصل جميع الأحياء. 7 استعجال المشركين للعذاب 8 الإنسان محروم من فضيلتى الصبر والشكر. 11 كان الرسول صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لعناد المشركين وجحودهم لدعوته. 12 دعواهم أن القرآن مفترى وليس بوحي من عند الله. 14 قصص القرآن والأغراض منه. 15 حكمة التحدي بعشر سور. 17 الدين يبيح التمتع بالطيبات ويبيح الزينة فى غير سرف ولا خيلاء. 27 الإيمان لا يكون بالإكراه. 29 الرسول لا يعلم الغيب. 38 دعوة نوح لابنه إلى الإيمان. 41 لا يجوز الدعاء بما يخالف سنن الله فى الخلق. 42 لا علاقة للصلاح بالوراثة والنسب. من يغتر بنسبه ولا يعمل بما يرضى ربه فهو جاهل بكتابه. 43 قصص القرآن من عالم الغيب. 44 هل كان الطوفان عاما أو خاصا 45 حادث الطوفان فى القرآن والتوراة والتاريخ القديم. 46 عمر نوح عليه السلام.

الصفحة المبحث 56 آية صالح نافته. 57 الصيحة التي أهلكت بها ثمود. بشارة الملائكة لإبراهيم وامرأته بإسحاق 59 سرور الملائكة بإبراهيم حين إهلاك قوم لوط. ولد إسحاق لإبراهيم وسنه مائة سنة وكانت سن امرأته تسعين. 60 الفرق بين الروع (بالضم) والروع (بالفتح) . 61 مجادلة إبراهيم للملائكة فى سفر التكوين من التوراة. 66 أمر لوط بالسرى ليلا. 70 الإفساد تعطيل شامل لمصالح الدين والدنيا. 77 تهديد قوم شعيب له بالرجم. 78 آيات موسى التسع. 85 الناس يوم القيامة فريقان. 88 إنذار المشركين بحلول العذاب بهم كما حلّ بسالف الأمم. 91 تحكيم العقل البشرى فى الخوض فى ذات الله وصفاته تجاوز لحدوده. الاختلاف فى أمور القضاء والسياسة وأمور المعاش أمر طبيعى. 92 أمر الرسول بالاستقامة. 93 الاستعانة بالظلمة رضا بأعمالهم. يجب الأخذ على أيدى الظلمة وأئمة الجور. 95 الصلاة أس العبادات المغذية للإيمان. 96 السنن العامة فى إهلاك الأمم. 97 العقول السليمة تكفى لفهم ما فى دعوة الرسل من الخير. الله لا يهلك أمة لشركها ما دام أهلها مصلحين.

الصفحة المبحث 98 لو شاء الله لجعل الناس على دين واحد. 100 فى قصص الرسل مع أممهم تثبيت لفؤاده صلى الله عليه وسلم وبيان لوجه الحق فى دعوته 105 أتباع الرسل هم الفقراء. 106 يوسف الصديق مثل كامل فى عفته وصبره. 107 ما فى قصص يوسف من عبرة 112 قصص يوسف أحسن القصص. 113 قصص يوسف رؤياه على أبيه. 114 نهى أبيه له عن إخبار إخوته بهذه الرؤيا. 118 تآمر إخوة يوسف على الفتك به وتدبير المكيدة له. 119 خوف يعقوب على يوسف مع ذكر السبب فى ذلك. 121 إلقاء يوسف فى الجب. 122 ادعاؤهم أن الذئب قد أكله ومجيئهم بدم كذب تصديقا لذلك 123 عثور السيارة عليه فى الجب وفرحهم به. 124 بيعه فى مصر بثمن بخس دراهم معدودة. 125 شراء رئيس وزراء مصر له وأمر زوجه بإكرامه 126 كان عزيز مصر عقيما وكان صادق الفراسة. 127 علم الله يوسف الحكم الصحيح فيما يعرض له من مشكلات الأمور. 128 مراودة امرأة العزيز له عن نفسها. 129 امتناعه عن إجابة طلبها. 130 رأى ابن جرير والفخر الرازي فى تفسير آية المراودة. 131 رأى الجمهور فى تفسيرها ثم تفنيد ذلك بالأدلة. 132 شكوى المرأة لزوجها من يوسف؟؟؟ ونحيلها فى ذلك. 133 تحقيق زوجها للحادث وحكم قريبها ببراءة يوسف.

الصفحة المبحث 134 الأمارات الدالة على صدق يوسف. 135 هل كان شاهد يوسف صبيا؟. 136 حديث النسوة فى المدينة ومكر امرأة العزيز بهن. 138 تعجب النسوة من حصول الحادث لأسباب. 139 تدبيرها المحكم للكيد بهن. 140 سلواها بما يكون معذرة؟؟؟ لها فى ظنها. تهديدها إياه بالسجن إن لم يجبها إلى ما تطلب. 141 دعاؤه ربه أن يصرف عنه كيد النسوة. 142 استجابة ربه لدعائه. تصميمهم على سجنه مع ظهور براءته. 144 تعبيره الرؤى لمن فى السجن. 148 عظته للمسجونين وطلبته منهم الإيمان بالله وحده 150 صادق الإيمان لا يذل إلا لله. 151 تعبيره رؤيا ساقى الملك وخبازه. 152 رؤيا الملك فى المنام وطلبه تعبيرها. تأويل الكهنة لها. 153 تأويل يوسف لها. 156 طلب الملك ليوسف وتريثه فى الإجابة. 157 الأسباب التي حملته على التريث فى إجابة الطلب. 158 اعتراف المرأة ببراءة يوسف. 159 ما أسفر عنه التحقيق.

تتمة سورة يوسف

الجزء الثالث عشر [تتمة سورة يوسف] تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم احمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثالث عشر

[سورة يوسف (12) : آية 53]

الجزء الثالث عشر بسم الله الرحمن الرحيم [سورة يوسف (12) : آية 53] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) المعنى الجملي هذه الآية الكريمة من تتمة إقرار امرأة العزيز كما اختاره أبو حيان فى البحر، ويؤيده عطفه على ما قبله، وقد جعلت أول الجزء الثالث عشر، لأن تقسيم القرآن إلى الأجزاء الثلاثين قد لوحظ فيه مقادير الكلم العددى دون المعاني. الإيضاح (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) أي وما أبرئ نفسى من دعوى عدم خيانتى إياه بالغيب بعد أن وجهت إليه اقتراف الذنب وقلت: «ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ، وأودعته السجن وعرف الناس خاصتهم وعامتهم ذلك، وكأنها بذلك تريد التنصّل مما كان.

تولية يوسف رئيسا لحكومة مصر

(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي إن النفس البشرية لكثيرة الأمر بعمل السوء، لما فيها من دواعى الشهوات الجسمية والأهواء النفسية، بما ركب فيها من القوى والآلات لتحصيل اللذات، وما يوسوس الشيطان ويزيّنه لها من النزغات، ومن ذلك أن حرّضت زوجى على سجن يوسف وقد كان ذلك مما يسوءه، فالعفيف النزيه لا يرضى أن يزنّ بالريبة كما يسوء زوجى، إذ لا يرضى أن يكون عرضه مضغة للأفواه، وحديث الناس فى أنديتهم وأسمارهم. (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلا نفسا رحمها ربى فصرف عنها السوء والفحشاء بعصمته كنفس يوسف عليه السلام. ثم عللت ما سلف بقولها: (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربى عظيم المغفرة، فيغفر ما يعترى النفوس بمقتضى طباعها، إذ ركب فيها الشهوات الجسمية والأهواء النفسية. تولية يوسف رئيسا لحكومة مصر وما وقع لإخوته معه حينئذ [سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 55] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) المعنى الجملي بعد انتهاء التحقيق فى أمر النسوة وظهور براءة يوسف من كل سوء، طلب الملك إحضاره إليه من السجن بعد أن وفّى له بما اشترط لمجيئه- فلما جاءه وسمع كلامه فهم من فحوى حديثه، ومن أمانته على مال العزيز وعرضه وحسن تصرفه، ومن سيرته الحسنة

الإيضاح

فى السجن، ومن علمه وفهمه فى تأويله للرؤيا، ومن حرصه على إظهار شرفه وكرامته فى مسألة النسوة ما دل على أنه أهل لأن يرفع إلى أعلى المراتب، ويولّى أسمى المناصب وذلك هو ما فعله الملك لحصافة رأيه وبصره بأقدار الرجال، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريبا أو فقيرا أو مملوكا، كما تشير إلى ذلك الآيتان. الإيضاح (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي وقال الملك أحضروه من السجن إلىّ بعد أن وفيت له بما طلب: أجعله خالصا لى وموضع ثقتى، فلا يشاركه أحد فى إدارة ملكى ولا تكون وساطة بينه وبينى. وقد جرت عادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم، قال ابن عباس: إن الرسول أتاه فقال ألق عنك ثياب السجن، والبس ثيابا جددا، وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن ودعا لهم وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رآه غلاما حدثا، فقال أيعلم هذا رؤياى ولم يعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدامه، وقال لا تخف وألبسه طوقا من ذهب وثيابا من حرير وأعطاه دابة مسرجة مزيّنة كدابة الملك وضرب الطبل بمصر- إن يوسف خليفة الملك. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي فأتوه به فلما كلمه وسمع ما أجاب به، قال له إنك لدينا ذو مكانة سامية، ومنزلة عالية، وأمانة تامة، فأنت غير منازع فى تصرفك، ولا متهم فى أمانتك. وفى هذا إيماء إلى أن الحوار بين المتخاطبين يظهر معارف الإنسان وأخلاقه، وآدابه وجميع شمائله، فيقدره من يعرف أقدار الرجال ويزنهم بفضائلهم ومزاياهم. والظاهر أن الملك كلمه مشافهة بدون ترجمان، لأن يوسف كان قد عرف اللغة المصرية من العزيز وامرأته بمحادثته إياهما ومع حاشية الوزير من حين قدم مصر، ومن محادثته صاحبيه فى السجن. وقد تكون اللغة التي كان يتكلم بها يوسف لغة جده إبراهيم وأولاده وحفدته وكانوا من العرب القحطانيين ثم تفرعت من هذه العربية الإسماعيلية فالمصرية والعبرانية

[سورة يوسف (12) : الآيات 56 إلى 57]

والسريانية، وكان ملوك مصر وكبراء حكامها فى ذلك العهد من أولئك العرب وهم الذين يسمون بالرعاة (الهكسوس) . ويقول المؤرخون إن ملك مصر فى ذلك العهد كان يسمى الوليد بن الريان. (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) الخزائن واحدها خزانة وهى ما تخزن فيه غلات الأرض ونحوها، أي قال ولّنى خزائن أرضك كلها، واجعلنى مشرفا عليها، لأنقذ البلاد من مجاعة مقبلة عليها تهلك الحرث والنسل. ثم ذكر سبب طلبه فقال: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أي إنى شديد الحفظ لما يخزن فيها، فلا يضيع منه شىء، أو يوضع فى غير موضعه، عليم بوجوه تصريفه وحسن الانتفاع به. وقد طلب إدارة الأمور المالية، لأن سياسة الملك وتنمية العمران وإقامة العدل فيه تتوقف عليها، وقد كان مضطرا إلى تزكية نفسه فى ذلك حتى يثق به الملك ويركن إليه فى تولية هذه المهامّ. وما أضاع كثيرا من الممالك الشرقية فى القرون الأخيرة إلا الجهل والتقصير فى النظام المالى وتدبير الثروة وحفظها فى الدولة والأمة. روى أن الملك لما كلمه وقص عليه رؤياه وعبرها له، قال ما ترى أيها الصدّيق؟ قال تزرع فى سنى الخصب زرعا كثيرا وتبنى الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فإنه أبقى له، ويكون القصب علفا للدواب، فإذا جاءت السنون العجاف بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم، فقال الملك ومن لى بهذا ومن يجمعه ويبيعه لى ويكفينى العمل فيه؟ قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم. [سورة يوسف (12) : الآيات 56 الى 57] وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه إجابة الملك له بأنه أصبح لديه مكينا أمينا وطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض يصرفها بحسب ما يرى من التدبير والنظام والدّراية والإحكام. ذكر هنا أنه أجابه إلى مطلبه وجعله وزيرا فى دولته يتصرف فى شئونها لحسن تدبيره وثاقب رأيه، وذلك جار على سنن الله فى خلقه، فلن ينال الرياسات العليا، والمناصب الرفيعة، إلا من يؤتيه الله من المواهب ما يجعله قادرا على ضبط الأعمال وإقامة النظام وحسن السياسة والكياسة فى تصريف الأمور. الإيضاح (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي ومثل هذا التمكين الذي سلف ذكر أسبابه ومقدماته، فقد ذكرنا أن إخوة يوسف لو لم يحسدوه ما ألقوه فى غيابة الجب، ولو لم يلقوه لما وصل إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيز بفراسته وأمانته وصدقه لما أمّنه على بيته وماله وأهله، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها، ولو لم تخبّ فى كيدها وكيد صواحباتها ما ألقي فى السجن لإخفاء هذا الأمر، ولو لم يسجن لما عرفه ساقى الملك وعرف علمه وفضله وصدقه فى تعبير الرؤيا، ولو لم يعرف ذلك منه الساقي ما عرفه ملك مصر ولم يجعله على خزائن الأرض، فما من حلقة من هذه السلسلة إلا كانت متممة لما بعدها، وبإذن الله كانت سببا للوصول إلى ما يليها، فكلها فى بدايتها كانت شرا وخسرا، وفى عاقبتها فوزا ونصرا مبينا، ومهدت للتمكين لدى ملك مصر. فكما مكّن له فى ذلك مكن له فى أرض مصر، وقد جىء به مملوكا فأصبح مالكا ذا نفوذ وأمر ونهى لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره، وصار الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه فيما يرى بما أعده الله تعالى له من تحلية بالصبر واحتمال الشدائد، والأمانة والعفة وحسن التصرف والتدبير للأمور.

(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي نخص برحمتنا من إعطاء الملك والرياسة والغنى والصحة ونحوها من نشاء من عبادنا، بمقتضى ما وضعنا من السنن فى الأسباب الكسبية مع موافقتها للأحداث الكونية، ومراعاة النظم الاجتماعية، والفضائل الخلقية. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي ولا نضيع أجر من أحسنوا فى أعمالهم بشكران هذه النعم، بل نأجرهم عليها سعادة وهناءة، وقد بذلنا تلك النعم لمن يطلبها متى أتى الأمور من أبوابها، وسار على مقتضى السنن التي وضعناها. أما من يسيئون التصرف فيها فتصيبهم المنغّصات، وتتوالى عليهم المكدّرات فالمسرفون لا يلبثون أن ينالهم الفقر والعدم، والظالمون يثيرون أضغان المظلومين، وذوو الخيلاء والبطر يكونون محتقرين، وقلما يصيب المحسنين الشاكرين من ذلك شىء وإن نالهم منه شىء يكن هيّنا عليهم وهم عليه صبر. وفى الآية إيماء إلى أنه ما أضاع صبر يوسف على أذى إخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز بل كان جزاؤه ما مكّن له فى الأرض ولدي ملك مصر: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي إن أجر الآخرة وهو نعيمها يكون للمؤمنين المتقين، وهو خير لهم من أجر الدنيا لأهلها وإن بلغوا سلطان الملك، فإنّ ما أعده لأولئك ليتضاءل أمامه كل ما فيها من مال وجاه وزينة، ولا شبهة فى أن من يجمعون بين السعادتين يكون فضل الله عليهم أعظم، إذ هم أعطوا حقها من الشكر وقاموا بما يجب عليهم نحو خالقهم من طاعته وترك معصيته. روى الشيخان عن أبى صالح عن أبى هريرة قال: «قال فقراء المهاجرين للنبى صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ذهب أهل الدثور (واحدها دثر بالفتح: المال الكثير) بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال ما ذاك؟ قالوا يصلّون كما نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون كما نتصدق ويعتقون ولا نعتق، قال صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من

[سورة يوسف (12) : الآيات 58 إلى 62]

صنع مثلكم؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: تسبّحون وتكبّرون وتحمدون الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة» قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» . [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) تفسير المفردات المعرفة والعرفان: معرفة الشيء بتفكر فى أثره، وضده الإنكار، وجهزهم: أي أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله، وجهاز السفر: أهبته وما يحتاج إليه فى قطع المسافة، ومثله جهاز الميت والعروس (بالكسر والفتح وبهما قرئ) أو فى الشيء: جعله وافيا تاما، المنزلين: أي المضيفين للضيوف، نراود: أي نخادع ونستميل برفق، لفاعلون: أي لقادرون على ذلك، لفتيانه: أي غلمانه الكيالين، بضاعتهم: أي التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما، والبضاعة: المال الذي يستعمل للتجارة، والرحال: واحدها رحل: وهو ما يوضع على ظهر الدابة وفوقه متاع الراكب وغيره، وانقلبوا: أي رجعوا. المعنى الجملي جاء فى سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام حين ولى الوزارة طفق

الإيضاح

يعد العدة ويأخذ الأهبة لتنفيذ التدابير التي بقي بها البلاد من خطر المجاعة التي جاءت فى تأويل رؤياه للملك، وكان من ذلك أن بنى الأهراء العظيمة وخزن فيها الحبوب التي استكثر منها مدة سنى الخصب السبع الأولى، فلما جاءت السبع الشداد وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار القريبة منها ولا سيما أقربها إليها وهى فلسطين من بلاد الشام، واشتهر لدى أهلها ما فعله يوسف فى مصر من حسن التدبير حتى كثرت فيها الغلال وأصبح يبيع ما زاد على حاجة أهلها للأقطار المجاورة لها أمر يعقوب عليه السلام أولاده أن يرحلوا إلى مصر ويأخذوا معهم ما يوجد فى بلادهم من بضاعة ونقد فضة ويشتروا به قمحا لأن المجاعة أو شكت أن تقضى عليهم فنفّذوا ما أراد وكان بينهم وبين يوسف ما قصه الله علينا في كتابه الكريم. الإيضاح (جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) ممتارين حين أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر، وكان قد حل بآل يعقوب ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم يا بنى قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه واشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر. (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) وهو فى مجلس ولايته، لأن أمر الميرة وشراء الغلال كان بيده ورهن أمره. (فَعَرَفَهُمْ) حين دخلوا عليه بلا تردد، إذ كان عددهم وشكلهم وزيّهم لا يزال عالقا بخياله لنشوئه بينهم ولا سيما ما قاساه منهم فى آخر عهده بهم، وربما كان عمال يوسف وعبيده قد سألوهم عن أمرهم قبل أن يدخلوهم عليه وأخبروه بأوصافهم والبيئة التي رحلوا منها. (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لنسيانهم له بطول العهد، وتغير شكله بدخوله فى سن الكهولة ولما كان عليه من عظمة الملك وزيّه وشارته، وما كان من حاجتهم إلى برّه وعطفه.

فكل أولئك مما يحول دون التثبت من معارف وجهه، ولا سيما أنهم كانوا يظنون أنه قد هلك أو طوّحت به طوائح الأيام، ولو كانوا قد فطنوا لبعض ملامحه وتذكروه بها لربما عدوه مما يتشابه فيه بعض الناس ببعض العادات، وبخاصة أنه لم يكن يدور بخلدهم أن أخاهم قد وصل إلى ذلك المركز السامي. (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي ولما أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله من الميرة والطعام وجهزهم بما سوى ذلك من الزاد وبما يحتاج إليه المسافرون عادة على قدر طاقتهم وبيئتهم. (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) هو شقيقه بنيامين، وسبب ذلك أن يوسف ما كان يعطى لأحد إلا حمل بعير، وقد كان إخوته عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه، وإن أباهم لتقدم السن به وشدة حزنه لا يستطيع الحضور، وإن أخاهم بقي فى خدمة أبيه، ولا بد لهما من شىء من الطعام فجهز لهما بعيرين آخرين، وقال لهم جيئونى بأخيكم لأراه. وفى سفر التكوين أنه كان استنبأهم عن أنفسهم متنكرا لهم، إذ عرفهم ولم يعرفوه واتهمهم بأنهم جواسيس جاءوا ليروا عورة البلاد، فأنكروا ذلك وأخبروه خبرهم، فقالوا نحن عبيدك اثنا عشر أخا ونحن بنو رجل واحد فى أرض كنعان، وهذا الصغير عند أبينا اليوم، والواحد مفقود، فقال لهم يوسف، ذلك ما كلمتكم به قائلا، جواسيس أنتم، بهذا تمتحنون، وحياة فرعون لا تخرجون من هنا إلا بمجىء أخيكم الصغير إلى هنا. فدعوا رهينا عندى وأتونى بأخيكم من أبيكم، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده. ثم أمر يوسف أن تملأ أوعيتهم قمحا وترد فضة كل واحد إلى عدله وأن يعطوا زادا للطريق، ففعل لهم هكذا اه. (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي أتمه ولا أبخسه وأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم. (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي وأنا على هذا خير المضيفين لضيوفه، فقد أحسن ضيافتهم وجهزهم بالزاد الكافي لهم مدة سفرهم ومن هذا يعلم أن رواية اتهامهم بالتجسس ضعيفة على كونها لا تليق بمن دون الصديق النبي وهو يعلم بطلانها، إلا أن تكون ذريعة لغرض صحيح كاتهامهم بالسرقة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 63 إلى 64]

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي فإذا عدتم تمتارون لأهلكم ولم يكن معكم منعتم من الكيل فى بلادي فضلا عن إيفائه وإكماله الذي كان لكم بأمرى. (وَلا تَقْرَبُونِ) أي ولا تقربونى بدخول بلادي فضلا عن الإحسان فى الإنزال والضيافة. وفى ذلك إيماء إلى أنهم كانوا على نية الامتيار مرة بعد أخرى، وأن ذلك كان معلوما عليه السلام، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي، وإلا فالبرّ كان يقتضى أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه، ولعل الله أراد تكميل أجر يعقوب فى محنته، وهو الفعال لما يريد فى خلقه. (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنجتهد ونختال على أن ننزعه من يده ونحوّله عن إرادته فى إبقائه عنده إلى إرادتنا وإرادتك، ونقنعه بإرساله معنا كما تحب. (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك لا محالة ولا نتوانى فيه. (وَقالَ لِفِتْيانِهِ) أي غلمانه الكيالين. (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) أي اجعلوا بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام، وكانت نعالا وجلودا، فى أمتعتهم من حيث لا يشعرون: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي لكى يعرفوا لنا حق إكرامهم بإعادتها إليهم وجعل ما أعطيناهم من الغلة مجانا بلا ثمن، إذا هم رجعوا إلى أهلهم وفتحوا متاعهم فوجدوها فيه. ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم بقوله: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلينا طمعا فى برنا، فإن العوز إلى القوت من أقوى الدواعي إلى الرجوع: [سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 64] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

الإيضاح

الإيضاح (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي قالوا حين رجوعهم إلى أبيهم: إن عزيز مصر أصدر أمره بمنع الكيل لنا فى المستقبل إن لم نحضر معنا أخانا بنيامين فقال: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) . (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) من الطعام ما نحتاج إليه بقدر عددنا ونكون قد وفّينا له بما شرط علينا، والعرب تقول كلت له الطعام إذا أعطيته، واكتلت منه وعليه إذا أخذت منه أو توليت الكيل بنفسك. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فى ذهابه وإيابه، فلا يناله مكروه تخافه، وكأنهم كانوا يعتقدون أن أباهم لا بد أن يرفض إجابتهم خوفا عليه من أن يحدث له مثل ما حدث ليوسف بدافع الحسد من قبل، فكان جوابه لهم ما حكى الله سبحانه عنه. (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل، تغيّبونه عنى وتحولون بينى وبينه، وقد قلتم مثل هذا الكلام فى يوسف إذ ضمنتم حفظه وقلتم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ثم خنتم فى عهدكم وكذبتم فأضعتم يوسف، فأنتم لا يوثق لكم بوعد، ولا يطمأنّ منكم إلى عهد، فما أشبه الليلة بالبارحة. (فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً) أي فأنا أتوكل على الله فى حفظ بنيامين لا على حفظكم. (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأرجو أن يرحمنى بحفظه، ولا يبتلينى بفقده، كما ابتلاني من قبل يفقد أخيه يوسف، فرحمته واسعة، وفضله عظيم. وهذا كما ترى، فيه ميل منه إلى الإذن والإرسال، لما رأى من شدة الحاجة إلى ذلك، ولأنه لم ير فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما شاهد بينهم وبين يوسف، وفيه من التوكل على الله ما لا خفاء فيه.

[سورة يوسف (12) : الآيات 65 إلى 66]

[سورة يوسف (12) : الآيات 65 الى 66] وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) تفسير المفردات المتاع: ما ينتفع به والمراد هنا وعاء الطعام، والبضاعة: ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام، ونمير أهلنا: أي نجلب لهم الميرة (بالكسر) وهى الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد، كيل بعير: أي حمل جمل، فكيل بمعنى مكيل، ويسير: أي قليل لا يكثر على سخائه كما جاء فى قوله: «وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً» أو سهل لا عسر فيه كما فى قوله: «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» والموثق: العهد الموثّق، إلا أن يحاط بكم: أي إلا أن تغلبوا على أمركم، أو إلا أن تهلكوا، فإن من يحيط به العدو يهلك غالبا، وكيل: أي مطلع رقيب، فإن الموكّل بالأمر يراقبه ويحفظه. الإيضاح (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) أي ولما فتحوا أوعية طعامهم وجدوا فيها ما كان أعطوه من بضاعة ونقد ثمنا لما اشتروه من الطعام، إذ أن يوسف أمر فتيانه أن يضعوها فى رحالهم وهم لا يعلمون ذلك. (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي؟) أي ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الذي يوجب علينا امتثال أمره ومراجعته فى الحوائج، وقد كانوا حدّثوا أباهم

بذلك على ما روى أنهم قالوا له إنا قدمنا على خير رجل وقد أنزلنا خير منزل وأكرم وفادتنا ولو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. ثم أكدوا صدق كلامهم بقولهم: (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) أي إن ما نقول فى وصفه، ومزيد إحسانه ولطفه، لنا من شواهد الحال ما هو دليل عليه، فهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلا منه بعد أن أثقل كواهلنا بعظيم مننه وجميل عطفه. وهم بهذا يؤمنون إلى أن ذلك كاف فى وجوب امتثال أمره والالتجاء إليه طلبا للمزيد من فضله، فكل ما جئنا به على غلائه وعظم قيمته هو هبة منه وتفضل علينا. (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي فنحن ننتفع ببضاعتنا ونمير أهلنا بما نجلبه لهم من الميرة من مصر بلا ثمن. (وَنَحْفَظُ أَخانا) بعنايتنا جميعا به، على أننا لا نخشى شيئا من المخاوف التي تغلبنا عليه. (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي ونزيد على ما نأخذ لأنفسنا حمل جمل يكال لأخينا، لأن يوسف كان يكيل لكل رجل حمل بعير اقتصادا فى الطعام، فإذا حضر بنيامين زاد حملا له. (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي إن حمل البعير كيل سهل لا عسر فيه على ذلك المحسن الجواد، أو هو قليل لا يكثر على سخائه وجوده ولا يشق عليه. (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) أي لن أرسله معكم حتى تعطونى عهدا موثّقا بتأكيده بإشهاد الله عليه بالقسم به. (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي حتى تحلفوا بالله لترجعنّ به على كل حال تعرض لكم، إلا أن تهلكوا فيكون ذلك عندى عذرا على نحو ما جاء فى قوله: «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ» وقوله: «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» وقد يكون المعنى- إلا أن تغلبوا على أمركم وتقهروا فلا تقدرون على الرجوع..

[سورة يوسف (12) : الآيات 67 إلى 68]

(فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي فلما أعطوه العهد الموثق الذي اشترطه عليهم، قال: الله شهيد على ما قاله واشترطه، وعلى ما أجابوه به: أي إنه سبحانه رقيب عليه وأمره موكول إليه، فهو الذي يوفق للوفاء بالوعد والصدق فيما أعطوه من عهد. [سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68] وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) الإيضاح (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) أي وقال لهم يا بنى لا تدخلوا على هذا الوزير الكريم من باب واحد من أبواب الوصول إليه، بل ادخلوا عليه متفرقين من أبواب متعددة، لتروا بأعينكم ما يكون من تأثير كل طائفة منكم فى نفسه وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقه يدخل عليه مع طائفته، إذ لا يعلم هذا إذا دخلوا عليه كلهم جماعة واحدة. وقد يكون المراد لا تدخلوا عليه مجتمعين فيحسدكم الحاسدون أو يكيد لكم الكائدون، فإذا حل بكم مكروه خشيت أن يصيبكم جميعا. (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وما أدفع عنكم بتدبيري من قضاء الله شيئا، إذ لا يغنى حذر من قدر، وهو لا يريد إلغاء الحذر بتاتا، فإنه تعالى أمر به وقال «خُذُوا حِذْرَكُمْ» بل يريد أن هذا التدبير إنما هو تشبث بالأسباب العادية التي

لا تؤثر إلا بإذن الله تعالى، وأن ذلك ليس بدافع للقدر بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم فى تدبير العالم ونظم الأسباب والمسببات إلا لله وحده. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه دون غيره، ودون حولى وقوتى اعتمدت فى كل ما آتى وأذر. وفى هذا إيماء إلى أنّ الأخذ فى الأسباب ومراعاة اتباعها لا ينافى التوكل، وقد جاء فى الخبر «اعقلها وتوكل» . (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) لا على أمثالهم من المخلوقين ولا على أنفسهم. فعلى كل مؤمن أن يتخذ لكل أمر يقدم على عمله العدّة، ويهيئ من الأسباب ما يوصل إليه على قدر طاقته، ثم بعد ذلك يكل أمر النجاح فيه إلى الله ويطلب منه التوفيق والمعونة فى إنجازه، فقد يكون من الأسباب ما يخفى عليه أو ما لا تصل إليه يده. (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) وهى الأبواب المتفرقة. (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما كان دخولهم على هذا النهج يدفع عنهم شيئا من المكروه الذي يحول دون رجوعهم ببنيامين، ونسبتهم إلى السرقة، وتضاعف المصيبة على يعقوب. (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أي إن يعقوب كان عليما بأن الحذر لا يغنى من القدر، ولكن كانت هناك حاجة تدور بخلده، ما أراد أن يكاشف بها أحدا منهم وهى وراء الأسباب العادية فى الاحتياط بسلامة بنيامين والعودة به، قضاها بوصيته لأولاده من حيث لا يفطنون لها، وهى خوفه عليهم من العين ومن أن ينالهم مكروه من قبل ذلك. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أي وإنه لذو علم خاص به وبأمثاله من الأنبياء، لما أعطيناه من علم الوحى وتأويل الرؤيا الصادقة، واعتقاده أن الإنسان يجب عليه

[سورة يوسف (12) : الآيات 69 إلى 76]

فى كل أمر يحاوله أن يتخذ له من الأسباب ما يصل به إلى غرضه ويبلغ به إلى غايته، ثم يتوكل بعد ذلك على الله فى تسخير ما لم يصل إليه علمه مما لا تتم المقاصد بدونه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الواجب الجمع بين أخذ العدة والسعى فى تحقيق الأسباب الصحيحة الموصلة إلى المراد، وبين الاتكال على الله وهو ما فعله يعقوب عليه السلام، ولا يكفى تحقق الأسباب وحدها للحصول عليه. [سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 76] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) تفسير المفردات آوى إليه: أي ضم إليه، والابتئاس: اجتلاب البؤس والشقاء، والسقاية (بالكسر) وعاء يسقى به، وبه كان يكال للناس الطعام ويقدر بكيلة مصرية 1/ 12

الإيضاح

من الإردب المصري، وهو الذي عبر عنه بصواع الملك، وأذن مؤذن: أي نادى مناد، من التأذين وهو تكرار الأذان والإعلام بالشيء الذي تدركه الأذن، والعير: الإبل التي عليها الأحمال والمراد أصحابها، زعيم: كفيل أجعله جزاء لمن يجىء به، الكيد: التدبير الذي يخفى ظاهره على المتعاملين به حتى يؤدى إلى باطنه المراد منه، ودين الملك: شرعه الذي يدين الله تعالى به. الإيضاح (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) أي ولما دخلوا عليه فى مجلسه الخاصّ بعد دخولهم باحة القصر من حيث أمرهم أبوهم، ضم إليه أخاه الشقيق بنيامين، وقد حصل ما كان يتوقع يعقوب أو فوق ما كان يتوقع من الحدب عليه والعناية التي خصه بها. (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف الذي فقد تموه صغيرا. (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يلحقنك بعد الآن بؤس أي مكروه ولا شدة بسبب ما كانوا يعملون من الجفاء وسوء المعاملة بحسدهم لى ولك. روى أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم أحسنتم وأصبتم، وستجدون أجر ذلك عندى، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخى يوسف حيا لأجلسنى معه، فقال يوسف بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله، وقال أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتا (حجرة) وهذا لاثانى له فيكون معى، فبات يوسف يضمه إليه ويشمّ رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده، فقال لى عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لى هلك فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال من يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له: إنى أنا أخوك إلخ.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي فلما قضى لهم حاجتهم ووفاهم كيلهم جعل الإناء الذي يكيل به الطعام فى رحل أخيه. وفى قوله: جعل السقاية، إيماء إلى أنه وضعها بيده ولم يكل ذلك إلى أحد من فتيانه كتجهيزهم الأول والثاني لئلا يطلعوا على مكيدته. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي وقد افتقد فتيانه السقاية، لأنها الصواع الذي يكيلون به للممتارين فلم يجدوها، فأذن مؤذنهم بذلك أي كرر النداء به كدأب الذين ينشدون المفقود فى كل زمان ومكان قائلا: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) أي يا أصحاب العير قد ثبت عندنا أنكم سارقون، فلا ترحلوا حتى ننظر فى أمركم. (قالُوا: وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ؟) أي قال إخوة يوسف للمؤذن ومن معه: أي شىء تفقدون، وما الذي ضل عنكم فلم تجدوه؟. (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) أي نفقد الصواع الذي عليه شارة الملك. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي ولمن أتى به حمل جمل من القمح، وفى هذا دليل على أن عيرهم كانت الإبل لا الحمير. (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي قال المؤذن وأنا كفيل بحمل البعير، أجعله حلوانا لمن يحىء به، سواء أكان مفقودا أم جاء به غير سارقه. (قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي قالوا لقد علمتم بما خبرتموه من أمرنا وسيرتنا من حين مجيئنا فى امتيارنا الأول وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا التي ردت إلينا مع غيرها، أننا ما جئنا لنفسد فى أرض مصر بسرقة ولا غيرها مما فيه تعدّ على حقوق الناس. (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي قال فتيان يوسف لهم فما جزاء سارقه إن كنتم كاذبين فى جحودكم للسرق وادعائكم البراءة والنزاهة؟.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي جزاؤه أخذ من وجد فى رحله وظهر أنه هو السارق له وجعله عبدا لصاحبه، وقوله: (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقرير للحكم السابق وتأكيد له بإعادته، كما تقول حق الضيف أن يكرم، فهو حقه، والقصد من الأول إفادة الحكم، ومن الثاني إفادة أن ذلك هو الحق الواجب فى مثل هذا، وقد كان الحكم فى شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل هذا الجزاء الأوفى نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم فى شريعتنا، فنحن أشد الناس عقابا للسراق. وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم. (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم التي تشتمل عليها رحالهم ابتعادا عن الشبهة وظن التهمة بطريق الحيلة. (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي ثم إنه بعد أن فرغ من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه فأخرج السقاية منه. (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل هذا الكيد والتدبير الخفىّ كدنا ليوسف، وألهمناه إياه، وأوحينا إليه أن يفعله. ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت تربية إخوة يوسف وعقابهم بما فرطوا فى يوسف واستحقاقهم إتمام النعمة عليهم يتوقف على أخذه بطريق لا جبر فيه ولا تقتضيه شريعة الملك، وبه يذوقون ألم فراق بنيامين ومرارته، فيما لا لوم فيه على أحد غير أنفسهم، ولن يكون هذا الحكم منهم إلا بوقوع شبهة السرقة على بنيامين من حيث لا يؤذيه ذلك ولا يؤلمه، وقد أعلمه أخوه يوسف به وبغايته. وفى هذا إيماء إلى جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما ظاهره الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعا ثابتا. ثم علل ما صنعه الله من الكيد ليوسف بقوله: (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي وما كان له ولا مما تبيحه أمانته لملك مصر أن يخالف شرعه الذي فوض له الحكم به وهو لا يبيح استرقاق السارق، فما كان

[سورة يوسف (12) : الآيات 77 إلى 79]

بالميسور له أخذ أخيه من إخوته ومنعه من الرحيل معهم إلا بحكمهم على أنفسهم بشريعة يعقوب التي تبيح ذلك. ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر، لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله- بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته فقال: (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي نرفع من نشاء درجات كثيرة فى العلم والإيمان ونريه وجوه الصواب فى بلوغ المراد، كما رفعنا درجات يوسف على إخوته فى كل شىء. وفى هذا إيماء إلى أن العلم أشرف المقامات، وأعلى الدرجات. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي وفوق كل عالم من هو أوسع إحاطة منه وأرفع درجة، إلى أن يصل الأمر إلى من أحاط بكل شىء علما وهو فوق كل ذى علم. وخلاصة ذلك- إن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف كان أعلم منهم. [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 79] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) الإيضاح (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) أي قال إخوة يوسف، إن

يسرق بنيامين فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فالسرقة جاءت وراثة من أمهما إذ هما لا ينفردان منا إلا بها. وفى قولهم هذا إيماء إلى أن الحسد لا يزال كامنا فى قلوبهم، لاختلاف الأمهات، ولمزيد محبة الأب لهما. وأصح ما قيل فى سرقة يوسف مارواه ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال: سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبى أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه فى الطريق فعيره بذلك إخوته. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام وكانت إليها منطقة إسحاق إذ كانوا يتوارثونها بالكبر، وكان يعقوب حين ولد له يوسف عليه السلام قد حضنته عمته فكان معها، فلم يحب أحد شيئا من الأشياء كحبها إياه حتى إذا ترعرع ووقعت نفس يعقوب عليه السلام عليه فأتاها فقال يا أخية سلمى إلىّ يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عنى ساعة قالت: فو الله ما أنا بتاركته فدعه عندى أياما أنظر إليه، لعل ذلك يسلينى عنه، فلما خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق عليه السلام فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه، ثم قالت فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام، فقالت والله إنه لسلم لى أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها: أنت وذاك إن كان فعل فهو سلم لك ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت. وهذا هو الذي عناه إخوته بقولهم (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وهذه الروايات لا يوثق بها كما لا يدل شيء منها على سرقة حقيقية. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) أي فأضمر مقالتهم فى نفسه ولم يجبهم عنها. (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي ولم يؤاخذهم بها لا قولا ولا فعلا صفحا عنهم وحلما.

ثم فسر ما أسره بقوله: (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي قال فى نفسه أنتم شر فى مكانتكم ومنزلتكم ممن تعرضون به أو تفترون عليه، إذ أنكم سرقتم من أبيكم أحب أولاده إليه وعرضتموه للهلاك، والرق، وقلتم لأبيكم قد أكله الذئب إلخ. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي والله أعلم منكم بما تصفونه به، لأنه سبحانه هو العليم بحقائق الأشياء، فيعلم كيف كانت سرقة الذي أحلتم سرقته عليه. ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاه بنيامين فيرجعوا به إلى أبيهم، لأنه قد أخذ عليهم الميثاق بأن يردوه إليه. (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) طاعنا فى السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالته التي يتعلل بها عن شقيقه الهالك، أو هو كبير القدر جدير بالرعاية كما علمت مما سلف من قصصه ومن تعلقه به. (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي بدله فلسنا عنده بمنزلته فى المحبة والشفقة عنده. ثم عللوا رجاءهم فى إجابته بقولهم: (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلينا فى ميرتنا وضيافتنا وتجهيزنا، فأتم إحسانك، فما الإنعام إلا بالإتمام، أو المعنى إن من عادتك الإحسان مطلقا، فاجر على عادتك ولا تغيرها، فنحن أحق الناس بذلك. فأجابهم عن مقالتهم: (قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي حاش لله أن نأخذ إلا من وجدنا الصواع عنده، لأنا قد أخذناه بفتواكم (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) فلا يسوغ لنا أن نخلّ بموجبها. ولم يقل إلا من سرق متاعنا اتقاء للكذب، لأنه يعلم أنه ليس بسارق. (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إنا إذا أخذنا غيره لظالمون من وجهين: مخالفة شرعكم ونص فتواكم، ومخالفة شريعة الملك.

[سورة يوسف (12) : الآيات 80 إلى 84]

[سورة يوسف (12) : الآيات 80 الى 84] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) تفسير المفردات استيأسوا: أي يئسوا يأسا كاملا، خلصوا: انفردوا عن الناس، نجيا: أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم، كبيرهم: أي فى الرأى والعقل وهو يهوذا، وموثقا: أي عهدا يوثق به وهو حلفكم بالله، فرطتم: قصرتم فى شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه، أبرح: أفارق، أمرا: أي كيدا آخر، تولى: أعرض، والأسف: أشد الحزن والحسرة على ما فات، كظيم: أي مملوء غيظا على أولاده ممسك له فى قلبه، القرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا، ويستعمل فى كل واحد منهما قاله الراغب. الإيضاح (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) أي فلما استحكم اليأس فى أنفسهم من قبول العزيز لشفاعتهم واستعطافهم بعد أن أقام الحجة عليهم بشرعهم وفتواهم وأنه إن فعل

غيره يكون ظالما بمقتضى شريعتهم وشريعة ملك مصر- اعتزلوا الناس ولم يخالطوا أحدا، وانفردوا للمناجاة والتشاور فى أمرهم. وخلاصة ذلك- أن أولئك الإخوة العشرة بعد أن انتهى كبيرهم من استعطاف العزيز وعدم جدوى ما فعل، غادر كل منهم رحله وانضم بعضهم إلى بعض وأدنى رأسه من رأسه وأرهفوا آذانهم للنجوى. (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) أي قال كبيرهم عقلا ورأيا وهو يهوذا، ألم تعلموا أيها القوم أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهد الله وميثاق لتردّنّه إليه إلا أن يحاط بكم، وقد رأيتم كيف تعذر ذلك عليكم. (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) أي ومن قبل هذا قد قصرتم فى حفظ يوسف بعد وعدكم المؤكد بحفظه، وكيف أن أباكم قد قاسى من أجله من الحزن ما قاسى. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لى أبى بتركها والرجوع إليه وبنيامين فيها، أو يحكم الله لى بامر من عنده مما هو غيب فى علمه، كأن يترك العزيز لى أخى بإلهام منه تعالى أو بسبب آخر. (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يحكم إلا بما هو الحق والعدل، وهو المسخر للأسباب والمقدر للاقدار. ثم أمرهم أن يقولوا لأبيهم ما يزيلون به التّهمة عن أنفسهم قال: (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) صواع الملك فاسترقه وزيره العزيز القائم بالأمر فى مصر عملا بشريعتنا، إذ نحن أنبأناه بها بعد أن استنبأنا إياها. (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي وما شهدنا عليه بالسرقة بسماع أو إشاعة أو تهمة بل ما شهدنا إلا بما علمنا، إذ رأينا الصواع قد استخرج من متاعه. (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) فنعلم أنه سيسرق حين أعليناك المواثيق، ولو كنا نعلم ذلك لما آتيناك العهد الموثق علينا.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) أي واسأل أهل القرية التي كنا نمتار فيها وهى مصر، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة حتى لو سئلوا لشهدوا. (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي واسأل أصحاب العير الذين كانوا يمتارون معنا. ثم أكدوا صدق مقالهم بقولهم: (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به، سواء أسألت غيرنا أم لم تسأل، إذ أن من عادتنا الصدق فلا نخبرك إلا به ولا نظنك فى مرية من هذا: وبعد أن انتهى تعالى من سرد مقال كبيرهم عاد إلى ذكر مقال أبيهم فقال: (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي فرجع الإخوة إلى أبيهم وقالوا له مالقنهم كبيرهم فلم يصدقهم فيما قالوا، بل قال لهم بل زينت لكم أنفسكم كيدا آخر فنبذتموه، ومما يقوّى ذلك عندى أنكم لقنتم هذا الرجل حكم شريعتنا وأفتيتموه به، وليس ذلك من شريعته. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فحالى على ما نالنى من فقده صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد، بل أشكو إلى الله وحده وأعلق رجائى به. (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي أطلب من الله أن يرجع إلىّ يوسف وبنيامين والأخ الثالث الباقي بمصر، وقد كان لديه إلهام بأن يوسف لم يمت وإن غاب عنه خبره. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إنه العليم بوحدتى وفقدهم والحزن عليهم، وله فينا حكمة بالغة، وهو الحكيم فى أفعاله فيبتلى ويرفع البلاء على مقتضى سننه وحكمته فى تدبير خلقه، وقد جرت سنته أن الشدة إذا تناهت جعل وراءها فرجا، والمصيبة إذا عظمت جعل بعدها المخلص منها كما قال «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» . (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم كراهة لما جاءوا به. (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي يا حزنى ويا حسرتى عليه أقبلى فهذا وقتك والحال

مقتضية لك، فقد كنت أنتظر أن يأتونى من مصر ببشرى لقاء يوسف، فخاب أملى وحل محله ذهاب ابني المسلّى عنه، ولم يشرك معه بنيامين بالأسف عليه، لأن مكان حب يوسف والرجاء فيه قد ملأ سويداء القلب وزواياه، ومحل غيره دون ذلك. (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي أصابتهما غشاوة بيضاء غطت على البصر مع بقاء العصب الذي يدرك المبصرات سليما معافى، قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا: البياض المصحوب بضياع البصر غالبا معناه (الجلوكوما) والمعروف عند الاختصاصيين فى أمراض العيون أن أهم سبب لها هو التغيرات فى الأوعية الشعرية نتيجة لأسباب كثيرة، من أهمها الانفعالات العصبية (كما يحدث فى زيادة ضغط الدم) لا سيما الحزن (الدكتور مار) اه. (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء غيظا على أولاده، يردد حزنه فى جوفه ولا يتكلم بسوء والحزن عرض طبيعى للنفس ولا يذم شرعا إلا إذا بلغ بصاحبه أن يقول أو يفعل ما لا يرضى الله تعالى، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلّم عند موت ولده إبراهيم وقد جعلت عيناه تذر فان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله: «يا ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى فقال: «إن العين، تدمع وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم محزون» رواه الشيخان وغيرهما. وفى التفسير بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن داود عليه السلام قال: يا رب إن بنى إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلنى لهم رابعا، فأوحى الله إليه أن: يا داود إن إبراهيم ألقى فى النار بسببى فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببى فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن يعقوب أخذ منه حبيبه فابيضّت عيناه من الحزن، وتلك بلية لم تنلك» قال الحافظ ابن كثير: وهذا حديث مرسل وفيه نكارة، فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح اه

[سورة يوسف (12) : الآيات 85 إلى 87]

[سورة يوسف (12) : الآيات 85 الى 87] قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) تفسير المفردات تفتأ: أي لا تفتأ بمعنى لا تزال. والحرض: المرض المشفى على الهلاك، من الهالكين: أي الميتين، البث فى الأصل: إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب، ثم استعمل فى إظهار ما انطوت عليه النفس من الغم أو السر، وتحسسوا: أي تعرفوا أخبار يوسف بحواسكم من سمع وبصر، والرّوح: التنفس، يقال أراح الإنسان إذا تنفس، ثم استعمل للفرج والتنفيس من الكرب. الإيضاح (قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي قال ولد يعقوب الذين جاءوا من مصر حين قال يا أسفا على يوسف: تالله لا تزال تذكر يوسف وتلهج به حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم. وخلاصة ذلك- إنك الآن فى بلاء شديد، ونخاف أن يحصل لك ماهو أكثر وأقوى منه، وهم يريدون بذلك منعه من البكاء والأسف. فأجابهم والتمس لنفسه معذرة على الحزن: الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) أي لا تلومونى وأنا لم أشك إليكم ولا إلى

[سورة يوسف (12) : الآيات 88 إلى 93]

أخذ من الخلق حزنى الذي أمضّني كتمانه، فأفشيته بهذه الكلمة (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) بل شكوت ذلك إلى الله وحده. َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي وأنا أعلم فى ابتلائى بفراقه مع حسن عاقبته ما لا تعلمون، فأعلم أنه حى يرزق، وأن الله يجتبيه ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، وأنتم تظنون أن يوسف قد هلك، وأن بنيامين قد سرق فاسترقّ، وتحسبون أنى بحزني ساخط على قضاء الله فى شىء أمضاه ولا مرد له، وأنا أعلم أن لهذا أجلا هو بالغه، وإنى لأرى البلاء ينزل عليكم من كل جانب بذنوبكم وبتفريطكم فى يوسف من قبل، وبأخيه الذي كان يسلينى عنه من بعده. وعن ابن عباس فى تفسير الآية: أنا أعلم أن رؤيا يوسف حق وأننى سأسجد له. (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبارهما بحواسكم من سمع وبصر حتى تكونوا على يقين من أمرهما. (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه عن النفس هذا الكرب، بما ترتاح إليه الروح، ويطمئن به القلب. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بقدرته وسعة رحمته ويجهلون مالله فى عباده من حكم بالغة ولطف خفى، فإذا لم يصلوا إلى ما يبتغون من كشف ضر أو جلب خير بخعوا أنفسهم (انتحروا) همّا وحزنا. أما المؤمن حقا فلا تقنطه المصايب ولا الشدائد من رحمة ربه وتفريجه لكربه، ومن ثم قال ابن عباس: إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه فى البلاء ويحمده فى الرخاء. [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الضر: أي ضر المجاعة من الهزال والضعف، والمزجاة: الرديئة التي يدفعها التجار من أزجى الشيء وزجاه: إذا دفعه برفق كما قال: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» وآثرك: أي اختارك وفضلك، والخاطئ: هو الذي يأتى بالخطيئة عمدا، والمخطئ: من إذا أراد الصواب صار إلى غيره، والخطء: الذنب، وخطّأته: قلت له أخطأت، ولا تثريب: أي لا لوم ولا تأنيب وثرّب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه، ويأت بصيرا أي يصر بصيرا فى الحال، أو يأت إلىّ وهو بصير. الإيضاح (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي بعد أن قبلوا وصية أبيهم حين قال لهم اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، وعادوا إلى مصر- دخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له يا أيها العزيز أصابنا الهزال والضعف لما نحن فيه من المجاعة وكثرة العيال وقلة الطعام وقد شكوا إليه رقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة وغير ذلك مما يرقق القلب مع أن مقصدهم التحسس من يوسف وأخيه- ليروا تأثير الشكوى فيه،

فإن رق قلبه لهم ذكروا ما يريدون وإلا سكتوا، وقد كان أبوهم يرجّح أنه هو يوسف فأرادوا أن يروا تأثير هذا الاستعطاف فيه. (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ببضاعة رديئة يحتقرها التجار ويدفعونها احتقارا لها. (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي فأتمه كما تعودنا من جميل رعايتك وإحسانك. (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بما تزيده على حقنا ببضاعتنا بعد أن تغمض عن رداءتها. (إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فيخلف ما ينفقون ويضاعف الأجر لهم. وقد بالغوا فى الضراعة والتذلل، لما كانوا يرون من تأثير ذلك فى ملامح وجهه، وجرس صوته، ومعالبة دمعه. ثم بعد أن ذكر طريق تحسسهم ذكر ردّ يوسف عليهم. (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) أي قال ما أعظم ما فعلتم بيوسف من قبل وبأخيه بنيامين من بعد على قرب العهد، وما أقبح ما أقدمتم عليه، كما يقال للمذنب هل تدرى من عصيت، وهل تعرف من خالفت. (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قبح ما فعلتموه فى حكم شرعكم، وحقوق بر الوالدين وما يجب من رحمة القرابة والرحم. وخلاصة ذلك- إنكم كنتم فى حال يغلب عليكم فيها الجهل بهذه الحقوق، وبعاقبة البغي والعقوق. وقد يكون المراد من الجهل الطيش والنّزق واتباع الهوى وطاعة الحسد والأثرة. وقد قال لهم هذه المقالة تمهيدا لتعريفهم بنفسه، إذ آن أن يصارحهم به بعد أن بلغ الكتاب أجله، وبلغت به وبهم الأقدار غايتها، ولم يبق بعد هذا إلا التصريح، وتأويل رؤياه التي كانت السبب فى كل ما حدث من تلك الأفاعيل. وقد ذكّر يوسف إخوته بذنوبهم تذكيرا مجملا قبل أن يتعرف إليهم بذكر

العذر وهو الجهل بقبح الذنب فى ذاته وبسوء عاقبته لتمكن نزغ الشيطان من أنفسهم الأمارة بالسوء، وقد ذكرهم بطريق سؤال العارف المتجاهل على طريق التقرير لا التقريع والتوبيخ كما يدل عليه نفى التثريب والدعاء بالمغفرة. قال صاحب الكشاف فى تفسير الآية: أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب «فقال هل علمتم» قبح «ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون» لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعنى هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه؟ لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحا لهم فى الدين لا معاتبة وتثريبا، إيثارا لحق الله على حق نفسه فى ذلك المقال الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها، ولله حصا عقولهم ما أوزنها وأرجحها اه. وكان سؤاله إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه وهو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداءة إلى النهاية- مصدقا لما أوحاه الله إليه حين ألقوه فى غيابة الجب من قوله: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» إذ يبعد أن يعرف هذا سواه، فأرادوا أن يتثبتوا من ذلك ويستيقنوا به، فوجهوا إليه سؤالا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع. (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟) أي قالوا من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف- وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم ويكتم نفسه. (قالَ أَنَا يُوسُفُ) الذي ظلمتمونى غاية الظلم، وقد نصرنى الله فأكرمنى وأوصلنى إلى أسمى المراتب، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه فى غيابة الجب، ثم صرت إلى ما ترون. (وَهذا أَخِي) الذي فرّقتم بينى وبينه وظلمتموه، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون.

تنبيه

(قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا) فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة، وآنسنا بعد الوحشة، وخلّصنا مما ابتلينا به. وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين، لأنه أخى لا أخوكم. تنبيه فإن قيل لم لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه فى أول مرة ليبشروا أباهم به وبما هو عليه من حسن حال وبسطة جاه فيكون فى ذلك السرور كل السرور له؟ فالجواب عن ذلك ما أجاب به ابن القيّم فى كتابه [الإغاثة الكبرى] قال رحمه الله: لو عرّفهم بنفسه فى أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحلّ ذلك المحلّ وهذه عادة الله فى الغايات العظيمة الحميدة، إذا أراد أن يوصّل عبده إليها هيأ له أسبابا. من المحن والبلايا والمشاقّ، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه. وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام. فهو سبحانه يوصّل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب. وبالجملة فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة فى خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره والنار وحفها بالشهوات اه.

(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو: من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء، فلا يستعجل الأقدار بشىء قبل أوانه، فإن الله لا يضيع أجره فى الدنيا ثم يؤتيه أجره فى الآخرة. وفى الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين الله، وبأن من كان مطيعا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعا لنزغات الشيطان فإن عاقبته الخزي فى الدنيا والنكال فى الآخرة، إلا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى. (قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا) أي قال إخوة يوسف له: لقد فضلك الله علينا وآثرك بالعلم والحلم والفضل. (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي وما كنا في صنيعنا بك وتفريقنا بينك وبين أخيك إلا متعمدين للخطيئة، ولا عذر لنا فيها عند الله ولا عند الناس. وبعد أن قدّموا له المعذرة أجابهم بالصفح عما فعلوا. (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا لوم ولا تعنيف عليكم فى هذا اليوم الذي هو مظنّته، ولكن لكم عندى الصفح والعفو. وهو إذا لم يثرّب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده أولى. وقال السيد المرتضى: إن كلمة (اليوم) موضوعة موضع الزمان كله كقوله: اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ... واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا كأنه أريد بعد اليوم اه. (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي يعفو الله لكم عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم، وهو أرحم الراحمين لمن أقلع عن ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته. وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلّم بالآية يوم فتح مكة حين طاف بالبيت وصلى ركعتين، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب وقال: «ماذا تظنون أنى فاعل بكم؟

[سورة يوسف (12) : الآيات 94 إلى 98]

قالوا نظن خيرا، أخ كريم وابن كريم، فقال: وأنا أقول كما قال أخى يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ، فخرجوا كأنما نشروا من القبور» . أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس والبيهقي عن أبى هريرة. روى أن يوسف عليه السلام لما عرف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم فقالوا ذهب بصره فعند ذلك أعطاهم قميصه وقال: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) الذي على بدني أو بيدي. (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي ألقوه على وجهه حين وصولكم إليه دون تأخير يصر بصيرا، وقد علم هذا إما بوحي من الله، وإما لأنه علم أن أباه ما أصابه ما أصابه إلا من كثرة البكاء وضيق النفس فإذا ألقى عليه قميصه شرح صدره وسر أعظم السرور، وقوى بصره وزالت منه هذه الغشاوة التي رانت عليه، والقوانين الطبية تؤيد هذا كما سيأتى بعد. (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) من الرجال والنساء والذراري وغيرهم، وقد روى أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا. [سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 98] وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) تفسير المفردات يقال فصل عن البلد: إذ انفصل وجاوز حيطانه، وتفندون: أي تنسبونى إلى

الإيضاح

الفند وهو فساد الرأى وضعف العقل والخرف من الكبر، فى ضلالك: أي فى خطئك أو فى إفراطك فى حبه والإصرار على اللهج به، وارتد: أي رجع. الإيضاح (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي ولما انفصلت عير بنى يعقوب عن حدود مصر قافلة إلى أرض الشام، قال أبو هم لمن حضره من حفدته ومن غيرهم: إنى لأشمّ رائحة يوسف كما عرفتها فى صغره، لولا أن تنسبونى إلى ضعف الرأى وفساد العقل وخرف الكبر، لصدقتمونى فى أنى أجد رائحته حقيقة، وأنه حى قد قرب موعد لقائه وبالتمتع برؤيته. وروى عن ابن عباس أنه لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، قال «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» فوجد ريحه من ثمانية أيام، وفى رواية من ثمانين فرسخا، والمراد من مسافات بعيدة جدا. (قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي قال حاضرو مجلسه: تالله إنك لفى خطئك الذي طال أمده باعتقادك أن يوسف حى يرحى لقاؤه وقد قرب. ولا غرو فللخلىّ أن يقول فى الشجىّ ما شاء، فأذنه عن العذل صماء: سلوتى عنكم احتمال بعيد ... وافتضاحى بكم ضلال قديم كل من يدّعى المحبة فيكم ... ثم يخشى الملام فهو مليم قال قتادة فى تفسيرها: «تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلوه اه، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغى لهم أن يقولوها له. (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي فلما جاء البشير وهو ابنه يهوذا الذي يحمل القميص من يوسف- وهو الذي حمل إليه قميصه الملطّخ بالدم الكذب ليمحو السيئة بالحسنة- ألقاه على وجه يعقوب فعاد من فوره بصيرا كما كان، بل قد قيل إنه عادت إليه سائر قواه، وليس ذلك بعجيب ولا منكر، فكثيرا ما شفى

السرور من الأمراض وجدد قوى الأبدان والأرواح، والتجارب وقوانين الطب شاهد صدق على صحة ذلك. قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا: لا تتحسن أعراض مرض (الجولكوما) أو شدة توتر العين أو تقف شدته إلا بالعلاج، ومنه العمليات الجراحية ولكن شفاء سيدنا يعقوب بوضع القميص على وجهه هو معجزة من المعجزات الخارجة عن قدرة الإنسان، وليس المهم هو القميص أو وضعه على وجهه، فقد كان ذلك لتسهيل وقع المعجزة على الحاضرين فحسب، ولكن المهم هو طريقة الشفاء وهى إرادة الله المنحصرة فى (كن فيكون) وهى خارجة عن كل السنن الطبيعية التي أمر الإنسان أن يتعلمها، فعظمة المعجزة ليست فى النتيجة فحسب ولكن فى طريق الشفاء- وما أعظم إعجاز القرآن الذي وصف حالة مرضية خاصة وبين سببها، ولم يكن يعلم العالم شيئا عن هذا المرض فى ذلك الوقت ولا بعده بزمن طويل اه. وقد أجاب يعقوب من لاموه بما كان عليه من علم قطعى من ربه بصدق ما يقول: (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) أي قال لهم ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله: إنى أعلم بوحي الله لا من خطرات الأوهام ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام- وقد ذكرهم الآن إذ عاد بصيرا بما كان قد قاله لهم حين ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.

نبذة فى تعليل شم يعقوب رائحة يوسف

نبذة فى تعليل شم يعقوب رائحة يوسف أثبت العلم حديثا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى، فتحمله من إفريقية مثلا إلى أوروبا وهى مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام وهى بلا شك تحمل رائحة ماله منها رائحة، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منها شما، فالكلب ذو حاسة قوية فى الشم حتى ليدرّبه الآن رجال الشرطة ويستخدمونه فى حوادث الإجرام من قتل وسرقة لإثبات التهمة على المجرمين، فيأتون بالكلب المعلّم فيشمّ المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين، ويرى ذلك رجال القانون دليلا قويا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه، بل دليلا قاطعا فى بعض الدول. والروائح منها القوى والضعيف، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواصّ عالم الغيب لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر. وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر، فعلينا أن نؤمن به لأنه معصوم من الكذب، وقد تبين صدقه بعد وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه أو نصل إلى معرفة سببه، ولكن إذا نحن قلنا إنه لشدة تفكره فى أمر ولده وتذكره لرائحته حين كان يضمّه ويشمّه- شعر بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى- لم يكن ذلك مجانبا للصواب ولا معارضا للعقل ولا ناقضا لما يثبته العلم، أو قلنا بأنا نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك- لم نبعد، عن العقل ولا عن العلم، إذ لا خلاف بين العلماء فى أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه. وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث فى كنهه أو صفته مادام ذلك داخلا فى حيز الإمكان.

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أي قال أولاده وكانوا قد وصلوا إثر البشير: يا أبانا اسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا، إنا كنا متعمدين لهذه الخطيئة، عاصين لله، ظانين أن نكون بعدها قوما صالحين. الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه، وعليك أن تسمع جواب أبيهم الآتي: (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعدهم بالاستغفار لهم فى مستأنف الزمان، وعلل هذا بأن ربه واسع المغفرة والرحمة، لا ينقطع رجاء المؤمن فيها وإن ظلم وأساء. والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة: (1) إن حال أبيهم معهم حال المربّى المرشد للمذنب، لا حال المنتقم الذي يخشى أذاه وليس من حسن التربية ولا من طرق التهذيب أن يريهم أن ذنبهم هيّن لديه حتى يعجّل بإجابة مطلبهم بالاستغفار لهم. (2) إن ذنبهم لم يكن موجها إليه مباشرة، بل موجه إلى يوسف وأخيه، ثم إليه بالتبع واللزوم، إلى أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره لهم. (3) إن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية وأعمال كان لها خطرها، فلا يمّحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس، والأرجاس التي باضت وأفرخت فيها. فلا يحسن بعدئذ من المربى الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم، ومن ثم تلبّث فى الاستغفار لهم إلى أجل، ليعلمهم عظيم جرمهم، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته.

[سورة يوسف (12) : الآيات 99 إلى 100]

(4) إن حال يوسف معهم كان حال القادر بل المالك القاهر مع مسىء ضعيف لديه، عظم جرمه عليه، فلم يشأ أن يكون الغفران بشفاعته ودعائه، فآمنهم من خوف الانتقام تعجيلا للسرور بالنعمة الجديدة التي جعل الله أمرها بين يديه، وليروا ويرى الناس فضل العفو عند القدرة، وليكون لهم فى ذلك أحسن الأسوة، وفى هذا من ضروب التربية أكبر العظة، ولو أخر المغفرة لكانوا فى وجل مما سيحلّ بهم، ولخافوا شر الانتقام، فكانوا فى قلق دائم وتبلبل بال واضطراب نفس، فكان توجسهم له عذابا فوق العذاب الذي هم فيه، ولكن شاءت رحمته بهم أن يجعل السرور عاما والحياة الجديدة حافلة بالاطمئنان وقرة العين، وهكذا شاءت الأقدار وشاء الله أن يكون ذلك وهو العليم الحكيم. تأويل رؤيا يوسف من قبل [سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) تفسير المفردات آوى إليه أبويه: أي ضمهما إليه واعتنقهما، ورفع أبويه: أي أصعدهما، والعرش: كرسى تدبير الملك لا كل سرير يجلس عليه الملك، وخروا له سجدا: أي أهوى أبواه

المعنى الجملي

وإخوته إلى الأرض وخروا له سجدا، تأويل رؤياى: أي مآلها وعاقبتها، وأصل النزغ: نخس الرائض الفرس بالمهماز لإزعاجه للجرى، ثم قيل نزغه الشيطان كأنه نخسه ليحثّه على المعاصي، ونزغ بين الناس: أفسد بينهم بالحث على الشر. المعنى الجملي بعد أن أخبر فيما سلف أن يوسف قال لإخوته ائتوني بأهلكم أجمعين- أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر، فلما أخبر يوسف بقرب مجيئهم خرج للقائهم، وأمر الملك أمراءه وأكابر دولته بالخروج معه للقاء نبى الله يعقوب عليه السلام. الإيضاح (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) فى العبارة حذف وإيجاز يفهم من سياق الكلام والمعنى- تفصيله بعد أن ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم وأخبروه بمكانة يوسف فى مصر وأنه الحاكم المفوّض المستقل فى أمرها- أبلغوه أنه يدعوهم كلّهم للإقامة معه فيها والتمتع بحضارتها فرحلوا حتى بلغوها- ولما دخلوا على يوسف وكان قد استقبلهم فى الطريق فى جمع حافل احتفاء بهم ضم إليه أبويه واعتنقهما. وظاهر الآية يدل على أن أمه كانت لا تزال حية ورجحه ابن جرير، وقال جمع من المفسرين إن المراد بأبويه أبوه وخالته، لأن أمه قد ماتت قبل ذلك فتزوج أبوه خالته. (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) أي وقال لهم ادخلوا بلاد مصر إن شاء الله آمنين على أنفسكم وأنعامكم من الجوع والهلاك، فإن سنى القحط كانت لا تزال باقية، وذكر المشيئة فى كلامه للتبرؤ من مشيئته وحوله وقوته إلى مشيئة الله الذي سخر ذلك لهم وسخر ملك مصر وأهلها له ثم لهم، وهذا من شأن المؤمنين ولا سيما الأنبياء والصديقون.

وفى سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام عرّف نفسه إلى إخوته عقب مجيئهم ببنيامين شقيقه وأرسلهم لاستحضار أبويه وأهلهم، فجاءوا فأقطعهم أرض جاسان (إقليم الشرقية الآن) وأرسل إليهم العربات لتحملهم، وأحمال الغذاء والثياب على الحمير، فلما وصلوا إليها شد يوسف على مركبته وصعد ليلاقى إسرائيل أباه فى جاسان، فلما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا، ثم استأذنهم ليذهب إلى فرعون ويخبره بمجيئهم ومكانهم ليقرّهم عليه، لأنهم رعاة وأرض جاسان خصبة ففعل، ثم أخذ وفدا منهم لمقابلة فرعون وأدخل أباه عليه فبارك فرعون. ومن هذا يتبين أن هذا اللقاء كان هو الأول لهم، وبعد لقاء فرعون قال لهم ادخلوا مصر ثم عاد بهم إلى قصره الخاص. (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي أصعد أبويه إلى السرير الذي كان يجلس عليه لتدبير أمر الملك تكرمة لهما فوق ما فعله بالإخوة. (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي أهوى أبواه وإخوته وخروا له سجودا، وكان ذلك تحية الملوك والعظماء فى عهدهم، ومن ثم سجد يعقوب لأخيه عيسو حين تلاقيا بعد تفرق. والسجود ليس عبادة بذاته، وإنما يكون كذلك بالنية والتزام الصفة الشرعية فيه. (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) أي هذا السجود منكما ومن إخوتى الأحد عشر هو المآل والعاقبة التي آلت إليها رؤياى التي رأيتها من قبل فى صغرى «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» . (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي قد جعلها ربى حقيقة واقعة واستبان أنها لم تكن أضغاث أحلام، فالكواكب الأحد عشر مثال إخوتى الأحد عشر، وأنت وأمي مثال الشمس والقمر، ولا بدع فى ذلك فهذه الأسرة هى التي حفظ الله بها ذرية إسحاق بن إبراهيم لتنشر دين التوحيد بين العالمين فكانت خير أسر البشر جميعا.

(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي وقد أحسن بي ربى إذ أخرجنى من السجن وسما بي إلى عرش الملك، وجاء بكم من البادية حيث كنتم تعيشون فى شظف العيش وخشونته، ونقلكم إلى الحضر حيث تعيشون فى نعم الاجتماع ونشر الدين الحق، وتتعاونون على ترقى العلوم والصناعات. ولم يذكر له إخراجه من الجب لوجوه: (1) إنه ذكر آخر المحن المتصلة بنهاية النعم. (2) إنه لو ذكر حادث الجب لكان فى ذلك تثريب لإخوته وقد قال (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) . (3) إنه بعد خروجه منه صار عبدا لا ملكا. (4) إنه بعد خروجه منه وقع فى مضارّة تهمة المرأة التي بسببها دخل السجن. وعلى الجملة فالنعم الكاملة إنما حصلت بعد خروجه من السجن. (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي من بعد أن أفسد الشيطان ما بينى وبين إخوتى من عاطفة الأخوّة، وقطع ما بيننا من وشيجة الرحم، وهيج الحسد والشر. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي إن ربى عالم بدقائق الأمور رفيق بعباده، فينفذ ما يشاء فى خلقه بحكمته البالغة، فمن ذا الذي كان يدور بخلده أن الإلقاء فى الجب يعقبه الرق، ويتلو الرق فتنة العشق، ومن أجله يزجّ فى غيابات السجن، ومن ذا إلى السيادة والملك. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي إنه هو العليم بمصالح عباده، فلا تخفى عليه مبادئ الأمور وغايتها، الحكيم الذي يفعل الأمور على وجه الحكمة والمصلحة، فيجازى الذين أحسنوا بالحسنى، ويجعل العاقبة للمتقين. وبعد أن حمد يوسف ربه على لطفه فى مشيئته وعلمه وحكمته- تلا ذلك بالدعاء فقال:

[سورة يوسف (12) : آية 101]

طلب يوسف من ربه حسن الخاتمة [سورة يوسف (12) : آية 101] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) الإيضاح (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته، وبسط له من الدنيا ما بسط من الكرامة، ومكن له فى الأرض: رب قد آتيتني ملك مصر وجعلتنى متصرفا فيها بالفعل وإن كان لغيرى بالاسم، ولم يكن لى فيها حاسد ولا باغ إذ أجريت الأمور على سنن العدل ووفق الحكمة والسداد. (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي وعلمتنى ما أعبر به عن مآل الحوادث ومصداق الرؤيا الصحيحة فتقع كما قلت وأخبرت. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وخالقهما. (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي أنت متولى أمورى ومتكفّل بها، أو أنت موال لى وناصرى على من عادانى وأرادنى بسوء، وإن نعمك لتغمرنى فى الدنيا، وسأتمتع بها بفضلك ورحمتك فى الآخرة، ولا حول لى فى شىء منهما ولا قوة. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضنى إليك مسلما، وأتم لى وصية آبائي وأجدادى. «وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» . (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي وألحقنى بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك، واحشرني فى زمرتهم، وهذا الدعاء بمعنى ما جاء فى سورة الفاتحة

[سورة يوسف (12) : الآيات 102 إلى 104]

«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فى ذكر هذا القصص إثبات لنبوة محمد عليه السلام [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 104] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) الإيضاح (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي إن نبأ يوسف ووالده يعقوب وإخوته وكيف مكن ليوسف فى الأرض وجعل له العاقبة والنصر، وآتاه الملك والحكمة، فساس ملكا عظيما وأحسن إدارته وتنظيمه وكان خير قدوة للناس فى جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة، بعد أن أرادوا به السوء والهلاك حين عزموا أن يجعلوه فى غيابة الجب كل ذلك من أخبار الغيب الذي لم تشاهده ولم تره، ولكنا نوحيه إليك لنثبّت به فؤادك، فتصبر على ما نالك من الأذى من قومك، ولتعلم أن من قبلك من الرسل لما صبروا على ما نالهم فى سبيل الله، وأعرضوا عن الجاهلين فازوا بالظفر وأيّدوا بالنصر وغلبوا أعداءهم. ثم أقام الدليل على كونه من الغيب بقوله: (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أي وما كنت حاضرا عندهم ولا مشاهدا حين صحت عزائمهم على أن يلقوا يوسف فى غيابة الجب، يبغون بذلك هلاكه والخلاص منه، وهذا كقوله تعالى بعد سياق موسى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ

الطُّورِ إِذْ نادَيْنا» الآية، وقوله فى هذه القصة «وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» الآية. وخلاصة هذا- إن الله أطلع رسوله على أنباء ما سبق، ليكون فيها عبرة للناس فى دينهم ودنياهم، ومع هذا ما آمن أكثرهم، ومن ثم قال: (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) أي وما أكثر مشركى قومك ولو حرصت على أن يؤمنوا بك ويتّبعوا ما جئتهم به من عند ربك بمصدقيك ولا متّبعيك. قال الرازي: إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا ذكر هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم على سبيل التعنت، فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية، وكأنه إشارة إلى ما ذكر الله تعالى فى قوله «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» . (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي وما تسأل هؤلاء الذين ينكرون نبوتك على ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لربك وطاعته وترك عبادة الأصنام والأوثان من أجر وجزاء منهم، بل ثوابك وأجر عملك على الله. والخلاصة- إنك لا تسألهم على ذلك ما لا ولا منفعة فيقولوا إنما تريد بدعائك إيانا إلى اتباعك أن ننزل لك عن أموالنا إذا سألتنا عن ذلك، فحالك حال من سبقك من الرسل، فهم لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى، والقرآن ملىء بنحو هذا كما فى سورتى هود والشعراء وغيرهما. وإذا كنت لا تسألهم على ذلك أجرا فقد كان حقا عليهم أن يعلموا أنك إنما تدعوهم إليه اتباعا لأمر ربك ونصيحة منك لهم. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي هذا الذي أرسلك به ربك تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لالهم خاصة، وبه يهتدون وينجون فى الدنيا والآخرة. وفى الآية إيماء إلى عموم رسالته صلى الله عليه وسلّم.

[سورة يوسف (12) : الآيات 105 إلى 107]

غفلتهم عن التأمل فى الآيات [سورة يوسف (12) : الآيات 105 الى 107] وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) تفسير المفردات وكأين: بمعنى كثير، والآية هنا: الدليل الذي يرشد إلى وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته، يمرون عليها: يشاهدونها، معرضون: أي لا يعتبرون بها، والغاشية: العقوبة تغشاهم وتعمّهم، بغتة: فجأة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن أكثر الناس لا يؤمنون مهما حرصت على إيمانهم ولا يتأملون فى الدلائل الدالة على نبوتك- ذكر هنا أن هذا ليس ببدع منهم، فأكثرهم فى غفلة عن التفكر فى آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه فى السموات من كواكب ثوابت وسيارات، وأفلاك دائرات، وفى الأرض من حدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات: وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد الإيضاح (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) أي وكم فى السموات والأرض من آيات دالة على توحيد الله وكمال علمه وقدرته من شمس وقمر ونجوم وجبال وبحار ونباتات وأشجار، يمر عليها أكثر الناس وهم غافلون عما فيها

من عبرة ودلالة على توحيد ربها، وأن الألوهية لا تكون إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شىء فأحسن تدبيره. وعلى الجملة فما فى السموات والأرض من عجائب وأسرار وإتقان وإبداع- ليدلّ أتم الدلالة على العلم المحيط والحكمة البالغة والقدرة التامة. والذين يشتغلون بعلم ما فى السموات والأرض وهم غافلون عن خالقهما، ذاهلون عن ذكره- يمتّعون عقولهم لذة العلم، ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله عزّ وجلّ، إذ الفكر وحده إن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة فى الآخرة إلا بالذكر، والذكر وإن أفاد فى الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر، فطوبى لمن جمع بين الأمرين فكان من الذين أوتوا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ونجوا من عذاب النار فى الآخرة. (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) أي وما يقر هؤلاء بأن الله هو الخالق كما قال «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» إلا وهم مشركون به فى عبادتهم سواه من الأوثان والأصنام ومن زعمهم أن له ولدا، تعالى عما يقولون. قال ابن عباس هم أهل مكة آمنوا وأشركوا وكانوا يقولون فى تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وهذا هو الشرك الأعظم، إذ يعبد مع الله غيره، وفى صحيح مسلم أنهم كانوا إذا قالوا لبيك لا شريك لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (قد، قد) أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا، وفى الصحيحين عن ابن مسعود «قلت يا رسول الله: أىّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» . ومن درس تاريخ الأمم الماضية والحاضرة عرف كيف طرأ الشرك على الأمم، وسرى فى عبادتهم سريان السّم فى الدّسم. قال ابن القيم فى إغاثة اللهفان: وما زال الشيطان يوحى إلى عبّاد القبور منهم.

أن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء لها والإقسام على الله بها مع أن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه- فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبّل ويحجّ إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر هذا عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم فى دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم من تجديد التوحيد وألا بعبد إلا الله اه. أما التوسل إلى الله بصالحى عباده كقولهم اللهم بجاه فلان عندك أو بحق فلان أو بحرمته أسألك أن تفعل كذا فلم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، وما أخرجه الطبراني من حديث فاطمة بنت أسد من قوله (بحق نبيك والأنبياء من قبلى) فقد طعن فيه رجال الحديث، على أنه ليس فيه إلا الدعاء بحق النبيين فحسب، وهو ما فضّلهم الله به على غيرهم من النبوة والرسالة وما وعدهم به من التمكين والنصر، على أن حقوق الرسل وصلاح الصالحين ليست من أعمال السائل التي يستحق عليها الجزاء ولا رابطة تربطها بإجابة سؤاله. (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟) أي أفأمن هؤلاء الذين يؤمنون بالله ربهم ويشركون به فى عبادته غيره، أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتغمرهم، أو تأتيهم الساعة فجأة حيث لا يتوقعون، وهم مقيمون على شركهم، وكفرهم بربهم، فيخلدهم فى نار جهنم. والآية كقوله «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ؟ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ؟ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ؟ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .

[سورة يوسف (12) : الآيات 108 إلى 109]

وقوله «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» . وجاء فى الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ولتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (الناقة ذات الدّر) فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أحدكم أكلته (لقمته) إلى فيه فلا يطعمها» والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون فى أمور معايشهم فلا يشعرون إلا وقد أتتهم. والحكمة فى إبهام وقتها أن الفائدة لاتتم إلا بذلك، ليخشى أهل كل زمان إتيانها فى هذا الوقت، فيحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى فى أعمالهم فيلتزموا الحق ويتحرّوا الخير ويتقوا الشرور والمعاصي. طريق النبي صلى الله عليه وسلّم الدعوة إلى التوحيد [سورة يوسف (12) : الآيات 108 الى 109] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أن أكثر الناس لا يفكرون فيما فى السموات والأرض من آيات، ولا يعتبرون بما فيها من علامات، تدل على أن الله هو الواحد الأحد، الفرد

الإيضاح

الصمد أمر رسوله أن يخبر الناس أن طريقه هى الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده يدعوبها هو ومن اتبعه على بصيرة وبرهان. الإيضاح (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي قل أيها الرسول: هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، من توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الأوثان والأصنام هى سنتى ومنهاجى، وأنا على يقين مما أدعو إليه ولدىّ الحجة والبرهان على ما أقول، وكذلك يدعو إليها أيضا من اتبعنى وآمن بي وصدقنى. والآية كقوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» . (وَسُبْحانَ اللَّهِ) أي وأنزه الله وأعظمه من أن يكون له شريك فى ملكه، أو أن يكون هناك معبود سواه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» . (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وأنا برىء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم منى وفى قوله: (عَلى بَصِيرَةٍ) إيماء إلى أن هذا الدين الحنيف لا يطلب التسليم بنظرياته ومعتقداته بحكايتها فحسب، ولكنه دين حجة وبرهان، فقد ذكر مذاهب المخالفين وكرّ عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان، وما فيها من الإحكام والإتقان، على أنظار العقول وطالبها بالإمعان فيها، لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه. نقل البغوي عن ابن عباس فى تفسير قوله: «وَمَنِ اتَّبَعَنِي» يعنى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا على أحسن طريقة، وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن، وعن ابن مسعود: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم، كانوا أفضل

هذه الأمة، وأبرّها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على إثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم. وقد كان من شبه منكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا كما حكى عنهم سبحانه: «لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» فرد سبحانه عليهم بقوله: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فكيف عجبوا منك ولم يعجبوا ممن قبلك من الرسل. ونظير هذا قوله: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» وقوله: «وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ» وقوله: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» الآية. وهذه الشبهة ذكرت فى كثير من السور كالأعراف وإبراهيم والنحل والكهف والأنبياء والشعراء. وقال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء، وهذا قول الجمهور كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة، فالله لم يوح إلى امرأة من بنات بنى آدم وحي تشريع اه. وفى قوله: (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أهل الأمصار دون البوادي إيماء إلى أن سائر البلدان تتبعهم إذا آمنوا، ولأن أهل البادية أهل جفاء، يرشد إلى ذلك قوله عليه السلام «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل» . ثم أتبع ذلك بتأنيهم وتهديدهم على تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلّم فقال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟) أي أفلم يسر هؤلاء المشركون من كفار قريش ممن يكذبونك ويجحدون نبوتك وينكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص العبادة له، فينظروا فيما وطئوا من البلاد من أوقعنا بهم

[سورة يوسف (12) : الآيات 110 إلى 111]

من الأمم قبلهم كقوم لوط وصالح وسائر من عذبهم الله من الأمم، وما أحللنا بهم من بأسنا بتكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، ويعتبروا بما حل بهم. ثم رغّب فى العمل للآخرة فقال: (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي إن الدار الآخرة للذين آمنوا بالله ورسله واتقوا الشرك به وارتكاب الآثام والمعاصي- خير من هذه الدار المشركين المنكرين للبعث المكذبين بالرسل والذين لا حظ لهم من هذه الحياة إلا التمتع بلذاتها. فإن نعيمها البدني أكمل من نعيم الدنيا، لدوامه وثباته ولخلوه عن المنغّصات والآلام، فما بالك بنعيمها الروحي من لقاء الله ورضوانه وكمال معرفته. (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) هذا الفرق أيها المكذبون بالآخرة، أما إنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم. ثم ذكر سبحانه تثبيتا لفؤاده عليه السلام أن العاقبة لرسله، وأن نصره تعالى ينزل عليهم حين ضيق الحال وانتظار الفرج كما قال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وقال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» وأن نصره يأتيهم إذا تمادى المبطلون فى تكذيبهم فقال: الفرج بعد الشدة [سورة يوسف (12) : الآيات 110 الى 111] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الظن هنا: إما بمعنى اليقين وإما بمعنى الحسبان والتقدير، والبأس: العقاب، والألباب: العقول واحدها لب، وسمى بذلك لكونه خالص ما فى الإنسان من قواه، والعبرة: الحال التي يتوصل بها من قياس ما ليس بمشاهد بما هو بمشاهد. الإيضاح (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى فدعوا من أرسلوا إليهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له فكذبوا بما جاءوهم به، وردوا ما أتوا به من عند ربهم، حتى إذا يئس الرسل من إيمانهم، لانهما كهم فى الكفر وتماديهم فى الطغيان من غير وازع، وظنّت الأمم أن الرسل الذين أرسلوا إليهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله من وعده لهم النصر عليهم- جاءهم نصرنا. وهذه سنة الله فى الأمم، يرسل إليهم الرسل بالبينات، ويؤيدهم بالمعجزات، حتى إذا أعرضوا عن الهداية، وعاندوا رسل ربهم، وامتدّت مدة كيدهم وعدوانهم، واشتد البلاء على الرسل واستشعروا بالقنوط من تمادى التكذيب وتراخى النصر- جاءهم نصر الله فجأة، وأخذ المكذبين العذاب بغتة، كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح التي أهلكت عادا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها كما قال: «أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» . وفى هذا تذكير لكفار قريش بأن سنته تعالى فى عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم حل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل كما قال فى سورة القمر: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟» وقد نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلّم فى غزوة بدر وما بعدها من الغزوات، وأهلك الجاحدين المعاندين من قومه.

روى البخاري بسنده عن عائشة رضى الله عنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير وهو يسألها عن قول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) الآية، هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم- جاءهم نصر الله عند ذلك. وعن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ وظنوا أنهم قد كذبوا» (مخففة) أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة، ونحوه عن ابن عباس قال: «يئس الرسل أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبوهم بما جاءوهم به جاءهم نصرنا» ونحوه «عن ابن مسعود قال «حفظت عن رسول الله فى سورة يوسف أنهم قد كذبوا مخففة» اه. (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) أي فنجى الرسل ومن آمن بهم من أقوامهم، لأنهم بحسب ما وضع الله من تأثير الأعمال فى طهارة النفوس وزكائها- هم الذين يستحقون النجاة دون غيرهم كما قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» . (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي ولا يمنع عقابنا وبطشنا عن القوم الذين أجرموا فكفروا بالله وكذبوا رسله، وما أتوهم به من عند ربهم. وقد جرت سنة الله أن يبلّغ الرسل أقوامهم ويقيموا عليهم الحجة ويندروهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب، فيؤمن المهتدون، ويصرّ المعاندون، فينجى الله الرسل ومن آمن من أقوامهم ويهلك المكذبين. ولا يخفى ما فى الآية من التهديد والوعيد لكفار قريش ومن على شاكلتهم من المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم. (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) قص الخبر: حدّث به على أصح الوجوه وأصدقها، من قولهم قص الأثر واقتصه إذا تتبّعه وأحاط به خبرا، أي لقد كان فى قصص يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته عبرة لذوى العقول الراجحة والأفكار الثاقبة، لأنهم هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدلّ عليها أوائلها ومقدماتها، أما الأغرار الغافلون فلا يستعملون عقولهم فى النظر والاستدلالات، ومن ثم لا يفيدهم النصح.

وجهة الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إنجاء يوسف بعد إلقائه فى غيابة الجب، وإعلاء أمره بعد وضعه فى السجن، وتمليكه مصر بعد أن بيع بالثمن البخس، والتمكين له فى الأرض من بعد الإسار والحبس الطويل، وإعزازه على من قصده بالسوء من إخوته، وجمع شمله بأبويه وبهم بعد المدة الطويلة المدى، والمجيء بهم من الشقة البعيدة النائية- إن الذي قدر على ذلك كله لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلّم وإعلاء كلمته، وإظهار دينه، فيخرجه من بين أظهركم، ثم يظهره عليكم، ويمكن له فى البلاد، ويؤيده بالجند والرجال، والأتباع والأعوان، وإن مرّت به الشدائد، وأتت دونه الأيام والحوادث. (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما كان هذا القصص حديثا يختلق ويفترى، لأنه نوع أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار- ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء، فهو دليل ظاهر، وبرهان قاهر، على أنه جاء بطريق الوحى والتنزيل. ومن ثم قال ولكن تصديق الذي بين يديه أي من الكتب السماوية التي أنزلها الله قبله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور، أي تصديق ما عندهم من الحق فيها، لا كل الذي عندهم، فهو ليس بمصدّق لما عندهم من خرافات فاسدة، وأوهام باطلة، لأنه جاء لمحوها وإزالتها، لا لإثباتها وتصديقها. (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) من أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، وبيان ما يجب له تعالى من صفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، وفيه قصص الأنبياء مع أقوامهم، لما فيها من عبر وعظات وسائر ما بالعباد إليه حاجة. وعلى الجملة ففى القرآن تفصيل كل شىء يحتاج إليه فى أمر الدين، وقد أسهب فى موضع الإسهاب، وأوجز حيث يكفى الإيجاز، ففصّل الحق فى العقائد بالحجج والدلائل، وفى الفضائل والآداب وأصول الشريعة وأمهات الأحكام، بما به تصلح أمور البشر، وشئون الاجتماع (وَهُدىً) أي وهو هدى لمن تدبّره، وأمعن فى النظر فيه، وتلاه حق تلاوته، فهو مرشد إلى الحق وهاد إلى سبيل الرشاد وعمل الخير والصلاح، فى الدين والدنيا.

إجمال ما جاء فى سورة يوسف

(وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي وهو رحمة عامة للمؤمنين الذين تنفّذ فيهم شرائعه فى دينهم ودنياهم. والخاضعون لها من غير المؤمنين يكونون فى ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أحرارا فى عقائدهم وعباداتهم، مساوين للمؤمنين فى حقوقهم ومعاملاتهم، يعيشون فى بيئة خالية من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتعبث بالفضائل. نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم فى الدنيا والآخرة، وأن يحشرنا فى زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. يوم تسودّ وجوه وتبيضّ وجوه وأن يجعل خواتيمنا خير الخواتيم فى الدنيا والآخرة كما جعل خاتمة يوسف مع أبويه وإخوته كذلك. إجمال ما جاء فى سورة يوسف (1) قصص يوسف رؤياه على أبيه يعقوب. (2) نهى يعقوب لولده عن قصّه قصصه على إخوته. (3) تدبيرهم المكيدة ليوسف وإلقائه فى غيابة الجب. (4) ادعاؤهم أن الذئب قدأ كله. (5) عثور قافلة ذاهبة إلى مصر عليه والتقاطها له. (6) بيعها إياه فى مصر بثمن بخس لعزيز مصر. (7) وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه. (8) مراودة المرأة له عن نفسها وإعداد الوسائل لذلك. (9) تمنّعه من ذلك إكراما لسيده الذي أكرم مثواه. (10) قدّها لقميصه وادعاؤها عليه أنه هو الذي أراد بها الفاحشة. (11) شهادة شاهد من أهلها بما يحلى الحقيقة. (12) افتضاح أمرها فى المدينة لدى النسوة. (13) تدبيرها المكيدة لأولئك النسوة وإحكام أمرها. (14) إدخاله السجن اتباعا لمشيئتها.

(15) تعبيره رؤيا فتيبن دخلا معه السجن (16) رؤيا الملك وطلبه تعبيرها (17) إرشاد أحد الفتيين للملك عن يوسف وأنه نعم المعبّر لها (18) طلب الملك إحضاره من السجن واستخلاصه لنفسه (19) توليته رئيسا للحكومة ومهيمنا على ماليتها (20) مجىء إخوة يوسف إليه وطلبه منهم أن يحضروا أخاهم لأبيهم (21) إرجاع البضاعة التي جاءوا بها. (22) إحضارهم أخاه إليه بعد إعطائهم الموثق لأبيهم. (23) طلب أبيهم أن يدخلوا المدينة من أبواب متعددة. (24) إخبار يوسف لأخيه عن ذات نفسه. (25) أذان المؤذن أن العير قد سرقوا. (26) قول الإخوة إن أخاه قد سرق من قبل بعد حجزه عنده. (27) طلب الإخوة من يوسف أن يأخذ أحدهم مكانه. (28) وجود غشاوة على عينى يعقوب من الحزن. (29) تعريف يوسف بنفسه لإخوته. (30) حين جاء البشير بقميص يوسف ارتد يعقوب بصيرا. (31) طلب الإخوة من أبيهم أن يستغفر لهم. (32) رفع يوسف أبويه على العرش. (33) قول يوسف لأبيه هذا تأويل رؤياى من قبل. (34) دعاؤه بحسن الخاتمة. (35) فى هذا القصص إثبات لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم. (36) تحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حدث لمن قبلهم. (37) لم يرسل الله إلا رجالا وما أرسل ملائكة. (38) نصر الرسل بعد الاستيئاس. (39) فى قصص الرسل عبرة لأولى الألباب.

سورة الرعد

سورة الرعد هى مدنية وآيها ثلاث وأربعون، نزلت بعد سورة محمد، ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) إنه سبحانه أجمل فى السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية فى قوله: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» ثم فصلها هنا أتم تفصيل فى مواضع منها: (2) إنه أشار فى سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟» ثم فصل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر فى سالفتها. (3) إنه ذكر فى كلتا السورتين أخبار الماضين مع رسلهم، وأنهم لاقوا منهم ما لاقوا، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وكتب الخزي على الكافرين، والنصر لرسله والمؤمنين، وفى ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم وتثبيت لقلبه. (4) جاء فى آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله: «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» وفى أول هذه وهو قوله: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» . بسم الله الرّحمن الرّحيم صفات القرآن [سورة الرعد (13) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)

الإيضاح

الإيضاح (المر) قلنا فيما سلف إن هذه الحروف فى أوائل السور حروف تنبيه كألا ونحوها وتقرأ بأسمائها ساكنة فيقال «ألف، لام، ميم، را» كما قلنا إن كل سورة بدئت بهذه الحروف ففيها انتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي آيات هذه السورة آيات القرآن البالغ حد الكمال المستغنى عن الوصف بين الكتب السماوية، الجدير بأن يختص باسم «الكتاب» . (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) أي وكل القرآن الذي أنزله إليك ربك حق لا شك فيه، وهذا كالإجمال بعد التفصيل لما تقدم من وصف السورة بالكمال فكأنه سبحانه بعد أن أثبت لهذه السورة الرفعة والكمال عمم هذا الحكم فأثبته للقرآن جميعه، فلا تختص به سورة دون أخرى. وهذا الأسلوب جار على سنن العرب فى تخاطبهم فقد قالت فاطمة الأنمارية وقد سئلت عن بنيها، أىّ بنيك أفضل؟ (ربيعة، بل عمارة، بل قيس، بل أنس، ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها) فبعد أن أثبتت الفضل لكل منهم على سبيل التعيين، أجملت القول وأثبتت لهم الفضل جميعا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدقون بما أنزل عليك من ربك، ولا يقرون بهذا القرآن وما فيه من بديع الأمثال والحكم والأحكام التي تناسب مختلف العصور والأزمان والتي لو سار الناس على سننها لسعدوا فى الدنيا والآخرة وقد سلك المسلمون سبيلها فى عصورهم الأولى فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وامتلكوا أكثر المعمور فى ذلك الحين وثلّوا عروش كسرى والروم ودانت لهم الرقاب، وساسوا الملك سياسة شهد لهم أعداؤهم بأنها كانت سياسة عدل ورفق، وأخذ على يد الظالم لإنصاف المظلوم، فلله دين رفع من قدر أهله حتى أوصلهم

[سورة الرعد (13) : الآيات 2 إلى 4]

إلى السماكين، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا معالمه، وألقوها وراءهم ظهريا فحاق بهم ما كانوا يكسبون، وصاروا أذلة بعد أن كانوا أعزة، ومستعبدين بعد أن كانوا سادة، تابعين بعد أن كانوا متبوعين «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» والآية بمعنى قوله: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» . دلائل الوحدانية والقدرة [سورة الرعد (13) : الآيات 2 الى 4] اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) تفسير المفردات العمد: السواري واحدها عمود كأدم وأديم، والتسخير: التذليل والطاعة، والتدبير: التصريف للأمور على وجه الحكمة، والتفصيل: التبيين، والآيات: هى الأدلة التي تقدم ذكرها من الشمس والقمر، واليقين: العلم الثابت الذي لاشك فيه، والمد: البسط، والرواسي: الثوابت المستقرة التي لا تتحرك ولا تنتقل واحدها راسية، والأنهار

المعنى الجملي

واحدها نهر: وهو المجرى الواسع من الماء، زوجين اثنين: أي ذكر وأنثى، والعرب تسمى الاثنين زوجين والواحد من الذكور زوجا لأنثاه، والأنثى زوجا وزوجة لذكرها، يغشى يغطى، قطع: أي بقاع، متجاورات: أي متقاربات، جنات أي بساتين، صنوان: هى النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها واحدها صنو، وفى الحديث «عم الرجل صنو أبيه» والأكل (بضمتين وبتسكين الثاني) : ما يؤكل والمراد به التمر والحب. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن أكثر الناس لا يؤمنون، أعقبه بذكر البراهين على التوحيد والمعاد فاستدل بأحوال السموات وأحوال الشمس والقمر وأحوال الأرض جبالها وأنهارها وأزهارها ونخيلها وأعنابها واختلاف ثمراتها وتنوّع غلاتها على وجود الإله القادر القاهر الذي بيده الخلق والأمر، وبيده الضر والنفع، وبيده الإحياء والإماتة، وهو على كل شىء قدير. الإيضاح ذكر سبحانه أدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته، بعضها سماوى وبعضها أرضى، وذكر من الأولى جملة أمور: (1) (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي إنه تعالى خلق السموات مرفوعات عن الأرض بغير عمد، بل بأمره وتسخيره، على أبعاد لا يدرك مداها، وأنتم ترونها كذلك بلا عمد من تحتها تسندها، ولا علاقة من فوقها تمسكها، وقد تقدم هذا بإيضاح فى سورة البقرة. (2) (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير العظيم استواء يليق بعظمته وجلاله، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من

النظام، وإرادته وحكمته من إحكام وإتقان، وقد سبق تفصيل هذا فى سورتى الأعراف ويونس. (3) (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وذلل الشمس والقمر وجعلهما طائعين لما أريد منهما لمنافع خلقه، فكل منهما يسير فى منازله لوقت معين فالشمس تقطع فلكها فى سنة، والقمر فى شهر لا يختلف جرى كل منهما عن النظام الذي قدر له، وإليه الإشارة بقوله «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» وقوله «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» وإيضاح هذا ذكر فى سورتى يونس وهود، وبعد أن ذكر هذه الدلائل قال: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي إنه تعالى يتصرف فى ملكه على أتم الحالات وأكمل الوجوه فهو يميت ويحيى، ويوجد ويعدم، ويغنى ويفقر، وينزل الوحى على من يشاء من عباده، وفى ذلك برهان ساطع على القدرة والرحمة، فإن اختصاص كل شىء بوضع خاص وصفة معينة لا يكون إلا من مدبر اقتضت حكمته أن يكون كذلك، فتدبيره لعالم الأجسام كتدبيره لعالم الأرواح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير شىء عن تدبير آخر كما هو شأن المخلوقات فى هذه الدنيا، وكذلك هو دليل أيضا على أنه تعالى متعال فى ذاته وصفاته وعلمه وقدرته لا يشبه شيئا من مخلوقاته. (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي يلبس الموجودات ثوب الوجود بنظام محكم دقيق، ويوجد بينها ارتباطات تجعلها كأنها سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام لبعضها عن بعض فالمجموعة الشمسية من الشمس والقمر والكواكب مرتبطة فى حركاتها بنظام خاص بوساطة الجاذبية لا تحيد عن سننه ولا تجد معدلا عن السير فيه بحسب النهج الذي قدر لها، ولا تزال كذلك حتى ينتهى العالم، فيحدث حينئذ تغيير لأوضاعها، واختلال لحركاتها: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» .

وهكذا الموجودات الأرضية لها أسباب تعقبها مسببات بإذن الواحد الأحد، فالزارع يحرث أرضه ويلقى فيها الحب ثم يسقيها ويضع فيها السّماد ويوإلى سقيها حتى تؤتى أكلها، فإذا فقدت حلقة من تلك السلسلة باء صاحب الزرع بالخسران فلم يحصل على شىء أو حصل على القليل التافه الذي لا يعدل التعب والنّصب الذي فعله. ثم أبان سبحانه أن هذا التدبير للأمور والتفصيل للآيات الدالين على القدرة الكاملة والحكمة الشاملة، جاءا لحكمة اقتضتهما وهى الإيقان بالبعث لفضل القضاء ومجازاة كل عامل بما عمل: «يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه» فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم، وإلى ذلك أشار بقوله: (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي رجاء أن تتحققوا أن من قدر على رفع السموات بغير عمد ودبر الأمر بإحكام ونظام- قادر على البعث والنشور وإحياء الموتى من القبور لفصل القضاء ثم ثواب كل عامل على ما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر فإما سعادة لا شقاء بعدها، وإما نكال وعذاب تتبدل من هوله الجلود «كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها» وخلاصة هذه العبرة- إنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية العظيمة من الشمس والقمر وسائر الكواكب فى الجو بلا عمد ودبّر الأمور بغاية الإحكام والدقة ولم يشغله شأن عن شأن- ليس بالبعيد عليه أن يرد الأرواح إلى الأجساد ويعيد العالم إلى حياة أخرى حياة استقرار وبقاء لافناء بعدها، وإذا أيقنتم بذلك ولّيتم معرضين عن عبادة الأصنام والأوثان، وأخلصتم العبادة للواحد الديان، وائتمرتم بوعده ووعيده، وصدقتم برسله، وبادرتم إلى اتباع أوامره وتركتم ما نهى عنه، ففزتم بسعادة الدارين. وبعد أن ذكر سبحانه الدلائل السماوية على وحدانيته وكمال قدرته أردفها بالأدلة الأرضية فقال:

(1) (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي جعلها متسعة ممتدة فى الطول والعرض، لتثبت عليها الأقدام، ويتقلب عليها الحيوان، وينتفع الناس بخيراتها زرعها وضرعها، وبما فى باطنها من معادن جامدة وسائلة، ويسيرون فى أكنافها يبتعون رزق ربهم منها. ولا شك أن الأرض لعظم سطحها هى فى رأى العين كذلك، وهذا لا يمنع كرويتها التي قد قامت عليها الأدلة لدى علماء الفلك ولم يبق لديهم فيها ريب. (2) (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي وأرساها بجبال راسيات شامخات لا تنتقل ولا تتحرك حتى لا تميد وتضطرب. (3) (وَأَنْهاراً) أي وجعل فيها أنهارا جارية لمنافع الإنسان والحيوان، فيسقى الإنسان ما جعل الله فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال ويجعلها لنفسه طعاما وفاكهة، ويكون منها مادة حياته فى طعامه وشرابه وغذائه. (4) (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي وجعل فيها من كل أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكرا وأنثى حين تكوّنها، فقد أثبت العلم حديثا أن الشجر والزرع لا يولدان التمر والحب إلا من اثنين ذكر وأنثى، وعضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث فى شجرة واحدة كأغلب الأشجار، وقد يكون عضو التذكير فى شجرة وعضو التأنيث فى شجرة أخرى كالنخل، وما كان العضوان فيه فى شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة كالقطن، وإما أن يكون كل منهما فى زهرة كالقرع مثلا. (5) (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يلبس النهار ظلمة الليل، فيصير الجو مظلما بعد أن كان مضيئا، فكأنه وضع عليه لباسا من الظلمة، وكذلك يلبس الليل ضياء النهار فيصير الجو مضيئا، وكل هذا لتتم المنافع للناس بالسكون والاستقرار أو بالبحث على المعايش والأرزاق كما قال: «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» وقال: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» .

وبعد أن ذكر هذه الأدلة التي تشاهد رأى العين فى كل صباح ومساء وفى كل حين ووقت، ذكر أن هذه الأدلة لا يلتفت إليها ولا يعتبر بها إلا من له فكر يتدبر به وعقل يهتدى به إلى وجه الصواب وينتقل من النظر فى الأسباب إلى مسبباتها فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر من عجائب خلق الله وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء العظيمة- لدلائل وحججا لمن يتفكر فيها ويعتبر فيعلم أن الخالق لذلك هو القاهر فوق العباد، وهو ذو الإرادة المطلقة والقدرة الشاملة، فلا يعجزه إحياء من هلك من خلقه، ولا إعادة من فنى منهم، ولا ابتداع ما شاء ابتداعه، ومن ثم لا تجوز العبادة إلا له، ولا التذلل والخضوع إلا لسلطانه، ولا ينبغى أن تكون لصنم أو وثن أو حجر أو شجر أو ملك أو نبى أو غير أولئك ممن سلب النفع والضر، بل لا يستطيع صرف الأذى عن نفسه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» . وقد روى «تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله» . (6) (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي وفى الأرض بقاع متجاورات متدانيات، يقرب بعضها من بعض، وتختلف بالتفاضل مع تجاورها، فمن سبخة لا تنبت شيئا إلى أرض جيدة التربة تجاورها وتنبت أفضل الثمرات ومختلف النبات، ومن صالحة للزرع دون الشجر، إلى أخرى مجاورة لها تصلح للشجر دون الزرع، إلى متدانية لهما تصلح لجميع ذلك، ومنها الرّخوة التي لا تكاد تتماسك وهى تجاور الصّلبة التي لا تفتّتها المعاول وأدوات. التدمير من المفرقعات (الديناميت والقنابل) وكلها من صنع الله وعظيم تدبيره فى خلقه. (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) أي وفيها بساتين من أشجار الكرم. (وَزَرْعٌ) أي وفيها زرع من كل نوع وصنف من الحبوب المختلفة التي تكون فذاء للإنسان والحيوان.

[سورة الرعد (13) : الآيات 5 إلى 7]

(وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) أي وفيها نخيل صنوان يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها، وغير صنوان أي متفرقات مختلفة الأصول. (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي يسقى كل ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل بماء واحد لا اختلاف فى طبعه، ومع وجود أسباب التشابه نفضّل بمحض القدرة بعضا منها على بعض فى الثمرات شكلا وقدرا، ورائحة وطعما، وحلاوة وحموضة. ثم بين أن مثل هذا لا يفكر فيه إلا من أوتى العقل الذي يفكر فى المقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فيما فصّل من الأحوال السالفة لآيات باهرة لقوم يعملون على قضية العقل، فمن ير خروج الثمار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم والروائح فى تلك البقاع المتلاصقة، مع أنها تسقى بماء واحد وتتشابه وسائل نموها- يجزم حتما بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لا يعجزه شىء، وكذلك يعتقد بأن من قدر على إنشاء ذلك، فهو قادر على إعادة ما بدأه أول مرة، بل هو أهون منه لدى النظر والاعتبار. إنكار المشركين للبعث والنبوة [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)

تفسير المفردات

تفسير المفردات العجب: تغير النفس حين رؤية ما يستبعد فى مجرى العادة، والأغلال: واحدها غلّ، وهو طوق من الحديد طرفاه فى اليدين ويحيط بالعنق، والمثلات (بفتح فضم) واحدها مثلة (بفتح فضم) كسرة وهى العقوبة التي تترك فى المعاقب أثرا قبيحا كصلم أذن أو جدع أنف أو سمل عين، والغفر: الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة، والمراد بالآية هنا الآيات الحسية كقلب عصا موسى حية وناقة صالح، والإنذار: التخويف، والهادي: القائد الذي يقود الناس إلى الخير كالأنبياء والحكماء والمجتهدين. المعنى الجملي بعد أن ذكر إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك، من خلق السموات بلا عمد وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر فى ذلك الملكوت العظيم- ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسا على ما يرون ويشاهدون، فإن من قدر على خلق السموات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان فى الوصول إلى معرفة كنهه لا يعجز عن إعادته فى خلق جديد كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟» .

الإيضاح

الإيضاح (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وإن تعجب من عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام والأوثان بعد أن قامت الأدلة على التوحيد، فأعجب منه تكذيبهم بالبعث واستبعادهم إياه بقولهم: (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي أئذا فنينا وبلينا نعاد بعد العدم، مع أنهم لا ينكرون قدرته تعالى على إيجادهم بداءة ذى بدء وتصويرهم فى الأرحام وتدبير شئونهم حالا بعد حال. وقد تكرر هذا الاستفهام فى أحد عشر موضعا فى تسع سور من القرآن: فى الرعد، والإسراء، والمؤمنون، والنحل، والعنكبوت، والسجدة، والصافات، والواقعة، والنازعات! وكلها تتضمن كمال الإنكار وعظيم الاستبعاد. ثم وصف أولئك المنكرين للبعث فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أي أولئك الذين جحدوا قدرة ربهم وكذبوا رسوله على ما عاينوا من آياته الكبرى التي ترشدهم إلى الإيمان وتهديهم سبيل الرشاد لو كانوا يبصرون- هم الذين تمادوا فى عنادهم وكفرهم، فإن إنكار قدرته تعالى إنكار له لأن الإله لا يكون عاجزا. (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي وأولئك مقيدون بسلاسل وأغلال من الضلال تصدهم عن النظر فى الحق واتباع طريق الهدى والبعد عن الهوى كما قال: كيف الرشاد وقد خلّفت فى نفر ... لهم عن الرشد أغلال وأقياد وقد يكون المعنى- إنهم يوم القيامة عند العرض للحساب توضع الأغلال فى أعناقهم كما يقاد الأسير الذليل بالغل، ويؤيده قوله تعالى: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» . (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وأولئك هم الماكثون فى النار دار

الذل والهوان لا يتحولون عنها ولا يبرحونها كفاء ما سولت لهم أنفسهم من سىء الأعمال وما اجترحوا من الموبقات والشرور والآثام: «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» . وبعد أن ذكر تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلّم فى إنكار عذاب يوم القيامة ذكر جحودهم لعذاب الدنيا الذي أوعدهم به، وكانوا كلما هددهم بالعذاب قالوا له جئنا به وطلبوا منه إنزاله، وهذا ما أشار إليه بقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) أي ويستعجلونك بالعقوبة التي هددوا بها إذا هم أصروا على الكفر استهزاء وتكذيبا كما حكى الله عنهم فى قوله: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وفى قوله «وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» وفى قوله «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» . (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي قبل الثواب والسلامة من العقوبة، وكان صلى الله عليه وسلّم يعدهم على الإيمان بالثواب فى الآخرة وحصول النصر والظفر فى الدنيا. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي ويستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين وقوع ما تنذرهم به، والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين، فمن أمة مسخت قردة، وأخرى أهلكت بالرجفة، وثالثة أهلكت بالخسف إلى نحو أولئك. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي وإن ربك لذو عفو وصفح عن ذنوب من تاب من عباده فتارك فضيحته بها فى يوم القيامة، ولولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة حين اكتسابها كما قال «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» . (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لمن يجترح السيئات وهو متماد فى غوايته سادر

فى آثامه، وقد يعجل له قسطا منه فى الدنيا ويكون جزاء له على ما سولت له نفسه كما يشاهد لدى المدمنين على الخمور من اعتلال وضعف ومرض مزمن وفقر مدقع وذل وهوان بين الناس، وفى المقامرين من خراب عاجل وإفلاس فى المال والذل بعد العز، وربما اقتضت حكمته أن يؤجل له ذلك إلى يوم مشهود يوم يقوم الناس لرب العالمين فيستوفى قطّه هناك نارا تكوى بها الجباه والجنوب، وتبدل الجلود غير الجلود، وقد قرن المغفرة بالعقاب فى مواضع كثيرة من الكتاب الكريم ليعتدل الرجاء والخوف كقوله «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» وقوله «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الخوف والرجاء. روى ابن أبى حاتم عن سعيد بن المسيّب قال: لما نزلت هذه الآية (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) إلخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل واحد» . وبعد أن ذكر طعنهم فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم لقوله بالحشر والمعاد، ثم طعنهم فيه لأنه أنذرهم بحلول عذاب الاستئصال ذكر أنهم طعنوا فيه، لأنه لم يأت لهم بمعجزة مبيّنة كما فعل الرسل من قبله فقال: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي ويقول الذين كفروا تعنتا وجحودا: هلا يأتينا بآية من ربه كعصا موسى وناقة صالح، فيجعل لنا الصفا ذهبا ويزيح عنا الجبال ويجعل مكانها مروجا وأنهارا، وقد طلبوا ذلك ظنا منهم أن القرآن كتاب كسائر الكتب لا يدخل فى باب المعجزات التي أتى بها الرسل السالفون. وقد رد الله عليهم الشبهة بقوله فى آية أخرى «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ» أي إن سنتنا أن الآيات إن لم يؤمن بها من طلبوها أهلكناهم بذنوبهم، ولم نشأ أن يحل بكم عذاب الاستئصال.

[سورة الرعد (13) : الآيات 8 إلى 11]

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلّم راغبا فى إجابة مقترحاتهم حبا فى إيمانهم بيّن له وظيفته التي أرسل لأجلها فقال: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي إن مهمتك التي بعثت لها هى الإنذار من سوء مغبّة ما نهى الله عنه كدأب من قبلك من الرسل، وليس عليك الإتيان بالآيات التي يقترحونها ابتغاء هدايتهم، فأمر ذلك إلى خالقهم وهاديهم «ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدى من يشاء» ، «فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» . (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي ولكل أمة قائد يدعوهم إلى سبل الخير، فطره الله على سلوك طريقه بما أودع فيه من الاستعداد له بسائر وسائله، وقد شاء أن يبعث هؤلاء الهداة فى كل زمان كى لا يترك الناس سدى. وأولئك هم الأنبياء الذين يرسلهم لهداية عباده، فإن لم يكونوا فالحكماء والمجتهدون الذين يسيرون على سننهم ويقتدون بما خلفوا من الشرائع وفضائل الأخلاق وحميد الشمائل، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلّم «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» . الله عليم بكل شىء [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11] اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الغيض: النقصان يقال غاض الماء وغضته كما قال «وَغِيضَ الْماءُ» بمقدار، أي بأجل لا يتجاوزه ولا ينقص عنه، والغائب: ما غاب عن الحس، والشاهد: الحاضر المشاهد، الكبير: العظيم الشأن، والمتعالي: المستعلى على كل شىء، وأسر الشيء: أخفاه فى نفسه، والمستخفى: المبالغ فى الاختفاء، والسارب: الظاهر، من قولهم سرب: إذا ذهب فى سربه (طريقه) معقبات، أي ملائكة تعتقب فى حفظه وكلاءته واحدها معقبة، من عقّبه: أي جاء عقبه، من بين يديه، أي قدّامه، ومن خلفه، أي من ورائه، من أمر الله، أي بأمره وإعانته، وال، أي ناصر. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكى عنهم بقوله «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» ، إذ رأوا أن أجزاء الحيوان حين تفتّها وتفرقها يختلط بعضها ببعض، وقد تتنائر فى بقاع شتى ونواح عدة، وربما أكل بعض الجسم سبع وبعضه الآخر حدأة أو نسر، وحينا يأكل السمك قطعة منه وأخرى يجرى بها الماء وتدفن فى بلد آخر، أزال هذا الاستبعاد بأن الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، والذي يعلم الأجنّة فى بطون أمهاتها، ويعلم ما هو مشاهد لنا أو غائب عنا يعلم تلك الأجزاء المتناثرة ومواضعها مهما نأى بعضها عن بعض ويضم متفرقاتها ويعيدها سيرتها الأولى: الإيضاح (اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد، طويل العمر أو قصيره كما قال «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» ، وقال «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» .

(وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أي وما تنقصه الأرحام وما تزداده من عدد فى الولد، فقد يكون واحدا وقد يكون اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ومن جسده فقد يكون تامّا وقد يكون ناقص الخلق وهو المخدج، ومن مدة الحمل فقد تكون أقل من تسعة أشهر وقد تكون تسعة إلى عشرة أشهر تقريبا، فقد دل الإحصاء والبحث الذي عمل فى مستشفيات لندن على أن الجنين لا يستقر فى البطن وهو حى أكثر من 305 أيام، وفى مستشفيات برلين على أنه لا يستقر أكثر من 308 ومن ثم جرت المحاكم الشرعية الآن على أن عدة المطلقة لا تكون أكثر من سنة بيضاء أي سنة قمرية أي 354 يوما، وهو رأى فى مذهب مالك. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي ولكل شىء ميقات معيّن لا يعدوه زيادة ولا نقصا «فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» . وفى معنى الآية قوله تعالى «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» وفى الحديث «إن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلّم بعثت إليه رسولا: إن ابنا لها فى الموت، وأنها تحب أن تحضره، فبعث إليها يقول: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شىء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» . (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم ما هو غائب عنكم لا تدركه أبصاركم من عوالم لا نهاية لها، فقد أثبت العلم حديثا أن هناك عوالم لا تراها العين المجردة بل ترى بالمنظار المعظم (التليسكوب) ومنها الجراثيم (المكروبات) التي تولد كثيرا من الأمراض التي قد يعسر شفاؤها أو يتعذر فى كثير من الأحوال كجراثيم السرطان والسل والزهري، أو تشفى بعد حين كجراثيم الجدرىّ و (الدفتيريا) والحصبة ونحوها وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» ، وما تشاهدونه وترونه بأعينكم «وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة فى الأرض ولا فى السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلّا فى كتاب مبين» . (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) أي هو العظيم الشأن الذي يجلّ عما وصفه به الخلق من صفات

المخلوقين، المستعلى على كل شىء بقدرته وجبروته وهو وحده الذي له التصرف فى ملكوته. وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى قادر على البعث الذي أنكروه، والآيات التي اقترحوها، والعذاب الذي استعجلوه، وإنما يؤخر ذلك لمصلحة لا يدركها البشر فيخفى عليه سرها. وفى معنى الآية قوله «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» . ثم بين أن علمه تعالى شامل لجميع الأشياء فقال: (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي من أسر قوله وأخفاه ولم يتلفّظ به، أو جهر به وأظهره فهو سواء عند الله يسمعه ولا يخفى عليه شىء منه كما قال «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» وقال «وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ» قالت عائشة: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله لقد جاءت المجادلة تشتكى زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا فى جنب البيت وإنه ليخفى علىّ بعض كلامها فأنزل الله «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» . (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي مختف فى عقر داره فى ظلام الليل. (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ظاهر ماش فى بياض النهار، فكلاهما عند الله سواء، وروى عن ابن عباس فى تفسير ذلك: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه برىء من الإثم. (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي للإنسان ملائكة يتعاقبون عليه: حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من المضارّ ويراقبون أحواله، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ أعماله من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب

السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلا، حافظان وكاتبان كما جاء فى الحديث الصحيح «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادى؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون» . وإذا علم الإنسان أن هناك ملائكة تحصى عليه أعماله كان حذرا من وقوعه فى المعاصي خيفة أن يطلع عليه الكرام الكاتبون ويزجره الحياء عن الإقدام على فعل الموبقات كما يحذر من الوقوع فيها إذا حضر من يستحى منه من البشر، وهو أيضا إذا علم أن كل عمل له فى كتاب مدّخر يكون ذلك رادعا له داعيا إلى تركه. وليس أمر الحفظة بالبعيد عن العقل بعد أن أثبته الدين وبعد أن كشف العلم أن كثيرا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها بآلات دقيقة لا تدع منها شيئا إلا تحصيه، فقد أصبحت المياه والكهرباء فى المدن تعدّ بالآلات (العدادات) فالمياه التي يشربونها، والكهرباء التي يضيئون بها منازلهم تحصى وتعدّ كما يعدّ الدرهم والدينار، وكذلك هناك آلات تحصى المسافات التي تقطعها السيارات فى سيرها، وأخرى تحصى تيارات الأنهار ومساقط المياه إلى غير ذلك من دقيق الآلات التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة من الأعمال إلا تكتبها وتحصيها. وكلما تقدمت العلوم وكشفت ما كان غائبا عنا كان فى ذلك تصديق أيّما تصديق لنظريات الدين، ووسيلة حافزة إلى الاعتراف بما جاء فيه مما يخفى على بعض الماديين الذين لا يقرّون إلا بما يرونه رأى العين، ولا يذعنون إلا بما يقع تحت حسهم، وبهذا يصدق قول القائل (الدين والعقل فى الإسلام صنوان لا يفترقان، وصديقان لا يختلفان) . (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي هم يحفظونه بأمر الله وإذنه وجميل رعايته وكلاءته، فكما جعل سبحانه للمحسوسات أسبابا محسوسة ربط بها مسبباتها بحسب ما اقتضته

حكمته، فجعل الجفن سببا لحفظ العين مما يدخل فيها، فيؤذيها، كذلك جعل لغير المحسوسات أسبابا، فجعل الملائكة أسبابا للحفظ، وأفعاله تعالى لا تخلو من الحكم والمصالح. وكذلك جعل لحفظ أعمالنا كراما كاتبين وإن كنا لا ندرى ما قلمهم وما مدادهم؟ وكيف كتابتهم؟ وأين محلهم؟ وما حكمة ذلك؟ مع أن علمه تعالى بأعمال الإنسان كاف فى الثواب والعقاب عليها، وقد يكون من حكمة ذلك أنه إذا علم الإنسان أن أعماله محفوظة لدى الحفظة الكرام كان أجدر بالإذعان لما يلقاه من ثواب وعقاب يوم العرض والحساب. ولمفسرى السلف أقوال فى الآية. قال ابن عباس: هم الملائكة تعقّب بالليل، تكتب على ابن آدم، ويحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وذلك الحفظ من أمر الله وبإذن الله، لأنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق أن يحفظ أحدا من أمر الله وبما قضاه عليه إلا بأمره وإذنه، فإذا جاء قدر الله خلّوا عنه. وقال علىّ: ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى فى بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق، فإذا جاء القدر خلوّا بينه وبين القدر اه. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية فيزيلها عنهم ويذهبها، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض، وارتكابهم للشرور والموبقات التي تقوّض نظم المجتمع، وتفتك بالأمم كما تفتك الجراثيم بالأفراد. روى أن أبا بكر قال: قال صلى الله عليه وسلّم «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب» ويرشد إلى صحة هذا قوله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» وقد بسطنا هذا فيما سلف فى مواضع متعددة، وأشار إليه المحقق المؤرخ ابن خلدون فى مقدمة التاريخ وعقد له بابا جعل عنوانه [فصل فى أن الظلم مؤذن بخراب العمران] واسترسل فيه على

المنهج المعروف عنه، وضرب له الأمثلة بما حدث فى كثير من الأمم قبل الإسلام وبعده، وبين أن الظلم قد ثلّ عروشها، وأذل أهلها، وجعلها طعمة للآكلين، ومثلا للآخرين. وفى حال الأمم الإسلامية اليوم وقد اجتثت من أطرافها وتحكم فيها أهل الغرب وأذلوها بعد أن استعمروها، عبرة لمن تدبر وألقى السمع وهو شهيد، والقرآن شاهد على صدق هذه النظرية، كما قال: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» وقوله «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بخيراتها، ما ظهر منها وما بطن. (وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي وإذا أراد الله بقوم سوءا من مرض وفقر ونحوهما من أنواع البلاء بما كسبت أيديهم حين أخذوا فى الأسباب التي تصل بهم إلى هذه الغاية، فلا يستطيع أحد أن يدفع ذلك عنهم ولا يردّ ما قدّره لهم. وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى الاستعجال بطلب السيئة قبل الحسنة، وطلب العقاب قبل الثواب، فإنه متى أراد الله ذلك وأوقعه بهم فلا دافع له. والخلاصة- إنه ليس من الحكمة فى شىء أن يستعجلوا ذلك. (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) أي ومالهم من دون الله سبحانه من يلى أمورهم، فيجلب لهم النفع ويدفع عنهم الضر، فالآلهة التي اتخذوها لا تستطيع أن تفعل شيئا من ذلك، ولا تقدر على دفع الأذى عن نفسها فضلا عن دفعه عن غيرها. والله در الأعرابى الذي رأى صنما يبول عليه الثعلب فثارت به حميّته فأمسكه وكسره إربا إربا وقال: أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» .

[سورة الرعد (13) : الآيات 12 إلى 15]

نعم الله على عباده [سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 15] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) تفسير المفردات البرق: ما يرى من النور لا معا خلال السحاب، والرعد: هو الصوت المسموع خلال السحاب. وسببهما على ما بيّن فى العلوم الطبيعية- أن البرق يحدث من تقارب سحابتين مختلفى الكهربائية، حتى يصير ميل إحداهما للاقتراب من الأخرى أشد من قوة الهواء على فصلهما فتهجم كل منهما على الأخرى بنور زاهر وصوت قوىّ شديد، فذلك النور هو البرق. والصوت هو الرعد الذي نشأ من تصادم دقائق الهواء الذي تطرده كهربائية البرق أمامها، والصواعق: واحدها صاعقة. وسببها أن السحب قد تمتلىء بكهربائية، والأرض بكهربائية أخرى والهواء يفصل بينهما، فإذا قاربت السحب وجه الأرض تنقص الشرارة الكهربائية منها فتنزل صاعقة تهلك الحرث والنسل، والمجادلة: من الجدل وهو شدة الخصومة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، كأن المجادلين يفتل كل منهما الآخر عن رأيه، والمحال: أي أفتله المماحلة والمكايدة لأعدائه، يقال محل فلان بفلان إذا كايده وعرّضه للهلاك، وتمحل إذا تكلف فى استعمال الحيلة، فى ضلال أي ضياع وخسار، والظلال: واحدها ظل وهو

المعنى الجملي

الخيال الذي يظهر للجرم، والغدو: واحدها غداة كقنىّ وقناة وهى أول النهار، والآصال، واحدها أصيل: ما بين العصر والمغرب. المعنى الجملي بعد أن خوّف سبحانه عباده بأنه إذا أراد السوء بقوم فلا يدفعه أحد- أتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان حينا وتشبه العذاب والنقم حينا آخر. روى «أن عامر بن الطّفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة وسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما ذلك، فقال له عامر لعنه الله: أما والله لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يأبى الله عليك ذلك وابنا قيلة (الأنصار من الأوس والخزرج) ثم إنهما همّا بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستلّ سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة وانطلقا فى أحياء العرب يجمعان لحربه، فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأرسل الطاعون على عامر فخرجت فيه غدّة كغدّة البكر، فآوى إلى بيت سلوليّة وجعل يقول: (غدّة كغدّة البكر وموت فى بيت سلولية، حتى مات) وأنزل الله فى مثل ذلك «ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون فى الله» . الإيضاح (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي إنه سبحانه يسخّر البرق فيخاف منه بعض عباده كالمسافر ومن فى جرينه التمر والزبيب للتجفيف، ويطمع فيه من له فيه النفع كمن يرجو المطر لسقى زرعه، وهكذا حال كل شىء فى الدنيا هو خير بالنظر إلى من يحتاج إليه فى أوانه، وشر بالنظر إلى من يضره بحسب مكانه أو زمانه. (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي ويوجد السحب منشأة جديدة ممتلئة ماء فتكون ثقيلة قريبة من الأرض. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي إن فى صوت الرعد لدلالة على خضوعه وتنزيهه

عن الشريك والعجز، كما يدل صوت المسبّح وتحميده على انقياده لقدرة ذلك الحكيم الخبير. ونحو الآية قوله سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» . أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرعد والصواعق يقول: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» . وأخرج ابن مردويه عن أبى هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا هبّت الريح أو سمع صوت الرعد تغيّر لونه حتى يعرف ذلك فى وجهه، ثم يقول للرعد: سبحان من سبّحت له، وللريح: اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا» . (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي ويسبح الملائكة الكرام من هيبته وجلاله، وينزهونه عن اتخاذ الصاحبة والولد. (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) إصابته بها فيهلكه. (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ) أي يجادلون فى شأنه تعالى، وفيما وصفه به الرسول الكريم، من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس للجزاء على أعمالهم يوم العرض والحساب. وفى هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم فإنه لما نعى على كفار قريش عنادهم فى اقتراحهم الآيات الحسية كآيات موسى وعيسى عليهما السلام، وإنكارهم كون الذي جاء به عليه السلام آية- سلّاه بما ذكر كأنه قال له: إن هؤلاء لم يقصروا جحدهم وإنكارهم على النبوّة بل تخطّوه إلى الألوهية، ألا تراهم مع ظهور الآيات البينات على التوحيد يجادلون فى الله باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد له، ومع إحاطة علمه وشمول قدرته ينكرون البعث والجزاء والعرض للحساب، ومع شديد بطشه وعظيم سلطانه يقدمون على المكايدة والعناد فهوّن عليك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.

(وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي وهو سبحانه لا يغالب، فهو شديد البطش والكيد لأعدائه، يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا يترقبون، وهو القادر على أن ينزل عليهم عذابا من عنده لا يستطيعون حيلة لدفعه ولا قوة على ردّه، لكنه يمهلهم لأجل معلوم بحسب ما تقتضيه الحكمة كما صح فى الحديث: «إن ربك لا يهمل ولكن يمهل» . ومثل الآية قوله: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» وقوله: «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» . قال: ابن جرير فى تفسير ذلك: والله شديد فى عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى فى كفره. (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) أي له تعالى الدعاء والتضرع الواقع حيث ينبغى أن يكون، والمجاب حين وقوعه، أي إن إجابة ذلك له تعالى دون غيره. وفى هذا وما قبله وعيد للكفار على مجادلتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بحلول محاله بهم، وتهديدهم بإجابة دعائه عليه السلام إن دعا عليهم. وقيل دعوة الحق كلمة التوحيد: أي لله من خلقه أن يوحّدوه ويخلصوا له، وإنه شرعها وأمر بها. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) أي والأصنام الذين يدعوهم المشركون وبتضرعون إليهم ويتجاوزون الله لا يجيبونهم بشىء مما يريدونه من نفع أو ضر إلا كما يجيب الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا شعور له ببسط الكفين ولا قبضهما، فكيف يجيب دعاءه، وهكذا أصنامهم لا تحير جوابا. وخلاصة ذلك- إنه شبه آلهتهم حين استكفوا بهم ما أهمهم، وهم لا يشعرون بشىء فضلا عن أن يجيبوا أحد بماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه هلمّ أقبل إلىّ وهو لا يستطيع ردا ولا جوابا.

[سورة الرعد (13) : آية 16]

(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي فى ضياع وخسار، فإن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الأصنام لم تستطع إجابتهم. ثم بين عظيم قدرته تعالى فقال: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي وينقاد لعظمته كل شىء، فيخضع له الملائكة والمؤمنون من الثقلين طوعا فى الشدة والرخاء، والكفار كرها فى حال الشدة كما جاء فى آيات كثيرة كقوله: «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» وقوله: «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» وقوله: «لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» . (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي وتسجد أيضا ظلال من له ظل منهما بالغدوات والعشايا تبعا لانقياد الأجسام التي تشرق عليها الشمس، ثم يصرفه الله تعالى بالمد والتقلص، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لظهور الامتداد والتقلص فيهما، أو المراد بهما الدوام كما جاء ذلك كثيرا فى استعمالاتهم. إعادة الكلام فى الوحدانية [سورة الرعد (13) : آية 16] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن كل من فى السموات والأرض خاضع لقدرته، منقاد لإرادته بالغدو والآصال، وفى كل وقت وحين، طوعا أو كرها بحسب ما يريد- أعاد الكلام مع المشركين ليلزمهم الحجة ويقنعهم بالدليل ويضيق عليهم باب الحوار حتى لا يستطيعوا الفرار من الاعتراف بوحدانيته وشمول قدرته وإرادته وأنه لا معبود سواه ولا رب غيره. الإيضاح (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء الذين اتخذوا من دونه أولياء: من رب هذه الأجرام العلوية والسفلية التي تبهر العقول بجميل صنعها، وكامل ترتيبها ووضعها؟. (قُلِ اللَّهُ) أي قل لهم: الذي خلقها وأنشأها وسواها على أتم موضع وأحكم بناء هو الله، وقد أمر عليه السلام ليجيب بذلك، للاشارة إلى أنه هو وهم سواء فى ذلك الجواب الذي لا محيص منه، وهم لا ينكرونه البتة كما قال تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» . (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟) أي قل لهم بعد أن ثبت هذا لدينكم: فلم اتخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات هى جمادات، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا؟ فكيف تنفع غيرها أو تضر؟ وإذا لم يكن لها القدرة على شىء من ذلك فعبادتها محض السفه الذي لا يرضاه لنفسه رشيد، يزن أعماله بميزان الحكمة والمصلحة. وخلاصة ذلك- أفبعد أن علمتم أنه هو الخالق لهذا الخلق العظيم، تتخذون من دونه أولياء هم غاية فى العجز؟ وجعلتم ما كان يجب أن يكون سببا فى الاعتراف بالوحدانية وهو علمكم بذلك- سببا فى إشراككم به سواه من أضعف خلقه، وهو بمعنى قوله: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ»

ثم ضرب مثلا للمشركين الذين يعبدون الأصنام والمؤمنين الذين يعترفون بأن لارب غيره ولا معبود سواه، فقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي قل لهم مصوّرا سخيف آرائهم مفنّدا قبيح معتقداتهم: هل يستوى الأعمى الذي لا يبصر شيئا ولا يهتدى لمحجة يسلكها إلا بأن يهدى بدليل والبصير الذي يهدى الأعمى لسلوك الطريق؟ لا شك أن الجواب أنهما غير متساويين، فكذلك المؤمن الذي يبصر الحق فيتّبعه، ويعرف الهدى فيسلكه، لا يستوى وإياكم؟ وأنتم لا تعرفون حقا، ولا تبصرون رشدا. ثم ضرب مثلا للكفر والإيمان بقوله: (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي بل هل تستوى الظلمات التي لا ترى فيها الطريق فتسلك، والنور الذي يبصر به الأشياء، ويجلو ضوؤه الظلام- لا شك أن الجواب عن ذلك أنهما لا يستويان، فكذلك الكفر بالله صاحبه منه فى حيرة، يضرب أبدا فى غمرة لا يهتدى إلى حقيقة ولا يصل إلى صواب، والإيمان بالله صاحبه منه فى ضياء، فهو يعمل على علم بربه ومعرفة منه بأنه يثيبه على إحسانه، ويعاقبه على إساءته، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ويكلؤه بعنايته فى كل وقت وحين، فهو يفوّض أمره إليه إذا أظلمت الخطوب، وتعقدت فى نظره مدلهمّات الحوادث. (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي بل أخلق أوثانكم التي اتخذتموها معبودات من دون الله، خلقا كخلقه، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت وخلق الله، فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك- أم إنما بكم الجهل والبعد عن الصواب، إذ لا يخفى على من له مسكة من العقل، أن عبادة ما لا يضر ولا ينفع، من الجهل بحقيقة المعبود، ومن يجب له التذلل والخضوع، والإنابة والزلفى والإخبات إليه، وإنما الواجب عبادة من يرجى نفعه ويخشى عقابه وضرّه، وهو الذي يرزقه ويمونه آناء الليل وأطراف النهار. ثم ذكر فذلكة لما تقدم، ونتيجة لما سبق من الأدلة والأمثال التي ضربت لها فقال:

[سورة الرعد (13) : الآيات 17 إلى 19]

(قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي قل مبينا لهم وجه الحق: الله خالقكم وخالق أوثانكم وخالق كل شىء، وهو الفرد الذي لا ثانى له، الغالب على كل شىء سواه، فكيف تعبدون غيره وتشركون به ما لا يضر ولا ينفع؟. [سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) تفسير المفردات الأودية: واحدها واد، وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء والفرجة بين الجبلين وقد يراد به الماء الجاري فيه، بقدرها: أي بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت أمكنتها صغرا وكبرا، واحتمل: أي حمل، والزبد: ما يعلو وجه الماء حين الزيادة كالجب، وما يعلو القدر عند غليانها، والرابى: العالي المرتفع فوق الماء الطافي عليه، والجفاء: ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه. المعنى الجملي بعد أن ضرب الله مثل البصير والأعمى للمؤمن والكافر، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر- ضرب مثلين للحق فى ثباته وبقائه، وللباطل فى اضمحلاله وفنائه

الإيضاح

ثم بين مآل كل من السعداء والأشقياء وما أعدّ لكل منهما يوم القيامة، وبين أن حاليهما لا يستويان عنده، وأن الذي يعى تلك الأمثال ويعتبر بها إنما هو ذو اللب السليم، والعقل الراجع، والفكر الثاقب. الإيضاح (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي أنزل من السحاب مطرا فسالت مياه الأودية بحسب مقدارها فى الصغر والكبر، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا عاليا مرتفعا فوقه طافيا عليه- وهذا هو المثل الأول الذي ضربه الله للحق والباطل والإيمان والكفر. (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي ومن الذي يطرحه الناس فى النار من ذهب أو فضة وكذلك من سائر الفلزّات كالحديد والنحاس والرّصاص- زبد راب كما يطفو على الماء فى الأودية زبد مثله، ويتّخذ من الذهب والفضة حلىّ، ومن الحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك متاع وهو ما يتمتع به الناس كالأوانى والقدور وغيرها من آلات الحرث والحصد وأدوات المصانع وأدوات القتال والنزال، وهذا هو المثل الثاني. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي وما مثل الحق والباطل إذا اجتمعا إلا مثل السيل والزبد، فكما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك فى النار بل يذهب ويضمحل، فالباطل لاثبات له ولا دوام أمام الحق. ثم فصل هذا بقوله. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أي فأما الزبد الذي يعلو السيل فيذهب فى جانبى الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شىء، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة فيمكث فى الأرض، فالماء نشر به ونسقى به الأرض فينبت

جيد الزرع الذي ينتفع به الناس والحيوان، والذهب والفضة نستعملها فى الحلي وصكّ النقود، والحديد والنحاس ونحوهما نستعملها فى متاعنا من الحرث والحصد وفى المعامل والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك. وخلاصة المثلين- أنه تعالى مثل نزول الحق وهو القرآن الكريم من حضرة القدس، على القلوب الخالية منه، المتفاوتة الاستعداد فى ملاحظته وحفظه، وفى استذكاره وتلاوته، وهو وسيلة الحياة الروحية والفضائل النفسية والآداب المرضية- بماء نزل من السماء فى أودية قاحلة لم يكن لها سابق عهد به، وسال بمقدار اقتضت الحكمة أن يكون نافعا فى إحياء الأرض وما عليها، جالبا لسعادة الإنسان والحيوان، وكذلك جعله حلية تتحلى بها النفوس، وتصل بها إلى السعادة الأبدية، ومتاعا يتمتع به فى المعاش والمعاد، ومثله بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات، وتبقى منتفعا بها ردحا طويلا من الزمن. ومثّل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لفقد استعدادهم لعمل الخير بما ران على قلوبهم من شرور المعاصي واجتراح الآثام- بالزبد الرابى الذي يطفو على الماء، أو يخرج من خبث الحديد والنحاس والفضة والذهب ونحوها ويضمحل سريعا ويزول. وقال الزجاج: مثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل الماء المنتفع به فى نبات الأرض وحياة كل شىء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر، لأنها كلها تبقى منتفعا بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به اه. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) أي ومثل ضربنا لهذه الأمثال البديعة التي توضح للناس ما أشكل عليهم من أمور دينهم وتظهر الفوارق بين الحق والباطل والإيمان والكفر- نضرب لهم الأمثال فى كل باب حتى تستبين لهم طريق الهدى فيسلكوها وطرق الباطل فينحرفوا عنها، وتتم لهم سعادة المعاش والمعاد، ويكونوا المثل العليا

بين الناس: «كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» . وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ- فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه الله بما بعثني به ونفع به الناس فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» . وروى أحمد عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «مثلى ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فى النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها- فذلك مثلى ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلّم عن النار فتغلبونى فتقتحمون فيها» . وبعد أن بين سبحانه شأن كل من الحق والباطل فى الحال والمآل وأتم البيان، شرع يبين حال أهلهما مآلا ترغيبا فيهما وترهيبا، وتكملة لوسائل الدعوة إلى الحق والخير وتنفيرا عن سلوك طرق الباطل والشر فقال: (1) (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) أي للذين أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدّقوا ما أخبر به فيما نزل عليه من عند ربه- المثوبة الحسنى الخالصة من الكدر والنّصب، الدائمة المقترنة بالتعظيم والإجلال. والآية بمعنى قوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» وقوله: «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» . (ب) (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ،

أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي والذين لم يطيعوا الله ولم يمتثلوا أوامره ولم ينتهوا عما نهى عنه لهم ألوان وأنواع من العذاب منها: (1) إنهم من شدة ما يرون من هول العذاب لو استطاعوا أن يجعلوا ما فى الأرض جميعا ومثله معه فدية لأنفسهم لفعلوا، فإن المحبوب أولا لكل إنسان هوذاته، وما سواها فيحبّ لكونه وسيلة إلى مصالحها، فإذا كان مالكا لهذا العالم كله ولما يساويه جعله فداء لنفسه. وفى هذا من التهويل الشديد ومن سوء ما يلقاهم فى ذلك اليوم، ما لا يخفى على من اعتبر وتذكر. (2) سوء الحساب، فيناقشون على الجليل والحقير، وفى الحديث «من نوقش الحساب عذب» ذاك أن كفرهم أحبط أعمالهم، وارتكابهم للشرور والآثام ران على قلوبهم وجعلها تستمرئ الغواية والضلالة، وحبهم للدنيا جعلهم يعرضون عما يقربهم إلى الله زلفى فباءوا بالخسران والهوان والنكال. (3) إن مأواهم جهنم وبئس المسكن مسكنهم يوم القيامة، إذ أنهم غفلوا عما يقربهم إلى ربهم وينيلهم كرامته ورضوانه، واتبعوا أهواءهم وانغمسوا فى لذاتهم فحقت عليهم كلمته (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) . ونزل فى حمزة رضى الله عنه وأبى جهل كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أي لا يستوى من يعلم أن الذي أنزله الله عليك من ربك هو الحق الذي لا شك فيه ولا امتراء. ومن لا يعلم فهو أعمى، لا يهتدى إلى خير يفهمه، ولو فهمه ما انقاد إليه ولا صدقه، فيبقى حائرا فى ظلمات الجهل وغياهب الضلالة. قال قتادة: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه، وهؤلاء كمن هو أعمى عن الحق، فلا يبصره ولا يعقله اه.

[سورة الرعد (13) : الآيات 20 إلى 24]

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعتبر بهذه الأمثال ويتعظ بها، ويصل إلى لبّها وسرها، إلا أولوا العقول السليمة، والأفكار الرجيحة. الجامع لصفات الخير كتبت له حسنى العقبى [سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) تفسير المفردات يدرءون: أي يدفعون، والعدن: الإقامة، يقال عدن بمكان كذا: إذا استقر، ومنه المعدن لمستقر الجواهر، والدار: هى دار الآخرة. المعنى الجملي بعد أن ضرب الله الأمثال لمن اتبع الحق وسلك سبيل الرشاد، ولمن ركب رأسه، وسار فى سبل الضلالة لا يلوى على شىء ولا يقف لدى غاية- بيّن أن من جمع صفات الخير الآتية يكون ممن اتبعوا الحق، وملكوا نواحى الإيمان، وأقاموا دعائمه، وهؤلاء قد كتب لهم حسنى العقبى والسعادة فى الدنيا والآخرة

الإيضاح

الإيضاح (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) أي الذين يوفون بما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وفيما بينهم وبين العباد، وشهدت فطرهم فى هذه الحياة بصحته، وأنزل عليهم فى الكتاب إيجابه. قال قتادة: إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق فى بضع وعشرين موضعا من القرآن عناية بأمره واهتماما بشأنه. (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) أي الميثاق الذي وثقوه بينهم وبين ربهم من الإيمان به، وبينهم وبين الناس من العقود كالبيع والشراء وسائر المعاملات والعهود التي تعاهدوا على الوفاء بها إلى أجل، وفى الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدّث كذب» . (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي والذين يصلون الرحم التي أمرهم الله بوصلها، فيعاملون الأقارب بالمودة والحسنى، ويحسنون إلى المحاويج وذوى الخلة منهم بإيصال الخير إليهم ودفع الأذى عنهم بقدر الاستطاعة، وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من سره أن يبسط له فى رزقه، وأن ينسأ له فى أجله فليصل رحمه» وإنساء الأجل: تأخيره، وذلك بالبركة له فيه فكأنه قد زاد. ويدخل فى ذلك جميع حقوق الله وحقوق عباده كالإيمان بالكتب والرسل، ووصل قرابة المؤمنين بسبب الإيمان كالإحسان إليهم، ونصرتهم، والشفقة عليهم، وإفشاء السلام، وعيادة المرضى، ومراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقة فى السفر إلى غير ذلك. أخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن البر والصلة ليخفّفان سوء الحساب يوم القيامة ثم تلا: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» .

(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) الخشية: خوف مقرون بالتعظيم والعلم بمن تخشاه، ومن ثم خص الله بها العلماء بدينه وشرائعه والعالمين بجلاله وجبروته فى قوله: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» والمراد أنهم يخشون ربهم ويخافونه خوف مهابة وإجلال. (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) أي ويحذرون مناقشته إياهم الحساب، وعدم الصفح لهم عن ذنوبهم، فهم لرهبتهم جادون فى طاعته، محافظون على اتباع أوامره وترك نواهيه. (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) الصبر: حبس النفس عن نيل ما تحب، أي والذين صبروا على ما تكرهه النفس ويثقل عليها من فعل الطاعات وترك الشهوات، طلبا لرضا ربهم من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة، ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أدّوها على ما رسمه الدين من خشوع القلب واجتناب الرياء والخشية لله، مع تمام أركانها وهيئآتها احتسابا لوجهه. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي وأنفقوا بعض ما رزقناهم سرا فيما بينهم وبين ربهم، وعلانية بحيث يراهم الناس، سواء كان الإنفاق واجبا كالإنفاق على الزوجة والولد والأقارب الفقراء، أم مندوبا كالإنفاق على الفقراء والمحاويج من الأجانب. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي ويدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان فهو كقوله: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» ومن ثم قال ابن عباس: أي يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم. (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي أولئك الذين وصفناهم بتلك المحاسن والكمالات التي بلغت الغاية فى الشرف والكمال- هم الذين لهم العقبى الحسنة فى الدار الآخرة. ثم بين هذه العقبى فقال:

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) أي تلك العقبى هى جنات إقامة، يخلّدون فيها لا يخرجون منها أبدا. ثم ذكر ما يكون فيها من الأنس باجتماع الأهل والمحبين الصالحين فقال: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ويجمع فيها بينهم وبين أحبابهم من الآباء والأزواج والأبناء ممن عمل صالحا لتقربهم أعينهم، ويزدادوا سرورا برؤيتهم، حتى لقد ورد أنهم يتذاكرون أحوالهم فى الدنيا فيشكرون الله على الخلاص منها. وفى الآية إيماء إلى أنه فى ذلك اليوم لا تجدى الأنساب إذا لم يسعفها العمل الصالح، فالآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بعملهم، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» . وفى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلّم وهو فى مرض موته قال لفاطمة: «يا فاطمة بنت محمد، سلينى من مالى ما شئت، لا أغنى عنك من الله شيئا» . ثم ذكر ما لهم من الكرامة فيها بتسليم الملائكة عليهم فقال: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) أي وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهنا للتسليم عليهم، والتهنئة بدخول الجنة، والإقامة فى دار السلام، فى جوار الصدّيقين والأنبياء والرسل الكرام. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) أي قائلين لهم: أمان عليكم من المكاره والمخاوف التي تحيق بغيركم، بما احتملتم من مشاقّ الصبر ومتاعبه والآلام التي لا قيتموها فى دار الحياة الدنيا. (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة. أخرج ابن جرير «أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: «سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» ، وكذا كان يفعل «أبو بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم» .

[سورة الرعد (13) : آية 25]

[سورة الرعد (13) : آية 25] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أوصاف المتقين، وما أعدّ لهم عنده فى دار الكرامة، بما كان لهم من كريم الصفات وفاضل الأخلاق- بين حال الأشقياء وما ينتظرهم من العذاب والنكال، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب على سنة القرآن الدائبة فى مثل هذا «نبّى عبادى أنّى أنا الغفور الرّحيم. وأنّ عذابى هو العذاب الأليم» . الإيضاح وصف سبحانه الأشقياء بصفات هى السبب فى خسرانهم: (1) (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) أي والذين ينقضون عهد الله الذي ألزمه عباده بما أقام عليه من الأدلة العقلية كالتوحيد والقدرة والإرادة والإيمان بالأنبياء والوحى ونحوها. ونقضه إما بألا ينظروا فيه فلا يمكنهم العمل بموجبه، وإما بأن ينظروا فيه ويعلموا صحته ثم هم بعد يعاندون فيه ولا يعملون بما علموه واعتقدوا صحته. وقوله: من بعد ميثاقه أي من بعد اعترافهم به وإقرارهم بصحته. (2) (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الإيمان به وبجميع أنبيائه الذين جاءوا بالحق، فآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، وقطعوا الرحم وكانوا حربا على المؤمنين وعونا للكافرين، ومنعوا المساعدات العامة التي توجب التآلف والمودة بين المؤمنين كما جاء فى الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وجاء أيضا «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى باقى الأعضاء بالسهر والحمى» .

[سورة الرعد (13) : الآيات 26 إلى 29]

(3) (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بظلمهم لأنفسهم وظلمهم لغيرهم بابتزاز أموالهم واغتصابها بلا حق، وتهييج الفتن بين المسلمين وإثارة الحرب عليهم، وإظهار العدوان لهم. ثم حكم عليهم بما يستحقون بما دسّوا به أنفسهم فقال: (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي أولئك الذين اتصفوا بهذه المخازي وسىء الصفات، لهم بسبب ذلك الطرد من رحمته ورضوانه، والبعد من خيرى الدنيا والآخرة. (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم سوء العاقبة وهو عذاب جهنم، جزاء وفاقا لما اجترحوه من السيئات، وأتوا به من الشرور والآثام. يبسط الله الرزق لبعض عباده ويقدر على آخرين لحكمة هو بها عليم [سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 29] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) تفسير المفردات يقدر: يضيّق كقوله «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ» أي ضيّق، والمراد أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شىء، متاع: أي متعة قليلة لا دوام لها ولا بقاء، وأناب: أي رجع عن العناد، وأقبل على الحق، وتطمئن: أي تسكن وتخشع، وطوبى لهم: أي لهم العيش الطيب وقرة العين والغبطة والسرور، والمآب: المرجع والمنقلب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن من نقض عهد الله من بعد ميثاقه ولم يقرّ بوحدانيته وأنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم فهو ملعون فى الدنيا ومعذب فى الآخرة- بين هنا أنه تعالى يبسط الرزق لبعض عباده ويضيقه على بعض آخر على ما اقتضته حكمته وسابق علمه بعباده، ولا تعلق لذلك بإيمان ولا كفر، فربما وسع على الكافر استدراجا له وضيّق على المؤمن زيادة فى أجره، ثم ذكر مقالة لهم كثر فى القرآن تردادها وهى طلبهم منه آية تدل على نبوته لإنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على ذلك، ثم ذكر حال المؤمنين المتقين ومآلهم عند ربهم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار. الإيضاح (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده ممن هو حاذق فى جمع المال، وله من الحيلة فى الحصول على كسبه واستنباطه بشتى الوسائل ما يخفى على غيره، ولا علاقة لهذا بإيمان وكفر ولا صلاح ومعصية. (وَيَقْدِرُ) على من يشاء ممن هو ضعيف الحيلة فى كسبه، وليس بالحوّل القلّب فى استنباط أسبابه ووسائله وما الغنى والفقر إلا حالان يمران على البرّ والفاجر كما يمر عليهما الليل والنهار والصباح والمساء. ثم ذكر أن مشركى مكة بطروا بغناهم فقال: (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي وفرح الذين نقضوا العهد والميثاق ببسط الرزق فى الحياة الدنيا، وعدّوه أكبر متاع لهم وأعظم حظوة عند الناس. ثم بين لهم خطأهم فقال: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي وما نعيم الدنيا إذا قيس على نعيم

الآخرة إلا نزر يسير سريع الزوال فهو كعجالة الراكب وزاد الراعي، فلا حق لهم فى البطر والأشر بما أوتوا من حظوظها، وانتفعوا به من خيراتها، فهم قد اعتزوا بالقليل السريع الزوال. أخرج الترمذي عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما الدنيا فى الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه فى اليمّ فلينظر بم يرجع، وأشار بالسبابة» وأخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود قال: «نام رسول الله صلى الله عليه وسلّم على حصير فقام وقد أثّر فى جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك، فقال مالى وللدنيا، ما أنا فى الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» . ولما أبان أنهم قد انخدعوا بالسراب، واكتفوا بالحباب، ذكر ما ترتب على ذلك الغرور من اقتراحهم على رسوله صلى الله عليه وسلّم الآيات فقال: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي ويقول الذين كفروا من أهل مكة كعبد الله بن أبىّ وأصحابه، هلا أنزل على محمد آية كما أرسل على الأنبياء والرسل السابقين كسقوط السماء عليهم كسفا، أو تحويل الصفا ذهبا، أو إزاحة الجبال من حول مكة حتى يصير مكانها مروجا وبساتين إلى نحو أولئك من الاقتراحات التي حكاها القرآن عنهم كقولهم: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» وكأنهم لفرط عنادهم وعظيم مكابراتهم قد ادّعوا أن ما أتى به من باهر الآيات كالقرآن وغيره ليس عندهم من الآيات التي توجب الإذعان والإيمان أو التي لا تقبل شكا ولا جدلا. ثم أمر رسوله أن يبين لهم أن إنزال الآيات لا دخل له فى هداية ولا ضلال بل الأمر كله بيده. (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي إنه لا فائدة لكم فى نزول الآيات إن لم يرد الله هدايتكم فلا تشغلوا أنفسكم بها، ولكن تضرّعوا إليه واطلبوا منه الهداية، فإن الضلال والهداية بيده وإليه مقاليدها، وادعوه أن يهيئ

لكم من أمره رشدا، وأن يمهد لكم وسائل النجاة والسعادة، ويدفع عنكم نزعات الشيطان ووساوسه، لتظفروا بالحسنى فى الدارين. والخلاصة- أن فى القرآن وحده غنى عن كل آية، فلو أراد الله هدايتكم لصرف اختياركم إلى تحصيل أسبابها وكان لكم فيه مرشدا أيّما مرشد، ولكن الله جعلكم سادرين فى الضلالة لا تلوون على شىء، ولا ينفعكم إرشاد ولا نصح، لسوء استعدادكم، وكثرة لجاجكم وعنادكم، ومن كانت هذه حاله فأنى له أن يهتدى ولو جاءته كل آية؟ كما قال: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» وقال: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» وقال: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» . أما من أقبلوا إلى الله وتأملوا فى دلائله الواضحة، وسلكوا طرقه المعبدة، فالله ينير بصائرهم ويشرح صدورهم، وهم لا بد واصلون إلى الفوز بالحسنى، وحاصلون على السعادة فى الدنيا والآخرة، وهم من أشار إليهم بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) أي هم الذين آمنوا وركنت قلوبهم إلى جانب الله وسكنت حين ذكره، وإذا عرض لهم الشك فى وجوده ظهرت لهم دلائل وحدانيته فى الآيات، وعجائب الكائنات، فرضى به مولى ورضى به نصيرا، ومن ثم قال: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي ألا بذكر الله وحده تطمئن قلوب المؤمنين، ويزول القلق والاضطراب من خشيته، بما يفيضه عليها من نور الإيمان الذي يذهب الهلع والوحشة، وهى بمعنى قوله فى الآية الأخرى: «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» .

[سورة الرعد (13) : الآيات 30 إلى 34]

فالمؤمنون إذا ذكروا عقاب الله ولم يأمنوا من وقوعهم فى المعاصي وجلت قلوبهم كما قال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت نفوسهم واطمأنت إلى ذلك الوعد وزال منها القلق والوحشة. وفى الآية إيماء إلى أن الكفار أفئدتهم هواء، إذ لم تسكن نفوسهم إلى ذكره، بل سكنت إلى الدنيا وركنت إلى لذاتها. ثم بين سبحانه جزاء المطمئنين وثوابهم فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الفرح وقرّة العين عند ربهم، وحسن المآب والمرجع. وفى هذا من الترغيب فى طاعته، والتحذير من معصيته، ومن شديد عقابه، ما لا خفاء فيه. وخلاصة ذلك- أن أهل الجنة منعمون بكل ما يشتهون كما جاء فى الحديث: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» . محمد صلى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)

تفسير المفردات

تفسير المفردات خلت: مضت، متاب: مرجعى، قطعت: شققت، ييأس: يعلم وهو لغة هوازن قارعة رزية تقرع القلوب، أمليت: أي أمهلت مدة طويلة فى أمن ودعة، قائم: رقيب ومتولّ للأمور، تنبئونه: تخبرونه، بظاهر من القول: أي بباطل منه لا حقيقة له فى الواقع. والسبيل: هو سبيل الحق وطريقه، والواقي: الحافظ. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه طلبهم من رسوله صلى الله عليه وسلّم الآيات كما أنزل على الرسل السالفين كموسى وعيسى وغيرهم من النبيين والمرسلين، وبين أن الهدى هدى الله، فلو أوتوا من الآيات ما أوتوا ولم يرد الله هدايتهم فلا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا ذكر هنا أن محمدا ليس ببدع من الرسل وأن قومه سبقهم أقوام كثيرون، وطلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابوهم إلى ما طلبوا، ولم تغنهم الآيات والنذر، فكانت عاقبتهم البوار والنكال، فأنزل على كل قوم من العذاب ما أتى عليهم جميعا، وأصبحوا معه كأمس الدابر ولو أن كتابا تسيّر به الجبال عن أماكنها، أو تشقّق به الأرض فتجعل أنهارا وعيونا، لكان هذا القرآن الذي أنزلناه عليه، ثم أبان أن الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوه، لكنه لم يرد ذلك، لأنه لا ينتج المقصود من إيمانهم.

الإيضاح

ثم أتبع ذلك بالتيئيس منه وبالتهديد بقارعة تحل بهم، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على استهزائهم به. أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبيا كما تزعم فباعد جبلى مكة أخشبيها (اسمى الجبلين) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبى، أو احملنا إلى الشام أو اليمين أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجىء فى ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا: سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت. الإيضاح (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي كما أرسلنا إلى الأمم الماضية رسلا فكذبوهم، كذلك أرسلناك فى هذه الأمة، لتبليغهم رسالة الله إليهم، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم. وخلاصة ذلك- إننا كما أرسلنا إلى أمم من قبلك وأعطيناهم كتبا تتلى عليهم، أرسلناك وأعطيناك هذا الكتاب لتتلوه عليهم، فلماذا يقترحون غيره؟. (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أي وحالهم أنهم كفروا بمن أحاطت بهم نعمه، ووسعت كلّ شىء رحمته، ولم يشكروا نعمه وفضله عليهم، ولا سيما إحسانه إليهم بإرسالك وإنزال القرآن عليك.، وهو الكفيل بمصالح الدنيا والآخرة كما قال تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» . وكفرهم به أنهم جحدوه بتاتا أو أثبتوا له الشركاء.

(قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي قل لهم: إن الرحمن الذي كفرتم به هو خالقى ومتولّى أمرى ومبلغى مراتب الكمال. لا رب غيره ولا معبود سواه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وعن قتادة قال: «ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب فى الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم، قال لا، اكتبوا كما يريدون» اه. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه لا على غيره توكلت فى جميع أمورى، ولا سيما فى نصرتى عليكم. (وَإِلَيْهِ مَتابِ) أي وإليه وحده توبتى، وهو بمعنى قوله: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» وفى هذا بيان لفضل التوبة ومقدار عظمها عند الله، وبعث للكفار على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطف سبيل، إذ أمر بها عليه السلام وهو منزّه عن اقتراف الذنوب، فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي أحق وأجدر. (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أي ولو ثبت أن كتابا سيّرت بتلاوته الجبال وزعزعت من أماكنها كما فعل بالطور لموسى عليه السلام. (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما حدث للحجر حين ضربه موسى بعصاة. (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) أي أو كلم أحد به الموتى فى قبورهم بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم بعد كما وقع لعيسى عليه السلام- لو ثبت هذا الشيء من الكتب لثبت لهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لما انطوى عليه من الآيات الكونية الدالة على بديع صنع الله فى الأنفس والآفاق، واشتمل عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح البشر وسعادتهم فى الدار الفانية والدار الباقية، ومن قوانين العمران التي تكون خيرا لمتبعيها وفوزا لسالكيها، ويجعل منهم خير أمة أخرجت

للناس، وهذا بمعنى قوله: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» . خلاصة ذلك- لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة، لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدّوه آية واقترحوا غيره. ولا يخفى ما فى هذا من تعظيم شأنه الكريم، ووصفهم بسخف العقل، وسوء التدبير والرأى، وبيان أن تلك المقترحات لا ينبغى أن يؤبه لها، ولا يلتفت إليها، لأنها صادرة عن التشهّى والهوى، والتمادي فى الضلال والمكابرة والعناد، لا عن تقدير للأمور على وجهها الصحيح، وتأمل فى حقائقها، وما يجب أن يكون لها من الاعتبار. ويجوز أن يكون المعنى- لو أن كتابا فعلت بوساطته هذه الأفاعيل العجيبة لما آمنوا به، لفرط عنادهم وغلوهم فى مكابرتهم، وهذا بمعنى قوله: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» . (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي بل مرجع الأمور كلها بيد الله، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل فلا هادى له، ومن يهد فما له من مضل. وخلاصة ذلك- إن الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك، لعلمه أن قلوبهم لا تلين، ولا يجدى هذا فائدة فى إيمانهم. (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) أي ألم يعلم الذين آمنوا أن الله تعالى لو شاء هداية الناس أجمعين لهداهم، فإنه ليس ثمة حجة ولا معجزة أنجع فى العقول من هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، لكنه لم يشأ ذلك. روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبى إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون

أكثرهم تابعا يوم القيامة» يريد أن كل نبى انقرضت معجزته بموته، وهذا القرآن حجة باقية على وجه الدهر، لا تنقضى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ، ولا يشبع منه العلماء. (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) أي ولا يزال الكافرون تصيبهم البلايا والرزايا، من القتل والأسر، والسلب والنهب، بسبب تماديهم فى الكفر وتكذيبهم لك وإخراجك من بين أظهرهم. (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي أو تحل تلك القارعة قريبا من دارهم فيفزعون منها ويتطاير شررها إليهم. (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) أي حتى ينجز الله وعده الذي وعدك فيهم، بظهورك عليهم، وفتحك أرضهم، وقهرك إياهم بالسيف. (إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي إن الله منجزك ما وعدك من النصر عليهم، لأنه لا يخلف وعده كما قال: «فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ» . ولما كان الكفار يسألون النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الآيات على سبيل الاستهزاء والسخرية، وكان ذلك يشق عليه، ويتأذى منه، أنزل الله تسلية له على سفاهة قومه قوله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي إن يستهزئ بك هؤلاء المشركون من قومك ويطلبوا منك الآيات تكذيبا لما جئتهم به فاصبر على أذاهم وامض لأمر ربك، فلقد استهزأت أمم من قبلك برسلهم. ثم بين سبحانه شأنه مع المكذبين فقال: (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي فتركتهم ملاوة أي مدة من الزمان فى أمن ودعة كما يملى للبهيمة فى المرعى.

(ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي ثم أحللت بهم عذابى ونقمتى حين تمادوا فى غيهم وضلالهم، فانظر كيف كان عقابى إياهم حين عاقبتهم- ألم أذقهم أليم العذاب وأجعلهم عبرة لأولى الألباب؟. وقد صدق الله وعده، ونصر رسوله على عدوه، فدخل فى دين الله من دخل، ومن أبى قتل، ودانت العرب كلها له، وانضوت تحت لوائه، وحقت عليهم كلمة ربك وفى هذا تعجيب مما حل بهم، ودلالة على شدته وفظاعة أمره كما لا يخفى. ثم ذكر سبحانه ما يجرى مجرى الحجاج عليهم، وما فيه توبيخ لهم وتعجيب من عقولهم، وكيف إنها وصلت إلى حد لا ينبغى لعاقل أن يقبله ولا يرضى به فقال: (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي أفمن هو قائم بحفظ أرزاق الخلق ومتولى أمورهم وعالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال من خير أو شر ولا يعزب عنه شىء كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تدفع عن نفسها ولا عمن يعبدها ضرا، ولا تجلب لهم نفعا. وخلاصة ذلك- أنه لا عجب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها، وإنما العجب كل العجب من جعلهم القادر على إنزالها المجازى لهم على إعراضهم عن تدبر معانيها- بقوارع تترى واحدة بعد أخرى يشاهدونها رأى العين- كمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن اتخاذه ربا يرجى نفعه، أو يخشى ضره. ونحو الآية قوله: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها» وقوله: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» وقوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» . ثم أكد هذا بقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) عبدوها معه من أصنام وأوثان وأنداد. ثم أعقب ذلك بتوبيخ إثر توبيخ فقال:

(قُلْ سَمُّوهُمْ) أي صفوهم، فهل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة، وقد يكون المعنى، سموهم من هم وما أسماؤهم؟ فإنهم ليسوا ممن يذكر ويسمّى، فإنما يسمى من ينفع ويضر. (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أي بل أتخبرونه بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم، أو تخبرونه بصفات لهم يستحقون لأجلها العبادة وهو لا يعلمها، وفى هذا نفى لوجودها، لأنها لو كانت موجودة لعلمها، لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء. (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي بل أتسمونهم شركاء ظنا منكم أنهم ينفعون ويضرون كما تسمونهم آلهة كما قال: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» . وخلاصة حجاجه على المشركين- نفى الدليل العقلي والدليل النقلى على أحقية عبادتها- فبعد أن هدم قاعدة الإشراك بقوله: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» زاد ذلك إيضاحا فقال: وليتهم إذ أشركوا بربهم الذي لا ينبغى أن يشرك به- أشركوا به من له حقيقة واعتبار ومن ينفع ويضر، لا من لا اسم له فضلا عن المسمى، بل من لا يعرف له وجود فى الأرض ولا فى السماء، ويريدون أن ينبئوا عالم السر والنجوى بما لا يعلمه، ثم زاد على ذلك فقال: وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول من غير أن يكون تحتها طائل وما هى إلا أصوات جوفاء كثيرة المبانى خالية من المعاني. (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) أي دع هذا الحجاج وألق به جانبا، فإنه لا فائدة فيه، لأنه زيّن لهم كيدهم، لاستسلامهم للشرك، وتماديهم فى الضلال. (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) أي وصرفوا عن سبيل الحق، بما زين لهم من صحة ما هم عليه.

[سورة الرعد (13) : الآيات 35 إلى 39]

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله لسوء اعتقاده وفساد أعماله واجتراحه للآثام والمعاصي فلا هادى له يوفقه إلى النجاة ويوصله إلى طرق السعادة. ونحو الآية قوله: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» وقوله: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» . ثم بين عاقبة أمرهم فقال: (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لهم عذاب شاق فى هذه الحياة بالقتل والأسر وسائر الآفات التي يصيبهم بها. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) أي ولتعذيب الله إياهم فى الدار الآخرة أشد من تعذيبه إياهم فى الدنيا وأشق لشدته ودوامه. ثم أيأسهم من صرف العذاب عنهم فقال: (وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ) أي وما لهم حافظ يعصمهم من عذاب الله، إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يأذن لأحد فى الشفاعة لمن كفر به ومات على كفره. [سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 39] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المثل: الصفة والنعت، والأكل: ما يؤكل، والظل: واحد الظلال والظلول والأظلال، والأحزاب: واحدهم حزب، وهو الطائفة المتحزّبة: أي المجتمعة لشأن من الشئون كحرب أو عداوة أو نحو ذلك، والمآب: المرجع، والواقي. الحافظ، والأجل: الوقت والمدة، والكتاب: الحكم المعين الذي يكتب على العباد بحسب ما تقتضيه الحكمة، والمحو: ذهاب أثر الكتابة، وأمّ الكتاب: أصله وهو علم الله تعالى. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكافرين من العذاب والنكال فى الدنيا والآخرة- أتبعه بذكر ثواب المتقين فى جنات تجرى من تحتها الأنهار، ثم أردفه ذكر فرح المؤمنين من أهل الكتاب بما أنزل عليه من ربه، وإنكار بعض منهم لذلك، ثم حث الرسول صلى الله عليه وسلّم على القيام بحق الرسالة وتحذيره من مخالفة أوامره، ثم ختم هذا بذكر الجواب عن شبهات كانوا يوردونها لإبطال نبوته صلى الله عليه وسلّم كقولهم: إنه كثير الزوجات، ولو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بأمر النساء. وخلاصة الجواب- إن محمدا ليس ببدع من الرسل، فكثير منهم كان له أزواج وذرية ولم يقدح ذلك فى رسالاتهم، وكقولهم: إنه لو كان رسولا من عند الله لم يتوقف فيما يطلب منه من المعجزات، فأجيبوا بأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها، ولا اعتراض لأحد عليه، وقولهم: إن ما يخوفنا به من العذاب وظهور النصرة له ولقومه لم يتحقق بعد فليس بنبي ولا صادق فيما يقول،

الإيضاح

فأجيبوا عن ذلك بقوله: لكل أجل كتاب: أي لكل حادث وقتا معينا لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فتأخر المواعيد لا يدل على ما تدّعون. الإيضاح (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي فيما نقصّه عليك صفة الجنة التي وعد الله المتقين وأعطاهم إياها كفاء إخباتهم له وإنابتهم إليه ودعائهم إياه مخلصين له الدين لا شريك له (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) سارحة فى أرجائها وجوانبها يصرّفونها كيف شاءوا وأين أرادوا. (أُكُلُها دائِمٌ) أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب التي لا تنقطع عنهم ولا تبيد. (وَظِلُّها) كذلك، فليس هناك حر ولا برد، ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة كما قال تعالى: «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» . وبعد أن وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث- بين أنها مآل المتقين ومنتهى أمرهم فقال: (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي هذه الجنة عاقبة من اتّقوا ربهم فأقلعوا عن الكفر والمعاصي واجتراح السيئات، وعنت وجوههم للحى القيوم، وخافوا يوما تشيب من هوله الولدان، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. ثم بين عاقبة الكافرين بعد ما بين عاقبة المتقين فقال: (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) أي وعاقبة الكافرين بالله النار، بما اقترفوا من الذنوب ودنسوا به أنفسهم من الآثام. وفى الآية فتح باب الطمع على مصراعيه للمتقين، وإقفاله بالرّتاج على الكافرين. ثم بين أن أهل الكتاب انقسموا فئتين: فئة فرحت بنزول القرآن، وفرقة أنكرته وكفرت ببعضه فقال:

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن لما فى كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به كما قال تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» وهم جماعة ممن آمن من اليهود كعبد الله ابن سلام وأصحابه، ومن النصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران. (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي ومن جماعتهم الذين تحزّبوا وتألبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعداوة ككعب بن الأشرف والسيد والعاقب أسقفّى نجران وأشياعهم- من أنكر بعض القرآن وهو مالم يوافق ما حرفوه من كتابهم وشرائعهم. ولما ذكر سبحانه اختلاف أهل الكتاب فى شأنه صلى الله عليه وسلّم- بين بإيجاز ما يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادتين فقال: (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي قل لهم صادعا بالحق ولا تكترث بمن ينكره إنى أمرت فيما أنزل إلىّ بأن أعبد الله وحده ولا أشرك به شيئا سواه، وذلك ما لا سبيل إلى إنكاره وأطبقت عليه الشرائع والكتب كما قال: «يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» وذلك ما دلت الدلائل التي فى الآفاق والأنفس على وجوب الإذعان له والاعتراف به. وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد (إِلَيْهِ أَدْعُوا) أي إلى طاعته وإخلاص العبادة له وحده أدعو الناس. (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي وإليه وحده مرجعى ومصيرى ومصيركم للجزاء، ولا خلاف بيننا فى هذا، فالعجب لكم أن تنكروا المتفق عليه، وتختلفوا فيما لا محل للخلاف فيه. وهذه الآية جامعة لشئون النشأة الأولى والآخرة، فقوله: «قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ» توحى إلى ما جاء به التكليف، وقوله «إِلَيْهِ أَدْعُوا» تشير إلى مهامّ الرسالة، وقوله: (وَإِلَيْهِ مَآبِ) تشير إلى البعث والجزاء للحساب يوم القيامة.

ثم بين سبحانه أنه أرسل رسوله بلغة قومه كما أرسل من قبله رسلا بلغات أقوامهم فقال: (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب، أنزلنا عليك القرآن حكما عربيا بلسانك ولسان قومك ليسهل عليهم تفهم معناه واستظهاره. وسمى القرآن حكما: أي فصلا للأمر على وجه الحق- لأن فيه بيان الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه المكلفون ليصلوا إلى السعادة فى الدنيا والآخرة. وقد جاء بمعنى الآية قوله: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» . ثم إن أهل مكة دعوه إلى أمور يشاركهم فيها فقال: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي ولئن اتبعت أهواء هؤلاء الأحزاب ابتغاء رضاهم، كالتوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتهم فى شىء مما يعتقدونه. (ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) أي ليس لك من دون الله ولىّ ولا ناصر ينصرك، فينقذك منه إن هو أراد عقابك، ولا واق يقيك عذابه إن شاء عذابك، فاحذر أن تتبع أهواءهم وتنهج نهجهم. وقد تقدم أن مثل هذا من وادي قولهم: (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فهو إنما جاء لقطع أطماع الكافرين وتهييج المؤمنين على الثبات فى الدين لا للنبى صلى الله عليه وسلّم فهو بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث ولا مهيّج. ونزل: لما عابت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكثرة النساء، فقالوا لو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) أي وكما أرسلناك رسولا بشريا، كذلك بعثنا المرسلين قبلك بشرا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم.

وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس منى» : وقد كان من حكمة تعدد زوجاته أمهات المؤمنين أن اطلعن منه على الأحوال الخفيّة التي تكون بين الرجل والمرأة وعلمهن منه أحكامها ونشرنها بين المؤمنين، وناهيك بأم المؤمنين عائشة وفيها يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» ومن ثم كانت أكثر من حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد أبى هريرة، وأكثر من حدث عن شمائله وأحلاقه فى السر والعلن، ومنها علم المسلمون كثيرا من أحكام دينهم، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون إليها للحديث والفتيا وكانت تحاجهم وتجادلهم، وتلزمهم الحجة ولا يجدون معدلا عن التسليم برأيها. وروى أن المشركين طعنوا فى نبوته لعدم إتيانه بما يقترحونه من الآيات فنزل قوله: (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي وما كان فى وسع رسول من الرسل أن يأتى من أرسل إليهم بمعجزة يقترحونها إلا متى شاء الله وعلم أن فى الإتيان بها حكما ومصالح لعباده، وقد جاء من الآيات بما فيه عبرة لمن اعتبر، وغناء لمن تفكر وتدبر، ولكنهم أبوا إلا التمادي فى الغواية والضلال كما تقدم من مقال عبد الله بن أبى أمية. والآيات المقترحة لا تأتى إلا على مقتضى الحكمة فى أزمان يعلمها الله، وقد جعل لكل زمن من الأحكام ما فيه الصلاح والخير للناس، ولا صلاح فيما اقترحوه، وهل من الصلاح أن يرضع المراهق اللبن من ظئره، وأن يجعل له مهد ينام فيه؟ كذلك لا حكمة فى إنزال الآيات التي اقترحوها، وهذا إيضاح قوله: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل كتاب أجل أي لكل أمر كتبه الله أجل معين ووقت معلوم، فلا آية من المقترحات بنازلة قبل أوانها، ولا عذاب مما خوّفوا به بحاصل فى غير وقته، ولا نبوة بحاصلة فى غير الزمان المقدر لها، فموسى وعيسى

ومحمد عليهم السلام جاءوا فى أزمنة رأى الله الصلاح فى وجودهم فيها لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، وهكذا انقضاء أعمار الناس ووقوع أعمالهم وآجالهم، كلها كتبت فى آجال ومدد معينة لا تقديم فيها ولا تأخير. ونحو الآية قوله (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) . فما مثل الدنيا من كواكبها وشمسها وأرضها وزرعها إلا مثل مصنع رتّبت أعماله، ووضعت عماله. فى حجر معينة، ووزع بينهم العمل على نظم خاصة، فى أوقات معينة، ولهم مناهج يتبعونها، فتراهم كل يوم يعملون وينصرفون من أماكنهم ثم يعودون إليها على نهج لا يتغير ولا يتبدل، فالدنيا قد جعل الله لها نظاما على مقتضى الحقائق الثابتة التي تعلّق بها علمه، وعلى هذا النظام جرت الشمس والقمر والكواكب وظهر النبات والحيوان وتعاقب الموت والحياة، وظهرت نجوم وفنيت أخرى، ونبت زرع وحصد آخر ومات نبى وقام آخر، وامتد دين وانتشر، وتقلّص دين ونسخ. وكل كوكب من الكواكب التي تصلح للحياة كأرضنا كأنه صحيفة يكتب فيها ويمحى، وذلك تابع لما فى المنهج الأصلى، ومن ثم تتعاقب الأمم والأجيال والدول والنظم على قطر كمصر، فيتعاقب عليه قدماء المصريين واليونان والرومان، ولا شك أن كل هذا محو وإثبات على مقتضى المنهج المرسوم، وهكذا تنسخ آية من القرآن ويؤتى بغيرها، كما ينسخ زرع بزرع، وليل بنهار، وقوم بقوم، ودين نبى بآخر فى ميقاته المعين فى علمه تعالى، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) وقد أثر عن أئمة السلف فيها أقوال لا تناقض فيها بل هى داخلة فيما سلف: (1) قال الحسن: يمحو الله من جاء أجله ويثبت من بقي أجله. (2) وقال عكرمة: يمحو الله القمر ويثبت الشمس. (3) وقال الربيع: يقبض الله الأرواح حين النوم، فيميت من يشاء ويمحوه ويرجع من يشاء فيثبته (4) وقال السدى: يمحو الله القمر ويثبت الشمس.

[سورة الرعد (13) : الآيات 40 إلى 43]

(5) وقال آخرون: يمحو الله ما يشاء من الشرائع بالنسخ، ويثبت ما يشاء. فلا ينسخه ولا يبدله. (6) وقال آخر: يمحو الله المحن والمصايب بالدعاء. (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) هو علم الله، وجميع ما يكتب فى صحف الملائكة لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما يثبت فيه فهو أمّ لذلك، فكأنه قيل يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء وهو ثابت عنده فى علمه الأزلى الذي لا يكون شىء إلا وفق ما فيه. [سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43] وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) تفسير المفردات الأطراف: الجوانب، المعقب: الذي يكرّ على الشيء فيبطله، ويقال لصاحب الحق معقّب، لأنه يقفو غريمه بالاقتضاء والطلب، والمكر: إرادة المكروه فى خفية، وعقبى الدار: أي العاقبة الحميدة، والأم: أصل الشيء وما يجرى مجراه، كأم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة. المعنى الجملي سبق أن ذكر أنهم اقترحوا عليه الآيات استهزاء به وطلبوا استعجال السيئة التي توعدهم بها، وكان صلى الله عليه وسلّم يتمنى وقوع بعض ما توعّدوا به ليكون زاجرا

الإيضاح

لغيرهم، ذكر هنا لرسوله أن وظيفته التبليغ، ولا يهمه ما سينالهم من الجزاء فعلينا حسابهم، وهل هم فى شك من حصول ما توعدناهم به وهم يرون بلادهم تنقص من جوانبها بفتح المسلمين لها وقتل أهلها وأسرهم وتشريدهم، والله يحكم فى خلقه كما يريد، وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال، وعلى أعدائهم بالقهر والإذلال- ثم بين أن قومه ليسوا ببدع فى الأمم فقد مكر من قبلهم بأنبيائهم ولم يكن مكرهم ليضيرهم شيئا فكانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، وسيعلم الكافرون حين يحل بهم العذاب، لمن حسن العاقبة؟ ثم ذكر إنكار اليهود لرسالته وأمره بالجواب عن ذلك بأن الله شهد له بأنه صادق فيها، فأيده بالأدلة والحجج، وفى شهادته غنى عن شهادة أىّ شاهد آخر، وكذلك شهد من آمن من أهل الكتاب بأنهم يجدون وصفه فى كتبهم. الإيضاح (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي إن أريناك أيها الرسول فى حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين بالله من العقاب على كفرهم، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربك، لا طلب صلاحهم ولا فسادهم، وعلينا محاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ونحو الآية قوله تعالى: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ. إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» . (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟) أي أشكّ أولئك المشركون من أهل مكة الذين يسألونك الآيات، ولم يروا أنا نأتى الأرض فنفتحها لك أرضا بعد أرض، ونلحقها بدار الإسلام، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء؟ أليس هذا مقدمة لما أوعدناهم بحصوله، ونذيرا بما سيحل بهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة لو تدبروا، فما لهم عن التذكرة معرضين؟.

ونحو الآية قوله: «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟» . (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي والله يحكم وحكمه النافذ الذي لا يردّ، ولا يستطيع أحد أن يبطله، وقد جرت سنته أن الأرض يستعمرها عباده الصالحون بالعدل فيها والسير على نهج المساواة وترك الظلم. وقد حكم للمسلمين بالعز والإقبال على ما وضع من السنن العامة، وعلى أعدائهم بالإدبار وركود ريحهم، لما سلكوه من الظلم والفساد فى الأرض (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فعمّا قريب سيحاسبهم فى الآخرة كفاء ما دنّسوا به أنفسهم، وران على قلوبهم بارتكاب الآثام بعد أن يعذبهم فى الدنيا بالقتل والأسر، فلا تستبطئ عقابهم، فإنه آت لا محالة، وكل آت قريب. ثم بين أن قومه ليسوا ببدع فى الأمم، فقد مكر كثير ممن قبلهم بأنبيائهم فأخذ الله أخذ عزيز مقتدر فقال: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وقد مكر كثير من كفار الأمم الماضية بأنبيائهم كما فعل نمرود بإبراهيم، وفرعون بموسى، واليهود بعيسى، ثم دارت الدائرة على الظالمين، وأهلك الله المفسدين. وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتصبير بأن العاقبة له لا محالة. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي إن مكر الماكرين لا يضر إلا بإذنه تعالى، ولا يؤثر إلا بتقديره، فيجب ألا يكون الخوف إلا منه تعالى. وفى هذا أمان له صلى الله عليه وسلّم من مكرهم. (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) فيعصم أولياءه ويعاقب الماكرين بهم، ليوفى كل نفس جزاء ما كسبت. وفى هذا ما لا يخفى من شديد الوعيد والتهديد للكافرين الماكرين. ثم أكد هذا التهديد بقوله.

خلاصة هذه السورة

(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي وسيعلم الكفار إذا قدموا إلى ربهم يوم لقيامة حين يدخل الرسول والمؤمنون الجنة ويدخلون النار، لمن العاقبة المحمودة إذ ذاك، وإن جهلوا ذلك من قبل؟. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسقف من اليمن فقال له عليه السلام: هل تجدنى فى الإنجيل رسولا؟ قال لا فأنزل الله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا) أي ويقول الجاحدون لنبوتك، الكافرون برسالتك، لست رسولا من عند الله أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور وتدعوهم إلى عبادة إله واحد لا شريك له، وتنقذهم من عبادة الأصنام والأوثان، وتصلح حال المجتمع البشرى، وتمنع عنه الظلم والفساد. (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل حسبى الله شاهدا بتأييد رسالتى، وصدق مقالتى، إذ أنزل علىّ هذا الكتاب الذي أعجز البشر قاطبة أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) وهم من أسلم من أهل الكتابين التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام وأضرابه فإنهم يشهدون بنعته فى كتابهم. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه، منهم عبد الله بن سلام والجارود وتميم الداري وسلمان الفارسي رضى الله عنهم. خلاصة هذه السورة ترى مما تقدم فى تفسير هذه السورة أنها اشتملت على الأمور الآتية: (1) إقامة الأدلة على التوحيد بما يرى من خلق السموات والأرض والجبال والأنهار والزرع والنبات على اختلاف ألوانه وأشكاله، وهذا تفصيل لما أجمله فى السورة

قبلها من قوله: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» . (2) إثبات البعث ويوم القيامة، والتعجب من إنكارهم له. (3) استعجالهم العذاب من الرسول صلى الله عليه وسلّم، وبيان أنه واقع بهم لا محالة كما وقع لمن قبلهم من الأمم الغابرة. (4) بيان أن للإنسان ملائكة تحفظه وتحرسه وتكتب عليه ما يكتسبه من الحسنات والسيئات بأمر الله. (5) ضرب الأمثال لمن يعبد الله وحده ولمن يعبد الأصنام بالسيل والزبد الرابى. (6) بيان حال المتقين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وأقاموا الصلاة وأنفقوا فى السر والعلن، وبيان مآلهم يوم القيامة. (7) بيان حال الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويفسدون فى الأرض وبيان مآلهم. (8) إنكار الشركاء مع إقامة الأدلة على أن لا شريك لله. (9) وصف الجنة التي وعد بها المتقون وبيان أنها مآل المتقين ومآل الكافرين النار وبئس القرار. (10) بيان أن كثيرا ممن أسلموا من أهل الكتاب يفرحون بما ينزل من القرآن، إذ يرون فيه تصديقا لما بين أيديهم من الكتاب. (11) بيان مهمة الرسول وأن خلاصة ما جاء به- عبادة الله وحده، وعدم الشرك به، ودعاؤه لجلب النفع ودفع الضر وأن إليه المرجع والمآب. (12) بيان أن كل رسول أرسل بلغة قومه ليسهل عليهم قبول دعوته وفهمها. (13) تحذير الرسول صلى الله عليه وسلّم وأمته من قبول دعوة المشركين من بعد ما جاءهم من العلم.

(14) إن جميع الرسل صلوات الله عليهم كان لهم أزواج وذرية. (15) إن المعجزات ليست بمشيئة الرسل يأتون بها كلما أرادوا، وإنما هى بإذن الله وإرادته. (16) بيان أن هذه الحياة الدنيا إنما هى محو وإثبات، وموت وحياة، فيزيل الله قوما ويوجد آخرين، وكل ذلك محفوظ فى علم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل. (17) إن مهمة الرسل إنما هى التبليغ، أما الجزاء على مخالفة الأوامر فأمر ذلك إلى الله، ولا يعنى الرسول أن يحصل فى زمنه أو بعد وفاته. (18) إن انتقام الله من المكذبين قد بدأ فى حياة الرسول بقتل أعدائه وأسرهم وتشريدهم فى البلاد. (19) إن مكر أولئك الكافرين بالرسول ليس ببدع جديد، فكثير من الأمم السابقة مكروا بأنبيائهم، وكان النصر حليف المتقين، ونكّل الله بالقوم الظالمين. (20) إلحاف الكافرين فى إنكار رسالته صلى الله عليه وسلّم، مع بيان أن الله شهيد على ذلك بما أقام من الأدلة على صدقه، وكذلك شهادة من آمن من أهل الكتاب بوجود أمارات رسالته صلى الله عليه وسلّم فى كتبهم وتبشيرها بها.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم هى مكية وعدد آياتها ثنتان وخمسون. وارتباطها بالسورة قبلها من وجوه: (1) إنه قد ذكر سبحانه فى السورة السابقة أنه أنزل القرآن حكما عربيا ولم يصرح بحكمة ذلك وصرح بها هنا. (2) إنه ذكر فى السورة السالفة قوله: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» وهنا ذكر أن الرسل قالوا: «ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» . (3) ذكر هناك أمره عليه السلام بالتوكل على الله، وهنا حكى عن إخوانه المرسلين أمرهم بالتوكل عليه جل شأنه. (4) اشتملت تلك على تمثيل الحق والباطل، واشتملت هذه على ذلك أيضا. (5) ذكر هناك رفع السماء بغير عمد ومدّ الأرض وتسخير الشمس والقمر، وذكر هنا نحو ذلك. (6) ذكر هناك مكر الكفار وذكر مثله هنا، وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الظلمات: الضلالات، والنور: الهدى، وإذن ربهم: تيسيره وتوفيقه، والعزيز: الغالب، والحميد: المحمود المثنى عليه بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له أبدا، ويل: هلاك، يستحبون: يختارون، سبيل الله: هو دينه الذي ارتضاه، يبغونها: يطلبون لها، عوجا: زيغا واعوجاجا، واللسان: اللغة. الإيضاح (الر) تقدم أن بينا فى سورتى يونس وهود طريق قراءته والمعنى المراد منه بما أغنى عن إعادته هنا. (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب أنزلناه إليك أيها الرسول. (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي لتنقذ الناس من ظلمات الضلالة والكفر إلى نور الإيمان وضيائه، وتبصّر به أهل الجهل والعمى، سبل الرشاد والهدى، بما اشتمل عليه من واضح الآيات البينات، المرشدة إلى النظر فى حقائق الكون، الدالة على وحدانية الله تعالى، وأنه لا شريك له وأن الواجب عبادته وحده، ثم دعاؤه لجلب النفع، وكشف الضر، وفيها أيضا سعادة البشر وصلاحهم فى الدنيا والآخرة. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه ولطفه بهم، بإرسال نور الهدى إلى قلوبهم، فيسلكون طرق الفلاح والصلاح. (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم، وهو العزيز الذي لا يغالب، المحمود فى جميع أفعاله وأقواله وأمره ونهيه.

ونحو الآية قوله: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» الآية، وقوله: «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» الآية. ثم بين ما سلف بقوله: (اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو الله المتصف بملك ما فيهما خلقا وتصرفا وتدبيرا. وهذه الجملة الدالة على عظمة خالق الأكوان، المنفرد بالعظمة والسلطان، قد كرّرت فى كثير من سور الكتاب الكريم، للتنبيه إلى أن من أهم مقاصد هذا الدين أن يكون فى المسلمين حكماء ربانيون، يتفهمون حقائق هذا الكون، ويدركون أسرار بدائعه، ويستخرجون للناس ما فى باطن الأرض، وينتفعون بما فى ظاهرها، ويتأملون فيما فى السموات من بديع الصنع، وما تقدمه لنا من الخير العميم الذي ينتفع منه الإنسان والحيوان، فى مأكلهما ومشربهما ومسكنهما وسائر حاجاتهما ومرافقهما. وجاء فى سورة يوسف قوله تعالى توبيخا للغافلين، وحثا لهمم المستبصرين: «وكأيّن من آية فى السّموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون» . ومع كل هذا فوا أسفا، رأينا كثيرا من المسلمين الذين تتلى عليهم هذه الآية صباح مساء- يكتفون بمجرد تلاوتها والإيمان بها دون بحث ولا تفهم لمغزاها ولا المراد منها، ولا استبصار بما تنطوى عليه من المقاصد والمرامى، ولو كان ذلك كافيا لكان ذكر الخبز حين الجوع كافيا فى الشّبع، والنظر إلى الماء كافيا فى الرّى. ثم توعد الذين جحدوا آياته، وكفروا بوحدانيته، فقال: (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي وهلاك بشديد العذاب يوم القيامة لمن كفر بك، ولم يستجب دعوتك، بإخلاص التوحيد لخالق السموات والأرض،

وترك عبادة من لا يملك لنفسه شيئا، بل هو مملوك له تعالى لأنه بعض ما فى السموات والأرض. ثم وصف سبحانه أولئك الكافرين بصفات ثلاث. (1) (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي إن أولئك الكافرين يطلبون الدنيا، ويعملون لها ويتمتعون بلذاتها، ويقترفون الآثام، ويرتكبون الموبقات، ويؤثرون ذلك على أعمال الآخرة التي تقرّبهم إلى الله زلفى، وينسون يوما تجازى فيه كل نفس بما عملت، يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن فى الأرض جميعا. (2) (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي ويمنعون من تتجه عزأ: بالله واتباع رسوله فيما جاء به من عند ربه، أن يؤمنوا به ويتبعوه، لما رين لهم الشيطان من سلوك سبيل الطغيان، وران على قلوبهم من الفجور والعصيان، والبعد عند كل ما يقرّب إلى الرحمن. (3) (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويطلبون لها الزيغ والعوج وهى أبعد ما تكون من ذلك، فيقولون لمن يريدون صدهم وإضلالهم عن سبيل الله ودينه، إن ذلك الدين ناء عن الصراط المستقيم، وزائغ عن الحق واليقين، وإنك لتسمع كثيرا من الملحدين يقول إن القوانين الإسلامية فى الحدود والجنايات شديدة غاية الشدة وإنها تصلح للأمم العربية فى البادية، لا للأمم التي أخذت قسطا عظيما من الحضارة: «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلّا كذبا» فتلك شريعة دانت لها أمة غيّرت وجه البسيطة، وملكت ناصية العالم ردحا من الزمان، وكانت مضرب الأمثال فى العدل وترك الجور، وثلّت عروش الأكاسرة والقياصرة، وامتلكت بلادهم وأزالت عزهم وسلطانهم، إلى أن غيّر أهلها معالمها فأركسهم الله بما كسبوا فبدّل عزهم ذلا، وسعادتهم شقاء، وتلك سنة الله، أن الأرض يرثها عباده الصالحون لاستعمارها، ثم حكم عليهم بما يستحقون فقال:

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي فهم باختيارهم لأنفسهم حب العاجلة، وصدهم عن الدين، وابتغائهم له الزيغ والعوج- فى ضلال بعيد عن الحق لا يرجى لهم فلاح، وأنى لهم ذلك وقد كبّوا على وجوههم وزيّن لهم الفساد والغىّ، فيرون حسنا ما ليس بالحسن، وقبيحا ما ليس بالقبيح؟. ثم بين سبحانه كمال نعمته وإحسانه إلى عباده، فذكر أنه يرسل رسله إلى أقوامهم بلغاتهم، كى لا يشق عليهم فهم الدين وحفظه فقال: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي وما أرسلنا رسولا إلى أمة من الأمم من قبلك وقبل قومك إلا بلغة قومه الذين أرسلناه إليهم، ليفهمهم ما أرسل به إليهم من أمره ونهيه بسهولة ويسر، ولتقوم عليهم الحجة وينقطع العذر، وقد جاء هذا الكتاب بلغتهم وهو يتلى عليهم، فأى عذر لهم فى ألا يفقهوه، وما الذي صدهم عن أن يدرسوه، ليعلموا ما فيه من حكم وأحكام، وحلال وحرام، وإصلاح لنظم المجتمع، ليسعدوا فى حياتيهم الدنيا والآخرة؟. والنبي صلى الله عليه وسلّم وإن أرسل إلى الناس جميعا، ولغاتهم متباينة، وألسنتهم مختلفة، فإرساله بلسان قومه أولى من إرساله بلسان غيرهم، لأنهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه لهم، حتى يصير مفهوما لهم كما فهمره، ولو نزل بلغات من أرسل إليهم وبيّنه ولكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف، وفتحا لباب التنازع، لأن كل أمة قد تدّعى من المعاني فى لسانها ما لا يعرفه غيرها، وقد يفضى ذلك إلى التحريف والتصحيف، بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون وبعد أن بين سبحانه أنه لم يكن للناس من عذر فى عدم فهم شرائعه- ذكر أن الهداية والإضلال بيده ومشيئته فقال: (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إن الناس فريقان، فريق هداه الله وأضاء نور قلبه وشرح صدره للإسلام فاتبع سبيل الرشاد وفريق رانت على قلبه

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 إلى 8]

الغواية والضلالة، بما اجترح من الآثام، وأوغل فيه من المعاصي والذنوب، وذلك كله بتقديره تعالى ومشيئته، لا رادّ لقضائه ولا دافع لحكمه. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز فلا يغلب مشيئته غالب، الحكيم فى صنعه، فلا يفعل إلا ما تقتضيه السنن العامة فى خلقه، والنواميس التي وضعها لصلاح حال عباده وضلالهم: «سنّة الله الّتى قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) تفسير المفردات الآيات: هى الآيات التسع التي أجراها الله على يده عليه السلام، والظلمات: الكفر والجهالات، والنور: الإيمان بالله وتوحيده وجميع ما أمروا به، وذكرهم: أي عظهم، وأيام الله: وقائعه فى الأمم السابقة ويقال فلان عالم بأيام العرب: أي بحروبها وملاحمها كيوم ذى قار ويوم الفجار قال عمرو بن كلثوم: وأيام لنا غرّ طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا

المعنى الجملي

والصبار. كثير الصبر، والشكور كثير الكشر، يسومونكم. يكلفونكم بلاء. أي ابتلاء واختبار، وتأذن: أي آذن وأعلم، وحميد مستوجب للحمد لذاته وإن لم يحمده أحد. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أنه أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن فى هذا الإرسال نعمة له ولقومه- أتبع ذلك بذكر قصص بعض الأنبياء وتفصيل مالاقوه من أقوامهم من شديد الأذى والتمرد والعناد، لما فى ذلك من التسلية له وجميل التأسي بهم، وبيان أن المقصود من بعثة الرسل واحد وهو إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات. الإيضاح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي كما أرسلناك أيها الرسول وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، أرسلنا موسى إلى بنى إسرائيل وأيدناه بالآيات التسع التي سلف ذكرها فى سورة الأعراف وأمرناه بأن يدعوهم إلى الإيمان بالله وتوحيده ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان. (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) أي عظهم مرغّبا لهم بتذكيرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فى الأمم السابقة، ليكون فى ذلك حافز لهم على العمل ويكون لهم بمن سلف أسوة- ومخوّفا موعدا بتذكيرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل من الأمم الغابرة كعاد وثمود، ليكون لهم فى ذلك مزدجر وليحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بغيرهم. وأيام الله فى جانب موسى عليه السلام منها ما كان محنة وبلاء وهى الأيام التي كان فيها بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده، ومنها ما كانت نعمة كإنجائهم من عدوهم وفلق البحر لهم وإنزاله المنّ والسلوى عليهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى ذلك التنبيه والتذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته لكل صبار فى المحنة والبلية، شكور فى المنحة والعطية. قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر، وإذا أعطى شكر، وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له» . وفى هذا إيماء إلى أن الإنسان فى هذه الحياة يجب أن يكون بين صبر وشكر أبدا، لأنه إما فى مكروه يصبر عليه وإما فى محبوب يشكر عليه، والوقت فى هذه الحياة ذهب، فمتى ضاع من حياتنا زمن دون عمل نسدى فيه خدمة لأنفسنا ولديننا ووطننا فقد كفرنا النعمة، وأضعنا الفرصة، ولم نعتبر بما حل بمن قبلنا من الأمم الغابرة، فليحذر كل امرئ أن يضيع حياته بلا عمل، وليخف على وقت يضيع، ثم بعده عذاب سريع. ولما سمع موسى أمر ربه امتثله وأخذ يذّكر قومه بأيام الله كما حكى الله عنه فقال: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي واذكر لقومك حين قول موسى لقومه: يا قوم تذكروا إنعام الله عليكم إذ أنجاكم من فرعون وآله، حين كانوا يذيقونكم العذاب ويكلفونكم من الأعمال ما لا يطاق مع القهر والإذلال، ويذبحون أبناءكم ويبقون نساءكم على قيد الحياة ذليلات مستضعفات، وهذا رز من أشد الأرزاء، وأعظم ألوان البلاء، قال شاعرهم: ومن أعظم الرزء فيما أرى ... بقاء البنات وموت البنينا وفى ذلك التذكير عبرة لهم لو يعتبرون. (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي وفيما ذكر ابتلاء واختبار عظيم من ربكم

لما فيه من نقمة التعذيب والإذلال وقتل الأولاد واستحياء البنات، ثم نعمة الإنجاء من كل ذلك العسف والقهر، فالابتلاء كما يكون بالنقمة يكون بالنعمة كما قال «وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» وقال: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» . (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي واذكروا يا بنى إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده فقال: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أي لئن شكرتم ما خوّلتكم من نعمة الإنجاء وغيرها بطاعتي فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأزيدنكم من نعمى عليكم، وقد دلت التجارب أن العضو الذي يناط به عمل كلما مرن عليه ازداد قوة، وإذا عطل عن العمل ضمر وضعف، وهكذا النعم إن استعملت فيما خلقت له بقيت، وإن أهملت ذهبت. أخرج البخاري فى تاريخه والضياء فى المختارة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من ألهم خمسة لم يحرم خمسة- وفيها من ألهم الشكر لم يحرم الزيادة» . والخلاصة- إن من شكر الله على ما رزقه وسّع عليه فى رزقه، ومن شكره على ما أقدره عليه من طاعته زاد فى طاعته، ومن شكره على ما أنعم عليه من صحة زاده الله صحة، إلى نحو أولئك من النعم. (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) النعم وجحدتموها فلم تقوموا بواجب حقها عليكم من شكر المنعم بها. (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) بحرمانكم منها، وسلبكم ثمراتها، فى الدنيا والآخرة، فتعذبون فى الدنيا بزوالها، وفى الآخرة بعذاب لا قبل لكم به، وفى الحديث: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصبه» . ثم بين سبحانه أن منافع الشكران ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الشاكر أو الكافر بتلك النعم، أما المعبود المشكور فهو متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يضره الكفر، فلا جرم قال:

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 إلى 12]

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن تجحدوا نعمة الله التي أنعمها عليكم، ويفعل مثل فعلكم من فى الأرض جميعا، فما أضررتم بالكفر إلا أنفسكم، إذ حرمتموها من مزيد الإنعام، وعرّضتموها للعذاب، الشديد، وإن الله غنى عن شكركم وشكر غيركم، وهو المحمود وإن كفر به من كفر، وهذا كقوله: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ» الآية، وقوله: «فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» . وقد يكون موسى قال هذه المقالة حين عاين منهم دلائل العناد، ومخايل الإصرار على الكفر والفساد، وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب، ولا التعريض بالترهيب. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الريبة: اضطراب النفس وعدم اطمئنانها بالأمر، وفاطر السموات والأرض أي موجدهما على نظام بديع، والسلطان. الحجة والبرهان. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما ذكّر به موسى قومه بما أولاهم به من نعمة، ورفع عنهم من نقمة، ثم ذكر وعده تعالى بالزيادة لمن شكر، ووعيده بالعذاب لمن كفر، ثم حذرهم بأن الكفران لا يضير ربهم، وأنه غنى عن حمدهم وحمد من فى الأرض جميعا يذكّرهم بأيام الله فيمن قبلهم، من الأمم السالفة والأجيال البائدة، بأسلوب طلىّ ومقال جلىّ، فذكر القول أوّلا على سبيل الإجمال، ثم أتبعه بمحاورة بين الرسل وأقوامهم، أقام فيها الرسل الحجة على أممهم، ودحض ما تمسكوا به من الترّهات والأباطيل. الإيضاح (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) أي ألم يأتكم خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل التي غاب عن الناس علمها، وعند الله إحصاؤها. ثم فصل هذا النبأ وفسره بقوله: (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات الظاهرة، والبينات الباهرة، وبين كل رسول لأمته طريق الحق، ودعاهم إليه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي عضّوا بنان الندم غيظا لما جاءهم به الرسل، وضجر لنفرتهم من استماع كلامهم، إذ سفّهوا أحلامهم، وشتموا أصنامهم، وقد فعلت العرب مثل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلّم كما قال سبحانه: «عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» . وقال أبو عبيدة والأخفش ونعمّا قالا هو مثل، والمراد أنهم لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت، قد ردّ يده فى فيه. (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به، من البينات التي أظهرتموها حجة على صحة رسالتكم، وإنما يقصدون من الكفر بها الكفر بدلالتها على صدق رسالتهم. (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي وإنا لفى شك مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله ووحدانيته، وجملة ما جئتم به من الشرائع. وخلاصة مقالهم- إنهم جاحدون نبوتهم، قاطعون بعدم صحتها، لأن ما جاءوا به من التعاليم والشرائع مما يشكّ فى صدقه، وأن الله سبحانه يدعو إلى مثله. فرد الرسل عليهم منكرين متعجبين من تلك المقالة الحمقاء كما أشار إلى ذلك عز اسمه بقوله: (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ؟) أي أفي وجود الله شك، وكيف ذلك والفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به فالاعتراف به ضرورى لدى كل ذى رأى حصيف كما جاء فى الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» . ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر فى الأدلة الموصلة، إلى ذلك، ومن ثمّ وجه الرسل أنظار أممهم إلى هذه الأدلة فقالوا: (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق، ودلائل الحدوث ظاهرة عليهما، فلا بد لهما من صانع وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق

كل شىء وإلهه ومليكه، وقد جاء هذا الوصف فى محاورات الأنبياء جميعا، وهو نفس الوصف الذي جاء فى أول السورة على لسان نبينا صلى الله عليه وسلّم، ومن هذا يعلم أن كل نبى جعل مطمح نظره توجه النفوس إلى علوم السموات والأرض. ولما أقاموا الدليل على وجوده وصفوه بكمال الرحمة بقولهم: (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان به بإرساله إيانا، لنخرجكم من ظلمات الوثنية، إلى نور الوحدانية، وإخلاص العبادة له، وهو الواحد القهار. (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يدعوكم لمغفرة بعض ذنوبكم، وهى الذنوب التي بينكم وبين ربكم، لا المظالم وحقوق العباد. والمتتبع لأسلوب الكتاب الكريم يرى أن كل موضع ذكر فيه مغفرة الذنوب للكافرين جاء بلفظ (من) كقوله: «وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» وقوله: «يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» لأنه يخاطبهم فى أمر الإيمان وحده. وفى المواضع التي يذكر فيها مغفرة الذنوب للمؤمنين تجىء بدون ذكر (من) كقوله: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» لأن المغفرة منصرفة إلى المعاصي ومتوجهة إليها. (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت سماء الله، وجعله منتهى أعماركم إن أنتم آمنتم به، وإلا عاجلكم بالهلاك وعذاب الاستئصال، جزاء كفرانكم بدعوة الرسل إلى التوحيد، وإخلاص العبادة للواحد القهار. ثم حكى سبحانه رد الأمم على مقالة الرسل، وهو يتضمن ثلاثة أشياء: (1) (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا فضل لكم علينا، فلم خصصتم بالنبوة، أطلعكم الله على الغيب، وجعلكم مخالطين لزمرة الملائكة دوننا إلى أنه لو كان الأمر

كما تدّعون لوجب أن تخالفونا فى الحاجة إلى الأكل والشرب وقربان النساء وما شاكل ذلك. (2) (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ولا حجة لكم على ما تدّعون، وليس من حصافة العقل أن نترك أمرا قبل أن يقوم الدليل على خطئه. (3) (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدّعون من النبوة، أما ذكر السموات والأرض وعجائبهما فلسنا نحفل بهما، والعجائب الأرضية والسماوية لا نعقلها، والبشر لا يخضعون إلا لمن يأتى لهم بما هو خارج عن طور معتادهم، وحينئذ يعظّمونه ويبجّلونه، وهذه المشاهدات لا نرى فيها شيئا خارقا للعادة، وإذا فلا إيمان ولا تسليم إلا بما هو فوق طاقتنا، كقلب العصا حية ونقل الجبال وما إلى ذلك. وبعد أن حكى عن الكفار شبهاتهم فى الطعن فى النبوة حكى عن الأنبياء جوابهم عنها فأجابوا عن الأولى والثانية بالتسليم، لكن التماثل لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة، لأن هذا منصب يمن الله به على من يشاء من عباده، كما لا يمتنع من أن يخص بعض عباده بالتمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب، وأن يحرم الجمع العظيم منه، وهذا ما أشار إليه بقوله: (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وأجابوا عن الشبهة الثالثة بأن ما جئنا به حجة قاطعة وبينة ظاهرة على صدق رسالتنا، وما اقترحتموه من الآيات فأمره إلى الله إن شاء أظهره وهو زائد على قدر الكفاية، وذلك ما أومئوا إليه بقولهم: (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي بمشيئته وإرادته، وليس ذلك فى قدرتنا. وبعد أن أجابهم الأنبياء عن شبهاتهم أخذ المشركون يخوفونهم ويتوعدونهم بالانتقام منهم وإيذائهم قدر ما يستطيعون، فقال لهم الأنبياء إنا لا نخاف تهديدكم

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 إلى 17]

ولا وعيدكم، بل نتوكل على الله ونعتمد عليه، ولا نقيم لما تقولون وزنا ولا نأبه به، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله حكاية عنهم: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فى دفع شرور أعدائهم عنهم، وفى الصبر على معاداتهم. ثم زادوا أمر التوكل توثيقا وتوكيدا فقالوا: (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي وكيف لا نتوكل على الله وقد هدانا إلى سبل المعرفة، وأوجب علينا سلوك طريقها، وأرشدنا إلى طريق النجاة، ومن أنعم الله عليه بنعمة فليشكره عليها بالعمل بها. (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي ولنصبرنّ على إيذائكم بالعناد واقتراح الآيات ونحو ذلك مما لا خير فيه، وندعوكم لعبادة الله وحده، ليكون ذلك منا شكرا على نعمة الهداية. ثم ختموا كلامهم بمدح التوكل وبيان أن إيذاءهم لا يثنيهم عن تبليغ رسالة ربهم فقالوا: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي وعلى الله وحده فليثبت المتوكلون على توكلهم وليحتملوا كل أذى فى جهادهم، ولا يبالوا بما يصيبهم من أذى ولا بما يلاقون من صعاب وعقبات. ومن عنده مال أو علم فلينفع به الناس وليكن كالنهر يسقى الزرع والشمس تضىء العباد، وليصبر على أذى الناس كما صبر الأنبياء وأوذوا، فالهداة ما خلقوا إلا ليعملوا فهم هداة بطباعهم، ولذاتهم فى قلوبهم ومنهم تنتقل إلى الناس. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 17] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لتعودنّ: لتصيرن، والملة: الدين والشريعة، والمقام: موقف الحساب، واستفتحوا: أي طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء، وخاب: هلك، والجبار: العاتي المتكبر على طاعة الله، والعنيد: المعاند للحق المخالف له، ومن ورائه: أي من بعد ذلك ينتظره، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار، يسيغه: أي يستطيبه يقال ساغ الشراب: إذا جاز الحلق بسهولة، يأتيه الموت: أي تأتيه أسبابه وتحيط به من كل جهة، عذاب غليظ: أي شديد غير منقطع. المعنى الجملي بعد أن ذكر مادار من الحوار والجدل بين الرسل وأقوامهم، وذكر الحجج التي أدلى بها الرسل، وقد كان فيها المقنع لمن أراد الله له الهداية والتوفيق، ومن كان له قلب يعى به الحكمة وفصل الخطاب- ذكر هنا أنهم بعد أن أفحموا لم يجدوا وسيلة إلا استعمال القوة مع أنبيائهم كما هو دأب المحجوج المغلوب فى الخصومة، فخيروا رسلهم بين أحد أمرين إما الخروج من الديار: وإما العودة إلى الملة التي عليها الآباء والأجداد، فأوحى الله إلى أنبيائه أن العاقبة لكم، وستدور عليهم الدائرة، وستحلّون محلهم فى ديارهم وسيعذبون فى الآخرة بنار جهنم، ويرون ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها.

الإيضاح

الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي وقال الذين كفروا بالله لرسلهم حين دعوهم إلى توحيده تعالى وترك عبادة الأصنام والأوثان: لنخرجنكم من بلادنا مطرودين منها، إلا أن تعودوا فى ديننا الذي نحن عليه، من عبادة الأصنام كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: «لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» الآية، وكما قال قوم لوط: «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ» الآية، وقال إخبارا عن مشركى قريش: «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا» . وخلاصة هذا- ليكونن أحد الأمرين لا محالة: إما إخراجكم، وإما صيرورتكم فى ملتنا ملة الآباء والأجداد، وهى عبادة الآلهة والأوثان، وقد مكّن لهم فى ذلك أنهم كانوا كثرة وكان أهل الحق قلة، كما جرت بذلك العادة فى كل زمان ومكان، فإن الظّلمة يكونون متعاونين متعاضدين، ومن ثم استطاعوا أن يبرموا هذا الحكم بلا هوادة ولا رفق، كما هو شأن المعتزّ بقوته، الذي لا يخشى اعتراضا ولا خلافا. والأنبياء صلوات الله عليهم لم يكونوا فى ملتهم ولم يعبدوا الأصنام طيلة حياتهم، لكنهم لما نشئوا بين ظهرانيهم، وكانوا من أهل تلك البلاد، ولم يظهروا فى أول أمرهم مخالفة لهم- ظنوا أنهم كانوا على دينهم. ولما تمادت الأمم فى الكفر وتوعدوا الرسل بأخذهم بالشدة والإيقاع بهم- أوحى الله إليهم بإهلاك من كفربهم، ووعدهم بالنصر والغلب على أعدائهم كما أشار إلى ذلك بقوله: (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي فأوحى الله إلى رسله قائلا لهم: لنهلكن من تناهى فى الظلم من المشركين، ولنسكننكم أرضهم وديارهم بعد إهلاكهم عقوبة لهم على قولهم: (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) .

وفى ذلك وعيد وتهديد للمشركين من قريش على كفرهم وجراءتهم على نبيه، وتثبيت وأمر له بالصبر على ما يلقى من المكروه كما صبر من كان قبله من الرسل، وبيان لأن عاقبة من كفر به الهلاك وعاقبته النصر عليهم كما قال: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» وقال: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» وقال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» . ثم ذكر السبب فى نصرهم عليهم فقال: (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) أي هكذا أفعل بمن خاف مقامه بين يدىّ يوم القيامة، وخاف وعيدي فاتقانى بطاعتي وتجنب سخطى- أنصره على من أراد به سوءا وبغى به مكروها من أعدائى، وأورثه أرضه ودياره. ثم بين أن كلا من الفريقين الأمم والرسل طلبوا المعونة والتأييد من ربهم وإلى ذلك أشار بقوله: (وَاسْتَفْتَحُوا) أي واستفتحت الرسل على أممها أي استنصرت الله عليها، واستفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . ثم ذكر مآل المشركين وبيّن أن النصر للمتقين فقال: (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي وهلك كل متكبر مجانب للحق منحرف عنه. (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء الجبار العنيد جهنم أي هى له بالمرصاد تنتظره، ليسكنها مخلدا فيها أبدا، ويعرض عليها فى الدنيا غدوّا وعشيا إلى يوم التناد. ثم بين شرابه فيها فقال: (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي ليس له فى النار شراب إلا ماء يخرج من جوفه وقد خالطه القيح والدم، وخص بالذكر لأنه آلم أنواع العذاب.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 إلى 20]

ثم ذكر ألمه من ذلك الشراب فقال: (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي يتحساه جرعة بعد جرعة، ولا يكاد يزدرده، من شدة كراهته، ورداءة طعمه ولونه، وريحه وحرارته كما قال: «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» وقال: «وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ» . ثم ذكر ما يحيط به من الأهوال فقال: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي وتحيط به أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب من كل جهة من الجهات من قدامه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله فى نار جهنم، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت، لكنه لا يموت كما قال تعالى: «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» . ثم أكد شدائدها وعظيم أهوالها فقال: (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ أي مؤلم أغلظ من الذي قبله وأمرّ كما قال تعالى: «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» وقال: «وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ. هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 20] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما سيلاقيه الكافرون فى هذا اليوم العصيب من سائر أنواع العذاب التي سلف وصفها- بين هنا أن ما عملوه فى الدنيا من صالح الأعمال لا يجديهم فتيلا ولا قطميرا، فما أشبهه إذ ذاك برماد أطارته الريح فى يوم عاصف فذهبت به فى كل ناحية، فهم لا يجدون من أعمالهم فيه شيئا، ثم بين أن ذلك اليوم آت لا ريب فيه، فإن من أنشأ السموات والأرض بلا معين ولا ظهير قادر على أن يفنيهم ويأتى بخلق سواهم، وليس ذلك بعزيز ولا بممتنع عليه. الإيضاح (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي ما مثل أعمال الكافرين التي كانوا يعملونها فى الدنيا ويزعمون أنها تنفعهم يوم الجزاء- إلا كمثل رماد حملته الريح وأسرعت الذهاب به فى يوم عاصف فنسفته ولم تبق له أثرا، فهم يوم القيامة لا يجدون منها شيئا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه، إذ لم يكونوا يعملونها لله خالصة، بل كانوا يشركون فيها الأصنام والأوثان: والمراد من تلك الأعمال أعمال البر كالصدقة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وإطعام الجائع، وإغاثة الملهوف، ونحو ذلك. ثم أكد نفى فائدتها لهم إذ ذاك فقال: (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) أي لا يقدرون يوم القيامة على شىء من أعمالهم فى الدنيا، فلا يرون لها أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب، كما لا تنتفع بالرماد إذا أرسل عليه الريح فى يوم عاصف. ونحو الآية قوله تعالى: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» وقال: َثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 إلى 23]

قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» وورد في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت «يا رسول الله إن ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال لا ينفعه، لأنه لم يقل: رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين» . (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك السعى والعمل على غير أساس ولا استقامة، حتى فقدوا ثوابهم منه أحوج ما كانوا إليه، هو الضلال البعيد عن طريق الحق والصواب. ثم ذكر دليل وحدانيته فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله أنشأ السموات والأرض بالحكمة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه، ومن قدر على خلقهما على أتم نظام وأحكم وضع بلا معين ولا ظهير، فهو قادر على أن يفنيكم ويأتى بخلق جديد سواكم، وما ذلك بممتنع ولا متعذر عليه ومثل الآية قوله: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . وخلاصة ذلك- إنهم بعدوا فى الضلال وأمعنوا فى الكفر بالله، مع وضوح الآيات الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة، وأنه هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخشى عقابه. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 الى 23] وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)

تفسير المفردات

تفسير المفردات وبرزوا: أي صاروا بالبراز وهى الأرض المتسعة، ويراد بها مجتمع الناس فى ذلك اليوم والضعفاء: واحدهم ضعيف، ويراد به ضعيف الرأى والفكر، والذين استكبروا: هم رؤساؤهم الذين استنفروهم، والتبع: واحدهم تابع كخادم وخدم، مغنون: أي دافعون، ومحيص: أي منجى ومهرب، والسلطان: التسلط، بمصر حكم: أي بمغيثكم، يقال استصرخنى فأصرخته: أي استغاثني فأغثته. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما يلقاه الأشقياء فى ذلك اليوم من العذاب، وذكر أن أعمالهم الطيبة التي كانت فى الدنيا أحبطت فلم تغن عنهم شيئا- ذكر هنا محاورة بين الاتباع المستضعفين والرؤساء المتبوعين، وما يحدث فى ذلك الوقت من الخجل لهم، ثم أردفها مناظرة وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس. وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء وبالغ فى بيانها وتفصيلها شرح أحوال السعداء وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل.

الإيضاح

الإيضاح (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي برزت الخلائق كلها برّها وفاجرها لله الواحد القهار: أي اجتمعت فى براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شىء يستر أحدا. (فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي فقال الأتباع لقادتهم وسادتهم الذين استكبروا عن عبادة الله وحده وعن اتباع قول الرسل: إنا كنا تابعين لكم، تأمروننا فنأتمر وتنهوننا فتنتهى. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي فهل تدفعون عنا اليوم شيئا من ذلك العذاب كما كنتم تعدوننا وتمنوننا فى الدنيا. وقد حكى الله رد أولئك السادة عليهم. (قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ) أي لو أرشدنا الله تعالى، وأضاء أنوار بصائرنا وأفاض علينا من توفيقه ومعونته، لأرشدناكم ودعوناكم إلى سبل الهدى، ووجهنا أنظاركم إلى طريق الخير والفلاح، ولكنه لم يهدنا فضللنا السبيل فأضللناكم. ولما كان هذا القول منهم أمارة الجزع قالوا: (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي ليس لنا مهرب ولا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا أو جزعنا. وخلاصة ذلك- سيّان الجزع والصبر، فلا نجاة لنا من عذاب الله. وفى مثل الآية قوله: «وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» وقوله: «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» .

ولما ذكر سبحانه المناظرة التي ستكون بين الاتباع والرؤساء أردفها المناظرة التي ستكون بين الشيطان وأتباعه حينئذ فقال: (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي وقال إبليس مخاطبا أتباعه من الإنس، بعد أن حكم الله بين عباده فأدخل المؤمنين فراديس الجنات، وأسكن الكافرين سحيق الدركات. (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) أي إن الله وعدكم على ألسنة رسله بالبعث وجزاء كل عامل على عمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ووعده حق وخبره صدق. (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي ووعدتكم أن لا جنّة ولا نار، ولا حشر ولا حساب، ولئن كانا فنعم الشفيع لكم الأصنام والأوثان، فأخلقتكم موعدى إذ لم أقل إلا بهرجا من القول وباطلا منه، فاتبعتمونى وتركتم وعد ربكم، وهو وليّكم ومالك أمركم. ونحو الآية قوله: «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» . (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي وما كان لى قوة وتسلط تجعلنى ألجئكم إلى متابعتى على الكفر والمعاصي. (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أي ولكن بمجرد أن دعوتكم إلى الضلال بوسوستي وتزيينى، أسرعتم إلى إجابتى، واتبعتم شهوات النفوس، وأطعتم الهوى، وخضتم فى مسالك الردى. (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) لأنه ما كان منى إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة، ولوموا أنفسكم، إذا استجبتم لى باختياركم الذي نشأ عن سوء استعدادكم بلا حجة منى ولا برهان، بل بتزيينى وتسويلى، ولم تستجيبوا لربكم وقد دعاكم دعوة الحق المقرونة بالحجج والبينات. (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) أي ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب فأزيل صراحكم، وما أنتم بمغيثىّ مما أنا فيه من العذاب والنكال.

(إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي إنى جحدت اليوم أن أكون شريكا لله فيما أشركتمونى فيه من قبل هذا اليوم أي فى الدنيا، وهذا كقوله: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» . ومعنى كفره بإشراكهم تبرؤه منه واستنكاره له، وهذا كقوله تعالى: «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ» . (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قال إبليس ذلك، قطعا لأطماع الكفار من الإغاثة والنجاة من العذاب، وإنما حكى الله ذلك عنه ليكون تنبيها للسامعين، وحضّا لهم على النظر فى عاقبة أمرهم، والاستعداد لذلك اليوم الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، فيثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم ويتذكروا هول ذلك الموقف ورهبته. ولما جمع سبحانه فريقى السعداء والأشقياء فى قوله: «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» وبالغ فى وصف حال الأشقياء من وجوه كثيرة- ذكر حال السعداء وما أعد لهم من نعيم مقيم فى ذلك اليوم فقال: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي وأدخل الذين صدقوا الله ورسوله، فأقروا بوحدانيته تعالى ورسالة رسله، وعملوا بطاعته، فانتهوا إلى أمره ونهيه، بساتين تجرى من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا، لا يتحولون عنها ولا يزولون منها. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه تعالى، إذ وجّه نفوسهم فى الدنيا لكسب الخيرات، والميل إلى العمل بما يرضيه ويرضى رسوله، وأنار بصائرهم للاعتقاد بأن يوم الجزاء آت لا ريب فيه، فأعدّوا له العدّة، فكان على الله بمقتضى وعده أن يدخلهم جناته كفاء ما جدّوا فى رضاه، ونصبوا فى طاعته، خوفا من هول ذلك اليوم العصيب. (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم، تعظيما لشأنهم وعناية بأمرهم، وجاء فى هذا المعنى قوله تعالى فى وصف دخولهم الجنة: «حتّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم» وقوله: «وَالْمَلائِكَةُ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 إلى 27]

يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ» وقوله: «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» كما يحييهم ربهم جلت قدرته إظهارا لرضاه عنهم، وإجلالا وإكبارا لهم كما قال: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) تفسير المفردات المثل: قول فى شىء يشبّه بقول فى شىء آخر، لما بينهما من المشابهة، ويوضح الأول بالثاني، ليتم انكشاف حاله به، ثابت: أي ضارب بعروقه فى الأرض، فى السماء: أي جهة العلو، تؤتى أكلها: أي تعطى ثمرها، بإذن ربها: أي بإرادة خالقها، اجتثت: أي استؤصلت وأخذت جثتها، والقرار: الاستقرار، القول الثابت: أي الذي ثبت عندهم وتمكن فى قلوبهم. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه حال الأشقياء ومآل أمرهم وما يلاقونه من الشدائد والأهوال فى نار جهنم التي لا يجدون عنها محيصا، وذكر أحوال السعداء وما ينالون من فوز عند ربهم- ضرب لذلك مثلا يبين حال الفريقين ويوضح الفرق بين الفئتين، وبه ألبس المعنويات

الإيضاح

لباس الحسيات، ليكون أوقع فى النفس وأتم لدى العقل، والأمثال لدى العرب هى المهيع المسلوك، والطريق المتبع، لإيضاح المعاني إذا أريد تثبيتها لدى السامعين، والقرآن الكريم ملىء بها، والسنة النبوية جرت على منهاجه، فكثيرا ما تتبع المسائل الهامة بضرب الأمثال لها، لتستقر فى النفوس، وتنقش فى الصدور. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) أي ألم تعلم أيها الإنسان علم اليقين، كيف ضرب الله مثلا ووضعه الموضع اللائق به. (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) أي إن الله جلت قدرته شبه الكلمة الطيبة وهى الإيمان الثابت فى قلب المؤمن الذي يرفع به عمله إلى السماء كما قال: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» وتنال بركته وثوابه فى كل وقت، فالمؤمن كلما قال لا إله إلا الله صعدت إلى السماء وجاءت بركتها وخيرها- بالشجرة الطيبة المثمرة الجميلة المنظر الشذّية الرائحة التي لها أصل راسخ فى الأرض به يؤمن قلعها وزوالها، وفروعها متصاعدة فى الهواء (فيكون ذلك دليلا على ثبات الأصل ورسوخ العروق، وعلى بعدها عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية) فتأتى الثمرة نقية خالية من جميع الشوائب، وتثمر فى كل حين بأمر ربها وإذنه، وإذا اجتمع لهذه الشجرة كل هذه المميزات كثر رغبة الناس فيها. وخلاصة ذلك- إنه تعالى شبه كلمة الإيمان بشجرة ثبتت عروقها فى الأرض، وعلت أغصانها إلى السماء، وهى ذات ثمر فى كل حين، ذاك أن الهداية إذا حلت قلبا فاضت منه على غيره، وملأت قلوبا كثيرة، فكأنها شجرة أثمرت كل حين، لأن ثمراتها دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وكل قلب يتلّقى عما يشاكله، ويأخذ منه بسرعة أشد من سرعة إيقاد النار فى الهشيم، أو سريان الكهرباء فى المعادن، أو الضوء فى الأثير.

وقد روى عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هى قول «لا إله إلا الله» وأن الشجرة الطيبة: هى النخلة، وعن ابن عمر قال «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أخبرونى عن شجرة تشبه الرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها لا صيفا ولا شتاء وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. قال ابن عمر فوقع فى نفسى أنها النخلة، ورأيت أبابكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: النخلة. فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع فى نفسى أنها النخلة، قال ما منعك أن تتكلم؟ قلت لم أركم تتكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا، قال عمر: لأن تكون قلتها أحبّ إلىّ من كذا وكذا» رواه البخاري. ثم نبه سبحانه إلى عظم هذا المثل ليكون ذلك داعية تدبره ومعرفة المراد منه فقال: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إن فى ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير للناس، لأن أنس النفوس بها أكثر، فهى تخرج المعنى من خفىّ إلى جلىّ، ومما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، وبها يطبق المعقول على المحسوس فيحصل العلم التام بالشيء الممثل له. (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي ومثل كلمة الكفر وماشا كلها مثل شجرة خبيثة كالحنظل ونحوه مما ليس له أصل ثابت فى الأرض، بل عروقها لا تتجاوز سطحها، وقد اقتلعت من فوق الأرض، لأن عروقها قريبة منه، أو لا عروق لها فى الأرض، فكما أن هذه لاثبات لها ولا دوام، فكذلك الباطل لا يدوم ولا يثبت، بل هو زائل ذاهب، وثمره مرّكريه كالحنظل. وما أقوى الحق وأثبته، وأكثر نفعه للناس، فهو ثابت الدعائم متين الأركان، وما كل حين كالنخل. والخلاصة- إن أرباب النفوس العالية وكبار المفكّرين هم أصحاب الكلمة الطيبة، وعلومهم تعطى أممهم نعما ورزقا فى الدنيا، وهى مستقرة فى نفوسهم، وفروعها ممتدة

إلى العوالم العلوية والسفلية، وتثمر كل حين لأبناء أمتهم ولغيرهم، فيهتدى بها المؤمنون، وما أشبههم بالنخلة التي لها أصل مستقر وفروع عالية وثمر دائم ويأكل الناس منها صيفا وشتاء. وأرباب الشهوات والنفوس الضعيفة والمقلّدون فى العلم هم أصحاب الكلمة الخبيثة التي لا ثبات لها كالحنظل. وبعد أن وصف الكلمة الطيبة بما سلف أخبر بفوز أصحابها ببغيتهم فى الدنيا والآخرة فقال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي يثبتهم بالكلمة الطيبة التي ذكرت صفاتها العجيبة فيما سلف مدة حياتهم، إذا وجد من يفتنهم عن دينهم ويحاول زللهم كما جرى لبلال وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبعد الموت فى القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة، وفى مواقف القيامة فلا يتلعثمون ولا يضطربون إذا سئلوا عن معتقدهم ولا تدهشهم الأهوال. أخرج ابن أبى شيبة عن البراء بن عازب أنه قال فى الآية: التثبيت فى الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل فى القبر فقالا له: من ربك؟ قال ربى الله، وقالا: وما دينك؟ قال دينى الإسلام، وقالا وما نبيك؟ قال نبي محمد صلى الله عليه وسلّم. وعن عثمان بن عفان قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» أخرجه أبو داود. وقد وردت أحاديث كثيرة فى سؤال الملائكة للميت فى قبره وفى جوابه لهم، وفى عذاب القبر وفتنته وليس هذا موضعها. نسأل الله التثبيت فى القبر وحسن الجواب بمنه وكرمه، إنه على ما يشاء قدير. وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة، والآخرة يوم القيامة، والعرض للحساب، وبعد أن وصف الكلمة الخبيثة فى الآية المتقدمة بين حال أصحابها بقوله:

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 إلى 31]

(وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) أي ويخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه بحسب إرادتهم واختيارهم، لسوء استعدادهم وميلهم مع شهوات النفوس وتدسيتها بصنوف الشرور والمعاصي، سنة الله فى عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا. والمراد بالظالمين هنا الكفار، لأنهم ظلموا أنفسهم بتبديلهم فطرة الله التي فطر الناس عليها وعدم اهتدائهم إلى القول الثابت. أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضى الله عنهما «إن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره أقعد فقيل له من ربك؟ لم يرجع إليهم شيئا وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له ولم يرجع إليه شيئا، فذلك قوله تعالى: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) » . (وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) أي وبيده تعالى الهداية والإضلال بحسب ما تقتضيه سننه العامة التي سنها فى عباده، بحسب استعداد النفوس وقبولها لكل منهما، فلا تنكروا قدرته على اهتداء من كان ضالا ولا ضلال من كان منكم مهتديا، فإن بيده تصريف خلقه، وتقليب قلوبهم، يفعل فيهم ما يشاء. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) تفسير المفردات البوار: الهلاك، يقال رجل بائر وقوم بور كما قال: «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» ويصلونها: يقاسون حرها، والأنداد: واحدهم ندّ وهو المثل والشبيه، والمصير: المرجع، والبيع: الفدية، والخلال: المخالّة والصداقة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ضرب عز اسمه الأمثال بيانا لحالى الفريقين، وذكر ما يلهمه من التوفيق فى الدارين للسعداء، وما ينال الأشقياء من الخذلان والإضلال، جزاء ما كسبت أيديهم من تدسيتهم لأنفسهم باجتراحهم للشرور والآثام، وبين أن كل ذلك يفعله على حسب ما يرى من الحكمة والمصلحة. ذكر هنا الأسباب التي أوصلتهم إلى سوء العاقبة معجبا رسوله مما صنعوا من الأباطيل التي لا تكاد تصدر ممن له حظّ من الكفر والنظر، ولم تكن هذه الطامة خصّيصى بهم، بل كانت فتنة شعواء عمتهم جميعا «واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة» . ذاك أنهم بدلوا النعمة كفرا، والشكر جحدا وإنكارا، وليت البليّة كانت واحدة بل أضافوا إليها أخرى فاتخذوا الله الأنداد والشركاء، ثم ثلّثوا بإضلال غيرهم فكانوا دعاة الكفر وأعوان الفتنة: فلو كان همّ واحد لا حتملته ... ولكنه هم وثان وثالث ومن ثم كانت عاقبتهم التي لا مرد لها العذاب الأليم فى جهنم وبئس المصير ثم بين لرسوله أن مثل هؤلاء لا تجدى فيهم العظة، فذرهم يتمتعوا فى هذه الحياة حتى حين، ثم لا بد لهم من النصيب المحتوم. وبعد أن أمر الكافرين على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر عباده المؤمنين بعدم المغالاة فى التمتع بها، والجد فى مجاهدة النفس والهوى، ببذل النفس والمال فى كل ما يرفع شأنهم، ويقرّبهم من ربهم، وينيلهم الفوز لديه فى يوم لا تنفع فيه فدية ولا صداقة ولا خلة: «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم» . أخرج عطاء عن ابن عباس أن هؤلاء هم كفار مكة. وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن على كرم الله وجهه أنه قال فى هؤلاء المبدّلين: هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.

الإيضاح

الإيضاح عدّد سبحانه الأسباب التي أوقعت هؤلاء الأشقياء ومن شايعهم فى سوء المنقلب وحصرها فى ثلاثة: (1) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً) أي ألم تعلم وتعجب من قوم بدّلوا شكر النعمة غمطا لها وجحودا بها، كأهل مكة الذين أسكنهم الله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء وجعلهم قوّام بيته، وشرّفهم بإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلّم من بينهم، فكفروا بتلك النعمة فأصابهم الجدب والقحط سبع سنين دابا وأسروا يوم بدر، وصفّدوا فى السلاسل والأغلال، وقتل منهم العدد العديد من صناديدهم ورجالاتهم ممن كانوا يضنّون بهم ويحتفظون بمواضعهم ليوم كريهة وسداد ثغر. (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي وأحلوا من شايعهم على الكفر دار الهلاك الذي لاهلاك بعده. ثم بين هذه الدار فقال: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي هذه الدار هى جهنم دار العذاب التي يقاسون حر نارها، وبئس المستقر هى لمن أراد الله به النكال والوبال. (2) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي واتخذوا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شىء- أندادا وشركاء من الأصنام والأوثان، أشركوهم به فى العبادة كما قالوا فى الحجّ: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. (3) (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي لتكون عاقبة أمر الذين شايعوهم على ضلالهم، الصدّ والإعراض عن سبيله القويم ودينه الحنيف، والوقوع فى حمأة الكفر والضلال. ولما حكى الله عنهم هذه الهنات الثلاث، تبديل النعمة، واتخاذ الأنداد والأمثال، وإضلال قومهم، أمر نبيه أن يقول لهم على سبيل التهديد والوعيد: سيروا على ما أنتم عليه، فإنه لا فائدة فى نصحكم وإرشادكم والعاقبة النار.

(قُلْ تَمَتَّعُوا) أي تمتعوا بما أنتم فيه سادرون مما سيؤدى بكم إلى مهاوى الهلاك، من الكفران وعبادة الأوثان والأصنام والسعى فى إضلال الناس والصد عن سبيله. ثم بين جزاءهم المحتوم فقال: (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أي إن مرجعكم وموئلكم إليها كما قال: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» وسمى الله تعالى ذلك تمتعا، لأنهم تلذذوا به، وأحسوا بغبطة وسرور كما يتلذذون بالمشتهيات من النعم، وهذا الأسلوب التهكمى يستعمل فى التخاطب كثيرا فترى الطبيب يأمر مريضه بالاحتماء من بعض ما يضره ويؤذيه، ثم لا يرى منه إلا تماديا فى الإعراض عن أوامره، واتباعا لشهواته فيقول له: كل ما تريد، فإن مصيرك إلى الموت، وما مراده من ذلك إلا التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول. وكما يقال لمن سعى فى مخالفة السلطان: اصنع ما شئت، فإن مصيرك إلى السيف. وبعد أن هدد الكفار على انغماسهم فى اللذات، أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يأمر خلّص عباده بإقامة العبادات البدنية، وأداء الفرائض المالية فقال: (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي قل لهم: أقيموا الصلاة على وجهها، وأدوها كما طلب ربكم، فهى عماد الدين، وهى التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهى المصباح للمؤمن يستضىء به للقرب من ربه، وأدوا الزكاة شكرا له على نعمه الجزيلة، رأفة بعباده الفقراء سدا لخلتهم وإيجادا للتضامن والتعاون بين الإخوة فى الدين: «إنّما المؤمنون إخوة» . (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي أنفقوا ذلك فى السر والعلن، ولكل منهما حال تستحب فيها وقد تقدم القول فى تفصيل ذلك. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) أي من قبل أن يأتى اليوم الذي لا تنفع فيه فدية، ولا تجدى فيه صداقة، فلا يشفع خليل ولا يصفح، عن عقابه لمخالّته لصديقه، بل هناك العدل والقسط كما قال: «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 إلى 34]

وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» وقال: «أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ» . أدلة التوحيد المنصوبة فى الآفاق والأنفس [سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) تفسير المفردات السماء: السحاب، وكل ما علا الإنسان فأظله فهو سماء، والرزق: كل ما ينتفع به، والتسخير: التيسير والإعداد، والفلك: السفن، دائبين: أي دائمين فى الحركة لا يفتران، يقال دأب فى العمل إذا سار فيه على عادة مطردة كما قال: «تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً» آتاكم: أي أعطاكم، لا تحصوها: لا تطيقوا حصرها، والإحصاء: العد بالجصى، وكان العرب يعتمدونه فى العد كاعتمادنا فيه على الأصابع، ظلوم: أي لنفسه بإغفال شكر النعمة، كفار: شديد الكفران والجحود لها. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه، حين بدّلوا الشكر بالكفر، واتخذوا الله أندادا، فكان جزاؤهم جهنم وبئس المهاد، ثم أمر المؤمنين بإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة، شكرا لربهم على ما أوتوا من النعم، وحثا لهم على الجهاد فى سبيل كما لهم ورقبهم ببذل النفس والنفيس وهو المال، لتكمل لهم السعادة فى الدارين-

الإيضاح

شرع يذكر الأدلة المنصوبة فى الآفاق والأنفس التي توجب على عباده المثابرة على شكره ودوام الطاعة له، ويذكر النعم الجسام التي يتقلبون فى أعطافها آناء الليل وأطراف النهار، ليكون فى ذلك حث لهم على التدبر فيما يأتون وفيما يذرون، وفيه عظيم الدلالة على وجوب شكر الصانع لها، كما فيه أشد التقريع للكافرين الذين أعرضوا عن النظر والتفكر فى تلك النعم، فكان هذا داعية كفرها وجحودها، وغمطها وكنودها. الإيضاح (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي الله الذي خلق لكم السموات والأرض، هما أكبر خلقا منكم، وفيهما من المنافع لكم ما تعلمون وما لا تعلمون، وتقدم تفصيل هذا فى مواضع متعددة من كتابه الكريم. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي وأنزل من السماء غيثا أحيا به الشجر والزرع، فأثمرت لكم رزقا تأكلون منه وتعيشون به. والآية كقوله: «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» أي من ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي وذلل لكم السفن بأن أقدركم على صنعها، وجعلها طافية على وجه الماء، تجرى عليه بأمره تعالى وسخر البحر لحملها، ليقطع المسافرون بها المسافات الشاسعة من إقليم إلى إقليم لجلب ما هناك إلى هنا ونقل ما هنا إلى هناك. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) تشق الأرض شقا من قطر إلى قطر، لانتفاعكم بها حيث تشربون منها، وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم، وما أشبه ذلك. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أي دائمين فى الحركة، لا يفتران إلى انقضاء عمر الدنيا كما قال: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» وقال: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان، فالنهار لسعيكم فى أمور معاشكم وما تحتاجون إليه فى أمور دنياكم، والليل لتسكنوا فيه كما جاء فى الآية الأخرى «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتعارضان، فتارة يأخذ هذا من ذاك فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر، كما قال تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» . (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي هيّألكم كل ما تحتاجون إليه فى جميع أحوالكم من كل الذي هو حقيق أن تسألوه، سواء أسألتموه أم لم تسألوه، لأن هذه الدنيا قد وضع الله فيها منافع يجهلها الناس وهى معدّة لهم، فلم يسأل الله أحد فى الأمم الماضية أن يعطيهم الطائرات والمغناطيس والكهرباء، بل خلقها وأعطاها للناس بالتدريج، ولم يزل هناك عجائب ستظهر لمن بعدنا. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) أي لا تطيقوا عدّ أنواعها فضلا عن القيام بشكرها. وفى صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفىّ ولا مودّع ولا مستغنى عنه ربنا» . وأثر عن الشافعي أنه قال: الحمد لله الذي لا يؤدّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها، وقال شاعرهم: لو كلّ جارحة منى لها لغة ... تثنى عليك بما أوليت من حسن لكان مازاد شكرى إذ شكرت به ... إليك أبلغ فى الإحسان والمنن (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) أي إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرا لشاكر غير من أنعم عليه، فهو بذلك واضع للشكر فى غير موضعه- ذاك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم، واستحق إخلاص العبادة له، فعبد هو غيره وجعل له أندادا ليضل عن سبيله وذلك هو ظلمه، وهو جحود لنعمه التي أنعم بها عليه، لصرفه العبادة إلى غير من أنعم بها عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 إلى 41]

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) تفسير المفردات واجنبنى: أي أبعدنى، وأصل التجنب أن يكون الرجل فى جانب غير ما عليه غيره، ثم استعمل فى البعد مطلقا، وتهوى إليهم: أي تسرع شوقا وحبا، ويقوم الحساب: أي يثبت ويتحقق كما يقال قامت السوق والحرب: أي وجدتا. المعنى الجملي بعد أن نصب سبحانه الأدلة على أن لا معبود سواه، وأنه لا يجوز بحال أن يعبد غيره، وطلب إلى رسوله أن يعجب من حال قومه، إذ بدّلوا نعمة الله كفرا، وعبدوا لأوثان والأصنام.

الإيضاح

ذكر هنا أن الأنبياء جميعا حثوا على ترك عبادة الأصنام، فإبراهيم صلوات الله عليه وهو أبوهم نعى على قومه عبادتها، وطلب إلى الله أن يجنبه وبنيه ذلك، فإنها كانت سببا فى ضلال كثير من الناس، وشكر الله على أن وهب له على كبره ولديه إسماعيل وإسحاق، ثم ختم مقاله بأن يغفر له ولوالديه وللمؤمنين ذنوبهم عند العرض والحساب. الإيضاح (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) أي واذكر لقومك مذكّرا لهم بأيام الله خبر إبراهيم إذ قال: ربى المحسن إلىّ بإجابة دعائى، اجعل مكة بلدا آمنا. وقد أجاب الله تعالى دعاءه فجعله حرما لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه كما قال: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي وباعدنى وبنىّ من أن نعبد الأصنام، أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام. وقد استجيب دعاؤه فى بعض بنيه دون بعض ولا ضير فى ذلك. (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي يا رب إن الأصنام أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهدى وسبيل الحق حتى عبدوهن وكفروا بك. (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك، وإخلاص العبادة لك والبعد عن عبادة الأوثان- فإنه مستنّ بسنتى وجار على طريقتى، ومن خالف أمرى فلم يقبل منى ما دعوته إليه وأشرك بك، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه وهدايته إلى الصراط المستقيم. (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي يا رب إنى أسكنت بعض ذريتى وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذى زرع وهو وادي مكة عند بيتك الذي حرمت التعرض له والتهاون به وجعلت ما حوله حرما لمكانه.

(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده ويعمروه بذكرك وعبادتك. (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي فاجعل قلوب بعض الناس محترقة شوقا إليهم. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) أي وارزق ذريتى الذين أسكنتهم هناك من أنواع الثمار بأن تجبى إليهم ذلك من شاسع الأقطار، وقد استجاب الله ذلك كما قال: «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا» قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا فى كتابه (الإسلام والطلب الحديث) دعاء سيدنا إبراهيم يفسر ما قلناه، وهو أن الدعاء سنة طبيعية لا أكثر ولا أقل، فالنبى يدعو ربه ليلهم الناس حج البيت، فهو يستعين بسنة طبيعية وهى إلهام الخالق لنا حج البيت مع أنه يعلم أن الله قادر على أن ينزل عليهم رزقا من السماء، ولكن النبي ضرب لنا مثلا فى طريق استعمال الدعاء وقيمته، فالدعاء لا يلغى سنة طبيعية ولا يأتى بالمعجزات، ولكن الداعي يطلب من الخالق الهداية إلى إحدى السنن الطبيعية وسأضرب لك مثلا بالنسبة للمريض وعلاجه، فقد أخبرنى البعض أن من يطلب الطبيب لا يستعين بالدعاء، والحقيقة غير ذلك، فالوالد الذي يدعو ربه لشفاء ولده، لا فائدة من دعائه إذا كان ولده قد مات أو إذا كان مرضه مميتا حتما، ولكن قد يكون للمرض طرق علاج خاصة، أو يشفى من نفسه فى ظروف خاصة، فالدعاء فى هذه الحال معناه إلهام المريض ومن حوله من طبيب وغيره استعمال الطريق المؤدى إلى الشفاء، والطبيب يحتاج دائما إلى هذا الإلهام، وكم من مرة يقف فى مفترق الطرق ولا يدرى أية ناحية يسلك، وكل طريق سنة طبيعية تؤدى إلى نتيجة خاصة، والدعاء هداية إلى السنة المؤدية إلى الشفاء، وهكذا يكون الدعاء والتطبيب وكل أعمال الإنسان يكمّل بعضها بعضا وليست متناقضة، فدعاء سيدنا إبراهيم معناه أن يلهم الناس بواسطة القوانين الطبيعية حج البيت، وقد يقال ولكننا لا نشعر بإلهام من عند الله، وكل أفعالنا نتيجة مباشرة لتفكيرنا، والشخص الذي يحج

لا يشعر بإلهام أو شىء خفى، ولكن الحقيقة أن أفعال الإنسان قد تكون نتيجة تفكيره واختباراته ويكون سبب حركاتها ظاهرا وقد تكون أفعاله غير منطبقة على تفكيره واختباراته ولكنه مع ذلك يندفع إلى العمل، وكثيرا ما نشاهد أشخاصا لا يفكرون فى الحج مدة طويلة، ولكن فجأة وبدون سبب ظاهر يصممون على الحج وينفذون إرادتهم، وهذا العمل ظاهره الاختيار طبعا ولكنهم مدفوعون بقوة مسيطرة عليهم أشبه بالغريزة أو الوحى. وقد أجاب الله إبراهيم إلى دعائه، فألهم الناس الحج فى آلاف السنين وإلى ما شاء الله، لا فى مدى حياته فحسب وفى هذا إظهار لقدرة الخالق وصدق وعده اه. (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أي رجاء أن يشكروا تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء واجبات العبودية. وفى هذا إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وتحصيل الطاعات، وفى دعائه عليه السلام مراعاة للأدب والمحافظة على الضراعة وعرض الحاجة واجتلاب الرأفة، ومن ثم منّ الله عليه بالقبول وإعطاء المسئول، ولا بدع فى ذلك فهو خليل الرحمن وأبو الأنبياء جميعا. (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي أنت تعلم ما تخفى قلوبنا حين سؤالك ما نسأل، وما نعلن من دعائنا فنجهر به. (وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي ولا يخفى على الله شىء يكون فى الأرض أو فى السماء، لأن ذلك كله ظاهر متجلّ له، لأنه مدبره وخالقه، فكيف يخفى عليه. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) أي الحمد لله الذي وهب لى وأنا آيس من الولد لكبر سنى- ولدين: إسماعيل وإسحاق. (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي إن ربى لسميع دعائى الذي أدعو به من قولى: «اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» وقد كان إبراهيم سأله الولد

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 إلى 52]

بقوله: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» فلما استجاب الله دعاءه قال الحمد لله إلخ. (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي رب اجعلنى مؤديا ما ألزمتنى من فريضتك التي فرضتها علىّ. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل أيضا ذريتى مقيمى الصلاة، وقد خص الصلاة من بين فرائض الدين لأنها العنوان الذي يمتاز به المؤمن من غيره، ولما لها من المزية العظمى فى تطهير القلوب بترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) المراد بالدعاء العبادة أي ربنا تقبل عبادتى كما جاء فى قوله: «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي» . وجاء فى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ. وقال ربّكم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» . (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي ربنا اغفر لى ما فرط منى من الذنوب ولأبوىّ، وقد روى عن الحسن أن أمه كانت مؤمنة: واستغفاره لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه كما قال تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ» الآية، وللمؤمنين بك ممن تبعني على الدين الذي أنا عليه، فأطاعك فى أمرك ونهيك- يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)

تفسير المفردات

تفسير المفردات تشخص: ترتفع، مهطعين: مسرعين إلى الداعي، مقنعى رءوسهم: أي رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شىء. لا يرتد: لا يرجع، هواء: خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة، ويقال للجبان والأحمق قلبه هواء: أي لا قوة ولا رأى له كما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب: ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... فأنت مجوّف نحب هواء من زوال: أي من انتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء وضربنا لكم الأمثال: أي بينا لكم أنهم مثلكم فى الكفر واستحقاق العذاب. عزيز: أي غالب

المعنى الجملي

على أمره ينتقم من أعدائه لأوليائه، وبرزوا: أي خرجوا من قبورهم، مقرّنين أي مشدودين، فى الأصفاد: أي فى القيود واحدها صفد، سرابيلهم، واحدها سربال: وهو القميص، والقطران: دهن يتحلّب من شجر الأبهل والعرعر والتوت كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت. ويقال له الهناء، وهو أسود اللون منتن الريح تقول هنأت البعير أهنؤه إذا طليته بالهناء، وتغشى وجوههم النار: أي تعلوها وتحيط بها، بلاغ: كفاية فى العظة والتذكير. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه أن جزاء من بدّلوا نعمة الله كفرا وجعلوا له الأنداد جهنم يصلونها وبئس المهاد، وطلب إلى عباده المؤمنين مجاهدة النفس والهوى وإقامة فرائض الدين- ذكر هنا تسلية لرسوله وتهديدا للظالمين من أهل مكة أن تأخيرهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية ليس إعمال للعقوبة ولا لغفلة عن حالهم، وإنما كان لحكمة اقتضت ذلك وهم مرصدون ليوم شديد الهول، له من الأوصاف ما بيّن بعد، وعليك أيها الرسول أن تنذر الناس بقرب حلوله، وأنهم فى ذلك اليوم سيطلبون المردّ إلى الدنيا ليجيبوا دعوة الداعي، وهيهات هيهات. صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ فى الصّرع ما قرى فى الحلاب وقد كان لكم معتبر فى تلك المساكن التي تسكنونها، فإنها كانت لقوم أمثالكم كفروا بأنعم الله، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ألا إن وعد الله لرسله لا يحلف، وهو ناصرهم وخاذل أعدائه، كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا» وقال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» ومحاسبهم فى يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات. يوم يخرجون من قبورهم للحساب أمام الواحد القهار، وترى حال المجرمين يجلّ عن الوصف.

الإيضاح

وهذا الذي قصصته عليكم تبليغ وإنذار، ليتذكر به ذوو العقول الراجحة، وليعلموا أن الله واحد لا شريك له. الإيضاح (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) تقدم أن مثل هذا الخطاب من وادي قولهم: (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فهو فى صورته للنبى صلى الله عليه وسلّم والمراد أمته، وفيه تسلية للمؤمنين وتهديد للظالمين بأن الله محص أعمالهم ومحيط بها، وسيجزيهم وصفهم فى الحين الذي سبق فى علمه، وأن عقابهم لا بد آت، فتركه بمنزلة حسبانه تعالى غافلا عن أعمالهم، إذ العلم بذلك مستوجب لعقابهم لا محلة. ثم أوعدهم حلول يوم يحاسبون فيه على أعمالهم وفيه من الهول ما يحيّر اللب، ويدهش العقل فقال: (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي إنما يمهلهم ويمتعهم بكثير من لذات الحياة ولا يعجل عقوبتهم، ليوم شديد الهول ترتفع فيه أبصار أهل الموقف، وتبقى مفتوحة لا تطرف من الفزع والاضطراب. (مُهْطِعِينَ) أي يأتون مسرعين إلى الداعي بالذلة والاستكانة كما يسرع الأسير والخائف. (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي رافعيها مع دوام النظر من غير التفات إلى شىء. (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم كما كانوا يفعلون فى الدنيا فى كل لحظة، بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف من شدة الفزع والخوف. (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي إنها مضطربة تجيش فى صدورهم، تجىء وتذهب، ولا تستقر فى مكان حتى تبلغ الحناجر، لشدة ما يرون من هول موقف الحساب. ثم ذكر مقالتهم حين يرون هذا الهول وما فيه من العذاب فقال: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ

نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) أي وحوّف أيها الرسول القوم الظالمين، وازجرهم عما هم عليه من الظلم شفقة بهم- هول يوم العذاب وشدته حين يقولون من الهلع والجزع: ربنا أرجعنا إلى الدنيا، وأمهلنا أمدا قريبا، نجب فيه دعوة الرسل إلى توحيدك، وإخلاص العبادة لك، بعد أن جحدنا ذلك. ثم رد عليهم مقالتهم بقوله: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي وحينئذ يقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: ألم تحلفوا فى الدنيا أنكم إذا متّم لا تخرجون لبعث ولا حساب كما حكى الله عنهم «وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت» فذوقوا وبال أمركم. أخرج البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى فى أربع منها، فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون: «رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟» فيجيبهم الله عزّ وجلّ «ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» ثم يقولون: «رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» فيجيبهم جل شأنه: «فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الآية، ثم يقولون: «رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» فيجيبهم تبارك وتعالى: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ» الآية، ثم يقولون: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» فيجيبهم جل جلاله «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» فيقولون «رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» فيجيبهم جلا وعلا «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» فلا يتكلمون بعدها إن هو إلا زفير وشهيق وحينئذ ينقطع رجاؤهم ويقبل بعضهم ينبح فى وجه بعض وتطبق عليهم جهنم. اللهم إنا نعوذ

بك من غضبك، ونلوذ بكنفك من عذابك، ونسألك التوفيق للعمل الصالح فى يومنا لغدنا، والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا اه. (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أي وأقمتم فيها واطمأننتم وسرتم سيرة من قبلكم فى الظلم والفساد، لم تفكروا فيما سمعتم من أخبار من سكنوها قبلكم ولم تعتبروا بأيام الله فيهم وأنه أهلكهم بظلمهم، وأنكم إن سرتم سيرتهم حاق بكم مثل ما حاق بهم، بعد أن تبين لكم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقوبة بمعاينة آثارهم وتواتر أخبارهم، ومثلنا لكم فيما كنتم مقيمين عليه من الشرك الأشباه والنظائر، فلم ترعووا ولم تتوبوا من كفركم. الآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم من العذاب ما نزل؟ فهيهات هيهات، قد فات ما فات، ولن يكون ذلك حتى يلج الجمل فى سم الخياط. ثم بين أن حالهم كحال من سبقهم حذو القذّة بالقذّة فقال: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي وقد مكروا فى إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم الذي استفرغوا فيه كل جهدهم، وأحكموا أسبابه حتى لم يبق فى قوس الحق منزع. ثم ذكر بعدئذ أن الله عليم بكل ما دبّروا فقال: (وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) أي ومكتوب عند الله مكرهم، وهو لا محالة لمجازيهم عليه، ومعذبهم من حيث لا يشعرون. والخلاصة- عند الله جزاؤهم وما هو أعظم منه، فرأيهم آفن، إذ هم سلكوا طريقا كان ينبغى البعد عنها بعد أن استبان فسادها. ثم ذكر أن عاقبة مكرهم الخسران والبوار فقال: (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أي وما كان مكرهم لتزول به آيات الله وشرائعه، ومعجزاته الظاهرة على أيدى الرسل التي هى كالجبال فى الرسوخ والثبات.

والخلاصة- تحقير شأن مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات الثابتة ثبوت الجبال، فليس بمزيل شيئا منها مهما قوى وكان غاية فى المتانة والعظم. (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) هذا الخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلّم على نهج سالفه، والمقصود منه تثبيت أمته على ثقتهم بوعد ربهم وتيقنهم بإنجازه، بتعذيب الظالمين وأنه منزل سخطه بمن كذّبه وجحد نبوته. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) أي غالب على أمره، لا يمتنع منه من أراد عقوبته، قادر على كل من طلبه، لا يفوته بالهرب منه، وهو ذو انتقام ممن كفر برسله، وكذبتهم وجحد نبوتهم، وأشرك به واتخذ معه إلها غيره. ثم ذكر زمان الانتقام فقال: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) أي إنه تعالى ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض بأن تتطاير هذه الأرض كالهباء وتصير كالدخان المنتشر ثم ترجع أرضا أخرى بعد ذلك، وتبدل السموات بانتشار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها. قال ابن عباس رضى الله عنهما هى تلك الأرض إلا أنها تغيرت فى صفاتها، فتسير عن الأرض جبالها، وتفجّر بحارها وتسوّى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت، وروى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يبدل الله الأرض غير الأرض فيسطها ويمدها مدّ الأديم العكاظىّ، فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا» . وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن التي أيدها العلم الحديث وانطبقت عليه أشد الانطباق، فعلماء الفلك الآن يقولون إن الأرض والشمس وسائر الكواكب السيارة كانت فيما مضى كرة نارية حارة طائرة فى الفضاء، ودارت على محورها ملايين السنين، ثم تكونت منها الشمس، وبعد ملايين أخرى فصلت منها السيارات ومنها الأرض، وبعد مئات الألوف انفصلت عنها الأقمار.

ولا شك أن هذه الحال بعينها ستعاد كرّة أخرى: أي إن الأرض والكواكب والشمس بعد ملايين السنين ستنحلّ مرة أخرى ويذوب ذلك الموجود كله، ويتطاير فى الفضاء حقبة من الزمن، ثم تعاد كرة أخرى وتكون شمس غير هذه الشمس وأرض غير هذه الأرض وسموات غير هذه السموات. روى مسلم عن عائشة قالت «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات- فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: على الصراط» . وروى عن أبىّ بن كعب أنه قال فى معنى التبديل: إن الأرض تصير نيرانا. وعلى الجملة فقد اتفق العلم الحديث مع الآيات والأحاديث على أن الأرض تصير نارا وأن الناس لا يكونون عليها، بل هناك ما هو أعجب وهو ما روى عن ابن مسعود وأنس رضى الله عنهما من قولهما: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة، ولا بدع فى أن تكون أرضا جديدة لم يسكنها أحد، بل تخلق خلقا جديدا. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي وخرجوا من قبورهم لحكم الله والوقوف بين يدى الواحد القهار، فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار سواه. وفى هذا من تهويل الخطب ما لا يخفى، لأنهم إذا وقفوا عند ملك عظيم قهار لا يشاركه سواه فى سلطانه كانوا على خطر، إذ لا منازع له ولا مغيث سواه. وبعد أن وصف سبحانه نفسه بكونه قهارا- بين عجز المجرمين وذلتهم فقال: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) وصفهم سبحانه بحملة أمور: (1) إنه يقرن بعضهم إلى بعضهم فى القيود ويضمّ كلّ إلى مشاركه فى كفره وعمله كما قال تعالى «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» وقال: «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ» وفى الحديث: «أنت مع من أحببت» .

(2) إن قمصهم التي يلبسونها من قطران، والمراد من ذلك أن جلود أهل النار تطلى بالقطران حتى يعود طلاؤها كالسرابيل، ليجتمع عليهم أربعة ألوان من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع اشتعال النار فى الجلود، واللون الأسود الموحش، وننن الريح. (3) إن وجوههم تعلوها النار، وتحيط بها وتسعّر أجسامهم المسربلة بالقطران، وإنما ذكرت الوجوه مع أن ذلك يكون لسائر الجسم- لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها. ونظير الآية قوله: «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» وقوله: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» . (لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي فعل الله ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبوا فى الدنيا من الآثام، لكى يثيب كل نفس بما كسبت من خير أو شر، فيجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيحاسب جميع العباد فى أسرع من لمح البصر، ولا يشغله حساب عن حساب: كما لا يشغله رزق زيد عن رزق عمرو. (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي هذا القرآن الكريم بلاغ للناس، أبلغ الله به إليهم فى الحجة، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من مواعظه وعبره. (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عقاب الله ويحذروا به نقمته. (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي وليعلموا بما احتج به عليهم من الحجج فيه، إنما هو اله واحد لا آلهة شتى كما يقول المشركون بالله، وهو الذي سخر لهم الشمس والقمر، والليل والنهار، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لهم. (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وليتذكروا ويتعظوا بما احتج الله به من الحجج، فيزدجروا عن أن يجعلوا معه إلها غيره، وفى تخصيص التذكر بأولى الألباب إعلاء لشأنهم، وإيماء إلى أنهم هم أهل النظر والاعتبار.

فذلكة لمحتويات السورة

وجملة القول: إنه سبحانه جعل لهذا البلاغ ثلاث فوائد هى الحكمة من إنزال الكتب والرسل: (1) إن الرسل يخوّفون الناس عقاب الله وينذرونهم بأسه، ليكمّلوهم بمعرفة ربهم وتقواه والعمل على طاعته. (2) إن الناس ترتقى قوتهم النظرية إلى منتهى كما لها، بتوحيد الخالق والاعتراف بأنه مدبر الكون والمسيطر عليه. (3) إنهم يستصلحون قوتهم العملية بتدرعهم بلباس التقوى. فذلكة لمحتويات السورة (1) هداية الناس إلى معرفة ربهم الخالق للسموات والأرض. (2) دم الكافرين الذين يستحبون الدنيا ويصدّون عن الدين القويم. (3) بيان أن الرسل إنما يرسلون بلغات أقوامهم، ليسهل عليهم فهم الأوامر والنواهي. (4) التذكير بأيام الله ببيان ما حدث للرسل مع أقوامهم، ليكون فى ذلك تسلية لرسوله، وما هدد به الأمم رسلهم من الإخراج والنفي من الديار. (5) وعيد الكافرين على كفرهم وذكر ما يلقونه من العذاب، وضرب الأمثلة لذلك. (6) وعد المؤمنين بجنات تجرى من تحتها الأنهار، وضرب المثل لذلك. (7) دعوة إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام التي أضلت كثيرا من الناس، ثم شكره على ما وهبه من الأولاد على كبر سنه، ثم طلبه المغفرة منه له ولوالديه وللمؤمنين يوم العرض والحساب.

(8) بيان أن تأخير العذاب عن المجرمين ليوم معلوم إنما كان لحكمة اقتصت ذلك، وحينئذ يرون من الذلة والصغار وسوء العذاب ما يجل عنه الوصف. ثم تفسير هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة فى صبيحة يوم الأحد لثلاثين من شهر ربيع الثاني من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه الكرام.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 تولية يوسف رئيسا لحكومة مصر 5 اللغة التي كلم بها يوسف ملك مصر 6 الجهل وسوء تدبير الثروة أضاعا كثيرا من الممالك الشرقية فى القرون الأخيرة 7 جىء بيوسف مملوكا فأصبح مالكا ذا نفوذ 9 لما ولى يوسف الوزارة ساس البلاد سياسة رشيدة وقت البلاد شر المجاعات 11 فى سفر التكوين أنه استنبأهم عن أنفسهم متنكرا لهم 12 طلب من إخوته إحضار أخيه الشقيق 13 ممانعة الأب فى إرسال الأخ ثم الإذن لهم بذلك 15 أخذه العهد والميثاق عليهم 19 مقابلتهم ليوسف بعد إحضار الأخ وحسن معاملته لهم 20 سرقة الصواع 21 قضت الحكمة الإلهية عقاب إخوة يوسف بما فرطوا فى يوسف 23 أصح ما قيل فى سرقة يوسف 26 تشاورهم فيما يفعلون عند رجوعهم إلى أبيهم 27 لم يصدقهم يعقوب فى المعاذير التي أبدوها فى عدم رجوع الأخ معهم 28 سبب ما أصاب يعقوب من ابيضاض عينيه 29 نصيحة أولاد يعقوب له على حزنه الممضّ 30 كان لدى يعقوب إلهام بأن يوسف لا يزال حيا 34 لم لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه بادئ بدء؟

الصفحة المبحث 35 تمثل النبي صلى الله عليه وسلّم حين فتح مكة بقول يوسف لا تثريب عليكم اليوم 39 كيف شم يعقوب رائحة يوسف 41 تأويل رؤيا يوسف من قبل 43 خرّ يعقوب وأولاده سجدا ليوسف 45 طلب يوسف من ربه حسن الخاتمة 46 فى ذكر قصص يوسف إثبات لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم 50 التوسل إلى الله بصالح عباده 51 الحكمة فى إبهام وقت الساعة 52 الدين الإسلامى دين حجة وبرهان لا دين تقليد وتسليم 53 أرسل الله من البشر رسلا من قبل محمد فكيف يعجبون من رسالته عليه السلام؟ 55 نصر الله رسله ينزل حين ضيق الحال وانتظار الفرج 56 فى قصص يوسف عبرة لذوى البصائر 61 اهتدى المسلمون بهدى القرآن فامتلكوا أكثر المعمور 63 الأدلة على وجود الله ووحدانيته وقدرته 67 تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله 70 إنكار المشركين للبعث 72 طلبهم من النبي صلى الله عليه وسلّم آية غير القرآن 73 الرسول نذير لا جبار مسيطر 75 أقصى المدة التي يبقى فيها الجنين حيا فى الرحم 75 فى قوله عالم الغيب والشهادة دليل على وجود عوالم لا ترى بالعين المجردة كالجرائيم التي أثبتها العلم حديثا

الصفحة المبحث 77 المرء بين أربعة أملاك بالليل وأربعة بالنهار 77 ليس أمر الحفظة ببعيد من العقل بعد أن كشف العلم أن كثيرا من الأعمال العامة يمكن إحصاؤها 78 الظلم مؤذن بخراب العمران 81 وفد عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما كان من أمرهما 82 كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرعد تغير لونه حتى يعرف ذلك فى وجهه 85 تأنيب المشركين على اتخاذ الشركاء 86 من عنده مسكة من عقل لا يعبد ما لا يضر ولا ينفع 88 مثل الحق والباطل 95 كان رسول الله يأتى المقابر فيقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار 96 جزاء ناقضى العهد والميثاق 98 لا تعلق لبسطة الرزق بإيمان ولا كفر 99 طلبهم من الرسول آية غير القرآن 102 ليس محمد ببدع من الرسل ولا قومه بأول المكذبين 105 ليس ما اقترحوه من الآيات مما تقتضيه الحكمة 106 اصبر أيها الرسول كما صبر أولو العزم من الرسل 108 ليس هناك من دليل عقلى ولا نقلى على وجود الشركاء 112 مهام الرسالة 113 إنكار اليهود على النبي صلى الله عليه وسلّم كثرة الزوجات مع ذكر الحكمة فى ذلك 114 لا تأتى المعجزات إلا على مقتضى الحكمة 114 لكل أجل كتاب لا يعدوه

الصفحة المبحث 115 مثل الدنيا مثل مصنع رتبت أعماله على نهج معين لا تغيير فيه ولا تبديل 117 على الرسول البلاغ وعلى الله الحساب 118 لا معقب لحكم الله 124 الله هو خالق الأكوان، والمنفرد بالعظمة والسلطان 129 الإنسان يجب أن يكون فى هذه الحياة بين صبر وشكر 133 كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه 143 ما أعد الله لعباده السعداء من الثواب 145 محاورة بين الشيطان وأتباعه 146 مآل المتقين جنات النعيم 147 مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة 149 فائدة ضرب الأمثال 150 سؤل الملكين فى القبر 154 الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة 156 نعم الله على عباده 157 وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها 158 دعاء إبراهيم بجعل مكة بلدا آمنا 160 الدعاء سنة طبيعية 161 إجابة دعاء إبراهيم 164 سيطلب المجرمون العودة إلى الدنيا وهيهات هيهات 165 وصف حال المجرمين فى ذلك اليوم 167 حال مشركى قومك كحال من سبقهم 168 يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات 169 سيكون المجرمون مقرنين فى الأصفاد والسلاسل

الجزء الرابع عشر تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الرابع عشر

سورة الحجر

الجزء الرابع عشر سورة الحجر هى مكية وآيها تسع وتسعون. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) إنها افتتحت بمثل ما افتتحت به سابقتها من وصف الكتاب المبين. (2) إنها شرحت أحوال الكفار يوم القيامة وتمنيهم أن لو كانوا مسلمين كما كانت السالفة كذلك. (3) إن فى كل منهما وصف السموات والأرض. (4) إن فى كل منهما قصصا مفصّلا عن إبراهيم عليه السلام. (5) إن فى كل منهما تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم بذكر ما لاقاه الرسل السالفون من أممهم وكانت العاقبة للمتقين. [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)

شرح المفردات

شرح المفردات ربما (بضم الراء وتخفيف الباء وتشديدها) كلمة تدل على أن ما بعدها قليل الحصول، فإذا قيل ربما زارنا فلان دل على أن حصول الزيارة منه قليل، يلههم: أي يشغلهم من قولهم: لهيت عن الشيء ألهى لهيا إذا أعرضت عنه، ما تسبق: أي ما يتقدم زمان أجلها. الإيضاح (الر) تقدم القول فى بيان معانى هذه الحروف ومبانيها، فذكرنا أنها حروف تنبيه بمنزلة ألا، ويا، وينطق بأسمائها ساكنة فيقال: (ألف. لام. را) . (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) أي تلك السورة من آيات ذلك الكتاب الكامل من بين سائر الكتب المنزلة من عند الله، المبين للرشد من الغى، والمظهر فى تضاعيفه للحكم والأحكام. (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) هذا إخبار من الله عن الكفار بأنهم سيندمون فى الآخرة على ما كانوا عليه من الكفر، ويتمنون أن لو كانوا فى الدنيا مسلمين. عن أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا اجتمع أهل النار فى النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا بلى، قالوا فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا فى النار؟ قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان فى النار من أهل القبلة فأخرجوا، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا يا ليتنا كنا مسلمين

فنخرج كما خرجوا، قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين، ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين» . ونحو الآية قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . قال الزجاج: إن الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم ودّ أن لو كان مسلما. وقصارى ذلك- قد يتمنى الذين كفروا لو كانوا مسلمين حينما يعاينون العذاب وقت الموت: «والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون» وفى الموقف حينما يرون هول العذاب وقد انصرف المسلمون إلى الجنة وسيقوا هم إلى النار، والمسلمون المذنبون عذّبوا بذنوبهم ثم خرجوا منها وبقي الكافرون فى جهنم. وقد جاءت (ربما) للتقليل على سنة العرب فى نحو قولهم: ربما تندم على ما فعلت، ولعلك تندم على ما فعلت، لا يقصدون التقليل فى نحو ذلك، وإنما يريدون أن الندم لو كان مشكوكا فيه أولو كان قليلا لحق عليك ألا تفعل هذا الفعل، إذ العاقل يتحرز من التعرض للغم المظنون كما يتعرض للغم المتيقن، ويبتعد عن القليل منه كما يبتعد عن الكثير. (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي دعهم أيها الرسول فى غفلاتهم يأكلون كما تأكل الأنعام، ويتمتعون بلذات الدنيا وشهواتها، وتلهيهم الآمال عن الآجال، فيقول الرجل منهم غدا سأنال ثروة عظيمة، وأحظى بما أشتهى، ويعلو ذكرى، ويكثر ولدي، وأبنى القصور، وأكثر الدور، وأقهر الأعداء، وأفاخر الأنداد، إلى نحو ذلك مما يغرق فيه من بحار الأمانى والآمال وطلب المحال. ثم علل الأمر بتركهم بقوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء صنيعهم إذا هم عاينوا سوء جزائهم، ووخامة عاقبتهم وفى هذا وعيد بعد تهديد، وإلزام لهم بالحجة ومبالغة فى الإنذار، وقد

جاء فى أمثالهم (أعذر من أنذر) وإيماء إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها- ليس من أخلاق المؤمنين. أخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن شعيب مرفوعا قال: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» . وروى عن الحسن أنه قال: ما أطال عبد الأمل، إلا أساء العمل، وروى عن على أنه قال: إنما أخشى عليكم اثنتين، طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسى الآخرة، واتباع الهوى يصدّ عن الحق. وبعد أن هدد من كذب الرسول بقوله: ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل، ذكر سر تأخير عذابهم إلى يوم القيامة وعدم التعجيل به كما فعل بكثير من الأمم السالفة فقال: (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي وما أهلكنا قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها، أو بإخلائها من أهلها بعد إهلاكهم كما فعل بأخرى، إلا ولها أجل مقدر مكتوب فى اللوح المحفوظ لا ينسى ولا يغفل عنه ولا يتقدم عن وقته ولا يتأخر. وخلاصة ذلك- إننا لو شئنا لعجلنا لهم العذاب فصاروا كأمس الدابر، ولكن لكل أجل كتاب، وشأننا الإمهال لا الإهمال. وبعد أن بين سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين لهلاكهم بحسب ما هو مكتوب فى اللوح- بين أن كل أمة منهم ومن غيرهم لها أجل لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقال: (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا يجىء هلاك أمة قبل محىء أجلها، ولا يتأخر الهلاك متى حل الأجل. وفى هذا تنبيه لأهل مكة وارشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والإلحاد

[سورة الحجر (15) : الآيات 6 إلى 15]

الذي يستحقون به الهلاك، وزجر لهم بأن هذا الإمهال لا ينبغى أن يغترّوا به، فالهلاك مدّخر لهم لا يتقدم ولا يتأخر. [سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 15] وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) تفسير المفردات الذكر: هو القرآن، و (لوما) مثل (هلا) كلمة تفيد الحث والحضّ على فعل ما يقع بعدها، منظرين: أي مؤخرين، والشيع: واحدهم شيعة وهى الجماعة المتفقة على مبدأ واحد فى الدين والمعتقدات، أو فى المذاهب والآراء. نسلكه: أي ندخله يقال سلكت الخيط فى الإبرة: أي أدخلته فيها، يعرجون: يصعدون، سكّرت: سددت ومنعت من الإبصار، مسحورون: أي سحرنا محمد بظهور ما أبداه من الآيات المعنى الجملي بعد أن هدد سبحانه الكافرين وبالغ فى ذلك أيما مبالغة- شرع يذكر بعض مقالاتهم فى محمد صلى الله عليه وسلم المتضمنة للكفر بما جاء به، ثم يذكر ما هم فيه من

الإيضاح

جحود وعناد بلغا مدى تنكر معه المشاهدات، ويدّعى معه السحر والخداع حين رؤية المبصرات. ثم ذكر سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم تسلية له أن ما صدر منهم من السفه ليس بدعا، فهذا دأب كل محجوج، فكثير من الأمم السالفة فعلت مثل هذا مع أنبيائها، فلك أسوة بهم فى الصبر على سفاهتهم وجهلهم. قال مقاتل: القائلون هذه المقالة هم عبد الله بن أمية والنضر بن الحرث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة من صناديد قريش. الإيضاح (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي وقالوا استهزاء وتهكما: أيها الرجل الذي زعم أنه نزّل عليه القرآن: إن ما تقوله أملاه عليك الجنون، وليس له معنى معقول، وهو مخالف لآرائنا، بعيد من معتقداتنا، فكيف نقبل ما لا تقبله العقول، ولا ترضاه الفحول، من رجالاتنا الفخام، وعشائرنا العظام؟ (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي إن كان ما تدعيه حقا وقد أيدك الله وأرسلك، فما منعك أن تسأله أن ينزل معك ملائكة من السماء يشهدون بصدق نبوتك. وخلاصة ذلك: إن من يخالف آراءنا إما مجنون وإما له سلطان عظيم من ربه، وحينئذ فماذا يمنعه أن يقويه بالملائكة ليشهدوا بصدقه؟. ونحو الآية قوله: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ» وقال فرعون فى شأن موسى: «فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين» وقوله: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» .

وقد أجاب الله عن اقتراحهم فقال: (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما ننزل الملائكة إلا بالحكمة والفائدة، وليس فى نزول الملائكة من السماء وأنتم تشاهدونهم- فائدة لكم، لأنكم إذا رأيتموهم قلتم إنهم بشر لأنكم لا تطيقون رؤيتهم إلا وهم على الصورة البشرية، إذ هم من عالم غير عالمكم، وإذا قالوا نحن ملائكة كذبتموهم، لأنهم على صورتكم فيحصل اللبس ولا تنتفعون بهم وإلى هذا أشار فى سورة الأنعام بقوله: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» . (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) أي إن فى نزول الملائكة ضررا لهم لا محالة، لأنا مهلكهم ولا نؤخرهم، إذ قد جرت عادتنا فى الأمم قبلهم أنهم إذا اقترحوا آية وأنزلناها عليهم ولم يؤمنوا بها- يكون العذاب فى إثرها، فلو أنا أنزلناهم ولم يؤمنوا بهم لحق عليهم عذاب الاستئصال ولم ينظروا ساعة من نهار. والخلاصة- إنه ليس فى إنزال الملائكة إليهم فائدة لهم بل فيه اللبس عليهم، إلى ما فيه من الضرر المحقق لهم وهو الهلاك، وحينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم. ثم أجاب سبحانه عن قولهم الأول، وردّ إنكارهم تنزيل الذكر واستهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم وسلّاه على ذلك بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي إنما أنتم قوم ضالون مستهزئون بنبينا، وليس استهزاؤكم بضائره، لأنا نحن نزلنا القرآن ونحن حافظوه، فقولوا إنه مجنون، ونحن نقول: إنا نحفظ الكتاب الذي أنزلناه عليه من الزيادة والنقص، والتغيير والتبديل، والتحريف والمعارضة، والإفساد والإبطال. وسيأتى فى مستأنف الأزمان من يتولون حفظه والذب عنه، ويدعون الناس إليه، ويستخرجون لهم ما فيه من عبر وحكم، وآداب وعلوم، تناسب ما تستخرجه

العقول من المخترعات، وتستنبطه الأفكار من نظريات وآراء فيستنير بها العارفون، ويهتدى بهديها المفكرون، فلا تبتئس أيها الرسول بما يقولون وما يفعلون. ثم سلّى رسوله عما أصابه من سفه قومه وادعائهم جنونه- بأن هذا دأب الأمم المكذبة لرسلها من قبل، فلقد أصابهم مثل ما أصابك من قومك، فاستهزءوا بهم كما استهزأ قومك بك، فنصرنا رسلنا وكبتنا أعداءهم، وسيكون أمركم وأمرهم كذلك، وإلى ذلك أشار بقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي إننا أرسلنا قبلك رسلا لأمم قد مضت، وما أتى أمة رسول إلا كذبوه واستهزءوا به، لما جرت به العادة من أن فعل الطاعات وترك اللذات- مستثقل على النفوس- إلى أنهم يدعونهم إلى ترك ما ألفوا من المعتقدات الخبيثة، وترك عبادة الأوثان الباطلة، وذلك مما يشق على النفوس، إلى أن الرسول قد يكون فقيرا لا أعوان له ولا أنصار، ولا مال ولا جاه، فلا يتبعه الرؤساء وذوو البأس والقوة، بل يعملون على مشاكسته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، إلى أن الله يخذلهم ويلقى دواعى الكفر فى قلوبهم بحسب السنن التي سنها لعباده كما يرشد إلى ذلك قوله: (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي كذلك نلقى القرآن فى قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لديهم، لأنه ليس فى نفوسهم استعداد لتلقى الحق، ولا تضىء نفوسهم بمصابيح هدايته الربانية، كما كانت حال الأمم الماضية حين ألقيت عليهم الكتب المنزّلة من الملأ الأعلى. وقد جرت سنة الله فى الأولين ممن بعث إليهم الرسل أن يخذلهم ويدخل لكفر والاستهزاء فى قلوبهم، ثم يهلكهم وتكون العاقبة للمتقين والنصر حليف رسله والمؤمنين، فلك أسوة بالرسل قبلك مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدي فى ذلك. والخلاصة- هكذا نفعل باللاحقين كما فعلنا بالسابقين، ويستهزىء بك

المجرمون ولا يؤمنون بكتابنا، وسيحل بهم مثل ما حل بالأولين وننصرك عليهم بعد حين كما قال: «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» . ثم بين سبحانه عظيم عنادهم ومكابرتهم للحق فقال: (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) أي ولو فتحنا على هؤلاء المعاندين بابا من السماء فظلوا فى ذلك الباب يصعدون، فيرون من فيها من الملائكة، وما فيها من العجائب- لقالوا لفرط عنادهم وغلوهم فى المكابرة: إنما سدت أبصارنا، فما نراه تخيل لا حقيقة له، وقد سحرنا محمد بما يظهر على يديه من الآيات. ونحو الآية قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» . وخلاصة هذا- هبنا فتحنا عليهم بابا من السماء وقلنا لهم اعرجوا فيه، أفلا يقولون فى أنفسهم ويقول بعضهم لبعض: إنما سحرنا محمد كما يفعل علماء السيميا. إذ يفعلون أفعالا تخيل للإنسان أنه طائر وليس بطائر، وكما يفعل علماء التنويم المغناطيسى فى هذه الأيام، فالمنوّم يقول للمنوّم: أنت ملك. أنت امرأة. أنت كذا فيصدّق كل ما قيل له. وهكذا فى النوع البشرى أقوام لهم قدرة على استهواء العقول فيخيلون للإنسان ما لا حقيقة له، وقد أصبح هذا العلم فنّا يدرس فى معاهد أوربا وأمريقا. فكيف يكون مثل هذا دليلا أو موجبا للتصديق؟ كلا فإن أمثال ذلك لا يقوم بهداية نوع الإنسان. وبعد فكيف يقترح هؤلاء عليك الآيات، ويغرمون بما يخرق العادات، من ملائكة يرونها، وعجائب ينظرونها، وهل تغنى تلك الآيات، وهل النوع الإنسانى يكفيه ما يخالف العادات؟ فما يشتبه على الناس بأفعال السحرة والمشعوذين يوقعهم

[سورة الحجر (15) : الآيات 16 إلى 20]

فى اللبس، فكم من نبى أيدناه بمثل تلك الآيات ولم يؤمن به من قومه إلا قليل منهم، وما الآيات إلا ما تفهمه العقول، وتمحّصه القرائح درسا وتحليلا، وبحثا واستنباطا. [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 20] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) تفسير المفردات البروج: واحدها برج وهى النجوم العظام، ومنها نجوم البروج الاثني عشر المعروفة فى علم الفلك، للناظرين: أي المفكّرين المستدلين بذلك على قدرة مقدّرها وحكمة مدبّرها، وحفظناها: أي منعناها، والرجيم: أي المرجوم المرمى بالرّجام: أي الحجارة، والمراد بالرجيم هنا المرمىّ بالنجوم، واسترق: من السرقة، وهى أخذ الشيء خفية شبه به خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى، والسمع: المراد به ما يسمع، والشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن السحاب فى الجو وتبعث القوم تبعا وتباعة بالفتح: أي مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم وأتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، مددناها: أي بسطناها، والرواسي: واحدها راسية وهى الجبال الثوابت. موزون: أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة والمصلحة. المعنى الجملي بعد أن ذكر شديد جحودهم وأنهم مهما أوتوا من الآيات لم يفدهم ذلك شيئا حتى بلغ من أمرهم أن ينكروا المشاهدات ويدعوا الخداع حين رؤية المبصرات،

الإيضاح

- أعقب هذا ببيان أنهم قد كانوا فى غنى عن كل هذا، فإن فى السماء وبروجها العالية، وشموسها الساطعة، وأقمارها النيّرة، وسياراتها الدائرة، وثوابتها الباسقة عبرة لمن اعتبر، وحجة لمن ادّكر، فهلّا نظروا إلى الكواكب وحسابها، ونظامها ومداراتها، وكيف حدثت بها الفصول والسنون، وكيف كان ذلك بمقادير محدودة وأوقات معلومة؟ لا تغيير فيها ولا تبديل، فبأمثال هذا يكون اليقين، وبالتدبر فيه تقوى دعائم الدين، ويشتد أزر سيد المرسلين. وهلّا رأوا الأرض كيف مدّت، وثبتت جبالها، وأنبتت نباتها، بمقادير معلومة موزونة فى عناصرها وأوراقها، وأزهارها وثمارها، وجعل فيها معايش للإنسان والحيوان. أفلا يعتبرون بكل هذا؟ «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟» . الإيضاح (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) أي ولقد خلقنا فى السماء نجوما كبارا ثوابت وسيارات، وجعلناها وكواكبها بهجة لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من عجائبها الظاهرة، وآياتها الباهرة، التي يحار الفكر فى دقائق صنعتها، وقدرة مبدعها. ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي ومنعنا كل شيطان رجيم من القرب منها كما قال فى آية أخري. «وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» أي وحفظناها من كل شيطان خارج من الطاعة برميه بالشهب، كما تحفظ المنازل من متجسس يخشى منه الفساد. (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) أي لكن من أراد اختطاف شىء من عالم الغيب مما يتحدث به الملائكة فى الملأ الأعلى- تبعه كوكب مشتعل

نارا ظاهرا للمبصرين فأحرقه، ولم يصل إلى معرفة شىء مما يدبّر فى ملكوت السموات، وبهذا المعنى قوله: «لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ» . وجاء بمعنى الآية قوله فى سورة الجن حكاية عنهم: «وأنّا لمسنا السّماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا. وأنّا كنّا نقعد منها مقاعد للسّمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» وقوله فى صورة الملك: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» . وبعد، فالكتاب الكريم أخبر بأن الشياطين أرادوا أن يختطفوا شيئا من أخبار الغيب مما لدى الملائكة الكرام، فسلّطت عليهم الشهب المشتعلة، والنجوم المتقدة، فأحرقتهم، ولا نبحث عن معرفة كنه ذلك، ولا ننعم فى النظر، لندرك حقيقته، لأنا لم نؤت من الوسائل والأسباب ما يمكننا من معرفة ذلك معرفة صحيحة، تجعلنا نؤمن به إيمانا مبنيا على البرهان بوسائله المعروفة، وليس لنا إلا التصديق بما جاء فى الكتاب وأوحى به إلى النبي الكريم، والبحث وراء ذلك لا يقفنا على علم صحيح، بل على حدس وتخمين، لا حاجة للمسلم به للاطمئنان فى دينه، فالأحرى به أن يعرض عنه لئلا يحيد عن القصد، ويضل عن سواء السبيل. وبعد أن ذكر الدلائل السماوية على وحدانيته أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال: (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي وقد بسطنا الأرض وجعلناها ممتدة الطول والعرض والعمق، ليمكن الانتفاع بها على الوجه الأكمل، وهذا فيما يظهر فى مرأى العين، فلا يدل على نفى الكروية عن الأرض، لأن الكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي. (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت خوف أن تضطرب بسكانها كما قال فى آية أخرى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» وقد سبق تفصيل ذلك فى سورة الرعد.

(وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي إن كل نبات قد وزنت عناصره وقدرت تقديرا، فترى العنصر الواحد يختلف فى نبات عنه فى آخر بوساطة امتصاص الغذاء من العروق الضاربة فى الأرض ومنها يرفع إلى الساق والأغصان والأوراق والأزاهير، والذي حدد هذا الاختلاف، تلك الفتحات الشعرية التي فى ظواهر الجذور وثقوب كل نبات لا تسع إلا المقدار اللازم لها من العناصر وتطرد ما سواه، لأنه لا يلائمها، إذ هى قد كونت على هيئة خاصة بحيث لا تبتلع إلا تلك المقادير بعينها. وهاك عنصر البوتاس تره يدخل فى حب الذرة الذي نأكله بمقدار 32 وفى القصب 3 ر 34 وفى البرسيم بمقدار 6 ر 34 وفى البطاطس بمقدار 5 ر 61 وبهذا التفاوت صلح القصب لأن يكون سكرا، والبرسيم لأن يكون قوتا للبهائم، والذرة والبطاطس لأن تكونا قوتا للإنسان. وحسبك دليلا على ذلك ما تجده فى سورة الرحمن من قوله: «وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ» كما نظم سبحانه الكواكب فى سيرها وأوضاعها، وحركاتها وأضوائها، ووزن عناصرها بمقادير يتناسب بعضها مع بعض. فلك الحمد ربنا جعلت كل شىء فى الحياة موزونا بقدر معلوم، لتتدبر نظم الحياة، فنعرف قدرة منشىء العالم، وأنه لم يخلق شيئا فيه جزافا، ليكون فيه دليل على قدرة المبدع والمدبر له حال وجوده. (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي إن أنواع معايشكم من غذاء وماء، ولباس ودواء، قد سخرناها لكم فى الأرض، فلا السمك فى البحر غذّيتموه، ولا الطير فى الجوّ ربيتموه، ولا غيرهما من أشجار الجبال والغابات وحيوان البر والبحر خلقتموه. (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أي وجعلنا لكم فيها من لستم رازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب. وفى هذا إيماء إلى أن الله يرزقهم وإياهم لا أنهم يرزقون منهم، وفى ذلك عظيم المنة، وجزيل الفضل والعطاء، وواسع الرحمة لعباده.

[سورة الحجر (15) : الآيات 21 إلى 25]

وخلاصة هذا- إنه سبحانه يسّر لكم أسباب المكاسب، وصنوف المعايش وسخّر لكم الدواب التي تركبونها، والأنعام التي تأكلونها، والعبيد التي تستخدمونها، فكل أولئك رزقهم على خالقهم لا عليكم، فلكم منها المنفعة، ورزقها على الله تعالى. [سورة الحجر (15) : الآيات 21 الى 25] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) تفسير المفردات الخزائن: واحدها خزانة وهى المكان الذي تحفظ فيه نفائس الأموال، واللواقح: واحدها لاقح أي ذات لقاح وحمل، وأسقيناكموه: أي جعلناه لكم سقيا لمزارعكم ومواشيكم، تقول العرب إذا سقت الرجل ماء أو لبنا سقيته، وإذا أعدوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته قالوا أسقيته أو أسقيت أرضه أو ماشيته. والمستقدمين: من ماتوا، والمستأخرين: الأحياء الذين لم يموتوا بعد. المعنى الجملي بين سبحانه فيما سلف أنه أنزل النبات وجعل لنا فيه معايش فى هذه الحياة وهنا أتبعه بذكر ما هو كالسبب فى ذلك، وهو أنه تعالى مالك كل شىء وأن كل شىء سهل عليه، يسير لديه، فإن عنده خزائن الأشياء من النبات والمعادن النفيسة المخلوقات البديعة مما لا حصر له.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي ما من شىء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده والإنعام به متى أردنا دون أن يكون تأخير ولا إبطاء، فخزائن ملكنا مليئة بما تحبون من النفائس، غير محجوبة عن الباحث الساعي إلى كسبها من وجوهها بحسب السنن التي وضعناها، والنظم التي قدرناها، ولا يمنعها مانع، ولا يستطيع دفعها دافع، فهى تحت قبضة الطالب لها إذا أحسن المسعى. وأحكم الطلب كما قال: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» . (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي وما نعطى ذلك ألا بقسط محدود نعلم أن فيه الكفاية لدى الحاجة، وفيه الرحمة بالعباد كما قال: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» . وقد جرت سنة القران بأن يسمى ما يصل إلى العباد بفضل الله وجوده إنزالا كما قال: «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» وقال «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» . ثم فصل بعض ما فى خزائنه من النعم فقال: (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أي إن من فضله على عباده وإحسانه إليهم أن أرسل إليهم الرياح لواقح، ويكون ذلك على ضروب. (1) أن يرسلها حاملات للسحاب، فتلقّح بها الأشجار بما تنزل عليها من الأمطار فتغيرها من حال إلى حال، فتعطيها حياة جديدة إذ تزدهر أزهارها، وتثمر أغصانها، بعد أن كانت قد ذبلت وصوّحت، وأصبحت فى مرأى العين كأنها ميتة لا حياة فيها كما قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ» .

(2) أن يرسلها ناقلة لقاح الأزهار الذكور إلى الأزهار الإناث لتخرج الثمر والفواكه للناس. (3) أن يرسلها لتزيل عن الأشجار ما علق بها من الغبار، لينفذ الغذاء إلى مسامّها فيكون ذلك رياضة للشجر والزرع كرياضة الحيوان. (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي فأنزلنا من السحاب مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب زرعكم ومواشيكم، وفى ذلك استقامة أمور معايشكم، وتدبير شئون حياتكم إلى حين كما قال: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» . (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي ولستم بخازنى الماء الذي أنزلناه، فتمنعوه من أن أسقيه من أشاء، لأن ذلك بيدي وهو خاضع لسلطانى، إن شئت حفظته على سطح الأرض، وإن شئت غار فى باطنها وتخلل طبقاتها، فلا أبقى منه شيئا ينفع الناس والحيوان، ويسقى الزرع الذي عليه عماد حياتكم. والخلاصة- نحن القادرون على إيجاده وخزنه فى السحاب وإنزاله، وما أنتم على ذلك بقادرين. وبعد أن ذكر نظم المعيشة فى هذه الحياة ذكر إحياء الإنسان وإماتته فقال: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أي وإنا لنحيى من كان ميتا إذا أردنا، ونميت من كان حيا إذا شئنا، ونحن نرث الأرض ومن عليها، فنميتهم جميعا ولا يبقى حىّ سوانا، ثم نبعثهم كلهم ليوم الحساب، فيلاقى كل امرئ جزاء ما عمل إن خيرا وإن شرا. ثم أقام الدليل على إمكان ذلك وأثبت قدرته عليه فقال: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) أي ولقد علمنا من مضى منكم وأحصيناهم وما كانوا يعملون، ومن هو حى ومن سيأتى بعدكم، فلا تخفى علينا أحوالكم ولا أعمالكم، فليس بالعسير علينا جمعكم يوم التناد للحساب والجزاء يوم ينفخ فى الصور كما قال:

[سورة الحجر (15) : الآيات 26 إلى 44]

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) فيجمع الأولين والآخرين عنده يوم القيامة، من أطاعه منهم ومن عصاه، ويجازى كلا بما عمل، بحسب ما وضع من السنن، وقدّر من ارتباط المسببات بأسبابها، وجعل لكل عمل جزاء له. ثم أكد هذا وزاده إيضاحا فقال: (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى باهر الحكمة واسع العلم، فهو يفعل ما يشاء على مقتضى الحكمة والعدل، وما يؤيده من سعة العلم والفضل. [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

تفسير المفردات

تفسير المفردات صلصال: أي طين يا بس يصلصل ويصوّت إذا نقر وهو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخّار، وحما: أي طين تغير واسودّ من مجاورة الماء له واحدته حمأة، ومسنون: أي مصوّر مفرغ على هيئة الإنسان كالجواهر المذابة التي تصب فى القوالب. والجانّ: أي هذا الجنس كما أن الإنسان يراد به ذلك، فإذا أريد بالإنسان آدم أريد بالجان أبو الجن، ونار السموم: هى النار الشديدة الحرارة التي تقتل وتنفذ فى المسامّ، بشرا: أي إنسانا وسمى بذلك لظهور بشرته أي ظاهر جلده، سويته: أي أتممت خلقه وهيّاته لنفخ الروح فيه، والنفخ: إجراء الريح من الفم أو غيره فى تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، ويراد به هنا إضافة ما به الحياة على المادة القابلة لها، ورجيم: أي مرجوم مطرود من كل خير وكرامة، اللعنة: الإبعاد على سبيل السخط يوم الدين: أي يوم الجزاء، فأنظرنى: أي أمهلنى وأخرنى ولا تمتنى، ويوم الوقت المعلوم: هو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق كما روى عن ابن عباس، والإغواء: الإضلال، هذا صراط علىّ: أي هذا صراط حق لا بد أن أراعيه مستقيم أي لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره، والسلطان: التسلط والتصرف بالإغواء، سبعة أبواب: أي سبع طبقات، جزء مقسوم: أي فريق معين مفروز من غيره. الإيضاح (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي ولقد خلقنا أول فرد من أفراد الإنسان من طين يابس يصلصل ويصوت إذا نقر، أسود متغير مفرغ فى قالب ليجفّ وييبسن كالجواهر المذابة التي تصبّ فى القوالب.

ونحو الآية قوله: «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» وقد جاء «خلق آدم على أطوار مختلفة فكان أولا ترابا» كما قال: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» ثم كان طبنا كما قال: «إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ» ثم كان صلصالا من حمأ مسنون كما جاء فى هذه الآية وإنما خلقه على ذلك الوضع، ليكون خلقه أعجب وأتم فى الدلالة على القدرة. (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) أي وخلقنا هذا الجنس من قبل خلق آدم من نار الريح الحارة التي لها لفح وتقتل من أصابته. وعن ابن مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان ثم قرأ: (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) وقد ورد فى الصحيح «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» . وفى الآية إيماء إلى شرف آدم عليه السلام وطيب عنصره وطهارة محتده، وعلينا أن نؤمن بأن الجن خلقت من النار، ولكنا لا نعرف كنه ذلك ولا حقيقته، فذلك ما لا سبيل إلى معرفته إلا من طريق الوحى. وبعد أن ذكر سبحانه فى معرض الدليل على قدرته- خلق الإنسان الأول، ذكر بعد مقاله للملائكة والجن بشأنه فقال: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك حين نوّه ربكم بذكر أبيكم آدم فى ملائكته قبل خلقه، وتشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، وتخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة حسدا وعنادا واستكبارا بالباطل فقال: «لم أكن لأسجد» إلخ.

وحكى عنه فى آية أخرى أنه قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» وتقدم هذا القصص فى سورة الأعراف وقلنا هناك: إن الأمر بالسجود أمر تكليفى، وأنه قد وقع حوار بين إبليس وربه، ويرى كثير من العلماء أن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان، إذ جعل الملائكة وهم المدبّرون لأمور الأرض بإذن ربهم مسخرون لآدم وذريته، وجعل هذا النوع مستعدا للانتفاع بالأرض كلها لعله بسنن الله فيها وعمله بهذا السنن، فانتفع بمائها وهوائها ومعادنها ونباتها وحيوانها وكهربائها ونورها، وبذا أظهر حكمة الله فى خلقها، واصطفى بعض أفراده وخصهم بوحيه ورسالته وجعلهم مبشرين ومنذرين، وجعل الشيطان عاصيا متمردا على الإنسان وعدوّا له، وجعل النفوس البشرية وسطا بين النفوس الملكية المفطورة على طاعة الله وإقامة سننه فى صلاح الخلق، وبين أرواح الجن الذين يغلب على شرارهم- الشياطين- التمرد والعصيان. وقد ذكر سبحانه حجاج إبليس وذكر سبب امتناعه عن السجود لآدم بأنه خير منه، فإنه خلق من النار وآدم من الطين، والنار خير من الطين وأشرف منه، والشريف لا يعظّم من دونه ولو أمره ربه بذلك. وفى هذا ضروب من الجهالة وأنواع من الفسق والعصيان فإنه: (1) اعترض على خالقه بما تضمنه جوابه. (2) احتج عليه بما يؤيد به اعتراضه. (3) إنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه وموافقته لهواه، وهذا رفض لطاعة الخالق وترفّع عن مرتبة العبودية. (4) استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين، وخيرية المواد بعضها على بعض أمر اعتباري تختلف فيه الآراء، إلى أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من النار، والنور خير من النار، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم.

(5) إنه قد جهل ما خصّ به آدم من استعداده العلمي والعملي أكثر من سواه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، فكان بذلك أفضل منهم وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة والطاعة لربهم. (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أمره سبحانه أمرا كونيا لا يخالف بالخروج من المنزلة التي كانت فيها من الملا الأعلى، ثم جعله مرجوما مطرودا وأتبعه لعنة لا تزال متواصلة لاحقة به متواترة عليه إلى يوم القيامة، وهو يبعث الخلق من قبورهم، فيحشرون لموقف الحساب وهو وقت النفخة الأولى، فلما تحقق النّظرة. (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي قال إبليس: رب بسبب إغوائك إياى وإضلالى لأزينن لذرية آدم واحببنّ إليهم المعاصي وأرغّبنّهم فيها ولأغوينّهم كما أغويتنى وقدّرت علىّ ذلك إلا من أخلص منهم لطاعتك، ووفقته لهدايتك، فإن ذلك ممن لا سلطان لى عليه ولا طاقة لى به. ثم هدده سبحانه وأوعده بقوله: (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي قال هذا طريق مرجعه إلىّ، فأجازى كل امرئ بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كما يقول القائل لمن يتوعده ويتهدده: طريقك علىّ. وأنا على طريقك: أي لا مهرب لك منى، ونظير الآية قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» . وهذا رد لما جاء فى كلام إبليس حيث قال: «لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم. ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم» الآية. (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أي إن عبادى

لا سلطان لك على أحد منهم سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين، لكن من اتبعك باختياره صار من أتباعك. وقال سفيان بن عيينة: ليس لك عليهم قوة ولا قدرة على أن تلقيهم فى ذنب يضيق عنه عفوى. والخلاصة- إن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطانا بقوله لأزينن لهم فى الأرض ولأغوينهم أجمعين، فأكذبه الله بقوله إن عبادى إلخ. ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس: «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» وقوله «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» . (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي وإن جهنم موعد جميع من اتبع إبليس وهى مقرهم وبئس المهاد جزاء ما اجترحوا من السيئات وكفاء ما دنّسوا به أنفسهم من قبيح المعاصي. (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أي لها سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم فى الغواية والضلالة. أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها: جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهى أسفلها. (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي كتب لكل باب منها فريق معين من أتباع إبليس يدخلونه ولا محيد لهم عند بحسب أعمالهم واختلاف مراتبهم فى النار. قال ابن جريج: النار سبع دركات وهى جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية فأعلاها للعصاة الموحدين، والثانية لليهود، والثالثة للنصارى، والرابعة للصابئين، والخامسة للمجوس، والسادسة للمشركين، والسابعة للمنافقين، فجهنم أعلى الطبقات ثم ما بعدها تحتها وهكذا.

[سورة الحجر (15) : الآيات 45 إلى 48]

وروى عن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام، وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين العصاة، وهؤلاء يرجى لهم ولا يرجى لغيرهم أبدا. وليس فى هذا أثر مرفوع يمكن أن يركن إليه ويجعل حجة فيه. [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 48] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) تفسير المفردات المتقون: هم الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب من الصغائر تكفرها الصلوات وغيرها، جنات: أي بساتين، وعيون: أي أنهار جارية، بسلام: أي بسلامة من الآفات، وأمن من المخافات، والغل: الحقد الكامن فى القلب، والسرر: واحدها سرير وهو مجلس رفيع مهيأ للسرور، والنصب: الإعياء والتعب. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حال أهل الغواية، وبين أنهم فى نار جهنم يخلّدون فيها أبدا، وأنهم يكونون فى طبقات بعضها أسفل من بعض، بمقدار ما اجترحوا من السيئات، واقترفوا من المعاصي- أردفه ذكر حال أهل الجنة وما يتمتعون به من نعيم مقيم، ووفاق بعضهم مع بعض، لا ضغن بينهم ولا حقد، وهم يتحدثون على سرر متقابلين ولا يجدون مس التعب والنصب، ولا يخرجون منها أبدا.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي إن الذين اتّقوا الله وخافوا عقابه، فأطاعوا أوامره واجتنبوا نواهيه- يمتعون فى جنات تجرى من تحتها الأنهار كما قال: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» الآية. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) أي ويقال لهم: ادخلوها وأنتم سالمون من الآفات والمنغصات، آمنون من سلب تلك النعم التي أنعم بها ربكم عليكم وأكرمكم بها، ولا تخافون إخراجا ولا فناء ولا زوالا. (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي وأخرجنا ما فى صدور هؤلاء المتقين الذين ذكرت صفتهم- من الحقد والضغينة من بعضهم لبعض. روى القاسم عن أبى أمامة قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما فى صدورهم فى الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما فى صدورهم فى الدنيا من غل ثم قرأ: (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) . أخرج ابن جرير وابن المنذر عن على كرم الله وجهه أنه قال لابن طلحة: إنى لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ) الآية. فقال رجل من همدان: إن الله سبحانه أعدل من ذلك، فصاح علىّ صيحة تداعى لها القصر، وقال. فمن إذا إن لم نكن نحن أولئك. والخلاصة- إن الله طهّر قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات فى الجنة ونزع منها كل غل وألقى فيها التوادّ والتحاب والتصافي. والمراد بكونهم على سرر متقابلين أنهم فى رفعة وكرامة. وقد روى أن الأسرّة تدوربهم حيثما داروا، فهم فى جميع أحوالهم متقابلين، لا ينظر بعضهم إلى أقفية بعض، وهم يجتمعون ويتنادمون ويتزاورون ويتواصلون.

[سورة الحجر (15) : الآيات 49 إلى 84]

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي لا يلحقهم فى تلك الجنات مشقة ولا أذى، لأنهم ليسوا فى حاجة إلى ما يوجب ذلك من السعى فى تحصيل ما لا بدّ لهم منه، لحصول كل ما يشتهون من غير مزاولة عمل. روى الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمرنى أن أبشّر خديجة ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أي وهم خالدون فيها أبدا لا يبرحونها، يشعرون بلذة النعيم ودوامه، فهم فى خلود بلا زوال، وكمال بلا نقصان، وفوز بلا حرمان. والخلاصة- إن المسرة بالنعيم لا تتم إلا إذا توافرت فيه أمور: (1) أن يكون مقرونا بالتعظيم، وإلى ذلك الإشارة بقوله (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) . (2) أن يكون خالصا من شوائب الضرر، روحانية كانت كالحقد والحسد والغضب، وإلى ذلك الإشارة بقوله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) أو جسمانية كالإعياء والتعب، وإلى ذلك الإشارة بقوله (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) . (3) أن يكون دائما غير قابل للزوال، وإلى ذلك الإشارة بقوله (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) . [سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 84] نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)

تفسير المفردات

تفسير المفردات تقول: أنبأت القوم إنباء ونبّأتهم تنبئة: إذا أخبرتهم، والأفصح فى كلمة الضيف: ألا تثنى ولا تجمع حين تستعمل للمثنى والجمع والمؤنث بل تستعمل بلفظ واحد لكل ذلك، والوجل: اضطراب النفس لخوفها من توقع مكروه يصيبها، عليم: أي ذى علم كثير، بالحق: أي بالأمر المحقق الذي لا شك فى وقوعه، وقنط من كذا: أي يئس من حصوله والضالون: الكفار الذين لا يعرفون كمال قدرته تعالى وسعة رحمته، وخطبكم: أي أمركم وشأنكم الذي لأجله أرسلتم، قدرنا: أي قضينا وكتبنا يقال قضى الله عليه كذا وقدّره عليه: أي جعله على مقدار الكفاية فى الخير والشر، وقدر الله الأقوات: جعلها على مقدار الحاجة، والغابرين: أي الباقين مع الكفار ليهلكوا معهم، وأصله من الغبرة وهى بقية اللبن فى الضّرع، منكرون: أي لا أعرفكم ولا أعرف من أىّ الأقوام أنتم؟ ولأى غرض دخلتم علىّ؟ ويمترون: أي يشكّون ويكذبون به، فأسر بأهلك: أي اذهب بهم ليلا، والقطع من الليل: الطائفة منه كما قال: افتحي الباب وانظري فى النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم اتبع أدبارهم: أي كن على إثرهم لتسرع بهم وتطّلع على أحوالهم، وقضينا: أي أوحينا، ودابر: آخر، ومقطوع: أي مهلك مستأصل، مصبحين: أي فى وقت الصباح، والمدينة: هى سذوم (بالذال المعجمة) مدينة قوم لوط، والاستبشار: إظهار السرور، والفضيحة: إظهار ما يوجب العار، والخزي: الذل والهوان، والعمر والعمر (بالفتح والضم) : الحياة، وهو حين القسم بالفتح لا غير، سكرتهم: غوابتهم: يعمهون أي يتحيرون، والصيحة: الصاعقة، وكل شىء أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة أخرجه ابن المنذر عن ابن جرير، مشرقين: أي داخلين فى الشروق وهو بزوغ الشمس، والسجيل: الطين المتحجر وهو معرّب لا عربى فى المشهور، للمتوسمين.

المعنى الجملي

أي المتفرسين الذين يتثبتون فى نظرهم ليعرفوا سمة الشيء وعلامته، يقال توسمت فى فلان خيرا: أي ظهرت لى منه علاماته، قال عبد الله بن رواحة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: إنى توسمت فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أنى ثابت البصر لبسبيل مقيم: أي لبطريق واضح معلم ليس بخفي ولا زائل، وأصحاب الأيكة: قوم شعيب عليه السلام، والأيكة: الغيضة، وهى الشجر الملتف بعضه على بعض وقد كانوا فى مكان كثير الأشجار كثيف الغبار، لبإمام مبين: أي لبطريق واضح وأصل الإمام ما يؤتم به سمى به الطريق لأنه يؤتم ويتّبع، وأصحاب الحجر: هم ثمود، والحجر: واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه، ويسمى كل مكان أحيط بالحجارة حجرا ومنه حجر الكعبة، وآياتنا: هى الناقة وفيها آيات كثيرة كعظم خلقها، وكثرة لبنها، وكثرة شربها، والإمام: ما يؤتم به ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما أوعد به أهل الغواية فى يوم القيامة من دخول جهنم، وذكر أنها دركات لأولئك الغاوين بحسب اختلاف أحوالهم بمقدار ما دنّسوا به أنفسهم من اتخاذ الانداد والشركاء وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ثم أعقبه بذكر ما أعدّ لعباده المؤمنين من الجنات والعيون والنعيم المقيم والراحة التي لا نصب بعدها ولا تعب، وجلوس بعضهم مع بعض، يتنادمون ويتجاذبون أطراف الأحاديث، وهم فى سرور وحبور على سرر متقابلين- أردف ذلك فذلكة وخلاصة لما سبق، فأمر نبيه أن يبلغ عباده أنه غفار لذنوب من تابوا وأنابوا إلى ربهم، وأن عذابه مؤلم لمن أصرّوا على المعاصي ولم يتوبوا منها، ثم فصل ذلك الوعد والوعيد فذكر البشارة لإبراهيم بغلام عليم، وذكر إهلاك قوم لوط بما اجترحوا من كبرى الموبقات، وفظيع الجنايات، بفعلهم فاحشة لم يسبقهم بها أحد من العالمين، حتى

الإيضاح

صاروا كأمس الدابر، وأصبحوا أثرا بعد عين، وإهلاك أصحاب الأيكة قوم شعيب جزاء ظلمهم بشركهم بالله ونقصهم للمكاييل والموازين، فانتقم الله منهم بعذاب يوم الظلة، وإهلاك أصحاب الحجر وهم ثمود الذين كذبوا صالحا وكانوا ذوى حول وطول، وغنى ومال، وقوة وبطش، فأعرضوا عن آيات ربهم حينما جاءتهم على يدى رسوله، فأخذتهم الصيحة وقت الصباح ولم يغن عنهم مالهم من دون الله شيئا حين جاء أمره أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبى رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال: (ألا تراكم تضحكون) ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: إنى لما خرجت من الباب جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله يقول لك: لم تقنط عبادى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) » . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال فى قوله (نَبِّئْ عِبادِي) الآية: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه» . وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» . الإيضاح (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي أخبر أيها الرسول عبادى أنى أنا الذي أيستر ذنوبهم إذا تابوا منها وأنابوا، بترك فضيحتهم بها وعقوبتهم عليها، الرحيم بهم أن أعذبهم بعد توبتهم منها.

وفى قوله (نَبِّئْ عِبادِي) إيماء إلى أنه ينبىء كل من كان معترفا بعبوديته، فيشمل ذلك المؤمن المطيع والعاصي، وغير خاف ما فى ذلك من تغليب جانب الرحمة من قبله تعالى على جانب العقاب. (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) أي وأخبرهم أيضا بأن عذابى لمن أصر على معاصىّ وأقام عليها ولم يتب منها- هو العذاب المؤلم الموجع الذي لا يشبهه عذاب آخر، وفى هذا تهديد شديد وتحذير لخلقه أن يقدموا على معاصيه، ومن الأمر لهم بالإنابة والتوبة. والخلاصة- إن الله جمع لعباده بين التبشير والتحذير، ليكونوا على قدمى الرجاء والخوف، وحال الأنس والهيبة. ثم ذكر سبحانه قصصا تقدم مثله بأسلوب آخر فى سورة هود وبدأ بقصص إبراهيم عليه السلام فقال: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي أخبر عبادى عن ضيوف إبراهيم خليل الرحمن وهم الملائكة الذين أرسلهم الله إلى قوم لوط ليستأصلوا شأفتهم ويبيدوهم على ظلمهم، فقالوا حين دخلوا عليه سلاما: أي سلمت من الآفات والآلام سلاما. (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي قال إبراهيم للضيف: إنا خائفون منكم، لأنهم دخلوا عليه بلا إذن وفى وقت لا يجىء فى مثله طارق، أو لأنه حين قرّب إليهم العجل الحنيذ لم يأكلوا منه، والضيف إذا لم يأكل مما يقدم له من الطعام يظنّ أنه لم يأت لخير، ويؤيد هذا قوله فى سورة هود: «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» . (قالُوا لا تَوْجَلْ) أي قال الضيف لإبراهيم: لا تخف ولا يحم حول ساحتك الخوف والهلع.

ثم عللوا النهى عن الوجل بقولهم: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي إنا جئناك بالبشرى بعلام ذى علم وفطنة وفهم لدين لله، وسيكون له شأن، لأنه سيصير نبيا. ونحو الآية قوله «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا» . ثم قال إبراهيم متعجبا من مجىء ولد من شيخ وعجوز: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ؟) أي أبشرتموني بذلك مع مس الكبر وتأثيره فىّ، وتلك حال تنافى هذه البشرى. (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي فبأى أعجوبة تبشرون؟ إذ لا سبيل فى العادة إلى مثل ذلك، وكأنه عليه السلام أراد أن يعرف: أيعطى هذا الولد مع بقائه على حاله من الشيخوخة التامة، أو يرجع شابا ثم يعطى الولد، لما جرت به العادة من أن الولد لا يكون إلا حين الشباب. فأجابوه مؤكدين ما بشروه به، تحقيقا لما قالوا وليكون بشارة بعد بشارة: (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أي قال ضيف إبراهيم له: بشرناك بما يكون حقا، وإنا لنعلم أن الله قد وهب لك غلاما، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسوا من خرق العادة، بل أبشر بما بشرناك به واقبل البشرى. والخلاصة- إنه عليه السلام استعظم نعمة الله عليه، فاستفهم هذا الاستفهام التعجبي المبنى على السنن التي أجراها الله بين عباده، لا أنه استبعد ذلك على قدرة الله، فهو أجل من ذلك قدرا، ويؤيد هذا جوابه عليه السلام. (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي قال إبراهيم للضيف: لا ييأس من رحمة الله إلا من أخطأ سبيل الصواب، وغفل عن رجاء الله الذي لا يخيب من رجاه، فضلّ بذلك عن الرأى القيّم، وهذا كقول يعقوب: «لا ييأس من روح الله إلّا القوم الكافرون» .

وخلاصة مقاله- إنه نفى القنوط عن نفسه على أتم وجه، فكأنه قال: ليس بي قنوط من رحمته تعالى، لكن حالى تنافى فيض تلك النعم الجليلة التي غمرنى بها، وتوالى المكرمات التي شملت آل هذا البيت. وبعد أن تحقق عليه السلام مصداق هذه البشرى ورأى أنهم أتوا مختفين على غير ما عهد عليه ملك الوحى؟ سألهم عن أمرهم ليزول عنه الوجل. (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي قال لهم: ما الأمر العظيم الذي جئتم لأجله سوى البشرى؟ وكأنه عليه السلام فهم من مجرى حديثهم فى أثناء الحوار أن ليست هذه البشرى هى المقصودة، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا. لأنهم كانوا عددا والبشارة لا تحتاج إلى مثل هذا العدد، ومن ثم اكتفى بالواحد فى بشارة زكريا ومريم عليهما السلام وأيضا لو كانت البشارة هى المقصودة لابتدءوا بها، فأجابوه: (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين من قوم لوط، واكتفوا بهذا القدر من الجواب، لأن إبراهيم يعلم أن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لهلاكهم وإبادتهم. ومما يرشد إلى هذا الفهم قولهم: (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إلا أتباع لوط فى الدين فلن نهلكهم، بل ننجيهم من العذاب الذي أمرنا أن نعذب به قوم لوط. (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي لا نهلك آل لوط وأتباعه إلا امرأته فقد قضى الله أنها من الباقين مع الكفرة، ثم هى مهلكة بعد ذلك معهم، وقد أضاف الملائكة هذا التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله تعالى، بيانا لمزيد قربهم من ربهم، واختصاصهم به تعالى كما يقول خاصة الملك: دبّرنا كذا وأمرنا بكذا، والمدبر الآمر هو الملك. وبعد أن بشّروا إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون بعذاب قوم مجرمين- ذهبوا إلى لوط وآله كما قال سبحانه.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ، قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي فلما خرج المرسلون من عند إبراهيم وجاءوا قرية لوط أنكرهم لوط ولم يعرفهم وقال لهم: من أي الأقوام أنتم، ولأى غرض جئتم؟ وإنى أخاف أن تمسونى بمكروه. ونحو الآية قوله: «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» وإنما قال هذه المقالة، لأنه لم يشاهد من المرسلين حين مقاساة الشدائد ومعاناة المكايد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون- إعانة ولا مساعدة فيما يأتى وما يدرحين تجشم الأهوال فى تخليصهم، فأنكر خذلانهم له، وتركهم نصره حين المضايقة التي حلت به بسببهم حتى اضطر إلى أن يقول: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» كما جاء فى سورة هود. (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي قال له الرسل: ما جئناك بما خطر ببالك من المكروه، بل بما فيه سرورك وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك فيه قبل مجيئه، فأنّى لك بعد هذا أن تعتريك مساءة وضيق ذرع؟ وخلاصة ما أرادوا أن يقولوا- ما خذلناك، وما خلّينا بينك وبينهم، بل جئناك بما يدمّرهم ويهلكهم، من العذاب الذي كنت تتوعدهم به وهم يكذبونك. واختاروا هذا الأسلوب ولم يقولوا جئناك بعذابهم لإفادة ذلك شيئين: تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام بعد أن كابد منهم كثيرا من الإنكار والتكذيب. (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي وجئناك بالأمر المحقق المتيقن الذي لا محال فيه للامتراء والشك، وهو العذاب الذي كتب وقدّر لقوم لوط، وإنا لصادقون فيما أخبرناك به. ثم شرعوا يرتبون له مبادئ النجاة قبل حلول العذاب بقومه فقالوا له: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي فسر بأهلك ببقية من الليل، وأهله على ما روى هما ابنتاه

(وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي وكن من وراء أهلك الذين تسرى بهم، وعلى إثرهم لتذود عنهم، وتسرع بهم، وثراقب أحوالهم، حتى لا يتخلّف منهم أحد لغرض، فيصيبه العذاب. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) فيرى ما ينزل بقومه فيرق قلبه لهم، وليوطن نفسه على الهجرة، ويطيب نفسا بالانتقال إلى المسكن الجديد. ثم أكدوا هذا النهى بقولهم (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي وامضوا حيث يأمركم ربكم غير ملتفتين إلى ماوراءكم كالذى يتحسر على مفارقة وطنه، فلا يزال يلوى له أخادعه كما قال أبو تمام: تلفت نحو الحىّ حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخذعا والخلاصة- إنهم أمروا بمواصلة السير ونهوا عن التواني والتوقف ليكون ذلك أقطع للعوائق، وأحق بالإسراع للوصول إلى المقصد الحقيقي وهو بلاد الشام. ثم بين العلة فى الأمر بالإسراء السريع فقال: (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أي وأوحينا إليه أن ذلك الأمر مقضى مبتوت فيه: ثم فصّل ذلك الأمر فقال: (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) أي إن آخر قومك وأولهم مجذوذ مستأصل صباح ليلتهم، ولا يبقى منهم أحد ونحو الآية قوله: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» . ثم شرع يذكر ما صدر من القوم حين علموا بقدوم الأضياف وما ترتب عليه بما أشير إليه أولا على سبيل الإجمال فقال: (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) أي وجاء أهل سدوم حين سمعوا أن ضيفا قد ضاقوا لوطا- مستبشرين بنزولهم مدينتهم طمعا فى ركوب الفاحشة منهم. وفى هذا إيماء إلى فظاعة فعلهم، إذ هم خالفوا ما جرى به العرف، وركب فى الأذواق السليمة، من إكرام الغريب وحسن معاملته، وقصدوا بهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.

روى أن امرأة لوط أخبرتهم بأنه نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح منهم وجها ولا أحسن شكلا، فذهبوا إلى دار لوطا طلبا لهم، مظهرين اغتباطا وسرورا بهم. ثم أخبر عن مقالة لوط لقومه حين رآهم يقصدون بهم السوء. (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) أي قال لوط لقومه: إن هؤلاء الذين جئتموهم تريدون منهم الفاحشة ضيفى، وحقّ على الرجل إكرام ضيفه، فلا تفضحونى فيهم، وأكرمونى بترك التعرض لهم بمكروه. ثم زاد النهى توكيدا بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ) أي وخافوا الله فىّ وفى أنفسكم أن يحل بكم عقابه، ولا تهينوئى فيهم بالتعرض لهم بالسوء، وهذه الجملة آكد فى الغرض من سابقتها، إذ التعرض للجار بعد حمايته والذبّ عنه أجلب للعار، ومن ثم عبر عن لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي، وأمرهم بتقوى الله فى ذلك. قأبانوا له أنه السبب فى الفضيحة وفى هذا الخزي: (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ؟) أي قال قومه له: أولم ننهك أن تضيف أحدا من العالمين أو تؤويه فى قريتنا؟ إذ هم كانوا يتعرضون لكل غريب بالسوء، وكان لوط ينهاهم عن ذلك على قدر حوله وقوته ويحول بينهم وبين من يعرضون له، وكانوا قد نهوه عن التعرض لهم فى مثل ذلك. وخلاصة مقالهم- إن ما ذكرت من الخزي والفضيحة أنت مصدره، والجالب له، فلولا تعرضك لنا، ما أصابك ما أصابك. ولما رآهم متمادين فى غيهم، لا يرعون عن غوايتهم، ولا يقلعون عما هم عليه. (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي قال لوط لقومه: تزوجوا النساء ولا تفعلوا ما قد حرم الله عليكم من إتيان الرجال إن كنتم فاعلين ما آمركم به، منتهين إلى أمرى، وقد سمى نساء قومه بناته، لأن رسول الأمة كالأبّ لهم كما قال تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» .

ثم أبان له الرسول أنه لا أمل فى ارعوائهم عن غيهم فقالوا: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي قالت الملائكة للوط: وحياتك أيها الرسول إن قومك لفى ضلالتهم التي جعلتهم حيارى لا يعرفون ما أحاط بهم من البلاء، ولا ماذا يصيبهم من العذاب المنتظر، لما أصابهم من عمى البصيرة، فهم لا يميزون الخطأ من الصواب، ولا الحسن من القبيح. ثم ذكر سبحانه عاقبة أمرهم فقال: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) أي فنزل بهم العذاب المنتظر، وأخذتهم الصاعقة وقت الشروق، وكان ابتداؤها من الصبح وانتهاؤها حين الشروق، ومن ثم قال أوّلا مصبحين وقال هنا مشرقين، وأخذ الصيحة قهرها لهم وتمكنها منهم، ومن ثمّ يقال للأسير أخيذ. ثم بيّن كيفية أخذها لهم ولقريتهم فقال: (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) أي فجعلنا عالى المدينة وهو ما على وجه الأرض سافلها فانقلبت عليهم وأمطرنا عليهم أثناء ذلك حجارة من طين متحجر، وقد تقدم ذكر ذلك فى سورة هود. وخلاصة ذلك- إنه تعالى أرسل عليهم ثلاثة ألوان من العذاب: (1) الصيحة المنكرة الهائلة، والصوت المفزع المخيف. (2) إنه قلب عليهم القرية، فجعل عاليها سافلها. (3) إنه أمطر عليهم حجارة من سجيل. ثم ذكر أن فى هذا القصص عبرة لمن اعتبر فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والعذاب لدلالات للمفكرين الذين يعتبرون بما يحدث فى الكون من عظات وعبر، ويستدلون بذلك على ما يكون لأهل الكفر والمعاصي من عقاب بئيس بما كانوا يكسبون. أخرج البخاري فى التاريخ والترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم وأبو نعيم

وابن مردويه عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله تعالى، ثم قرأ: إن فى ذلك لآيات للمتوسمين» . والفراسة على نوعين: (1) ما يوقعه الله فى قلوب الصلحاء فيعلمون بذلك أحوال الناس بالحدس والظن (2) ما يحصل بدلائل التجارب والأخلاق. وقد صنّف الناس فى القديم والحديث كتبا فى ذلك، وبعض العلماء يجعلها دليلا يحكم به كما فعل إياس بن معاوية (كان قاضيا ذكيا فى عهد التابعين) . ثم لفت أنظار أهل مكة إلى الاعتبار بها لو أرادوا فقال: (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي وإن هذه المدينة- مدينة سدوم- التي أصابها ما أصابها من العذاب- لبطريق واضح لا تخفى على السالكين، فآثارها باقية إلى اليوم لم تندثر ولم تخف، فالذين يمرون عليها من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثارها كما قال فى الآية الأخرى: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» . ثم أيأس من اعتبارهم بها، إذ هى لا يعتبر بها إلا المؤمنون فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن فيما فعلناه بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله- لدلالة جلية للمؤمنين المصدقين بالله ورسله، إذ هم يعرفون أن ذلك إنما كان انتقاما من الله لأنبيائه من أولئك الجهال الذين عصوا أمر ربهم، وكفروا برسله ولم يرعوا عن غيّهم وضلالهم بعد إنذارهم ونصحهم. أما الذين لا يؤمنون بالله فيجعلون ذلك حوادث كونية، لأسباب فلكية، وشؤون أرضية، جعلت الأرض تنهار لحدوث فراغ فى بعض أجزائها. كما يشاهد اليوم فى البلاد ذات البراكين من اختفاء بلاد فى باطن الأرض وابتلاع الأرض لها كما حدث فى مدينة مسينا بإيطاليا سنة 1909، وظهور جزائر فى وسط المحيطات لم تكن من قبل

وبعد أن ذكر قصص قوم لوط أتبعه بقصص قوم شعيب عليه السلام فقال: (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) أي وإن أصحاب الأيكة كانوا بجبلّتهم ظالمين كفارا، ليس لديهم استعداد للإيمان بالله ورسله، أرسل الله إليهم وإلى أهل مدين شعيبا فكذبوه. أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا» . (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) جزاء ما دنسوا به أنفسهم من الكفر والمعاصي. فسلطّ على أصحاب الأيكة الحر سبعة أيام لا يظل منه ظلّ، ولا يمنعهم منه شىء، ثم أرسلت عليهم سحابة فحلّوا تحتها يلتمسون الرّوح منها، فبعثت عليهم منها نار فاضطرمت عليهم فأكلتهم، فذلك عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم. وأما أهل مدين فقد أخذتهم الصيحة ثم ذكر عز اسمه أنه قد كان من حق قريش أن يعتبروا بهما فقال: (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي وإن مدينة أصحاب الأيكة ومدينة قوم لوط لبطريق واضح يأتمون به فى سفرهم ويهتدون به فى مسيرهم. ثم ذكر سبحانه قصة صالح فقال: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) أي ولقد كذبت ثمود نبيهم صالحا عليه السلام ومن كذب رسولا من رسل الله فكأنما كذب الجميع، لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول العامة التي لا تختلف باختلاف الأمم والأزمان. (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وأريناهم حججنا الدالة على نبوة صالح عليه السلام من الناقة وغيرها، فأعرضوا عنها ولم يعتبروا بها. (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من هدمها ونقب اللصوص لها أو تخريب الأعداء لقوة أسرها وبديع إحكامها، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الأعراف.

[سورة الحجر (15) : الآيات 85 إلى 86]

ثم ذكر ميقات هلاكهم فقال: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي فأخذتهم صيحة الهلاك حين كانوا فى ضحوة اليوم الرابع من اليوم الذي أوعدوا فيه بالعذاب كما جاء فى قوله: «فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» . (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فما دفع عنهم ما نزل بهم ما كانوا يكسبون من تحت البيوت وجمع الأموال وكثرة العدد وجمع العدد، بل خرّوا حاثمين هلكى حين حل بهم قضاء الله. وروى البخاري وغيره عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلّم مرّ بالحجر وهو ذاهب إلى تبوك، فقنّع رأسه، وأسرع براحلته، وقال لأصحابه: لا تدخلوا بيوت القوم المعذّبين إلا أن تكونوا باكين: فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم» . وأخرج ابن مردويه عنه قال: «نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم بإهراق القدور وعلف العجين للإبل: ثم ارتحل عن البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذّبوا وقال: إنى أخشى عليكم أن يصيبكم مثل الذي أصابهم، فلا تدخلوا عليهم» . [سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 86] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) تفسير المفردات بالحق: أي بالحكمة والمصلحة، والساعة يوم القيامة، والصفح: ترك التثريب واللوم، والصفح الجميل: ما خلا من العتب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فى القصص السالف إهلاك الأمم المكذبة لرسلها، وعذابها بشتى أنواع العذاب، كفاء ما دنسوا به أنفسهم من فظائع الشرك، وأنواع المعاصي التي تقوّض دعائم الإخلاص لبارئ النسم، وتهدّ أركان نظم المجتمع بعبادة الأصنام والأوثان، وتطفيف الكيل والميزان، وإتيان الفاحشة التي تشمئز منها النفوس، وتنقر منها الأذواق السليمة- أرشد هنا إلى أنهم بعملهم هذا قد تركوا ما قضت به الحكمة والمصلحة، من خلق السموات والأرض لعبادة خالقها وطاعته واستقرار نظم المجتمع على وجه صالح صحيح، ودأبوا على عبادة غيره من الأصنام والأوثان، فكان من العدل تطهير الأرض منهم، دفعا لشرورهم وإصلاحا لمن يأتى بعدهم. الإيضاح (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي وما خلقنا الخلائق، مما فى الأرض والسماء وما بينهما، إلا بالعدل والإنصاف لا بالظلم والجور، فإهلاكنا للأمم التي كذبت رسلها وقصصنا عليك قصصها، وتعجيل النقمة لهم لم يكن ظلما بل كان عدلا وحكمة. وفى هذا إيماء إلى أن ما يصيب غيرهم من المكذبين لك من العذاب فى الآخرة فيه عدل ومصلحة للبشر. ثم هدد العصاة وتوعدهم فقال: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي وإن يوم القيامة لآت لا ريب فيه، وحينئذ ينتقم الله ممن يستحق العذاب، ويحسن إلى من يستحق الإحسان، فارض بما يكون لهم من شديد العقاب. (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي فأعرض عنهم إعراضا جميلا، واحتمل أذاهم، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم.

[سورة الحجر (15) : الآيات 87 إلى 99]

وخلاصة ذلك- خالقهم بخلق حسن، وتأنّ عليهم واحلم عنهم، وأنذرهم، وادعهم إلى ربك قبل أن تقاتلهم. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك هو الذي خلقهم وخلق كل شىء، وهو العليم بهم ومما يألفون وما يذرون، وهو المدبّر لأمورهم، والمقدّر لها على وجه الحكمة والمصلحة وقصارى ذلك- إنه خالقك وخالقهم، وعليم بأحوالك وأحوالهم، ولا يخفى عليه شىء مما جرى بينك وبينهم، فخليق بك أن تكل الأمور إليه، ليحكم بينك وبينهم، وقد علم أن الصفح الجميل أولا أولى بهم إلى أن يحكم السيف بينك وبينهم. [سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) تفسير المفردات المثاني: واحدها مثنى من التثنية وهو التكرير والإعادة، ومد عينيه إلى حال فلان: اشتهاه وتمناه، والأزواج: واحدها زوج وهو الصّنف، وخفض الجناح:

المعنى الجملي

إذ به التواضع واللين، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحه له، والجناحان من الإنسان: جانباه، والنذير: المخوّف بعقاب الله من لم يؤمن به، وعضين: أي أجزاء واحدها غضة من عضيت الشاة جعلتها أعضاء وأقساما، فاصدع بما تؤمر: أي اجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا، يضيق صدرك: أي ينقبض من الحسرة والحزن، والساجدين: أي للمصلّين، واليقين: الموت وسمى به لأنه أمر متيقن لا شك فيه. المعنى الجملي بعد أن أمر رسوله أن يصبر على أذى قومه، وأن يصفح عنهم الصفح الجميل- أردف ذلك ذكر ما أولاه من النعم، وما أغدق عليه من الإحسان، ليسهل عليه الصفح ويكون فيه سلوة له على احتمال الأذى، فذكر أنه آتاه السبع المثاني- الفاتحة- والقرآن العظيم الجامع لما فيه هدى البشر وصلاحهم فى دنياهم وآخرتهم. وبعد أن ذكر له تظاهر نعمه عليه، نهاه عن الرغبة فى الدنيا، ومد العينين إليها، يتمنى ما فيها من متاع ونهاه عن الحسرة على الكفار أن لم يؤمنوا بالقرآن وبما جاء به وأمره بالتواضع لفقراء المسلمين، وبإنذار قومه المشركين بتبليغهم ما أمر به الدين وما نهى عنه، بالبيان الكافي، والإعذار الشافي، وبيان عاقبة أمرهم بتحذيرهم أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين «اليهود والنصارى» الذين جعلوا القرآن أقساما، فآمنوا بما وافق التوراة وكفروا بما عدا ذلك، ويبين لهم أن ربهم سيسألهم عن جريرة أعمالهم. ثم أمره أن يعلن ما أمر به من الشرائع، ولا يلتفت إلى لوم المشركين وتثريبهم له، ولا يبال بما سيكون منهم، فالله تعالى كفاه أمر المستهزئين به وأزال كيدهم، وإذا ساوره ضيق الصدر من سماع سفههم واستهزائهم كما هو دأب البشر، فليسبح ربه

الإيضاح

وليحمده وليكثر الطاعة له، فالعبد إذا حزبه أمر نزع إلى طاعة ربه، وقد كفل سبحانه أن يكشف عنه ما أهمه. الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) أي ولقد أكرمناك بسبع آيات هى الفاتحة التي تثنى وتكرر فى كل صلاة، وهذا قول عمر وعلى وابن مسعود لما روى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أم القرآن السبع المثاني التي أعطيتها» أو لأنها قسمت قسمين: ثناء ودعاء، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» وأكرمناك أيضا بالقرآن العظيم. وتخصيص الفاتحة بالذكر من بين القرآن الكريم لمزيد فضلها على نحو ما جاء فى قوله تعالى: «وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» . وبعد أن عرّف سبحانه رسوله عظيم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين- نهاه عن الرغبة فى الدنيا فقال: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي لا تتمنّين أيها الرسول ما جعلنا من زينة الدنيا متاعا للأغنياء من اليهود والنصارى والمشركين، فإن من وراء ذلك عقابا غليظا. والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم- تعليم لأمته كما تقدم مثله كثيرا، يؤيد هذا ما روى أنه أنت من بصرى وأذرعات سبع قوافل لقريظة والنّضير فى يوم واحد فيها أنواع من البزّ (الأقمشة) والطيب والجواهر، فقال المسلمون: لو كانت لنا لتقوينا بها، ولأنفقناها فى سبيل الله. وخلاصة ذلك- لقد أوتيت النعمة العظمى التي إذا قيست بها كل النعم كانت حقيرة، فقد أوتيت سبع آيات هى خير من السبع القوافل.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إذ لم يؤمنوا، ليقوى بمكانهم الإسلام، وينتعش بهم المؤمنون: وقد كان صلى الله عليه وسلّم يود أن يؤمن به كل من بعث إليه، ويتمنى لمزيد شفقته عدم إصرار الكفار على كفرهم. وبعد أن نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين فقال: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي وألن جانبك، وارفق بمن آمن بك واتبعك، ولا تجف بهم، ولا تغلظ عليهم. ونحو الآية قوله تعالى: «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» وقوله فى صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم» ثم بين وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال: (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي أنا النذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تماديهم فى غيهم، كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها، فانتقم الله منهم بإنزال العذاب بهم. وفى الصحيحين عن أبى موسى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثلى ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم: إنى رأيت الجيش بعيني وإنى أنا النذير العريان، فالنّجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعنى واتبع ما جئت به، ومثل من عصانى وكذب ما جئت به من الحق» . (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي ولقد آتيناك سبعا من المثاني كما آتينا من قبلك من اليهود والنصارى التوراة والإنجيل، وهم الذين اقتسموا القرآن وجزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه الذي وافق كتابيهما، وكفروا ببعضه

وهو ما خالقهما- أخرج ذلك البخاري وسعيد بن منصور والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس من طرق عدة. وبعد أن بين وظيفة الرسول ذكر أن الحساب على الأعمال موكول إلى الله لا إليه فقال: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلنسألن الكفار جميعا سؤال تأنيب وتوبيخ لهم على ما كانوا يقولون ويفعلون فيما بعثناك به إليهم وفيما دعوناهم إليه من الإقرار بي وبتوحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان، روى أبو جعفر عن الربيع عن أبى العالية فى تفسير الآية قال: يسأل الله العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة عما كانوا يعبدون، وعماذا أجابوا المرسلين. وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه، فلا ألفينّك يوم القيامة وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك» . وبعد أن ذكر أن وظيفته التبليغ شدّد عليه فى الجهر به جهد المستطاع فقال: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي فاجهر بإبلاغ ما أمرت به من الشرائع وواجه به المشركين، ولا تلتفت إلى ما يقولون، ولا تبال بهم ولا تخفهم. فإن الله كافيكهم، وحافظك منهم. ولما كان هذا الصدع شديدا عليه لكثرة ما يلاقيه من أذى المشركين ذكر أنه حارسه وكالئه منهم فلا يخشى بأسهم فقال: (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي إنا كفيناك شر المستهزئين الذين كانوا يسخرون منك ومن القرآن، وهم طائفة من المشركين لهم قوة وشوكة، كانوا كثيرى السفاهة والأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حين يرونه أو يمر بهم، أفناهم الله وأبادهم وأزال كيدهم وقد اختلف فى عدتهم، فقوم يقولون هم خمسة: الوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل وعدي بن قيس والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب، وقد ماتوا

جميعا بأهون الأسباب، فتعلق بثوب الوليد سهم فتكبر أن يبعده عنه فأصاب عرقا فى عقبه فمات، ومات العاص بشوكة فى أخمص قدمه، وأصاب عدى بن قيس مرض فى أنفه فمات، وأصيب الأسود بن عبد يغوث بداء وهو قاعد فى أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات (هذه أعراض حمى التيفوس فيغلب أن يكون قد أصيب بها) وعمى الأسود بن عبد المطلب. وقوم يقولون هم سبعة من أشراف قريش ومشركيها. ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي هم الذين اتخذوا إلها آخر مع الله يعبدونه. وفى وصفهم بهذا الوصف تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم وتهوين للخطب عليه، إذ أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء بمقام النبوة، بل تعدوه إلى الإشراك بربهم، المدبر لأمورهم والمحسن إليهم. تم توعدهم على ما كانوا يصنعون فقال: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم حين يحل بهم عذاب ربهم، يوم تجزى كل نفس بما عملت، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وبعد أن سلاه بكفاية شرهم ودفع مكرهم ذكر تسلية أخرى له فقال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من كلمات الشرك والاستهزاء، كما هو دأب الطبيعة البشرية حين ينوب الإنسان ما يؤلمه ويحزنه، أن يرى فى نفسه انقباضا وضيقا فى الصدر وأسى وحسرة على ما حل به. تم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله وحمده فقال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي إذا نزل بك الضيق ووجمت نفسك فافزع إلى ربك، ونزّهه عما يقولون، حامدا له

على توفيقك للحق، وهدايتك إلى سبيل الرشاد، وصلّ آناء الليل وأطراف النهار، فإن فى مناجاة ربك ما يقرّبك إلى حضرة القدس، ويسمو بنفسك إلى الملإ الأعلى كما ورد فى الحديث «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» ودم على ما أنت عليه طالبا المزيد من فضله، حتى يأتيك الموت، فهناك الجزاء بلا عمل، وهنا العمل ولا جزاء. وقصارى ذلك- إنه تعالى أرشده إلى كشف ما يجده فى نفسه من الغم بفعل الطاعات، والإكثار من العبادات، وقد كان صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر، واشتد عليه خطب، فزع إلى الصلاة، روى أحمد عن ابن عمار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول «قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» . وقد حكى الله عن أهل النار أنهم يقولون: «لم نك من المصلّين. ولم نك نطعم المسكين. وكنّا نخوض مع الخائضين. وكنّا نكذّب بيوم الدّين. حتّى أتانا اليقين» . وفى هذا دلالة على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على المرء ما دام ثابت العقل، روى البخاري عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» . اللهم وفقنا لطاعتك، واهدنا لعبادتك، واجعلنا من المتقين الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الحكم والأحكام (1) وصف القرآن الكريم. (2) الإعراض عن المشركين حتى يحل بهم ريب المنون. (3) استهزاء المشركين وإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وتكذيبهم لما يرونه من الآيات. (4) إقامة الأدلة على وجود الله بما يرونه من الآيات فى خلق السموات والأرض وفى خلق الإنسان. (5) عصيان إبليس أمر ربه فى السجود لآدم وذكر الحوار بينه وبين ربه، وطلبه الإنظار إلى يوم الدين. (6) بيان حالى أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة. (7) قصص بعض الأنبياء وذكر ما أهلك الله به كل أمة من الأمم المكذبة لرسلها. (8) بيان أن الحكمة فى خلق السموات والأرض هى عبادة الله وحده وإقامة العدل والنظام فى المجتمع. (9) ذكر ما أنعم الله به على نبيه من السبع المثاني والقرآن العظيم (10) نهى نبيه والمؤمنين عن تمنى زخرف الدنيا وزينتها. (11) أمره صلى الله عليه وسلّم بخفض الجناح والرفق بمن اتبعه من المؤمنين. (12) التذكير بنعمة الله عليه بإهلاك أعدائه المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين. (13) الأمر بالدعوة للدين جهرا والصدع بها وعدم المبالاة بالمشركين. (14) أمره صلى الله عليه وسلّم بالتسبيح والعبادة إذا ضاق صدره باستهزاء المشركين والطعن فيه وفى كتابه الكريم.

سورة النحل

سورة النحل هذه السورة مكية سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أحد. وآيها ثمان وعشرون ومائة. ووجه ارتباطها بما قبلها أنه لما قال فى السورة السالفة: «فو ربّك لنسألنهم أجمعين» كان ذلك تنبيها إلى حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه فى الدنيا، فقيل: «أتى أمر الله» وأيضا فإن قوله فى آخرها: «واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين» شديد الالتئام بقوله أتى أمر الله. [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) تفسير المفردات أتى أمر الله: أي قرب ودنا، ويقال فى مجرى العادة لما يجب وقوعه قد أتى وقد وقع، فيقال لمن طلب مساعدة حان مجيئها، جاءك الغوث، وأمر الله عذابه للكافرين، والروح: الوحى وهو قائم فى الدين مقام الروح من الجسد، فهو محيى القلوب التي أماتها الجهل، من أمره: أي بأمره ومن أجله، أنذروا: أي خوّفوا، فاتقون: أي خافوا عقابى، لمخالفة أمرى وعبادة غيرى.

المعنى الجملي

المعنى الجملي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخوّف المشركين تارة بعذاب الدنيا من قتل وأسركما حدث يوم بدر، وتارة بعذاب الآخرة، ثم إنهم لما لم يشاهدوا شيئا من ذلك احتجوا بذلك على تكذيبه وطلبوا منه الإتيان بذلك العذاب روى أنه لما نزل قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» قال الكافرون حين خلوا إلى شياطينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون، حتى ينظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئا مما تخوّفنا به، فنزل قوله تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» فأشفقوا وانتظروا، فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل قوله: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ) فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورفع الناس رءوسهم فنزل قوله: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) . الإيضاح (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي قرب عذاب المشركين وهلاكهم، أما إتيانه بالفعل وتحققه فمنوط بحكم الله النافذ، وقضائه الغالب على كل شىء، فهو يأتى فى الحين الذي قدّره وقضاه. ونظم سبحانه المتوقع فى صورة المحقق إيذانا بأنه واجب الوقوع، والشيء إذا كان بهذه المثابة يسوغ فى عرف التخاطب أن يعدّ واقعا، ومعنى قوله فلا تستعجلوه لا تطلبوا حصوله قبل حضور الوقت المقدّر في علمه تعالى. وفى هذا تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم، بقرب عذابهم وهلاكهم الذي لا بد منه. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تبرأ الله تعالى عن الشريك والشفيع الذي يدفع الضر عنكم، وفى هذا رد لمقالهم حين قالوا: لئن حكم الله علينا بإنزال العذاب فى الدنيا أو فى الآخرة- لتشفعنّ لنا هذه الأصنام التي نعبدها من دونه.

وخلاصة هذا- إن تلك الجمادات الخسيسة التي جعلتموها شركاء لله وعبدتموها، هى أحقر الموجودات، وأضعف المخلوقات، فكيف تجعلونها شريكة لله فى التدبير والشفاعة فى الأرض والسموات؟. ثم أجاب عن شبهة لهم إذ قالوا: هب الله قضى على بعض عباده بالشر وعلى آخرين بالخير، فمن يعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا هو؟ فقال: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أي ينزل سبحانه ملائكته بالوحى إلى من يريد من عباده المصطفين الأخيار، أن أنذروا عبادى أن إله الخلق واحد لا إله إلا هو، وأنه لا تنبغى الألوهية إلا له، ولا يصلح أن يعبد شىء سواه، فاحذروه وأخلصوا له العبادة، فإن فى ذلك نجاتكم من الهلكة، وقد جاء ذكر الروح بمعنى الوحى فى قوله: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» وفى قوله: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» . والمراد بقوله من أمره- بيان أن ذلك التنزيل والنزول لا يكونان إلا بأمره تعالى كما قال حكاية عن الملائكة: «وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك» وقال: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» وقال: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» وقال: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» ففى كل ذلك دليل على أن الملائكة لا يقدمون على عمل إلا بأمره تعالى وإذنه. وفى الآية إيماء إلى أن الوحى من الله إلى أنبيائه لا يكون إلا بوساطة الملائكة، ويؤيد ذلك قوله: «وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» فقد بدأ بذكر الملائكة، لأنهم هم الذين يتلقّون الوحى من الله بلا وساطة، وذلك الوحى هو الكتب، وهم يوصلون هذا الوحى إلى الأنبياء- لاجرم جاء الترتيب على هذا الوضع

[سورة النحل (16) : الآيات 3 إلى 16]

[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 16] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أصل النطفة: الماء الصافي ويراد بها هنا مادة التلقيح، والخصيم: بمعنى المخاصم كالخليط بمعنى المخالط، والعشير: بمعنى المعاشر والمراد به المنطيق المجادل عن نفسه، المنازع للخصوم، والمبين: المظهر للحجة، والدفء: ما يستدفأ به من الأكسية، والمنافع: هى درّها وركوبها والحرث بها وحملها للماء ونحو ذلك، جمال: أي زينة فى أعين الناس وعظمة لديهم، تريحون: أي تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها يقال أراح الماشية إذا ردها إلى المراح، تسرحون: أي تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها، والأثقال: واحدها ثقل وهو متاع المسافر، وشق الأنفس: مشقتها وتعبها، القصد: الاستقامة، يقال سبيل قصد وقاصد إذا أدّاك إلى مطلوبك، وجائر: أي مائل عن المحجة، منحرف عن الحق، وتسيمون: أي ترعون يقال أسام الماشية وسوّمها جعلها ترعى، وذرأ: خلق، ألوانه: أي أصنافه، مواخر واحدها ماخرة: أي جارية من مخر الماء الأرض أي شقها، والميد: الحركة والاضطراب يمينا وشمالا، وعلامات: أي معالم يستدلّ بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه منزّه عن الشريك والولد، وأنه لا إله إلا هو، وأمر بتقواه وإخلاص العبادة له- ذكر هنا أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام بأسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم، ونبّه بذلك إلى أن كل واحد من هذا كاف فى صرف المشركين عما هم عليه من الشرك، وكلما بصّرهم طائفة مما يرون ويشاهدون بكّتهم على ما يقولون ويفعلون، وبين لهم كفرانهم نعمتى الرعاية والهداية، فاحتج على وجوده بخلق الأجرام الفلكية،

الإيضاح

ثم ثنى بذكر أحوال الإنسان، ثم ثلّث بذكر أحوال الحيوان، ثم ربّع بذكر أحوال النبات، ثم اختتم القول بذكر أحوال العناصر الأربعة. الإيضاح (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي خلق سبحانه العالم العلوي وهو السموات والعالم السفلى وهو الأرض بما حوت- بالحق أي على نهج تقتضيه الحكمة ولم يخلقهما عبثا، منفردا بخلقهما لم يشركه فى إنشائهما وإحداثهما شريك، ولم يعنه على ذلك معين، تعالى الله عن ذلك، إذ ليس فى قدرة أحد سواه أن ينشى السموات والأرض، فلا تليق العبادة إلا له. وبعد أن ذكر أدلة الأكوان، ذكر خلق الإنسان، فقال: (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي خلق الإنسان من نطفة أي من ماء مهين- خلقا عجيبا فى أطوار مختلفة، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ماتم خلقه، ونفخ فيه الروح، فغذاه ونماه ورزقه القوت، حتى إذا استقل ودرج نسى الذي خلقه خلقا سويا من ماء مهين، بل خاصمه فقال: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» وعبد ما لا يضر ولا ينفع: «ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم وكان الكافر على ربّه ظهيرا» . (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) امتن سبحانه على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهى الإبل والبقر والغنم كما تقدم تفصيل ذلك فى سورة الأنعام، إذ عدها ثمانية أزواج، وبما جعل لهم فيها من المنافع من الأصواف والأوبار والأشعار، لباسا وفراشا، ومن الألبان شرابا، ومن الأولاد أكلا. (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي ولكم فى هذه الأنعام زينة حين تردّونها بالعشي من مسارحها إلى منازلها التي تأوى إليها، وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها، وخصص هذين الوقتين بالذكر، لأن الأفنية تتزين بها

ويتجاوب ثغاؤها ورغاؤها حين الذهاب والإياب، فيعظم أربابها فى أعين الناظرين إليها، وقدم الإراحة على السرح مع تأخرها فى الوجود، لأن الجمال فيها أظهر، وجلب السرور فيها أكمل، ففيها حضور بعد غيبة، وإقبال بعد إدبار، على أحسن ما يكون، إذ تكون ملأى البطون، حافلة الضروع. (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي وهى أيضا تحمل أمتعتكم وأحمالكم من بلد إلى آخر لم تكونوا بالغيه بدونها إلا بكلفة ومشقة وجهد شديد. ونحو الآية قوله: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» وقوله: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ومن ثم أسبغ عليكم نعمه الجليلة، ويسّر لكم الأمور الشاقة العسيرة، ومن رأفته ورحمته بكم أن خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم كما قال: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ؟» . (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) أي وخلق لكم الخيل والبغال والحمير أيضا لتركبوها، وجعلها لكم زينة تتزينون بها- إلى مالكم فيها من منافع أخرى. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) غير هذه الدواب مما يهدى إليه العلم وتستنبطه العقول كالقطر البرية والبحرية والطائرات التي تحمل أمتعتكم وتركبونها من بلد إلى آخر ومن قطر إلى قطر، والمطاود الهوائية التي تسير فى الجو والغواصات التي تجرى تحت الماء إلى نحو أولئك مما تعجبون منه، ويقوم مقام الخليل والبغال والحمير فى الركوب والزينة.

وبعد أن شرح سبحانه دلائل وحدانيته أرشد إلى أنه كفيل ببيان الطريق السوي لمن أراده فقال: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي وعلى الله بيان الطريق المستقيم الموصّل من ملكه إلى الحق، بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضلّ عليها. ونحو الآية قوله: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» وقوله «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» . (وَمِنْها جائِرٌ) أي ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة، معوج زائغ عن الحق فالسبيل القاصد هو الإسلام، والجائر منها هو غيره من الأديان الأخرى، سماوية كانت أو أرضية. وخلاصة هذا- إن ثمة طرقا تسلك للوصول إلى الله، وليس يصل إليه منها إلا الطريق الحق، وهى الطريق التي شرعها ورضيها وأمر بها، وهى طريق الإسلام له والإخبات إليه وحده كما أرشد إلى ذلك بقوله: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» وما عداها فهو جائر، وعلى الله بيان ذلك، ليهتدى إليه الناس، ويبتعدوا عن سواه. ثم أخبر سبحانه بأن الهداية والضلال بقدرته ومشيئته فقال: (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي ولو شاء سبحانه لجعلكم كالنمل والنحل فى حياتكم الاجتماعية، أو جعلكم كالملائكة مفطورين على العبادة وتقوى الله، فلا تتجه نفوسكم إلى المعصية، ولا تسعى إلى الشر، ولكنه شاء أن يجعلكم تعملون أعمالكم باختياركم وتسعون إليها بعد بحثها وفحصها من سائر وجوهها، ثم ترجّحون منها ما تميل إليه نفوسكم، وما ترون فيه الفائدة لكم كما قال عزمن قائل: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ

طريقى الخير والشر- إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» وقد تقدم إيضاح هذا عند قوله: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» وعند قوله: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وبعد أن ذكر نعمته عليهم بتسخير الدواب والأنعام- شرع يذكر نعمته عليهم فى إنزال المطر فقال: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) أي إن الذي خلق لكم الأنعام والخيل وسائر البهائم لمنافعكم ومصالحكم- هو الذي أنزل المطر من السماء عذبا زلالا تشربون منه وتسقون أشجاركم ونباتكم التي تسيمون فيها أنعامكم وفيها ترعى. (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ينبت لكم بالماء الذي أنزله من السماء زرعكم وزيتونكم ونخيلكم وأعنابكم ومن كل الثمرات غير ذلك- أرزاقا لكم وأقواتا نعمة منه عليكم وحجة على من كفر به. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر من إنزال الماء وغيره. لأدلة وحججا على أنه لا إله إلا هو، لقوم يعتبرون مواعظ الله ويتفكرون فيها حتى تطمئن قلوبهم بها، وينبلج نور الإيمان فيها، فيضيء أفئدتهم ويزكّى نفوسهم، فمن فكّر فى أن الحبة والنواة تقع فى الأرض وتصل إليها نداوة منها تنفذ فيها، فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط فى الأرض ويخرج منها ساق ينمو وتخرج فيه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطباع- علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شىء فى صفات كماله فضلا عن أن يشاركه فى أخص صفاته وهى الألوهية واستحقاق العبادة.

ولله در القائل: تأمّل فى رياض الورد وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات ... على أهدابها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأنّ الله ليس له شريك (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) أي ومن نعمه تعالى عليكم مضافة إلى النعم التي سلف ذكرها- أن سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان، خلفة لمنامكم واستراحتكم، وتصرفكم فى معايشكم وسعيكم فى مصالحكم وسخر لكم الشمس والقمر يدأبان فى سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة، وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزرع وإنضاج الثمرات وتلوينها إلى نحو ذلك من الآثار والمنافع التي ربطها سبحانه بوجودهما، وبهما يعرف عدد السنين والشهور، وفى ذلك صلاح معايشكم، وسخر لكم النجوم بأمره تجرى فى أفلاكها بحركة مقدّرة لا تزيد ولا تنقص لتهتدوا بها فى ظلمات البر والبحر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك التسخير لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله ويفهمون ما نبههم إليه بها. وعبر هنا بالعقل وفى خاتمة الآية السالفة بالتفكر، من قبل أن الآثار العلوية متعددة، ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية ظاهرة لا تحتاج إلا إلى العقل من غير تفكر ولا تأمل، بل تدرك بالبديهة، بخلاف الآثار السفلية من الزرع والنخيل والأعناب فهى تحتاج فى دلالتها على وجود الصانع إلى فكر وتدبر ونظر شديد. (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي وما خلق لكم فى الأرض من عجائب الأمور ومختلف الأشياء، من معادن ونبات وحيوان على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها وخواصها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) آلاء الله ونعمه فيشكرونه على ما أنعم، ويخبتون إليه على ما تفضل به وأحسن. وبعد أن ذكر أنواع النعم فى البر شرع يفصّل نعمه فى البحر فقال: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) أي وهو الذي سخر لكم البحر- الماء الملح والعذب- لتأكلوا منه سمكا تصطادونه. وفى وصفه بالطراوة تنبيه إلى أنه ينبغى المسارعة إلى أكله، لأنه يسرع إليه الفساد والتغير، وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء، فسبحان الخبير بخلقه، ومعرفة ما يضر استعماله وما ينفع، وفيه أيضا إيماء إلى كمال قدرته تعالى فى خلقه الحلو الطري فى الماء الذي لا يشرب. وقد كره العلماء أكل الطافي منه على وجه الماء، وهو الذي يموت حتف أنفه فى الماء فيطفو على وجهه، لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه فكلوا، وماطفا فلا تأكلوا» فالمراد من ميتة البحر فى الحديث «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ما لفظه لا مامات فيه من غير آفة. (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) كاللؤلؤ المخلوق فى صدفه العائش فى البحار ولا سيما المحيط الهندي، والمرجان الذي ينبت فى قيعانها، وتوجد حقول من المرجان فى البحر الأبيض المتوسط أمام تونس والجزائر، متى تم ينعها حصدتها الدولة الفرنسية وباعتها للمسلمين وهم لا يعلمون شيئا من أمرها، وكأنهم لم يقرءوا القرآن وكأنهم لم يخلقوا فى هذه الأرض، وكأنهم يقولون: ربنا لا نستخرج، بل نشترى من المستخرجين من الأرض، وكأنهم ليسوا مخاطبين بالاستخراج المباح، وبذا حرّموا على أنفسهم ما أباحه الله لهم، وقد بلغ ما استخرج من المرجان سنة 1886 م 778 ألف كيلو جرام ثمنها خمسة ملايين وسبعمائة وخمسون ألف فرنك. (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) أي وترى السفن جوارى فيه، تشقّه بحيزومها ومقّدمها. مقبلة مدبرة من قطر إلى قطر ومن بلد إلى آخر، ومن إقليم إلى إقليم لجلب ما هناك إلى هنا، وما هنا إلى هناك ومن ثم قال:

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ولتطلبوا فضل الله ورزقه بركوبه للتجارة. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم، إذ جعل ركوب البحر مع كونه مظنة للهلاك سببا للانتفاع وحصول المعاش مع عدم الحاجة إلى الحل والترحال والاستراحة والسكون، ولله در القائل: وإنا لفى الدنيا كركب سفينة ... نظنّ وقوفا والزمان بنا يسرى (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي وألقى فى الأرض جبالا ثوابت لتقرّ ولا تضطرب بما عليها من الحيوان، فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك كما قال: «وَالْجِبالَ أَرْساها» وما الأرض إلا كسفينة على وجه الماء، فإذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى الأسباب، وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة استقرت على حال واحدة، فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت، وقد تقدم إيضاح هذا وسيأتى بعد. (وَأَنْهاراً) أي وجعل فيها أنهارا تجرى من مكان إلى آخر رزقا للعباد، فهى تنبع فى مواضع وهى رزق لأهل مواضع أخرى، فهى تقطع البقاع والبراري وتخترق الجبال والآكام حتى تصل إلى البلاد التي سخّر لأهلها أن تنتفع بها كما يشاهد فى نهر النيل، إذ ينبع من أواسط إفريقيّة، ويمر بجبال ووهاد فى السودان، ويستفيد منه الفائدة الكبرى أهل مصر دون سواها، وكل ذلك بتقدير اللطيف الخبير. (وَسُبُلًا) أي وكذلك جعل فيها سبلا أي طرقا نسلك فيها من بلاد إلى أخرى، وقد تحدت ثلمة فى الجبل لتكون ممرا طريقا وكما قال تعالى فى وصف الجبال: «وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا» الآية. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون. (وَعَلاماتٍ) أي وجعل فيها علامات أي دلائل يهتدى بها الساري من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك، حتى إذا ضل الطريق كانت عونا له، وهدته إلى السبيل السوي فى البر والبحر.

[سورة النحل (16) : الآيات 17 إلى 23]

(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) بالليل فى البراري أو فى البحار. وفى الآية إيماء إلى أن مراعاة النجوم أصل فى معرفة الأوقات والطرق والقبلة، ويحسن أن نتعلم من علم الفلك ما يفيد تلك المعرفة. قال قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء: لتكون زينة للسماء، ومعالم للطرق، ورجوما للشياطين، فمن قال غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به. [سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23] أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) تفسير المفردات المراد بمن يخلق: الله سبحانه وتعالى، ومن لا يخلق: الملائكة وعيسى والأصنام، وما يشعرون: أي لا يعلمون، وأيان: كمتى كلمتان تدلان على الزمن، لا جرم: أي حقا. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الدلائل على وجود الإله القادر الحكيم على أحسن ترتيب وأكمل نظام، وكان فى ذلك تفصيل وإيضاح لأنواع النعم ووجوه الإحسان- قفىّ على ذلك بتبكيت الكفار وإبطال شركهم وعبادتهم غير الله من الأصنام والأوثان،

الإيضاح

لما يلزم ذلك من المشابهة بينه تعالى وبينها، ثم أردف ذلك بيان أن لهذا الخالق نعما لا تحصى على عباده، وأنهم مهما بالغوا فى الشكر، واجتهدوا فى العبادة، فليسوا ببالغين شيئا مما يجب عليهم نحوه، ولكنه يستر عليهم ما فرط من كفرانها، ويرحمهم بفيض النعم عليهم مع عدم استحقاقهم لها، ثم أعقب هذا بذكر خواص الألوهية وهى علم السر والنجوى والخلق وهذه الأصنام ليس لها شىء من ذلك، فهى مخلوقة لا خالقة، ولا شعور لها بحشر ولا نشر، ومن هذا كله يعلم أن الإله واحد لا شريك له، ثم ذكر الأسباب الداعية إلى الإشراك، وهى تحجّر القلوب وإنكار التوحيد، فهى لا ترغب فى الثواب، ولا ترهب العقاب، وتستكبر عن عبادة الواحد الديان- لا جرم بقيت مصرّة على ما كانت عليه من الجهل والضلال. الإيضاح (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي أفمن يخلق هذه الخلائق العجيبة التي عددناها عليكم وينعم هذه النعم العظيمة- كمن لا يخلق شيئا ولا ينعم نعما صغيرة ولا كبيرة، أفلا تذكرون هذه النعم وهذا السلطان العظيم والقدرة على ما شاء من الحكمة، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها، وأنها لا تجلب إلى نفسها نفعا، ولا تدفع ضرا، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه من عبادتها، وإقراركم لها بالألوهية. وخلاصة هذا- الإنكار عليهم ورميهم بالجهل وسوء التقدير وقلة الشكر لمن أنعم عليهم بما لا يحصى من النعم، مع وضوح ذلك وقلة احتياجه إلى تدبر وتفكر وإطالة نظر، بل يكفى فيه تنبه العقل، ليعلم أن العبادة لا تليق إلا للنعم بكل هذه النعم، أما هذه الأصنام التي لا فهم لها ولا قدرة ولا اختيار، فلا تنبغى عبادتها ولا الاشتغال بطاعتها. قال قتادة فى الآية: الله هو الخالق الرازق، لا هذه الأوثان التي تعبد من دون الله، لا تخلق شيئا ولا تملك لأهلها ضرا ولا نفعا اه.

وبعد أن نبههم سبحانه إلى عظمته ذكّرهم بنعمه عليهم وإحسانه إليهم فقال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) أي وإن تعدوا نعم الله لا تضبطوا عددها فضلا عن أن تستطيعوا القيام بشكرها، فإن العبد مهما أتعب نفسه فى طاعته، وبالغ فى شكران نعمه، فإنه يكون مقصرا، فنعم الله كثيرة، وعقل المخلوق قاصر عن الإحاطة بها، ومن ثم فهو يتجاوز عن ذلك التقصير، وإلى ذلك أشار بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ) فيستر عليكم تقصيركم فى القيام بشكرها. (رَحِيمٌ) بكم فيقيض عليكم نعمه مع استحقاقكم للقطع والحرمان، بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان، ومن أفظع ذلك وأعظمه جرما المساواة بين الخالق والمخلوق. قال بعض الحكماء: إن أىّ جزء من البدن إذا اعتراه الألم نغّص على الإنسان النعم، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت فى ملكه حتى يزول عنه ذلك الألم، وهو سبحانه يدبّر جسم الإنسان على الوجه الملائم له، مع أنه لا علم له بوجود ذلك، فكيف يطيق حصر نعمه عليه أو يقدر على إحصائها، أو يتمكن من شكر أدناها؟. ربنا هذه نواصينا بيدك، خاضعة لعظم نعمك، معترفة بالعجز عن تأدية الشكر لشىء منها، لا نحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، ولا نطيق التعبير بالشكر لك، فتجاوز عنا، واغفر لنا، وأسبل ذيول سترك على عوراتنا، فإنك إلا تفعل نهلك، لتقصيرنا فى شكر نعمك، فكيف بما فرط منا من التساهل فى الائتمار بأوامرك، والانتهاء عن مناهيك؟ العفو يرجى من بنى آدم ... فكيف لا يرجى من الربّ اه وبعد أن أبطل عبادة لأصنام، من قبل أنها لا قدرة لها على الخلق والإنعام، أبطل عبادتها بوجه آخر وهو أن الإله يجب أن يكون عليما بالسر والعلانية، وهذه الأصنام جماد لا معرفة لها بشىء فكيف تجمل عبادتها؟ وإلى ذلك أشار بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي والله يعلم ما تسرونه فى ضمائركم، وتخفونه عن غيركم، وما تبدونه بألسنتكم وجوارحكم وأفعالكم، وهو محص ذلك كله عليكم

فيجازيكم به يوم القيامة، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته، وهو سائلكم عما كان منكم من الشكر فى الدنيا على النعم التي أنعمها عليكم فيها، ما أحصيتم منها وما لم تحصوا. ثم وصف سبحانه هذه الأصنام بصفات تجعلها بمعزل عن استحقاق العبادة تنبيها إلى كمال حماقة المشركين وأنهم لا يفهمون ذلك إلا بالتصريح دون التلويح فقال: (1) (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي والأوثان التي تعبدونها من دون الله لا تخلق شيئا بل هى مخلوقة، فكيف يكون إلها ما يكون مصنوعا، وغيره هو الذي دبّر وجوده ونحو الآية قوله: «أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» . (2) (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أي هى أموات ولا تعتريها الحياة بوجه، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، وفائدة قوله غير أحياء بيان أن بعض ما لا حياة فيه قد تدركه الحياة بعد كالنطفة التي ينشئها الله تعالى حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها، أما هذه الأصنام من الحجارة والأشجار فلا يعقب موتها حياة وذلك أتم فى نقصها. (3) (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما تدرى هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله متى تبعث عبدتها. ولا يخفى ما فى ذلك من التهكم بها، لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة لدى كل أحد، فكيف بما لا يعلمه إلا العيم الخبير كما أن فيه تهكما بالمشركين من قبل أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم، وفيه تنبيه إلى أن البعث من لوازم التكليف، لأنه جزاء على العمل من خير أو شر، وأن معرفة وقته لا بد منه فى الألوهية. ولما أبطل طريق عبدة الأصنام وبين فساد مذهبهم صرح بالمدّعى ولخص النتيجة بعد إقامة الحجة فقال: (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي معبودكم الذي يستحق العبادة وإفراد الطاعة له دون

سائر الأشياء- معبود واحد لا تصلح العبادة إلا له، فأفردوا له الطاعة، وأخلصوا له العبادة، ولا تجعلوا معه شريكا سواه. ثم ذكر الأسباب التي لأجلها أصر الكفار على الشرك وإنكار التوحيد فقال: (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي فالذين لا يصدقون بوعد الله ولا وعيده، ولا يقرون بالمعاد إليه بعد الممات- قلوبهم جاحدة لما قصصناه عليكم، من قدرة الله وعظمته، وجزيل نعمه عليهم، وأن العبادة لا تصلح إلا له، والألوهية ليست لشىء سواه، فلا يؤثر فيها وعظ، ولا ينجع فيها تذكير وهم مستكبرون عن قبول الحق، متعظّمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد، تقليدا لما مضى عليه آباؤهم من الشرك به كما حكى سبحانه عنهم قولهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وقولهم: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» وقال: «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» . ثم ذكر وعيدهم على أعمالهم فقال: (لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي حقا إن الله يعلم ما يسر هؤلاء لمشركون من إنكارهم لما قصصته عليك واستكبارهم على الله، ويعلم ما يعلنون من كفرهم به، وافترائهم عليه. ثم علل سوء صنيعهم بشدة استكبارهم فقال: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) أي إن الله لا يحب المستكبرين عن توحيده، والاستجابة لأنبيائه ورسله، بل يبغضهم أشد البغض، وينتقم منهم أعظم الانتقام. أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل

[سورة النحل (16) : الآيات 24 إلى 29]

النار من كان فى قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال رجل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر من بطر الحق، وغمص الناس» . وفى الصحيح «إن المتكبرين أمثال الذر يوم القيامة، تطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم» . [سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) تفسير المفردات الأساطير: واحدها أسطورة كأرجوحة وأراجيح، وهى الترّهات والأباطيل، والأوزار: الآثام واحدها وزر، ساء ما يزرون: أي بئس شيئا يحملونه، والمكر: صرف غيرك مما يريده بحيلة، ويراد به هنا مباشرة الأسباب وترتيب المقدمات، فأتى الله بنيانهم من القواعد: أي أهلكه وأفناه كما يقال أتى عليه الدهر، والقواعد:

المعنى الجملي

الدعائم والعمد: واحدها قاعدة، خرّ: سقط، يخزيهم: يذلهم ويهينهم، وتشاقون: أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء وأتباعهم فى شأنهم، وأصله أن كلا من المتخاصمين فى شقّ وجانب غير شق الآخر، والذين أوتوا العلم: هم الأنبياء، والسلم: الاستسلام والخضوع، بلى بمعنى نعم، والمثوى: مكان الثواء والإقامة. المعنى الجملي بعد أن ذكر دلائل التوحيد ونصب البراهين الواضحة على بطلان عبادة الأصنام، أردف ذلك بذكر شبهات من أنكروا النبوة مع الجواب عنها، وبين أنهم ليسوا ببدع فى هذه المقالة، فقد سبقتهم أمم قبلهم فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فأهلكهم فى الدنيا، وسيخزيهم يوم القيامة بما فعلوا، ثم ذكر أنهم حين يشاهدون العذاب يستسلمون، ويقولون ما كنا نعمل من سوء، ولكن الله عليم بهم وبما فعلوا، ولا مثوى لأمثال هؤلاء المتكبرين إلا جهنم وبئس المثوى هى: الإيضاح (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين: أي شىء أنزله ربكم؟ قالوا لم ينزل شيئا، انما الذي يتلى علينا أساطير الأولين أي هو مأخوذ من كتب المتقدمين. ونحو الآية قوله: حكاية عنهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» وكانوا يفترون على الرسول صلى الله عليه وسلّم أقوالا مختلفة فتارة يقولون إنه ساحر، وأخرى إنه شاعر أو كاهن، وثالثة إنه مجنون، ثم قر قرارهم على ما اختلقه زعيمهم الوليد بن المغيرة المخزومي كما حكى عنه الكتاب الكريم: «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» أي ينقل ويحكى، فتفرقوا معتقدين

صحة قوله، وصدق رأيه، قبّحهم الله، وكان المشركون يقتسمون مداخل مكة ينفّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سألهم وفود الحاج، ويقولون هذه المقالة. ثم بين عاقبة أمرهم فقال: (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي وإنما قدّرنا عليهم أن يقولوا ذلك، لتكون عاقبتهم أنهم يتحملون آثامهم وآثام الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم فى أنفسهم، وخطيئة إغوائهم وإضلالهم لغيرهم واقتدائهم بهم كما جاء فى الحديث «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . ونحو الآية قوله تعالى «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» والمراد من قوله (كاملة) أنه لا ينقص منها شىء ولا يكفّر بنحو نكبة تصيبهم فى الدنيا، ولا طاعة مقبولة تكفّر بعض تلك الأوزار كما هو حال المؤمنين. وفائدة قوله بغير علم- بيان أنهم يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال وأنهم على الباطل، وفى ذلك تنبيه إلى أن كيدهم لا يروج على ذى لب، وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء، وزيادة تعيير وذم لهم، إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم. وقصارى القول- إن هؤلاء قد دنّسوا أنفسهم، واختاروا لها الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وللمسليمن، فكانوا السبب فيما احتملوه من الأوزار والآصار، كما كانوا واسطة فى تحمل من اتّبعوهم هذه الأوزار أيضا، والله تعالى لم يظلهم فيما جازاهم به، بل هم الذين قسطوا وجاروا على أنفسهم، فاستحقوا هذا الجزاء. ثم هددهم وتوعدهم فقال: (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي بئس شيئا يرتكبونه من الإثم والذنب ما يفعلون.

ثم بين لهم أن غائلة مكرهم عائدة إليهم، ووبال ذلك لاحق بهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم من العذاب ما أصابهم بتكذيبهم لرسلهم فقال: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي إن حال من قبلهم وقد دبروا الحيل ونصبوا الحبائل ليمكروا بها رسل الله فأبطلها الله وجعلها سبيلا لهلاكهم، كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين، فضعضعت أساطينه، وسقط عليهم السقف، فهلكوا تحته من حيث لا يشعرون بسقوطه- فما نصبوه من الأساطين وظنوه سبب القوّة والتحصين فى البنيان صار سبب الهلاك، كذلك هؤلاء كانت عاقبة مكرهم وبالا عليهم. ونحو الآية قولهم فى المثل: من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبّا. وخلاصة ذلك- إن الله أحبط أعمالهم وجعلها وبالا عليهم ونقمة لهم. وبعد أن بين سبحانه ما حل بأصحاب المكر فى الدنيا من العذاب والهلاك، بين حالهم فى الآخرة فقال: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي ثم إن ربك يوم القيامة يخزيهم بعذاب أليم، ويقول لهم حين ورودهم عليه على سبيل الاستهزاء والسخرية: أين الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم شركائى، وهلا تحضرونهم اليوم ليدفعوا عنكم ما يحل بكم من العذاب، فقد كنتم تعبدونهم فى الدنيا وتتولّونهم، والولىّ ينصر وليّه. والمراد من المشاقة فيهم مخاصمة الأنبياء وأتباعهم فى شأنهم وزعمهم أنهم شركاء حقا حين بيّنوا لهم ذلك، والمراد بالاستفهام عن ذلك الاستهزاء والتبكيت والاحتقار لشأنهم، إذ كانوا يقولون: إن صح ما تدعون إليه من عذابنا فالأصنام تشفع لنا. والخلاصة- إنه لا شركاء ولا أماكن لهم. ثم ذكر مقال الأنبياء والمرسلين فى شأنهم يوم القيامة. (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قال الذين

أوتوا العلم بدلائل التوحيد وهم الأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنون الذين كانوا يدعونهم فى الدنيا إلى دينهم، فيجادلون وينكرون عليهم: إن الذل والهوان والعذاب يوم الفصل على الكافرين بالله وآياته ورسله- ومرادهم بهذه المقالة الشماتة وزيادة الإهانة للكافرين ثم بين أن الكافرين الذين يستحقون هذا العذاب هم الذين استمر كفرهم إلى أن تتوفاهم الملائكة وهم ظالموا أنفسهم فقال: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي الكافرين الذين تقبض ملائكة الموت أرواحهم وهم ظالموا أنفسهم ومعرّضوها للعذاب المخلّد بكفرهم، وأي ظلم للنفس أشد من الكفر؟ ثم ذكر حالهم حينئذ من الخضوع والمذلة فقال: (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي فاستسلموا وانقادوا حين عاينوا العذاب قائلين: ما كنا نشرك بربنا أحدا، وهم قد كذبوا على ربهم واعتصموا بالباطل رجاء النجاة. ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» . ثم أكذبهم سبحانه فيما قالوا فقال: (بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بل كنتم تعملون أعظم السوء وأقبح الآثام والله عليم بذلك، فلا فائدة لكم فى الإنكار والله مجازيكم بأفعالكم. ثم بين ما يترتب على قبيح أفعالهم فقال: (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فادخلوا طبقات جهنم، وذوقوا ألوانا من العذاب، بما دنستم به أنفسكم من الإشراك بربكم، واجتراحكم عظيم الموبقات والمعاصي- خالدين فيها أبدا، وبئس المقيل والمقام دار الذل والهوان لمن كان متكبرا عن اتباع الرسل والاهتداء بالآيات التي أنزلت عليهم، وما أفظعها من دار، وصفها ربنا بقوله: «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها»

[سورة النحل (16) : الآيات 30 إلى 32]

[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أحوال المكذبين بالله ورسوله الذين ينكرون وحيه ويقولون إن محمدا قد لفق أساطير الأولين وترّهاتهم ونقلها للناس، وادّعى أنها من رب الأرض والسموات، وذكر ما سينالهم من النكال والوبال، إذ يدخلون جهنم خالدين فيها كفاء ما اجترحت أيديهم من الآثام وكسبته من المعاصي- أردف ذلك وصف المؤمنين الذين إذا سئلوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا، وذكر ما أعدّه لهم من الخير والسعادة فى جنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا لما أحسنوا من العمل وأتوا به من جميل الصنع. الإيضاح (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا خَيْراً) أي وقيل للذين خافوا عقاب ربهم: أىّ شىء أنزله ربكم؟ قالوا أنزل خيرا وبركة ورحمة لمن اتبع دينه وآمن برسوله. روى ابن أبى حاتم عن السّدّى قال: اجتمعت قريش فقالوا إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم، فابعثوهم فى كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده فردوه عنه، فخرج ناس فى كل طريق، فكان إذا أقبل

الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد، ووصل إليهم قال أحدهم أنا فلان بن فلان فيعرّفه نسبه ويقول له: أنا أخبرك عن محمد. إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيهم، وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له، فيرجع الوافد، فذلك قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد فقالوا له مثل ذلك، قال: بئس الوافد لقومى إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول، وآتى قومى ببيان أمره، فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد؟ فيقولون خيرا. ثم فضلوا هذا الخير فقالوا: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي للذين آمنوا بالله ورسوله وأطاعوه فى هذه الدنيا، ودعوا عباده إلى الإيمان والعمل بما أمر به- مثوبة حسنة من عند ربهم، كفاء ما قدموا من عمل صالح وخير عميم. ونحو الآية قوله: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . ثم ذكر جزاءهم فى الآخرة وما أعدّ لهم من جزيل النعم فقال: (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من الحياة الدنيا، والجزاء فيها أتمّ من الجزاء فى تلك. ونحو الآية قوله: «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً» الآية، قوله: «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» وقوله لرسوله: «وللآخرة خير لك من الأولى» . وفصل هذا الجزاء بقوله: (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي ولنعمت

الدار للمتقين جنات إقامة تجرى من بين قصورها وأشجارها الأنهار، حسنت مستقرا ومقاما. ثم بين أن نعمها غير ممنوعة ولا مقطوعة فقال: (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي للذين أحسنوا فى هذه الدنيا فى جنات عدن ما يشاءون مما تشتهى أنفسهم وتقرّ به أعينهم كما قال: «وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» . ثم ذكر أن هذا جزاء لهم على أعمال البر والتقوى فقال: (كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) أي مثل ذلك الجزاء الأوفى يجزى الله الذين اتقوا الشرك والمعاصي. وفى هذا حث للمؤمنين على الاستمرار على التقوى، وحث لغيرهم على تحصيلها. ثم وصف الله المتقين بقوله: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) قال الراغب: الطيب من الناس من تعرّى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الخصال، وتحلّى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال، وهذا إيضاح لقول مجاهد: الطيب من تزكو أقواله وأفعاله. وقوله (طَيِّبِينَ) كلمة مختصرة جامعة لكثير من المعاني، يدخل فيها إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم كل ما نهوا عنه، واتصافهم بفضائل الأخلاق وجميل السجايا، وبراءتهم من ذميم الرذائل، وتوجههم إلى حضرة القدس، وعدم اشتغالهم بعالم الشهوات واللذات الجسمانية، ويتبع ذلك أنه يطيب لهم قبض أرواحهم، لأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى كأنهم مشاهدوها، ومن هذه حاله لا يألم بالموت كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» .

[سورة النحل (16) : الآيات 33 إلى 34]

ثم حكى ما تقوله الملائكة بشرى لهم فقال: (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تقول لهم الملائكة: سلام عليكم، لا يحيق بكم مكروه بعد، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم، ووعد كموها بما قدمتم من عمل، وبما دأبتم على تقواه وطاعته، والمراد من قوله (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) البشارة بالدخول فيها بعد البعث إذا أريد الدخول بالأرواح والأبدان، فإن أريد الدخول بالأرواح فحسب كان ذلك حين التوفى كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلّم «القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار» . أخرج ابن جرير والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولىّ الله، الله يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة» اه. [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) تفسير المفردات ينظرون: ينتظرون، وأمر ربك: هو الهلاك وعذاب الاستئصال، وحاق بهم أي أحاط بهم، وخص استعمالا بإحاطة الشر. المعنى الجملي بعد أن ذكر طعن المشركين فى القرآن بنحو قولهم: إنه أساطير الأولين، وإنه قول شاعر، ثم هددهم بضروب من التهديد والوعيد، ثم أتبعه بالوعد بالثواب لمن صدق به- قفّى على ذلك ببيان أن الكفار لا يزدجرون عن أباطيلهم إلا إذا جاءتهم

الإيضاح

الملائكة قابضة أرواحهم، أو يأتيهم عذاب الاستئصال، فلا يبى منهم أحدا، ثم أتبعه ببيان أن هؤلاء ليسوا ببدع فى الأمم، فقد فعل من قبلهم مثل فعلهم فأصابهم الهلاك جزاء ما فعلوا، وما ظلمهم الله ولكن هم قد ظلموا أنفسهم: «إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم» . الإيضاح َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي ما ينتظر كفار مكة الذين قالوا إن القرآن أساطير الأولين، إلا أن تأتيهم الملائكة تقبض أرواحهم. َوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالعذاب فى الدنيا كما فعل بأسلافهم من الكفار، فيرسل عليهم الصواعق، أو يخسف بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، وهذا تهديد لهم على تماديهم فى الباطل واغترارهم بالدنيا. وخلاصة هذا- حثهم على الإيمان بالله ورسوله، والرجوع إلى الحق قبل أن بنزل بهم ما نزل بمن قبلهم من السالفين المكذبين لرسلهم. ثم ذكر أنهم ليسوا بأول من كذب الرسل فقال: َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي هكذا تمادى أسلافهم فى شركهم حتى ذاقوا بأسنا، وحل بهم عذابنا ونكالنا. ثم ذكر أن ما يصيبهم جزاء لما كسبت أيديهم فقال: َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمهم الله بإنزال العذاب بهم، لأنه أعذر إليهم، وأقام حججه عليهم، بإرسال رسله، وإنزال كتبه، ولكن ظلموا أنفسهم بمخالفة الرسل وتكذيبهم ما جاءوا به. ثم أعقبه بذكر ما ترتب على أعمالهم فقال: (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلهذا أصابتهم

[سورة النحل (16) : الآيات 35 إلى 37]

عقوبة الله على ما فعلوا، وأحاط بهم عذابه الأليم، جزاء ما كانوا يسخرون من الرسل حين توعدوهم بعقابه. ونحو الآية قوله: «هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» . [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 37] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) تفسير المفردات الطاغوت: كل معبود دون الله، من شيطان وكاهن وصنم وكل من دعا إلى ضلال، ويقع على الواحد كقوله «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» وعلى الجمع كقوله: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» حقت: وجبت وثبتت بالقضاء السابق فى الأزل، لإصراره على الكفر والعناد. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن هؤلاء المشركين لا يزدجرون إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد والوعيد، أو أتاهم عذاب الاستئصال، كما حدث لمن قبلهم من الأمم جزاء استهزائهم برسل الله- قفى على ذلك ببيان أنهم طعنوا فى إرسال الأنبياء جملة وقالوا

الإيضاح

إنا مجبورون على أعمالنا، فلا فائدة من إرسالهم، فلو شاء الله أن نؤمن به ولا نشرك به شيئا ونحل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا لكان الأمر كما أراد، لكنه لم يشأ إلا ما نحن عليه، فما يقوله الرسل إنما هو من تلقاء أنفسهم لا من عند الله. وقد رد الله عليهم مقالهم بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم السالفة، وما على الرسل إلا التبليغ وليس عليهم الهداية، ولم يترك الله أمة دون أن يرسل إليها هاديا يأمر بعبادته، وينهاهم عن الضلال والشرك، فمنهم من استجاب دعوته، ومنهم من أضله الله على علم، فحقت عليهم كلمة ربك، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ثم أمرهم بالضرب فى الأرض ليروا آثار أولئك المكذبين الذين أخذوا بذنوبهم، ثم ذكّر رسوله بأن الحرص على إيمانهم لا ينفعك شيئا، فإن الله لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يختار الضلالة لنفسه، كما لا يجد أحدا يدفع عنه بأس الله ونقمته. الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأصنام والأوثان من دونه تعالى معتذرين عما هم عليه من الشرك محتجين بالقدر: ما نعبد هذه الأصنام إلا لأنه قد رضى عبادتنا لها، ولا حرّمنا ما حرمنا من البحائر والسوائب والوصائل ونحو ذلك إلا لأنه قد رضى ذلك منا، ولو كان كارها لما فعلنا لهدانا إلى سواء السبيل، أو لعجّل لنا العقوبة وما مكننا من عبادتها. وقد رد الله عليهم شبهتهم بقوله: َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ومثل ذلك الفعل الشنيع فعل الذين من قبلهم من الأمم، واستن هؤلاء سنتهم وسلكوا سبيلهم فى تكذيب الرسول واتباع أفعال آبائهم الضلّال. ثم بين خطأهم فيما يقولون ويفعلون فقال:

(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فهل على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم من أمره ونهيه إلا إبلاغ الرسالة وإيضاح طريق الحق وإظهار أحكام الوحى التي منها أن مشيئته تعالى تتعلق بهداية من وجّه همته إلى تحصيل الحق كما قال «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» وليس من وظيفتهم إلجاء الناس إلى الإيمان شاءوا أو أبوا، فإن ذلك ليس من شأنهم، ولا من الحكمة التي عليها مدار التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثارها على عدم حقية الرسل أو على عدم تعلق مشيئة الله بذلك وقصارى هذا- إن الثواب والعقاب لا بد فيهما من أمرين: تعلق مشيئته تعالى بوقوع أحدهما، وتوجيه همة العبد إلى تحصيل أسبابه وصرف اختياره إلى الدأب على إيجاده، وإلا كان كل من الثواب والعقاب اضطراريا لا اختياريا، والرسل ليس من شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي، أما العمل بها إلجاء وقسرا فليس من وظيفتهم لا فى كثير ولا قليل. ثم بين سبحانه أن بعثة الرسل أمر جرت به السنة الإلهية فى الأمم كلها وجعلت سببا لهدى من أراد الله هدايته، وزيادة ضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السرىّ ويقويّه، ويضر المزاج المنحرف ويفنيه فقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي ولقد أرسلنا فى كل أمة سلفت قبلكم رسولا كما بعثنا فيكم رسولا، فقال لهم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، واحذروا أن يغويكم الشيطان ويصدكم عن سبيل الله فتضلوا. ونحو الآية قوله: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» وقوله: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟» . وإجمال القول- إن المشيئة الشرعية للكفر منتفية، لأنه تعالى نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، والمشيئة الكونية وهى تمكين عباده من الكفر وتقديره لهم

بحسب اختيارهم وصرف همتهم إلى تحصيل أسبابه، لا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وجعل أهلها من الشياطين وأهل الكفر، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله فى ذلك حجة ناصعة وحكمة بالغة. ثم بين سبحانه أنه أنكر على عباده المكذبين كفرهم بإنزال العقوبة بهم فى الدنيا بعد إنذار الرسل فقال: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي فممن بعثنا فيهم رسلنا من هداه الله ووفقه لتصديقهم وقبول إرشادهم والعمل بما جاءوا به، ففازوا وأفلحوا ونجوا من عذابه، ومنهم من جاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله وكذبوا رسله واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم بعقابه، وأنزل بهم شديد بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فسيروا فى الأرض التي كان يسكنها القوم الظالمون، والبلاد التي كانوا يعمرونها كديار عاد وثمود ومن سار سيرتهم ممن حقت عليه الضلالة، وانظروا إلى آثار سخطنا عليهم، لعلكم تعتبرون بما حل بهم. ثم خاطب سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلّم مسلّيا له على ما يراه من جحود قومه وشديد إعراضهم ومبالغتهم فى عنادهم، مع حدبه عليهم وعظيم رغبته فى إيمانهم، ومبينا له أن الأمر بيد الله وليس له من الأمر شىء فقال: (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أي إن تحرص أيها الرسول على هداية قومك- لا ينفعهم حرصك إذا كان الله يريد إضلالهم بسوء اختيارهم وتوجيه عزائمهم، إلى عمل المعاصي والإشراك بربهم. ونحو الآية قوله: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقوله حكاية عن مقالة نوح لقومه: «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ» وقوله: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .

[سورة النحل (16) : الآيات 38 إلى 40]

ومجمل القول- إن من اختار الضلالة ووجّه همته إلى تحصيل أسبابها فالله سبحانه لا يخلق فيه الهداية قسرا وإلجاء، لأن مدار الإيمان والكفر الاختيار لا الإلجاء والاضطرار. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وما لهم ناصر ينصرهم من الله إن أراد عقوبتهم كما قال: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» . [سورة النحل (16) : الآيات 38 الى 40] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) تفسير المفردات الجهد، بفتح الجيم: المشقة: وبضمها. الطاقة، وجهد أيمانهم: أي غاية اجتهادهم فيها، وبلى: كلمة جواب كنعم لكنها لا تقع إلا بعد النفي فتثبت ما بعده، وعدا عليه حقا: أي وعد ذلك وعدا عليه حقا، أي ثابتا متحققا لا شك فيه. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه حجتهم وقولهم إنه لا حاجة إلى الأنبياء جميعا، لأنا مجبورون فيما نفعل، وأنه لو شاء الله أن نهتدى لكان، دون حاجة إلى إرسال الأنبياء، وردّه عليهم بأن الحاجة إليهم إنما هى فى تبليغ ما أمر به وترك ما نهى عنه ولا يلزمون أحدا بإيمان ولا كفر- أردف هذا بشبهة أخرى لهم، إذ قالوا إنما نحتاج إلى الأنبياء لو كان لنا عودة إلى حياة جديدة بعد الموت فيها ثواب وعقاب، ولكن

الإيضاح

العودة إلى حياة أخرى غير ممكنة ولا معقولة- ذاك أن الجسم إذا تفرق وذهبت أجزاؤه كل مذهب امتنع أن يعود بعينه ليحاسب ويعاقب، فرد الله عليهم ما قالوا بأن هذا ممكن، وقد وعد عليه وعدا حقا، وأنه فعل ذلك ليميز الخبيث من الطيب والعاصي من المطيع، وأيضا فإيجاده تعالى للأشياء لا يتوقف على سبق مادة ولا آلة، بل يقع ذلك بمحض قدرته ومشيئته، وليس لقدرته دافع ولا مانع. أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن أبى العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به، والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا وكذا، فقال له المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت، وأقسم جهد يمينه لا يبعث الله من يموت، فأنزل الله (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الآية. وأخرج هؤلاء عن أبى هريرة قال: «قال الله: سبّنى ابن آدم ولم يكن ينبغى له أن يسبنى، وكذّبنى ولم يكن ينبغى له أن يكذبنى، فأما تكذيبه إياى فقال (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) وقلت: (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) وأما سبه إياى فقال: (إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وقلت: (هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) » . الإيضاح (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) أي إنهم اجتهدوا فى الحلف، وأغلظوا فى الأيمان، أنه لا يقع بعث بعد الموت، وهذا استبعاد منهم لحصوله، من جراء أن الميت يفنى ويعدم، والبعث إعادة له، وإعادة المعدوم مستحيلة. وقد رد الله عليهم وكذبهم بقوله: (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي بلى سيبعثه الله بعد مماته، وقد وعد بذلك وعدا حقا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بشئون الله وصفات كماله من علم وقدرة وحكمة ونحوها، لا يعلمون أن وعد الله لا بد من نفاذه

وأنه باعثهم بعد مماتهم يوم القيامة أحياء، ومن قبل هذا جرءوا على مخالفة الرسل، ووقعوا فى الكفر والمعاصي. ثم ذكر سبحانه الحكمة فى المعاد، وقيام الأجساد يوم التناد فقال: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي بل يبعثهم ليبين لهم وجه الحق فيما جاء به الرسل وخالفتهم فيه أممهم، فيمتاز الخبيث من الطيب، والمطيع من العاصي، والظالم من المظلوم، إلى نحو أولئك مما كان مدار دعوة أولئك الرسل وأنكرته الأمم الذين أرسلوا إليهم، ويجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) أي وليعلم الذين جحدوا وقوع البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين فى قولهم: لا يبعث الله من يموت، وسيدعون إلى نار جهنم دعّا، وتقول لهم الزبانية: «هذه النّار الّتى كنتم بها تكذّبون. أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. أصلها فاصبروا أولا تصبروا سواء عليكم إنّما تجزون ما كنتم تعملون» . ثم أخبر سبحانه عن كامل قدرته، وأنه لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء فقال: (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب فى إحيائه ولا بعثه، لأنا إذا أردنا ذلك فإنما نقول له: كن فيكون، لا معاناة فيه، ولا كلفة علينا. ونحو الآية قوله: «فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقوله: «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» وقوله: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» . وخلاصة هذا- إنه تعالى مثّل حصول المقدورات وفق مشيئته، وسرعة حدوثها حين إرادته، بسرعة حصول المأمور حين أمر الآمر وقوله، دون هوادة ولا تراخ.

[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 42]

[سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 42] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه أن الكفار أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة، وتمادوا فى الغىّ والضلالة، (ومن هذه حاله فليس بالعسير عليه أن يقدم على إيذاء المؤمنين بألوان من الإيذاء، حتى يضطروهم إلى الهجرة عن الديار ومفارقة الأهل والأوطان) - ذكر هنا حكم تلك الهجرة وبين ما لهؤلاء المهاجرين من حسنات فى الدنيا وأجر فى الآخرة، من جراء أنهم فارقوا أوطانهم وصبروا وتوكلوا على الله. وفى هذا ترغيب لغيرهم فى الهجرة واحتمال كل أذى فى سبيل الله احتسابا للأجر. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة فى هذه الآية قال: هؤلاء أصحاب محمد، ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. الإيضاح (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم، وذهبوا إلى بلاد أخرى احتسابا لأجر الله ونيلا لمرضاته، من بعد ما نالهم من الكفار من أذى فى أنفسهم وأموالهم- لنسكننّهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها، إذ هم لما تركوا مساكنهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله عوضهم الله خيرا منها فى الدنيا، فمكّن لهم فى البلاد، وحكّمهم فى رقاب العباد، وصاروا أمراء وحكاما، وكان كل منهم للمتقين إماما.

[سورة النحل (16) : الآيات 43 إلى 50]

ثم أخبر سبحانه أن ثوابه لهم فى الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم فى الدنيا فقال: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي ولثواب الله إياهم على هجرتهم من أجله فى الآخرة أكبر، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي لا يفنى نعيمها، ولا يزول خيرها. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله فى الدنيا، وما ذخره لك فى الآخرة أفضل ثم تلا هذه الآية. (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي هؤلاء هم الذين صبروا على ما نالهم من أذى قومهم ولم يرجعوا القهقرى، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، وعلى احتمال الغربة بين ناس لم تجمعهم بهم ألفة نسب ولا جوار فى دار، وقد فوّضوا أمرهم إلى ربهم الذي أحسن لهم العاقبة فى الدنيا والآخرة، وأعرضوا عن كل ما سواه. [سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 50] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أهل الذكر: أهل الكتاب كما قال: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» أي التوراة، والبينة: هى المعجزات الدالة على صدق الرسول، والزبر: واحدها زبور، وهى كتب الشرائع والتكاليف التي يبلغها الرسل إلى العباد، والذكر: القرآن، لتبين للناس: أي لتوضح لهم ما خفى عليهم من أسرار التشريع، والمكر: السعى بالفساد خفية، والسيئات: أي الأعمال التي تسوءهم عاقبتها، يخسف بهم الأرض: أي يزيلها من الوجود وهم على سطحها، فى تقلبهم: أي فى أسفارهم وسيرهم فى البلاد البعيدة للسعى فى أرزاقهم كما قال: «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ» بمعجزين: أي بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار، والتخوف: التنقص من قولهم تخوّفت الشيء وتخيفّته إذا تنقصته، والمراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلا قليلا حتى يأتى عليها الفناء جميعا، ويتفيأ: من الفيء يقال فاء الظل يفىء فيئا إذا رجع وعاد بعد ما أزاله ضياء الشمس، والظلال: واحدها ظل وهو ما يكون أول النهار قبل أن تناله الشمس، قال رؤبة: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فىء، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل، واليمين والشمائل: جانبا الشيء الكثيف من الجبال والأشجار وغيرها، والسجود: الانقياد والخضوع من قولهم سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل، ومنه قوله: «واسجد لقرد السوء فى زمانه» أي اخضع له، داخرون: أي صاغرون منقادون واحدهم داخر وهو الذي يفعل ما تأمره به شاء أو أبى، يخافون ربهم: أي يخافون عقابه، من فوقهم: أي بالقهر والغلبة كما قال: «وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ» .

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر جلت قدرته ما قاله المشركون من أنهم لا حاجة بهم إلى الأنبياء، لأن الحاجة إليهم إنما تدعو لو كانت هناك حياة أخرى يحاسبون فيها، وهم لا يصدقون بها، وليس من المعقول أن تكون- أردف ذلك بشبهة أخرى لهم إذ قالوا هب الله أرسل رسولا فليس من الجائز أن يكون بشرا فالله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر، فلو بعث إلينا رسولا لبعثه ملكا، ثم أجاب عن هذه الشبهة بأن سنة الله أن يبعث رسله من البشر، وإن كنتم فى شك من ذلك فاسألوا أهل الكتاب عن ذلك ثم هددهم أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون، أو يأتيهم بعذاب من السماء فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط، أو يأخذهم وهم يتقلبون فى أسفارهم ومعايشهم، أو يأخذهم طائفة بعد أخرى ثم أعقب هذا بما يدل على كمال قدرته فى تدبير أحوال العالم العلوي والسفلى على أتم نظام وأحكم تقدير. الإيضاح (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي وما أرسلنا من قبلك رسلا إلى أممهم للدعوة إلى توحيدنا والانتهاء إلى أمرنا- إلا رجالا من بنى آدم نوحى إليهم لا ملائكة. ومجمل القول- إنا لم نرسل إلى قومك إلا مثل الذين كنا نرسلهم إلى من قبلهم من الأمم أي رسلا من جنسهم وعلى منهاجهم. روى الضحاك عن ابن عباس أن الله لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلّم أنكر العرب ذلك وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فأنزل الله: «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ» الآية. ونحو الآية قوله: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» وقوله: «ما هذا

إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ؟ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» وقوله: «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» . (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فاسألوا أهل الكتب السابقة من اليهود والنصارى: أبشرا كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلّم رسولا. (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) تقول العرب زبرت الكتاب: أي كتبته كما قال تعالى «وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» أي وما أرسلنا رسلا إلا رجالا بالأدلة والحجج التي تشهد لهم بصدق نبوتهم، والكتب التي تشمل التكاليف والشرائع التي يبلغونها من الله إلى العباد. (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي وأنزلنا إليك القرآن تذكيرا وعظة للناس، لتعرفهم ما أنزل إليهم من الأحكام والشرائع وأحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب جزاء عنادهم مع أنبيائهم، وتبين لهم ما أشكل عليهم من الأحكام وتفصل لهم ما أجمل بحسب مراتبهم فى الاستعداد والفهم لأسرار التشريع. (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وتوقعا منك، وانتظارا لتفكرهم فى هاتيك الأسرار والعبر، وإبعادا لهم عن سلوك سبيل الغابرين من المكذبين حتى لا يصيبهم مثل ما أصابهم. ثم حذّرهم وخوّفهم مغبّة ما هم فيه من العصيان والكفر فقال: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي أفأمن الذين مكروا برسول الله من أهل مكة، وراموا صد أصحابه عن الإيمان بالله أن يصيبهم بعقوبة من عنده: (1) إما بأن يخسف بهم الأرض ويبيدهم من صفحة الوجود كما فعل بقارون من قبل.

(2) وإما بأن يأتيهم بعذاب من السماء فجأة من حيث لا يشعرون كما صنع بقوم لوط. (3) وإما بأن يأخذهم بعقوبة وهم فى أسفارهم يكدحون فى الأرض ابتغاء الرزق، وما هم بممتنعين عليه فائتين له بالهرب والفرار كما قال: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» وقال صلى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» . (4) وإما بأن يخيفهم أولا ثم يعذبهم بعد ذلك، بأن يهلك طائفة فتخاف التي تليها حتى يأتى عليهم جميعا، ويكون هذا أشد عليهم إيلاما ووحشة. وختم الآية بما ختم به، لبيان أنه لم يأخذهم بعذاب معجّل، بل آخذهم بحالات يخاف منها كالرياح الشديدة، والصواعق والزلازل، وفى ذلك امتداد وقت، ومهلة يمكن فبها تلافى التقصير، وهذا من آثار رحمته بعباده. ثم ذكر آثار قدرته على خلقه فقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) أي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من الأجسام القائمة، كالأشجار والجبال التي تتفيأ ظلالها، وترجع من موضع إلى موضع عن اليمين والشمائل، فهى فى أول النهار على حال ثم تتقلص، ثم تعود إلى حال أخرى فى آخر النهار، مائلة من جانب إلى جانب ومن ناحية إلى أخرى، صاغرة منقادة لربها، خاضعة لقدرته. ثم ذكر ما هو كالدليل لما سلف فقال: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي ولله يخضع ما فى السموات وما فى الأرض مما يدب عليها، وكذلك ملائكته الذين فى السماء وهم لا يستكبرون عن التذلل والخضوع له. (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي يخاف هؤلاء الملائكة

[سورة النحل (16) : الآيات 51 إلى 55]

والدواب التي فى الأرض ربهم الذي هو من فوقهم بالقوة والقهر- أن يعذبهم إن عصوه، ويفعلون ما أمرهم به، فيؤدون حقوقه ويجتنبون سخطه. ونحو الآية قوله: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» ومجمل القول- إنه تعالى نبه إلى أنه لعظمته وكبريائه، تدين له المخلوقات بأسرها، جمادها ونباتها وحيوانها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة. [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 55] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) تفسير المفردات الرهبة: الخوف، والدين: الطاعة، والواصب: الدائم كما قال: «لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» وتجأرون: أي تتضرعون لكشفه. وأصل الجؤار: صياح الوحش ثم استعمل فى رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. المعنى الجملي لما بين سبحانه فى الآيات السالفة أن كل ما سواه من جماد وحيوان وإنس وجن وملك- منقاد به وخاضع لسلطانه- أتبع ذلك بالنهى عن الشرك به، وبين أن كل ما سواه فهو ملكه، وأنه مصدر النعم كلها، وأن الإنسان يتضرع إليه إذا مسه

الإيضاح

الضر، فإذا كشفه عنه رجع إلى كفره، وأن الحياة الدنيا قصيرة الأمد، ثم يعلم الكفار بعدئذ ما يحل بهم من النكال والوبال جزاء لهم على سيىء أعمالهم وقبيح أفعالهم. الإيضاح (وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي وقال الله لعباده: لا تتخذوا لى شريكا ولا تعبدوا سواى، فإنكم إذا عبدتم معى غيرى جعلتموه لى شريكا، ولا شريك لى، إنما هو إله واحد، ومعبود واحد، وأنا ذاك، فاتقونى وخافوا عقابى، بمعصيتكم إياى، بإشراككم بي غيرى، أو عبادتكم سواى. وإنما ذكر العدد مع أن صيغة التثنية مغنية عنه، للدلالة على أن المنهي عنه هى الاثنينية وأنها منافية للألوهية، كما أن وصف الإله بالوحدة فى قوله (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية وأنها من لوازم الألوهية، أما الألوهية فغير منكرة ولا متنازع فيها. والخلاصة- إنه تعالى أخبر أنه لا إله إلا هو، وأنه لا تنبغى العبادة إلا له وحده (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) أي ولله ملك ما فى السموات والأرض من شىء، لا شريك له فى شىء من ذلك، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم، وبيده حياتهم وموتهم، وله الطاعة والإخلاص على طريق الدوام والثبات. ثم ذكر ما هو كالنتيجة لذلك فقال: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) أي أفبعد أن علمتم هذا ترهبون غير الله، وتحذرون أن يسلبكم نعمة، أو يجلب لكم أذى، أو ينزل بكم نقمة إذا أنتم أخلصتم العبادة لربكم، وأفردتم الطاعة له، وما لكم نافع سواه. وإجمال ذلك- إنكم بعد أن عرفتم أن إله العالم واحد، وعرفتم أن كل

ما سواه فهو فى حاجة إليه فى وجوده وبقائه، كيف يعقل أن يكون لامرئ رغبة أو رهبة من غيره؟ ولما بين أن الواجب ألا يتقى غير الله- ذكر أنه يجب ألا يشكر إلا هو فقال: (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) أي وما بكم من نعمة فى أبدانكم من عافية وصحة وسلامة، وفى أموالكم من نماء وزيادة، فالله هو المنعم بها عليكم، والمتفضّل بها لا سواه، فبيده الخير وهو على كل شىء قدير، فيجب عليكم أن تشكروه على هذه النعم المتواصلة، وإحسانه الدائم الذي لا ينقطع. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي ثم إذا أصابكم فى أبدانكم سقم ومرض أو حاجة عارضة، أو شدة وجهد فى العيش ووسائل الحياة، فإليه تصرخون بالدعاء وتستغيثون به ليكشف ذلك عنكم، علما منكم أنه لا يقدر على إزالة ذلك إلا هو. (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي ثم إذا وهب لكم ربكم العافية، ورفع عنكم ما أصابكم من مرض فى أبدانكم، أو شدة فى معاشكم، بتفريج البلاء عنكم، إذا جماعة منكم يجعلون لله شريكا فى العبادة، فيعبدون الأوثان، ويذبحون لها الذبائح، شكرا لغير من أنعم بالفرج، وأزال من الضر. ونحو الآية قوله: (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) . قال السيد الآلوسى فى تفسيره: وفى الآية ما يدل على أن صنيع العوام اليوم من الجؤار إلى غير الله تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا- عند إصابة الضر بهم وإعراضهم عن دعائه تعالى بالكلية- سفه عظيم وضلال جديد

[سورة النحل (16) : الآيات 56 إلى 60]

لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعرّ منه الجلود، لحصوله ممن يؤمن باليوم الموعود. إن بعض المتشيخين قال لى وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث بالله إذا خطب دهاك، فإن الله تعالى لا يعجّل فى إغاثتك، ولا يهمه سوء حالتك، وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين، فإنهم يعجّلون فى تفريج كربك، ويهمهم سوء ما حل بك، فمجّ ذلك سمعى، وهمي دمعى، وسألت الله تعالى أن يعصمى والمسلمين من أمثال هذا الضلال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك اه. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي قيضنا لهم ذلك لتكون عاقبة أمرهم أن يجحدوا نعم الله عليهم، وأنه هو المسدى لها، وأنه هو الكاشف للنقم عنهم. وقد فعلوا ذلك لسوء استعدادهم وخبث طويتهم، وبما ران على قلوبهم من الكفر والعصيان، فجحدوا فضل الملك الديان، وإحسان صاحب الطّول والإحسان. ثم توعدهم على سوء صنيعهم وأبان لهم عاقبة أمرهم فقال. (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي فتمتعوا فى هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم، وتبلغوا الميقات الذي وقّت لحياتكم وتمتعكم فيها، وبعدئذ ستصيرون إلى ربكم، فتعلمون عند لقائه وبال ما كسبت أيديكم، وسوء مغبة أعمالكم، وتندمون حين لا ينفع الندم. [سورة النحل (16) : الآيات 56 الى 60] وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

تفسير المفردات

تفسير المفردات تفترون: أي تكذبون، سبحانه: أي تنزيها له عن النقائص والبشارة فى أصل اللغة إلقاء الخبر الذي يؤثّر فى تغير بشرة الوجه، ويكون فى السرور والحزن فهو حقيقة فى كل منهما، وعلى هذا جاءت الآية، ثم خص فى عرف اللغة بالخبر السارّ، ويقال لمن لقى مكروها قد اسودّ وجهه غما وحزنا، ولمن ناله الفرح والسرور استنار وجهه وأشرق، والكظيم: الممتلئ غما وحزنا والكظم مخرج النفس يقال أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه، ومنه كظم غيظه أي حبسه عن الوصول إلى مخرج النفس، ويتوارى: أي يستخفى وقد كان من عادتهم فى الجاهلية أن يتوارى الرجل حين ظهور آثار الطلق بامرأته، فإن أخبر بذكر ابتهج، وإن أخبر بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبّر فيها ما يصنع، ويمسكه: أي يحبسه كقوله (أمسك عليك زوجك) والهون: الهوان والذل، ويدسّه: أي يخفيه، ومثل السوء: أي الصفة السوء، وهى احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للبنات خوف الفقر والعار، ولله المثل الأعلى: أي الصفة العليا وهى أنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه سخف أقوال أهل الشرك، أردف ذلك بذكر قبائح أفعالهم التي تمجها الأذواق السليمة. الإيضاح حكى سبحانه بعض قبائح المشركين الذين عبدوا الأوثان والأصنام وعدّ. منها: (1) (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي ويجعل هؤلاء المشركون

للأصنام التي لا يعلمون منها ضرا ولا نفعا نصيبا مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرهما مما خلق الله يتقربون به إليها، وهذا إشراك منهم لما لا يعلمون منه الفائدة بالذي يعلمون أنه الذي هو خلقهم وهو الذي رزقهم وهو الذي ينفعهم وهو الذي يضرهم دون غيره، وقد سبق تفصيل ذلك فيما حكى الله عنهم فى سورة الأنعام بقوله: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» . ثم توعدهم على ما فعلوا فقال: (تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي أقسم لأسألنّكم عما افتر يتموه واختلقتموه من الباطل، ولأعاقبنكم على ذلك عقوبة تكون كفاء كفرانكم نعمى، وافترائكم علىّ. ونحو الآية قوله: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» . وهذا السؤال سؤال تأنيب وتقريع لهم على ما اجترحوا من أقوال وأفعال. (2) (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي ولقد بلغ من جهل هؤلاء المشركين وعظيم أباطيلهم أنهم يجهلون خلقهم، ودبّر شؤونهم، واستحق شكرهم على جزيل نعمائه- البنات، إذ قالت خزاعة: الملائكة بنات الله كما قال عز اسمه: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» وعبدوها مع الله وقد أخطئوا فى ذلك خطأ كبيرا، وضلوّا ضلالا بعيدا، إذ نسبوا إليه الأولاد ولا أولاد له، وأعطوه منها أخسها وهى البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم، بل لا يرضون إلا البنين كما قال تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» وقال: «أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ» . والمراد من قوله ولهم ما يشتهون: انهم يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

قال ابن عباس يقول: تجعلون لى البنات، ترتضونهن لى ولا ترتضونهنّ لأنفسكم. ثم أكد ما سلف بقوله: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي وإذا بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات بولادة أنثى ظل وجهه مسودا كئيبا من الهم ممتلئا غيظا وحنقا من شدة ما هو فيه من الحزن، يتوارى من الناس حجلا واستحياء: ولا يود أن يراه أحد من مساءته بما بشر بها، ويدور بخلده أحد أمرين: إما أن يمسكها ويبقيها بقاء ذلة وهوان فلا يورّثها ولا يعنى بها، بل يفضّل الذكور عليها، وإما أن يدسها فى التراب ويدفنها وهى حية، وذلك هو الوأد المذكور فى قوله تعالى «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» . ومعنى قوله (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بئس ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إليه، فإنهم بالغوا فى الاستنكاف من البنت من وجوه: (1) اسوداد الوجه. (2) الاختفاء من القوم من شدة نقرتهم منها. (3) إنهم يقدمون على قتلها ووأدها، خشية العار أو خوف الجوع والفقر. ثم جعل تذييلا لما تقدم قوله: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أي للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب من المشركين، صفة السوء التي هى كالمثل فى القبح، من حاجتهم إلى الولد، ليقوم مقامهم بعد موتهم، وتفضيلهم للذكور للاستظهار بهم، ووأدهم للبنات خشية العار أو الفقر، وذلك يومىء إلى العجز والقصور والشح البالغ أقصى غاية. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي وله تعالى الصفة العليا، وهى أنه الواحد المنزه عن الولد وأنه لا إله إلا هو، وله صفات الكمال والجلال من القدرة والعلم والإرادة ونحو ذلك.

[سورة النحل (16) : الآيات 61 إلى 64]

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو المنيع تكبرا وجلالا، لا يغلبه غالب، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة. [سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) تفسير المفردات المراد من الناس: العصاة، والأجل المسمى: يوم القيامة، ويجعلون: يثبتون وينسبون إليه، وما يكرهون: هى البنات، وتصف ألسنتهم الكذب: أي يكذبون كما يقال عينها تصف السحر أي هى ساحرة، وقدّها يصف الهيف أي هى هيفاء، لا جرم: أي حقا، مفرطون: أي مقدّمون معجّل بهم إليها من أفرطته إلى كذا أي قدّمته، ويقال لمن تقدم إلى الماء لإصلاح الدلاء والأرسان فارط وفرط، وليهم: ناصرهم ومساعدهم، اليوم: أي فى الدنيا. المعنى الجملي لما حكى سبحانه عن المشركين عظيم كفرهم وقبيح أفعالهم- بين هنا حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه يمهلهم بالعقوبة إظهارا لفضله ورحمته، ولو آخذهم بما كسبت

الإيضاح

أيديهم ما ترك على ظهر الأرض دابة، أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤمه كما قال سبحانه: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» لكنه سبحانه يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى، ثم سلّى رسوله صلى الله عليه وسلّم على ما كان يناله من أذى عشيرته بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم، فقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك فكذبوهم فلك بهم أسوة، فلا يحزننّك تكذيبهم ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة. الإيضاح (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) أي ولو يؤاخذ الله عصاة بنى آدم بمعاصيهم ما ترك على ظهر الأرض دابة. أخرج البيهقي وغيره عن أبى هريرة أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال لا والله، بل إن الحبارى فى وكرها لتموت من ظلم الظالم. وعن ابن مسعود رضى الله عنه كاد الجعل (الجعران) يهلك فى جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية. وأخرج أحمد عن أبى هريرة أنه قال: ذنوب ابن آدم قتلت الجعل فى جحره، ثم قال إي والله زمن غرق قوم نوح عليه السلام. (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي ولكن بحمله يؤخر هؤلاء الظلمة فلا يعاجلهم بالعقوبة إلى أجل سماه الله لعذابهم، فإذا جاء الوقت الذي وقت لهلاكهم لا يستأخرون عن الهلاك ساعة فيمهلون ولا يستقدمون قبله حتى يستوفوا أعمارهم، وقد تقدم نظير هذا. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي وينسب هؤلاء المشركون إلى الله سبحانه ما يكرهون لأنفسهم من البنات والشركاء فى الرياسة. (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي ويكذبون فيما يدعون إذ يزعمون

أن لهم العاقبة الحسنى عند الله وهى الجنة على تقدير وجودها، فقد روى أنهم قالوا: إن كان محمد صادقا فى البعث فلنا الجنة بما نحن عليه، فرد الله عليهم مقالهم بقوله: (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي حقا أن لهم النار وليس بعد عذابها عذاب، وأنه معجل بها إليهم وهم مقدمون لها. ثم بين سبحانه أن هذا الصنيع الذي صدر من قريش قد حدث مثله من الأمم السالفة فى حق أنبيائهم فقال مسليا رسوله على ما كان يناله من الغم بسبب جهالانهم (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والله لقد أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممهم بمثل ما أرسلناك به إلى أمتك، من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، وخلع الأنداد والأوثان، فحسّن لهم الشيطان ما كانوا عليه مقيمين من الكفر به وعبادة الأوثان، فكذبوا رسلهم وردوا عليهم ما جاءوا به من عند ربهم، وما كان ناصرهم فيما اختاروا إلا الشيطان، وبئس الناصر والمعين، ولهم فى الآخرة عذاب أليم حين ورودهم إلى ربهم، إذ لا تنفعهم إذ ذاك ولاية الشيطان كما لم تنفعهم فى الدنيا. ثم ذكر سبحانه أنه ما أهلك من أهلك، إلا بعد أن أقام الحجة، وأزاح العلة فقال: (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي وما أنزلنا عليك كتابنا، وما بعثناك به إلى عبادنا، إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من دين الله، فيعرفوا الحق من الباطل، وتقيم عليهم حجة الله التي بعثك بها، وهو هدى للقلوب الضالة، ورحمة لقوم يؤمنون به فيصدقون بما فيه، ويقرّون بما تضمنه من أمر الله ونهيه ويعملون به. وخلاصة ذلك- إن هذا الكتاب هو الفاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه وأنه الهادي لهم إلى سبيل الرشاد.

[سورة النحل (16) : الآيات 65 إلى 69]

[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 69] وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) تفسير المفردات المراد بحياة الأرض: إنباتها الزرع والشجر وإخراجها الثمر، يسمعون: أي يسمعون سماع تدبر وفهم. قال الفراء والزجاج: النعم والأنعام واحد يذكر ويؤنث، ولهذا تقول العرب هذه نعم وارد، ورجحه ابن العربي فقال إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع والتأنيث إلى معنى الجماعة وقد جاء بالوجهين هنا وفى سورة المؤمنين، والعبرة: الاعتبار والعظة، والفرث: كثيف ما يبقى من المأكول فى الكرش والمعى، خالصا: أي مصفّى من كل ما يصحبه من مواد أخرى، سائغا: أي سهل المرور فى الحلق، يقال ساغ الشراب فى الحلق وأساغه صاحبه قال تعالى: «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» والسكر: الخمر، والرزق الحسن: الخل والرّبّ والتمر والزبيب ونحو ذلك، وأوحى. ألهم وعلّم، وبيوتا: أي أوكارا وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا فى الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه، لما فيه من دقة الصنع وجميل الهندسة، ويعرشون: أي يرفعون من الكروم والسقوف، والسبل: الطرق واحدها سبيل، والذلل واحدها ذلول: أي

المعنى الجملي

منقادة طائعة، والشراب العسل، مختلف ألوانه من أبيض إلى أصفر إلى أسود بحسب اختلاف المرعى. المعنى الجملي بعد أن وعد المؤمنين بجنات تجرى من تحتها الأنهار، وأوعد الكافرين بنار تلظّى، جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من الإشراك بربهم ونسبة البنات إليه وافترائهم عليه ما لم ينزل به سلطانا- عاد إلى ذكر دلائل التوحيد من قبل أنه قطب الرحى فى الدين الإسلامى وكل دين سماوى، ويليه إثبات النبوات والبعث والجزاء، فبين أنه أنزل المطر من السماء لتحيا به الأرض بعد موتها، وثنىّ بإخراج اللبن من الأنعام، وثلث باتخاذ الخمر والخل والدّبس من الأعناب والنخيل، وربع بإخراج العسل من النحل وفيه شفاء للناس، وقد بين أثناء ذلك كيف ألهم النحل بناء البيوت والبحث عن أرزاقها من كل فجّ. الإيضاح (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) نبه سبحانه عباده إلى الحجج الدالة على توحيده، وأنه لا تنبغى الألوهية إلا له ولا تصلح العبادة لشىء سواه، فبين أن ذلك المعبود هو الذي أنزل من السماء مطرا، فأنبت به أنواعا مختلفة من النبات فى أرض ميتة يابسة، لا زرع فيها ولا عشب، إن فى ذلك الإحياء بعد الموت لدليلا واضحا، وحجة قاطعة على وحدانيته تعالى وعلمه وقدرته لمن يسمع هذا القول سماع تدبر وفهم لما يسمع، إذ لا عبرة بسماع الآذان، فهو أشبه بسماع الحيوان. وبعد أن ذكر نزول الماء من السحاب ذكر خروج اللبن من الضّرع، وفيه أكبر الأدلة على قدرة القادر فقال:

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي وإن لكم أيها الناس لعظة فى الأنعام دالة على باهر قدرتنا، وبديع صنعنا، وواسع فضلنا، ورحمتنا بعبادنا، فإننا نسقيكم مما فى بطونها من اللبن الخالص من شائبات المواد الغربية، السهل التناول، اللذيذ الطعم، وهو متولد من بين فرث ودم. فإن الله جلت قدرته جعل الحيوان يتغذى بما يأكل من نبات ولحوم ونحوهما حتى إذا هضم المأكول تحول بإذنه تعالى إلى عصارة نافعة للجسم وفضلات تطرد إلى الخارج، ومن هذه العصارة يتكون الدم الذي يسرى فى عروق الجسم لحفظ الحياة، وبعض هذا الدم يذهب إلى الغدد التي فى الضرع فتحولها إلى لبن، فكأنّ الصانع الحكيم جعلها مصنعا ومعملا لتحويل الدم إلى لبن، وهكذا فى الجسم غدد أخرى كالغدد الأنفية للمخاط والغدد الدمعية للعين، والغدد المنويّة التي تحول الدم إلى مادة التلقيح. وبعد أن ذكر اللبن وبين أنه جعله شرابا سائغا للناس، ثلّث بذكر ما يتخذ من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب فقال: (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) أي ولكم أيضا عبرة فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب مما تتخذونه خمرا وخلا ودبا (عسل التمر) وتمرا. روى عن ابن عباس أنه قال: السّكر ما حرّم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحلّ من ثمرتيهما كالخل والرّب (المربة) والتمر والزبيب ونحو ذلك. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك لآية باهرة لمن يستعملون عقولهم. بالنظر والتأمل فى الآيات، ويعتبرون بما يستخلص من العبر. (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي وألهم ربك النحل وألقى فى روعها، وعلّمها أعمالا يتخيل منها أنها ذوات عقول.

وقد تتبع علماء المواليد أحوالها وكتبوا فيها المؤلفات بكل اللغات، وخصصوا لها مجلات تنشر أطوارها وأحوالها، وقد وصلوا من ذلك إلى أمور: (1) إنها تعيش جماعات كبيرة قد يصل عدد بعضها نحو خمسين ألف نحلة، وتسكن كل جماعة منها فى بيت خاص يسمى خلية. (2) إن كل خلية يكون فيها نحلة واحدة كبيرة تسمى الملكة أو اليعسوب، وهى أكبرهم جثة وأمرها نافذ فيهم، وعدد يتراوح بين أربعمائة نحلة وخمسمائة يسمى الذكور، وعدد آخر من خمسة عشر ألفا إلى خمسين ألف نحلة، ويسمى الشغالات أو العاملات. (3) تعيش هذه الفصائل الثلاث فى كل خلية عيشة تعاونية على أدق ما يكون نظاما، فعلى الملكة وحدها وضع البيض الذي يخرج منه نحل الخلية كلها، فهى أم النحل، وعلى الذكور تلقيح الملكات وليس لها عمل آخر وعلى الشغالة خدمة الخلية وخدمة الملكات وخدمة الذكور، فتنطلق فى المزارع طوال النهار لجمع رحيق الأزهار ثم تعود إلى الخلية فتفرز عسلا يتغذى به سكان الخلية صغارا وكبارا، وتفرز الشمع الذي تبنى به بيوتا سداسية الشكل تخزن فى بعضها العسل، وفى بعض آخر منها تربى صغار النحل، ولا يمكن المهندس الحاذق أن يبنى مثل هذه البيوت حتى يستعين بالآلات كالمسطرة والفرجار (البرجل) . قال الجوهري: ألهمها الله أن تبنى بيوتها على شكل سداسى حتى لا يحصل فيه خلل ولا فرجة ضائعة، كما عليها أن تنظف الخليّة وتخفق بأجنحتها لتساعد على تهويتها، وعليها أيضا الدفاع عن المملكة وحراستها من الأعداء كالنمل والزنابير وبعض الطيور. ثم فسر سبحانه ما أوحى به إليها بقوله: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي اجعلي لك بيوتا فى الجبال تأوين إليها، أو فى الشجر أو فيما يعرش الناس ويبنون من البيوت والسقف والكروم ونحوها.

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ثم كلى أيتها النحل من كل ثمرة تشتهيها، حلوة أو مزّة أو بين ذلك. (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) أي فاسلكى الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلى فيها لطلب الثمار، ولا تعسر عليك وإن توعّرت، ولا تضلّى عن العودة منها وإن بعدت. وبعد أن خاطب النحل أخبر الناس بفوائدها لأن النعمة لأجلهم فقال: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أي يخرج من بطونها عسل مختلف الألوان، فتارة يكون أبيض وأخرى أصفر، وحينا أحمر بحسب اختلاف المرعى. (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) لأنه نافع لكثير من الأمراض، وكثيرا ما يدخل فى تركيب العقاقير والأدوية. روى البخاري ومسلم عن أبى سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه فقال: إن أخى استطلق بطنه فقال له رسول الله (اسقه عسلا) فسقاه عسلا، ثم جاء فقال يا رسول الله: سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا، قال (اذهب فاسقه عسلا (فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا) فذهب فسقاه عسلا فبرئ. وعلل هذا بعض الأطباء الماضين قال: كان لدى هذا الرجل فضلات فى المعدة، فلما سقاه عسلا تحللت فأسرعت إلى الخروج فزاد إسهاله، فاعتقد الأعرابى أن هذا يضره وهو فائدة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحلل والدفع، وكلما سقاه حدث مثل هذا حتى اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن، فاستمسك بطنه، وصلح مزاجه، وزالت الآلام والأسقام بإرشاده عليه السلام. وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:

«الشفاء فى ثلاثة فى شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كيّة بنار، وانهى أمتى عن الكىّ» . وقد أثبت الطب الحديث ما للعسل من فوائد، أدع الكلام فيها ليتولى شرحها النطاسي الكبير المرحوم عبد العزيز إسماعيل باشا قال فى كتابه: [الإسلام والطب الحديث] . ما أصدق الآية الكريمة! «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» إن التركيب الكيماوى للعسل كما يلى: من 25- 40 دكستروز (جلوكوز) . «30- 45 ليفيلوز. «15- 25 ماء. والجلوكوز الموجود فيه بنسبة أكثر من أي غذاء آخر، وهو سلاح الطبيب فى أغلب الأمراض، واستعماله فى ازدياد مستمر بتقدم الطب، فيعطى بالفم وبالحقن الشرجية وتحت الجلد وفى الوريد، ويعطى بصفته مقويا ومغذيا، وضد التسمم الناشئ من مواد خارجية كالزرنيخ والزئبق والذهب والكلوفرم والمورفين إلخ، وضد التسمم الناشئ من أمراض أعضاء الجسم مثل التسمم البولى والناشئ من أمراض الكبد، والاضطرابات المعدية والمعوية، وضد التسمم فى الحميات، مثل التيفويد والالتهاب الرئوي والسحائى المخى والحصبة، وفى حالات ضعف القلب، وحالات الذبحة الصدرية، وبصفة خاصة فى الارتشاحات العمومية الناشئة من التهابات الكلى الحادة وفى احتقان المخ وفى الأورام المخية إلخ وقد يقال: وما أهمية هذه الآية مع أن كل أنواع الغذاء لها فوائد، وقد ذكر العسل لأنه غذاء لذيذ الطعم وبطريق المصادفة. فالحقيقة هى أن أنواع الغذاء الأخرى لا تستعمل كعلاج إلا فيما نذر من الأمراض ناشئة عن نقصها فى الغذاء فقط، وهذه الفواكه التي تشبه العسل فى الطعم فإن

كيف يتكون العسل

السكر الذي فيها هو سكر القصب أو أنواع أخرى، وليس فيها إلا نسبة ضئيلة من (الجلوكوز) الذي هو أهم عناصر العسل. وإذا علمنا أن الجلوكوز يستعمل مع الأنسولين حتى فى حالة التسمم الناشئ عن مرض البول السكرى- علمنا مقدار فوائده، وأن القرآن الكريم لم يذكره بطريق المصادفة، ولكنه تنزيل ممن خلق الإنسان والنحل، وعلم كلا منهما علاقته بالآخر اه. كيف يتكون العسل تمتص الشغالة رحيق الأزهار، فينزل ويجتمع فى كيس فى بطنها، وهناك يمتزج بعصارة خاصة فيتحول إلى عسل، ولله در أبى العلاء إذ يقول: والنحل يجنى المرّ من زهر الرّبا ... فيعود شهدا فى طريق رضابه ثم تعود النحلة إلى الخلية فتفرز العسل من فمها فى البيوت الشمعية التي خصصت بتخزين العسل، وكلما امتلأ بيت منها غطاه النحل بطبقة من الشمع وانتقل إلى بيت آخر. شمع النحل تفرز الشغالة صفحات رقيقة صلبة من الشمع تخرجها من بين حلقات بطنها، ثم تمضغها بفيها حتى تلين، ويسهل تشكلها بحسب ما تريد، فتستعملها فى بناء بيوتها السداسية الشكل. فوائد النحل (1) نأخذ منها العسل الذي هو غذاء لذيذ الطعم يحوى مقدارا كبيرا من المواد المفيدة للجسم. (2) نأخذ منها الشمع الذي تصنع منه شموع الإضاءة.

[سورة النحل (16) : الآيات 70 إلى 72]

(3) تساعد على تلقيح الأزهار فتكون سببا فى زيادة الثمار وجودة نوعها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فى إخراج الله من بطون النحل الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس- لدلالة واضحة على أن من سخر النحل، وهداها لأكل الثمرات التي تأكلها، واتخاذها البيوت فى الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها ما أخرج مما فيه شفاء للناس، هو الواحد القهار الذي ليس كمثله شىء، وأنه لا ينبغى أن يكون له شريك، ولا تصح الألوهة إلا له. [سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 72] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) تفسير المفردات أرذل العمر: أردؤه وأخسه يقال رذل الشيء يرذل رذالة وأرذله غيره قال تعالى حكاية عما قاله قوم شعيب له: «واتّبعك الأرذلون» والحفدة: أولاد الأولاد على ما روى عن الحسن والأزهرى وواحدهم حافد ككتبة وكاتب: من الحفد وهو الخفة فى الخدمة والعمل يقال منه حفد يحقد حفدا وحفودا وحفدانا: إذا أسرع كما جاء

المعنى الجملي

فى القنوت (وإليك نسعى ونحفد) والطيبات: اللذائذ، والمراد بالباطل: منفعة الأصنام وبركتها؟ المعنى الجملي بعد أن ذكر عجائب أحوال الحيوان، وما فيها من نعمة للإنسان كالأنعام التي يتخذ من ضرعها اللبن، والنحل التي يشتار منها العسل، ويؤخذ منها الشمع للاضاءة- أردف ذلك بيان أحوال الناس، فذكر مراتب أعمارهم، وأن منهم من يموت وهو صغير، ومنهم من يعمّر حتى يصل إلى أرذل العمر، ويصير نسّاء لا يحفظ شيئا، وفى ذلك دليل على كمال قدرة الله ووحدانيته، ثم ثنّى بذكر أعمال أخرى لهم وهى تفضيل بعضهم على بعض فى الرزق، فقد يرى أكيس الناس وأكثرهم عقلا وفهما يفنى عمره فى طلب القليل من الدنيا وقلّ أن يتيسر له، بينا يرى أقلّ الناس علما وفهما تتفتح له أبواب السماء، ويأتيه الرزق من كل صوب، وذلك دليل على أن الأرزاق قد قسمها الخلاق العليم كما قال: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وقال الشافعي رحمه الله: ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق ثم ثلث بذكر نعمة ثالثة عليهم، إذ جعل لهم أزواجا من جنسهم، وجعل لهم من هذه الأزواج بنين وحفدة، ورزقهم المطعومات الطيبة من النبات كالثمار والحبوب والأشربة، أو من الحيوان على اختلاف أنواعها. الإيضاح (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي والله أوجدكم ولم تكونوا شيئا أنتم ولا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، ثم وقّت أعماركم بآجال مختلفة، فمنكم من تعجّل وفاته، ومنكم من يهرم ويصير إلى أرذل العمر وأخسه، فتنقص قواه

وتفسد حواسه ويكون فى عقله وقوته كالطفل كما قال: «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ» . أخرج البخاري وابن مردويه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول فى دعائه: «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات» وثبت أنه صلى الله عليه وسلّم كان يتعوّذ بالله أن يرد إلى أرذل العمر، ونقل عن على كرم الله وجهه أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة ، وهذا ليس بالمطرد ولا بالكثير. (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي إنما رده إلى أرذل العمر ليعود جاهلا كما كان حين طفولته وصباه، لا يعلم شيئا مما كان يعلمه فى شبابه، لأن الكبر قد أضعف عقله وأنساه، فلا يعلم شيئا مما كان يعلم، وقد انسلخ من عقله بعد أن كان كامل العقل. وخلاصة ذلك- إنه يكون نسّاء، فإذا كسب علما فى شىء لم يلبث أن ينساه ويزول من ساعته، فيقول لك من هذا؟ فتقول له هذا فلان، فلا يمكث إلا هنيهة ثم يسألك عنه مرة أخرى. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إن الله عليم بكل شىء، فيعلم وجه الحكمة فى الخلق والتوفى والرد إلى أرذل العمر، ولا ينسى شيئا من ذلك، وهو قدير على كل شىء فلا يعجزه شىء أراده. ومجمل القول- إن ما يعرض فى الهرم من ضعف القوة والقدرة وانتفاء العلم يتنزه عن مثله المولى جل شأنه، فهو كامل العلم تام القدرة، لا يتغير شىء منهما بمرور الأزمنة كما يتغير علم البشر وقدرتهم. ولما ذكر سبحانه تفاوت الناس فى الأعمار ذكر تفاوتهم فى الأرزاق فقال: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أي والله تعالى جعلكم متفاوتين فى أرزاقكم، فمنكم الغنى ومنكم الفقير، ومنكم المملوك ومنكم المالك، وأعطاكم من الرزق أكثر مما أعطى مماليككم، ولم يجعل ذلك بحسن الحيلة وفضل العقل فحسب، فكثيرا

ما نرى الحوّل القلّب لا يحصل إلا على الكفاف من الرزق بعد الجهد الجهيد، بينما نرى الأحمق يتقلب فى نعيم العيش وزخرف الدنيا، ولله درّ سفيان بن عيينة إذ يقول: كم من قوىّ قوىّ فى تقلبه ... مهذّب الرأى عنه الرزق منحرف ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ... كأنه من خليج البحر يغترف (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي فما الذين فضّلوا بالرزق وهم الموالى بجاعلى رزقهم من الأموال وغيرها- شركة بينهم وبين مماليكهم بحيث يساوونهم فى التصرف فيها ويشاركونهم فى تدبيرها. والخلاصة- إن الله جعلكم متفاوتين فى الرزق، فرزقكم أكثر مما رزق مماليككم، وهم بشر مثلكم وإخوانكم، فكان ينبغى أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم وتتساووا وإياهم فى الملبس والمطعم والمسكن، لكنكم لم ترضوا بهذه المساواة مع أنهم أمثالكم فى البشرية والمخلوقية لله عزّ وجلّ، فما بالكم تشركون بالله فيما يليق إلا به من الألوهية والمعبودية بعض عباده، بل أخس مخلوقاته. وهذا مثل ضربه الله سبحانه لبيان قبح ما فعله المشركون من عبادة الأصنام والأوثان تقريعا لهم. ونحو الآية قوله: «هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ؟» . (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ؟) إذا أضافوا بعض تلك النعم الفائضة عليهم من مولاهم إلى شركائهم، وجعلوها أندادا، وهى لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا. ثم ذكر ضروبه أخرى من ضروب نعمه على عباده تنبيها إلى جليل إنعامه بها إذ هى زينة الحياة فقال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) أي والله سبحانه جعل لكم أزواجا من جنسكم، تأنسون بهن، وتقوم بهن جميع مصالحكم

[سورة النحل (16) : الآيات 73 إلى 76]

وعليهن تدبير معايشكم، وجعل لكم مهن بنين وحفدة أي أولاد أولاد يكونون زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وبهم التفاخر والتناصر والمساعدة لدى البأساء والضراء. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي ورزقكم من لذيذ المطاعم والمشارب، وجميل الملابس والمساكن ما تنتفعون به إلى أقصى الحدود وأبعد الغايات. (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي أفهم بعد هذا البيان الواضح، والدليل الظاهر، يوقنون بأن الأصنام شركاء لربهم ينفعونهم ويضرونهم ويشفعون لهم عنده، وأن البحائر والسوائب والوصائل حرام عليهم كما حرمها لهم أولياء الشيطان؟. وليس بعد هذا تأنيب وتوبيخ، إذ ساقه مساق ما فيه الشك وطلب منهم الجواب عنه. (وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ؟) أي وهم بهذه النعم المتظاهرة عليهم من ربهم يكفرون فيضيفونها إلى غير الخالق، وينسبونها إلى غير موجدها من صنم أو وثن؟ [سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 76] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

تفسير المفردات

تفسير المفردات رزق السماء: المطر، ورزق الأرض: النبات والثمار التي تخرج منها، فلا تضربوا لله الأمثال: أي لا تجعلوا له الأنداد والنظراء فهو كقوله: «فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» وضرب المثل للشىء: ذكر الشبيه له، ليوضح حاله المبهمة ويزيل ما عرض من الشك فى أمره، والبكم: الخرس، وهو إما ناشىء من صمم خلقى وإما لسبب عارض ولا علة فى أذنيه، فهو يسمع لكن لسانه معتقل لا يطيق الكلام، فكل من ولد غير سميع فهو أبكم، لأن الكلام بعد السماع، ولا سماع له، وليس كل أبكم يكون أصم صمما طبيعيا، فإن بعض البكم لا يكونون صمّا، والكلّ: الغليظ الثقيل من قولهم كلّت السكين إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكلّ عن الأمر: ثقل عليه فلم يستطع عمله يوجهه: أي يرسله فى وجه معين من الطريق، يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه، على صراط مستقيم: أي طريق عادل غير جائر. المعنى الجملي بعد أن بين عزت قدرته دلائل التوحيد البيان الشافي فيما سلف- أردف ذلك الرد على عابدى الأوثان والأصنام، فضرب لذلك مثلين يؤكد بهما إبطال عبادتها: أولهما العبد المملوك الذي لا يقدر على شىء، والحر الكريم الغنى الكثير الإنفاق سرا وجهرا، ولفت النظر إلى أنهما هل يكونان فى نظر العقل سواء مع تساويهما فى الخلق والصورة البشرية؟ وإذا امتنع ذلك فكيف ينبغى أن يسوى بين القادر على الرزق والإفضال، والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على النفع والضر. والثاني مثل رجلين أحدهما أبكم عاجز لا يقدر على تحصيل خير وهو عبء ثقيل على سيده، وثانيهما حوّل قلّب ناطق كامل القدرة، أيستويان لدى أرباب الفكر مع استوائهما فى البشرية؟ وإذا فكيف يدور بخلد عاقل مساواة الجماد برب العالمين فى الألوهية والعبادة؟.

الإيضاح

قال ابن عباس نزلت هذه الآية فى عثمان بن عفان ومولى له كافر يسمى أسيد ابن أبى العاص: كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة وكان المولى ينهاه عن الصدقة والمعروف. الإيضاح (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه أوثانا لا تملك لهم رزقا من السموات، فلا تقدر على إنزال القطر منها لإحياء الميت من الأرضين، ولا تملك لهم رزقا منها، فلا تقدر على إخراج شىء من نباتها ولا ثمارها، ولا على شىء مما ذكر فى سالف الآيات مما أنعم الله به على عباده، ولا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم. وفائدة قوله (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أن من لا يملك شيئا قد يكون فى استطاعته أن يتملكه بوجه، فبين بذلك أن هذه الأصنام لا تملك وليس فى استطاعتها تحصيل الملك. وبعد أن بين ضعفها وعجزها رتب على ذلك ما هو كالنتيجة له فقال: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي فلا تجعلوا لله مثلا ولا تشبّهوه بخلقه، فإنه لا مثل له ولا شبيه. أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال فى الآية: أي لا تجعلوا معى إلها غيرى، فإنه لا إله غيرى. ثم هددهم على عظيم جرمهم، وكبير ما اجترحوا من الكفر والمعاصي فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إن الله يعلم كنه ما تفعلون من الإجرام وعظيم الآثام، وهو معاقبكم عليه أشد العقاب، وأنتم لا تعلمون حقيقته ولا مقدار عقابه ومن ثم صدر ذلك منكم وتجاسرتم عليه ونسبتم إلى الأصنام ما لم يصدر منها ولا هى منه فى قليل ولا كثير.

وبعد أن نهاهم سبحانه عن الإشراك أعقبه بمثل يكشف عن فسادما ارتكبوه من الحماقات والجهالات فقال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) أي إن مثلكم فى إشراككم بالله الأوثان، مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وحرّ مالك ما لا ينفق منه كيف يشاء، ويتصرف فيه كما يريد، والفطرة الأولى تشهد بأنهما ليسا سواء فى التجلة والاحترام، مع استوائهما فى الخلق والصورة- فكذلك لا ينبغى لعاقل أن يسوّى بين الإله القادر على الرزق والإفضال والأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شىء البتة. ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي الحمد الكامل لله خالصا دون ما تدعون من دونه من الأوثان، فإياه فاحمدوا دونها، ما الأمر كما تفعلون، ولا القول كما تقولون، فليس للأوثان عندكم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد لله، ولكن أكثر هؤلاء الكفار الذين يعبدونها لا يعلمون أن ذلك كذلك، فهم بجهلهم بما يأتون وما يذرون يجعلونها لله شركاء فى العبادة والحمد. ثم ضرب مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أي ضرب الله مثلا لنفسه والآلهة التي يعبدونها من دونه مثل رجلين أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم، فلا يقدر على شىء مما يتعلق بنفسه أو بغيره، وهو عيال على من يعوله ويلى أمره، حيثما يرسله مولاه فى أمر لا يأت بنجح ولا كفاية مهمّ- وثانيهما

[سورة النحل (16) : الآيات 77 إلى 79]

رجل سليم الحواس عاقل ينفع نفسه وينفع غيره، يأمر الناس بالعدل وهو على سيرة صالحة ودين قويم- هل يستويان؟ كذلك الصم لا يسمع شيئا ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع من خدمه، ولا دفع ضر عنه، وهو كلّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه، وهو لا يعقل ما يقال له فيأتمر بالأمر، ولا ينطق فيأمر وينهى، هل يستوى هو ومن يأمر بالحق ويدعو إليه، وهو الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته! وهو مع أمره بالعدل على طريق مستقيم لا يعوجّ عن الحق ولا يزول عنه. [سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 79] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) تفسير المفردات الساعة: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان فى ساعة ما فيموت الخلق بصيحة واحدة، ولمح البصر: رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، والأفئدة واحدها فؤاد: وهى القلوب التي هيأها الله للفهم وإصلاح البدن، والجو: الهواء بين الأرض والسماء.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن مثّل سبحانه نفسه بمن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومستحيل أن يكون كذلك إلا إذا كان كامل العلم والقدرة- أردف ذلك ما يدل على كمال علمه، فأبان أن العلم بغيوب السموات والأرض ليس إلا له، وما يدل على كمال قدرته، فذكر أن قيام الساعة فى السرعة كلمح البصر أو أقرب، ثم عاد إلى ذكر الدلائل على توحيده، وأنه الفاعل المختار، فذكر منها خلق الإنسان فى أطواره المختلفة، ثم الطير المسخّر بين السماء والأرض، وكيف جعله يطير بجناحين فى جو السماء ما يمسكه إلا هو بكامل قدرته. الإيضاح (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله علم ما غاب عن أبصاركم فى السموات والأرض مما لا اطلاع لأحد عليه إلا أن يطلعه الله، والمراد به جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين التي لا سبيل إلى إدراكها حسا ولا إلى فهمها عقلا. (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أي وما شأنها فى سرعة المجيء إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع، لأنه إنما يكون بقول (كُنْ فَيَكُونُ) . ونحو الآية قوله «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» أي فيكون ما يريد كطرف العين. وقريب من هذا قوله: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» . والخلاصة- إن قيام القيامة ومجىء الساعة التي ينتشر فيها الخلق للوقوف فى موقف الحساب- كنظرة من البصر، وطرفة من العين فى السرعة. وخص قيام الساعة من بين الغيوب، لأنه قد كثرت فيه المماراة فى جميع

الأزمنة والعصور، ولدي كثير من الأمم، فأنكره كثير من البشر وجعلوه مما لا يدخل فى باب الممكنات. ثم ذكر ما هو كالبرهان على إمكان حدوثها وسرعة وقوعها فقال: (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الله قادر على ما يشاء، لا يمتنع عليه شىء أراده، فهو قادر على إقامتها فى أقرب من لمح البصر. ثم ذكر سبحانه مننه على عباده بإخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، ثم رزقهم السمع والأبصار والأفئدة فقال: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي والله جعلكم تعلمون ما لا تعلمون بعد أن أخرجكم من بطون أمهاتكم، فرزقكم عقولا تفقهون بها، وتميزون الخير من الشر، والهدى من الضلال، والخطأ من الصواب، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به فيما بينكم، والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص فتتعارفون بها، وتميزون بعضها من بعض، والأشياء التي تحتاجون إليها فى هذه الحياة، فتعرفون السبل، وتسلكونها للسعى على الأرزاق والسلع لتختاروا الجيد وتتركوا الرديء، وهكذا جميع مرافق الحياة ووجوهها. لعلكم تشكرون: أي رجاء أن تشكروه باستعمال نعمه فيما خلقت لأجله، وتتمكنوا بها من عبادته تعالى، وتستعينوا بكل جارحة وعضو على طاعته. روى البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال «يقول الله تعالى: من عادى لى وليّا فقد بارزني بالحرب، وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن دعانى لأجبته، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه، وما ترددت فى شىء أنا فاعله ترددى فى قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت

[سورة النحل (16) : الآيات 80 إلى 83]

وأكره مساءته، ولا بد له منه» أي إن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عزّ وجلّ، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله أي لما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشى إلا فى طاعته عزّ وجلّ، مستعينا به فى ذلك كله. ثم نبه عباده إلى دليل آخر على كمال قدرته فقال: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) أي ألم ينظروا إلى الطير مذللات فى الهواء بين السماء والأرض ما يمسكهن فى الجو عن الوقوع إلا الله عزّ وجلّ بقدرته الواسعة، وقد كان فى ثقل أجسادها، ورقة الهواء ما يقتضى وقوعها، إذ لا علاقة من فوقها، ولا دعامة من تحتها، ولو سلبها ما أعطاها من قوة الطيران لم تقدر على النهوض ارتفاعا. وقد كان العلماء قديما يعلمون تخلخل الهواء فى الطبقات العالية فى الجو وهى نظرية لم تدرس فى العلوم الطبيعية إلا حديثا، فقد أثر عن كعب الأحبار أنه قال: إن الطير يرتفع فى الجو اثنى عشر ميلا ولا يرتفع فوق ذلك. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلك التسخير فى الجو والإمساك فيه- لدلالات على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه لا حظ للأوثان والأصنام فى الألوهية- لمن يؤمن بالله، ويقر بوجدان ما تعاينه أبصارهم، وتحسه حواسهم. وخصص هذه الآيات بالمؤمنين، لأنهم هم المنتفعون بها، وإن كانت هى آيات لجميع العقلاء. [سورة النحل (16) : الآيات 80 الى 83] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)

تفسير المفردات

تفسير المفردات سكنا: أي مسكنا، والظعن (بالسكون والفتح) السير فى البادية لنجعة أو طلب ماء أو مرتع، والأصواف: للضأن، والأوبار: للإبل، والأشعار: للمعز، والأثاث: متاع البيت كالفرش والثياب وغيرها، ولا واحد له من لفظه، والمتاع: ما يتمتع وينتفع به فى المتجر والمعاش، إلى حين: أي إلى انقضاء آجالكم، والظلال: ما يستظل به من الغمام والشجر والجبال وغيرها، والأكنان واحدها كنّ: وهو الغار ونحوه فى الجبل، والسرابيل واحدها سربال: وهو القميص من القطن والكتّان والصوف وغيرها، وسرابيل الحزب الجواشن والدروع، والبأس: الشدة، ويراد به هنا الحرب. المعنى الجملي بعد أن أقام سبحانه الأدلة على توحيده، قفى على ذلك بذكر ما أنعم به على عباده فجعل لهم بيوتا يأوون إليها وتكون سكنا لهم، وجعل لهم من جلود الأنعام بيوتا يستخفون حملها فى أسفارهم، ويجعلونها خياما فى السفر والحضر، وجعل لهم فى الجبال الحصون والمعاقل، وجعل لهم الثياب التي تقيهم الحر، والدروع والجواشن من الحديد لتقى بعضهم أذى بعض فى الحرب. وقصارى هذا- إنه امتن على عباده، فبدأ بما يخص المقيمين بقوله: وجعل لكم من بيوتكم سكنا، ثم بما يخص المسافرين منهم ممن لهم قدرة على ضرب الخيام بقوله: وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا، ثم بمن لا قدرة لهم على ذلك ولا يأويهم

الإيضاح

إلا الظلال بقوله، وجعل لكم مما خلق ظلالا، ثم بما لا بد منه لكل أحد بقوله: وجعل لكم سرابيل إلخ، ثم بما لا غنى عنه فى الحروب بقوله: وسرابيل تقيكم بأسكم. الإيضاح (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) أي والله الذي جعل لكم من بيوتكم التي هى من الحجر والمدر مسكنا تقيمون فيه وأنتم فى الحضر. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) أي وجعل لكم قبابا وفساطيط من شعر الأنعام وأصوافها وأوبارها، تستخفون حملها يوم ترحالكم من دوركم وبلادكم وحين إقامتكم بها. (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أثاثا لبيوتكم تكتسون به وتستعملونه فى الغطاء والفراش، ومتاعا من مال وتجارة إلى أجل مسمى، وهو حين نقضاء آجالكم. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا) أي ومن نعمه تعالى عليكم أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالا تستظلون بها من شديد الحر. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) أي وجعل لكم من الجبال مواضع تستكنون فيها كالمغارات والكهوف ونحوها. (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي وجعل لكم ثيابا من القطن والكتان والصوف ونحوها، تقيكم الحر الشديد الذي فى بلادكم وهو مما يذيب دماغ الضبّ حين حمارّة القيظ. (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي وجعل لكم دروعا وجواشن تقيكم بأس السلاح وأذاه حين الحرب وحين يتقدم القرن إلى قرنه للمصاولة والطعن والضرب والرمي بالنبال.

تنبيه- لما كانت بلاد العرب شديدة الحر وحاجتهم إلى الظل ألزم، ذكر هذا فى معرض النعم العظيمة، إلى أن ما يقى من الحريقى من البرد أيضا فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر. قال الشهاب الخفاجي فى الريحانة: فى الآية نكتة لطيفة لم ينبّهوا عليها، وهى أنه إنما اقتصر على الحر لأنه أهم هنا لما عرف من غلبة الحر على ديار العرب، ثم إن ما يقى الحر يحصل به برودة فى الهواء فى الجملة، فوقاية الحر إنما هى لتحصيل البرد، وهذا فيه من اللطف ما هو ألطف من النسيم، فلله در التنزيل فكم فيه من أسرار لا تتناهى اهـ. (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي كما خلق هذه الأشياء لكم، وأنعم بها عليكم، يتم نعمة الدنيا والدين عليكم، ويجعلكم ملوكا وأمراء فيما تفتحون من البلاد والأصقاع، ويجعل رائدكم فيما تعملون وجه الله وإصلاح الأمم والشعوب كما قال: «وعد الله الّذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم فى الأرض» . (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أي توقعا للنظر فيما أسبغ عليكم من النعم، فتعرفون حق المنعم بها، فتؤمنون به وحده، وتذرون ما أنتم به مشركون، فتسلمون من عذابه، فإن العاقل إذا أسدى إليه المعروف شكر من أنعم به عليه كما قال المتنبي: وقيّدت نفسى فى دراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا وبعد أن عدد ما أنعم به عليهم من النعم ذكر ما يتّبع معهم إذا هم أصروا على عنادهم واستكبارهم ولم تنفعهم الذكرى فقال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فان استمروا على إعراضهم، ولم يقبلوا ما ألقى إليهم من البينات فلا يضيرك ذلك، ولا تبخع نفسك عليهم أسى وحسرة، فإنك قد أديت رسالتك كاملة غير منقوصة، وما هى إلا البلاغ الموضّح لمقاصد الدين وبيان أسراره وحكمه، وقد فعلته بما لا مزيد عليه. وجملة القول- إنهم إن أعرضوا وتولوا فلست بقادر على خلق الإيمان فى قلوبهم، فإنما عليك البلاغ فحسب

[سورة النحل (16) : الآيات 84 إلى 89]

ثم بين أن سبب هذا التولي والإعراض لم يكن الجهل بهذه النعم بل كان العتوّ والاستكبار والإنكار لها فقال: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) أي إنهم يعرفون أن هذه النعم كلها من الله، ثم هم ينكرونها بأفعالهم، إذ لم يخصّوا المنعم بها بالعبادة والشكر، بل شكروا غيره معه، إذ قالوا إن هذه النعم إنما حصلت بشفاعة هذه الأصنام. (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) أي إن أكثرهم جاحد معاند يعلم صدق الرسول ولا يؤمن به عتوا واستكبارا، وقليل منهم كان يجهل صدقه ولم يظهر له كونه نبيا حقا من عند الله، لأنه لم ينظر فى الأدلة النظر الصحيح الذي يؤدى إلى الغاية، أولم يعرف الحق لنقص فى العقل فهو لا يسلك سبيله، أو لم يصل إلى حد التكليف، فلا تقوم عليه حجة. وهذا من صادق أحكام القرآن على الأمم والشعوب، فهو لا يرسل القول إرسالا، بل يزنه بميزان الحقيقة الواقعة التي لا تجانف الصواب، وليس فيها جور ولا ظلم. [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأمة: الجيل من الناس، وشهيد كل أمة نبيها، ثم لا يؤذن للذين كفروا: أي إنهم يستأذنون فلا يؤذن لهم، ويقال استعتبه وأعتبه: إذا رضى عنه، قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة وعاتبه معاتبة وعتابا وأعتبه: سره بعد ما ساءه، ينظرون: أي يمهلون ويؤخرون، والشركاء: الأصنام والأوثان والشياطين والملائكة، وندعو: نعبد، والسلم: الاستسلام والانقياد، وضل: ضاع وبطل والمراد بهؤلاء أمته الحاضر منهم عصر التنزيل ومن بعدهم إلى يوم القيامة، وتبيانا: أي بيانا لأمور الدين إما نصافيها أو ببيان الرسول واستنباط العلماء المجتهدين فى كل عصر. المعنى الجملي بعد أن ذكر حال هؤلاء المشركين وأنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها- قفّى على ذلك بوعيدهم، فذكر حالهم يوم القيامة، وأنهم يكونون أذلاء لا يؤذن لهم فى الكلام لتبرئة أنفسهم ولا يمهلون، بل يؤخذون إلى العذاب بلا تأخير، وإذا رأوا معبوداتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والآدميين قالوا هؤلاء معبوداتنا، فكذبتهم تلك المعبودات، واستسلموا لربهم، وانقادوا له، وبطل ما كانوا يفترونه، ثم ذكر ذلك اليوم وهوله وما منح نبيه من الشرف العظيم وأنه أنزل عليه الكتاب، ليبين للناس ما أشكل عليهم من مصالح دينهم ودنياهم، ويهديهم سواء السبيل، وفيه البشرى للمؤمنين بجنات النعيم.

الإيضاح

الإيضاح (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي وخوّف أيها الرسول هؤلاء المشركين يوم نبعث من كل أمة شاهدا عليها بما أجابت داعى الله وهو رسولها الذي أرسل إليها، إما بالإيمان وطاعة الله، وإما بالكفر والعصيان. (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي ثم لا يسمع كلام الكافرين بعد شهادة أنبيائهم ولا يلتفت إليه، إذ فى تلك الشهادة ما يكفى للفصل فى أمرهم والقضاء عليهم، والله عليم بما كانوا يفعلون، ولكن فى تلك الشهادة تأنيب لهم وتوبيخ على ما اجترحوا من الفسوق والعصيان والكفر بربهم الذي أنعم عليهم. ونحو الآية قوله: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» . (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة وصالح العمل، فالآخرة دار جزاء لا دار عمل، والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون بحال. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي وإذا عاين هؤلاء الذين كذّبوا وجحدوا نبوّة الأنبياء وهم من كانوا على نهج قومك من المشركين- عذاب الله، فلا ينجيهم منه شىء، إذ لا يؤذن لهم بالاعتذار فيعتذرون، فيخفف عنهم بهذا العذر الذي يدّعون، ولا يرجئون بالعقاب، لأن وقت التوبة والإنابة قد فات، وإنما ذاك وقت الجزاء على الأعمال: «فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره» . ونحو الآية قوله: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» وقوله: «إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» ، الثبور: الهلاك.

ثم أخبر عن إلقاء المشركين تبعة أعمالهم على معبوداتهم فقال: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أي وإذا رأى هؤلاء المشركون بالله يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دونه من الأوثان والآلهة التي عبدوها- قالوا هؤلاء شركاؤنا فى الكفر بك، والذين كنا ندعوهم آلهة من دونك، وربما يكونون قد قالوا هذه المقالة طمعا فى توزيع العذاب بينهم، أو إحالة الذنب عليهم تعللا بذلك واسترواحا، مع كونهم يعلمون أن العذاب واقع بهم لا محالة. ولكن الغريق يتعلق بكل ما تقع يده عليه. ثم ذكر تبرأ آلهتهم منهم، وهم أحوج ما يكونون إلى نصرتهم لو كانوا ينصرون. (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي قالت لهم الآلهة: كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا، ونحو الآية قوله: «ومن أضلّ ممّن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر النّاس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين» وقوله: «واتّخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّا، كلّا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّا» . (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) أي واستسلم العابد والمعبود لله، فلا أحد إلا وهو سامع مطيع، ونحو الآية قوله: «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا» أي ما أسمعهم وأبصرهم حينئذ، وقوله: «ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا وسمعنا» وقوله: «وعنت الوجوه للحىّ القيّوم» أي خضعت واستسلمت. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وذهب عنهم ما كانوا يعبدونه افتراء على الله، فلا ناصر لهم ولا معين ولا شفيع ولا ولىّ مما كانوا يزعمونه فى الدنيا كما قال تعالى حكاية عنهم: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» . وبعد أن ذكر عذاب المضادين بيّن عذاب الضالين المضلين فقال: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)

أي الذين جحدوا نبوّتك وكذبوك فيما جئتهم به من عند ربك، وصدوا عن الإيمان بالله ورسوله من أراده، زدناهم عذابا فوق عذابهم الذي يستحقونه بكفرهم، بسبب استمرارهم على الإفساد بالصد عن سبيل الله. وخلاصة ذلك- إنهم يعذبون عذابين: عذابا على الكفر، وعذابا على الإضلال وصد الناس عن اتباع الحق. ونحو الآية قوله: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي وهم ينهون الناس عن اتباعه، وهم يبتعدون منه أيضا، روى الحاكم والبيهقي وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح فى النار فإذا أتوه تلقّاهم عقارب كأنهم البغال الدهم، وأفاع كأنهن البخاتىّ (ضخام الإبل) تضربهم فذلك الزيادة» . وفى الآية دليل على تفاوت الكفّار فى عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون فى منازلهم فى الجنة ودرجاتهم فيها. ثم خاطب سبحانه عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلّم فقال: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي واذكر أيها الرسول ذلك اليوم وهوله يوم يبعث الله نبى كل أمة شاهدا عليهم، فيكون أقطع للمعذرة، وأظهر فى إتمام الحجة عليهم، وجئنا بك شهيدا على أمتك، بما أجابوك، وبما عملوا فيما أرسلتك به إليهم. وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم صدر سورة النساء، فلما وصل إلى قوله «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم «حسبك» فقال ابن مسعود: فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان. ثم ذكر ما تفضل به من الوحى على رسوله فقال: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي ونزلنا عليك أيها الرسول هذا القرآن تبيانا لكل ما بالناس إليه حاجة من معرفة

[سورة النحل (16) : الآيات 90 إلى 93]

الحلال والحرام والثواب والعقاب، وهدى من الضلالة، رحمة لمن صدق به، وعمل بما فيه من حدود الله وأمره ونهيه، فأحل حلاله وحرم حرامه، وبشرى لمن أطاع الله وأناب إليه، بجزيل الثواب فى الآخرة وعظيم الكرامة. ووجه ارتباط هذا بما قبله، بيان أن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك، سائلك يوم القيامة عن ذلك كما قال: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» وقال: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» وقال: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه، وسائلك عن أداء ما فرض عليك. وتبيان القرآن لأمور الدين إما مباشرة وإما ببيان الرسول، وقد أمرنا سبحانه باتباع هذا البيان فى قوله «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» وقوله «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» ولقوله صلى الله عليه وسلّم: «إنى أوتيت القرآن ومثله معه» وإما ببيان الصحابة والعلماء المجتهدين له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ» وقد كان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلّم فاجتهد الأئمة ووطّئوا طرق البحث فى أمور الدين لمن بعدهم، واستنبطوا من الكتاب والسنة مذاهب وآراء فى العبادات ومعاملات الناس بعضهم مع بعض، ودوّنوا تشريعا ينهل منه المسلمون فى كل جيل، ويرجع إليه القضاة ليحكموا بين الناس بالعدل، وكان أجلّ تشريع أخرج للناس كما اعترف بذلك أرباب الديانات الأخرى وكذلك من لم يتدين منهم بدين. [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 93] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

تفسير المفردات

تفسير المفردات العدل لغة: المساواة فى كل شىء بلا زيادة ولا نقصان فيه، والمراد به هنا المكافأة فى الخير والشر. والإحسان: مقابلة الخير بأكثر منه، والشر بالعفو عنه، وإيتاء ذى القربى: أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر. والفحشاء: ما قبح من القول والفعل، فيدخل فيه الزنا وشرب الخمر والحرص والطمع والسرقة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال المذمومة، والمنكر: ما تنكره العقول من دواعى القوة الغضبية كالضرب الشديد والقتل والتطاول على الناس، والبغي: الاستعلاء على الناس والتجبر عليهم بالظلم والعدوان، والوعظ: التنبيه إلى الخير بالنصح والإرشاد، والعهد: كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد، ونقض اليمين: الحنث فيها وأصله فك أجزاء الجسم بعضها من بعض، وتوكيدها: توثيقها والتشديد فيها، كفيلا: أي شاهدا ورقيبا، والغزل: ما غزل من صوف ونحوه، والقوة: الإبرام والإحكام، والأنكاث، واحدها نكث وهو ما ينكث فتله وينقض بعد غزله، والدخل: المكر والخديعة. وقال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل، ويراد به أن يظهر المرء الوفاء بالعهد ويبطن النقض، أربى: أي أكثر وأوفر عددا.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بالغ سبحانه فى الوعد للمتقين والوعيد للكافرين، وعاد وكرر فى الترغيب والترهيب إلى أقصى الغاية، أردف ذلك ذكر هذه الأوامر التي جمعت فضائل الأخلاق والآداب وضروب التكاليف التي رسمها الدين وحث عليها لما فيها من إصلاح حال النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب، ثم ضرب الأمثال لمن يحيد عنها وينفر من فعلها. ثم أبان أن أمر الهداية والإضلال بيده وأنه قد قدّره بحسب استعداد النفوس للصلاح والغواية، وأنه سيجازى يوم القيامة كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم، إنه سريع الحساب. أخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: «أعظم آية فى كتاب الله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» وأجمع آية فى كتاب الله للخير والشر الآية التي فى النحل «إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان» وأكثر آية فى كتاب الله تفويضا «ومن يتّق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» وأشد آية فى كتاب الله رجاء «يا عبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذّنوب جميعا» وعن عكرمة «أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له يا ابن أخى أعد علىّ، فأعادها عليه، فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. وأخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن الحسن رضى الله عنه «أنه قرأ هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» الآية ثم قال إن الله عزّ وجلّ جمع لكم الخير كله، والشر كله فى آية واحدة، فو الله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا إلا جمعه وأمر به، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه وزجر عنه.

الإيضاح

قال الحافظ أبو يعلى فى كتاب معرفة الصحابة عن على بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال: «بلغ أكثم بن صيفى مخرج النبي صلى الله عليه وسلّم فأراد أن يأتيه فأتى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخفّ إليه، قال فليأته من يبلّغه عنى ويبلغنى عنه، فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلّم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفى وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما من أنا؟ فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا؟ فأنا عبد الله ورسوله، قال ثم تلا عليهم: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» الآية. قالوا ردّد علينا القول فردده عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه، فوجدناه زاكى النسب وسطا فى مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إنى أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا فى هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا فيه أذنابا، وكونوا فيه أوّلا، ولا تكونوا فيه آخرا» . وقال سعيد بن جبير عن قتادة فى قوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيىء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها. الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) أي إن الله يأمر فى هذا الكتاب الذي أنزله إليك أيها الرسول بالعدل والإنصاف، ولا نصفة أجمل من الاعتراف بمن أنعم علينا بنعمه، والشكر له على إفضاله وحمده وهو أهل للحمد، ومنع ذلك عمن ليس له بأهل، فالأوثان والأصنام لا تستحق شيئا منه، فمن الجهل عبادتها وحمدها

وهى لا تنعم فتبشكر، ولا تنفع فتعبد، ومن ثم وجب أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده. أخرج ابن أبى حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعانى عمر بن عبد العزيز فقال: صف لى العدل، فقلت بخ سألت عن أمر جسيم، كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا، وللمثل منهم أخا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسامهم، ولا تضربنّ لغضبك سوطا واحدا فتكون من العادين. وأخرج البخاري فى تاريخه أن على بن أبى طالب مرّ بقوم يتحدثون، فقال: فيم أنتم؟ فقالوا نتذاكر المروءة فقال: أو ما كفاكم الله عزّ وجلّ ذاك فى كتابه إذ يقول: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» فالعدل الإنصاف، والإحسان: التفضل، فما بقي بعد هذا؟ وأعلى مراتب الإحسان الإحسان إلى المسيء، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلّم، وروى عن الشعبي أنه قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك. وقد صح من حديث ابن عمر فى الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي وإعطائهم ما تدعو إليه الحاجة، وفى الآية إرشاد إلى صلة الأقارب والأرحام وترغيب فى التصدق عليهم، وهذا وإن دخل فيما سلف من الإحسان- فقد خصص للاهتمام به والعناية بشأنه. وبعد أن ذكر الثلاثة التي أمر بها أتبعها بالثلاثة التي نهى عنها فقال: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) وهى الغلو فى الميل إلى القوة الشهوانية كالزنا وشرب الخمر والسرقة والطمع فى مال الناس. (وَالْمُنْكَرِ) وهو ما تنكره العقول من المساوى الناشئة من الغضب كالضرب والقتل والتطاول على الناس. (وَالْبَغْيِ) وهو ظلم الناس والتعدي على حقوقهم.

وخلاصة ما سلف- إن الله يأمر بالعدل، وهو أداء القدر الواجب من الخير، وبالإحسان، وهو الزيادة فى الطاعة والتعظيم لأمر الله والشفقة على خلقه، ومن أشرف ذلك صلة الرحم. وينهى عن التغالى فى تحصيل اللذات الشهوانية التي يأباها الشرع والعقل، وعن الإفراط فى اتباع دواعى الغضب بإيصال الشر إلى الناس وإيذائهم وتوجيه البلاء إليهم، وعن التكبر على الناس والترفع عليهم وتصعير الخدّ لهم. (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي أمركم بثلاث ونهاكم عن ثلاث، كى تتعظوا فتعملوا بما فيه رضاه سبحانه وتعالى، وما فيه صلاحكم فى دنياكم وآخرتكم. وبعد أن ذكر المأمورات والمنهيات بطريق الإجمال فى الآية الأولى- ذكر بعضها على سبيل التخصيص فقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ) أي وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه، وعقده إذا عاقدتموه، فأوجبتم به على أنفسكم حقا لمن عاقدتموه وواثقتموه عليه، ويدخل فى ذلك كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره، والوعد من العهد، ومن ثم قال ميمون بن مهران: من عاهدته وفّ بعهده، مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله تعالى. (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) أي ولا تخالفوا ما عاقدتم فيه الأيمان وشدّدتم فيه على أنفسكم، فتحنثوا فيه وتكذبوا وتنقضوه بعد إبرامه، وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه راعيا يرعى الموفى منكم بالعهد والناقض له بالجزاء عليه. ثم وعد وأوعد فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فى العهود التي تعاهدون الله الوفاء بها، والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم، أتبرّون فيها أم تنقضونها؟ وهو محص ذلك كله عليكم وسائلكم عنه وعما عملتم فيه، فاحذروا أن تلقوه وقد خالفتم أمره ونهيه، فتستوجبوا منه ما لا قبل لكم به من أليم عقابه.

أخرج ابن جرير عن مزيدة بن جابر أن الآية نزلت فى بيعة النبي صلى الله عليه وسلّم كان من أسلم يبايع على الإسلام، فقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان فى المسلمين قلة وفى المشركين كثرة. ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض مع ضرب المثل فقال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) أي ولا تكونوا أيها القوم فى نقضكم أيمانكم بعد توكيدها، وإعطائكم ربكم العهود والمواثيق كمن تنقض غزلها بعد إبرامه، وتنفشه بعد أن جعلته طاقات، حماقة منها وجهلا. قال السّدّى: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت غزلا نقضته بعد إبرامه. والخلاصة- إنه تعالى شبه حال الناقض للعهد بحال من تنقض غزلها بعد قتله وإبرامه، تحذيرا للمخاطبين، وتنبيها إلى أن هذا ليس من فعل العقلاء، وصاحبه فى زمرة الحمق من النساء. (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم- خديعة وغرورا ليطمئنوا إليكم، وأنتم مضمرون لهم الغدر وترك الوفاء بالعهد، والنّقلة إلى غيرهم من أجل أنهم أكثر منهم عددا وعددا وأعز نفرا، بل عليكم بالوفاء بالعهود والمحافظة عليها فى كل حال. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز نفرا فينقضون. حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز نفرا فنهوا عن ذلك، وقيل هو تحذير للمؤمنين أن يغتروا بكثرة قريش وسعة أموالهم فينقضوا بيعة النبي صلى الله عليه وسلّم. (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ) أي إنما يعاملكم الله معاملة المختبر، بأمره إياكم بالوفاء بعهده

[سورة النحل (16) : الآيات 94 إلى 97]

إذا عاهدتم، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهده وبيعة رسوله، أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال؟ ثم أنذر وحذر من خالف الحق وركن إلى الباطل فقال: (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي وليبيننّ لكم ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه، لمجازاة كل فريق منكم على عمله فى الدنيا، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته- ما كنتم تختلفون فيه من إقرار المؤمن بوحدانية ربه، ونبوة نبيه، والوحى إلى أنبيائه، والكافر بكذبه بذلك كله. وبعد أن أبان أنه كلفهم الوفاء بالعهد، وتحريم نقضه أتبعه ببيان أنه قادر على جمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الإيمان فقال: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي ولو شاء الله لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة ولم يجعل لهم اختيارا فيما يفعلون، فكانوا فى حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل، وفى حياتهم الروحية أشبه بالملائكة، مفطورين على طاعة الله واعتقاد الحق، وعدم الميل إلى الزّيغ والجور، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين، وعاملين بالاختيار لا مفطورين، وجعلهم متفاوتين فى الاستعداد وكسب العلم، فللإنسان اختيار أوتيه بحسب استعداده الأزلى وهو مجبور فيه، والثواب والعقاب يترتبان على هذا الاختيار الذي يشاهد، وتكون عاقبته الجنة أو النار. (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ولتسألن يوم القيامة جميعا سؤال محاسبة ومجازاة، لا سؤال استفهام واستفسار، وقد تكرر ذكر هذا المعنى فى سور كثيرة. [سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 97] وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)

تفسير المفردات

تفسير المفردات زلة القدم بعد ثبوتها: مثل يقال لمن وقع فى محنة بعد نعمة، وبلاء بعد عافية، والحياة الطيبة: هى القناعة وعدم الحرص على لذات الدنيا، لما فى ذلك من الكدّ والعناء. المعنى الجملي بعد أن حذر سبحانه من نقض العهود والأيمان على الإطلاق- حذّر فى هذه الآية من نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها وهى نقض عهد رسول الله على الإيمان به، واتباع شرائعه جريا وراء خيرات الدنيا وزخارفها، وأبان لهم أن كل ذلك زائل، وما عند الله باق لا ينفد، ثم هو بعد يجزيهم الجزاء الأوفى. الإيضاح (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) أي ولا تجعلوا أيمانكم خديعة تغرون بها الناس، والمراد بذلك نهى المخاطبين بذلك الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها. ذلك أنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإسلام، وحلفوا على ذلك أوكد الأيمان، ثم نقضوا ما فعلوا، لقلة أهله وكثرة أهل الشرك، فنهوا عن ذلك.

(فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إنكم بعملكم هذا تكونون قد وقعتم فى محظورات ثلاثة. (1) إنكم تضلّون وتبعدون عن محجة الحق والهدى بعد أن رسخت أقدامكم فيها (2) إنكم تكونون قدوة لسواكم وتستنّون سنة لغيركم، فيها صدّ عن سبيل الحق، ويكون لكم بها سوء العذاب فى الدنيا، بالقتل والأسر وسلب الأموال والجلاء عن الديار. (3) إنكم ستعاقبون فى الآخرة أشد العقاب جزاء ما اجترحتم من مجانفة الحق والإعراض عن أهله، والدخول فى زمرة أهل الشقاء والضلال. ثم أكد هذا التحذير بقوله: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أي ولا تأخذوا فى مقابلة نقض العهد عوضا يسيرا من الدنيا، وقد كان هذا حال قوم ممن أسلموا بمكة، زين لهم الشيطان أن ينقضوا ما بايعوا رسول الله عليه، جزعا مما رأوا من غلبة قريش، واستضعافهم للمؤمنين، وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم به من البذل والعطاء إن هم رجعوا إلى دينهم، فنبههم الله بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا الخير العميم والنعيم المقيم فى الآخرة بما وعدوهم به من عرض الدنيا وزينتها. ثم بين سبحانه قلة ما أخذوا، وعظيم ما تركوا بقوله: (إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن ما خبأه الله لكم، وادّخره من جزيل الأجر والثواب، هو خير لكم من ذلك العرض القليل فى الدنيا، إن كنتم من دوى العقول الراجحة، والأفكار الثاقبة التي تزن الأمور بميزان الفائدة وتقدّر الفرق بين العوضين. ثم بين وجه خيريته ورجاحة شأنه بقوله: (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ) أي إن ما تتمتعون به من نعيم الدنيا، بل

الدنيا وما فيها، تنفد وتنقضى، وإن طال الأمد وجلّ العدد، وما فى خزائن الله باق لا نفاد له، فلما عنده فاعملوا، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا. ثم رغب سبحانه المؤمنين فى الصبر على ما التزموه من شرائع الإسلام فقال: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولنثيبن الذين صبروا على أذية المشركين وعلى مشاقّ الإسلام التي تتضمن الوفاء بالعهود والمواثيق، الثواب العظيم الذي هم له أهل، كفاء صبرهم وهو أحسن أعمالهم، إذ كل التكاليف محتاجة إليه وهو أسّ الأعمال الصالحة. وفى الآية عدة جميلة باغتفار ما عسى أن يكون قد فرط منهم أثناء ذلك من جزع يعتريهم بحسب الطبيعة البشرية. ثم رغّبهم فى المثابرة على أداء الطاعات وعمل الواجبات الدينية فقال: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي من عمل صالح الأعمال، وأدى فرائض الله التي أوجبها عليه، وهو مصدّق بثوابه الذي وعد به أهل طاعته، وبعقاب أهل المعصية على عصيانهم، فلنحيينه حياة طيبة، تصحبها القناعة بما قسم الله له، والرضا بما قدّره وقضاه، إذ هو يعلم أن رزقه إنما حصل بتدبيره، والله محسن كريم لا يفعل إلا ما فيه المصلحة، ويعلم أن خيرات الدنيا سريعة الزوال، فلا يقيم لها فى نفسه وزنا، فلا يعظم فرحه بوجدانها، ولا غمه بفقدانها. ثم هو بعد ذلك يجزى فى الآخرة أحسن الجزاء، ويثاب أجمل الثواب، جزاء ما قدّم من عمل صالح، وتحلى به من إيمان صادق. أما من أعرض عن ذكر الله، فلم يؤمن ولم يعمل صالحا، فهو فى عناء ونكد، إذ يكون شديد الحرص والطمع فى الحصول على لذات الدنيا، فإن أصابته محنة أو بلاء استعظم أمره، وعظمت أحزانه، وكثر غمه وكدره، وإذا فاته شىء من خيراتها عبس وبسر، وامتلأ قلبه أسى وحسرة، لأنه يظن أن السعادة كل السعادة

[سورة النحل (16) : الآيات 98 إلى 100]

فى الحصول على زخرف هذه الحياة والتمتع بمتاعها. فإذا هو لم ينل منه ما يريد، فقد حرم كل ما يحلم به، ويقدره من وافر السعادة وعظيم الخير، والإنسان بطبعه جزوع هلوع منوع «إنّ الإنسان خلق هلوعا. إذا مسّه الشّرّ جزوعا. وإذا مسّه الخير منوعا إلّا المصلّين» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعو فيقول «اللهم قنّعنى بما رزقتنى، وبارك لى فيه، والخلف علىّ كل غائبة لى بخير» ، وأخرج الترمذي والنسائي من حديث فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «قد أفلح من هدى إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به» . وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه» . [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 100] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) تفسير المفردات قرأت القرآن: أي أردت قراءته كما تقول إذا أكلت فقل باسم الله، وإذا سافرت فتأهب، والرجيم: المرجوم المبعد من رحمة الله، والسلطان: التسلط والاستيلاء، والتولي: الطاعة يقال توليته أي أطعته، وتوليت عنه أي أعرضت. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه يجزى المؤمنين بأحسن أعمالهم، أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعمالهم من وساوس الشيطان.

الإيضاح

الإيضاح (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي إذا شرعت تقرأ القرآن فاسأل الله سبحانه أن يعيذك من وساوس الشيطان الرجيم، لئلا يلبس عليك قراءتك، ويمنعك من التدبر والتفكر كما قال «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلّم مع عصمته منه فما بالك بسائر أمته ثم بين أن الناس فريقان فريق لا تسلط له عليهم وهم الذين وصفهم الله بقوله: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي إنه لا تسلط للشيطان على الذين يصدقون بلقاء الله ويفوضون أمورهم إليه، وبه يعوذون وإليه يلتجئون، فلا يقبلون ما يوسوس به ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته. وعن سفيان الثوري أنه قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم- يريد أنهم أمروا بالاستعاذة منه، ليحفظهم الله من وساوسه التي ربما جرّتهم إلى الوقوع فى صغائر الآثام إذا وقعت على سبيل الندرة أو الغفلة. والفريق الثاني الذين عناهم بقوله: (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي إنما تسلطه بالغواية والضلالة على الذين يجعلونه نصيرا لهم فيحبونه ويطيعونه، ويستجيبون دعوته، والذين هم بسبب إغوائه يشركون بربهم. [سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 105] وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)

تفسير المفردات

تفسير المفردات التبديل: رفع شىء ووضع غيره مكانه، وتبديل الآية: نسخها بآية أخرى، وروح القدس: جبريل عليه السلام سمى بذلك لأنه ينزل بالقدس أي بما يطهر النفوس: من القرآن والحكمة والفيض الإلهى، بالحق: أي بالحكمة المقتضية له، بشر: هو جبر الرومي غلام ابن الحضرمي كان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة، والإلحاد: الميل يقال لحد وألحد: إذا مال عن القصد، ومنه سمى العادل عن الحق ملحدا، لسان: أي كلام ويقال رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان عن مرادهما، والأعجمى والأعجم: الذي فى لسانه عجمة، من العجم كان أو من العرب، ومن ذلك زياد الأعجم كان عربيا فى لسانه لكنة. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بالاستعاذة من وسوسة الشيطان الرجيم حين قراءة القرآن، أردف ذلك ذكر باب من أبواب فتنته ووسوسته، بإلقاء الشبهات والشكوك لدى منكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وقد ذكر منها شبهتين: (1) إنه قد تنزل آية من آيات الكتاب تنسخ شريعة ماضية فيعيّرون محمدا بذلك.

الإيضاح

(2) إنهم قالوا إن ما جاء به إنما هو تعليم من البشر من بعض أهل الكتاب لا من الله، فأبطل هذه الشبهة بأنه كلام عربى مبين، وما نسبتم إليه تعليمه أعجمى، فكيف به يعلمه الكلام العربي الفصيح الذي أعجز العرب قاطبة أن يأتوا بمثله؟. الإيضاح (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكم آية أخرى، والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدل من أحكامه- قال المشركون المكذبون لرسوله: إنما أنت متقوّل على الله تأمر بشىء ثم تنهى عنه، وأكثرهم لا يعلمون ما فى التبديل من حكم بالغة. وقليل منهم يعلمون ذلك وينكرون الفائدة عنادا واستكبارا. وفى قوله (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) توبيخ لهم وإيماء إلى أن التبديل لم يكن للهوى، بل كان لحكمة اقتضته ودعت إليه من تغير الأحوال والأزمان، ألا ترى أن الطبيب يأمر المريض بدواء بعينه، ثم إذا عاده مرة أخرى نهاه عن ذلك الدواء وأمره بضده أو بما لا يقرب منه بحسب ما يرى من حال المريض؟. وهكذا الشرائع إنما توضع مشاكلة للزمان والمكان والأحوال الملابسة لها، وقد يطرأ ما يغيّرها ويستدعى وضع تشريع آخر يكون أصلح للأحوال المفاجئة، والمشاهدة تدل على صدق هذا، فإنا نرى القوانين الوضعية تغيّر آنا بعد آن إذا جدما يستدعى ذلك، وقد تقدم بسط هذا فى سورة البقرة. ثم بين لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ، الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله، وأن رسوله صلى الله عليه وسلّم قد افتراه فقال: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي قل لهم: قد جاء جبريل من عند ربى بما أتلوه عليكم، واقتضته الحكمة البالغة، من تثبيت المؤمنين وتقوية إيمانهم بما فيه من أدلة قاطعة وبراهين ساطعة، على

وحدانية خالق الكون وباهر قدرته وواسع علمه، وحث على النظر فى ملكوت السموات والأرض، وتشريع يرقى بالأمم فى أخلاقها وآدابها ومعارفها، إلى مستوى لا تدانيها فيه أمة أخرى. والخلاصة- إنه نافع كل النفع لهم فى دينهم ودنياهم، فإذاهم رأوا ذلك رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم، كما أنّ فيه هداية لهم من الزيغ والضلالات، ففيه ما يهذّب النفوس ويكبح جماح الطغيان، ويرد الظالم عن ظلمه، ويدفع عدوان الناس بعضهم على بعض، وفيه بشرى للمسلمين بما سيلقونه من الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار جزاء أعمالهم وكدهم ونصبهم إرضاء لربهم. وفى هذا إيماء إلى أن هؤلاء المشركين لهم من الصفات ضد هذا، فهم متزلزلون ضالون لهم خزى ونكال فى الدنيا والآخرة. ثم حكى عنهم شبهة ثانية فقال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) أي وإنا لنعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا: إنما يعلم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بنى آدم وليس بالوحى من عند الله. فرد الله عليهم وكذبهم فى قيلهم فقال: (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي إن لسان الذي تميلون إليه بأنه يعلم محمدا- أعجمى فهو عبد رومى فيما تزعمون، والقرآن لسان عربى مبين، فكيف يتعلّم من جاء بهذا القرآن فى فصاحته وبلاغته ومعانيه الشاملة من رجل أعجمى؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من عقل. وخلاصة هذا- إن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمى لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن كلام عربى تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون هو ما تلقفه منه؟ هبه تعلم منه المعنى باستماع كلامه، فهو لم يلقف منه اللفظ، لأن ذلك أعجمى وهذا عربى، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى هو معجز من حيث اللفظ- إلى أن العلوم الكثيرة

التي فى القرآن لا يمكن تعلمها إلا بالدرس والتلقين من أخصائيين مع الاختلاف إليهم مددا متطاولة، فليس من الميسور ولا مما يجد العقل اطمئنانا إليه أن يتعلم مثل هذا من غلام سوقى سمع منه أخبارا بلغة أعجمية لعله لم يكن يعرف معناها. وعلى نحو آخر كأنه قيل لهم: أنتم أفصح الناس بيانا، وأقواهم حجة وبرهانا، وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا، وقد عجزتم وعجز جميع العرب أن يأتوا بمثله، فكيف تنسبونه إلى أعجمى ألكن؟. وفى التشبث بأمثال هذه المطاعن الركيكة، والخرافات الساذجة، أبلغ دليل على أنهم بلغوا غاية العجز، ونهاية السّخف. فدعهم يزعمون الصبح ليلا ... أيعمى الناظرون عن الضياء ثم توعدهم على ما قالوا بالعقاب فى الدنيا والآخرة فقال: (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين لا يصدّقون بأن هذه الآيات من عند الله، بل يقولون فيها ما يقولون، فيقولون تارة إنها مفتريات، ويقولون أخرى إنها من أساطير الأولين- لا يهديهم الله إلى معرفة الحق الذي ينجيهم من عذاب النار، لما يعلم من سوء استعدادهم بما اجترحوا من السيئات، ودنّسوا به أنفسهم من ارتكاب الموبقات ولهم فى الآخرة إذا وردوا إلى ربهم عذاب مؤلم موجع، كفاء ما نصبوا له أنفسهم من العداء لرسوله: والتكذيب لآيات الكتاب. ولما نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الافتراء رد الله عليهم بقوله: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي إنما يتخرّص الكذب ويتقوّل الباطل، الذين لا يصدقون بحجج الله وآياته التي نصبها فى الكون، وأقامها أدلة على وجوده ووحدانيته، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابا، ولا يخشون على الكذب عقابا، وهذه صفاتكم أيها المشركون لا صفات النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ومن ثم حكم عليهم بالكذب حكما صريحا فقال:

[سورة النحل (16) : الآيات 106 إلى 109]

(وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي وأولئك الذين كفروا من رجال قريش القائلين لك أيها الرسول: إنما أنت مفترهم الكاذبون لا أنت. وهذا تصريح بنسبة الكذب إليهم بعد التعريض، ليكون ميسم خزى وعار لهم. [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) تفسير المفردات أكره: أي على التلفظ بكلمة الكفر، والاطمئنان: سكون النفس بعد انزعاجها والمراد الثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه، شرح بالكفر صدرا: أي اعتقده وطاب به نفسا، استحبوا الحياة الدنيا: أي آثروها وقدّموها، لا جرم: أي حقا. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآيات السالفة أن قريشا كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم وتقوّلوا عليه الأقاويل فوصفوه بأنه مفتر وأن الكتاب الذي جاء به هو من كلام البشر لا من عند الله، ثم هددهم على ذلك أعظم تهديد- قفى على ذلك ببيان حال من يكفر بلسانه وقلبه ملىء بالإيمان.

الإيضاح

أخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي فى الدلائل «أن المشركين أخذوا عمّار ابن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى رسول الله قال له ما وراءك؟ قال شر ما تركت، نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال إن عادوا فعد فنزلت: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» ، وروى «أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسميّة على الارتداد فأبوا، فربطوا سمية بين بعيرين ووجئت بحربة فى موضع عفتها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين فى الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: كلا إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يبكى فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمسح عينيه وقال: مالك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت» . الإيضاح (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي إن من كفر بالله بعد الإيمان والتبصر فعليه غضب من الله إلا إذا أكره على ذلك وقلبه ملىء بالإيمان بالله والتصديق برسوله، فلا تثريب عليه كما فعل عمار بن ياسر. (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولكن غضب الله وشديد عقابه لمن طابت أنفسهم بالكفر، واعتقدوه طائعين مختارين، لعظيم جرمهم، وكبير إثمهم. ثم بين سبب هذا الغضب فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي ذلك الغضب من الله، والعذاب العظيم من أجل أنهم آثروا الحياة الدنيا وزينتها على نعيم الآخرة. (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي وأن الله لا يوفق من يجحد آياته

ويصرّ على إنكارها، لأنه قد فقد الاستعداد لسبل الخير بما زينت له نفسه، وسولت له، من عظيم الجرم وكبير الإثم، فأصبح قلبه مليئا بما يشغله عن دواعى الإيمان، بما يمليه عليه الشيطان. (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي أولئك الذين اتصفوا بما تقدم ذكره- هم الذين طبع الله على قلوبهم، فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصم أسماعهم فلا يسمعون داعى الله إلى الهدى، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر متعظ، وأولئك هم الساهون عما أعدّ لأمثالهم من أهل الكفر، وقد تقدم ذكر (الطبع) فى آي كثيرة. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي حقا إنهم فى الآخرة هم الهالكون الذين غبنوا أنفسهم حظوظها، وصرفوا أعمارهم فيما لا يفضى بهم إلا إلى العذاب المخلّد ولله در من قال: إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الإنفاق فى غير واجب فما المرء فى هذه الحياة إلا كالتاجر، يشتر بطاعة ربه سعادة الآخرة، فإذا لم يفعل من ذلك شيئا خسرت تجارته، وعاد ذلك عليه بالوبال والنكال فى جهنم وبئس القرار. وقد حكم الله على هؤلاء الكافرين بستة أشياء: (1) إنهم استوجبوا غضب الله. (2) إنهم استحقوا عقابه العظيم. (3) إنهم استحبوا الحياة الدنيا. (4) إن الله حرمهم من الهداية للطريق القويم. (5) إنه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. (6) إنه جعلهم سبحانه من الغافلين. قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وخبّاب وصهيب وبلال وعمار وسمية.

[سورة النحل (16) : الآيات 110 إلى 111]

أما الرسول فحماه أبو طالب، وأما أبو بكر فحماه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد، ثم أجلسوا فى الشمس، فبلغ منهم الجهد بحرّ الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبّخهم ويشتم سمية ثم طعنها بحربة فى ملمس العفة، وقال الآخرون ما نالوا به منهم، إلا بلالا فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول: أحد أحد حتى ملّوا، فكتفّوه وجعلوا فى عنقه حبلا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به، حتى ملّوه فتركوه. وقال عمار: كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال فإن نفسه هانت عليه فتركوه، وقال خبّاب: لقد أوقدوا لى نارا ما أطفأها إلا ودك (دهن) ظهرى. [سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 111] ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) تفسير المفردات أصل الفتن: إدخال الذهب فى النار لتظهر جودته من رداءته، ثم استعمل فى المحنة والابتلاء يصيب الإنسان، تجادل: أي تدفع وتسعى فى خلاصها، والنفس الأولى الجثة والبدن، والنفس الثانية عينها وذاتها، وتوفى: تعطى. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحكم بأنه استحق غضب الله وعذابه الأليم يوم القيامة، ثم ذكر حال من أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه وقلبه ملىء بالإيمان- أردف ذلك بذكر طائفة من المسلمين كانوا مستضعفين بمكة مهانين فى قومهم فوافقوا المشركين على الفتنة فى الدين والرجوع إلى دين آبائهم وأجدادهم ثم فرّوا وتركوا بلادهم وأهليهم ابتغاء رضوان الله وطلب

الإيضاح

غفرانه، وانتظموا فى سلك المسلمين وجاهدوا معهم الكافرين، فحكم ربهم بقبول توبتهم، ودخولهم فى زمرة الصالحين، وتمتعهم بجنات النعيم يوم العرض والحساب. أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضى الله عنه (وكان أخا أبى جهل من الرضاعة) وأبا جندل بن سهل وسلمة بن هشام وعبد الله بن سلمة الثقفي، فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا فنزلت فيهم الآية. الإيضاح (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربك أيها الرسول للذين هاجروا من ديارهم وتركوا مساكنهم وعشائرهم من أهل الشرك، وانتقلوا عنهم إلى ديار الإسلام من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين ظهرانيهم قبل هجرتهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف، وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، وصبروا على جهادهم- إن ربك من بعد أفعالهم هذه لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم، وهم لغيرها مضمرون، وللإيمان معتقدون، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إليه، وجميل صنعهم من بعد. (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي إن ربك لغفور رحيم بهؤلاء يوم تأتى كل نفس تخاصم عن نفسها، وتحاجّ عنها، وتسعى فى خلاصها، بما أسلفت فى الدنيا من عمل، ولا يهمها شأن غيرها من ولد ووالد وقريب. (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت فى الدنيا من طاعة أو معصية، فيجزى المحسن بما قدم من إحسان، والمسيء بما أسلف من إساءة، ولا يعاقب محسن ولا يثاب مسىء.

[سورة النحل (16) : الآيات 112 إلى 113]

والخلاصة- إن كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كما قال: «لكلّ امرى منهم يومئذ شأن يغنيه» . وجاء فى بعض الآثار: «إن جهنم لتزفر زفرة، لا يبقى ملك مقرب، ولا نبى مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول: رب نفسى نفسى حتى إن إبراهيم الخليل ليفعل ذلك» . [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) المعنى الجملي بعد أن هدد سبحانه الكافرين بالعذاب الشديد فى الآخرة- أردف ذلك الوعيد بآفات الدنيا من جوع وفقر وخوف شديد بعد أمن واطمئنان وعيش رغد. الإيضاح (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) أي بين الله صفة لقرية كان أهلها آمنين من العدو والقتال والجوع والسبي، يأتيها الرزق الكثير من سائر البلدان، فكفروا بنعم الله، فعمهم الجوع والخوف، وذاقوا مرارتهما بعد سعة العيش والطمأنينة، وقد جاءهم رسول من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه، فكذبوه فيما أخبرهم به من

[سورة النحل (16) : الآيات 114 إلى 119]

وجوب الشكر على النعمة، فأخذهم العذاب واستأصل شأفتهم لا لتباسهم بالظلم، وهو الكفر وتكذيب الرسول. وفى هذا إيماء إلى تماديهم فى الكفر والعناد، وإلى أن ترتيب العذاب على تكذيب الرسول جاء على سنة الله فى أنه لا يعذب أمة إلا إذا أنذرها، وبعث إليها رسولا يعظها ويرشدها كما يدل على ذلك قوله: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وهكذا حال أهل مكة، فإنهم كانوا فى حرم آمن يتخطّف الناس من حولهم، ولا يمرّ بهم طيف من الخوف، ولا يزعج قلوبهم مزعج، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شىء، وقد جاءهم رسول من أنفسهم فأنذرهم وحذّرهم، فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وأذاقهم لباس الجوع والخوف بدعاء رسوله إذا قال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرقة، وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وغيرهم وقوافلهم، ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب، وقد جعل الله الجوع والخوف اللذين خالط أذاهما أجسامهم- لباسا لهم لأن أثرهما وضررهما قد أحاط بهم من كل جانب، فأشبها اللباس الذي يغطّى الجسم ويحيط به، وجعل إصابتهم بهما إذاقة دلالة على شدة تأثيرهما الشديد الذي حدث فيهم كما يكون ذلك حين ذوق شىء مرّ بشع كريه، إذ يجد الذائق تقززا واشمئزازا. [سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 119] فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يقولون: له وجه يصف الجمال، وعين تصف السحر، يريدون أنه جميل وأن عينه تفتن من رآها، لأنه لما كان وجهه منشأ للجمال وعينه منبعا للفتنة والسحر كان كل منهما كأنه إنسان عالم بكنههما محيط بحقيقتهما يصفهما للناس أجمل وصف ويعرفهما أتم تعريف وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب، إذ جعل الكذب كأنه حقيقة مجهولة، وكلامهم الكذب يشرح تلك الحقيقة ويوضحها، كأن ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب هى حقيقته ومنبعه الذي يعرف منه، وعليه قول أبى العلاء المعرّى: سرى برق المعرّة بعد وهن ... فبات برامة يصف الكلالا أي إن سرى ذلك البرق يصف الكلال والإعياء. لتفتروا: أي لتكون العاقبة ذلك، والجهالة هنا: الطيش وعدم التدبر فى العواقب. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه حال من كفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله وأنه قد حل بهم العذاب من جوع وخوف بسبب ظلمهم لأنفسهم وصدهم عن سبيل الله- قفّى على

الإيضاح

ذلك بأمر المؤمنين بأكلهم من الحلال الطيب وشكرهم لنعمة الله عليهم وطاعتهم للرسول فيما به أمر وعنه نهى كيلا يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم، ثم ببيان ما حرمه من المآكل، وأن التحليل والتحريم لا يكونان إلا بنص من الدين لا بالهوى والتشهي، لأن ذلك افتراء على الله، ومن يفتر عليه لا يفلح. وأن ما حرّم على اليهود قد ذكره فيما نزل عليه من قبل فى سورة الأنعام، وأن من يعمل السوء لعدم تدبره فى العواقب كغلبة الشهوة عليه ثم يتوب من بعد ذلك ويصلح أعماله، فإن الله غفور لزلاته، رحيم له، فيثيبه على طاعته. الإيضاح (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من بهائم الأنعام التي أحلها لكم، وذروا الخبائث وهى الميتة والدم، واشكروه على ما أنعم به عليكم، بتحليله ما أحل لكم، وبسائر نعمه المتظاهرة عليكم، إن كنتم تعبدونه، فتطيعونه فيما يأمركم به، وتنتهون عما ينهاكم عنه، والمراد بذلك الحث على اتباع أوامره والمداومة عليها. وبعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات بين لهم ما حرّم عليهم فقال: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) أي إنما حرم عليكم ربكم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح للأنصاب فسمى عليه بغير اسمه تعالى، فإن ذلك من ذبائح من لا يحل أكل ذبيحته. والخلاصة- إن ما سمى عليه غير الله عند الذبح سواء كان صنما أو وثنا أو روحا خبيثا من جن أو روحا طيبا من إنس كالنبى والولي حيا أو ميتا، فأكله حرام لما جاء فى الحديث «ملعون من ذبح لغير الله» سواء سمى الله عند ذبحه أو لم يسم، لأن هذا الحيوان قد انتسب إلى غيره تعالى، فمن ذبح للسيد البدوي أو لإبراهيم الدسوقى أو للسيدة زينب لا يجوز أكل هذا الذبيح.

ثم ذكر الحال التي يسوغ فيها تناول شىء من هذه المحرمات فقال: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن اضطر إلى تناول شىء من هذه المحرمات لمجاعة حلت به، وضرورة دعته إلى أخذ شىء منها، غير باغ على مضطر آخر ولا متعدّ قدر الضرورة وسد الرمق- فالله لا يؤاخذه على ذلك وهو الذي يستر ما يصدر منهم من الهفوات، وهو الرحيم بهم أن يعاقبهم على مثل ذلك، أما ما حرموه غير ذلك من البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما تقدم فى سورة الأنعام فهو محض افتراء على الله، وقد تقدم مثل هذه الآية فى سور البقرة والمائدة والأنعام وفيها حصر المحرمات فى هذه الأربع فحسب. ثم أكد حصر المحرمات فى هذه الأربع ونهى عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال: (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام بالرأى والهوى، فلا تقولوا ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، ولا تحللوا الميتة والدم ولحم الخنزير إلخ. وخلاصة ذلك- لا تحللوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له دون استناد إلى دليل، وكأنّ ألسنتكم لأنها منشأ الكذب وينبوعه شخص عالم بحقيقته، ومحيط بكنهه، يصفه للناس ويوضحه لهم أتم إيضاح. (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) أي لتكون عاقبة أمركم إسناد التحريم والتحليل إلى الله كذبا من غير أن يكون ذلك منه، فالله لم يحرم من ذلك ما تحرمون ولا أحل كثيرا مما تحللون. وإجمال ذلك- لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله ورسوله حلالا وحراما فتكونوا كاذبين عليه، لأن مدار الحل والحرمة عليه ليس إلا حكمة تعالى. عن أبى نضرة قال: قرأت هذه الآية فى سورة النحل فلم أزل أخاف الفتيا إلى

يومى هذا- وقد صدق فكل من أفتى بخلاف ما فى كتاب الله وسنة رسوله لجهله بما فيهما فقد ضل وأضل من يفتيهم، ولله در القائل: كبهيمة عمياء قاد زمامها ... أعمى على عوج الطريق الحائر أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: «عسى رجل يقول إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا فيقول الله عزّ وجلّ كذبت، أو يقول إن الله حرم كذا أو أحل كذا فيقول الله له كذبت» . ثم أوعد المفترين وهددهم أشد التهديد فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي إن الذين يتخرّصون الكذب على الله فى أمورهم صغيرها وكبيرها لا يفوزون بخير فى المطالب التي لأجلها كذبوا على ربهم، إذ هم متى عرفوا بالكذب مجّهم الناس وانصرفوا عنهم وعاشوا أذلة بينهم ممقوتين، ويكونون مضرب الأمثال فى الهوان والصغار- إلى ما يصيبهم من الخزي والوبال يوم القيامة. ثم بين أن ما يحصل لهم من المنافع بالافتراء على الله ليس شيئا مذكورا إذا قيس بالمضارّ التي تنجم منه فقال: (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن المنافع التي قد تحصل لهم على ذلك فى الدنيا لا يعتدّ بها فى نظر العقلاء إذا ووزن بينها وبين المضارّ التي فى الآخرة، فما متاع الدنيا إلا ظل زائل ثم يفنى ويبقى لهم العذاب الأليم حين مصيرهم إلى ربهم بما اجترحوا من السيئات، ودنّسوا به أنفسهم من أو ضار الإثم والفجور والكذب على بارئهم الذي خلقهم وصوّرهم فأحسن صورهم. ونحو الآية قوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» . وبعد أن بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما خص به اليهود من المحرمات فقال: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي وحرمنا من قبلك

أيها الرسول على اليهود ما أنبأناك به من قبل فى سورة الأنعام: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» . ثم بين السبب فى ذلك التحريم عليهم فقال: (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وما ظلمناهم بتحريم ذلك عليهم، ولكن ظلموا أنفسهم بمعصيتهم لربهم وتجاوزهم حدوده التي حدها لهم وانتهاك حرماته، فعوقبوا بهذا التحريم كما قال فى آية أخرى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» الآية. وفى هذا إيماء لى أن ذلك التحريم إنما كان للظلم والبغي عقوبة وتشديدا، وبه يعلم الفرق فى التحريم بينهم وبين غيرهم، فإنه لهم عقوبة، ولنا للمضرّة فحسب. ثم بيّن أن الافتراء على الله وانتهاك حرماته لا يمنع من التوبة التي يتقبّلها الله منهم، ويغفر لهم زلاتهم رحمة منه وفضلا فقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربك للذين افتروا عليه وأشركوا به سواه وركبوا مالا يليق من المعاصي بسبب الجهالة التي تحملهم على انتهاك حرمات الدين كالقتل للغيرة أو للعصبية كما جاء فى الخبر «اللهم إنى أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل علىّ» . وقال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا إنه لغفور رحيم لهم إذ هم تابوا وندموا على ما فرط منهم، وأصلحوا أعمالهم ففعلوا ما يحب الله ورسوله. وفى قوله: بجهالة، إيماء إلى أن من يأتى الذنوب قلّما يفكر فى العاقبة، لغلبة الشهوة عليه أو لجهالة الشباب والطيش.

[سورة النحل (16) : الآيات 120 إلى 128]

[سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 128] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) تفسير المفردات الأمة: الجماعة الكثيرة، وسمى إبراهيم أمة لأنه قد جمع من الفضائل والكمالات ما لو تفرّق لكفى أمة، ألا ترى أبا نواس إذ يقول لهرون الرشيد مادحا: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد والقانت: المطيع لله القائم بأمره، والحنيف: المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق، واجتباه: اختاره واصطفاه، والحسنة: هى محبة أهل الأديان جميعا له إجابة لدعوته لربه «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين» وجعل السبت لليهود: فرض تعظيمه والتخلي فيه للعبادة وترك الصيد، والحكمة: المقالة المحكمة المصحوبة بالداليا

المعنى الجملي

الموضّح للحق المزيل للشبهة، والموعظة الحسنة: الدلائل الظنية المقنعة للعامة، والجدل: الحوار والمناظرة لإقناع المعاند، والعقاب فى أصل اللغة: المجازاة على أذى سابق ثم استعمل فى مطلق العقاب، والضيق (بفتح الضاد وكسرها) الغم وانقباض الصدر. المعنى الجملي بعد أن زيّف سبحانه مذاهب المشركين فى إثبات الشركاء والأنداد لله، وفى طعنهم فى نبوة الأنبياء والرسل بنحو قولهم: لو أرسل الله رسلا لأرسل ملائكة. وفى تحليلهم أشياء حرمها الله، وتحريم أشياء أحلها الله، وبالغ فى رد هذه المعتقدات. ختم السورة بذكر إبراهيم رئيس الموحدين الذي كان المشركون يفتخرون به، ويقرّون بوجوب الاقتداء به، ليصير ذكر طريقته حاملا لهم على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك، ثم بأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم باتباعه، ثم يجعل الأسس التي يبنى عليها دعوته هى الحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالحسنى، ثم بأمره باللين فى العقاب إن أراده، أو بترك العقاب، وهو أفضل للصابرين، ثم بأمره بجعل الصبر رائده فى جميع أعماله، ونهيه عن الحزن على كفر قومه، وأنهم لم يجيبوا دعوته، وأنهم يمكرون به، فالله ينصره عليهم ويكفيه أذاهم، فقد جرت سنته بأن العاقبة للمتقين، والخذلان للعاصين الخائنين. الإيضاح (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) مدح الله عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء بجملة صفات من صفات الكمال: (1) إنه وحده كان أمّة، قال ابن عباس رضى الله عنهما: إنه كان عنده عليه الصلاة

والسلام من الخير ما كان عند أمة، فهو رئيس الموحّدين، كسر الأصنام، وجادل الكفار، ونظر فى النجوم، ودرس الطبيعة الكونية، ليطمئن قلبه بالإسلام. (2) إنه كان قانتا أي مطيعا لله قائما بأمره. (3) إنه كان حنيفا أي مائلا عن الباطل، متّبعا للحق، لا يفارقه ولا يحيد عنه. (4) إنه ما كان من المشركين فى أمر من أمور دينهم، بل كان من الموحّدين فى الصغر والكبر، فهو الذي قال للملك فى عصره «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» وهو الذي أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: «لا أحبّ الآفلين» وكسر الأصنام حتى ألقوه لأجلها فى النار فكانت عليه بردا وسلاما. وعلى الجملة فقد كان غارقا فى بحار التوحيد مستغرقا فى حب الإله المعبود، وفى ذلك ردّ على كفار قريش إذ قالوا نحن على ملة إبراهيم، وعلى اليهود الذين أشركوا وقالوا عزيز ابن الله، مع زعمهم أن إبراهيم كان على مثل ما هم عليه. ونحو الآية قوله: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . (5) إنه كان شاكرا لأنعم الله عليه كما قال: «وإبراهيم الّذى وفّى» أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به، وفى هذا تعريض بكفار قريش الذين جحدوا بأنعم الله فأصابهم الجوع والخوف كما تقدم ذكره فى المثل السابق. (6) إنه اجتباه ربه واختاره للنبوة كما قال: «ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنّا به عالمين» . (7) إنه هداه إلى صراط مستقيم، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع إرشاد الخلق إلى ذلك والدعوة إليه. (8) إن الله حبّبه إلى جميع الخلق، فجميع أهل الأديان، مسلميهم ونصاراهم ويهودهم يعترفون به، وكفار قريش لا فخر لهم إلا به، وقد أجاب الله دعاءه فى قوله «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين» .

(9) إنه فى الآخرة فى زمرة الصالحين، وهو معهم فى الدرجات العلى من الجنة، إجابة لدعوته قال: «ربّ هب لى حكما وألحقنى بالصّالحين» . وبعد أن وصف إبراهيم بهذه الصفات الشريفة التي بلغت الغاية فى علوّ المرتبة أخبر أنه أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم باتباعه فقال: (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ثم أوحينا إليك أيها الرسول وقلنا لك: اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة البريئة من عبادة الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك، كما تبرأ إبراهيم من مثلها من قبل، فأنت متبع له وسائر على طريقه، وقومك ليسوا كذلك، لأنهم يحللون ويحرمون من عند أنفسهم. ونحو الآية قوله فى سورة الأنعام: «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . وخلاصة ذلك- إنه عليه الصلاة والسلام أمر باتباع ملة إبراهيم بنفي الشرك وإثبات التوحيد، وإن كان قد ثبت ذلك بالدليل العقلي، ليظاهر الدليل النقلى الدليل العقلي. وقوله: (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تكرير لزيادة التوكيد وتقرير لنزاهته عليه الصلاة والسلام عما هم عليه من عقيدة وعمل. ثم نعى على اليهود ما اختلفوا فيه وهو يوم السبت فقال: (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إنما جعل وبال يوم السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، فأحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى، وكان من الحتم عليهم أن يتفقوا فيه على كلمة واحدة بعد أن أمروا بالكف عن الصيد فيه. كما أن وبال التحريم والتحليل من المشركين من عند أنفسهم واقع عليهم لا محالة. وإن ربك ليفصل بين الفريقين فى الخصومة والاختلاف، ويجازى كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب.

وإيراد هذه العبارة بين سابق الكلام ولاحقه- إنذار للمشركين وتهديد لهم بما فى مخالفة الأنبياء من عظيم الوبال والنكال، كما ذكر مثل القرية فيما سلف، إلى أن فيه حثا على إجابة الدعوة التي تضمنها سابق الكلام وأمروا بها فى لا حقه، ثم فصل سبحانه ما أمر باتباع إبراهيم فيه فقال: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادع أيها الرسول من أرسلك إليهم ربك بالدعاء إلى شريعته التي شرعها لخلقه بوحي الله الذي يوحيه إليك، وبالعبر والمواعظ التي جعلها فى كتابه حجة عليهم، وذكرهم بها فى تنزيله كالذى عدده فى هذه السورة. وخاصمهم بالخصومة التي هى أحسن من غيرها بأن تصفح عما نالوا به عرضك من أذى، وترفّق بهم بحسن الخطاب، كما قال فى آية أخرى «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» الآية، وقال آمرا موسى وهرون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون «فقولا له قولا ليّنا لعلّه يتذكّر أو يخشى» . ثم توعد سبحانه ووعد فقال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك أيها الرسول هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين فى السبت وغيره، وأعلم بمن كان منهم سالكا قصد السبيل ومحجة الحق، وهو مجازيهم جميعا حين ورودهم إليه بحسب ما يستحقون. وخلاصة ذلك- اسلك فى الدعوة والمناظرة الطريق المثلى، وهى الدعوة بالتي هى أحسن، وليس عليك غيرها. أما الهداية والضلال والمجازاة عليهما فإلى الله سبحانه لا إلى غيره، إذ هو أعلم بحال من لا يرعوى عن الضلال لسوء اختياره، وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء، لما ينطوى بين جنبيه من الخير، فما شرعه لك فى الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة، وهو كاف فى هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين.

ولما أمر الله رسوله بالدعوة وبين طريقها وكانت تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة، وذلك مما يحمل أكثرهم على إيذاء الداعي إما بقتله أو بضر به أو بشتمه، كما أن الداعي يدعوه طبعه إلى تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وأخرى بالضرب، لا جرم أمر سبحانه المحقين برعاية العدل والإنصاف فى العقاب وترك الزيادة فيه فقال: (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) أي وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم فلكم فى العقاب إحدى طريقين: (1) أن تعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة. (2) أن تصبروا وتتجاوزوا عما صدر منه من الذنب، وتصفحوا عنه، وتحتسبوا عند الله ما نالكم به من الظلم، وتكلوا أمركم إليه، والله يتولى عقوبته، والصبر خير للصابرين من الانتقام، لأن الله ينتقم من الظالم بأشد مما كان ينتقم منه لنفسه. والخلاصة- إنكم إن رغبتم فى القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه، فإن الزيادة ظلم، والظلم لا يحبه الله ولا يرضى به، وإن تجاوزتم عن العقوبة وصفحتم فذلك خير وأبقى، والله هو الذي يتولى عقاب الظالم ويأخذ بناصر المظلوم. ثم أمر رسوله بالصبر صراحة بعد أن ندب إليه غيره تعريضا، لأنه أولى الناس بعزائم الأمور، لزيادة علمه بشئونه تعلى فقال: (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) أي واصبر على ما أصابك منهم من أذى فى الله، ومن إعراض عن الدعوة، وما صبرك إن صبرت إلا بمعونة الله وحسن توفيقه، ومشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تنتهى إلى عواقب حميدة. وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلّم وتهوين لمشاقّ الصبر عليه وتشريف له بما لا مزيد عليه. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي ولا تحزن على إعراض المشركين الذين يكذّبونك وينكرون ما جئتهم به.

(وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا يضق صدرك بما يقولون من الجهل بنسبتك إلى السحر والكهانة والشعر احتيالا وخديعة لمن أراد الإيمان بك، وصدّا عن سبيل الله. وقصارى ذلك- إنه نهى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغهم وحي الله وتنزيله كما قال: «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ» وقال: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» . فالله كافيك أذاهم، وناصرك عليهم، ومؤيدك ومظهرك عليهم، فمهما حاولوا إيصال الأذى بك، فإن الله مبعده عنك، ومحبط ما صنعوا وهم لا يشعرون. (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أي إن الله مع الذين اتقوا محارمه فاجتنبوها خوفا من عقابه، والذين يحسنون رعاية فرائضه، والقيام بحقوقه، ولزوم طاعته فيما أمرهم به، وفى ترك ما نهاهم عنه. ونحو الآية قوله لموسى وهرون: «لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» وقول النبي صلى الله عليه وسلّم للصدّيق وهما فى الغار فيما حكى الله عنه: «لا تحزن إنّ الله معنا» . وقصارى ذلك- إن الله تعالى ولىّ الذين تبتّلوا إليه، وأبعدوا الشواغل عن أنفسهم، فلم يحزنوا لفوت مطلوب، ولم يفرحوا لنيل محبوب، والذين هم محسنون أعمالهم برعاية فرائضه وأداء حقوقه على النحو اللائق بجلاله وكماله، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . والله نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يوفقنا للفقه فى دينه، ويفتح لنا خزائن أسراره، بحرمة كتابه، وكنوز شريعته التي أنزلها على رسوله النبي الأمى، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين:

مجمل ما حوته السورة الكريمة من الآداب والأحكام

مجمل ما حوته السورة الكريمة من الآداب والأحكام (1) استعجال المشركين للساعة. (2) ذكر الأدلة على التوحيد بخلق العالم العلوي والسفلى وخلق الإنسان. (3) الامتنان على عباده بخلق الأنعام وما فيها من المنافع من أكل وحمل أثقال إلى البلاد البعيدة. (4) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان. (5) إنذار المشركين بأن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات وبما آتاهم من العذاب من حيث لا يشعرون. (6) احتجاج المشركين بعدم الحاجة إلى إرسال الرسل بأن ما هم فيه من كفر وضلال مقدر مكتوب عليهم، فلا فائدة فى إرسالهم، وقد ردّ الله عليهم بأن وظيفة الرسل البلاغ والإنذار لا خلق الهداية والإيمان. (7) إجمال دعوة الأنبياء بأنها عبادة الله واجتناب الطاغوت، ومن الناس من استجاب لدعوتهم ومنهم من حقت عليه الضلالة. (8) إنكار المشركين للبعث والنشور وحلفهم على ذلك، وتكذيب الله لهم فيما يقولون. (9) إنكارهم بعث محمد صلى الله عليه وسلّم بأنه رجل لا ملك، فكذبهم الله بأن الأنبياء جميعا كانوا رجالا لا ملائكة. (10) إنذار المشركين بعذاب الخسف. (11) جعلهم الملائكة بنات مع حزنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى. (12) رحمة الله بعباده وعدم مؤاخذتهم بذنوبهم، وأنه لو آخذهم ما ترك على ظهر الأرض دابة. (13) ذكر نعمه على عباده بإنزال اللبن من بين الفرث والدم، وأخذ الثمرات من النخيل والأعناب والعسل من النحل.

(14) تفاضل الناس فى الأعمار والأرزاق. (15) ضرب الأمثال لدحض الشركاء والأنداد من دون الله. (16) الامتنان على عباده بخلق السمع والبصر وتسخير الطير فى جو السماء وجعل البيوت سكنا، وجعله لنا سرابيل تقى الحر وسرابيل تقى بأس العدو. (17) جعل الأنبياء شهداء على أممهم وعدم الإذن للكافرين فى الكلام وعدم قبول معذرتهم. (18) الأمر بالعدل والإحسان وصلة الأرحام، والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، والأمر بالوفاء بالعهود والوعود وضرب الأمثال لذلك. (19) الأمر بالاستعاذة من الشيطان وبيان أن سلطانه على المشركين. (20) تكذيبهم للرسول إذا جاءهم بحكم لم يكن فى شريعة من قبله من الأنبياء وادعاؤهم بأن هذا القرآن إنما هو تعليم من عبد رومى ورد الله عليهم ذلك. (21) إنه لا ضير على من كفر بالله وقلبه مطمئن بالإيمان دون من شرح بالكفر صدرا. (22) دفاع كل نفس عن نفسها يوم القيامة وجزاء كل نفس بما عملت. (23) ذكر ما حرمه الله من المطاعم والنهى عن تقوّلهم على الله بغير علم. (24) ذكر ما حرمه على اليهود بسبب ظلمهم. (25) مدح إبراهيم عليه السلام ووصفه بصفات لم يوصف بها نبى غيره، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلّم باتباعه وسلوك طريقته فى العقاب والصبر على الأذى. وقد انتهى تصنيف. هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة عصر يوم الأربعاء الثلاثين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من هجرة سيد ولد عدنان.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 6 صلح أول هذه الأمة بالزهد واليقين يهلك آخرها بالبخل والأمل. 7 اتهامهم الرسول بالجنون. 9 الله نزل كتابه وتكفل بحفظه. 10 ما أرسل رسول إلا استهزأ به قومه. 12 أراد الشياطين أن يختطفوا شيئا من أخبار الغيب فأحرقتهم الشهب المشتعلة 14 الأدلة الكونية على وحدانية الله. 17 إرسال الرياح لواقح لم يعرف إلا حديثا. 22 حجاج إبليس عن امتناعه عن السجود، وفيه ضروب من الجهالة. 23 تهديده سبحانه لإبليس. 25 ما أعد للمتقين من جنات النعيم. 27 ضيف إبراهيم. 33 بشارة إبراهيم بإسحاق. 37 مقالة لوط لقومه. 38 أرسل الله على قوم لوط ثلاثة ألوان من العذاب. 39 ضروب الفراسة. 45 نهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن تمنى زينة الحياة الدنيا. 47 أمره صلى الله عليه وسلّم بالجهر بالدعوة. 48 المستهزءون بالرسول والقرآن.

الصفحة المبحث 55 دلالة المصنوع على الصانع. 56 فوائد الأنعام. 61 لله نعم فى البحر كما له نعم فى البر. 63 فوائد النجوم. 66 فى عبادة الأصنام ضروب من الحماقة. 69 ذكر شبهات من أنكروا النبوات. 71 من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبا. 77 المشركون ليسوا ببدع فى الأمم 80 الرسول مبلغ وليس بمسيطر. 88 قالوا هب الله أرسل رسولا فلن يكون بشرا. 90 آثار قدرته سبحانه. 93 العوام يفعلون اليوم ما تقشعر منه الأبدان. 96 قالت خزاعة: الملائكة بنات الله. 97 وأد البنات خوف الفقر والعار. 103 كيف يتكون اللبن فى الضرع. 104 معيشة النحل فى الخلايا. 106 ما أثبته الطب الحديث من الفوائد للعسل. 108 الأعمار والأرزاق. 113 ضرب الأمثال وفوائده. 121 منن الله على عباده. 125 الرسل شهداء على أممهم. 126 الأصنام تتبرأ من عبدتها يوم القيامة.

الصفحة المبحث 130 الهداية والضلال على مقدار استعداد النفوس للصلاح والغواية. 131 ليس من خلق حسن إلا أمر به الله. 132 الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. 133 الوفاء بالعهد. 134 ناقضة الغزل من بعد قوة. 138 المؤمن يحيا حياة طيبة تصحبها القناعة. 143 قالوا ما جاء به محمد هو من تعليم البشر. 145 من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. 147 أول من أظهر الإسلام. 149 من هاجر وتاب من بعد ما فتن 150 مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة. 153 ما حرم من المآكل. 158 ما مدح به إبراهيم من صفات الكمال. 160 أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم باتباع ملة إبراهيم. 162 شرع الدين إحدى طريقين فى العقاب. 164 مجمل ما حوته سورة النحل من الحكم والآداب.

الجزء الخامس عشر تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الاسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الخامس عشر

سورة الاسراء - سورة بنى إسرائيل

الجزء الخامس عشر سورة الاسراء- سورة بنى إسرائيل هى مكية كما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وقال مقاتل إلا ثمانى آيات من قوله: وإن كادوا ليفتنونك إلى آخر هنّ. وآيها عشر ومائة. أخرج أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم «عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزّمر» وأخرج البخاري وابن مردويه «عن ابن مسعود أنه قال فى هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادى» . ووجه مناسبتها لسورة النحل وذكرها بعدها أمور: (1) إنه سبحانه ذكر فى سورة النحل اختلاف اليهود فى السبت، وهنا ذكر شريعة أهل السبت التي شرعها لهم فى التوراة، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: «إن التوراة كلها فى خمس عشرة آية من سورة بنى إسرائيل» . (2) إنه لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم بالصبر ونهاه عن الحزن وضيق الصدر من مكرهم فى السورة السالفة- ذكر هنا شرفه وعلو منزلته عند ربه. (3) إنه ذكر فى السورة السالفة نعما كثيرة حتى سميت لأجلها سورة النعم، ذكر هنا أيضا نعما خاصة وعامة.

[سورة الإسراء (17) : آية 1]

(4) ذكر هناك أن النحل يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس- وهنا ذكر: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. (5) إنه فى تلك أمر بإيتاء ذى القربى، وكذلك هنا مع زيادة إيتاء المسكين وابن السبيل. [سورة الإسراء (17) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) تفسير المفردات سبحان الله: أي تنزيها له من كل ما لا يليق بجلاله وكماله، والإسراء كالسرى: السير بالليل خاصة، والمسجد الحرام: مسجد مكة، والمسجد الأقصى: بيت المقدس وهو أقصى وأبعد بالنظر إلى من بالحجاز. الإيضاح (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي تنزيها للذى أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلّم، فى جزء من الليل من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ورجع فى ليلته، وتبرئة له مما يقوله المشركون من أن له من خلقه شريكا وأن له صاحبة وولدا. (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي الذي جعلنا حوله البركة لسكانه فى معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم.

تحقيق ما قيل فى الإسراء والمعراج

(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي كى نرى عبدنا محمدا من عبرنا وأدلتنا، ما فيه البرهان الساطع والدليل القاطع، على وحدانيتنا وعظم قدرتنا. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة فى سرى محمد صلى الله عليه وسلّم من مكة إلى بيت المقدس، البصير بما يفعلون، لا تخفى عليه خافية من أمرهم، ولا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء، فهو محيط به علما، ومحصيه عددا، وهو لهم بالمرصاد، وسيجزيهم بما هم له أهل. تحقيق ما قيل فى الإسراء والمعراج اعلم أن هاهنا أمرين: (1) إسراء النبي صلى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وهذا هو الذي ذكر فى هذه السورة. (2) العروج به والصعود إلى السماء الدنيا ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام بعد وصوله إلى بيت المقدس، ولم يذكر ذلك هنا، وسيأتى بيانه فى سورة النجم ونفصل فيه القول تفصيلا إن شاء الله. آراء العلماء فى الاسراء وهاهنا أمور- مكان الإسراء- زمانه- هل كان الإسراء بالروح والجسد أو بالروح فحسب؟: (1) يرى جمع من العلماء أن الإسراء كان من المسجد الحرام- وقيل أسرى به من دار أم هانىء بنت أبى طالب. (2) أما زمانه فقد كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وعن أنس والحسن البصري أنه كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم.

(3) أكثر العلماء على أن الإسراء كان بالروح والبدن يقظة لا مناما، ولهم على ذلك أدلة: (ا) إن التسبيح والتعجب فى قوله: سبحان الذي أسرى بعبده- إنما يكون فى الأمور العظام- ولو كان ذلك مناما لم يكن فيه كبير شأن ولم يكن مستعظما. (ب) إنه لو كان مناما ما كانت قريش تبادر إلى تكذيبه، ولما ارتد جماعة ممن كانوا قد أسلموا، ولما قالت أم هانىء لا تحدّث الناس فيكذبوك، ولما فضّل أبو بكر بالتصديق، وجاء فى الحديث عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لقد رأيتنى فى الحجر وقريش تسألنى عن مسراى، فسألتنى عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها (لم أعرفها حق المعرفة) فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لى أنظر إليه، فما سألونى عن شىء إلا أنبأتهم به» الحديث. (ج) إن قوله (بعبده) يدل على مجموع الروح والجسد. (د) إن ابن عباس قال فى قوله «وما جعلنا الرّؤيا الّتى أريناك إلّا فتنة للنّاس» هى رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة أسرى به، ويؤيده أن العرب قد تستعمل الرؤيا فى المشاهدة الحسية ألا ترى إلى قول الراعي يصف صائدا: وكبّر للرؤيا وهشّ فواده ... وبشّر قلبا كان جمّا بلابله (هـ) إن الحركة بهذه السرعة ممكنة فى نفسها، فقد جاء فى القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة فى الأوقات القليلة، فقد قال تعالى فى صفة سير سليمان عليه السلام. «غدوّها شهر ورواحها شهر» وجاء فيه أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام فى مقدار لمح البصر كما قال تعالى: «قال الّذى عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك» وإذا جاز هذا لدى طائفة من الناس جاز لدى جميعهم.

ويرى آخرون أن الإسراء كان بالروح فحسب، ولهم على ذلك حجج: (ا) إن معاوية بن أبى سفيان كان إذا سئل عن سرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: كان رؤيا من الله صادقة- وقد ضعّف هذا بأن معاوية يومئذ كان من المشركين فلا يقبل خبره في مثل هذا. (ب) إن بعض آل أبى بكر قال: كانت عائشة تقول ما فقد جسد ورسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولكن أسرى بروحه، ونقدوا هذا بأن عائشة يومئذ كانت صغيرة ولم تكن زوجا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم. (ج) إن الحسن قال فى قوله (وما جعلنا الرؤيا) الآية إنها رؤيا منام رآها (والرؤيا تختص بالنوم) . قال أبو جعفر الطبري: الصواب من القول فى ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الله حمله على البراق حتى أتاه به وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات، ولا معنى لقول من قال أسرى بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن فى ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكرا عندهم ولا عند أحد من ذوى الفطرة الصحيحة من بنى آدم أن يرى الرائي منهم فى المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل- وبعد فإن الله إنما أخبر فى كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا بأنه أسرى بروح عبده، وليس جائزا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره- إلى أن الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الله أسرى به على دابة يقال لها البراق، ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد اه.

المامة فى المعراج

والخلاصة- إن الذي عليه المعوّل عند جمهرة المسلمين أنه أسرى به عليه السلام يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب، ودخله يصلى فى قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم ركب البراق وعاد إلى مكة بغلس. المامة فى المعراج يرى بعض العلماء أن عروج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى السموات السبع كان بجسده وروحه يقظة لا مناما لدليلين: (ا) آية الإسراء إذ صرح فيها بأنه أسرى بعبده، والعبد مجموع الروح والجسد، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بهما. (ب) الحديث المروي فى الكتب الصحاح كالبخارى ومسلم وغيرهما، وهو يدل على أن الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات العلى ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام. وأنكره آخرون وأثبتوا أن المعراج كان بالروح فحسب لوجوه: (1) إن الحركة البالغة فى السرعة إلى هذا الحد غير معقوله. (2) إنه لو صح ذلك لكان أعظم المعجزات وكان يجب أن يظهر حين اجتماع الناس حتى يستدلّ به على صدقه فى ادعاء النبوة، فأما أن يحصل ذلك فى وقت لا يراه فيه أحد، ولا يشاهده فيه مشاهد، فإن ذلك عبث لا يليق بحكمة الحكيم. (3) إن الصعود بالجسم إلى العالم العلوي فوق طبقات معينة مستحيل، لأن الهواء معدوم، فلا يمكن أن يعيش فيه الجسم الحي أو يتنفس فيه. (4) إن حديث المعراج اشتمل على أشياء فى غاية البعد: (ا) شق بطنه وتطهيره بماء زمزم، والذي يغسل بالماء هو النجاسات العينية، ولا تأثير لذلك فى تطهير القلب من العقائد الزائفة، والأخلاق المذمومة.

عظة وذكرى

(ب) ركوب البراق ولا حاجة له بذلك لأن العالم العلوي فى غنى عن ذلك. (ج) إنه تعالى أوجب خمسين صلاة، ولم يزل محمد صلى الله عليه وسلّم يتردد بين الله وموسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه السلام- وهذا غير جائز كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني لأنه يقتضى نسخ الحكم قبل العمل به، وهذا بداء محال على الله. (د) لم يقل أحد من المسلمين بأن الأنبياء أحياء بأجسادهم فى العالم العلوي، وإنما الحياة هناك حياة روحية لا جسمانية، والتخاطب والكلام معهم والصلاة بهم من الأمور الروحية لا الجسمية، إذ لا يعقل غير هذا- وبهذا يثبت المعراج الرّوحى لا الجسماني. ويمكن أن يجيب الأولون عن الاستبعادات العقلية بأن هذه معجزة، والله تعالى قادر على خرق سننه بسنة أخرى، ككل معجزات الأنبياء، من انقلاب العصا حية ثم عودتها فى مدة قصيرة عصا صغيرة كما كانت. ويبقى أمر الحديث، واشتماله على أمور غريبة، لا حاجة إليها فى تصديق النبوة، والمحاورة فى فرض الصلوات وانتقالها من خمسين إلى خمس مما يستدعى رد الحديث وعدم النظر إليه لاضطراب متنه كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني وإن صححه رواة الحديث باعتبار سنده. عظة وذكرى إنا لنقف قليلا لدى هذين الحادثين الجليلين لنستخلص منهما أمورا هى الغاية فى العظة والاعتبار: (1) إن هاتين الرحلتين الرحلة الأرضية (الإسراء) والرجلة السماوية (المعراج) حدثتا فى ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة، ليمحّص الله المؤمنين، ويبين منهم صادق الإيمان ومن في قلبه منهم مرض، فيكون الأول خليقا بصحبة رسوله الأعظم إلى دار

الهجرة والانضواء تحت لوائه، وجديرا بما يحتمله من أعباء عظام، وتكاليف شاقة، من حروب دينية، وقيام بدعوة عظيمة تستتبع همة قعساء، وإنشاء دولة تبتلع المعمور فى ذلك الحين شرقا وغربا. (2) إن الله أطلع رسوله على ما فى هذا الكون أرضيّه وسماويّه من العظمة والجلال، ليكون ذلك درسا عمليا لتعليم رسوله بالمشاهدة والنظر، فإن التعليم بالمشاهدة أجدى أنواع التعليم، فهو وإن لم يذهب إلى مدرسة، أو يجلس إلى معلم، أو يسح فى أرجاء المعمورة، أو يصعد بالآلات العلمية إلى السماء- فقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم التي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهما إلا بضرب من التخيل والتوهم، فأنّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حبس عنا الكثير من العلم ولم نؤت إلا قليله «وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا» . (3) إن ما يجدّ كل يوم من ضروب المخترعات، والتوسل بها إلى طى المسافات، بوسائل الطيارات، وقطع المحيطات فى قليل الساعات، من قارة إلى قارة، ومن قطر إلى قطر، ليجعلنا نعتقد أن ما جاء فى وصف هاتين الرحلتين من الأمور الميسورة التي ليست بالعزيزة الحصول أو الأمور المستحيلة. (4) إن روحانية الأنبياء تتغلب على كثافة أجسامهم، فما يخيّل إلينا من العوائق العملية، من صعوبة الوصول إلى الملأ الأعلى، لتخلخل الهواء، واستحالة الوصول إلى الطبقات العليا من السماء، فهو إنما يكون بالنظر إلى الأجرام والأجساد المشاهدة فى عالم الحس، وإن لروحانية الأنبياء والملائكة أحكاما لم يصل العقل البشرى إلى تحديدها وإبداء الرأى فيها، وإنها لفوق مستوى إدراكه، فأجدر بنا ألا نطيل البحث فيها ولا التعمق فى استقصاء آثارها. (5) إن ما جاء فى الحديث من أن الرسول صلى الله عليه وسلّم صلى إماما بالأنبياء فى عالم السموات ليرشد إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلّم جاء بشريعة ختمت الشرائع

[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 إلى 8]

السالفة كلها، وأئمتها ومن أوتوها ألقوا الزعامة إليه، وصاروا مؤتمين به. (6) إن فى هذا مغزى جديرا بطويل التأمل والتفكير، وهو أن جميع الأنبياء كانوا فى وفاق ووثام فى الملكوت الأعلى بالقرب من ربهم الذي أرسلهم- أفلا يجدر بمتبعيهم أن يقتفوا سنة رسلهم، وأن يجعلوا أمرهم بينهم سلما لا حربا، وأن يجعلوا الشريعة الأخيرة، والقانون الذي جاءت، به هو الشريعة التي يقضى بها بين الناس، كما هو المتبع فى القوانين الوضعية، فإن الذي يجب العمل به هو القانون الأخير، وهو يلغى جميع ما سبقه. [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 8] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الكتاب: هو التوراة، وكيلا: أي كفيلا تكلون إليه أموركم، شكورا أي كثير الشكر، وقضينا: أي أعلمنا بالوحى، لتعلن: أي لتستكبرنّ عن طاعة الله، والوعد أي الموعد به وهو العقاب، والبؤس والبأس والبأساء: الشدة والمكروه كما قال الراغب إلا أن البؤس كثر استعماله فى الفقر والحرب، والبأس والبأساء فى النكاية بالعدو، جاسوا خلال الديار: توسطوها وترددوا بينها، والكرة: الدّولة والغلبة وأصل الكر العطف والرجوع، والنفير والنافر: من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، والتتبير: الهلاك وهى كلمة نبطية كما روى عن سعيد بن جبير وكل شىء كسرته وفتته فقد تبرته، ما علوا: أي ما غلبوا واستولوا عليه من بلادكم، والحصير: السجن كما قال ابن عباس. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآية الأولى أنه أكرم عبده ورسوله بالإسراء من مكة إلى بيت المقدس- أردف ذلك ذكر ما أكرم به موسى قبله من إعطائه التوراة وجعلها هدى لبنى إسرائيل، ليخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والهدى، ثم قفّى على ذلك ببيان أنهم ما عملوا بهديها، بل أفسدوا فى الأرض فسلط الله عليهم البابليين أثخنوا فيهم وقصدوهم بالقتل والنهب والسلب. ولما تابوا أزال عنهم هذه المحنة، وأعاد لهم الدّولة، وأمدهم بالأموال والبنين، وجعلهم أكثر عددا مما كانوا، ثم عادوا إلى عصيانهم وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، فسلط الله عليهم من أدال دولتهم مرة أخرى، فأعمل فيهم السيف، وسلب ونهب، وجاس خلال ديارهم، فدخل بيت المقدس كرة أخرى بالقهر والغلبة والإذلال، وأهلك ما أهلك مما قد جمعوه وكنزوه، ثم أوعدهم على عصيانهم بالعقاب فى الآخرة بنار جهنم، وبئس السجن هى لمن عصى الله وخالف أوامر دينه.

الإيضاح

الإيضاح (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) أي وأعطينا موسى التوراة وجعلنا فيها هداية لبنى إسرائيل، وقلنا لهم: لا تتخذوا من دونى وليا ولا نصيرا تكلون إليه أموركم، وهذه مقالة أوحى الله بها إلى كل نبى أرسله، أمرهم جميعا أن يعبدوه وحده لا شريك له، وألا يعوّلوا فى أمر إلا عليه. وقد جاءت هذه الآية عقب ذكر آية الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلّم من قبل أن موسى أوتى التوراة بمسيره إلى الطور، كما أسرى بمحمد إلى بيت المقدس. ثم نبّه إلى عظيم شرف بنى إسرائيل، وإتمام نعمته عليهم، ليكون فى ذلك تهييج لهم، وبيان لعظيم المنة عليهم فقال: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أي يا سلالة ذلك النبي الكريم الذي شمله الله بجميل رعايته، وأنجاه من غرق الطوفان، بما ألهمه من عمل السفينة التي حمل فيها من كل زوجين اثنين، أنتم من حفدة أبنائه، فتشبهوا بأبيكم، واقتدوا به، فإنه كان عبدا شكورا أي مبالغا فى الشكر، بصرفه كل ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، فاللسان لذكر الله، والعقل للفكر فيما خلق الله، والبصر للتأمل فيما صنع الله، وهكذا بقية الحواس وأعضاء الجسم. أخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا كان إذا أمسى وأصبح قال سبحان (اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) . وأخرج ابن جرير والبيهقي والحاكم عن سلمان الفارسي قال: «كان نوح إذا لبس ثوبا أو أطعم طعاما حمد الله تعالى فسمّى عبدا شكورا» . وفى هذا إيماء إلى أن إنجاء من كان معه كان ببركة شكره، وفيه حث للذرية على الاقتداء به، وزجر لهم عن الشرك الذي هو أفظع مراتب الكفر.

ثم بين سبحانه أنه أنعم على بنى إسرائيل بالتوراة، وجعلها هدى لهم لكنهم لم يهتدوا بها فقال: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) أي وأوحينا إلى بنى إسرائيل فيما أنزلناه فى التوراة على موسى فأعلمهم به: لتعصنّ الله ولتخالفنّ أمره مرتين: أولا هما تغيير التوراة وقتل شعيا عليه السلام وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله. والثانية قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام ولتستكبرنّ عن طاعة الله، ولتبغنّ على الناس، ولتظلمنهم ظلما شديدا، تفرطون فيه، وتبلغون أقصى الغاية. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود أرسلنا عليكم لمؤاخذتكم بجنايتكم عبادا لنا أولى بطش شديد فى الحروب، هم سنحاريب ملك بابل وجنوده، أوغلوا فى البلاد، وترددوا بين الدور والمساكن، للقتل والسلب والنهب، وقتلوا علماءكم وكبراءكم، وأحرقوا التوراة وخرّبوا بيت المقدس، وسبوا منكم عددا كثيرا، وكان ذلك وعدا نافذا لا مردّ له. (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي ثم رجعت لكم الدّولة والغلبة على الذين فعلوا بكم ما فعلوا، حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلوّ، فغزوتم البابليين واستنقذتم الأسرى والأموال، ورجع الملك إليكم، وكثرت أموالكم بعد أن نهبت، وأولادكم بعد أن سبيت، وصرتم أكثر عددا، وأعظم قوة مما كنتم من قبل، وذلك بفضل طاعته تعالى والإخبات إليه ومن ثم قال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي إن أحسنتم فأطعتم الله ولزمتم أمره وتركتم نهيه- أحسنتم لأنفسكم، لأنكم تنفعونها بذلك فى دنياها وآخرتها أما فى الدنيا فإن الله يدفع عنكم أذى من أرادكم بسوء، ويرد كيده فى نحره، وينمّى

لكم أموالكم، ويزيدكم قوة إلى قوتكم، وأما فى الآخرة فإن الله يثيبكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ويرضى عنكم (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) . وإن عصيتم ربكم وفعلتم ما نهاكم عنه فإلى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطونه، فيسلط عليكم فى الدنيا أعداءكم، ويمكّن منكم من يبغى بكم السوء، ويلحق بكم فى الآخرة العذاب المهين. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) أي فإذا جاء وقت حلول العقاب على المرة الآخرة من مرّتى إفسادكم فى الأرض، بعثنا أعداءكم، ليجعلوا آثار المساءة والكآبة بادية فى وجوهكم (فإن الأعراض النفسية تظهر فى الوجوه فالفرح يظهر فيها النضارة والإشراق، والحزن والخوف يظهر فيها الغبرة والقترة) وليدخلوا المسجد قاهرين فاتحين مذلّين لكم كما دخلوه أول مرة، وليهلكوا ما ادخر تموه وخزنتموه تتبيرا شديدا، فلا يبقون منه شيئا. قال البيضاوي: سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف ويسمى بيردوس أو خردوس اه. والذي أثبته اليهود فى تواريخهم أن الذي أغار عليهم أولا وخرّب بيت المقدس هو بختنصّر وكان ذلك فى زمن إرميا عليه السلام، وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام، فحبسوه فى بئر وجرحوه- وأن الذي أغار عليهم ثانيا هو أسبيانوس قيصر الروم، وكان بين الإغارتين نحو من خمسمائة سنة. وعلى الجملة فمعرفة من بعث إليهم بأعيانهم وتواريخ البعوث مما لا يتعلق به غرض كبير، لأن المراد أنه كلما كثرت معاصيهم سلط الله عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى. وظاهر الآية يدل على اتحاد المبعوثين أولا وثانيا. (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد البعث الثاني إن تبتم وازدجرتم عن المعاصي، وقد حقق الله لهم وعده، فكثر عددهم وأعزهم بعد الذلة وجعل منهم الملوك والأنبياء.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 إلى 11]

(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي وإن عدتم لمعصيتى وخلاف أمرى وقتل رسلى- عدنا عليكم بالقتل والسّباء وإحلال الذل والصغار بكم، وقد عادوا فعاد الله عليهم بعقابه، فقد كذّبوا النبي صلى الله عليه وسلّم وهمّوا بقتله فسلطه الله عليهم، فقتل قريظة وأجلى بنى النضير وضرب الجزية على الباقين، فهم يعطونها عن يد وهم صاغرون، ولا ملك لهم ولا سلطان. (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) قال الحسن: الحصير هو الذي يبسط ويفرش والعرب تسمى البساط الصغير حصيرا، أي إنه تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا كما قال: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» وقال ابن عباس وغيره: جعلناها سجنا محيطا بهم حابسا لهم، لا رجاء لهم فى الخلاص منه. وخلاصة ذلك- إن لهم فى الدنيا ما تقدم وصفه من العذاب، وفى الآخرة ما يكون محيطا بهم من عذاب جهنم فلا يتخلصون منه أبدا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 11] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما أكرم به من اصطفاه من النبيين والمرسلين، فأكرم محمدا صلى الله عليه وسلّم بالإسراء، وأكرم موسى بالتوراة، وجعلها هدى لبنى إسرائيل، ثم بين أنهم لم يعملوا بها فحلّ بهم عذاب الدنيا والآخرة- قفّى على ذلك بالثناء على القرآن الكريم وبيان أنه يهدى للصراط المستقيم، ويبشر الصالحين بالأجر والثواب

الإيضاح

العظيم، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم، ثم أردف ذلك بذكر طبيعة الإنسان وأنه حلق عجولا، قد يدعو على نفسه بالشر أي بالموت والهلاك، والدمار واللعنة كما يدعو لنفسه بالخير. الإيضاح (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً. وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) مدح الله سبحانه كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلّم ووصفه بصفات ثلاث: (1) إنه يرشد من اهتدى به للسبيل التي هى أقوم السبل، وهى ذلك الدين القيم والملة الحنيفية السمحاء، التي أهم دعائمها الإخبات لله والإنابة إليه واعتقاد أنه واحد لا شريك له، وأنه صاحب الملك والملكوت، وهو الحي الذي لا يموت، وهو الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. (2) إنه يبشر المؤمنين بالله ورسوله الذين يعملون صالح الأعمال فيأتمرون بما أمر به، وينتهون عما نهاهم عنه، بالأجر العظيم يوم القيامة كفاء ما قدّموا لأنفسهم من عمل صالح. (3) إنه ينذر الذين لا يصدّقون بالمعاد، ولا يقرون بالثواب والعقاب فى الدنيا، فلا يتحاشون ركوب المعاصي- بالعذاب الأليم الموجع جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من. الكفر واجتراح الآثام، ويدخل فى هؤلاء أهل الكتاب، لأن بعضهم ينكر الثواب والعقاب الجسمانيين، وبعضهم يقول: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، وإطلاق البشارة على العقاب من قبيل التهكم كما فى قوله: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . وبعد أن بين حال الهادي وهو الكتاب الكريم بين حال المهدىّ وهو لإنسان فقال:

[سورة الإسراء (17) : آية 12]

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر حين الغضب فيقول: اللهم العنّى اللهم أهلكنى، كدعائه ربه بالخير أي بأن يهب له العافية ويرزقه السلامة، ولو استجيب له فى دعائه بذاك كما يستجاب له فى هذا لهلك، ولكن الله بفضله ومنته لا يستجيب دعاءه كما قال «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ» وفى الحديث «لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها» . وروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئنّ بالليل، فقالت له مالك تئن فشكا ألم القدّ (سير من جلد غير مدبوغ تربط به يدا الأسير ورقبته) فأرخت له من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلّم دعا به فأعلم بشأنه، فقال عليه الصلاة والسلام «اللهم اقطع يدها» فرفعت سودة يدها يتوقع أن يقطع الله يدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «إنى سألت الله أن يجعل دعائى على من لا يستحق عذابا من أهلى رحمة، لأنى بشر أغضب كما تغضبون، فلتردّ سودة يدها» . وقد يكون المعنى فى الآية- إن الإنسان قد يبالغ فى الدعاء طلبا لشىء يعتقد أن فيه خيره، مع أن ذلك قد يكون سبب بلائه وشره لجهله بحاله، وإنما يقدم على ذلك العمل لكونه عجولا مغترّا بظواهر الأمور، غير متفحص لحقائقها وأسرارها، ومن ثم قال: (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضرره. وفى الآية إيماء إلى أن القرآن يدعو للتى هى أقوم، ويأبون إلا التي هى ألوم. [سورة الإسراء (17) : آية 12] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر الهداية والإرشاد بالقرآن الكريم- قفّى على ذلك بالاستدلال بالآيات والدلائل التي فى الآفاق، وهى برهان نير لا ريب فيه، وطريق بيّن لا يضلّ من ينتحيه. الإيضاح (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي وجعلنا الليل والنهار دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا، أما فى الدين فلأن كلا منهما مضادّ للآخر ومخالف له، مع تعاقبهما على الدوام، وهذا من أقوى الأدلة على أنه لا بد لهما من فاعل مدبر يقدّرهما بمقادير مخصوصة، وأما فى الدنيا فلأن مصالحه لا تتم إلا بهما، فلولا الليل لما حصل السكون والراحة، ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف فى وجوه المعاش. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي فمحونا آية هى الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلمة لا يستبين فيه شىء، كما لا يستبين ما فى اللوح الممحوّ، روى ذلك عن مجاهد. (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي وجعلنا الآية التي هى النهار مضيئة ومبصرة أي يبصر أهلها فيها. (لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) أي فعلنا ذلك، لتطلبوا لأنفسكم فيه رزقا من ربكم، إذ لا يتسنى ذلك فى الليل، وفى التعبير عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء، مع ذكر صفة الربوبية الدالة على الوصول إلى ذلك شيئا فشيئا- دلالة على أنه ليس للمرء فى تحصيل الرزق سوى الطلب بالأسباب العادية، وفى الخبر «يطلبك رزقك، كما يطلبك أجلك» وقيل: ولقد علمت وما الإشراف من خلقى ... أن الذي هو رزقى سوف يأتينى أسعى إليه فيعيينى تطلّبه ... ولو قعدت أتانى لا يعنّينى

[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 إلى 21]

(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي ولتعلموا بمحو آية الليل، وجعل آية النهار مبصرة، عدد السنين التي تتوقف عليها مصالحكم الدينية والدنيوية، ولتعلموا الحساب أي حساب الأشهر والليالى والأيام وغير ذلك مما نيط به شىء من تلك المصالح، إذ لو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف شىء من هذا كما قال تعالى «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» وقال: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ» ولا شك أن فى ذكر منافعهما، وبيان ما فيهما من الدلالة على وجود الخالق تفصيلا لتلك الفوائد، لا جرم قال: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا) أي وكل شىء لكم إليه حاجة فى مصالح دينكم ودنياكم قد فصلناه تفصيلا بينا، ونحو الآية قوله «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» وقوله «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 21] وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)

تفسير المفردات

تفسير المفردات طائره: أي عمله، سمى به إما لأنه طار إليه من عشّ الغيب، وإما لأنه سبب الخير والشر كما قالوا: طائر الله لا طائرك، أي قدر الله الغالب الذي يأتى بالخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن إذ جرت عادتهم بأن يتفاءلوا بالطير ويسمونه زجرا، فإن مرّبهم من اليسار إلى اليمين تيمنوا به وسمّوه سانحا، وإن مرّ من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه وسموه بارحا، كتابا: هو صحيفة عمله، منشورا: أي غير مطوى، حسيبا: أي حاسبا أي عادّا له يعد عليه أعماله، والوزر: الإثم والذنب، يقال منه وزر يزر فهو وازر وهى وازرة، أي نفس وازرة، والمترفون: هم المنعّمون من الملوك والعظماء، أمرنا مترفيها، أي أمرناهم بالطاعة، ففسقوا: أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا، فحق عليها القول: أي وجب لها العذاب، والتدمير: الإهلاك مع طمس الأثر، والقرن: القوم يجمعهم زمان واحد، وقد حدد بأر بعين سنة، وبثمانين، وبمائة، والعاجلة: الدار

المعنى الجملي

الدنيا، يصلاها: أي يقاسى حرها، مدحورا: أي مطرودا مبعدا من رحمة الله، محظورا: أي ممنوعا عمن يريده. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فيما سلف حال كتابه الذي يحوى النافع والضار من الأعمال، مما يكون به سعادة الإنسان وشقاؤه فى دينه ودنياه- قفى على ذلك بذكر حال كتاب المرء وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله إلا أحصاها، وأن حسنها وقبحها تابع لأخذه بما فى الكتاب الأول أو تركه لذلك، فمن أخذ به اهتدى ومنفعة ذلك عائدة إليه، ومن أعرض عنه ضل وغوى، ووبال ذلك راجع عليه ثم أكد عنايته بعباده، وأنه لا يعاقب أحدا منهم إلا إذا أرسل الرسل يبلغون رسالات ربهم رحمة بهم ورأفة، وأعقب ذلك بأن عذابه إنما يكون بكسب المرء واختياره، وأن هذا واقع بتقدير الله وعلمه، وإذا وقعت المعصية حلت العقوبة بعذاب الاستئصال، كما فعل بكثير من الأمم التي من بعد نوح كعاد وثمود، والله عليم بأفعالهم وبما يستحقون، ثم قسم العباد قسمين قسم يحب الحياة الدنيا ويعمل لها، وعاقبته دار البوار وبئس القرار، وقسم يعمل للآخرة ويسعى لها سعيها وهو مؤمن، وأولئك سعيهم مشكور مقبول عند ربهم، ولهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وهؤلاء وهؤلاء يمدهم ربهم بعطائه، إذ ليس عطاؤه بممنوع عن أحد، ولكن قد فضّل بعضهم على بعض فى أرزاق الدنيا، ومراتب التفاوت فى الآخرة أكثر من درجات التفاوت فى الدنيا وأبعد مدى. الإيضاح (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي وألزمنا كل امرئ عمله الذي يصدر منه باختياره بحسب ما قدر له من خير أو شر،

لا ينفك عنه بحال والعرب تضرب المثل للشىء الذي يلزم بالشيء الذي يوضع فى العنق، فيقولون جعلت هذا فى عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به، وخصوا العنق لأنه يظهر عليه ما يزين المرء كالقلائد والأطواق، أو ما يشينه كالأغلال والأوهاق (الحبال تجرّ بها الدواب) . وخلاصة هذا- إن كل إنسان منكم معشر بنى آدم ألزمناه نحسه وسعده، وشقاءه وسعادته، بما سبق فى علمنا أنه صائر إليه، ونحن نخرج له حين الحساب كتابا يراه منشورا وفيه أعماله التي كسبها فى الدنيا، وقد أحصى عليه ربه فيه كل ما أسلف فى تلك الحياة. أخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: قال الله يا بن آدم بسطنا لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك فجعلت فى عنقك معك فى قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، قد عدل والله من جعلك حسيب نفسك. (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي ونخرج له يوم القيامة حين البعث والحساب كتابا يلقاه منشورا، فيقال له اقرأ كتاب عملك الذي عملته فى الدنيا وكان الملكان يكتبانه ويحصيانه عليك، وحسبك اليوم نفسك عليك حاسبا تحسب عليك أعمالك فتحصيها، لا نبتغى عليك شاهدا غيرها، ولا نطلب محصيا سواها. وبعد أن ذكر أن القرآن هاد للتى هى أقوم وأن الأعمال لازمة لأصحابها بين أن منفعة العمل ومضرته راجعة إلى عامله فقال: (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي من استقام على طريق الحق واتبعه، واتبع الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلّم، فنفسه قد نفع، ومن حاد عن قصد السبيل وسار على غير هدى وكفر بالله ورسوله وبما جاء به من

عند ربه من الحق فلا يضرنّ إلا نفسه، لأنه جعلها مستحقة لغضب الله وأليم عذابه ثم زاد الجملة الثانية توكيدا بقوله: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تأثم نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس. وفى هذا قطع لأطماعهم الفارغة، إذ كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فى الوليد ابن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعلىّ أوزاركم. ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله: «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» فإن الدعاة إلى الضّلال عليهم إثم ضلالتهم فى أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم من أضلوا من غير أن ينقص أوزار أولئك ولا يرفع عنهم منها شيئا، وهذا عدل من الله ورحمة منه بعباده. ثم ذكر عنايته ورحمته بهم فقال: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) أي وما كنا مهلكى قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع أعذارهم، وبمعنى الآية قوله تعالى «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» وقوله: «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» إلى نحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.

وخلاصة ذلك- إن سنتنا المبنية على الحكم العالية ألا نعذب أحدا أي نوع من العذاب الدنيوي أو الأخروى على فعل شىء أو تركه إلا إذا أرسلنا رسولا يهدى إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع وتبلغه دعوته. قال الإمام الغزالي: الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم أصناف ثلاثة: (ا) من لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا، وأولئك مقطوع لهم بالجنة. (ب) من بلغتهم دعوته وظهور المعجزات على يديه، وما كان عليه صلى الله عليه وسلّم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة، ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهر أنينا، وأولئك مقطوع لهم بالنار. (ح) من بلغتهم دعوته صلى الله عليه وسلّم وسمعوا به ولكن كما يسمع أحدنا بالدجالين وحاشا قدره الشريف عن ذلك، وهؤلاء أرجو لهم الجنة إذا لم يسمعوا ما يرغبهم فى الإيمان به اه. يريد الغزالي بهذا أنهم سمعوا عنه أخبارا مكذوبة، وعن دينه أخبارا لا تنطبق على حقيقته، كما يفعل رجال الكنائس فى تشويه أخبار الرسول بأنه مزواج مطلاق، وأنه كان متهالكا فى حب النساء، وأن دينه دين وثنية، لأنه كان يسجد للكعبة، وأنه خالف جميع الأنبياء واتجه إليها ولم يتجه لبيت المقدس، وأن القرآن كثير المتناقضات كثير التكرار للقصص وفيه كذب، إلى نحو أولئك مما يقولون وهم لا يقولون إلا ترّهات وأباطيل. ثم بين كيف يقع العذاب بعد بعثة الرسل فقال: (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك أي قرية بعذاب الاستئصال لما ظهر منها من المعاصي ودنست به أنفسها من الآثام- لم نعاجلها بالعقوبة، بل نأمر مترفيها بالطاعة فإذا فسقوا عن أمرنا وتمردوا حق عليهم العذاب جزاء وفاقا لاجتراحهم

السيئات وارتكابهم كبائر الإثم والفواحش، فدمرنا تلك القرية تدميرا ولم نبق منها ديّارا ولا نافخ نار. وخص المترفين بالذكر لما جرت به العادة أن من سواهم يكون تبعا لهم، وأن العامة والدهماء يقلدونهم فيما يفعلون، ولأنهم أسرع إلى الفجور وأقدر على الوصول إلى سبله. وقد يكون المراد من الأمر- أن الله يفيض عليهم نعمه التي تبطرهم وتجعلهم يقعون فى المعاصي، فكأنه تعالى يأمرهم بها، إذ مهد لهم الأسباب الموصلة إليها. وحكى بعض أئمة اللغة أن المراد (بأمرنا) أكثرنا واستدل بما أخرجه أحمد والطبراني من قوله صلى الله عليه وسلّم «خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة» أي مهرة كثر نسلها وطريق مصطفة من النخل مأبورة (كثر فيها اللقاح) لتثمر الثمر الجنى. ثم ذكر أن كثيرا من الأمم قد حق عليها العذاب بذنوبها فقال: (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) أي وقد أهلكنا أمما كثيرة قبلكم من بعد نوح حتى زمانكم حين جحدوا آيات الله وكذبوا رسله وكانوا على مثل ما أنتم عليه من الشرور والآثام، ولستم بأكرم على الله منهم، فاحذروا أن يحل بكم من العقاب مثل ما حل بهم وينزل بكم سخطه مثل ما نزل بهم. وفى هذا من الوعيد لمكذبى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مشركى قريش وتهديدهم بشديد العقاب إن لم ينتهوا عما هم عليه من تكذيب رسوله- ما لا يخفى. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي وحسبك أيها الرسول بالله خبيرا بذنوب خلقه، فلا يخفى عليه شىء من أفعال مشركى قومك ولا أفعال غيرهم، بل هو عليم بجميع أعمالهم لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقون. ثم قسم سبحانه عباده قسمين محب للعاجلة ومحب لأعمال الآخرة: (1) (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ

يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، ولها يعمل ويسعى وإياها يبتغى، لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا من ربه على ما يعمل، يعجل الله له فى الدنيا ما يشاء من بسط الرزق وسعة العيش ثم يصليه حين مقدمه عليه فى الآخرة جهنم مذموما على قلة شكره وسوء صنيعه فيما سلف، مبعدا من رحمته مطرودا من إنعامه. وقد اشتمل هذا العقاب على أمور ثلاثة: (ا) الدوام والخلود وإلى ذلك الإشارة بقوله: ثم جعلنا له جهنم يصلاها أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه. (ب) الإهانة والاحتقار وإلى ذلك أشار بقوله مذموما. (ح) البعد والطرد من رحمة الله دائما فلا يتخلل ذلك راحة ولا يعقبه خلاص وإلى هذا أشار بقوله: مدحورا، وفى قوله: لمن نريد، إشارة إلى أن الفوز بالدنيا لا يحصل لكل من يريدها، فكثير من الكفار الضلال يعرضون عن الدين فى طلب الدنيا ثم هم يبقون محرومين من الدين والدنيا. وفى هذا تهديد وزجر عظيم لهؤلاء الكفار، فإنهم قد يتركون الدين لطلب الدنيا، وربما فاتتهم أيضا. (2) (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي ومن أراد الآخرة ولها عمل وإياها طلب، فأطاع الله وطلب ما يرضيه، وهو مصدق بثوابه وعظيم جزائه على سعيه لها- شكر الله له جزيل سعيه وآتاه حسن المثوبة كفاء ما قدم من صالح العمل، وتجاوز عن سيئاته، وأدخله فراديس جناته. وقد اشترط لهذا الجزاء أمورا ثلاثة: (ا) أن يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، فإن لم تحصل هذه النية لم ينتفع بذلك العمل كما قال: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» وجاء فى الحديث:

«إنما الأعمال بالنيات» - إلى أن استنارة القلب بمعرفة الله ومحبته لا تحصل إلا إذا نوى العامل بعمله طاعة ربه والإخبات والخشوع له. (ب) أن يعمل العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة، ولا يكون ذلك إلا إذا كان من القرب والطاعات، لا من الأعمال الباطلة كعبادة الأوثان والكواكب والملائكة. (ح) أن يكون ذلك وهو مؤمن، فإن أعمال البر لا توجب الثواب إلا إذا وجد الإيمان. ثم بين سبحانه أن عطاءه ورزقه الدنيوي لا يحظر على كل من الفريقين فقال: (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي إن كلا من الفريقين مريدى العاجلة ومريدى الآجلة الساعي لها سعيها وهو مؤمن يمده ربه بعطائه ويوسع عليه الرزق ويكثر الأولاد وغيرهما من زينة الدنيا، فإن عطاءه ليس بالممنوع من أحد من خلقه مؤمنا كان أو كافرا، فكلهم مخلوق فى دار العمل، فوجب إزالة العذر ورفع العلة وإيصال متاع الدنيا إليهم على القدر الذي يقتضيه صلاحهم، ثم تختلف أحوال الفريقين، ففريق العاجلة إلى جهنم وبئس المهاد، وفريق الآجلة إلى جنات تجرى من تحتها الأنهار، ونعم عقبى الدار. ثم وضح مامر من الإمداد وعدم محظورية العطاء على أحد فقال: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي انظر إلى عطائنا للفريقين فى الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض، فأوصلنا رزقنا إلى مؤمن وقبضناه عن آخر، وأوصلناه إلى كافر ومنعناه من كافر آخر، ولهذا حكم وأسباب بيّنها سبحانه بقوله: «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» وقوله «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 22 إلى 39]

(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أي ولتفاوتهم فى الدار الآخرة وتفاضلهم فيها أكبر من تفاضلهم فى الدار الدنيا، فإن منهم من يكون فى الدركات السفلى فى جهنم مصفّدا بالسلاسل والأغلال، ومنهم من يكون فى الدرجات العليا فى نعيم وحبور، وكل فريق يتفاوتون فيما بينهم ففى الصحيحين «إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر فى السماء» وفيهما: «إن الله تعالى أعدّ لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . وروى ابن عبد البر عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضى الله عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي (وكان أحد الأشراف فى الجاهلية) وأبو سفيان ابن حرب ومشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم، فقال أبو سفيان ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم: أيها القوم إنى والله قد أرى الذي فى وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، إنهم دعوا ودعينا (يعنى إلى الإسلام) فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت فى الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم فى الجنة أكبر. وعن بعضهم أنه قال: أيها المباهي بالرفع منك فى مجالس الدنيا، أما ترغب فى المباهاة بالرفع فى مجالس الآخرة، وهى أكبر وأفضل؟ [سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 39] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فتقعد: أي فتصير، مذموما: أي ممن يستحق الذم من الملائكة والمؤمنين، مخذولا: أي من الله لأنك أشركت معه مالا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وقضى: أي حكم وأمر، وأفّ: اسم صوت ينبىء عن التضجر والتألم ويقولون لا تقل لفلان أف أي لا تتعرّض له بنوع من الأذى والمكروه، والنهر: الزجر بغلظة، كريما: أي جميلا لا شراسة فيه، قال الراغب: كل شىء يشرف فى جنسه يقال إنه كريم. وخفض الجناح يراد به التواضع والتذلل، من الرحمة: أي من فرط رحمتك عليهما، والأوّاب: الذي ديدنه الرجوع إلى الله والالتجاء إليه حين الشدة، والتبذير إنفاق: المال فى غير موضعه، وإخوان الشياطين: أي قرناؤهم، والابتغاء: الطلب، والرحمة الرزق، والميسور: السهل اللين، والمغلولة: المقيدة بالغلّ وهو القيد يوضع فى اليدين والعنق، وتبسطها: أي تتوسع فى الإنفاق، والمحسور: المنقطع عن السير إعياء وكلالا، ويقدر: أي يقتر، والإملاق: الفقر قال: وإنى على الإملاق ياقوم ماجد ... أعدّ لأضيافى الشّواء المضهّبا والخطء: كالإثم لفظا ومعنى، والفاحشة: الفعلة الظاهرة القبح، والسلطان: التسلط والاستيلاء، فلا يسرف: أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه، التي هى أحسن: أي الطريق التي هى أحسن، والعهد: ما تعاهدون عليه غيركم من العباد لتوثيقه وتوكيده، والقسطاس: (بكسر القاف وضمها) الميزان، والمستقيم: العدل، والتأويل: ما يئول إليه الشيء وهو عاقبته، ولا تقف من قفوت أثر فلان: أي اتبعته، والمرح: الفخر والكبر، لن تخرق الأرض: أي لن تجعل فيها طرقا بدوسك وشدة وطأتك، والحكمة: معرفة الحق سبحانه ومعرفة الخير للعمل به، والمدحور: المبعد من رحمة الله

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر جلت قدرته أن الناس فريقان فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والوبال، وفريق يريد بعمله طاعة الله، وهم أهل مرضاته، والمستحقون لثوابه، وقد اشترط لنيلهم ذلك أن يعملوا للآخرة وأن يكونوا مؤمنين- لا جرم فصل الله فى هذه الآية حقيقة الإيمان والأعمال التي إذا عملها المؤمن كان ساعيا للآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم، وحسن حظهم، ثم أعقب ذلك بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وبعدئذ أتبع ذلك بالأمر ببر الوالدين من قبل أنهما السبب الظاهر فى وجوده، وبالأمر بإيتاء ذوى القربى حقوقهم، ثم بالأمر بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل، لأن فى إصلاحهما إصلاح المجتمع، والمسلمون كلهم إخوة، وهم يد على من سواهم، ثم قفى على ذلك بالنهى عن التبذير، لما فيه من إصلاح حال المرء وعدم ارتباكه فى معيشته، وصلاحه إصلاح للأمة جمعاء، فما الأمم إلا مجموعة الأفراد، ففى صلاحهم صلاحها، ثم علمنا سبيل إنفاق المال على الوجه الذي يرضاه الدين، ويرشد إلى حسنه العقل، وبعدئذ نهانا عن قتل الأولاد خشية الفقر، وبين أن الكفيل بأرزاقهم وأرزاقكم هو ربكم، فلا وجه للخوف من ذلك، ثم تلا هذا بالنهى عن الزنا، لما فيه من اختلاط الأنساب، وفقدان النسل أو قلته، ووقوع الشغب والقتال بين الناس دفاعا عن العرض ثم بالنهى عن القتل لهذا السبب عينه، ثم بالنهى عن إتلاف مال اليتيم، ثم بالأمر بالوفاء بالعهد وهو العقد الذي يعمل لتوكيد الأمر وتثبيته، ثم بإيفاء الكيل والميزان، لما فى حسن التعامل بين الناس من توافر المودة والمحبة بينهم، وهذا ما يرمى إليه الدين، لإصلاح شؤون الفرد والمجتمع، ثم بالنهى عن تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، فلا تتّبع ما كان يعمله الآباء اقتداء بهم من عبادة الأصنام تقليدا لهم، ولا تشهد على شىء لم تره، ولا تكذب، فتقول فى شىء لم تسمعه إنك قد سمعته،

الإيضاح

ولا فى شىء لم تره، إنك قد رأيته، ثم بالنهى عن مشية الخيلاء والمرح لما فيهما من الصّلف الذي لا يرضاه الله ولا الناس، ثم ختم ذلك ببيان أن تلك الأوامر والنواهي هى من وحي الله وتبليغه، لا من عند نفسه، أمر بها ونهى عنها، لأنها أسس سعادة الدارين، وعليها تبنى العلاقات بين الأفراد والأمم على نظم صحيحة لا تكون عرضة للاضطراب وفقدان الثقة فى معاملاتهم. الإيضاح (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) أي لا تجعل أيها الإنسان مع الله شريكا فى ألوهيته وعبادته، ولكن أخلص له العبادة وأفرد له الألوهة، فإنه لا ربّ غيره، ولا معبود سواه، وإنك إن تجعل معه إلها غيره، وتعبد معه سواه، تصر ملوما على ما ضيعت من شكر الذي أنعم عليك بنعمه، وشكر من لم يولك نعمة، مخذولا لا ينصرك ربك، بل يكلك إلى من عبدته معه، ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. وبعد أن ذكر الركن الأعظم فى الإيمان أتبعه بذكر شعائره وهى الأمور الآتية فقال: (1) (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي وأمر ربك ألا تعبدوا غيره، إذ العبادة نهاية التعظيم، ولا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده، ولا منعم إلا هو. (2) (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأن تحسنوا إلى الوالدين وتبرّوهما، ليكون الله معكم «إنّ الله مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون» . وقد أمر سبحانه بالإحسان إليهما للأسباب الآتية: (ا) شفقتهما على الولد، وبذل الجهد فى إيصال الخير إليه، وإبعاد الضر عنه، جهد المستطاع، فوجب مقابلة ذلك بالإحسان إليهما والشكر لهما.

(ب) إن الولد قطعة من الوالدين كما جاء فى الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «فاطمة بضعة منى» . (ج) إنهما أنعما عليه، وهو فى غاية الضعف، ونهاية العجز، فوجب أن يقابل ذلك بالشكر حين كبرهما، كما قال الشاعر العربي يعدّد نعمه على ولده وقد عقّه فى كبره: غذوتك مولودا ومنتك يافعا ... تعلّ بما أجنى عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرا أتململ كأنى أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دونى فعينىّ تهمل تخاف الردى نفسى عليك وإنها ... لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائى غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضّل فليتك إذ لم ترع حق أبوّتى ... فعلت كما الجار المجاور يفعل والخلاصة- إنه لا نعمة تصل إلى الإنسان أكثر من نعمة الخالق عليه، ثم نعمة الوالدين، ومن ثم بدأ بشكر نعمته أوّلا بقوله: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» ، ثم أردفها بشكر نعمة الوالدين بقوله: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» . ثم فصل ما يجب من الإحسان إليهما بقوله: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي إذا وصل الوالدان عندك أو أحدهما إلى حال الضعف والعجز وصارا عندك فى آخر العمر كما كنت عندهما فى أوله- وجب عليك أن تشفق عليهما، وتحنو لهما. تعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، ويتجلى ذلك بأن تتبع معهما الأمور الخمسة الآتية:

(ا) ألا تتأفف من شىء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما، واحتسب الأجر عليه، كما صبرا عليك فى صغرك. (ب) ألا تنغّص عليهما بكلام تزجرهما به، وفى هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما، وفيما قبله منع من إظهار الضجر القليل أو الكثير. (ج) أن تقول لهما قولا حسنا، وكلاما طيبا مقرونا بالاحترام والتعظيم، مما يقتضيه حسن الأدب، وترشد إليه المروءة، كأن تقول يا أبتاه ويا أماه، ولا تدعوهما بأسمائهما، ولا ترفع صوتك أمامهما، ولا تحدّق فيهما بنظرك. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبى الهدّاج قال: قلت لسعيد بن المسيّب: كل ما ذكر الله تعالى فى القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله «وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» ما هذا القول الكريم، فقال ابن المسيّب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ (د) أن تتواضع لهما وتتذلل، وتطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن معصية لله، رحمة منك بهما وشفقة عليهما، إذ هما قد احتاجا إلى من كان أفقر الخلق إليهما، وذلك منتهى ما يكون من الضراعة والمسكنة، ولله در الخفاجي إذ يقول: يا من أتى يسأل عن فاقتى ... ما حال من يسأل من سائله ماذلة السلطان إلا إذا ... أصبح محتاجا إلى عامله وقوله: من الرحمة، أي أن يكون ذلك التذلل رحمة بهما، لا من أجل امتثال الأمر وخوف العار فقط، فتذكّر نفسك بما تقدّم لهما من الإحسان إليك، وبما أمرت به من الشفقة والحدب عليهما. وقد مثل حاله معهما بحال الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه لتربيته، فإنه يخفض له جناحه، فكأنه قال للولد: اكفل والديك، بأن تضمهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك حال صغرك.

(هـ) أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الباقية، كفاء رحمتهما لك فى صغرك وجميل شفقتهما عليك. وعلى الجملة فقد بالغ سبحانه فى التوصية بهما من وجوه كثيرة، وكفاهما أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما فى سلك القضاء بهما معا. وقد ورد فى بر الوالدين أحاديث كثيرة منها: (1) إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستأذنه فى الجهاد معه فقال أحيّ والدك؟ قال نعم، قال ففيهما فجاهد» . (2) مارواه مسلم وغيره: «لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه ويعتقه» (3) ما روى عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أىّ العمل أحب إلى الله ورسوله؟ قال الصلاة على وقتها، قلت ثم أىّ؟ قال بر الوالدين قلت ثم أىّ؟ قال الجهاد فى سبيل الله» . وبر الأم مقدم على بر الأب، لما روى الشيخان «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل من أحق الناس بحسن صحابتى؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أبوك» . ولا يختص برهما بحال الحياة، بل يكون بعد الموت أيضا، فقد روى ابن ماجه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل: هل بقي من بر أبويّ شىء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» . والخلاصة- إنه سبحانه بالغ فى التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ منها جلود أهل العقوق، وتقف عندها شعورهم، من حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثم شفعهما بالإحسان إليهما ثم ضيّق الأمر فى مراعاتهما حتى لم يرخّص فى أدنى كلمة تنفلت من المتضجر، مع موجبات الضجر، ومع أحوال لا يكاد الإنسان يصبر معها، وأن

يذلّ ويخضع لهما، ثم ختمها بالدعاء لهما والترحم عليهما، وهذه الخمسة الأشياء جعلها سبحانه من رحمته بهما، مقرونة بوحدانيته، وعدم الشرك به. ولما كان بر الوالدين عسيرا حذّر من التهاون فيه فقال: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) أي ربكم أيها الناس أعلم منكم بما فى نفوسكم، من تعظيمكم أمر آبائكم وأمهاتكم والبر بهم، ومن الاستخفاف بحقوقهم والعقوق بهم، وهو مجازيكم على حسن ذلك وسيئه، فاحذروا أن تضمروا لهم سوءا، وتعقدوا لهم فى نفوسكم عقوقا، فإن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم، وأطعتم ربكم فيما أمركم من البر بهم، والقيام بحقوقهم عليكم، بعد هفوة كانت منكم أو زلة فى واجب لهم عليكم، فإنه تعالى يغفر لكم ما فرط منكم، فهو غفار لمن يتوب من ذنبه، ويرجع من معصيته إلى طاعته، ويعمل بما يحبه ويرضاه. وفى هذا وعد لمن أضمر البر بهم، ووعيد لمن تهاون بحقوقهم، وعمل على عقوقهم. وبعد أن أمر بالبر بالوالدين أمر بالبر بأصناف ثلاثة أخرى فقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي وأعط أيها المكلّف القريب منك حقه، من صلة الرحم والمودة، والزيارة وحسن العشرة، وإن كان محتاجا إلى النفقة فأنفق عليه ما يسد حاجته. والمسكين ذا الحاجة. وابن السبيل وهو المسافر لغرض دينى، فيجب إعانته ومساعدته على سفره حتى يصل إلى مقصده. ولما رغب سبحانه فى البذل بيّن الطريق التي تتبع فى ذلك فقال: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) أي ولا تفرّق أيها الإنسان ما أعطاك الله من مال فى معصيته تفريقا، بإعطائه من لا يستحقه. ونحو الآية قوله «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» . قال عثمان بن الأسود: كنت أطوف المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه

إلى أبى قبيس (جبل بمكة) وقال لو أن رجلا أنفق مثل هذا فى طاعة الله لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهما واحدا فى معصية الله كان من المسرفين. وأنفق بعضهم نفقة فى خير وأكثر فقيل له: لا خير فى السرف، فقال: لا سرف فى الخير. وعن عبد الله بن عمر قال: «مر رسول الله بسعد وهو يتوضأ، فقال ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أو فى الوضوء سرف؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار» . وروى أحمد عن أنس بن مالك أنه قال: أتى رجل من تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله إنى ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرنى كيف أنفق، وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «تخرج الزكاة من مالك إن كان، فإنها طهرة تطهّرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين» فقال: يا رسول الله أقلل لى، قال «فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا» فقال حسبى يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم إذا أديتها إلى رسولى فقد برئت منها ولك أجرها، وإثمها على من بدّ لها» . وعن على كرم الله وجهه قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك فى غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان. ثم نبه سبحانه إلى قبح التبذير بإضافته إلى الشياطين فقال: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) تقول العرب لكل من لازم سنة قوم واتبع أثرهم هو أخوهم، أي إن المفرّقين أموالهم فى معاصى الله المنفقيها فى غير طاعته قرناء الشياطين فى الدنيا والآخرة كما قال «ومن يعش عن ذكر الرّحمن نقيّض له شيطانا فهو له قرين» وقال: «احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم» أي قرناءهم من الشياطين. (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي وكان الشيطان لنعمة ربه التي أنعم بها عليه

جحودا لا يشكره عليها، بل يكفرها بترك طاعته، ور كوبه معصيته، وهكذا إخوانه المبذرون أموالهم فى معاصى الله، لا يشكرون الله على نعمه عليهم، بل يخالفون أمره، ولا يستنون سنته، ويتركون الشكران عليها ويتلقونها بالكفران. قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا، فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفورا لنعمة الله، لأنه موافق للشيطان فى الصفة والفعل اه. وفى ذكر وصف الشيطان بالكفران دون ذكر سائر أوصافه، بيان لأن المبذر لما صرف نعم الله عليه فى غير موضعها فقد كفر بها ولم يشكرها، كما أن الشيطان كفر بهذه النعم. وقد كان من عادة العرب أن يجمعوا أموالهم من السلب والنهب والغارة ثم ينفقونها فى التفاخر وحب الشهرة. وكان المشركون من قريش ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه، فجاءت الآية تبين قبح أعمالهم. (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) أي وإن أعرضت عن ذوى القربى والمسكين وابن السبيل وأنت تستحى أن تردّ عليهم، انتظار فرج من الله ترجو أن يأتيك، ورزق يفيض عليك، فقل لهم قولا لينا جميلا، وعدهم وعدا تطيب به قلوبهم، قال الحسن: أمر أن يقول لهم: نعم وكرامة، وليس عندنا اليوم شىء، فإن يأتنا نعرف حقكم. وفى هذا تأديب من الله لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون وبم يردّون؟. ولقد أحسن من قال: إلا يكن ورق يوما أجود به ... للسائلين فإنى ليّن العود لا يعدم السائلون الخير من خلقى ... إما نوال وإما حسن مردود ثم بين سبحانه الطريق المثلى فى إنفاق المال فقال: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)

أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطى أحدا شيئا، ولا تسرف فى الإنفاق فتعطى فوق طاقتك، وتخرج أكثر من دخلك، فإنك إن بخلت كنت ملوما مذموما عند الناس كما قال زهير: ومن يك ذا مال فيبخل بماله ... على قومه يستغن عنه ويذمم ومذموما عند الله لحرمان الفقير والمسكين من فضل مالك، وقد أوجب الله عليك سد حاجتهما، بإعطاء زكاة أموالك. وإن أسرفت فى أموالك فسرعان ما تفقدها، فتصبح معسرا بعد الغنى، ذليلا بعد العزة، محتاجا إلى معونة غيرك بعد أن كنت معينا له، وحينئذ تقع فى الحسرة التي تقطع نياط قلبك، ويبلغ منك الأسى كل مبلغ، ولكن أنّى يفيد ذلك؟ وقد فات ما فات، فلا ينفع الندم، ولا تجدى العظة والنصيحة. وخلاصة ذلك- اقتصد فى عيشك، وتوسط فى الإنفاق، ولا تكن بخيلا ولا مسرفا. روى أحمد وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما عال من اقتصد» وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة» وروى عن أنس مرفوعا: «التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهمّ نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين» . وقيل: حسن التدبير مع العفاف، خير من الغنى مع الإسراف. وإجمال المعنى- لا تجعل يدك فى انقباضها كالمغلولة الممنوعة عن الانبساط، ولا تتوسّع فى الإنفاق فتصير نادما مغموما وعاجزا عن الإنفاق لا شىء عندك، فتكون كالدابة التي قد عجزت عن السير فوقفت ضعفا وعجزا وإعياء. ثم سلّى رسوله والمؤمنين بأن الذي يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي إن ربك أيها الرسول يبسط الرزق لمن يشاء ويوسع عليه، ويقتر على من يشاء ويضيق عليه، بحسب السنن

التي وضعها لعباده فى كسب المال، وحسن تصرفهم فى جمعه، بالوسائل والنظم التي وضعها فى الكون. (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي إن ربك ذو خبرة بعباده، فيعلم من الذي تصلحه السعة فى الرزق، ومن الذي تفسده؟ ومن الذي بصلحه الإقتار والضيق؟ ومن الذي يفسده؟ وهو البصير بتدبيرهم وسياستهم، فعليك أن تعمل بما أمرك به أو نهاك عنه، من بسط يدك فيما تبسط فيه وفيمن تبسطها له، ومن كفها عمن تكفها عنه، فهو أعلم بمصالح العباد منك ومن جميع الخلق، وأبصرهم بتدبير شؤونهم. وقصارى ذلك- إنكم إذا علمتم أن شأنه تعالى البسط والقبض، وأنعمتم فى النظر فى ذلك، وجدتم أن من سننه تعالى الاقتصاد، فاقتصدوا واستنّوا بسنته. وبعد أن بين أنه تعالى الكفيل بالأرزاق وهو الذي يبسط ويقدر، نهاهم عن قتل الأولاد خشية الفقر فقال: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) أي ولا تئدوا بناتكم خوف الفقر، فنحن نرزقهم لا أنتم، فلا تخافوا الفقر لعلكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم. وقد كان العرب فى جاهليتهم يقتلون البنات، لعجزهن عن الكسب، وقدرة البنين عليه، بالغارات والسلب والنهب، ولأن فقرهن ينفّر الأكفاء عن الرغبة فيهن، فيحتاجون إلى تزويجهنّ لغير الأكفاء، وفى ذلك عار أيّما عار عليهم. والخلاصة- إن الأرزاق بيد الله، فكما يفتح خزائنه للبنين يفتحها للبنات، فليس لكم سبب يدعو إلى قتلهن، ومن ثم قال: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) أي إن قتلهم كان إثما فظيعا لما فيه من انقطاع النسل وزوال هذا النوع من الوجود. وفى الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: «قلت يا رسول الله أىّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو الذي خلقك، قلت ثم أىّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزانى بحليلة جارك» -

والخلاصة- إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو من سوء الظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى فى تخريب العالم، والأول انتهاك لحرمة أوامر الله، والثاني ضد الشفقة على خلق الله، وكلاهما مذموم غاية الذم. ولما كان فى قتل الأولاد حظ من البخل، وفى الزنا داع من دواعى الإسراف أتبعه به فقال: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) نهى الله عباده عن القرب من الزنا بمباشرة أسبابه ودواعيه، فضلا عن مباشرته هو، للمبالغة فى النهى عنه وبيان شدة قبحه، ثم علل ذلك بقوله: (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) أي إنه كان فعلة ظاهرة القبح مشتملة على مفاسد كثيرة أهمها: (1) اختلاط الأنساب واشتباهها، وإذا اشتبه المرء فى الولد الذي أتت به الزانية، أمنه هو أم من غيره، لا يقوم بتربيته، ولا يستمر فى تعهده، وذلك مما يوجب إضاعة النسل وخراب العالم. (2) فتح باب الهرج والمرج والاضطراب بين الناس دفاعا عن العرض، فكم سمعنا بحوادث قتل كان مبعثها الإقدام على الزنا، حتى إنه ليقال عند السماع بحادث قتل: (فتش عن المرأة) . (3) إن المرأة إذا عرفت بالزنا وشهرت به استقذرها كل ذى طبع سليم، فلا تحدث ألفة بينها وبين زوجها، ولا يتم السكن والازدواج الذي جعله الله مودة ورحمة بين الناس بقوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» . (4) إنه ليس المقصد من المرأة مجرد قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكة للرجل فى ترتيب المنزل وإعداد مهامه من مطعوم ومشروب وملبوس، وأن تكون حافظة له، قائمة بشؤون الأولاد والخدم، وهذه المهامّ لا تتم على وجه الكمال إلا إذا كانت مختصة يرجل واحد، منقطعة له دون غيره من الناس.

وإجمال ذلك- إن الزنا فاحشة وأي فاحشة، لما فيه من اختلاط الأنساب والتقاتل والتناحر دفاعا عن العرض، وإنه سبيل سيء من قبل أنه يسوّى بين الإنسان والحيوان، فى عدم اختصاص الذكران بالإناث. وبعد أن نهى عن قتل الأولاد للسبب المتقدم نهى عن القتل مطلقا فقال: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا تقتلوا النفس التي حرم الإسلام قتلها إلا قتلا متلبسا بالحق، وهو أحد أمور ثلاثة: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمدا كما جاء فى الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود: «لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . والسبب فى هذا التحريم وجوه: (1) إنه إفساد فوجب حرمته لقوله «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» . (2) إنه ضرر، والأصل فى المضارّة الحرمة لقوله: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وقوله صلى الله عليه وسلّم «لا ضرر ولا ضرار» . (3) إنه إذا أبيح القتل زال هذا النوع من الوجود ففتك القوى بالضعيف، وحدث الاضطراب فى المجتمع، فلا يستقيم للناس حال ولا ينتظم لهم معاش (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي ومن قتل مظلوما بغير حق يوجب قتله فقد جعلنا لمن يلى أمره من وارث أو سلطان عند عدم الوارث تسلطا واستيلاء على القاتل، بمؤاخذته بأحد أمرين: إما القصاص منه، وإما الدية لقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى» الآية ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم الفتح «من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين، إن أحبّوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» . (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا بإزاء واحد، كما كانوا يفعلون فى الجاهلية، إذ كانوا يقتلون القاتل ويقتلون معه غيره إذ كان رجلا شريفا، وأحيانا لا يرضون بقتل القاتل بل يقتلون بدله رجلا شريفا

وفى الآية إيماء إلى أن الأولى للولى ألا يقدم على استيفاء القتل، وأن يكتفى بالدية أو يعفو. (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي إن الله نصر الولي بأن أوجب له القصاص أو الدية، وأمر الحكام أن يعينوه على استيفاء حقه، فلا يبغى ماوراءه ولا يطمع فى الزيادة على ذلك. وقد يكون المعنى: إن المقتول ظلما منصور فى الدنيا بإيجاب القود له على قاتله، وفى الآخرة بتكفير خطاياه، وإيجاب النار لقاتله، وهذه الآية أول ما نزل من القرآن فى شأن القتل، لأنها مكية. وبعد أن نهى عن إتلاف الأنفس نهى عن إتلاف الأموال، لأن المال أخو الروح، وأحق الناس بالنهى عن إتلاف ماله هو اليتيم لضعفه وكمال عجزه ولذلك قال: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي لا تتصرفوا فى مال اليتيم إلا بالطريق التي هى أحسن الطرق، وهى طريق حفظه وتثميره بما يزيد به، حتى تستحكم قوة عقله وشبابه، وإذ ذاك يمكنه القيام على ماله بما فيه المصلحة. ولما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانوا لا يخالطون اليتامى فى طعام ولا غيره، فأنزل الله تعالى: «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» فكانت لهم فيها رخصة. ونظير الآية قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» . وبعد أن نهى عن الزنا والقتل وأكل مال اليتيم أتبعها بثلاثة أوامر فقال: (1) (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) أي وأوفوا بما عاهدتم الله عليه من التزام ما كلفكم به، وما عاهدتم الناس عليه من العقود التي تتعاملون بها فى البيوع والإجارة ونحوها، قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد، ويدخل فى ذلك ما بين العبد وربه، وما بين العباد بعضهم وبعض. والوفاء به القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضى.

(إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) أي إن الله سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، فيقال للناكث له على سبيل التبكيت والتوبيخ لم نكثت عهدك؟ وهلا وفيت به، كما يقال لوائد الموءودة: بأى ذنب قتلت؟ وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: «أأنت قلت للنّاس اتّخذونى وأمّى إلهين؟» والمخاطبة لعيسى والإنكار على غيره. (2) (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) أي وأتموا الكيل للناس ولا تخسروهم إذا كلتم لهم حقوقهم قبلكم، فإن كلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم تفوا بالكيل (3) (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي وزنوا بالميزان العدل دون شىء من الجور أو الحيف، لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، ومن ثم بالع. الشارع فى المنع من التطفيف والنقصان، سعيا فى إبقاء الأموال لأربابها. ثم بين عاقبة هذه الأوامر وحسن مآلها فقال: (ذلِكَ خَيْرٌ) أي إيفاؤكم بالعهد، وإيفاؤكم من تكيلون له، ووزنكم بالعدل لمن توفون له، خير لكم فى الدنيا من نكثكم وبخسكم فى الكيل والوزن، لأن ذلك مما يرغّب الناس فى معاملتكم، وحب الثناء عليكم. (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي وأجمل عاقبة، لما يترتب على ذلك من الثواب فى الآخرة، والخلاص من العقاب الأليم وكثير من الفقراء الذين اشتهروا بالأمانة والبعد عن الخيانة، أقبلت عليهم الدنيا، وحصل لهم الثروة والغنى، وكان ذلك سبب سعادتهم فيها. وبعد أن ذكر سبحانه أوامر ثلاثة نهى عن مثلها فقال: (1) (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي ولا تتّبع أيها المرء ما لا علم لك به من قول أو فعل، وذلك دستور شامل لكثير من شؤون الحياة، ومن ثم قال المفسرون فيه أقوالا كثيرة: (ا) قال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأت عيناك، وسمعته أذناك، ووعاه قلبك

(ب) قال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم. (ج) وقيل المراد النهى عن القول بلا علم بل بالظن والتوهم كما قال: «اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» وفى الحديث «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وفى سنن أبى داود «بئس مطية الرجل زعموا» إلا ما قام الدليل على جواز العمل به إن لم يوجد دليل من كتاب أو سنة كما رخص النبي صلى الله عليه وسلّم فى ذلك لمعاذ حين بعثه قاضيا فى اليمن إذ قال له «بم تقضى، قال: بكتاب الله، قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيى» . (د) وقيل المراد نهى المشركين عن اعتقاداتهم تقليدا لأسلافهم واتباعا للهوى كما قال: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ،، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» . ثم ذكر سبحانه تعليلا لذلك النهى فقال: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) أي إن الله سائل هذه الأعضاء عما فعل صاحبها كما قال «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» وفى الخبر عن شكل بن حميد قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت يا نبى الله علّمنى تعويذا أتعوذ به، فأخذ بيدي ثم قال: قل أعوذ بك من شر سمعى، وشر بصري، وشر قلبى، وشر منيىّ» (يريد الزنا) . (2) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ولا تمش متبخترا متمايلا كمشى الجبارين، فتحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها بدوسك وشدة وطئك لها، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها، فأنت محوط بنوعين من الجماد أنت أضعف منهما، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر، ولقد أحسن من قال: ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا ... فكم تحتها قوم هم منك أرفع وإن كنت فى عز وحرز ومنعة ... فكم مات من قوم هم منك أمنع

وخلاصة ذلك- تواضع ولا تتكبر، فإنك مخلوق ضعيف محصور بين حجارة وتراب، فلا تفعل فعل القوى المقتدر. ولا يخفى ما فى الآية من التقريع والتهكم والزجر لمن اعتاد ذلك. ثم علل هذا النهى بقوله: (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) أي لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطأتك، ولن تبلغ الجبال التي هى بعض أجزاء الأرض فى الطول حتى يمكنك أن تتكبر عليها، فالتكبر إنما يكون بالقوة وعظم الجثة وكلاهما غير موجود لديك، فما الحامل لك على ما أنت فيه وأنت أحقر من كل من الجمادين؟ وكيف يليق بك الكبر؟ (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) أي كل الذي ذكر من الخصال أثناء الأوامر والنواهي وهى الخمس والعشرون السالفة كان سيئه وهو ما نهى عنه منها، من الجعل مع الله إلها آخر وعبادة غيره، والتأفف والتبذير، وغل اليد، وقتل الأولاد خشية الإملاق- مكروها عند ربك أي مبغوضا عنده وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية كما قال صلى الله عليه وسلّم «ما شاء الله كان، وما لم يشألم يكن» وهذه الإرادة لا تستدعى الرضا منه سبحانه. وفى وصف هذه الأشياء بالكراهة مع أن أكثرها من الكبائر- إيماء إلى أن الكراهة عنده تعالى تكفى في وجوب الكف عن ذلك. ثم بين وجوب امتثال تلك الأوامر، وترك تلك النواهي فقال: (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) أي هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الحميدة، ونهيناك عنه من الرذائل، مما أوحينا إليك من فقه الدين ومعرفة أسراره، ومن الحكم فى تشريعه. أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما إن التوراة كلها فى خمس عشرة آية من بنى إسرائيل ثم تلا (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الآية.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 40 إلى 44]

(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) كرر هذا مع ما سلف، للتنبيه إلى أن التوحيد رأس الدين ورأس الحكمة، وهو مبدأ الأمر ومنتهاه، وقد رتب عليه أولا آثار الشرك فى الدنيا فقال: فتقعد مذموما مخذولا، ورتب عليه هنا نتيجة فى العقبى فقال: فتلقى فى جهنم ملوما مدحورا: أي ملوما من جهة نفسك ومن جهة غيرك، ومبعدا من رحمة الله تعالى. وقد علمت فيما تقدم لك أن مثل هذا الخطاب إما موجه إلى الإنسان عامة، وإما إلى الرسول خاصة والمراد أمته والكلام من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره) . [سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44] أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) تفسير المفردات الإصفاء بالشيء: جعله خالصا له، وصرفنا: أي بينا، ليذكروا: أي يتدبروا ويتعظوا، والنفور: البعد من الشيء، وابتغاء الشيء: طلبه، والسبيل: الطريق، والفقه: الفهم.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن نبه سبحانه إلى جهل من أثبتوا له شريكا واتخذوا له ندّا ونظيرا- ففى على ذلك بالتنديد والتقريع لمن أثبتوا له ولدا، وأنه قد بلغ من قحتهم أن جعلوا البنين لأنفسهم مع علمهم بعجزهم ونقصهم، وأعطوا الله البنات، مع علمهم بأنه الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، والجلال الذي لا غاية له- ثم أتبعه ببيان أنه قد ضرب فى القرآن الأمثال ليتدبروا ويتأملوا فيها، ولكن ذلك ما زادهم إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه، ثم أردفه ببيان أنه لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى، لطلبت لأنفسها قربة إلى الله وسبيلا إليه، ولكنها لم تفعل ذلك، وكيف تقرّبكم إليه وكل ما فى السموات والأرض يسبح بحمده، بدلالة أحواله على توحيده، وتقديسه وكمال قدرته، ولكنكم لجهلكم وغفلتكم لا تدركون دلالة تلك الدلائل. الإيضاح (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟) أي أفخصّكم ربكم بالذكور من الأولاد، واتخذ من الملائكة إناثا وأنتم لا ترضونهنّ لأنفسكم، بل تئدونهن وتقتلونهن، فتجعلون له ما لا ترضون لأنفسكم. وخلاصة ذلك- إنهم جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادّعوا أنهن بنات الله، ثم عبدوهن، فأخطئوا فى الأمور الثلاثة خطأ عظيما، ومن ثم قال: (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً) فتفترون على الله الكذب، وتنسبون إليه ما تستحقون عليه الإثم والعذاب، وتخرقون قضايا العقول، فتجعلون أشرف خلق الله الذين منهم من يقدر على جعل عالى الأرض سافلها، إناثا غاية فى الرخاوة. ونحو الآية قوله: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» . ولما كان هذا الكلام غاية فى الوضوح والبيان، ولا يخفى فهمه على إنسان، ثم هم بعد ذلك أعرضوا عنه نبه إلى ذلك بقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي ولقد بينا فى هذا القرآن الآيات والحجج، وضربنا لهم الأمثال، وحذرناهم وأنذرناهم، ليتذكروا ويتعظوا فيقفوا على بطلان ما يقولون- فإن التكرار يقتضى الإذعان واطمئنان النفس- وهم مع ذلك لا يعتبرون ولا يتذكرون بما يرد عليهم من الآيات والنذر بل ما يزيدهم التذكير إلا نفورا وبعدا عن الحق وهربا منه. ثم رد على هؤلاء الذين يشركون بربهم، ويتخذون الشفعاء والأنداد وندد عليهم وسفه أحلامهم فقال: (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرّب إليه وتشفع لديه- لكان أولئك المعبودون يعبدونه، ويتقربون إليه، ويبتغون لديه الوسيلة، فاعبدوه وحده كما يعبد من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه. وقد نهى عن ذلك على ألسنة رسله وأنبيائه ونزه نفسه عن ذلك فقال: (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) أي تنزيها لله وعلوّا له عما تقولون أيها القوم من الفرية والكذب، فهو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وفى الآية إيماء إلى وجود البون الشاسع بين ذاته وصفاته سبحانه، وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد، للمنافاة التي لا غاية وراءها، بين القديم والمحدث والغنى والمحتاج.

ثم بين سبحانه عظمة ملكه، وكبير سلطانه فقال: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي إن السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات، تنزهه وتعظمه عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية فى ربوبيته وألوهيته كما قال أبو نواس: وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد والمكلف العاقل يسبّح ربه إما بالقول كقوله: سبحان الله، وإما بدلالة أحواله على توحيده وتقديسه، وغير العاقل لا يسبح إلا بالطريق الثاني، فهى تدل بحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدانيته، وقدرته وتنزهه عن الحدوث، فإن الأثر يدل على مؤثره. ثم أكد ما سلف بقوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي وما شىء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله أي يدل بإمكانه وحدوثه دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى، ووحدته وقدرته، وتنزهه عن لوازم الحدوث. والخلاصة- إن كل الأكوان شاهدة بتنزهه تعالى عن مشاركته للمخلوقات فى صفاتها المحدثة. (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي ولكن لا تفهمون أيها المشركون تلك الدلالة، لأنكم لما جعلتم مع الله آلهة، فكأنكم لم تنظروا ولم تفكروا، إذ النظر الصحيح، والتفكير الحق، يؤدى إلى غير ما أنتم فيه، فأنتم إذا لم تفقهوا التسبيح، ولم تستوضحوا الدلالة على الخالق. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) فمن حلمه أن أمهلكم، ولم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء جهلكم بهذا التسبيح بإشراككم به سواه، وعبادتكم معه غيره، ومن مغفرته لكم أنه لا يؤاخذ من تاب منكم. أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال. «إن

[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 إلى 48]

نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمر كما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شىء، وبها يرزق كل شىء» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) تفسير المفردات الحجاب والحجب: المنع من الوصول إلى الشيء والمراد الحاجب، والمستور: أي الساتر كما جاء عكسه من نحو «ماء دافق» : أي مدفوق، أن يفقهوه أي لئلا يفقهوه ويفهموه، والأكنة: الأغطية واحدها كنان، والوقر: الصمم والثقل فى الآذان المانع من السماع، والنفور: الانزعاج، مسحورا: أي مخبول العقل، فهو كقولهم «إن هو إلا رجل به جنة» فضلوا أي جاروا عن قصد السبيل. المعنى الجملي كان الكلام قبل هذا فى مقام الألوهية وجدالهم بالتي هى أحسن، بضرب الأمثال لهم، وإقامة الحجة عليهم، وإيضاح السبيل لهم- والكلام هنا فى مقام النبوة والنعي عليهم فى عدم فهمهم للقرآن والنفور منه والهزء به، وضربهم الأمثال للنبى صلى الله عليه وسلّم وقولهم فيه تارة إنه ساحر وأخرى إنه مجنون، وحينا إنه شاعر. روى ابن عباس أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه وسلّم ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما ما أدرى ما يقول

الإيضاح

محمد، غير أنى أرى شفتيه تتحركان بشىء، وقال أبو سفيان: إنى لأرى بعض ما يقول حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون، وقال أبو لهب: هو كاهن، وقال حو يطب بن عبد العزّى: هو شاعر فنزلت هذه الآية الإيضاح (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) أي وإذا قرأت أيها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالبعث، ولا يقرون بالثواب والعقاب- جعلنا بينك وبينهم حجابا يمنع قلوبهم عن أن تفهم ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به، عقوبة منالهم على كفرهم وتدسيتهم لأنفسهم، واجتراحهم الجرائر والمعاصي التي تظلم القلوب، وتضع عليها الأغشية، وتستر عنها فهم حقائق القرآن ومراميه، وأسراره وأحكامه وحكمه، ومواعظه وعبره. روى أنه عليه الصلاة والسلام الصلاة كان إذا قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصىّ يصفّقون ويصفرون ويخلّطون عليه بالأشعار. ثم بين السبب فى عدم فهمهم لمدارك القرآن فقال: (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي إنه تعالى جعل فى قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفى آذانهم ما يمنع من سماع صوته. وخلاصة ذلك- إنا منعناهم فقهه، والوقوف على كنهه، فنبت قلوبهم عن فهمه، ومجّته أسماعهم، فهم لا متناعهم عن قبول دلائله صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب ساتر. ونسب جعل الحجاب إلى نفسه، لأنه خلّاهم وأنفسهم، فصارت تلك التخلية كأنها السبب فى وقوعهم فى تلك الحال ألا ترى أن السيد إذا لم يراقب أحوال مولاه حتى ساءت حاله، يقول أنا الذي أوصلك إلى هذا، إذ ألقيت حبلك على غاربك، ولم أراقبك عن كثب. ونحو الآية قوله: «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 إلى 52]

(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) أي وإذا ذكرت ربك وحده فى القرآن وأنت تتلوه، ولم تقل واللات والعزّى انفضوا من حولك وهربوا نافرين استكبارا واستعظاما لأن يذكر الله وحده. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزء والسخرية والتكذيب حين استماعهم، وأعلم بما يتناجون به ويتسارّون، فبعضهم يقول مجنون، وبعضهم يقول كاهن، وبعضهم يقول: ما اتبعتم إلا رجلا قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء، وهل من خير لكم فى اتباع أمثاله المجانين؟ (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أي تأمل وانظر أيها الرسول، كيف مثلوا لك الأمثال وشبهوا لك الأشباه، فقالوا هو مسحور، وهو شاعر مجنون، فحادوا فى كل ذلك عن سواء السبيل، ولم يهتدوا لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه. وفى هذا من الوعيد وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم ما لا يخفى. [سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 52] وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) تفسير المفردات الرفات: ما تكسر وبلى من كل شىء، يكبر فى صدوركم: أي يستبعد قبوله للحياة، فطركم: أي ذرأكم وأوجدكم، فسينغضون إليك رءوسهم: أي سيحركونها

المعنى الجملي

استهزاء، يقال نغض رأسه ينغض نغضا إذا تحرك، وأنغض رأسه: حركه كالمتعجب من الشيء، فتستجيبون: أي تجيبون الداعي. المعنى الجملي اعلم أن أمهات المسائل التي دار حولها البحث فى الكتاب الكريم الإلهيات، والنبوات والبعث والجزاء والقضاء والقدر، وقد تكلم فيما سلف فى الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم فى النبوات، وفنّدها بما لا مجال للرد عليه، ولا لدحضه وتكذيبه، ثم ذكر فى هذه الآيات شكوكهم فى المعاد والبعث والجزاء، ورد عليها بما لو نظر إليه المنصف لأيقن بصدق ما يدّعى، وألزم نفسه تصديق ما يقال. الإيضاح (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟) أي وقال الذين لا يؤمنون باليوم الآخر من المشركين: أئذا كنا عظاما فى قبورنا، لم نتحطم ولم نتكسر بعد مماتنا، ورفاتا متكسرة مدقوقة، أئنا لمبعوثون بعد مصيرنا فيها، وقد بلينا فتكسرت عظامنا، وتقطعت أوصالنا- خلقا جديدا كما كنا قبل الممات. ومثل الآية قوله تعالى حكاية عنهم: «يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» وقوله: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» . وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم، ويعرفهم قدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم، وإنشائه لهم كما كانوا قبل بلاهم خلقا جديدا، على أي حال كانوا، عظاما أو رفاتا أو حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر فى صدورهم فقال: (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي قل كونوا حجارة

او حديدا أو خلقا مما يستبعد عندكم قبوله للحياة كالسموات والأرض والجبال، فإن الله لا يعجزه إحياؤكم لتساوى الأجسام فى قبولها الأعراض المختلفة، فكيف إذا كنتم عظاما بالية، وقد كانت قبل حيّة، والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد؟. وخلاصة هذا- إنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله عن الإعادة والإحياء، وهذا كما يقول القائل للرجل: أتطمع فىّ وأنا فلان فيقول: كن ابن من شئت، كن ابن الخليفة، فسأطلب منك حقى. وجملة المعنى- إن فى هذا مبالغة أيّما مبالغة فى قدرة القادر العليم على الإعادة والإحياء، كما يقال: لو كنت عين الحياة فالله يميتك، ولو كنت عين الغنى فالله يفقرك. وبعد أن استبعدوا الإعادة استبعدوا صدورها وهى على هذه الحال حجارة أو حديدا من أىّ معيد. كما حكى عنهم سبحانه بقوله: (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي فسيقولون لك من يعيدنا ونحن على هذه الحال؟ قل لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد، وإرشادا إلى طريق الاستدلال: الذي يفعل ذلك هو القادر العظيم، الذي ذرأكم أول مرة على غير مثال يحتذى، ولا منهاج معين ينتحى، وكنتم ترابا لم يشمّ رائحة الحياة، أليس الذي يقدر على ذلك، يقدر على أن يفيض الحياة على العظام البالية، ويعيدها إلى ما كانت عليه أولا؟ بلى إنه سبحانه على كل شىء قدير. ثم بين جلّت قدرته ما يفعلون حين سماع هذه الإجابة فقال: (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) قال أبو الهيثم يقال لمن أخبر بشىء فحرك رأسه إنكارا له: قد أنغض، أي إنك إذا قلت لهم ذلك يحركون رءوسهم استهزاء وتكذيبا، ثم يسألون. (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ؟) أي متى هذا البعث، وفى أي وقت وحال يعيدنا خلقا جديدا كما كنا أول مرة، ومقصدهم من هذا السؤال استبعاد حصوله.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 إلى 55]

وفى معنى الآية قوله «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وقوله: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» . (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) أي فاحذروا ذلك، فإنه قريب منكم سيأتيكم لا محالة، وكل آت قريب، وكل ما هو محقق الحصول قريب وإن طال زمانه، ولم يخبر به أحدا من خلقه، لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لكن الخبر قد جاء بقرب حدوثه كما قال «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي ذلك يوم يدعوكم، فتستجيبون له من قبوركم، بقدرته ودعائه إياكم، ولله الحمد فى كل حال، وهذا كما يقول القائل فعلت هذا بحمد الله أي ولله الحمد على كل ما فعلت. وروى عن أنس مرفوعا «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا فى القبر ولا فى الحشر، وكأنى بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رءوسهم من التراب، يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» . (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) أي وتظنون حين تقومون من قبوركم أنكم ما أقمتم فى دار الدنيا إلا زمنا قليلا. ونحو الآية قوله: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» وقوله: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» وقوله: «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» . قال الحسن: المراد تقريب وقت البعث، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل. [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 55] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ينزغ: يفسد ويهيج الشر، والوكيل: هو المفوض إليه الأمر، والزبور: اسم الكتاب الذي أنزل على داود عليه السلام. المعنى الجملي بعد أن أقام سبحانه الحجج على إبطال الشرك، فقال: قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا، وذكر الأدلة على صحة البعث والجزاء فقال: «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» أمر رسوله أن يأمر عباده المؤمنين بأن يحاجوا مخالفيهم، ويجادلوهم باللين، ولا يغلظوا لهم فى القول، ولا يشتموهم ولا يسبوهم، فإن الكلمة الطيبة تجذب النفوس، وتميل بها إلى الاقتناع، كما يعلم ذلك الذين تولوا النصح والإرشاد، من الوعاظ والساسة والزعماء فى كل أمة. ثم ذكر من الكلمة الطيبة أن يقول لهم: ربكم العليم بكم، إن شاء عذبكم، وإن شاء رحمكم، ولا يصرّح بأنهم من أهل النار، فإن ذلك مما يهيج الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها إلا الله سبحانه، ثم بين لرسوله أنه لا يقسر الناس على الإسلام، فما عليه إلا البلاغ والإنذار، والله هو العليم بمن فى السموات والأرض، فيختار لنبوته من يشاء، ممن يراه أهلا لذلك، وأولئك الأنبياء ليسوا سواء فى مراتب الفضل والكمال، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته.

الإيضاح

الإيضاح (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي وقل لعبادى يقولوا فى مخاطباتهم ومحاوراتهم مع خصومهم من المشركين وغيرهم: الكلام الأحسن للإقناع، مع البعد عن الشتم والسب والأذى. ونظير الآية قوله «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» وقوله «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» . روى أن الآية نزلت فى عمر ابن الخطاب، ذلك أن رجلا شتمه فسبّه عمر وهمّ بقتله فكادت تثير فتنة فأنزل الله الآية. ثم علل ذلك بقوله: (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي إن الشيطان يفسد بين المؤمنين والمشركين ويهيج الشر بينهم، فينتقل الحال من الكلام إلى الفعال، ويقع الشر والمخاصمة، ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ فى يده فر بما أصابه بها. روى أحمد عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ولا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدرى لعل الشيطان ينزغ فى يده، فيقع فى حفرة من النار» وروى أيضا عن رجل من بنى سليط قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وهو فى رفلة (جماعة) من الناس فسمعته يقول «والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا ووضع يده على صدره» . ثم بين سبب نزغ الشيطان للإنسان بقوله: (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) أي إن بين الشيطان والإنسان عداوة قديمة مستحكمة كما قال تعالى حكاية عن الشيطان «ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم» وقال «كمثل الشّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إنّى برىء منك إنّى أخاف الله ربّ العالمين» .

ثم فسر سبحانه التي هى أحسن بما علّمهم النّصفة بقوله: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) أي ربكم أيها القوم هو العليم بكم، إن يشأ رحمتكم بتوفيقكم للايمان والعمل الصالح يرحمكم، وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان فتموتوا على شرككم. وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى للمؤمنين أن يحتقروا المشركين ولا أن يقطعوا بأنهم من أهل النار ويعيّروهم بذلك، فإن العاقبة مجهولة، ولا يعلم الغيب إلا الله- إلى أن ذلك مما يجرّ إلى توليد الضغينة فى النفوس، بلا فائدة ولا داع يدعو إليها. ثم وجه خطابه إلى أعظم الخلق ليكون من دونه أسوة له فقال: (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أي وما أرسلناك أيها الرسول حفيظا ورقيبا، تقسر الناس على ما يرضى الله، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا، فدارهم ولا تغلظ عليهم، ومر أصحابك بذلك، فإن ذلك هو الذي يؤثّر فى القلوب، ويستهوى الأفئدة، ثم انتقل من عامه تعالى بهم إلى علمه بجميع خلقه فقال: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبأحوالهم الظاهرة والباطنة، فيختار منهم لنبوته والفقه فى دينه من يراه أهلا لذلك، ويفضل بعضهم على بعض، لإحاطة علمه وواسع قدرته. ونحو الآية قوله «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» . وفى هذا رد عليهم حين قالوا: يبعد كل البعد أن يكون يتيم ابن أبى طالب نبيا، وأن يكون أولئك الجوع العراة كصهيب وبلال وخبّاب وغيرهم صحابة دون الأكابر والصناديد من قريش. وفى ذكر من في السموات ردّ لمقالهم حين قالوا «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» وفى ذكر من فى الأرض رد لمقالهم حين قالوا «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» . (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) بما لهم من الفضائل النفسية، والمزايا القدسية، وإنزال الكتب السماوية، فخصصنا كلا منهم بفضيلة ومزية، ففضلنا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 إلى 60]

إبراهيم باتخاذه خليلا، وموسى بالتكليم، ومحمدا بالقرآن الذي أعجز البشر والإسراء والمعراج. ونحو الآية قوله: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» ولا خلاف فى أن أولى العزم منهم وهم الخمسة الذين ذكروا فى سورة الشورى فى قوله «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» أفضل من بقيتهم، ولا خلاف فى أن محمدا صلى الله عليه وسلّم أفضلهم، ثم إبراهيم فموسى فعيسى عليهم السلام. (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) أي إن تفضيل داود لم يكن بالملك، بل كان بما آتاه الله من الكتاب، وأفرده بالذكر، لأنه كتب فى الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم كما قال تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» وهم محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته. [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 60] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الزعم: (بتثليث الزاى) القول المشكوك فى صدقه، وقد يستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس: كل موضع فى كتاب الله ورد فيه (زعم) فهو كذب، لا يملكون: أي لا يستطيعون، كشف الضر: إزالته أو تحويله عنكم إلى غيركم، يدعون: أي ينادون، الوسيلة: القرب بالطاعة والعبادة، محذورا: أي يحذره ويحترس منه كل أحد، فى الكتاب: أي فى اللوح المحفوظ، والآيات: هى ما اقترحته قريش من جعل الصفا ذهبا، ومبصرة: أي ذات بصيرة لمن يتأملها ويتفكر فيها، فظلموا بها: أي فكفروا بها وجحدوا، أحاط بالناس: أي أحاطت بهم قدرته فلا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا، والرؤيا هى ما عاينه صلى الله عليه وسلّم ليلة أسرى به من العجائب، والشجرة: هى شجرة الزقوم، والطغيان: تجاوز الحد فى الفجور والضلال. المعنى الجملي هذه الآيات عود على بدء فى تسفيه آراء المشركين الذين كانوا يعبدون الملائكة والجن والمسيح وعزيرا، إذ رد عليهم بأن من تدعونهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويخافون عذابه، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فادعونى وحدي، لأنى أنا المالك لنفعكم وضرهم دونهم ثم بين أن قرى الكافرين صائرة إما إلى الفناء والهلاك بعذاب الاستئصال، وإما بعذاب دون ذلك من قتل كبرائها وتسليط المسلمين عليهم بالسبي

الإيضاح

واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم أردف ذلك ببيان أنه ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» إلخ إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أولم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة، ثم قفى على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينضره ويؤيده، ثم أتبع ذلك بأن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم، كما كان ذكر شجرة الزقوم فى قوله: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» ثم تلا هذا بذكر تماديهم فى العناد، وأنه كلما خوّفهم وأنذرهم ازدادوا تماديا وطغيانا، فلو أنزل عليهم الآيات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها، ومن ثم أجّل عذابهم إلى يوم الوقت المعلوم. الإيضاح (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه: ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه حين ينزل الضر بكم من فقر ومرض ونحوهما، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم؟ إنهم لا يقدرون على دفع شىء من ذلك ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. روى أنه لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنزل الله هذه الآية. (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) أي هؤلاء الذين يدعوهم المشركون أربابا، وينادونهم لكشف الضر عنهم- يطلبون مجتهدين إلى ربهم ومالك أمرهم القرب إليه بالطاعة والقربة. أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «سلوا الله لى الوسيلة، قالوا وما الوسيلة؟ قال القرب من الله؟ ثم قرأ هذه الآية» .

(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أي إن أقرب أولئك المعبودين إلى الله يدعوه يبتغى إليه الوسيلة والقرب منه، وإذا كان العجز عن كشف الضر عنكم، والافتقار إلى ربكم، شأن أعلاهم وأدناهم، فكيف تعبدونهم؟. (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي ويرجون بفعلهم للطاعة رحمته، ويخافون بمخالفة أمره عذابه. ثم ذكر العلة فى خوفهم من العذاب فقال: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي إن عذابه حقيق بأن يحذره كل أحد من الملائكة والأنبياء فضلا عن سواهما. ثم ذكر مآل الدنيا وأهلها فقال: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) أي وما من قرية من القرى التي ظلم أهلها بالكفر والمعاصي إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء ومبيدوهم بالاستئصال قبل يوم القيامة، أو معذبوها ببلاء من قتل بالسيف أو غير ذلك من صنوف العذاب، بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال سبحانه عن الأمم الماضية: «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» وقال: «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» وقال: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ» الآية. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي كان ذلك مثبتا فى علم الله أو فى اللوح المحفوظ. عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، فقال ما أكتب؟ قال اكتب المقدر وما هو كائن إلى يوم القيامة» أخرجه الترمذي: وكان كفار قريش يقولون يا محمد: إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخّرت له الريح، ومنهم من كان يحيى الموتى، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا، فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله:

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أي إنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم لاستحقوا عذاب الاستئصال كما هى سنتنا فى الأمم السالفة، لكن هذا العذاب على هذه الأمة لا يكون، لأن الله يعلم أن فيهم من سيؤمنون أو يؤمن أولادهم، فلم يجبهم إلى ما طلبوا ولم يظهر لهم تلك المعجزات. والخلاصة- إنه ما ما منعنا من إرسال الآية التي سألوها إلا تكذيب الأولين بمثلها، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله فى عباده. روى أحمد عن ابن عباس قال: «سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحّى الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له إن شئت أن نستأنى بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم، قال بل نستأنى بهم وأنزل الله (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) الآية» . وأخرج البيهقي فى الدلائل عن الربيع بن أنس قال: قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلّم «لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم، فإن عصيتم هلكتم فقالوا لا نريدها» . ثم بين أن الآيات التي التمسوها هى مثل آية ثمود وقد أوتوها واضحة بينة فكفروا بها فاستحقوا العذاب، فكيف يتمنى مثلها هؤلاء على سبيل الاقتراح كما قال: (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) أي وقد سألت ثمود من قبل قومك الآيات فآتيناها ما سألت، وجعلنا لها الناقة حجة واضحة دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها، فكفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله، وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر. (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) أي إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات، لعلهم يعتبرون ويذّكّرون فيرجعوا.

ذكر المؤرخون أن الكوفة رجفت (زلزلت) فى عهد ابن مسعود فقال: أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه، وروى أن المدينة زلزلت فى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه مرات فقال عمر: أحدثتم والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ، وفى الحديث الصحيح «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره- ثم قال: يا أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» . ثم قال سبحانه محرّضا رسوله على إبلاغ رسالته، ومخبرا له بأنه قد عصمه من الناس. (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك هو القادر على عباده، وهم فى قبضته، وتحت قهره وغلبته، فلا يقدرون على أمر إلا بقضائه وقدره، وقد عصمك من أعدائك، فلا يقدرون على إيصال الأذى إليك كما قال: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» . وخلاصة ذلك- إن الله ناصرك ومؤيدك حتى تبلّغ رسالته، وتظهر دينه. قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوه، ويؤيد هذا قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» . (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أي وما جعلنا الرؤيا التي أريتها ليلة الإسراء إلا امتحانا واختبارا للناس، فأنكرها قوم وكذبوا بها، وكفر كثير ممن كان قد آمن به، وازداد المخلصون إيمانا. روى البخاري فى التفسير عن ابن عباس إنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله الله عليه وسلّم ليلة الإسراء، وهو قول سعيد بن جبير ومسروق وقتادة، والعرب تقول رأيته بعيني رؤية ورؤيا. (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) أي وما جعلنا الشجرة الملعونة فى القرآن إلا فتنة للناس، فإنهم حين سمعوا: «إنّ شجرة الزّقوم، طعام الأثيم» اختلفوا، فقوم ازدادوا

إيمانا، وقوم ازدادوا كفرا كأبى جهل إذ قال: إن ابن أبى كبشة (يعنى النبي صلى الله الله عليه وسلّم) توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت شجرة وتعلمون أن النار نحرق الشجر، وقال عبد الله بن الزّبعرى: إن محمدا يخوّفنا بالزقوم، وما الزقوم إلا التمر والزبد، فتزقموا منه، وجعل يأكل من هذا بهذا. وقد فات هؤلاء أن فى الدنيا أشياء كثيرة لا تحرقها النار، فهناك نوع من الحرير يسمى بالحرير الصخرى لا تؤثر فيه النار، بل هو يزداد إذا لا مسها نظافة، ومن ثم يلبسه جال المطافى فى الدول المتدينة. وكم فى الأرض من عجائب، وكم فى العوالم الأخرى من مثلها، فالأرض مملوءة نارا، وما خلص من النار إلا قشرتها التي نعيش عليها، وما من شجر أو حجر إلا وفيه نار، والماء نفسه مادة نارية فنحو 8/ 9 منه اكسوجين وهو مادة تشتعل سريعا، والتسع أدروجين، فأرضنا نار، وماؤنا نار، وأشجارنا وأحجارنا مليئة بالنار، وهذا العالم لذى نسكنه تتخلله النار. والخلاصة- إن هؤلاء المشركين فتنوا بالرؤيا، وفتنوا بالشجرة. وقد وصفت هذه الشجرة بكونها ملعونة ولا ذنب لها، للعن الكفار الذين يأكلونها، توسعا فى الاستعمال وهو كثير فى كلام العرب. (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) أي ونخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة، فما يزيدهم التخويف إلا تماديا فى الطغيان والضلال، فلو أننا أنزلنا عليهم الآيات التي اقترحوها، لم يزدادوا بها إلا تمردا وعنادا واستكبارا فى الأرض وفعل بهم ما فعل بأمثالهم من الأمم الغابرة من عذاب الاستئصال، لكن قد سبقت كلمتنا بتأخير العذاب عنهم إلى حلول الطامة الكبرى. والكلام مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلّم على ما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة، من الحزن لطعن الكفار، إذ ربما يقولون لو كنت رسولا حقا لأتيت بمثل هذه المعجزات التي أتى بها من قبلك من الأنبياء.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 إلى 65]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) تفسير المفردات أرأيتك: أي أخبرنى، هذا الذي كرّمت على: أي أهذا الذي كرمته علىّ قاله احتقارا واستصغارا لشأنه، لأحتنكنّ، من قولهم حنك الدابة واحتنكها: إذا جعل فى حنكها الأسفل حبلا يقودها به، كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه، اذهب: أي امص لشأنك فقد خلّيتك وما سوّلت لك نفسك، وموفورا: أي مكملا لا يدّخر منه شىء من قولهم فر لصاحبك عرضه فرة: أي أكمله له قال: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّق الشتم يشتم ويقال أفزّه الخوف واستفزه: أي أزعجه واستخفه، بصوتك: أي بدعائك إلى معصية الله، وأجلب عليهم: أي صح عليهم من الجلبة وهى الصياح، ويقال أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول (والخيل هنا الفرسان) كما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلّم فى بعض غزواته لأصحابه «يا خيل الله اركبي» والرّجل: واحده راجل كركب وراكب، والغرور: تزيين الباطل بما يظن أنه حق، والوكيل: الحافظ والرقيب

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان فى محنة من قومه إذ كذبوه وتوعدوه حين حدثهم بالإسراء وشجرة الزقوم، وأنهم نازعوه وعاندوه واقترحوا عليه الآيات حسدا على ما آتاه الله من النبوة، وكبرا عن أن ينقادوا إلى الحق- بين أن هذا ليس ببدع من قومك، فقد لاقى كثير من الأنبياء من أهل زمانهم مثل ما لاقيت ألا ترى أن آدم عليه السلام كان فى محنة شديدة من إبليس، وأن الكبر والحسد هما اللذان حملاه على الخروج من الإيمان والدخول فى الكفر والحسد بليّة قديمة، ومحنة عظيمة للخلق الإيضاح ذكر سبحانه قصص آدم فى سبع سور: البقرة. الأعراف. الحجر. الإسراء. الكهف، طه. ص. وقد تقدم الكلام فيها فيما سلف من تلك السور وها نحن أولاء نفسرها فى هذه السورة. (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك عداوة إبليس لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخارا عليه واحتقارا له، وقال أأسجد لمن خلقته من الطين، وأنا مخلوق من النار كما جاء فى الآية الأخرى: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» فكفر بنسبة ربه إلى الجور بتخيله أنه أفضل من آدم من قبل أن الفروع ترجع إلى الأصول، وأن النار التي هى أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم، وقد فاته أن الطين أنفع من النار ولئن سلم غير هذا فالأجسام كلها من جنس واحد، والله هو الذي أوجدها من العدم، ويفضّل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض.

وقال أيضا لربه جرأة وكفرا، والرب يحلم وينظر: (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ؟) أي أخبرنى أهذا الذي كرّمته علىّ؟ وهل يوجد ما يدعو إلى تفضيله علىّ، وهذا كلام قاله على وجه التعجب والإنكار. (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) أي لئن أنظرتنى لأضلنّ ذريته إلا قليلا منهم، وهذا القليل هم الذين عناهم الله بقوله: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» . ولعل إبليس حكم هذا الحكم على ذرية آدم إما بالسماع من الملائكة حين قالوا «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك» أو بالقياس على ما رأى من آدم حين وسوس إليه، فلم يجد له عزما. ثم ذكر سبحانه أنه أجابه إلى النّظرة، وأخره إلى يوم الوقت المعلوم. (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) أي قال له سبحانه: امض لشأنك الذي اخترته، ولما سوّلته لك نفسك، وقد أخرتك، وهذا كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد. فمن أطاعك من ذرية آدم وضلّ عن الحق، فإن جزاءك على دعائك إياهم، وجزاءهم على اتباعهم لك وخلافهم أمرى جزاء موفور، لا ينقص لكم منه شىء، بما تستحقون من سيىء الأعمال، وما دنستم به أنفسكم من قبيح الأفعال. ونحو الآية قوله: «فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» . (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي قال تعالى مهددا له: استخفّ وأزعج بدعائك إلى معصية الله ووسوستك من استطعت من ذرية آدم. (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أي واجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من تجلب بالدعاء إلى طاعتك والصرف عن طاعتى، ومثل هذا الأسلوب يراد به التشمير فى الأمر والجد فيه، والتسلط على من يغويه، وكأن فارسا مغوارا وقع

على قوم، فصوت بهم صوتا مزعجا من أماكنهم، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى استأصلهم. قال مجاهد: ما كان من راكب يقاتل فى معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل فى معصية الله فهو من رجّالة إبليس. وقال آخرون: ليس للشيطان خيل ولا رجالة، وإنما يراد بهما الأتباع والأعوان من غير ملاحظة لكون بعضهم ما شيا وبعضهم راكبا. (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) بحثهم على كسبها من غير السبل المشروعة، وإنفاقها فى غير الطرق التي أباحها الدين، ويشمل ذلك الربا والغصب والسرقة وسائر المعاملات الفاسدة. وقال الحسن: مرهم أن يكسبوها من خبيث، وينفقوها فى حرام. (وَالْأَوْلادِ) بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضى الله. وإجمال القول فيه- إن كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه، بإدخاله فى غير الدين الذي ارتضاه، أو بالزنا بأمه، أو بوأده، أو بقتله، أو غير ذلك فقد شارك إبليس فيه من ولد له أو منه. (وَعِدْهُمْ) بما يستخفهم ويغرّهم من المواعيد الباطلة، كوعدهم بأن لا جنة ولا نار، أو بأن الآلهة تشفع لهم، أو بالكرامة على الله بالأنساب الشريفة، مع ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلّم «يا فاطمة بنت محمد سلينى من مالى ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئا» أو بالتسويف فى التوبة، أو بإيثار العاجل على الآجل أو نحو ذلك. وخلاصة ذلك- إنه يغويهم بأن لا ضرر من فعل هذه المعاصي، فإنه لا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، وإنها سبيل اللذة والسرور، ولا حياة للإنسان إلا بها فتفويتها غبن وخسران. خذوا بنصيب من سرور ولذة ... فكلّ وإن طال المدى يتصرّم

[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 إلى 70]

وينفّرهم من الطاعة بأن لا فائدة فيها، إذ لا رجعة بعد هذه الحياة، فهى عبث محض، فهذه بعض تلبيسات الشيطان وهذه خدعة. (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) لأنه لا يغنى عنهم من عقاب الله شيئا إذا نزل بهم، فمواعيده خدعة يزينها لهم ويلبسها ثوب الحق، كما قال إبليس إذ حصحص الحق يوم يقضى ربك بالحق: «إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلّا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم» . (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي إن عبادى الذين أطاعونى فاتبعوا أمرى وعصوك، ليس لك عليهم تسلط، فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر، فإنى قد وفقتهم بالتوكل علىّ، فكفيتهم أمرك. (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) فهم يتوكلون عليه، ويستمدون منه العون فى الخلاص من إغوائك ووسوستك. وفى الآية إيماء إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه من مواقع الضلال، وإنما المعصوم من عصمه الله. [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يزجى: أي يسوق حينا بعد حين والمراد أنه يجريه، وفضله: هو رزقه، والمراد بالضر: خوف الغرق بتقاذف الأمواج، وضل: غاب عن ذكركم، والخسف والخسوف: دخول الشيء فى الشيء يقال عين خاسفة إذا غابت حدقتها فى الرأس، وعين من الماء خاسفة: أي غائرة الماء وخسفت الشمس: أي احتجبت، وكأنها غارت فى السحاب، والحاصب: الريح التي ترمى بالحصباء والحجارة، والقاصف: الريح تقصف الشجر وتكسره، والتبيع: النصير والمعين، وحملته على فرس: أي أعطيته إياها ليركبها. المعنى الجملي بعد أن ذكر فى الآية السالفة أنه هو الحافظ الكالئ للعبد المؤمن من غواية إبليس، وأنه لا يستطيع أن يمسه بسوء- قفى على ذلك بذكر بعض نعمه تعالى على الإنسان التي كان يجب عليه أن يقابلها بالشكران لا بالكفران، وهو الذي يرى دلائل قدرته فى البر والبحر، فهو الذي يزجى له الفلك فى البحر لتنقل له أرزاقه وأقواته من بعيد المسافات، لكنه مع هذا هو كفور للنعمة إذا مسه الضر دعا ربه، وإذا أمن أعرض عنه وعبد الأصنام والأوثان، فهل يأمن أن يخسف به الأرض، أو يرسل عليه حاصبا من الريح فى البر، أو قاصفا من الريح فى البحر فيغرقه بكفره، وهل نسى أنه ضله على جميع الخلق، وبسط له الرزق، أفلا يفرده بالعبادة ويخبت له كفاء تلك النعم طاهرة عليه؟

الإيضاح

الإيضاح (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي إن ربكم أيها القوم هو القادر الحكيم الذي يجرى لكم لنفعكم السفن فى البحر بالريح اللينة أو بالآلات البخارية أو الكهربائية، لتسهيل نقل أقواتكم وحاجكم من إقليم إلى آخر من أقصى المعمورة إلى أدناها، والعكس بالعكس، ونقل أشخاصكم من قطر إلى قطر ابتغاء للرزق أو للسياحة ورؤية مظاهر الكون على اختلاف الأصقاع مما يرشد إلى باهر القدرة، ووافر النعمة عليكم، إنه كان بكم رحيما، إذ سهل ما فيه الفوائد المرجوة لكم فى هذه الحياة. ثم خاطب الكفار بقوله: (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي وإذا نالتكم شدة جهد فى البحر ذهب عن خواطركم كل من تدعونه وترجون نفعه، من صنم أو جن أو ملك أو بشر أو حجر، فلا تذكرون إلا الله، ولا يخطر على بالكم سواه لكشف ما حل بكم. وخلاصة ذلك- إنكم إذا مسكم الضر دعوتم الله منيبين إليه مخلصين له الدين. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) أي ومن عجيب أمركم أنكم حين دعوتموه وأغاثكم وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه فى البحر أعرضتم عن الإخلاص ورجعتم إلى الإشراك به كفرا منكم بنعمته. ثم علل هذا الإعراض بقوله: (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) أي وكانت سجية الإنسان وطبيعته أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله. وخلاصة ما سلف- إنكم حين الشدائد تجأرون طالبين رحمته، وحين الرخاء تعرضون عنه.

ثم حذر من كفران نعمته فقال: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا؟) أي أفحسبتم أنكم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقام الله وعذابه، فهو إن شاء خسف بكم جانب البر وغيّبه فى أعماق الأرض وأنتم عليها، وإن شاء أمطر عليكم حجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط، ثم لا تجدون من تكلون إليه أموركم، فيحفظكم من ذلك، أو يصرفه عنكم غيره، جل وعلا. وخلاصة ذلك- إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم من فوقكم بريح يرسلها عليكم، فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشد عليكم من الغرق فى البحر. (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) أي أم أمنتم أيها المعرضون عنا بعد ما اعترفتم بتوحيدنا فى البحر حتى خرجتم إلى البر- أن يعيدكم فيه مرة أخرى فيرسل عليكم ريحا تقصف السواري، وتغرق المراكب بسبب كفركم وإعراضكم عن الله، ثم لا تجدوا لكم نصيرا يعينكم ويأخذ بثأركم. قال قتادة: فى تفسيرها أي لا نخاف أحدا يتبعنا بشىء مما فعلنا. يريد: إنكم لا تجدون ثائرا يطلبنا بما فعلنا، انتصارا منا، أو دركا للثأر من جهتنا. وفى معنى الآية قوله: «فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها» . وفى الآية وعيد أيما وعيد فكأنه قيل: ننتقم منكم من غير أن يكون لكم نصير يدفع عنكم شديد بأسنا. (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا) أي ولقد كرمنا بنى آدم بحسن الصورة واعتدال القامة والعقل، فاهتدى إلى الصناعات ومعرفة اللغات، وحسن التفكير فى وسائل المعاش، والتسلط على ما فى الأرض، وتسخير ما فى العالم العلوي والسفلى، وحملناهم على الدواب والقطر والطائرات والمطاود (واحدها منطاد) والسفن، ورزقناهم من الأغذية النباتية والحيوانية، وفضلناهم على كثير من الخلق بالغلبة والشرف والكرامة، فعليهم

[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 إلى 77]

ألا يشركوا بربهم شيئا، ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره من الأصنام والأوثان. والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام. والخلاصة- إن فى الآية حثا للإنسان على الشكر، وألا يشرك بربه أحدا، لأنه سخّر له ما فى البر والبحر، وكلأه بحسن رعايته، وهداه إلى صنعة الفلك لتجرى فى البحر، ورزقه من الطيبات، وفضله على كثير من المخلوقات. [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 77] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) تفسير المفردات إمامهم: هو كتابهم فهو كقوله «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» والفتيل: الخيط المستطيل فى شقّ النواة، وبه يضرب المثل فى الشيء الحقير التافه، ومثله النقير والقطمير، أعمى: أي أعمى البصيرة عن حجة الله وبيناته، والركون إلى الشيء: الميل إلى ركن منه، ضعف الحياة: أي عذابا مضاعفا فى الحياة الدنيا، وضعف الممات: أي

المعنى الجملي

عذابا مضاعفا فى الممات فى القبر وبعد البعث، ونصيرا: أي معينا يدفع عنك العذاب، لا يلبثون: أي لا يبقون، خلافك: أي بعدك، سنة من قد أرسلنا: أي سنتنا بك سنة الرسل قبلك، تحويلا: أي تغييرا المعنى الجملي بعد أن ذكر جل ثناؤه أحوال بنى آدم فى الدنيا، وذكر أنه أكرمهم على كثير من خلقه، وفضلهم عليهم تفضيلا- فصّل فى هذه الآيات تفاوت أحوالهم فى الآخرة مع شرح أحوال السعداء، ثم أردفه ما يجرى مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال، والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبيس، ثم قفى على ذلك ببيان أن سنته قد جرت بأن الأمم التي تلجىء رسلها إلى الخروج من أرضها لا بد أن يصيبها الوبال والنكال. الإيضاح (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي اذكر لهم ذلك اليوم، يوم ندعو كل أناس بكتابهم الذي فيه أعمالهم التي قدّموها، ولا ذكر للأنساب حينئذ لأنها مقطوعة، فلا يقال يا ابن فلان، وإنما يقال يا صاحب كذا كما قال تعالى «فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون» . والخلاصة: إن المعوّل عليه يومئذ الأعمال والأخلاق، والآراء والعقائد النفسية التي تغرس فى النفوس لا الأنساب، لأن الأولى باقية والثانية فانية. (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي فمن أعطى كتاب عمله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم مبتهجين فرحين بما فيه من العمل الصالح. ونحو الآية قوله «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» . (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا ينقصون شيئا من أجور أعمالهم، وقد ثبت

فى علم الكيمياء أن وزن الذرات التي تدخل فى كل جسم بنسب معينة، فلو أن ذرة واحدة فى عنصر من العناصر الداخلة فى تركيب أي جسم من النبات أو الحيوان أو الجماد نقصت عن النسبة المقدرة لتكوينه لم يتكون ذلك المخلوق. وخالق الدنيا هو خالق الآخرة، فالظلم مستحيل هناك كما استحال هنا فى نظم الطبيعة، فما أجلّ قدرة الله وما أعظم حكمته فى خلقه!. (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي ومن كان فى دار الدنيا أعمى القلب لا يبصر سبل الرشد، ولا يتأمل حجج الله وبيناته التي وضعها فى صحيفة الكون وأمر بالتأمل فيها- فهو فى الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضل سبيلا منه فى الدنيا، لأن الروح الباقي بعد الموت هو الروح الذي كان فى هذه الحياة الدنيا، وقد خرج من الجسم وكأنه ولد منه كما تلد المرأة الصبى، وكما يثمر النخل الثمر، والأشجار الفواكه، وما الثمر والفواكه إلا ما كان من طباع الشجرة، فهكذا الروح الباقي هو هذا الروح نفسه قد خرج بجميع صفاته وأخلاقه وأعماله، فهو ينظر إلى نفسه وينفر أو ينشرح بحسب ما يرى، وما الثمر إلا بحسب الشجر، فإذا كان هنا ساهيا لا هيا فهناك يكون أكثر سهوا ولهوا وأبعد مدى فى الضلال، لأن آلات العلم والعمل قد عطّلت، وبقي فيه مناقبه ومثالبه، ولا قدرة على الزيادة فى الأولى ولا النقص فى الثانية. وبعد أن ذكر سبحانه درجات الخلق فى الآخرة وشرح أحوال السعداء، أردفه بتحذيرهم من وساوس أرباب الضلال والخديعة بمكرهم فقال: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي وإن المشركين قاربوا بخداعهم أن يوقعوك فى الفتنة بصرفك عما أوحيناه إليك من الأحكام، لتتقوّل علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك. أخرج ابن اسحق وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس «أن أمية بن حنف وأبا جهل ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا تعال فتمسّح بآلهتنا، وندخا

معك فى دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشتد عليه فراق قومه، ويجب إسلامهم، فرقّ لهم، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله نصيرا. وعن سعيد بن جبير قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلّم يستلم الحجر الأسود فى طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا فحدّث نفسه وقال: ما على أن ألمّ بها بعد أن يدعونى أستلم الحجر والله يعلم إنى لها كاره، فأبى الله ذلك، وأنزل عليه هذه الآية» . (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) أي ولو اتبعت ما يريدون لا تخذوك خليلا ووليّا لهم، وخرجت من ولايتي. (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) أي ولولا تثبيتنا إياك، وعصمتك عما دعوك إليه لقاربت أن تميل إلى ما يرومون. وخلاصة ذلك- إنك كنت على أهبة الركون إليهم، لا لضعف منك، بل لشدة مبالغتهم فى التحيل والخداع، ولكن عنايتنا بك منعتك أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم. وفى هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلّم لم يهمّ بإجابتهم ولم يقرب من ذلك. ثم توعده على ذلك أشد الوعيد فقال: (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي ولو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات: أي ضاعفنا لك العذاب فى الدنيا والآخرة، فهو صلى الله عليه وسلّم لو ركن إليهم يكون عذابه ضعف عذاب غيره، لأن الذنب من العظيم يكون عقابه أعظم، ومن ثم يعاقب العلماء على زلاتهم أشد من عقاب العامة لأنهم يتبعونهم. ونظير ذلك من وجه ما جاء فى نسائه صلى الله عليه وسلّم من قوله «يا نساء النبىّ من يأت منكنّ بفاحشة مبينّة يضاعف لها العذاب ضعفين» . وخلاصة ذلك- إنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك، وعقدت على

الركون همّك، لا ستحققت تضعيف العذاب عليك فى الدنيا والآخرة، ولصار عذابك مثلى عذاب المشرك فى الدنيا ومثلى عذابه فى الآخرة. وقد ذكروا فى حكمة هذا- أن الخطير إذا ارتكب جرما وخطا خطيئة يكون سببا فى ارتكاب غيره مثله والاحتجاج به، فكأنه سن ذلك، وقد جاء فى الأثر- «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) أي ثم لا تجد من يدفع العذاب أو يرفعه عنك. روى عن قتادة أنه قال: «لما نزل قوله: وإن كادوا ليفتنونك إلخ قال صلى الله عليه وسلّم: اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» فينبغى للمؤمن أن يتدبّرها حين تلاوتها، ويستشعر الخشية، ويستمسك بأهداب دينه، ويقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم «اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» . (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) أي ولقد كاد أهل مكة يزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم من الأرض التي أنت فيها ليخرجوك منها، بما فعلوه من حصرك والتضييق عليك وقد وقع ذلك بعد نزول الآية وصار ذلك سببا لخروجه صلى الله عليه وسلّم. (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولو استفزوك فخرجت لا يبقون بعدك إلا زمانا قليلا. وفى هذا وعيد لهم بإهلاكهم بعد خروجه بقليل، وقد تحقق ذلك بإفناء صناديد قريش فى وقعة بدر لثمانية عشر شهرا من ذلك التاريخ. (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) أي هكذا عادتنا فى الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم أن يأتيهم العذاب، ولولا أنه صلى الله عليه وسلّم رسول الرحمة لجاءهم من النقم ما لا قبل لهم به، ومن ثم قال تعالى: «وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم» الآية.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 إلى 84]

(وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا) أي إن ما أجرى الله به العادة لا يتسنى لأحد سواه أن يغيّره ولا أن يحوّله. [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 84] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) تفسير المفردات دلوك الشمس: زوالها عن دائرة نصف النهار، والغسق: شدة الظلمة، وقرآن الفجر: أي صلاة الصبح، كان مشهودا: أي تشهده شواهد القدرة، وبدائع الحكمة، وبهجة العالم العلوي والسفلى فمن ظلام حالك، أزاله ضوء ساطع، ونور باهر، ومن نوم وخمود، إلى يقظة وحركة، وسعى إلى الأرزاق، فسبحان الواحد الخلاق، وهل هناك منظر أجمل فى نظر الرائي من ظهور ذلك النور ينفلت من خلال الظلام الدامس يدفعه بقوة، ليضىء العالم بجماله، ويقظة النّوّام وحركتهم على ظهر البسيطة، وقد كانوا فى سكون، فهى حياة متجددة بعد موت وغيبوبة للحواس، والتهجد:

المعنى الجملي

الاستيقاظ من النوم للصلاة، نافلة: أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة عليك، والمقام المحمود: مقام الشفاعة العظمى حين فصل القضاء، حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلى الله عليه وسلّم، والسلطان: الحجة البينة، والنصير: الناصر والمعين، زهق: أي زال واضمحل، نأى بجانبه: أي لوى عطفه عن الطاعة وولاها ظهره، وشاكلته: أي مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله فى الهدى والضلال، ويئوسا: أي شديد اليأس والقنوط من رحمة الله، وأهدى سبيلا: أي أسدّ طريقا، وأقوم منهجا. المعنى الجملي بعد أن ذكر كيد الكفار واستفزازهم لرسوله صلى الله عليه وسلّم ليخرجوه من أرضه، وسلاه بما سلاه به- أمره بالإقبال على ربه بعبادته لينصره عليهم، ولا يبالى بسعيهم ولا يلتفت إليهم، فإنه سبحانه يدفع مكرهم وشرهم ويجعل يده فوق أيديهم، ودينه عاليا على أديانهم، ثم وعده بما يغبطه عليه الخلق أجمعون من المقام المحمود ثم بين أن ما أنزل عليه من كتاب ربه، فيه الشفاء للقلوب من الأدواء النفسية، والأمراض الاعتقادية، كما أنه يزيد الكافرين خسارة وضلالا، لأنه كلما نزلت عليه آية ازدادوا بها كفرا وعتوّا. الإيضاح (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي أدّ الصلاة المفروضة عليك بعد دلوك الشمس وزوالها إلى ظلمة الليل، ويشمل ذلك الصلوات الأربعة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاة الصبح، وقد بينت السنة المتواترة من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلّم تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه عنه خلفا عن سلف قرنا بعد قرن.

وقد تقدم فى سورة البقرة أن المراد بإقامة الصلاة أداؤها على الوجه الذي سنه الدين، والنّهج الذي شرطه، من توجيه القلب إلى مناجاة الرب، والخشية منه فى السر والعلن، مع اشتمالها على الشرائط والأركان التي أوضحها الأئمة المجتهدون والصلاة لبّ العبادة، لما فيها من مناجات الخالق، والإعراض عن كل ما سواه، ودعائه وحده، وهذا هو مخّ كل عبادة، وفى الحديث «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) أي ففى الفجر تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار وتشهده جميعا، ثم يصعد أولئك ويقيم هؤلاء، روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون فى صلاة الصبح، وفى صلاة العصر فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم، كيف تركتم عبادى؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلون» وروى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم فى قوله: « (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» وقد يكون المراد كما قال الرازي- إن الإنسان يشهد فيه آثار القدرة وبدائع الحكمة، فى السموات والأرض، فهناك الظلام الحالك الذي يزيله النور الساطع، وهناك يقظة النوم بعد الخمود والغيبوبة عن الحس إلى نحو ذلك من مظاهر القدرة فى الملك والملكوت، فكل العالم يقول بلسان حاله أو مقاله «سبّوح قدّوس، رب الملائكة والروح» . (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي واسهر بعض الليل وتهجد به، وهو أول أمر له صلى الله عليه وسلّم بقيام الليل زيادة على الصلوات المفروضة. روى مسلم عن أبى هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل: أىّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال صلاة الصبح» وقد ثبت في صحيح الأحاديث عن عائشة وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يتهجد بعد نومه. (نافِلَةً لَكَ) أي إنها مخصوصة بك وحدك دون الأمة، فهى فريضة عليك ومندوبة فى حق أمتك.

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) أي افعل هذا الذي أمرتك، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحمدك فيه كل الخلائق وخالقهم تبارك وتعالى. قال ابن جرير: قال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلّم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة فى ذلك اليوم. أخرج النسائي والحاكم وجماعة عن حذيفة رضى الله عنه قال: «يجمع الله الناس فى صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه، فينادى يا محمد، فيقول (لبّيك وسعديك، والخير فى يديك، والشر ليس إليك، والمهدىّ من هديت وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت) فهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله» اه. وروى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلّت له شفاعتى» . وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبى يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائى» الحديث. وسر هذا- أن الهداة فى الأرض، وهم الأنبياء ومن سلك نهجهم من الأئمة والعلماء، لا تشرق قلوبهم إلا بتوجههم إلى الله فى أوقات الصلوات، فإذا قاموا للخلق داعين أشرقت مرايا نفوسهم الصافية على من يدعونهم من العباد، فتضىء نفوسهم، فيستجيبون لدعوتهم، ويكون لهم المقام المحمود بينهم، والثناء العظيم الذي هم له أهل: إلى أنهم يحسون فى أنفسهم سرورا ولذة، وبهجة ورضا، فيحمدون مقامهم كما حمدهم الناس من حولهم، والله والملائكة من فوقهم.

لا جرم أن هذا المقام المحمود بالرشد والإرشاد يتبعه مقام الشفاعة، إذ لا شفاعة فى الآخرة إلا على مقدار ما أوتى المشفوع له فى الدنيا من علم وخلق، ولله فى الشفاعة ما يشاء من غفران وإعلاء درجات. (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي وقل داعيا رب أدخلنى فى كل مقام تريد إدخالى فيه فى الدنيا وفى الآخرة مدخلا صادقا أي يستحق الداخل فيه أن يقال له أنت صادق فى قولك، فعلك، وأخرجنى من كل ما تخرجنى منه مخرج صدق أي يستحق الخارج منه أن يقال له أنت صادق. وخلاصة ذلك- أدخلنى إدخالا مرضيا كإدخالى للمدينة مهاجرا، وإدخالى مكة فاتحا، وإدخالى فى القبر حين الموت، وأخرجنى إخراجا محفوظا بالكرامة والرضا، كإخراجى من مكة مهاجرا، وإخراجى من القبر للبعث. ثم سأل الله القوة بالحجة والتسلط على الأعداء فقال: (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي واجعل لى تسلطا بالحجة والملك، فأقنع المستمعين للدعوة بالحجة، ويكون للإسلام الغلبة بالاستيلاء على أهل الكفر. وقد أجاب الله دعاءه، وأعلمه أنه يعصمه من الناس كما قال: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» وقال: «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» وقال: «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» . ثم أمره أن يخبر بالإجابة بقوله: (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي وقل للمشركين مهددا لهم: إنه قد جاءهم الحق الذي لا مرية فيه، ولا قبل لهم به. وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع، واضمحل باطلهم وهلك، إذ لا ثبات له مع الحق كما قال: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» . (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي مضمحلا لا ثبات له فى كل آن. أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلّم

مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود فى يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدى الباطل وما يعيد. وفى رواية للطبرانى والبيهقي عن ابن عباس «أنه صلى الله عليه وسلّم جاء ومعه قضيب، فجعل يهوى به إلى كل صم منها فيخرّ لوجهه فيقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا- حتى مر عليها كلّها» . (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وننزل عليك أيها الرسول من القرآن ما به يستشفى من الجهل والضلالة، وتزول أمراض الشدة والنفاق، والزيغ والإلحاد، وهو أيضا رحمة للمؤمنين الذين يعملون بما فيه من الفرائض، ويحلّون حلاله، ويحرّمون حرامه، فيدخلون الجنة، وينجون من العذاب، وفى الخبر «من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله» . (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) لأنهم كلما سمعوا آية منه ازدادوا بعدا عن الإيمان وازدادوا كفرا بالله، لأنه قد طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون كما قال: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» وقال: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» . قال قتادة فى قوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي لا ينتفعون به، ولا يحفظونه، ولا يعونه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين اه.

[سورة الإسراء (17) : آية 85]

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا أنعمنا على الإنسان بمال وعافية، وفتح ونصر وفعل ما يريد- أعرض عن طاعتنا وعبادتنا، ونأى بجانبه، وهذا كقوله «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» وقوله: «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ» . (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) أي وإذا أصابته الجوائح، وانتابته النوائب، كان يئوسا قنوطا من حصول الخير بعد ذلك. ونحو الآية قوله «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ» وقوله: «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» . ولما ذكر حالى العمى والمهتدين ختم القول ببيان أن كلا يسير على مذهبه فقال: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي قل إن كلا من الشاكر والكافر يعمل على طريقته وحاله فى الهدى والضلال، وما طبع عليه من الخير والشر. (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا) أي فربكم أعلم من كل أحد، بمن منكم أوضح طريقا واتباعا للحق، فيؤتيه أجره موفورا، ومن هو أضل سبيلا فيعاقبه بما يستحق، لأنه يعلم ما طبع عليه الناس فى أصل الخلقة وما استعدوا له، وغيره يعلم أمورهم بالتجربة، وبمعنى الآية قوله «وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» ولا يخفى ما فى الآية من تهديد شديد ووعيد للمشركين. [سورة الإسراء (17) : آية 85] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فى المراد من الروح فى هذه الآية ثلاثة آراء: (1) القرآن وهو المناسب لما تقدمه من قوله: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ» ولما بعده من قوله «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» ولأنه سمى به فى مواضع متعددة من القرآن كقوله «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» وقوله «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ» ولأن به تحصل حياة الأرواح والعقول، إذ به تحصل معرفة الله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، ولا حياة للأرواح إلا بمثل هذه المعارف. (2) جبريل عليه السلام وهو قول الحسن وقتادة، وقد سمى جبريل فى مواضع عدة من القرآن كقوله «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» وقوله «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا» ويؤيد هذا أنه قال فى هذه الآية «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» وقال جبريل «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» فهم قد سألوا الرسول كيف جبريل فى نفسه وكيف يقوم بتبليغ الوحى. (3) الروح الذي يحيا به بدن الإنسان- وهذا قول الجمهور- ويكون ذكر الآية بين ما قبلها وما بعدها اعتراضا للدلالة على خسارة الظالمين وضلالهم، وأنهم مشتغلون عن تدّبر الكتاب والانتفاع به إلى التعنت بسؤالهم عما اقتضت الحكمة سد الطريق على معرفته، ويؤيد هذا ما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه وقالوا يا أبا القاسم حدّثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يوحى إليه، ثم قال: ويسألونك عن الروح الآية» . الإيضاح (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الذي يحيا به البدن، أقديم هو أم حادث؟

(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الأمر واحد الأمور: أي الروح شأن من شؤونه تعالى، حدث بتكوينه وإبداعه من غير مادة، وقد استأثر بعلمه، لا يعلمه إلا هو، لأنكم لا تعملون إلا ما تراه، حواسكم وتتصرف فيه عقولكم، ولا تعلمون من المادة إلا بعض أوصافها كالألوان والحركات للبصر، والأصوات للسمع، والطعوم للذوق، والمشمومات للشم، والحرارة والبرودة للمس، فلا يتسنى لكم إدراك ما هو غير مادى كالروح. وللعلماء فى حقيقة الروح أقوال كثيرة أولاها بالاعتبار قولان: (1) إن الروح جسم نورانى حىّ متحرك من العالم العلوي، مخالف بطبعه لهذا الجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء فى الورد، والدّهن فى الزيتون، والنار فى الفحم، لا يقبل التبدل والتفرق والتمزق، يفيد الجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا لقبول الفيض وعدم حدوث ما يمنع السريان، وإلا حدث الموت، واختاره الرازي وابن القيم فى كتاب الرّوح. (2) إنه ليس بجسم ولا جسمانى، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وإلى هذا ذهب حجة الإسلام الغزالي وأبو القاسم الراغب الأصفهانى. ثم أكد عدم علم أحد بها بقوله: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) أي وما أوتيتم من العلم إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحس. فعلومنا ومعارفنا النظرية طريق حصولها الحواس، ومن ثم قالوا: من فقد حسا فقد علما. روى أنه لما نزلت الآية قالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتى التوراة فقد أوتى خيرا كثيرا، فنزل قوله «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» . وخلاصة ذلك- إنه ما أطلعكم من علمه إلا على القليل، والذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر بعلمه تبارك وتعالى ولم يطلعكم عليه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 إلى 89]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 89] وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) تفسير المفردات وكيلا: أي ملتزما استرداده بعد الذهاب به، كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه، وظهيرا: أي معينا فى تحقيق ما يتوخّونه من الإتيان بمثله، وصرفنا: كررنا وردّدنا، والكفور: الجحود. المعنى الجملي بعد أن امتن سبحانه على نبيه بما أنزل عليه من الكتاب، وذكر أنه شفاء للناس، وأنه ثبّته عليه حين كادوا يفتنونه عنه، ثم أردفه بمسألة الروح اعتراضا، لأن اليهود والمشركين اشتغلوا بها عن تدبر الكتاب والانتفاع به، وسألوا تعنتا عن شىء لم يأذن الله بالعلم به لعباده- امتن عليه ببقاء ذلك الكتاب وحذّره من فتنة الضالين، وإرجاف المرجفين، وهو المعصوم من الفتنة، فإنه لو شاء لأذهب ما بقلبه منه ولكن رحمة بالناس تركه فى الصدور. وفى هذا تحذير عظيم للهداة والعلماء وهم غير معصومين من الفتنة، بأن يباعد بينهم وبين هدى الدين بمظاهرتهم للرؤساء والعامة، وتركهم العمل به اتباعا لأهوائهم، واستبقاء لودهم، وحفظا لزعامتهم على الناس. ثم ذكر أن القرآن وحي يوحى فلا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض معينا، وقد اشتمل على الحكم والأحكام والآداب التي يحتاج إليها البشر فى معاشهم ومعادهم، وكثير من الناس جحدوا فضله عتوا وكبرا.

الإيضاح

الإيضاح لما ذكر سبحانه أنه ما آتاهم من العلم إلا قليلا، بين أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل فقال: (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي والله لئن شئنا لنمحونّ القرآن من الصدور والمصاحف ولا نترك له أثرا، وتصيرنّ كما كنت لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان. أخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي فى جماعة آخرين، عن ابن مسعود قال: «إن هذا القرآن سيرفع، قيل كيف يرفع وقد أثبته الله فى قلوبنا وأثبتناه فى المصاحف؟ قال يسرى عليه فى ليلة واحدة فلا تترك منه آية فى قلب ولا مصحف إلا رفعت، فتصبحون وليس فيكم منه شىء ثم قرأ هذه الآية» . وعنه أنه قال: ذهاب القرآن رفعه من صدور قارئيه. (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا) أي ثم لا تجد ناصرا ينصرك، فيحول بيننا وبين ما نريد بك، ولا قيّما لك يمنعنا من فعل ذلك بك. (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به، وفى هذا امتنان من الله ببقاء القرآن. قال الرازي إنه تعالى امتن على جميع العلماء بنوعين من المنة، أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليهم. ثانيهما: إبقاء حفظه (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) إذ أرسلك للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل عليك الكتاب، وأبقاه فى حفظك ومصاحفك، وفى حفظ أتباعك ومصاحفهم، وصيّرك سيد ولد آدم، وختم بك النبيين، وأعطاك المقام المحمود. ثم نبه إلى شرف القرآن العظيم وكبير خطره فقال: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي قل لهم متحديا: والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله بلاغة وحسن معنى وتصرفا وأحكاما ونحو ذلك، لا يأتون بمثله وفيهم العرب الفصحاء وأرباب البيان، ولو تعاونوا وتظاهروا،

[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 إلى 100]

فإن هذا غير ميسور لهم، فكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل؟ ثم ذكر بعض محاسن هذا القرآن فقال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد رددنا القول فيه بوجوه مختلفة، وكررنا الآيات والعبر، والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي، وأقاصيص الأولين، والجنة والنار، ليدبّروا آياته، ويتعظوا بها. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي فأبى أكثر الناس إلا الجحود والإنكار، والثبات على الكفر، والإعراض عن الحق. ولما تم الإقناع بالحجة وقطعت ألسنتهم وأفحموا ولم يجدوا وسيلة للرد، أرادوا المراوغة باقتراح الآيات وذكروا من ذلك ستة أنواع ذكرها سبحانه بقوله: [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 100] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الينبوع: العين التي لا ينضب ماؤها، جنة: أي بستان تستر أشجاره ما تحتها من الأرض، كسفا: واحدها كسفة كقطع وقطعة لفظا ومعنى، وقبيلا: أي مقابلا كالعشير بمعنى المعاشر والمراد رؤيتهم عيانا، والزخرف: هنا الذهب، وأصله الزينة، وأجملها ما كان بالذهب، ترقى: أي تصعد، مطمئنين: أي ساكنين مقيمين فيها، وخبت: أي سكن لهبها، والسعير: اللهب، وكفورا أي جحودا للحق، خشية الإنفاق: أي خوف الفقر، والقتور: الشديد البخل. المعنى الجملي بعد أن أقام سبحانه الدليل على إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا على أمرهم- أخذوا يراوغون ويقترحون الآيات، ويتعثرون فى أذيال الحيرة، فطلبوا آية من آيات ست، فإن جاءهم بآية منها، آمنوا به، وصدقوا برسالته.

روى عن ابن عباس «أن أشراف مكة أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهم جلوس عند الكعبة، فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيّقة، فسيّر جبالها لننتفع بأرضها، وفجرّ لنا فيها نهرا وعيونا نزرع فيها، فقال لا أقدر عليه، فقال قائل: أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، فقال لا أقدر عليه، فقيل أو يكون لك بيت من زخرف (ذهب) فيغنيك عنا، فقال لا أقدر عليه، فقيل له أما تستطيع أن تأتى قومك بما يسألونك؟ فقال لا أستطيع، قالوا إن كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر، فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا بالعذاب، فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا والذي يحلف به، لا أومن بك حتى تشدّ سلما فتصعد فيه ونحن ننظر إليك، فتأتى بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة، ثم بعد ذلك لا أدرى أنؤمن بك أم لا؟. فأمره الله بأن يرد عليهم بأن اقتراح الآيات ليس من وظيفة الرسل، وإنما وظيفتهم البلاغ للناس. ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهى استبعادهم أن يرسل الله بشرا رسولا، فأجابهم بأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن تكون رسلهم من الملائكة، لأن الجنس أميل إلى جنسه. ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلّم على ما يلاقى من قومه، بأن الهداية والإيمان بيد الله ولا قدرة له على شىء من ذلك، ومن يظلل الله فلا هادى له، وسيلقون جزاءهم نار جهنم بما كسبت أيديهم ودسّوا به أنفسهم من الكفر والفجور والمعاصي، وإنكار البعث والحساب، وهم يعلمون أن الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يعيدهم مرة أخرى ثم بين أنه لو أجابهم إلى ما طلبوا من إجراء الأنهار والعيون وتكثير الأموال واتساع المعيشة لما كان هناك من فائدة، ولما أوصلوا النفع إلى أحد، فالإنسان بطبعه شحيح كزّ بخيل.

الإيضاح

الإيضاح علمت مما سلف أنهم طلبوا منه آية من ست، وها هى ذى: (1) (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أي قال رؤساء مكة كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبى سفيان والنضر بن الحرث قول المبهوت المحجوج المتحير: لن نصدّقك حتى تستنبط لنا عينا من أرضنا تدفق بالماء أو تفور، وذلك سهل يسير على الله لو شاء فعله وأجابهم إلى ما يطلبون، ولكن الله علم أنهم لا يهتدون كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» وقال: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» الآية. (2) (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) أي أو يكون لك بستان فيه نخيل وعنب تتفجر الأنهار خلاله تفجيرا لسقيه. (3) (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) تقول العرب: جاءنا بثريد كسف أي قطع من الخبز: أي أو تسقط علينا جرم السماء إسقاطا مماثلا لما زعمت فى قولك: «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» . وخلاصة ذلك- أو تسقط السماء علينا متقطعة قطعا قطعا، ونحو الآية قوله: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا: «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . (4) (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا) أي أو تأتى بالله والملائكة نقابلهم معاينة ومواجهة قاله مجاهد وعطاء، ونحو الآية قولهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» . (5) (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي أو يكون لك بيت من ذهب، روى ذلك عن ابن عباس وقتادة وغيرهما.

(6) (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) أي أو تصعد فى سلم إلى السماء ونحن ننظر إليك، ولن نصدّقك من أجل رقيك وحده، بل لا بد أن تنزل علينا كتابا نقرؤه بلغتنا على نهج كلامنا، وفيه تصديقك. (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا) أي قل لهم متعجّبا من مقترحاتهم، ومنزّها ربك من أن يقترح عليه أحد أو يشاركه فى القدرة: ما أنا إلا كسائر الرسل، وليس للرسل أن يأتوا إلا بما يظهره الله على أيديهم بحسب ما تقتضيه المصلحة، من غير تفويض إليهم فيه، ولا تحكم منهم عليه. وخلاصة ذلك- سبحانه أن يتقدم أحد بين يديه فى أمر من أمور سلطانه وملكوته بل هو الفعال لما يشاء، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم، وإن شاء لم يجبكم، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم، وقد فعلت ذلك، وأمركم فيما سألتم إلى الله عزّ وجلّ. ثم أعقب ذلك بشبهة أخرى وهى استبعادهم أن يكون من البشر رسول فقال: (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟) أي وما منع مشركى قريش وهم من حكيت أباطيلهم- من الإيمان بك حين مجىء الوحى المقرون بالمعجزات التي تستدعى الإيمان بنبوتك وبما نزل عليك من الكتاب إلا قولهم: أبعث الله بشرا رسولا، إنكارا منهم أن يكون الرسول من جنس البشر، واعتقادا منهم بأن الله لو بعث رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون من الملائكة. ونحو الآية قوله: «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ» وقوله: «ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟» الآية. وقال فرعون وملؤه: «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟» وكذلك قالت الأمم لرسلهم: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» .

فأجابهم الله عن هذه الشبهة ذاكرا وجه الحق منبّها إلى المصلحة بقوله: (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا) أي لو وجد فى الأرض ملائكة يمشون كما يمشى البشر، ويقيمون فيها كما يقيمون، ويسهل الاجتماع بهم، وتتلقى الشرائع منهم- لنزلنا عليهم من السماء رسلا من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم، لبعد ما بين الملك وبينهم، ومن ثم لم نبعث ملائكة إليهم، بل بعثنا خواصّ البشر، لأن الله قد وهبهم نفوسا زكية، وأيدهم بأرواح قدسية، وجعل لهم ناحية ملكية، بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة، وناحية بشرية، بها يبلغون رسالات ربهم إلى عباده. وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة، وجليل تلك النعمة بقوله: «لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم» وقوله: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» وقوله: «كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيّكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويعلّمكم مالم تكونوا تعلمون» . وإجمال القول فى ذلك- إنه لو جعل الرسل ملائكة لما استطاع الناس التخاطب معهم، ولما تمكّنوا من الفهم منهم، فلزم أن يجعلوا بشرا حتى يستطيعوا أداء الرسالة كما قال تعالى جدّه: «ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون» . وقد ثبت أن جبريل عليه السلام جاء فى صورة دحية الكلبي مرارا عدة، فقد صح أن أعرابيا جاء وعليه وعثاء السفر فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الإسلام والإيمان، فأجابه عليه السلام بما أجابه ثم انصرف، ولم يعرفه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم فقال عليه السلام: هذا جبريل جاء يعلّمكم دينكم.

ثم أجابهم سبحانه بجواب آخر بقوله: (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي قل لهم: إن الله لما أظهر المعجزة وفق دعواى كان ذلك شهادة منه على صدقى، ومن شهد له الله فهو صادق، فادّعاؤكم أن الرسول يجب أن يكون ملكا تحكّم منكم وتعنت. وخلاصة ذلك- إن الله شاهد علىّ وعليكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا عليه لا نتقم منى أشد الانتقام كما قال سبحانه: «ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين» . ثم ذكر سبحانه ما هو كالتهديد والوعيد بقوله: (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي إنه محيط بأحوال عباده الظاهر منها والباطن، وأعلم بمن يستحق الإحسان والرعاية، ومن هو أهل للشقاء والضلال. وفى هذا إيماء إلى أنه ما دعاهم إلى إنكار نبوته صلى الله عليه وسلّم إلا الحسد وحب الرياسة والتكبر عن قبول الحق، كما أن فيه تسلية له صلى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من الإصرار والعناد والإمعان فى إيذائه. ثم أخبر سبحانه بأنه لا معقّب لحكمه، ولا سلطان لأحد من خلقه فى شىء فقال: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) أي ومن يهد الله للإيمان به وتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك، فهو المهتدى إلى الحق، المصيب سبيل الرشد، ومن يضلله لسوء اختياره وتدسيته نفسه، وركوبه رأسه فى الغواية والعصيان كهؤلاء المعاندين، فلن تجد لهم أنصارا ينصرونهم من دونه يهدونهم إلى الحق، ويمنعون عنهم العذاب الذي يقتضيه ضلالهم. (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) أي ونجمعهم فى موقف الحساب بعد تفرقهم فى القبور- عميا وبكما وصما كما كانوا فى الدنيا، لا يستبصرون

ولا ينطقون بالحق ويتصامون عن استماعه، فهم فى الآخرة لا يبصرون ما تقر به أعينهم، ولا يسمعون ما يلذّ لمسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم كما قال: «ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا» . روى البخاري ومسلم عن أنس رضى الله عنه أنه قال: «قيل يا رسول الله، كيف يمشى الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم» . وروى الترمذي: «إن الناس يكونون ثلاثة أصناف فى الحشر: مشاة، وركبانا، وعلى وجوههم» . وإنا نرى فى الدنيا من الحيوان ما هو طائر، ومنه ما هو ماش، ومنه ما هو زاحف كالحيات وهوامّ الأرض. والقسم الأخير من الأقسام الثلاثة فى الحديث أقرب إلى هيئة الزواحف بحيث يبقى الوجه فى الأرض وتحيط به زوائد كالأرجل الصغيرة الحيوانية، وهو يهيم على وجهه. والخلاصة- إنهم يبعثون فى أقبح صورة، وأشنع منظر، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم كما يفعل فى الدنيا بمن يبالغ فى إهانته وتعذيبه، ويؤيده قوله تعالى: «يوم يسبحون فى النّار على وجوههم» . (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي ثم بعد أن يتم حسابهم يكون منقلبهم ومصيرهم جهنم، كلما سكن لهيبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به وتحرقه، زدناها لهبا وتوقدا بأن نعيدهم إلى ما كانوا عليه فتستعر وتتوقد. أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: إن الكفار وقود النار، فإذا أحرقتهم ولم يبق شىء صارت جمرا تتوهّج، فذلك خبوها، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم اه.

وكأن هذا عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء بتكرارها مرة بعد أخرى، ليروها عيانا، حيث أنكروها برهانا. ثم بين علة تعذيبهم، لعله يرجع منهم من قضى بسعادته فقال: (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أي ذلك العذاب الذي جاز يناهم به من البعث على العمى والبكم والصّمم هو جزاؤهم الذي يستحقونه على تكذيبهم بالبينات والحجج التي جاءتهم، وعلى استبعادهم وقوع البعث، وقولهم: أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق فى أرجاء الأرض نعاد مرة أخرى- استنكارا منهم وتعجبا من أن يحصل ذلك. ثم استدل على البعث فقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي ألم يعلموا ويتدبروا أن الذي خلق السموات والأرض ابتداعا على غير مثال سابق وأقامهما بقدرته- قادر على أن يخلق أمثالهم من الخلق بعد فنائهم، وكيف لا يقدر على إعادتهم، والإعادة أهون من الابتداء؟. وبعد أن أثبت أن البعث أمر ممكن الوجود فى نفسه، أردف ذلك أن لحصوله وقتا معلوما عنده فقال. (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ) أي وجعل لإعادتهم وقيامهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها، لا يعلمها إلا هو كما قال: «وما نؤخّره إلّا لأجل معدود» . وخلاصة ذلك- إنهم قد علموا بالبرهان العقلي أن الله قادر على إعادتهم، وقد جعل لميقات إعادتهم أجلا وهو يوم القيامة الذي لا شك فيه، فلا وجه لإنكاره. (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي وبعد إقامة الحجة عليهم أبوا إلا تماديا فى ضلالهم وكفرهم مع وضوح الحجة وظهور المحجّة.

ثم بين السبب فى عدم إجابتهم إلى ما طلبوا من الجنات والعيون بأنهم لو ملكوا خزائن الدنيا لبقوا على شحّهم فقال: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) المراد من الإنفاق هنا الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، وروى نحوه عن قتادة وإليه ذهب الراغب فقال: يقال أنفق فلان إذا افتقر، وقال أبو عبيدة: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى، أي قل لهم أيها الرسول: لو أنكم تملكون التصرّف فى خزائن الله لأمسكتم خشية الفقر: أي خشية أن تزول وتذهب مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا. وقصارى ذلك- إنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على والشح والبخل، وفى هذا إيماء إلى أن الله لا يجيبكم إلى ما طلبتم من نبيه صلى الله عليه وسلّم من بساتين وعيون تنبع، لا بخلا منه، ولكن اقتضت الحكمة أن يكون نظام الدنيا هكذا، ولا رقىّ للإنسان إلا على هذا المنوال، فهو يوسّع الرزق على قوم ويضيّقه على آخرين على مقتضى الحكمة والمصلحة، ومن ثم لم ينزل ما اقترحتموه. (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي وكان الإنسان بخيلا منوعا بطبعه كما قال «أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون النّاس نقيرا» أي لو أن لهم نصيبا فى ملك الله لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير. وقد روى البخاري ومسلم «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء (أخذ) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما فى يمينه» . وإجمال المعنى- إن الله لم يجب محمدا إلى ما طلبتم، لا هوانا لنبيه، ولا لأنه ليس بنبي، ولا بخلا منه (حاشاه) بل لحكمة منه، فر بما كانت وفرة العطاء إذا نزلت على غير وجهها مصايب على الناس، فأما أنتم فمنعكم يجرى على طريق البخل، فلو سلم لكم السموات والأرض وادّارستموها لم تفهموا إلا الإمساك، ومن ثم لا يسلمكم مفاتيح خزائنه، لئلا تمسكوا المال لأنفسكم ولا تنفعوا خلقه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 إلى 104]

[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) تفسير المفردات مسحورا: أي مخبول العقل، بصائر: أي حججا وبينات واحدها بصيرة أي مبصرة بينة، مثبورا: أي هالكا كما روى عن الحسن ومجاهد، قال الزجاج: يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك، ويقال فلان يدعو بالويل والثبور حين تصيبه المصيبة، كما قال تعالى: «دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا» أن يستفزهم: أي أن يخرجهم بالقتل أو أن يزيلهم عنها، واللفيف: الجمع العظيم من أخلاط شتى، من شريف ودنىء، ومطيع وعاص، وقوى وضعيف، وكل شىء خلطته بغيره فقد لففته. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف ما اقترحوه من الآيات وأبان لهم أن الرسل ليس من شأنهم أن يقترحوا على الله شيئا- ذكر هنا أنه قد أنزل على موسى مثل ما اقترحتم وأعظم منه، ولم تجد فرعون وقومه شيئا، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا فائدة لكم فيما اقترحتموه من الآيات، وكفاكم الآيات العلمية التي أنزلها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلّم، فإن لم تؤمنوا بعد ظهور تلك الحجج أهلككم كما أهلك

الإيضاح

فرعون بالغرق، وفى ذلك تسلية لرسوله بذكر ما جرى لموسى مع فرعون، وما جوزى به فرعون وقومه. الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي ولقد أعطينا موسى تسع آيات واضحات الدلالة على صحة نبوته وصدقه حين أرسل إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها كما قال تعالى (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) وقال (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) . وقد ذكر سبحانه فى كتابه العزيز ست عشرة معجزة لموسى عليه السلام. (1) إنه أزال العقدة من لسانه، أي أذهب العجمة عن لسانه وصار فضيحا. (2) انقلاب العصا حية. (3) تلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها. (4) اليد البيضاء. (5، 6، 7، 8، 9) الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم. (10) شق البحر. (11) انفلاق الحجر فى قوله (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) . (12) إظلال الجبل فى قوله (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) . (13) إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه. (14، 15) الجدب ونقص الثمرات فى قوله (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) . (16) الطمس على أموالهم من الحنطة والدقيق والأطعمة. وقد اختلفوا فى المراد من هذه التسع. أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور

وابن جرير وابن المنذر من طرق عدة عن ابن عباس إنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنون ونقص الثمرات. وقيل المراد بالآيات الأحكام، فقد أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه «أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله، فأتياه صلى الله عليه وسلّم فسألاه عن قول الله تعالى «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات» فقال عليه الصلاة والسلام: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا مخصنة، وأنتم يا يهود عليكم خاصة ألا تعدوا فى السبت، فقبّلا يده ورجله وقالا نشهد إنك نبى، قال فما يمنعكا أن تسلما؟ قالا إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبى، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود» . قال الشهاب الخفاجي: وهذا هو التفسير الذي عليه المعوّل فى الآية. ثم خاطب نبيه فقال: (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فاسأل بنى إسرائيل الذين كانوا فى عصرك وآمنوا بك كعبد الله بن سلام وأصحابه سؤال استشهاد، لتزيد طمأنينتك ويقينك، ولتعلم أن ذلك محقق ثابت عندهم فى كتابهم. (إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي فاسألهم يخبروك، لأنه جاءهم أي جاء آباءهم بهذه الآيات وأبلغها فرعون، فقال له فرعون: إنى لأظنك يا موسى مخلّط العقل، ومن ثم ادّعيت ما ادعيت، مما لا يقول مثله كامل العقل، حصيف الرأى. (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أي قال موسى لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل الله هذه الآيات التسع التي أريتكها إلا حجة لى على حقيقة ما أدعوك إليه، وشاهدة لى على صدقى وصحة قولى إنى رسول الله، بعثني بها رب السموات والأرض، لأنه هو الذي يقدر عليها وعلى أمثالها، وهى بصائر لمن

[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 إلى 111]

استبصر بها، وهدى لمن اهتدى بها، يعرف من رآها أن من جاء بها فهو محق، وأنها من عند الله لا من عند غيره، إذ كانت معجزة لا يقدر عليها إلا رب السموات والأرض (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي وإنى لأظنك يا فرعون مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر. (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) أي فأراد فرعون أن يخرج موسى وبنى إسرائيل من أرض مصر بقتلهم واستئصالهم بحيث لا يبقى منهم أحدا، فعكسنا عليه مكره وأغرقناه فى البحر ومن معه من جنده جميعا، فأخرجناه من أرضه أفظع إخراج. (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي ونجينا موسى وبنى إسرائيل وقلنا لهم من بعد هلاك فرعون: اسكنوا أرض الشام وهى الأرض المقدسة التي وعدتهم بها. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي فإذا جاءت الساعة الآخرة حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم، ونميز سعداءكم من أشقيائكم. [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 111] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الحق: هو الثابت الذي لا يزول، والقرآن مشتمل على كثير من ذلك كدلائل التوحيد وتعظيم الملائكة ونبوة الأنبياء وإثبات البعث والقيامة، وفرقناه: أي أنزلناه مفرقا منجما، والمكث (بالضم والفتح) : التؤدة والتأنى، والخرور: السقوط بسرعة، والأذقان واحدها ذقن: وهو مجتمع اللحيين، ادعوا الله أو ادعوا الرحمن: أي سموه بهذين الاسمين، خفت الرجل بقراءته: إذا لم يبينها برفع الصوت، وتخافت: القوم تسارّوا فيما بينهم. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أن القرآن معجز دالّ على صدق الرسول بقوله «قل لئن اجتمعت الإنس والجن» الآية، ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز، بل طلبوا معجزات أخرى، وأجابهم ربهم بأنه لا حاجة إلى شىء سواه، وبأن موسى أتى فرعون وقومه بتسع آيات فجحدوا بها فأهلكوا، فلو أتاكم محمد صلى الله عليه وسلّم بتلك المعجزات التي اقترحتموها ثم كفرتم بها أنزل عليكم عذاب الاستئصال ولم يكن ذلك من الحكمة التي أرادها، لعلمه أن منكم من يؤمن ومنكم من لا يؤمن، ولكن سيظهر من نسله من يكون مؤمنا- عاد هنا إلى تعظيم حال القرآن وجلالة قدره، وبيان أنه هو الثابت الذي لا يزول، وأنه أنزله على نبيه مفرّقا ليسهل حفظه وتعرف دقائق أسراره، وأنكم سيان آمنتم به أولم تؤمنوا، فإن من قبلكم من أهل الكتاب إذا تلى

الإيضاح

عليهم خروا له سجّدا وبكيّا ثم أردف ذلك ببيان أنكم إن ناديتم الله أو ناديتم الرحمن فالأمران سواء ثم قفّى على ذلك بطلب التوسط فى القراءة فى الصلاة بين الجهر والخفوت، ثم أمر نبيه أن يقول حين الدعاء: الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا. أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: «صلى صلوات الله عليه بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى فقال فى دعائه: يا الله يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابىء، ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزل (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية. وعن الضحاك أنه قال: قال أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إنك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثر الله فى التوراة هذا الاسم فنزلت. الإيضاح (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي وأنزلنا عليك القرآن متضمنا للحق، ففيه أمر بالعدل والإنصاف ومكارم الأخلاق، ونهى عن الظلم والأفعال الذميمة، وذكر براهين الوحدانية وحاجة الناس إلى الرسل، لتبشيرهم وإنذارهم وحثهم على صالح الأعمال، انتظار ليوم الحساب والجزاء. (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي ونزل إليك محفوظا محروسا لم يشب بغيره، فلم يزد فيه ولم ينقص، وقد يكون المراد ونزل إليك مع الحق وهو شديد القوى الأمين المطاع فى الملأ الأعلى جبريل عليه السلام. وبعد أن مدح الكتاب مدح من أنزل عليه فقال: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي وما أرسلناك أيها الرسول إلى من أرسلناك إليهم من عبادنا إلا مبشرا بالجنة من أطاعنا فانتهى إلى أمرنا، ومنذرا لمن عصانا فخالف ذلك.

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) أي وآتيناك قرآنا فرقناه أي نزلناه مفرّقا منجّما، وقد بدىء بإنزاله ليلة القدر فى رمضان، ثم أنزل نجوما فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع. وسر نزوله هكذا بعضه إثر بعض أن تقرأه على الناس بتؤدة وتأنّ ليسهل عليهم حفظه ويكون ذلك أعون على تفهم معناه. أخرج البيهقي فى الشّعب عن عمر رضى الله عنه أنه قال: تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا، وكذلك أخرج ابن عساكر عن أبى سعيد الخدري، والمراد أن الغالب كذلك، فقد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه. وفائدة قوله: ونزلناه تنزيلا بعد قوله فرقناه- بيان أن ذلك التنزيل لمقتض وهو التنزيل بحسب الحوادث. ثم هددهم سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم بقوله: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي قل لهؤلاء الضالين القائلين لك: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا- آمنوا بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لم يأتوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا- أو لا تؤمنوا به، فإن إيمانكم به لن يزيد فى خزائن رحمة الله، ولا ترككم للايمان به ينقص ذلك. ثم علل عدم المبالاة بهم، واحتقار شأنهم، بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً. وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا) أي وإن تكفروا به فإن العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من قبل نزول القرآن، وعرفوا أن الله سيبعث نبيا- يخرون لله سجّدا، شكرا له على إنجاز وعده بإرسالك، حين يتلى عليهم هذا القرآن، ويقولون فى سجودهم، تنزه ربنا عن خلف الوعد إنه كان وعده آتيا لا محالة. والخلاصة- إنكم إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم، وفيه تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم وازدراء لشأنهم.

(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) أي ويخرّون للأذقان باكين من خشية الله إذا يتلى عليهم، ويزيدهم ما فيه من العبر والمواعظ خشوعا وخضوعا لأمره وطاعته. وقد جاء فى مدح البكاء من خشية الله أخبار كثيرة فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «عبنان لا تمسّنهما النار، عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس فى سبيل الله تعالى» . وأخرج مسلم والنسائي عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن فى الضرع، ولا اجتمع على عبد غبار فى سبيل الله ودخان جهنم» . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التميمي أنه قال إن من أوتى من العلم مالم يبكه لخليق أن قد أوتى من العلم مالا ينفعه، لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال (ويخرون للأذقان يبكون) . ثم رد على المشركين المنكرين إطلاق اسم الرحمن عليه عزّ وجلّ فقال: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك الذين أنكروا اسم الرحمن سمّوا الله أيها القوم أو سموا الرحمن، فبأى أسمائه جل جلاله تسمونه فهو حسن، لأن كل أسمائه حسنى، إذ فيها التعظيم والتقديس لأعظم موجود، وهو خالق السموات والأرض وهذان الاسمان منها. روى مكحول «أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقول فى سجوده: يا رحمن يا رحيم، فقال إنه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو اثنين فأنزل الله الآية» . ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بالتوسط فى القراءة، فلا يجهر بصوته ولا يخافت به فقال: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) أي ولا تجهر بقراءتك

فيسمع المشركون فيسبّوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، بل ابتغ طريقا بين الجهر والمخافتة. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: «نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلّم مختف بمكة (يصلى خفية) فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به» . وروى أن أبا بكر رضى الله عنه كان يخفت فى قراءته ويقول أناجى ربى وقد علم حاجتى، وعمر كان يجهر بها ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض قليلا. ولما أمر سبحانه رسوله ألا يناديه إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد بقوله: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) أي وقل لله ذى الجلال والكمال: لك الحمد والشكر على ما أنعمت على عبادك من واسع النعم. وقد وصف سبحانه نفسه بثلاث صفات: (1) إنه لم يتخذ ولدا، فإن من يتخذ الولد يمسك جميع النعم لولده، ولأن الولد يقوم مقام الوالد بعد انقضاء أجله وفنائه- تنزه ربنا عن ذلك- ومن كان كذلك لم يستطع الإنعام فى كل الحالات، فلا يستحق الحمد على الإطلاق. وفى هذا رد على اليهود الذين قالوا عزيز ابن الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولونه علوا كبيرا. (2) إنه ليس له شريك فى الملك، إذ لو كان له ذلك لم يعرف أيهما المستحق للحمد والشكر، ولكان عاجزا ذا حاجة إلى معونة غيره، ولم يكن منفردا بالملك والسلطان.

(3) إنه لم يكن له ولىّ من الذل أي لم يوال أحدا من أجل مذلة به يدفعها بموالاته. والخلاصة- إنه ليس له ولد يحبس نعمه عليه، وليس له شريك يقف أعماله فى الملك، ولا ناصر يدفع العدو المذلّ له، وإذا تنزه ربنا عن ذلك فقد أمن الناس نضوب موارده، وأصبحت أبوابه مفتّحة لكل قاصد، فلتغترف أيها العبد من مناهله، ولتعلم أنه لا يحابيك لأجل أهلك ولا نسلك ولا دينك، ولو كنت ابن نبى من الأنبياء أو عظيم من العظماء. (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي وعظّم ربك أيها الرسول بما أمرناك أن تعظمه به من قول أو فعل، وأطعه فيما أمرك به ونهاك عنه. وتكبيره تعالى وتنزيهه يكون: (1) بتكبيره فى ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غنى عن كل موجود. (2) بتكبيره فى صفاته باعتقاد أنه مستحق لكل صفات الكمال منزه عن صفات النقص. (3) بتكبيره فى أفعاله، فتعتقد أنه لا يجرى شىء فى ملكه إلا وفق حكمته وإرادته. (4) بتكبيره فى أحكامه، بأن تعتقد أنه ملك مطاع، له الأمر والنهى، والرفع والخفض، وأنه لا اعتراض لأحد عليه فى شىء من أحكامه، يعزّ من يشاء، ويذل من يشاء. (5) تكبيره فى أسمائه، فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى، ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة. روى أحمد فى مسنده عن معاذ الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول «آية العز (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية» وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله فى السراء والضراء» . وأخرج عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أبى أمية قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلم الغلام من بنى هاشم إذا أفصح، الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات» .

مجمل ما حوته السورة من الأغراض

مجمل ما حوته السورة من الأغراض (1) الإسراء من مكة إلى بيت المقدس. (2) تاريخ بنى إسرائيل فى حالى الارتقاء والانحطاط. (3) حكم وعظات للأمة الإسلامية يجب أن تراعيها حتى لا تذهب دولها كما ذهبت دولة بنى إسرائيل. (4) بيان أن كل ما فى السموات والأرض مسبّح لله. (5) الكلام فى البعث مع إقامة الأدلة على إمكانه. (6) الرد على المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة من الأوثان والأصنام. (7) الحكمة فى عدم إنزال الآيات التي التي اقترحوها على محمد صلى الله عليه وسلّم. (8) قصص سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس من ذلك. (9) تعداد بعض نعم الله على عباده. (10) طلب المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يوافقهم فى بعض معتقداتهم وإلحافهم فى ذلك. (11) أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بإقامة الصلاة والتهجد فى الليل. (12) بيان إعجاز القرآن وأن البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله. (13) قصص موسى مع فرعون. (14) الحكمة فى إنزال القرآن منجما. (15) تنزيه الله عن الولد والشريك والناصر والمعين.

سورة الكهف

سورة الكهف هى مكية كلها فى المشهور واختاره جمع من العلماء، وآيها مائة وإحدى عشرة. ومناسبتها ما قبلها من وجوه. (1) إن سورة الإسراء افتتحت بالتسبيح، وهذه بالتحميد، وهما مقترنان فى سائر الكلام فى نحو «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ» ونحو سبحان الله وبحمده. (2) تشابه ختام السالفة وافتتاح هذه، فإنّ كلا منهما حمد. (3) إنه ذكر فى السابقة قوله: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» والخطاب فيها لليهود، وذكر هنا قصة موسى نبىّ بنى إسرائيل مع الخضر عليهما السلام وهى تدل على كثرة معلومات الله التي لا تحصى، فكانت كالدليل على ما تقدم. (4) إنه جاء فى السورة السابقة: «فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا» ثم فصل ذلك هنا بقوله: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» إلى قوله: «وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً» . [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)

تفسير المفردات

تفسير المفردات العوج: (بالكسر والفتح) : الانحراف والميل عن الاستقامة، فلا خلل فى لفظه ولا فى معناه، قيما: أي معتدلا لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد، ولا تفريط فيه بإهمال ما تمس الحاجة إليه، والبأس: العذاب الشديد فى الآخرة، من لدنه: أي من عنده، كبرت: (بضم الباء) كلمة: أي ما أعظمها مقالة قيلت، وهذا أسلوب فى الكلام يدل على التعجب والاستغراب مما حدث من قول أو فعل، باخع: أي قاتل (منتحر) قاله ابن عباس وأنشد قول لبيد: لعلك يوما إن فقدت مزارها ... على بعده يوما لنفسك باخع على آثارهم: أي من بعدهم أي من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه، والحديث: هو القرآن، والأسف: المبالغة فى الحزن والغضب، وصعيدا: أي ترابا، وجرزا: أي لا نبات فيه. الإيضاح (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) حمد الله نفسه على إنزاله كتابه العزيز إلى رسوله صلى الله عليه وسلّم، لأنه أعظم نعمة أنزلها على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، وجعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم. وخلاصة ذلك- إنه تعالى أنزل الكتاب على عبده محمد صلى الله عليه وسلّم

مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدّق بعضا، وبعضه يشهد لبعض، ولا اعوجاج فيه، ولا ميل عن الحق. (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي ليخوّف الذين كفروا به عذابا شديدا صادرا من عنده أي نكالا فى الدنيا ونار جهنم فى الآخرة. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً. ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) أي ويبشر المصدقين الله ورسوله الذين يمتثلون أوامره ونواهيه- بأن لهم ثوابا جزيلا منه على إيمانهم به وعملهم الصالح فى الدنيا، وذلك الثواب الجزيل هو الجنة التي وعدها الله المتقين خالدين فيها أبدا لا ينتقلون منها ولا ينقلون. (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) أي وليحذّر من بين هؤلاء الكفار من قالوا هذه المقالة الشنعاء- إن الله اتخذ ولدا، وهؤلاء ثلاث طوائف. (1) المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله. (2) اليهود القائلون عزيز ابن الله. (3) النصارى القائلون المسيح ابن الله. وإنما خص هؤلاء مع دخولهم فى الإنذار السابق لفظاعة حالهم، وشناعة كفرهم وضلالهم. (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم باتخاذ الولد برهان، بل هو قول لم يصدر عن علم يؤيده، ولا عقل يظاهره. (وَلا لِآبائِهِمْ) أي وكذلك ليس لآبائهم الذين قالوا مثل هذه المقالة وهم القدوة لهم- به علم. (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي عظمت مقالتهم هذه فى الكفر، وليتهم اكتفوا بخطورها بالبال، وترددها فى الصدور، بل تلفظوا بها على مرأى من الناس ومسمع، وكثير مما يوسوس به الشيطان وتحدّث به النفس لا يتلفّظ به، بل يكتفى

بما يعتقده القلب، فكيف ساغ لهم أن يجرءوا على التلفظ بهذا المنكر الذي لا مستند له من عقل ولا نقل؟. ثم أكد هذا الإنكار وبين أنه كما لا علم لهم ولآبائهم به- لا علم لأحد به، لأنه لا وجود له، وما هو إلا محض اختلاق بقوله: (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي ما يقولون إلا قولا لا حقيقة له بحال. (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) لعل هنا للاستفهام الإنكارى المتضمن معنى النهى- أي لا تبخع نفسك من بعد توليهم عن الإيمان وإعراضهم عنه أسفا وحسرة عليهم. أي إنك قد اشتد وجدك عليهم، وبلغت حالا من الأسى والحسرة صرت فيها أشبه بحال من يحدّث نفسه أن يبخعها أسى وحسرة عليهم، وما كان من حقك أن تفعل ذلك، إن عليك إلا البلاغ، وليس عليك الهداية «ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدى من يشاء» . وقد جاء مثل هذا النهى فى آيات كثيرة كقوله «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وقوله «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» وقوله «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» . وخلاصة ذلك- أبلغهم رسالة ربك، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تذهب نفسك عليهم أسى وحسرة، فإنما أنت منذر، ولست عليهم بمسيطر، إن عليك إلا البلاغ ثم ذكر سبحانه سبب إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ بالبشارة والنذارة، وهو أنه تعالى جعل ما على الأرض زينة لها، ليختبر المحسن والمسيء، ويجازى كلا بما يستحق فقال: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي إنا جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات ومعادن زينة لها ولأهلها، لنختبر حالهم فى فهم

مقاصد تلك الزينة والاستدلال بها على وجود خالقها، والإخبات إليه، والطاعة له، فيما أمر به، والبعد عما نهى عنه، فتقوم عليهم الحجة، فمن اعتبر بتلك الزينة، وفهم حكمتها، حاز المثوبة، ومن اجترأ على مخالفة أمره، ولم يفهم أسرارها ومقاصدها، استحق العقوبة. وخلاصة ذلك- إنا جعلنا ما على الأرض زينة، لنعاملهم معاملة من يختبرون فنجازى المحسنين بالثواب، والمسيئين بالعقاب، ويمتاز أفراد الطبقتين بعضهم عن بعض بحسب امتياز درجات أعمالهم. روى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الدنيا نضرة حلوة، والله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون» ، وقال «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قيل وما زهرة الدنيا؟ قال بركات الأرض» ، وروى البخاري أن عمر كان يقول: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيّنته لنا، اللهم إنى أسألك أن ننفقه فى حقه. (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي وإن الأرض وما عليها بائد فإن، وإن المرجع إلى الله، فلا تأس ولا تحزن لما تسمع وترى، ونحو الآية قوله «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» وقوله «فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» . وإجمال المعنى- إن ما على الأرض سيصير ترابا ساذجا بعد ما كان يتعجّب من بهجته النظّارة، وتسرّ برؤيته العيون، فلا تحزن لما عاينت من تكذيب هؤلاء لما أنزل عليك من الكتاب، فإنا جعلنا ما على الأرض من مختلف الأشياء زينة لها، لنختبر أعمال أهلها، فنجازيهم بحسب ما هم له أهل، وإنا لمفنون ذلك بعد حين. وفى هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم، وكأنه قيل: لا تحزن فإنا ننتقم لك منهم.

ملخص قصة أهل الكهف كما أثر عن العرب

ملخص قصة أهل الكهف كما أثر عن العرب روى أن النصارى عظمت فيهم الخطايا، وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام، وأكرهوا الناس على عبادتها، وأصدر (الملك دقيانوس) الأوامر المشدّدة فى ذلك، ومعاقبة من يخالفه، وأراد أن يلزم فتية من أشراف قومه عبادتها، وتوعدهم بالقتل، فأبوا إلا الثبات على دينهم، فنزع ثيابهم وحليهم، ولكنه رحم شبابهم فأمهلهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم، وهكذا ذهب الملك إلى مدن أخرى ليحثّ أهلها على عبادتها، وإلا قتلوا. أما الفتية فإنهم انطلقوا إلى كهف قريب من مدينتهم (أفسوس أوطرسوس) فى جبل يدعى (نيخايوس) وأخذوا يعبدون الله فيه حتى إذا هجم عليهم دقيانوس وقتلهم ماتوا طائعين، وقد كانوا سبعة، فلما مروا فى الطريق إلى الكهف تبعهم راع ومعه كلبه، فجلسوا هناك يعبدون الله، وكان من بينهم امرؤ يدعى (تمليخا) يبتاع لهم طعامهم وشرابهم، ويبلغهم أخبار دقيانوس الذي لا يزال مجدّا فى طلبهم، حتى إذا عاد من مطافه، ووصل إلى مدينتهم، بحث عن هؤلاء العبّاد والنساك ليذبحهم أو يسجدوا للأصنام، فسمع بذلك تمليخا بينما كان يشترى لهم الطعام خفية فأخبرهم فبكوا، ثم ضرب الله على آذانهم فناموا، وتذكّرهم دقيانوس، فهدّد آباءهم إن لم يحضروهم، فدلّوه عليهم، وقالوا إنهم فى الكهف، فتوجه إليهم وسدّه عليهم ليموتوا هناك وينتهى الأمر على ذلك. وقد كان فى حاشية الملك رجلان يكتمان إيمانهما وهما بيدروس، وروناس، فكتبا قصة هؤلاء الفتية سرا فى لوحين من حجر وجعلاهما فى تابوت من نحاس، وجعلا التابوت فى البنيان ليكون ذلك عظة وذكرى لمن سيجيئ من بعد. ثم مضت قرون يتلو بعضها بعضا، ولم يبق لدقيانوس ذكر ولا أثر. وبعدئذ ملك البلاد ملك صالح يسمى بيدروس دام ملكه 68 سنة، وانقسم

الناس فى شأن البعث والقيامة فرقتين: فرقة به وأخرى كافرة، فحزن الملك لذلك حزنا شديدا، وضرع إلى الله أن يرى الناس آية يرشدهم بها إلى أن الساعة آتية لا ريب فيها، وقد خطر إذ ذاك ببال راع يسمى (أولياس) أن يهدم باب الكهف ويبنى به حظيرة لغنمه، فلما هدمه استيقظوا جميعا فجلسوا مستبشرين، وقاموا يصلون، ثم قال بعضهم لبعض: كم لبثتم نياما؟ قال بعضهم: لبثنا يوما أو بعض يوم، وقال آخرون ربكم أعلم بما لبثتم، فابعثوا أحدكم بورقكم (الورق الفضة) هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاما وليحضر لنا جانبا منه، فذهب تمليخا كما اعتاد من قبل، ليشترى لهم الطعام وهو متلطّف فى السؤال مختف حذرا من دقيانوس. وبينما هو ماش سمع اسم المسيح ينادى به فى كل مكان، فحدّث نفسه وقال: عجبا لم لم يذبح دقيانوس هؤلاء المؤمنين؟ وبقي حائرا دهشا وقال: ربما أكون فى حلم أو لعل هذه ليست مدينتنا، فسأل رجلا ما اسم هذه المدينة، قال (أفسوس) وفى آخر مطافه تقدم إلى رجل فأعطاه ورقا ليشترى به طعامه، فدهش الرجل من نوع هذا النقد الذي لم يره من قبل، وأخذ يقلّبه ويعطيه إلى جبرته، وهم يعجبون منه ويقولون له: أهذا من كنز عثرت عليه، فإن هذه الدراهم من عهد دقيانوس، وقد مضت عليه حقبة طويلة ثم أخذوه وقادوه إلى حاكمى المدينة، فظن فى بادىء الأمر أنهم ساقوه إلى دقيانوس، ولكن لما عرف أنه لم يؤت به إليه زال عنه الكرب، وجفت مدامعه، ثم سأله حاكما المدينة وهما أريوس وطنطيوس: أين الكنز الذي وجدت يافتى؟ وبعد حوار بينه وبينهما ذكر لهما خبر الفتية ودقيانوس وأن حديثهما كان أمس وإن كان لديكما ريب من أمرى فها هو ذا الكهف فاذهبا معى لتريا صدق ما أقول، فسارا معه حتى وصلا إلى باب الكهف، وتقدمهما تمليخا فأخبرهما بالحديث كله، فداخلهما العجب حين علما أنهم ناموا تسعا وثلاثمائة سنة، وأنهم أوقظوا ليكونوا آية للناس.

[سورة الكهف (18) : الآيات 9 إلى 12]

ثم دخل أريوس فرأى تابوتا من نحاس مخترما بخاتم. وبداخله لوحان مكتوب عليهما قصة هؤلاء الفتية، وكيف هربوا من دقيانوس حرصا على عقيدتهم ودينهم، فسدّ عليهم بالحجارة. ولما رأى أريوس ومن معه هذا القصص خرّوا لله سجدا وأرسلوا بريدا إلى ملكهم أن عجّل واحضر لترى آية الله فى أمر فتية بعثوا بعد أن ناموا ثلاثمائة سنة. ثم سار الملك ومعه ركب من حاشيته وأهل مدينته حتى أتوا مدينة أفسوس وكان يوما مشهودا، وحين رأى الفتية خر ساجدا لله ثم اعتنقهم وبكى وهم لا يزالون يسبّحون، ثم قال الفتية له: أيها الملك نستودعك الله ونعيذك من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم وقبضت أرواحهم، فأمر الملك أن يجعل كل منهم فى تابوت من ذهب، وحين جنّ الليل ونام رآهم فى منامه يقولون له: اتركنا كما كنا فى الكهف ننام على التراب حتى يوم البعث، فأمر الملك أن يوضعوا فى تابوت من ساج وألا يدخل عليهم أجد بعد ذلك، وأن يبنى على باب الكهف مسجد يصلى فيه الناس، وجعل لهم ذلك اليوم عيدا عظيما. ذلك هو القصص الذي جعله النصارى دليلا على البعث أما القرآن الكريم فإنه يقول إن آياتي على البعث وإعادة الأرواح بعد الموت ليست مقصورة على هذا القصص وحده، فآياتى عليه لا تعدّ ولا تحصى، فاقرءوا صحائف هذا الوجود ولا تقصروا أمركم على صحائف أهل الكهف والرقيم، واجعلوا أنظاركم تتجه إلى ما حواه الكون لا إلى ما كتب فى القصص والحكايات، وإن كانت فيها الدلائل والآيات. إجمال القرآن لقصص أهل الكهف [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 12] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أم: حرف يدل على الانتقال من كلام إلى آخر، وهو بمعنى بل وهمزة الاستفهام أي بل أحسبت، والخطاب فى الظاهر للنبى عليه الصلاة والسلام، والمراد غيره كما سبق نظيره، والكهف: النقب المتسع فى الجبل، فإن لم يكن متسعا فهو غار، والرقيم: لوح حجرى رقمت فيه أسماؤهم كالألواح الحجرية المصرية التي يذكر فيها تاريخ الحوادث وتراجم العظماء، أوى إلى المكان: اتخذه مأوى ومكانا له، والفتية واحدهم فتى وهو الشاب الحدث، وقد كانوا من أبناء أشراف الروم وعظمائهم، لهم أطواق وأسورة من الذهب، وهيىء: أي يسر، والرشد (بفتحتين وضم فسكون) الهداية إلى الطريق الموصل للمطلوب، فضربنا على آذانهم أي ضربنا عليها حجابا يمنع السماع، كما يقال بنى على امرأته، يريدون بنى عليها قبة، والمراد أنمناهم نومة لا تنبههم الأصوات الموقظة. عددا: أي ذوات عدد والمراد التكثير، لأن القليل لا يحتاج إلى العدّ غالبا، بعثناهم: أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم، والحزبين: هما الحزب القائل لبثنا يوما أو بعض يوم، والحزب القائل ربكم أعلم بما لبثتم، وأحصى: أي أضبط لاوقات لبثهم، والأمد: مدة لها حد وغاية. الإيضاح (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي لا تحسب أن قصة أصحاب الكهف والرقيم المذكورة فى الكتب السالفة حين استمروا أحياء أمدا طويلا- عجيبة بالإضافة إلى ما جعلناه على ظهر الأرض من الزينة فليست هى بالعجب وحدها من بين آياتنا بل زينة الأرض وعجائبها أبدع وأعجب من قصة

أصحاب الكهف فإذا وقف علماء الأديان الأخرى لدى أمثالها دهشين حائرين، فأنا أدعوك وأمتك إلى ما هو أعظم منها وهو النظر فى الكون وعجائبه، من خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب، إلى نحو أولئك من الآيات الدالة على قدرة الله، وأنه يفعل ما يشاء لا معقّب لحكمه. أما القصص وغرائبها فلا تكفى للوصول إلى أبواب الخير والسعادة التي يطمح إليها الإنسان، ويجعلها مثله العليا، ليفوز بخيرى الدنيا والآخرة، فابحث عما نقش فى صحائف الأكوان، لا فى صحائف الكهوف والغيران. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله، لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم. (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي اذكر أيها الرسول حين أوى أولئك الفتية إلى الكهف هربا بدينهم من أن يفتنهم عباد الأصنام والأوثان، وقالوا إذ ذاك: ربنا يسر لنا بما نبتغى من رضاك وطاعتك رشدا من أمرنا، وسدادا إلى العمل الذي نحب، وارزقنا المغفرة والأمن من الأعداء. (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي فضربنا على آذانهم حجابا يمنعهم السماع، وأنمناهم نوما لا ينبههم فيه مختلف الأصوات فى الكهف سنين كثيرة معدودة. (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أي ثم أيقظناهم من رقدتهم لنعلم أي الطائفتين المتنازعتين فى مدة لبثهم، أضبط فى الإحصاء والعد لمدة هذا اللبث فى الكهف. وخلاصة ذلك- إنا بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبر حالهم، لنرى أيهم أحصى لما لبعثوا أمدا، فيظهر لهم عجزهم، ويفوّضوا ذلك إلى العليم الخبير، ويتعرّفوا ما صنع الله

[سورة الكهف (18) : الآيات 13 إلى 18]

بهم من حفظ أبدانهم، فيزدادوا يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه، ويستبصروا به فى أمر البعث، ويكون ذلك لطفا لمؤمنى زمانهم، وآية بينة لكفارهم. تفصيل ذلك القصص وبسطه [سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 18] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) تفسير المفردات النبأ: الخبر العظيم، وبالحق: أي بالصدق، والربط: الشد، وربطت الدابة: شددتها بالرباط، والمربط: الحبل، وربط الله على قلبه، أي قوّى عزيمته، قاموا:

الإيضاح

أي وقفوا بين يدى ملكهم الجبار دقيانوس، إلها: أي معبود آخرا لا استقلالا ولا اشتراكا، اتخذوا من دونه آلهة: أي نحتوا أصناما وعبدوها، والسلطان: الحجة، والبيّن: الظاهر، والاعتزال والتعزل: تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب كما قال: يا بيت عاتكة التي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل فأووا إلى الكهف: أي التجئوا إليه، وينشر لكم: أي يبسط لكم، والمرفق: ما يرتفق وينتفع به، وتزاور: تتنحى، وذات اليمين: أي جهة يمين الكهف، وتقرضهم: أي تعدل عنهم، قال الكسائي: يقال: قرضت المكان: إذا عدلت عنه ولم تقربه، فجوة: أي متسع، والأيقاظ، واحدهم يقظ (بضم القاف وكسرها) والرقود: واحدهم راقد، أي نائم، وباسط ذراعيه: أي مادّهما، والوصيد: فناء الكهف، والرعب: الخوف يملأ الصدر. الإيضاح (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) أي نحن ننبئك نبأ هؤلاء الفتية الذين آووا إلى الكهف، نبأ حقا لا محل للريبة فيه. وفى هذا إيماء إلى أن نبأهم كان معروفا لدى العرب على وجه ليس بالصدق، ويدل على ذلك قول أمية بن أبى الصّلت: وليس بها إلا الرقيم مجاورا ... وصيدهمو والقوم فى الكهف هجّد ثم فصّل ذلك بقوله: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي إنهم شباب آمنوا بربهم، وزدناهم هدى بالتثبيت على الإيمان، والتوفيق للعمل الصالح، والانقطاع إلى الله، والزهد فى الدنيا. وقد جرت العادة أن الفتيان أقبل للحق، وأهدى للسبل من الشيوخ الذين

فى أي زمن كان قصص أهل الكهف

قد عتوا وانغمسوا فى الأديان الباطلة، ومن ثم كان أكثر الذين استجابوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم شبّانا، وبقي الشيوخ على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. ونحو الآية قوله: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» وقوله: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» وقوله: «لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» . فى أي زمن كان قصص أهل الكهف ؟ رجح ابن كثير أن قصص أهل الكهف كان قبل مجىء النصرانية، لا بعدها كما رواه كثير من المفسرين متّبعين ما أثر عن العرب، والدليل على ذلك أن أحبار اليهود كانوا يحفظون أخبارهم، ويعنون بها، فقد روى عن ابن عباس أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء الفتية، وعن خبر ذى القرنين، وعن الرّوح، وفى هذا أعظم الأدلة على أن ذلك كان محفوظا عند أهل الكتاب، وأنه مقدّم على النصرانية. (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وألهمناهم قوة العزيمة، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان، حتى عزفت نفوسهم عما كانوا عليه من خفض العيش والرغبة عنه، وقالوا حين قاموا بين يدى الجبار دقيانوس إذ عاتبهم على تركهم عبادة الأصنام- ربنا رب السموات والأرض ورب كل مخلوق. ثم أردفوا تلك المقالة البراءة من إله غيره فقالوا: (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي لن ندعو من دون رب السموات والأرض إلها، لا على طريق الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك، إذ لا رب غيره ولا معبود سواه. وقد أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الألوهية والخلق، وبالجملة الثانية إلى توحيد الربوبية والعبادة، وعبدة الأصنام يقرون بتوحيد الأولى، ولا يقرون بتوحيد

الثانية، بدليل قوله. «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» وقوله سبحانه حكاية عنهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» وكانوا يقولون فى تلبيتهم فى الحج: لبيك لا شريك لك: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. ثم عللوا عدم دعوتهم لغيره بقولهم: (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي إنا إذا دعونا غير الله، لقد أبعدنا عن الحق، وتجاوزنا الصواب. وفى هذا إيماء إلى أنهم دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها. ثم حكى سبحانه عن أهل الكهف مقالة بعضهم لبعض فقال: (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي إن قومنا هؤلاء وإن كانوا أكبر منا سنّا وأكثر تجربة قد أشركوا مع الله غيره، فهلا أتوا بحجة بينة على صدق ما يقولون، كما أتينا على صدق ما ندّعى بالأدلة الظاهرة، وإنهم لأظلم الظالمين فيما فعلوا، افتروا، ومن ثم قال: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟) أي لا أظلم ممن افترى على الله الكذب ونسب إليه الشريك، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم فى عبادتهم غير الله ففارقوهم بأبدانكم والجئوا إلى الكهف، وأخلصوا لله العبادة فى مكان تتمكنون منها بلا رقيب ولا حسيب، وإنكم إن فعلتم ذلك فالله تعالى يبسط لكم الخير من رحمته فى الدارين، ويسهل لكم من أمر الفرار بدينكم، والتوجه إليه فى عبادتكم، ما ترتفقون وتنتفعون به. وقد قالوا ذلك ثقة بفضل الله تعالى ورجاء منه، لتوكلهم عليه وكمال إيمانهم به، أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا وهو شاب،

مكان الكهف

وقرأ: «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» «وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ» «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ» . ثم بيّن سبحانه حالهم بعد أن أووا إلى الكهف فقال: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي إنك أيها المخاطب لو رأيت الكهف لرأيت الشمس حين طلوعها تميل عنه جهة اليمين، ورأيتها حين الغروب تتركهم وتعدل عنهم جهة الشمال، والحال أنهم فى وسطه ومتسعه، فيصيبهم نسيم الهواء وبرده. وخلاصة ذلك- إنهم طوال نهارهم لا تصيبهم الشمس فى طلوعها ولا فى غروبها، إذ كان باب الكهف فى مقابلة بنات نعش، فهو إلى الجهة الشمالية، والشمس لا تسامت ذلك أبدا، لأنها لا تصل إلى أبعد من خط السرطان، وكل بلاد بعده إلى جهة الشمال تكون الشمس من ورائها لا أمامها فيكون الظل مائلا جهة الشمال طول السنة، كما يعلم ذلك من علم الفلك. وإيضاح ذلك أنه لو كان باب الكهف فى ناحية الشرق لما دخل إليه شىء منها حين الغروب، ولو كان من ناحية الجنوب لما دخل منها شىء حين الطلوع ولا الغروب وما تزاور الفيء لا يمينا ولا شمالا، ولو كان جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولا تزال فيه إلى الغروب. مكان الكهف وللمفسرين فى تعيين مكان الكهف أقوال: فقيل هو قريب من إيلياء (بيت المقدس) ببلاد الشام، وقال ابن إسحاق: عند نينوى ببلاد الموصل، وقيل ببلاد الروم، ولم يقم إلى الآن الدليل على شىء من ذلك، ولو كان لنا فى معرفة ذلك فائدة دينية لأرشدنا الله إليه كما قال صلى الله عليه وسلّم: «ما تركت شيئا يقرّبكم إلى الجنة، ويباعدكم عن النار، إلا وقد أعلمتكم به» .

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) أي إن هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم، وإيواءهم إلى كهف تلك صفته بحيث تزاور الشمس عنهم طالعة، وتقرضهم غاربة، وإخبارك بقصصهم- كل ذلك من آيات الله الكثيرة فى الكون، الدالة على كمال قدرته، وعلى أن التوحيد هو الدين الحق، وعلى أن الله يكرم أهله. ثم بين أن هدايتهم إلى التوحيد كانت بعناية الله ولطفه فقال: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي من يوفّقه الله للاهتداء بآياته وحججه إلى الحق كأصحاب الكهف، فهو المهتدى الذي أصاب سبيل الحق، وفاز بالحظ الأوفر فى الدارين. وفى هذا إيماء إلى أن أصحاب الكهف أصابوا الصواب، ووفّقوا لتحقيق ما أنيلوا من نشر الرحمة عليهم وتهيئة المرفق. (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) أي ومن يضلله الله لسوء استعداده، وصرف اختياره، إلى غير سبل الهدى والرشاد، فلن تجد له أبدا خليلا ولا حليفا يرشده لإصابة سبل الهداية، ويخلّصه من الضلال، لأن التوفيق والخذلان بيد الله، يوفّق من يشاء من عباده، ويخذل من يشاء. وفى هذا تسلية لرسوله وإرشاد له إلى أنه لا ينبغى له أن يحزن على إدبار قومه عنه، وتكذيبهم إياه، فإن الله لو شاء لهداهم وآمنوا. (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) أي ولو رأيتهم لظنتهم فى حال يقظة لانفتاح أعينهم وهم نيام، كأنهم ينظرون إلى من أمامهم، ولما للنوم من الحال الخاصة به التي يستبينها الناظر بادىء ذى بداء كاسترخاء المفاصل والأعضاء ولا سيما العينان والوجه. (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) ونقلّب هؤلاء الفتية فى رقدتهم مرة للجنب الأيمن، ومرة للجنب الأيسر، كى ينال روح النسيم جميع أبدانهم، ولا يتأثر ما يلى الأرض منها بطول المكث.

[سورة الكهف (18) : الآيات 19 إلى 22]

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي وكلبهم ملق يديه على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين بفناء الكهف كما روى عن ابن عباس، وقيل المراد بالوصيد الباب وأنشدوا: بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها ... علىّ ومعروفى بها غير منكر (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) أي لو شاهدتهم فى رقدتهم التي رقدوها فى الكهف، لأدبرت عنهم هاربا فارا منهم. (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي ولملئت نفسك حين اطلاعك عليهم خوفا وفزعا، لأن الله قد ألبسهم هيبة ووقارا كى لا يصل إليهم واصل، ولا تلمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه فى الحين الذي أراد أن يجعلهم فيه عبرة لمن شاء من خلقه، وآية لمن أراد الاحتجاج عليهم من عباده، وليعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها. [سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 22] وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)

تفسير المفردات

تفسير المفردات بعثناهم: أي أيقظناهم، لبثتم: أي أقمتم، والورق: الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة، وأزكى: أجود وأطيب، وليتلطف: أي يتكلف اللطف فى المعاملة، كى لا تقع خصومة تجرّ إلى معرفته، ولا يشعرنّ: أي لا يفعلنّ ما يؤدى إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم، إن يظهروا عليكم: أي إن يطّلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم وأصل العثور السقوط للوجه، يقال عثر عثورا وعثارا: إذا سقط لوجهه، ويقال فى المثل «من سلك الجدد أمن العثار» ، ثم استعمل فى الاطلاع على أمر من غير طلب له، والساعة: يوم القيامة حين يبعث الله الخلائق جميعا للحساب والجزاء، والتنازع: التخاصم، والذين غلبوا على أمرهم: هم رؤساء البلد، لأنهم هم الذين لهم الرأى فى مثل هذا، والمسجد: معبد المؤمنين من تلك الأمة وكانوا نصارى على المشهور، والرجم: القول بالظن ويقال لكل ما يخرص: رجم فيه وحديث مرجوم ومرجّم كما قال: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم والغيب: ما غاب عن الإنسان فالمراد أن يرمى الإنسان ما غاب عنه ولا يعرفه بالحقيقة، كما يقال فلان يرمى بالكلام رميا: أي يتكلم من غير تدبر، والمراد هنا القول بالظن والتخمين، والمراء: المحاجة فيما فيه مرية وتردد، والمراد الظاهر: ما لا تعمّق فيه بألا يكذّبهم فى تعيين العدد، بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه، فيجب عدم الجزم به ولا تستفت: أي لا تطلب الفتيا منهم.

الإيضاح

الإيضاح (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي كما أرقدنا هؤلاء الفتية فى الكهف، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مرّ الأيام بقدرتنا- بعثناهم من رقدتهم، وأيقظناهم من نومهم، لنعرّفهم عظيم سلطاننا، وعجيب فعلنا فى خلقنا. وليزدادوا بصيرة فى أمرهم الذي هم عليه، من براءتهم من عبادة الآلهة، وإخلاصهم العبادة لله الواحد القهار، إذا تبينوا طول الزمان عليهم وهم بهيئتهم حين رقدوا. (لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ؟) أي ولتكون عاقبة أمرهم أن يسأل بعضهم بعضا، فيقول قائل منهم لأصحابه: كم لبثتم؟ ذاك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم. (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أي فأجابه الآخرون، فقالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ظنا منهم أن ذلك كذلك كان. وإيضاح هذا أنهم لم يتحققوا مقدار لبثهم، فهم لا يدرون مقدار ذلك اللّبث، أيوم هو أو بعض يوم، لأن لوثة النوم وظواهره لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم، فلم ينظروا إلى الأمارات التي تدل على ذلك المقدار الذي يظنّ، أنه قد كان. وأكثر المفسرين على أن دخولهم فى الكهف كان أول النهار واستيقاظهم كان آخر النهار. (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أي وقال آخرون: ربكم أعلم بما لبثتم أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، بل الله هو الذي يعلمها، وهذا من الأدب البارع فى الرد على الأولين بأحسن أسلوب وأجمل تعبير. وحين علموا أن الأمر ملتبس عليهم عدلوا إلى الأهم فى أمرهم وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أي فابعثوا بدراهمكم هذه إلى المدينة وهى طرسوس كما جزم بذلك فخر الدين الرازي.

وفى قولهم (هذه) إشارة إلى أن القائل كان قد أحضرها ليناولها بعض أصحابه، وإلى أن التأهب لأسباب المعاش بحمل الدراهم ونحوها لمن خرج من منزله، لا ينافى التوكل على الله كما جاء فى الحديث «اعقلها وتوكل» . (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي فليبصر أىّ الأطعمة أجود وألذّ فليأتكم بمقدار منه. (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي وليترفق فى دخول المدينة، وفى شرائه، وفى إيابه منها، ولا يخبرنّ بمكانكم أحدا من أهلها. ثم ذكروا تعليل الأمر والنهى السالفين بقولهم: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي إن الكفار إن علموا بمكانكم ولم تفعلوا ما يريدون منكم، بل ثبتم على إيمانكم، إما أن يقتلوكم رميا بالحجارة، وكان ذلك هو المتبع فى الأزمنة الغابرة فيمن يعلن خلاف ما عليه الجماهير فى الأمور الدينية والسياسية التي لها شأن فى الدولة، وإما أن يعيدوكم إلى ملة آبائكم التي هم مستمسكون بها. (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أي وإن دخلتم فى ملتهم ولو بالإكراه والقسر لن تفوزوا بخير لا فى دنياكم ولا فى آخرتكم، إذ ربما استدرجكم الشيطان إلى أن تستحسنوا ما ستعتنقونه من ذلك الدين الجديد، وتستمرئوه فتستمروا عليه فيكون قد كتب عليكم الشقاء عند ربكم، والخذلان الذي لا خذلان بعده. (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) أي وكما بعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم حين رقدوا، ليتساءلوا بينهم فيزدادوا بصيرة بعظيم سلطانه تعالى، ومعرفة حسن دفاع الله عن أوليائه- أعثرنا الفريق الآخر الذين كانوا فى شك من قدرة الله على إحياء الموتى، وفى مرية من إنشاء أجسام خلقه كهيئتهم يوم قبضهم بعد البلى، ليعلموا أن وعد الله حق، ويوقنوا أن الساعة آتيا لا ريب فيها، إذ لا حجة لمن أنكرها إلا الاستبعاد، ولكن وقوع ذلك الأمر العظيم

وعلمهم به، مما يخفف من غلوائهم، ويكبح جماح إنكارهم ويردهم إلى رشدهم. ذاك أن حال هؤلاء الفتية فى تلك الحقبة الطويلة، وقد حبست عن التصرف نفوسهم، وعطّلت مشاعرهم وحواسهم، وحفظت من التحلل والتفتّت أبدانهم، وبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب، ثم رجعت بعدئذ تلك المشاعر والحواس إلى حالها، وأطلقت النفوس من عقالها، وأرسلت إلى تدبير أبدانها، فرأت الأمور كما كانت، والأعوان هم الأعوان، ولم تنكر شيئا عهدته فى مدينتها، ولم تتذكر حبسها المدى الطويل عن التصرف فى شؤونها- وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم- من واد واحد فى الغرابة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند، ووقوع الأول يزيل الارتياب فى إمكان وقوع الثاني، ولا يبقى بعد ذلك شك فى أن وعد الله حق، وأن الله سيبعث من فى القبور، فيردّ عليهم أرواحهم، ويجازيهم جزاء وفاقا بحسب أعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو الحكم العدل، اللطيف الخبير. (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي وكذلك أطلعنا عليهم بيدروس وقومه حين ينازع بعضهم بعضا فى أمر البعث، فمن مقرّ به، وجاحد له، وقائل تبعث الأرواح دون الأجساد- ففرح الملك وفرحوا بآية الله على البعث، وزال ما بينهم من الخلاف فى أمر القيامة، وحمدوا الله إذا رأوا ما رأوا مما يثبتها، ويزيل كل ريب فيها. ثم حكى آراء القوم فى شأنهم بعد اطلاعهم عليهم فقال: (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي إنهم انقسموا فى شأنهم فريقين، فريق يقول: نسد عليهم باب الكهف ونذرهم حيث هم، وفريق يقول: نبنى عليهم مسجدا يصلى فيه الناس، وقد غلب هذا الفريق الفريق الأول فى الرأى. وقوله (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) جملة معترضة من كلامه تعالى ردا للخائضين فى أمرهم

ممن أعثروا عليهم، أو ممن كان فى عهده صلى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب، فى بيان أنسابهم وأسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم. وقد ذكر العلماء أن اتخاذ القبور مساجد منهىّ عنه أشد النهى حتى ذكر ابن حجر فى كتابه الزواجر أنه من الكبائر، لما روى فى صحيح الأخبار من النهى عن ذلك، روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسّرج» وزاد مسلم «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، فإنى أنها كم عن ذلك» وروى الشيخان والنسائي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله تعالى اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وروى أحمد والشيخان والنسائي قوله صلى الله عليه وسلّم: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق يوم القيامة» . وروى أحمد والطبراني: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد» . إلى نحو ذلك من الآثار الصحيحة، فليعتبر المسلمون اليوم بهذه الأخبار التي لا مرية فى صحتها، وليقلعوا عما هم عليه من اتخاذ المساجد فى أضرحة الأولياء والصالحين والتبرك بها، والتمسح بأعتابها، وليعلموا أن هذه وثنية مقنّعة، وعود إلى عبادة الأوثان والأصنام على صور مختلفة، والعبرة بالجوهر واللب، لا بالعرض الظاهر، فذلك إشراك بالله فى ربوبيته وعبادته، وقد حاربه الدين أشد المحاربة، ونعى على المشركين ما كانوا يفعلون. اللهم ألهم المسلمين رشدهم، وثبتهم فى أمر دينهم، ولا تجعلهم يحذون حذو من قبلهم حذو القذّة بالقذة، وأرجعهم إلى مثل ما كان يفعله المسلمون فى الصدر الأول

وما بعده، فرجاله هم الأسوة، وقد صح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما وجد قبر دانيال فى عهده بالعراق أمر أن يسوّى بالأرض، وأن تدفن تلك الرّقعة التي وجدوها عنده وفيها شىء من الملاحم وغيرها من الأخبار. ولما ذكر سبحانه القصة ونزاع المتخاصمين فيما بينهم- شرع يقص علينا ما دار فى عهد النبي صلى الله عليه وسلّم من الخلاف فى عدد أصحاب الكهف فقال: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) أي سيقول بعض الخائضين من أهل الكتاب ذلك، فقد روى أن نصارى نجران تناظروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى عدد أهل الكهف، فقالت الملكانية (أصحاب الملك) : هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وروى هذا عن ابن عباس، وهو الحق بدليل أنه تعالى حكم على القولين السابقين بأنهما رجم بالغيب، فأرشد ذلك إلى أن الحال فى الأخير بخلافه، وأنهم إنما قالوه عن ثبات علم، وطمأنينة نفس. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) فى هذا إرشاد لنا إلى أن الأحسن فى مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض فى مثل ذلك بلا علم، فإن اطلعنا على أمر قلنا به، وإلا توقّفنا ولم نجزم بشىء. (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أي ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس. روى قتادة عن ابن عباس أنه قال: أنا من القليل الذي استثنى الله عزّ وجلّ، كانوا سبعة سوى الكلب، ولم يرد فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم شىء فى ذلك. وفى هذا دلالة على أن المهمّ ليس هو معرفة العدد، بل المهمّ الاعتبار بذلك القصص، وبما يكون نافعا لعقولنا وتطهير أخلاقنا ورقينا فى حياتينا الدنيوية والأخروية.

[سورة الكهف (18) : الآيات 23 إلى 24]

وبعد أن ذكر سبحانه هذا القصص، نهى رسوله صلى الله عليه وسلّم عن شيئين: المراء فى أمرهم، والاستفتاء فى شأنهم فقال: (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي فلا تجادل فى شأن الفتية إلا جدلا سهلا ليّنا، وقص عليهم ما جاء فى الكتاب الكريم دون تكذيب لهم فى تعيين العدد، ولا تجهيل لهم فى الحديث، إذ لا يترتب على ذلك كبير فائدة، لأن المقصد من القصة هو العظة والاعتبار، ومعرفة أن البعث حاصل لا محالة، وهذا لا يتوقف على عدد معين، إلى أن ذلك مما يخلّ بمكارم الأخلاق التي بعث لإتمامها. ونحو الآية قوله: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» . (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي ولا تستفت النصارى فى شأنهم، فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب من غير استناد إلى دليل قاطع، ولا نص صريح، وقد جاءك ربك بالحق الذي لا مرية فيه، فهو الحاكم المقدّم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال السالفة. وفى الآية دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب فى شىء من العلم. [سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 24] وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) المعنى الجملي جاءت هاتان الآيتان إرشادا وتأديبا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلّم، يعلمه بأنه إذا أراد أن يخبر عن شىء سيفعله فى مستأنف الأيام، أن يقرن قوله بمشيئة علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون. وجاءتا معترضتين أثناء القصة لما تضمنتاه من تعليم عباده تفويض الأمور كلها إليه، وبيان أنه لا يحدث فى ملكه إلا ما يشاء.

الإيضاح

روى «أنهما نزلتا حين سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذى القرنين، فقال عليه الصلاة والسلام: غدا أخبركم، ولم يستن (لم يقل إن شاء الله) فأبطأ عليه الوحى خمسة عشر يوما، فشق ذلك عليه وكذبته قريش. الإيضاح (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي ولا تقولن أيها الرسول لشىء إنى سأفعل ذلك غدا إلا أن تقول: إن شاء الله، ذاك أنه ربما مات المرء قبل مجىء الغد، أو ربما عاقه عائق عن فعله، فإذا لم يقل إن شاء الله صار كاذبا فى ذلك الوعد ونفر الناس منه. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي واذكر مشيئة ربك إذا فرط منك نسيان ثم نذكرت ذلك، وهذا أمر بالتدارك حين التذكر، سواء أطال الفصل أم قصر. (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي وقل عسى أن يوفّقنى ربى لشىء أقرب إرشادا للناس، وأظهر حجة من نبأ أهل الكهف. وقد حقق الله له ذلك، فآتاه من الآيات ما هو أعظم من ذلك، كقصص الأنبياء مع أممهم على توإلى العصور ومر الأيام. وخلاصة ذلك- أطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدك إليه خيرا ومنفعة فى ضمن ما ألقى إليك من الأوامر والنواهي، وقد استجاب الله دعاءه، فهداه فيما أنزل عليه إلى ما هو خير منفعة، وأجدى فائدة للمسلمين فى دنياهم وآخرتهم، وآتاهم من الخير العميم ما جعلهم به خير أمة أخرجت للناس. ثم بين سبحانه ما أجمل فى قوله: «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» فقال:

[سورة الكهف (18) : الآيات 25 إلى 26]

[سورة الكهف (18) : الآيات 25 الى 26] وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) الإيضاح (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) أي ولبثوا فى الكهف حين ضربنا على آذانهم ثلاثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علّموا قومك السؤال عن شأنهم، وتسعا زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك. ولا شك أن فى هذا البيان معجزة لرسوله النبي الأمى الذي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يدرس الحساب ولا الهندسة ولا الفلك، فمن أين له أن كل مائة سنة شمسية تزيد ثلاث سنين قمرية، وكل ثلاث وثلاثين سنة شمسية تزيد سنة قمرية، وكل سنة شمسية تزيد نحو أحد عشر يوما على السنة القمرية؟ لا شك أنه قد أعلمه اللطيف الخبير بما أوحاه إليه، وهداه لأقرب من هذا رشدا، وهو الذي جعله يلفت الأنظار إلى علم ما على الأرض زينة لها كضوء الشمس والقمر على وجهها، وما نتج عن ذلك الضوء من بهجة الأرض وزينتها فلولا اختلاف الفصول لم يكن للأرض زينة، ولا اختلاف للفصول إلا بتقلب أحوال الشمس وطلوعها من حيث لا تمسى، فما من حيوان ولا نبات إلا أسّ حياته ضوء الشمس الذي أرسله الله إلى الأرض، كما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلّم ليهدينا إلى نور العلم ويقول لنا: إن النظر فيما على الأرض من زينة أقرب رشدا من قصص الأولين، وحكايات الغابرين. فكم فى العوالم المحيطة بكم من خوارق، فإياكم أن تذروها ابتغاء ما يقع على أيدى أنبيائكم وأوليائكم. فإنى قد أرسلت الأنبياء ليرشدوكم إلى ملكى وما فى خلقى

من عجائب، وما الأنبياء والأولياء إلا بعض خلقى «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . ثم أكد أن المدة المضروبة على آذانهم هى هذه المدة فقال: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أي قل الله أعلم منكم بهم، وقد أخبر بمدة لبثهم، فهو الحق الذي لا يحوم حوله شك. وفائدة تأخير بيانها الدلالة على أنهم تنازعوا فيها أيضا كما تنازعوا فى العدد، وعلى أن هذا البيان من الغيب الذي أخبر الله به نبيه ليكون معجزة له، وجاء قوله «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا» تذييلا لسابقه، ليكون محاكيا قوله حكاية عددهم «قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ» . ثم أشار إلى اختصاصه بعلم ما لبثوا دون غيره فقال: (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله علم ما غاب فيهما، وخفى من أحوال أهلهما، لا يعزب عنه علم شىء منه، فسلّموا له علم ما لبثت الفتية فى الكهف، وإذا علم الخفي فيهما فهو بعلم غيره أدرى. ومن ذلك العلم الغائب على كثير من العقول حساب السنة الشمسية والقمرية، فقد غيّبه الله عن بعض الناس، ولم يطلع عليه إلا العارفين بحساب الأفلاك، ومن ثم يعجبون من أمر نبيهم، ويعلمون أن هذا مبدأ زينة الأرض وزخرفها. (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هذا أسلوب فى اللغة يدل على التعجب والمبالغة فى الأمر الذي تتحدث بشأنه، أي ما أبصر الله تعالى بكل موجود، وأسمعه بكل مسموع، فهو لا يخفى عليه شىء من ذلك، وهذا أمر عظيم من شأنه أن يتعجّب منه. وقد ورد مثل هذا فى الحديث: «ما أحلمك عمن عصاك، وأقربك ممن دعاك، وأعطفك على من سألك» . (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ) أي ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم- ولىّ يلى تدبير أمورهم وتصريفهم فيما هم فيه مصرّفون.

[سورة الكهف (18) : الآيات 27 إلى 31]

(وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) اى إنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك، تعالى الله وتقدست أسماؤه. [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) تفسير المفردات لا مبدل: أي لا مغيّر، لكلماته أي لأحكامها، فلا يستطيع أحد نسخ أحكام ما جاء فى كتابه، ملتحدا: أي ملجأ تعدل إليه إذا ألمّت بك ملمّة، واصبر نفسك: أي احبسها وثبّتها، بالغداة والعشى: أي فى طرفى النهار، وخصهما بالذكر، لأنهما محل الغفلة، وفيهما يشتغل الناس بأمور دنياهم، وجهه: أي رضاه وطاعته لأن من رضى

المعنى الجملي

عن شخص يقبل عليه، ومن غضب عليه يعرض عنه، ولا تعد عيناك عنهم: أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا والمراد لا تحتقرهم وتصرف النظر عنهم إلى غيرهم لرثاثة منظرهم، تريد زينة الحياة الدنيا: أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الثراء، أغفلنا قلبه: أي جعلناه غافلا، فرطا: أي تقريطا وتضييعا لما يجب عليه أن يتّبعه من أمر الدين، وأعتدنا: أي أعددنا وهيأنا، والسرادق: لفظ فارسى معرّب يزاد به الفسطاط (الخيمة) شبه به ما يحيط بهم من لهب النار المنتشر منها فى سائر الجهات، المهل: دردىّ الزيت أو ما أذيب من المعادن كالرّصاص والنّحاس، يشوى الوجوه: أي ينضجها إذا قدّم ليشرب، لشدة حره، ومرتفقا: أي متكأ يقال بات فلان مرتفقا أي متكئا على مرق يده، وجنات عدن: أي جنات إقامة واستقرار يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه واستقر، ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه، والأساور: واحدها سوار، والسندس: رقيق الديباج واحده سندسة وهو فارسى معرّب، والإستبرق: ما غلظ منه وهو رومى معرب، والأرائك واحدها أريكة- سرير عليه حجلة (ناموسية) . المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه قصص أهل الكهف ودل اشتمال القرآن عليه على أنه وحي من علام الغيوب- أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه وتلاوته، وألا يكترث بقول القائلين له: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، ثم ذكر ما يلحق الكافرين من النكال والوبال يوم القيامة، وما ينال المتقين من النعيم المقيم كفاء ما عملوا من صالح الأعمال. الإيضاح (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي واتل الكتاب الذي أوحى إليك، والزم العمل به، واتّبع ما فيه من أمر ونهى، وإن أحدا لا يستطيع أن يغيّر ما فيه من وعيد لأهل معاصيه، ومن وعد لأهل

طاعته، فإن أنت لم تتبعه ولم تأتمّ به، فنالك وعيد الله الذي أوعد به المخالفين حدوده- فلن تجد موئلا من دونه، ولا ملجأ تلجأ إليه، إذ قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه، لا يقدر أحد على الهرب من أمر أراده به. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي احبس نفسك وثبّتها مع فقراء الصحابة كعمار بن ياسر وصهيب وبلال وابن مسعود وأضرابهم ممن يدعون ربهم بالغداة والعشى بالتسبيح وصالح الأعمال ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون عرضا من أعراض الدنيا ولا شيئا من لذاتها ونعيمها. روى «أن عيينة بن حصن الفزاري أنى النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يسلم وعنده جماعة من فقراء أصحابه، فيهم سامان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها، وبيده خوص يشقّه ثم ينسجه، فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها، فإن أسلمنا أسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحّهم حتى نتّبعك، أو اجعل لهم مجلسا، ولنا مجلسا، فنزلت الآية» . وعن أبى سعيد وأبى هريرة قالا: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسى معهم» . ونحو الآية قوله: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» . ومقال هؤلاء شبيه بمقالة قوم نوح: «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» : ثم أمره سبحانه بمراقبة أحوالهم فقال: (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لا تصرف بصرك ونفسك عنهم، رغبة فى مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون. وخلاصة ذلك- النهى عن احتقارهم، وصرف النظر عنهم إلى غيرهم، لسوء

حالهم وقبح يزّتهم، روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لما نزلت الآية: الحمد لله الذي جعل فى أمتى من أمرت أن أصبر نفسى معه. ثم أكد هذا النهى بقوله: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي ولا تطع فى تنحية الفقراء عن مجلسك من جعلنا قلبه غافلا عن ذكر الله، لسوء استعداده، واتباع شهواته، وإسرافه فى ذلك غاية الإسراف، وتدسيته نفسه، حتى ران الكفر والفسوق والعصيان على قلبه، وتمادى فى اجتراح الآثام والأوزار. وفى ذلك تنبيه إلى أن الباعث لهم على استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب الله، والعمل على ما يقرّب منه، وشغلهم بالأمور الحسية حتى خفى عليهم أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد وزخرف الحياة من اللباس والطعام والشرف. وبعد أن أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم أن لا يلتفت إلى قول أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت أولئك الفقراء آمنا بك- أمره أن يقول لهم ولغيرهم على طريق التهديد والوعيد: هذا هو الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أي قل أيها الرسول لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر، واتبعوا أهواءهم: هذا الذي أوحى إلىّ هو الحق من عند ربكم، وهو الذي يجب عليكم اتباعه والعمل به، فمن شاء أن يؤمن به ويدخل فى غمار المؤمنين، ولا يتعلل بما لا يصلح أن يكون معذرة له فليفعل، ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فأمره إلى الله، ولست بطارد لأجل أهوائكم من كان للحق متّبعا، وبالله وبما أنزل علىّ مؤمنا. وخلاصة ذلك- إننى فى غنى عن متابعتكم، وإننى لا أبالى بكم ولا بإيمانكم، وأمر ذلك إليكم، وبيد الله التوفيق والخذلان، والهوى والضلال، وهو لا ينتفع بإيمان

المؤمنين، ولا يضره كفر الكافرين كما قال: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» . ولما هدد السامعين بأن يختاروا لأنفسهم ما يجدونه غدا عند الله- أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والمعاصي، والوعد على الأعمال الصالحة، وبدأ بالأول فقال: (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي إنا قد أعددنا لمن ظلم نفسه وأنف من قبول الحق، ولم يؤمن بما جاء به الرسول- نارا يحيط بهم لهيبها المستعرة من كل جانب كما يحيط السرادق بمن حل فيه، فلا مخلص منه، ولا ملجأ إلى غيره (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة وهم فى النار، فيطلبوا الماء لشدة ما هم فيه من العطش لحر جهنم كما قال فى سورة الأعراف حكاية عنهم: «أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله» يؤت لهم بماء غليظ كدردىّ الزيت، وإذا قرب إليهم للشرب سقطت جلود وجوههم ونضجت من شدة حره. روى أحمد والترمذي والبيهقي والحاكم عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال «المهل: كعكر الزيت، فإذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه» ، وعن ابن عباس قال: أسود كعكر الزيت (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي ما أقبح هذا الشراب الذي هو كالمهل، فهو لا يطفىء غلّة، ولا يسكّن حرارة الفؤاد، بل يزيد فيها إلى أقصى غاية، وما أسوا هذه النار منزلا ومرتفقا، وجاء فى الآية الأخرى: «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» ثم ثنّى بذكر السعداء فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك، وعملوا ما أمرهم به ربهم، فالله لا يضيع أجرهم على ما أحسنوا من الأعمال، ولا يظلمهم على ذلك نفيرا ولا قطميرا.

[سورة الكهف (18) : الآيات 32 إلى 44]

ثم بين ما أعد لهم من النعيم بقوله: (1) (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي إنه لهم جنات يقيمون فيها تجرى من تحت غرفها الأنهار. (2) (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) أي يلبسون فيها أساور من ذهب تكون حلية لهم، وعن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» . أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب، وجاء فى آية أخرى من فضة، وفى أخرى من ذهب ولؤلؤ فيعلم من هذا أنهم يحلون بالأساور الثلاثة، فيكون فى يد الواحد منهم سوار من ذهب وآخر من فضة وآخر من لؤلؤ. (3) (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) أي ويلبسون رقيق الحرير وغليظه مما نسج من سلوك الذهب، وهذا لباس المترفين فى الدنيا، ومنتهى ما يكون لأهل النعيم. واختير اللون الأخضر، لأنه أرفق بالأبصار، ومن ثم جعله الله لون النبات والأشجار، وجعل لون السماء الزرقة، لأنه نافع لأبصار الحيوان أيضا، وقد قالوا: ثلاثة مذهبة للحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن. (4) (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) أي يتكئون فيها على سرر مزدانة بالستور، وفى هذا دليل على منتهى الراحة والنعيم، كما يكون ذلك فى الدنيا. (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) أي نعمت الجنة لهم جزاء وفاقا على جميل أعمالهم، وحسنت منزلا ومقيلا. ونحو الآية قوله: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً. خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» . [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الجنة: البستان، سميت بذلك لا جتنان أرضها واستتارها بظل الشجر، وكل مادة (ج ن ن) تفيد الخفاء والاستتار كالجنين والجن والمجنون لاستتار عقله وجن الليل: أي أظلم إلى نحو ذلك، أعناب: أي كروم منوعة، وحففناهما بنخل: أي جعلنا النخل محيطا بهما مطبقا بحفافيهما: أي جانبيهما، يقال حفّه القوم: أي

المعنى الجملي

طافوا به، ومنه قوله «حافّين من حول العرش» وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله، أكلها: أي ثمرها، ولم تظلم: أي لم تنقص، والنهر لغة فى النهر: وهو مجرى الماء العذب، ثمر: أي أنواع من المال يقال ثمر فلان ماله وأثمره: إذا نماه. قال الحرث ابن كلدة: ولقد رأيت معاشرا ... قد أثمروا مالا وولدا والصاحب: المصاحب لك، يحاوره: أي يجادله ويراجعه الكلام بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله والبعث، والمراد من النفر الخدم والحشم والأعوان، أن تبيد: أي تفنى وتهلك، قائمة: أي كائنة متحققة، ومنقلبا: أي مرجعا وعاقبة، سواك: أي عدلك وكملك إنسانا، لكنا هو الله، أصل التركيب لكن أنا هو الله ربى (دخله نقل وحذف) لولا: حرف يفيد الحث على الشيء والتوبيخ على تركه، ما شاء الله: أي ماشاء الله كائن، حسبانا من السماء: أي مطرا عظيما يقلع زرعها وأشجارها، والصعيد: وجه الأرض وزلقا: أي تصير بحيث تزلق عليها الرجل والمراد أنها تصير ترابا أملس لا تثبت فيه قدم، والغور: الغائر فى الأرض الغائص فيها، طلبا: أي عملا وحركة لرده، وأحيط بثمره: أي أهلكت أمواله، يقال أحاط به العدو: إذا استولى عليه وغلبه، ثم استعمل فى كل إهلاك، ويقلب كفيه، هذا أسلوب فى اللغة يفيد الندامة والحسرة، فإن من تعظم حسرته يصفق بإحدى يديه على الأخرى متأسفا متلهفا، خاوية: أي ساقطة، يقال خوت الدار وخوت وخويت خيا وخويا: تهدمت وخلت من أهلها، والعروش: واحدها عرش وهى الأعمدة التي توضع عليها الكروم، منتصرا: أي ممتنعا بقوة عن انتقام الله، عقبا: أي عاقبة. المعنى الجملي بعد أن أمر الله نبيه بصبر نفسه مع فقراء المؤمنين، وعدم طاعة أولئك الأغنياء من المشركين الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلّم طرد هؤلاء الصعاليك، وأن

الإيضاح

يعين لهم مجلسا وللسادة مجلسا آخر حتى لا يؤذوهم بمناظرهم البشعة، وروائحهم المستقذرة، وحتى لا يقال إن السادة ومواليهم يجتمعون فى صعيد واحد، ويتحدثون وإياهم حديث الند للند، وفى ذلك امتهان لكبريائهم وخفض من عزتهم- قفى على ذلك بمثل يستبين منه أن المال لا ينبغى أن يكون موضع فخار، لأنه ظل زائل، وأنه كثيرا ما يصير الفقير غنيا والغنى فقيرا، وإنما الذي يجب أن يكون أساس التفاخر، وعمدة التفاضل، هو طاعة الله وعبادته والعمل على ما يرضيه فى دار الكرامة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. الإيضاح (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) أي واضرب أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى- مثلا هو مثل رجلين جعلنا لأحدهما بستانين من كروم العنب، وأحطناهما بنخل، وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا. وخلاصة ذلك- إن أرضه جمعت القوت والفواكه، وهى متواصلة متشابكة، فلها منظر ورواء حسن ووضع أنيق يخلب اللب بجماله وبهجته إذا امتلأ منه البصر. روى أن أخوين من بنى إسرائيل ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر بنصيبه ضياعا وعقارا، وأنفق المؤمن ما ورثه فى وجوه الخير وطاعة الله وآل أمرهما إلى ما قصه الله علينا فى كتابه. وسواء أصحت الرواية أم لم تصح، فإن ضرب المثل لا يتوقف على صحتها. وقد ضرب الله المثل ليبين حال الفريقين المؤمنين والكافرين، من قبل أن الكفار مع تقلبهم فى النعيم قد عصوا ربهم، وأن المؤمنين مع مكابدتهم للشدائد والبأساء قد أطاعوه. (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي كلتا الجنتين أخرجت ثمرها

ولم تنقص منه شيئا فى سائر الأعوام على خلاف ما يعهد فى الكروم والأشجار من أنها تكثر غلتها أعواما وتقل أعواما أخرى. (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي وشققنا وسط الجنتين نهرا كبيرا تتفرع منه عدة جداول، ليدوم سقيهما، ويزيد بهاؤهما وتكثر غلتهما. (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي وكان لصاحب الجنتين أموال أخرى غيرهما من ذهب وفضة ثمرها بما ادخره من غلات الجنتين ومن تجارات أخرى. وخلاصة ذلك- إنه سبحانه أنعم عليه بخيرات الدنيا صامتها وناطقها، ثاغيها وراغيها، وكان له مزارع يستخدم فيها أعوانه وخدمه ولا يستعصى عليه شىء من مسرات الدنيا ومباهجها، ولذاتها ونعيمها. وبعد أن تم له الأمر وقعد على سنام العز والكبرياء، داخله الزّهو والخيلاء. (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً) أي فقال لصاحبه المؤمن حين حاوره وراجعه الحديث، مذكرا له بالإيمان بالله والبعث والقيامة: أنا أكثر منك مالا كما ترى من جناتى وزروعى المختلفة، وأعز عشيرة ورهطا تقوم بالذبّ عنى ودفع خصومتى، وتنفر معى عند الحاجة إلى ذلك. ثم زاد فخرا على صاحبه المسلم وأراه عيانا ما يتمتع به من المناظر البهيجة فى تلك الجنان التي لا تفنى، وذلك ما أخبر عنه سبحانه بقوله: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي ودخل هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب وأشجار ونخيل، ومعه صاحبه، هاتين الجنتين وطاف به فيهما مفاخرا وقال حين عاين ما فيهما من أشجار وثمار وزروع وأنهار مطردة: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا ولا تخرب- كما قال (وهو شاك فى المعاد إلى الله والبعث والنشور) ما أظن أن يوم القيامة آت كما تقولون، وقد كان فى كل ذلك ظالما لنفسه، إذ وضع الشيء فى غير موضعه، فقد كان أليق به أن يكون شاكرا لتلك

النعم، متواضعا لربه، لا أن يكون كافرا به، منكرا لما جاء به الوحى، وأقرته جميع الشرائع. وخلاصة ذلك- إنه لحقه الخسار من وجهين. (1) ظنه أن تلك الجنة لا تهلك ولا تبيد مدى الحياة. (2) ظنه أن يوم القيامة لن يكون. ثم تمنى أمنية أخرى كان فى شك منها فقال: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي ولئن كان معاد ورجعة إلى الله ليكوننّ لى هناك أحسن من هذا الحظ عند ربى، والذي جرّأه على هذا الطمع وعلى تلك اليمين الفاجرة- اعتقاده أن الله إنما حباه بما حباه به فى الدنيا لما له من كرامة لديه، ولما فيه من مزايا استحق بها أن ينال ما نال. ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن الكافر «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» . وخلاصة ذلك- إنه لم يعطنى الجنة فى الدنيا إلا ليعطينى فى الآخرة ما هو أفضل منها قال ذلك طمعا وتمنيا على الله، وادعاء للكرامة عنده. ثم ذكر سبحانه جواب المؤمن له فقال: (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟) أي قال له صاحبه المؤمن واعظا وزاجرا عما هو فيه من الكفر: أكفرت بالذي خلقك من التراب؟ إذ غذاء والديك من النبات والحيوان، وغذاء النبات من التراب والماء، وغذاء الحيوان من النبات، ثم يصير هذا الغذاء دما يتحول بعضه إلى نطفة يكون منها خلقك بشرا سويا على أتم حال وأحكمه بحسب ما تقتضيه الحكمة- فهذا الذي خلقك على هذه الحال قادر على أن يخلقك مرة أخرى. والخلاصة- كيف تجحدون ربكم، ودلالة خلقكم على وجوده ظاهرة جلية

يعلمها كل أحد من نفسه، فما من أحد إلا يعلم أنه كان معدوما ثم وجد، وليس وجوده من نفسه. ولا مستندا إلى شىء من المخلوقات، لأنها مثله، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف بالوحدانية والربوبية وأقول هو الله ربى. (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) فهو المعبود وحده لا شريك له. وفى هذا تعريض بأن صاحبه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساويا لخلقه فى هذا العجز، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك. ثم زاد فى عظة صاحبه فقال له: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أي وهلا إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها ونظرت إليها- حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك، وقلت: الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، ليكون ذلك منك اعترافا بالعجز، وبأن كل خير بمشيئة الله وفضله، وهلا قلت: لا قوة إلا بالله، إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فإنما هو بمعونة الله وتأييده. وبعد أن نصح الكافر بالإيمان، وأبان له عظيم قدرة الله وكبير سلطانه- أجابه عن افتخاره بالمال والنفس ورد على قوله: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا فقال: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي إن ترنى أيها الرجل أفقر منك فإنى أرجو الله أن يقلب الآية، ويجعل ما بي بك، ويرزقنى الغنى، ويرزقنى لإيمانى جنة خيرا من جنتك، ويسلبك بكفرك نعمته، ويخرب جنتك، بأن يرسل عليها مطرا من السماء يقلع زروعها وأشجارها، أو يجعل ماءها يغور فى الأرض، فلن تطيق أن تدركه بعد غوره بطلبك إياه.

وخلاصة ذلك- إن المؤمن رجا هلاك جنة صاحبه الكافر إما باقة سماوية أو بآفة أرضية وهى غور مائها، وكلناهما تتلف الشجر والزرع والكرم. ثم أخبر سبحانه بأنه قد حقق ما قدره هذا المؤمن فقال: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) أي وأحاطت الجوائح بثمار جنته التي كان يقول فيها: ما أظن أن تبيد هذه أبدا- فأصبح يقلب كفيه ندما وأسفا على ضياع نفقته التي أنفقها فى عمارتها حين رآها ساقطة على عروشها، ويتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدا. ولخلاصة- إنه لما أنفق عمره فى تحصيل الدنيا وأعرض عن الدين، ثم ضاعت منه الدنيا حرم الدين والدنيا معا، ومن ثم عظمت حسرته وقال: ليتنى لم أشرك بربي أحدا. (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ولم تكن له عشيرة ممن افتخر بهم واستعز ينصرونه ويقدرون على دفع الجوائح عنه أو رد المهلك له، من دون الله، فإن الله هو الذي يقدر وحده على نصره، وما كان منتصرا بقوته عن انتقام الله منه بإهلاك جنته. وخلاصته- إنه لا يقدر على نصره إلا الله، ولا ينصره غيره من عشيرة وولد، وخدم وحشم وأعوان، كما لا يقدر أن ينتصر لنفسه. ثم أكد الجملة السالفة وقرر المراد منها بقوله: (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) أي فى مثل هذه الشدائد والمحن- النصرة لله وحده لا يقدر عليها غيره. (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أي هو خير جزاء وخير عاقبة لأوليائه، فينتقم لهم منهم، ويفوض أمرهم إليهم. وبعد أن ضرب المثل لدنيا هؤلاء الكافرين التي أبطرتهم، وكانت سبب

[سورة الكهف (18) : الآيات 45 إلى 46]

شقائهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا- ضرب مثلا لدار الدنيا عامة فى سرعة فنائها وعدم دوام نعيمها فقال: [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) تفسير المفردات المثل: الصفة، وهشيما: أي يابسا متفتتا، تذروه: أي تنثره وتفرقه، ومقتدرا: أي كامل القدرة، والباقيات الصالحات: هى الأعمال الصالحة كلها، وثوابا: أي جزاء. المعنى الجملي أخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل وما هى يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله» . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هن الباقيات الصالحات، وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها، وهن من كنوز الجنة» . وأخرج النسائي والطبراني والبيهقي عن أبى هريرة مرفوعا «خذوا جنّتكم، قيل يا رسول الله من أىّ عدو قد حضر، قال بل جنّتكم من النار قول سبحان الله، والحمد لله،

الإيضاح

ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات معقّبات ومجنبّات، وهن الباقيات الصالحات» . الإيضاح (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) شبّهت الدنيا فى نضرتها ثم صيرورتها إلى الزوال بحال نبات اخضرّ والتف وأزهر، ثم صار هشيما متفتّتا تنثره الرياح ذات اليمين وذات الشمال ومن ثم لا يغترّنّ أهلها بها، ولا يفخرنّ ذو الأموال الكثيرة بأمواله، ولا يستكبرنّ بها على غيره، فإنما هى ظل زائل، وفى الحديث «الدنيا كسوق قام ثم انفضّ» . (وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي وكان الله ذو الكمال والجلال قادرا على كل شىء إنشاء وإفناء وإعادة، فهو يوجد الأشياء ثم ينمّيها ثم يفنيها، وما حال الدنيا إلا هذه الحال، فهى تظهر أولا ناضرة زاهرة ثم تتزايد قليلا قليلا، ثم تأخذ فى الانحطاط إلى أن تصير إلى الهلاك والفناء، فلا ينبغى للعاقل أن يبتهج بما يحوزه منها أو يفخر به أو يصعّر خذه استكبارا. ثم بين سبحانه ما كانوا يفتخرون به من محسّنات الدنيا إثر بيان حالها بما مرّ من المثل فقال: (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن الأموال والبنين التي يفخر بها عيينة والأقرع وأضرابهم هى من زينة هذه الحياة، وليسا من زاد الآخرة، وقد علمت أن الدنيا سريعة الفناء، فلا ينبغى التفاخر بها. وقدم المال على البنين مع كونهم أعز منه لدى جميع الناس- من قبل أن الزينة به أتم، ولأنه يمد الآباء والأبناء فى كل حين، ولأنه مناط بقاء النفس والأولاد، وبذا يبقى النوع الإنسانى، ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم، ولأنه زينة بدونهم، دون العكس، فإن من له بنون ولا مال له فهو فى بؤس وشقاء.

[سورة الكهف (18) : الآيات 47 إلى 49]

روى عن على كرم الله وجهه: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام. ثم بين ما ينبغى التفاخر به فقال. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا) أي وأعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان وهى أفعال الطاعات كالصلات والصدقات والجهاد فى سبيل الله ومساعدة البائسين وذوى الحاجات- خير عند ربك من المال والبنين جزاء، وخير أملا، إذ ينال بها صاحبها فى الآخرة ما كان يؤمله فى الدنيا. [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) تفسير المفردات بارزة أي ظاهرة، إذ لم يبق على وجهها شىء من العمائر ولا من الجبال والأشجار، وحشرناهم: أي سقناهم إلى الموقف من كل أوب، فلم نغادر: أي لم نترك يقال غادره وأغدره إذا تركه، ومنه الغدر وهو ترك الوفاء، وعرضوا: أي أحضروا لفصل القضاء، صفا: أي مصطفين، موعدا: أي وقتا ننجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه، ووضع الكتاب: أي جعل كتاب كل عامل فى يد صاحبه حين الحساب، مشفقين: أي خائفين، والويل: الهلاك، ويا ويلتنا: أي يا هلاك أقبل فهذا أوانك، أحصاها: أي

المعنى الجملي

عدّها، حاضرا، أي مسطورا فى كتاب كل منهم، ولا يظلم ربك: أي لا يتجاوز ما حدّه من الثواب والعقاب. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أن الدنيا ظل زائل، وأنه لا ينبغى أن يغتر أحد بزخرفها ونعيمها، بل يجب أن يكون موضع التفاخر العمل الصالح الذي فيه رضا الله وانتظار مثوبته فى جنات تجرى من تحتها الأنهار- أردف ذلك ذكر أحوال يوم القيامة وما يكون فيها من أخطار وأهوال، وأنه لا ينجى منها إلا اتباع ما أمر به الدين وترك ما نهى عنه مما جاء على لسان الأنبياء والمرسلين، لا الأموال التي يفتخر بها المشركون على المؤمنين. الإيضاح ذكر سبحانه من أحوال يوم القيامة أمورا: (1) (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي واذكر أيها الرسول يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيّرها فى الجو كالسحاب ونجعلها هباء منثورا كما قال «ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّى نسفا. فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا» أي تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض سطحا مستويا لا عوج فيه ولا وادي ولا جبل، وقال: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» وقال: «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» . (2) (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) أي وترى أيها الرائي جميع جوانب الأرض بادية ظاهرة، إذ لم يبق على وجهها شىء من العمائر ولا شىء من الجبال ولا شىء من الأشجار فليس عليها ما يسترها، فيكون جميع الخلق ضاحين لربهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم وهذا هو المراد من قوله: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.

(3) (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي وجمعنا الأولين والآخرين للحساب بعد أن أقمناهم من قبورهم، فلم نترك منهم أحدا لا صغيرا ولا كبيرا كما قال: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» وقال: «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» وعن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول «يحشر الناس حفاة عراة غرلا (الغرلة القلفة) فقلت: الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال الأمر أشد من أن يهمّهم ذلك» زاد النسائي فى رواية «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» . ولما ذكر سبحانه حشر الخلق بين كيفية عرضهم على ربهم فقال: (4) َ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي يعرض الخلق كلهم على الله صفا واحدا كما قال: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» ويقال لهم على طريق التوبيخ والتقريع: لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة فرادى حفاة عراة لا شىء معكم من المال والولد. ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» . وفى هذا زجر لأولئك المشركين المنكرين للبعث الذين يفخرون فى الدنيا على الفقراء من المؤمنين بالأموال والأنصار. أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى ينادى يوم القيامة: يا عبادى أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين، أحضروا حجتكم. ويسّروا جوابكم، فإنكم مسئولون محاسبون، يا ملائكتى أقيموا عبادى صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب» . وفى الحديث الصحيح «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين فى صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر» والحديث له بقية.

َلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ولا هو كائن، وكنتم مع الافتخار على المؤمنين بالأموال تنكرونه، فالآن قد استبان لكم أنه حق، وأنه لا مال ولا ولد بين أيديكم. (5) (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي ووضع كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير فى يد صاحب اليمين والشمال، فترى المجرمين جميعا نادمين على ما فيه من قبائح أعمالهم، وسىء أفعالهم وأقوالهم، وظهور ذلك لأهل الموقف، خائفين من عقاب الحق، والفضيحة عند الخلق. (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟) أي ويقولون حين وقوفهم على ما فى تضاعيفه: يا حسرتنا على ما فرطنا فى جنب الله، ما لهذا الكتاب لا يترك هنة صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعدّها، فهو محيط بجميع ما كسبته يد الإنسان. ونحو الآية قوله: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» وقوله: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» وما مثل النفس إلا مثل الزجاجة التي يضعها المصور فى صندوق آلة التصوير، فكل صورة تقع عليها تلتقطها وتحفظها من ضار ونافع، فإذا كشف الغطاء أبصرنا كل ما عملنا ورأينا صوره كما هى من حسن وسىء، وفضيلة ورذيلة، فتفعل فى عقولنا فعلها دون كلام ولا كتابة، وكل امرئ يراها يقرؤها والناس فيها سواء. ثم أكد ما سلف بقوله: (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مثبتا فى كتابهم، خيرا كان أو شرا كما قال: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً» الآية. وقال: «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» . (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) من خلقه، بل يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب

[سورة الكهف (18) : الآيات 50 إلى 53]

من يشاء بحكمته وعدله، فإنه سبحانه وعد بإثابة المطيع، وتعذيب العاصي، بمقدار جرمه من غير زيادة، وإنه قد يغفر له ما سوى الكفر، ومن ثم لا يعذب أحدا بما لم يعمله ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه، ولا يزيد فى عقابه الملائم لعمله الذي نهى عنه ولم يرتضه. ونحو الآية قوله «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» وقوله «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» . وخلاصة ذلك- إن الجزاء نتيجة العمل، والعمل مرسوم فى قوالب حافظة له، فليس يمكن رفعه ولا دفعه، ولا يكون الجزاء عليه ظلما، كما لا تعد التّخمة بعد الأكل الكثير ظلما، ولا المرض بعد الشرب من الماء الآسن المملوء بالجراثيم والأدران ظلما، وإنما تلك مسببات لأسباب كل عاقل يعلم أنها نتيجة حتمية لها. [سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فسق: خرج يقال فسق الرطب إذا خرج عن قشره، أفتتخذونه، الهمزة فى مثل هذا تفيد الإنكار والتعجب ممن يفعل مثل ذلك، والذرية: الأولاد وبذلك قال جمع من العلماء، منهم الضحاك والأعمش والشعبي، وقيل المراد بهم الأتباع من الشياطين، والعدو يطلق على الواحد والكثير كما قال: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» وقال: «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ» والعضد: أصله ما بين المرفق إلى الكتف، ويستعمل بمعنى المعين كاليد ونحوها وهو المراد هنا، فدعوهم. أي فاستغاثوا بهم، فلم يستجيبوا لهم: أي فلم يغيثوهم، والموبق: مكان الوبوق: أي الهلاك وهو النار يقال وبق وبوقا كوثب وثوبا: إذا هلك، مواقعوها: أي داخلوها وواقعون فيها، ومصرفا: أي مكانا ينصرفون إليه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه رده على أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بأموالهم وأعوانهم وقالوا كيف نجلس مع هؤلاء ونحن من أنساب شريفة وهم من أنساب وضيعة، ونحن أغنياء وهم فقراء؟ - قفّى على ذلك بذكر عصيان إبليس لأمره تعالى بالسجود لآدم، لأن الذي حداه إلى ذلك هو كبره وافتخاره عليه بأصله ونسبه إذ قال «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ، فأنا أشرف منه أصلا ونسبا فكيف أسجد له؟ تنبيها إلى أن هذه الطريقة السالفة هى بعينها طريقة إبليس، ثم حذر سبحانه منها فى قوله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) وقد تكرر ذكر هذه القصة فى مواضع من الكتاب الكريم، وهى فى كل موضع سيقت لفائدة غير ما جاءت له فى المواضع الأخرى، على اختلاف أساليبها وعباراتها، ولا غرو فهى من نسج العليم الخبير.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) تقدم أن قلنا فى سورة البقرة: إن الملائكة عالم من العوالم الغيبية لا نعرف حقيقتهم، والقرآن الكريم يرشد إلى أنهم أصناف، لكل صنف عمل، وقد جاء على لسان الشرع إسناد إلهام الحق والخير إليهم، كما يستفاد من خطابهم لمريم عليها السلام، وإسناد الوسوسة إلى الشياطين كما ورد فى الحديث «إن للشيطان امّة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإبعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإبعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، وليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ثم قرأ: «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» . الملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس على وجه لا نعرف حقيقته، بل نؤمن به كما ورد، ولا نزيد عليه شيئا. وكلنا نشعر بأنا إذا هممنا بأمر فيه وجه للحق أو الخير، ووجه للباطل أو الشر- بأن فى نفوسنا تنازعا وكأن هاجسا يقول افعل، وآخر يقول: لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين على الآخر، فهذا الذي أودع فى النفوس ونسميه قوة وفكرا- لا يبعد أن نسميه ملكا إن كان يميل إلى الخير، وشيطانا إن كان يميل إلى الشر. والسجود: الخضوع والانقياد، وكان تحية للملوك عند بعض القدماء كما جاء من سجود يعقوب وأولاده ليوسف، والسجود قسمان: سجود العقلاء تعبدا على الوجه المخصوص، وسجود سائر المخلوقات لمقتضى إرادته تعالى كما قال «وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ» . والمعنى- واذكر أيها الرسول لقومك وقت قولنا للملائكة: اسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام اعترافا بفضله، واعتذارا عما قالوه فى شأنه من نحو قولهم: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» فسجدوا كلهم أجمعون امتثالا إلا إبليس أبى واستكبر.

ثم بين السبب فى عصيانه ومخالفته للأمر فقال: (كانَ مِنَ الْجِنِّ) أي إن الذي منعه من السجود أنه كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة، مغمورا بينهم، متصفا بصفاتهم، بدليل أنه قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ولأنه تعالى أثبت له فى هذه الآية ذرية ونسلا والملائكة لا ينسلون، ولأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر. ويرى قوم أنه كان من الملائكة بدليل أن خطاب السجود كان معهم، ولأن وصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، دليل على أنه يتصور منهم العصيان، ولولا ذلك ما مدحوا به، لكن طاعتهم طبع، وعصيانهم تكلف، وطاعة البشر تكلف، ومتابعة الهوى منهم طبع، ولأنه تعالى ذكر من هاروت وماروت ما ذكر، وهما ملكان. على أنه لا دليل على أن هناك فروقا جوهرية بين الملائكة والجن، بها يمتاز أحدهما من الآخر، بل هى فروق فى الصفات فحسب، والجميع من عالم الغيب لا نعلم حقيقتهم ولا نضيف إليها شيئا إلا إذا ورد به نص عن المعصوم. (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي فصار فاسقا كافرا بسبب أمر الله للملائكة المعدود هو فى عدادهم، إذ لولا الأمر ما تحقق إباء. وفى الآية إيماء إلى أن فسقه قد نتج عن كونه من الجن، إذ أن من شأنهم التمرد والعصيان لكدورة مادتهم، وخباثة ذاتهم (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) وإن كان منهم من أطاع وآمن. ثم حذر سبحانه من اتباعه بعد أن استبان من حاله ما استبان فقال: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟) أي وبعد العلم بما صدر منه من القبائح لا ينبغى لكم أن تتخذوه وأولاده وأعوانه أولياء لكم من دونى تطيعونهم بدل طاعتى وهم لكم أعداء. وجملة المعنى- كيف تصنعون هذا الصنيع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم

بجميع ما أنتم فيه من النعم، من لم يكن لكم منه منفعة قط بل هو عدو لكم يترقب حصول ما يضركم فى كل حين. (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) أي بئس البدل للكافرين بالله اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دونه، وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم، المتفضل عليهم بما لا يحصى من الفواضل. ثم بين السبب فى عدم استحقاق إبليس وذريته هذه الولاية فى أنفسهم بعد بيان خباثة أصلهم فقال: (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي ما أحضرت إبليس وذريته خلق السموات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، فكيف تطيعونهم وتعبدون الأصنام من دونى وهم عبيد أمثالكم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟. وقصارى ذلك- ما أطلعتهم على أسرار التكوين، وما خصصتهم بخصائص لا تكون لسواهم، حتى يقتدى الناس بهم، فأنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ليس لى فى ذلك شريك ولا وزير. (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي وما كنت متخذ من لا يهدون إلى الحق أعوانا وأنصارا، لأنهم يضلون فمتبعهم يجور عن قصد السبيل، ولا يصل إلى هدى، فكيف اتبعوهم وعبدوا الأصنام على مقتضى وسوستهم؟. ثم أخبر سبحانه عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رءوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا فقال: (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي واذكر أيها الرسول يوم الجمع حين يقول الله تعالى للكافرين على سبيل التأنيب والزجر: نادوا للشفاعة لكم من زعمتم فى الدنيا أنهم شركائى، لينقذوكم مما أنتم فيه، والمراد بهم كل ما عبد من دون الله، فدعوهم ليستغيثوا بهم، ويشفعوا لهم، فلم يغيثوهم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 54 إلى 59]

ونحو الآية قوله: «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» وقوله «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ» وقوله «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» . (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) أي وجعلنا بين المشركين وما كانوا يدعون من دون الله شركاء فى الدنيا- موضعا للهلاك وهو النار حسما لأطماعهم أن يصل إليهم من دعوه للشفاعة. (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي وعاين المشركون النار يومئذ فعلموا أنهم داخلوها ولم يجدوا بدّا من الوقوع فيها، لأن الله قد حتّم عليهم ذلك، فلا معدل لهم عنها، ولا مكان لهم ينصرفون إليه ويزايلونها، إذ قد أحاطت بهم من كل جانب. [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

تفسير المفردات

تفسير المفردات صرّفنا: أي ردّدنا وكررنا، والمثل: الصفة الغريبة، والجدل: المنازعة بالقول ويراد به هنا المماراة والخصومة بالباطل، وسنة الأولين: الإهلاك بعذاب الاستئصال، والقبل (بضمتين) الأنواع والألوان واحدها قبيل، ليدحضوا به الحق: أي ليبطلوه ويزيلوه من قولهم دحضت رجله أي زلقت ودحضت حجته بطلت، وما أنذروا: أي ما خوفوه من أنواع العقاب، ونسى ما قدمت يداه، أي لم يتدبر عواقبه، أكنة: أي أغطية واحدها كنان، أن يفقهوه: أي أن يفهموه. وقرا: أي ثقلا فى السمع، الموعد: يوم القيامة، موئلا: أي ملجأ يقال وأل فلان إلى كذا وألا ووءولا: إذا لجأ إليه، القرى: أي قرى عاد وثمود وقوم لوط وأشباههم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه شبهات المبطلين ورد عليها بأدلة لا تدحض، وبرهانات لاتردّ- قفى على ذلك ببيان أن فى القرآن من الأمثال ما فيه مقنع لمن تذكر وتدبر وألقى السمع وهو شهيد، لكنها القلوب قد تحجرت، والأفئدة قد قست، فلا تنفع فيها الذكرى، ولا تستجيب لوعظ الواعظ، ونصيحة المذكر، ولو آخذهم ربهم بما كسبوا لأرسل عليهم العذاب معجّلا، ولم يبق منهم على ظهر الأرض أحدا، ولكنه الغفور ذو الرحمة، فجعل لهلا كهم موعدا، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويرعوون عن غيهم. أخرج الشيخان وابن المنذر وابن أبى حاتم عن على كرم الله وجهه «أن النبي

الإيضاح

صلى الله عليه وسلّم طرقه وفاطمة ليلا فقال (ألا تصلّيان) فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إلىّ شيئا، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» . الإيضاح (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد وضّحنا للناس كل ما هم فى حاجة إليه من أمور دينهم ودنياهم، ليتذكروا فينيبوا ويعتبروا ويزدجروا عماهم عليه مقيمون من الشرك بالله وعبادة الأوثان، لكنهم لم يقبلوا ذلك، ولم يرعووا عن غيهم وعنادهم، واستكبارهم وعتوهم. ثم بين سبب هذا العتو وتلك المماراة فقال: (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) أي وكان الإنسان بمقتضى جبلّته أكثر شىء مراء وخصومة، لا ينيب إلى حق، ولا يزدجر لموعظة، والمراد بذلك خصومة الأمم لأنبيائهم وردهم عليهم ما جاءوا به، كما حكى الله عنهم من قولهم «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ» وقولهم «يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» وشديد تعنتهم كما حكى عنهم بنحو قولهم «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» . وخلاصة ذلك- إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل، لما أوتيه من سعة الحيلة، وقوة المعارضة، واختلاف النزعات والأهواء، وقوة العزيمة إلى غير حد فلو اتجه إلى سبل الخير، وتاقت نفسه إلى سلوك طريقه، ارتقى إلى حظيرة الملائكة، ولو نزعت نفسه إلى اتباع وساوس الشيطان، انحط إلى الدرك الأسفل ولحق بأنواع الحيوان، يفعل ما يشاء، غير مقيد بوازع من الدين، ولازمام من العقل وصادق العريمة.

ولما بين سبحانه وتعالى إعراضهم ذكر علة ذلك فقال: (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا) أي وما منع هؤلاء المشركين من أن يؤمنوا بالله، حين جاءتهم البينات الواضحة، والدلالات الظاهرة، وعلموا صحة ما تدعوهم إليه، وأن يستغفروا ربهم بالتوبة عما فرط منهم من الذنوب- إلا تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم يطلبون أحد أمرين: (1) إما عذاب الاستئصال بنحو قولهم «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (2) وإما أن تأتيهم بأنواع من العذاب والبلاء يتلو بعضها بعضا حين وجودهم فى الدنيا كقولهم «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . وقولهم «ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . ولما كان مجىء ذلك بيد الله، وأمره مفوض إليه، لا إلى الرسول نبه إلى ذلك بقوله: (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي وما نرسل رسلنا إلا ليبشروا أهل الإيمان والتصديق بالله ورسله بجزيل ثوابه فى الآخرة، وينذروا أهل الكفر به وتكذيب رسله بعظيم عقابه وأليم عذابه، ولم نرسلهم ليقترح عليهم الظالمون من أممهم الآيات بعد ظهور المعجزات، ويطلبوا منهم ما لا قبل لهم به. ثم ذكر أن من شأن المشركين كثرة الجدل للرسول صلى الله عليه وسلّم فقال: (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي ويجادل أولئك المشركون بالباطل كقولهم للنبى صلى الله عليه وسلّم: أخبرنا عن فتية ذهبوا أول الدهر، ما شأنهم؟ وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وعن الروح، وما أشبه ذلك مما يقصد منه التعنت وإزالة الحق الذي جاء به الرسل عليهم، لا كشف حقيقة تفيد فى دين أو دنيا.

وخلاصة ذلك- إن الرسل ما أرسلوا للجدل والشغب بالباطل، بل بعثوا للبشارة والإنذار، وأنتم تجادلون بالباطل لتدحضوا الحق الذي جاءكم به رسولى. (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) أي واتخذوا الحجج التي احتج بها عليهم، وكتابه الذي أنزل إليهم، والنذر التي أنذرهم بها العقاب والعذاب- استهزاء وسخرية كقولهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» وقولهم: «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» . ولما حكى عنهم خبيث أحوالهم وصفهم بما يوجب الخزي والنكال فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ؟) أي لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات الله، ودلّ بها على سبيل الرشاد، وهدى بها إلى طريق النجاة، فأعرض عنها ولم يتدبرها ولم يتعظ بها، ونسى ما عمله من الكفر والمعاصي أي لم يتفكر فى عواقبه، ومن ثم لم يتب منها ولم ينب إلى ربه. ثم علل ذلك الإعراض والنسيان بقوله: (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي إن ذلك الإعراض منهم بسبب أن جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوا ما ذكّروا به، وجعلنا فى آذانهم ثقلا لئلا يسمعوه، والمراد أنه لا يدع شيئا من الخير يصل إليها، فهى لا تعى شيئا من الآيات إذا تليت عليها. ذاك أنهم فقدوا الاستعداد لقبول الرشاد، بما دنسوا به أنفسهم من قبيح الافعال والأقوال، وبما اجترحوا من الكفر والفسوق والعصيان، فأصبح بينهم وبين سماع الحق حجاب غليظ، فلا ينفذ إلى السمع شىء مما يسمع سماع تدبر واتعاظ، ولا إلى القلب شىء مما يقال فيعيه وينتفع به كما قال: «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» وقال: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .

وقد تكرر هذا المعنى فى غير موضع من الكتاب الكريم: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» . ثم ذكر سبحانه أثر هذا الختم على القلوب فقال: (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) أي ومهما كررت أيها الرسول من الدعوة إلى الحق، حرصا منك على نجاتهم وخشية نزول البلاء بهم، فلن يستجيبوا لك، ولن يهتدوا بهداك، لأن الله قد كتب عليهم الضلال، بسوء أعمالهم وقبح طواياهم، فأنّى يفيد النصح، وتجدى العظة، ويرقّ القلب؟. وخلاصة المعنى- كأنه صلى الله عليه وسلّم حرصا منه على هداهم قال: مالى لا أدعوهم رجاء أن تنكشف تلك الأكنة، وتمزّق بيد الدعوة، فقيل له- وأنى لك ذلك؟ فإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا أبدا. وقد جاءت هذه الآية فى قوم علم الله أنهم سيموتون على الكفر من مشركى مكة. ثم بين أنه سبحانه لا يعجّل العقوبة لعباده على ما يجترحون من الفسوق والآثام رجاء أن ينيبوا إليه فقال: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) أي وربك أيها الرسول غفور لذنوب عباده، ذو رحمة واسعة بهم، إذا هم أنابوا إليه ورجعوا إلى رحاب عفوه وجوده وكرمه، فيرحمهم واسع الرحمات، ويتجاوز لهم عن عظيم الخطيئات، ولو شاء أن يؤاخذهم بما اجترحوا من المعاصي كإعراضهم عن آياته، ومناصبتهم العداء لرسله، ومجادلتهم بالباطل- لعجل لهم العذاب فى الدنيا وأنزل بهم عذاب الاستئصال جزاء وفاقا لقبيح أعمالهم. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وقوله: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ» إلى نحو ذلك من الآيات الكثيرة فى هذا الباب.

[سورة الكهف (18) : الآيات 60 إلى 74]

ثم أبان أن هذا إمهال لا إهمال فقال: (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) أي بل لهم موعد ليس لهم منه محيص ولا ملجأ يلجئون إليه من عذابه. ثم ذكر ما هو كالدليل على ما سلف فقال: (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكناهم لما ظلموا فكفروا بآياتنا، وجعلنا لهلا كهم ميقاتا وأجلا حين بلغوه جاءهم عذابنا فأهلكناهم به، وهكذا جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك الذين لا يؤمنون بك موعدا لهلاكهم إذا جاء أهلكناهم كما هى سنتنا فى الذين خلوا من قبلهم من أضرابهم من سالفى الأمم. قصة موسى والخضر [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 74] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)

مقدمات تشرح هذا القصص

مقدمات تشرح هذا القصص (1) من موسى؟ أكثر العلماء على أن موسى الذي ذكر فى هذه الآية هو موسى بن عمران نبىّ بنى إسرائيل صاحب المعجزات الظاهرة والشريعة الباهرة، ولهم على ذلك أدلة: (ا) إنه ما ذكر الله موسى فى كتابه إلا أراد صاحب التوراة، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان شخصا آخر سمّى بهذا الاسم لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وتزيل الشبهة. (ب) ما أخرجه البخاري ومسلم فى جماعة آخرين عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضى الله عنهما: إن نوفا البكالي بن فضالة ابن امرأة كعب من أصحاب أمير المؤمنين على كرم الله وجهه، يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بنى إسرائيل، فقال كذب عدو الله. وذهب أهل الكتاب وتبعهم بعض المحدّثين والمؤرخين أن موسى هنا هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران ولهم على ذلك أدلة:

(ا) إن موسى بعد أن أنزلت عليه التوراة وكلمه الله بلا واسطة، وحجّ خصمه بالمعجزات العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر الأنبياء- يبعد أن يبعثه الله بعد ذلك ليستفيد علما من غيره- وردّ هذا بأنه لا يبعد بأن العالم الكامل فى أكثر العلوم يجهل بعد أشياء، فيحتاج فى تعلمها إلى من دونه، وهذا مشاهد معلوم. (ب) إن موسى عليه السلام بعد خروجه من مصر وذهابه إلى التيه توفّى ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته، ولو كانت هذه القصة معه لا قتضت خروجه من التيه، لأنها لم تكن وهو فى مصر بالاتفاق. (ح) إنها لو كانت معه لا قتضت غيبته أياما، ولو كان كذلك لعلمها الكثير من بنى إسرائيل الذين كانوا معه ونقلت لتوافر الدواعي على نقلها، ولم يكن شىء من ذلك، فإذا لم تكن معه- وردّ هذا بأنه قد يكون موسى عليه السلام خرج وغاب أياما، لكن لم يعلموا أنه ذهب لهذا الغرض، بل ذهب ليناجى ربه، ولم يقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع، لعلمه بقصور فهمهم، فخاف من حط قدره عندهم، فأوصى فتاه بكتمان ذلك. وعلى الجملة فإنكارهم لا يؤبه به، وهو جائز عقلا وقد أخبر به سبحانه رسوله (2) من فتاه؟ فتى موسى- هو يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وقد كان يخدمه ويتعلم منه، والعرب تسمى الخادم فتى، لأن الخدم أكثر ما يكونون فى سن الفتوّة كما يطلقون على العبد فتى، وفى الحديث الصحيح «ليقل أحدكم فتاى وفتاتى، ولا يقل عبدى وأمتى» وهذا من محاسن الآداب الشرعية. (3) من الخضر؟ الخضر (بفتح الخاء وكسرها وكسر الضاد وسكونها) لقب لصاحب موسى، واسمه بليا (بفتح الباء وسكون اللام) ابن ملكان، والأكثرون على أنه كان نبيا، ولهم على ذلك أدلة:

تفسير المفردات

(ا) قوله: «آتيناه رحمة من عندنا» والرحمة: النبوة بدليل قوله: «أهم يقسمون رحمة ربّك» . (ب) قوله «وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» وهذا يقتضى أنه علّمه بلا واسطة معلم ولا إرشاد مرشد، وكل من كان كذلك كان نبيا. (ح) إنه قال له موسى: «هل أتبعك على أن تعلّمن» والنبي لا يتعلم من غير النبي. (د) إنه قال: «وما فعلته عن أمرى» أي بل قد فعلته بوحي من الله وهذا دليل النبوة. (4) أين كان مجمع البحرين؟ مجمع البحرين- هو المكان الذي يجتمع فيه البحران ويصيران بحرا واحدا، وفيه رأيان: (ا) إنه ملتقى بحرى فارس والروم (ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند باب المندب) . (ب) إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطى عند طنجة قاله محمد بن كعب القرظي (البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسى عند مضيق جبل طارق أمام طنجة) . وسيأتى رأى آخر للبقاعى. وليس فى الكتاب الكريم ما يدل على تعيين هذين البحرين، فإن جاء فى الخبر الصحيح شىء فذاك، وإلا فيجمل السكوت عنه. تفسير المفردات لا أبرح: أي لا أزال سائرا، والحقب (بضمتين وبضم فسكون) الدهر، وقيل ثمانون سنة، وعن الحسن سبعون، مجمع بينهما، أي مكان اجتماعهما، سربا:

المعنى الجملي

أي مسلكا كالسرب: وهو النفق فصار الماء عليه كالقنطرة، والغداء: الطعام الذي يؤكل أول النهار والمراد به هنا الحوت، نصبا: أي تعبا وإعياء، أوينا: أي التجأنا نبغى: نطلب، ارتد: رجع، على آثارهما: أي على طريقهما الذي جاءا منه، قصصا: أي اتباعا من قولهم أثره إذا اتبعه، رحمة: هى النبوة هنا، الرشد (بضم فسكون وبفتحتين) إصابة الخير، والإحاطة بالشيء: معرفته معرفة تامة، والخبر: المعرفة، وذكرا: أي بيانا، إمرا: (بكسر الهمزة) أي منكرا: من أمر الأمر بمعنى كثر، والعرب تصف الدواهي بالكثرة، لا ترهقنى: أي لا تحملني، والعسر: ضد اليسر وهو المشقة، زكية: أي طاهرة من الذنوب، بغير نفس: أي بغير حق قصاص لك عليها، والنكر: المنكر الذي تنكره العقول وتنفر منه النفوس. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه قصص المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأنصار، وامتنعوا عن حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم، لئلا يشتركوا مع أولئك الصعاليك فى مجلس واحد، ولئلا يؤذوهم بمناظرهم البشعة، وروائحهم المستقذرة- قفّى على ذلك بذكر قصص موسى عليه السلام مع الخضر، ليبيّن بها أن موسى مع كونه نبيا صادقا أرسله الله إلى بنى إسرائيل بشيرا ونذيرا وهو كليم الله- أمر أن يذهب إلى الخضر ليتعلم منه مالم يعلمه، وفى ذلك دليل على أن التواضع خير من التكبر. روى البخاري ما خلاصته- إن موسى عليه السلام قام فى بنى إسرائيل خطيبا فسئل: أىّ الناس أعلم؟ فقال أنا، فعتب عليه ربه، إذ لم يردّ العلم إليه تعالى فأوحى إليه: إن لى عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، وأمره أن يأخذ حوتا فى مكتل، فحيثما فقد الحوت فهو ثمّة، ففعل ذلك، وسافر مع فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا صخرة فناما فاضطرب الحوت وسقط فى البحر- فاتخذ سبيله فى البحر

الإيضاح

سربا- وصار الماء كالطاق عليه وهو يجرى، فلما استيقظ موسى نسى صاحبه أن يخبره بالحوت، وانطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كان الغد طلب موسى الغداء ووجد النّصب، ولم ذلك إلا بعد أن جاوزا المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: إنى نسيت الحوت وذكر ما كان من أمره عند الصخرة، فارتدا على آثارهما قصصا، حتى انتهيا إلى الصخرة فوجدا رجلا مسجّى بثوب أبيض، وكان من أمر هما ما سترى من مسألة السفينة والغلام والجدار. الإيضاح (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي واذكر أيها الرسول حين قال موسى بن عمران لفتاه يوشع: لا أزال أمشى حتى أبلغ مكان اجتماع البحرين أو أسير دهرا. وسبب قوله هذا: أن الله أوحى إليه أن عبدا من عبادى بمجمع البحرين عنده من العلم مالم تحط به، فأحبّ أن يرحل إليه. وخلاصة ذلك- إن الله أعلم موسى حال هذا العالم وما أعامه موضعه بعينه، فقال لا أزل أمشى حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضى دهرا طويلا حتى أجده. ومجمل الأمر أنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم فى السفر مهما طال به الزمان. (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) أي فانطلقا يمشيان، فلما بلغا مجمع بينهما وهو المكان الذي وعده الله بلقائه عنده- نسيا حوتهما فاتخذ الحوت طريقه فى البحر مسلكا وصار الماء كالقنطرة عليه، فكان ذلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا. ولا شك أن حياة الحوت بعد موته كانت لموسى معجزة، وأما كون ماء البحر

صار كالقنطرة عليه أو كأى وضع آخر، فليس بالواجب علينا أن نعتقده إلا إذا ثبت بالنص القاطع. روى أن موسى عليه السلام أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة، فأخذ حوتا وجعله فى مكتل (قفة) ثم انطلق ومعه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين ناما واضطرب الحوت فى المكتل وخرج منه وسقط فى البحر. روى البخاري ومسلم أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونا (حوتا) ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ ذلك فجعله فى مكتل، وقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرا، فبينما هما فى ظل صخرة إذ تسرّب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسى أن يخبره. وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا ييس حتى يكون صخرة. وحدث محمد بن إسحاق عن الزهري عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين ذكر حديث ذلك: «ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير الحوت الذي فيه، فانجاب كالكوّة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه، فقال ذلك ما كنا نبغ» . (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي فلما جاوزا ذلك المكان المقصود من مجمع البحرين، وسارا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد وارتفع النهار أحس موسى بالجوع، حينئذ قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا تعبا ونصبا من ذلك السفر. وقد كان من الحكمة فى حصول الجوع والتعب له حين جاوز المكان أن يطلب الغداء فيذكر الحوت فيرجع إلى حيث يجتمع بمن يريد.

(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي قال له فتاه: أرأيت ما حدث لى حين التجأنا إلى الصخرة التي بمجمع البحرين؟ إنى نسيت أن أخبرك بما حدث من الحوت، إنه حىّ واضطرب ووقع فى البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا. وذاك أن مسلكه كان كالطاق والسّرب- وما أنسانى ذكره إلا الشيطان. (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي قال موسى: ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت ما كنا نطلبه من حيث إنه أمارة للفوز بما هو المقصود بالذات. (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أي فرجعا فى الطريق الذي جاءا فيه يتبعان أثرهما اتباعا حتى أتيا الصخرة. قال البقاعي- إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملا لا علامة فيها، فالظاهر والله أعلم أنها مجمع النيل والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر، ويؤيده نقر العصفور فى البحر الذي ركب فيه سفينته للتعدية كما ورد فى الحديث، فإن الطير لا يشرب من الماء الملح اه. وخلاصة ما تقدم- إنه تعالى بيّن لموسى عليه السلام أن موضع هذا العالم مجمع البحرين، وأن علامة وجوده فى المكان المعين انقلاب الحوت الميت الذي فى المكتل حيا، فلما بلغا مجمع بينهما اضطرب الحوت فيه ووثب فى الماء وقد أمسك الله إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق أو الكوّة حتى سرى الحوت فيه، فلما جاوز موسى وفتاه المكان المعين وهو الصخرة بسبب النسيان، وسارا كثيرا وتعبا وجاعا قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال الفتى: أرأيت ما وقع لى من الحوت حين لجأنا إلى الصخرة فاتخذ سبيله فى البحر اتخاذا عجبا إذا انقلب من المكتل وصار حيا وألقى نفسه فى البحر على غفلة منى، وإنى نسيت أن أبلغك خبره، وما أنسانى ذكره إلا الشيطان، قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه، لأنه أمارة الظفر

بالمطلوب وهو لقاء الخضر، فرجعا فى طريقهما الأولى، إذ علما أنهما تجاوزا الموضع الذي يقيم فيه ذلك العالم. (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟) أي فوجد موسى وفتاه عند الصخرة حين رجعا إليها عبدا من عبادنا وهو الخضر مسجى بثوب أبيض، فسلم عليه موسى فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟ فقال أنا موسى. قال موسى بنى إسرائيل؟ قال نعم. قال هل أصحبك لتعلمنى مما علمك الله شيئا أسترشد به فى أمرى من علم نافع وعمل صالح؟. (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يا موسى، فإنى على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله، علّمكه لا أعلمه. ثم أكد ذلك مشيرا إلى علة عدم الاستطاعة فقال: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟) أي وكيف تصبر وأنت نبى على ما أتولى من أمور ظواهرها منكرة، وبواطنها مجهولة، والرجل الصالح لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك، بل يبادر بالإنكار. (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً) معك غير منكر عليك. (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) تأمرنى به غير مخالف لظاهر أمر الله. (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي قال له الخضر: إن سرت معى فلا تفاتحنى فى شىء أنكرته علىّ حتى أبتدى بذكره فأبين لك وجه صوابه، فإنى لا أقدم على شىء إلا وهو صواب جائز فى نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك، فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم. (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) أي فانطلقا يمشيان على الساحل يطلبان سفينة فوجداها، فعرف أهلها الخصر من بينهم فحملوهم بغير أجر، حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها حين توسطوا لجّة البحر، إذ أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من ألواح السفينة.

(قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً؟) أي قال موسى للخضر: لقد جئت عظيما منكرا، ثم أخذ موسى ثوبه فحشا به الخرق. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي قال الخضر: ألم أقل لك يا موسى إنك لن تستطيع صبرا معى فيما ترى مما أفعل. (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي قال موسى للخضر لا تؤاخذني بما غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك، ولا تكلفنى مشقة، ولا تضيق علىّ أمرى، ولا تعسّر علىّ متابعتك، بل يسرها بالإغضاء وترك المناقشة. (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) أي فانطلقا بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب، يمشيان على الساحل فأبصر الخضر غلاما يلعب مع لداته وأترابه فقتله، ولم يبين القرآن كيف قتله: أحزّ رأسه أم ضرب رأسه بالجدار، أم بطريق آخر؟ وعلينا ألا نهتم بذلك، إذ لو علم الله فيه خيرا لنا لذكره. (قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟) أي قال موسى عليه السلام للخضر: أتقتل نفسا طاهرة من الذنوب بغير قتل نفس محرمة؟ وخص هذا من بين مبيحات القتل كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، لأنه أقرب إلى الوقوع نظرا إلى حال الغلام. (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي لقد جئت شيئا تنكره العقول وتنفر منه النفوس. وأتى هنا بقوله (نكرا) وهناك بقوله (إمرا) لأن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة، لأن هذا لم يكن إهلاكا لنفس، إذ ربما لا يحصل الغرق، وفى هذا إتلاف النفس قطعا، فكان أنكر. وإلى هنا تم تفسير الجزء الخامس عشر فى الليلة السادسة عشرة من شعبان المعظم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 5 آراء العلماء فى الإسراء 8 إلمامة فى المعراج 9 عظة وذكرى فيما يستخلص من الإسراء والمعراج 15 سلط الفرس على بنى إسرائيل مرتين 17 صفات القرآن 23 لكل امرئ كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة 25 الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم أصناف ثلاثة 33 شعائر الإيمان 36 ما جاء فى بر الوالدين من الأحاديث 40 «ما عال من اقتصد» 42 مفاسد الزنا 43 الحكمة فى تحريم قتل النفس 46 فى الحديث: «أعوذ بك من شر سمعى وشر بصرى وشر قلبى وشر منى» 54 إنكار المشركين للبعث وشبهاتهم على ذلك 57 ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا فى القبر ولا فى الحشر 59 «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» 63 فى الحديث «سلوا الله لى الوسيلة» 66 كان الإسراء فتنة للناس واختبارا لإيمانهم

الصفحة المبحث 71 الشيطان يغرى الناس بأن لا ضرر من فعل المعاصي 74 المشركون يدعون الله حين الشدة، ويعرضون عنه حين الرخاء 77 المعول عليه يوم القيامة الأعمال لا الأنساب 81 أمره صلى الله عليه وسلّم بإقامة الصلاة لأوقاتها 83 «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» 84 المقام المحمود للنبى صلى الله عليه وسلّم 84 الهداة تشرق قلوبهم حين توجههم إلى الله فى أوقات الصلاة 85 طلب الرسول صلى الله عليه وسلّم من ربه التسلط بالحجة والملك 86 القرآن شفاء ورحمة 88 آراء العلماء فى الروح 90 تحذير الهداة من تركهم العمل بالقرآن مرضاة للرؤساء والعامة 91 لو اجتمع الإنس والجن لم يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن 93 اقتراح المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلّم إنزال الآيات الكونية 97 لو أرسل الله تعالى ملكا لجعله بشرا 97 جاء جبريل فى صورة دحية الكلبي 98 الكفار يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. 100 الدليل على إثبات البعث 101 «يد الله ملأى لا تغيضها نفقة» 103 آيات موسى التسع 105 سكنى بنى إسرائيل أرض الشام 107 محمد صلى الله عليه وسلّم مبشر ونذير

الصفحة المبحث 108 أهل الكتاب يخرون للأذقان سجدا إذا سمعوا القرآن 110 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكمال 111 تنزيه الله سبحانه على ضروب 115 الذين قالوا: اتخذ الله ولدا ثلاث طوائف 118 قصص أهل الكهف كما أثر عن العرب 120 إجمال القرآن لقصص أهل الكهف 123 تفصيل قصص أهل الكهف وبسطه 125 فى أي زمن كان حادث أهل الكهف؟ 134 نهينا عن اتخاذ القبور مساجد 135 عدد أهل الكهف 137 أمرنا أن نقدم المشيئة إذا عزمنا على فعل شىء 138 الثلاثمائة السنة الأفرنجية هى الثلاثمائة والتسع العربية 142 كان صناديد قريش يأبون أن يجلسوا مع الفقراء فى مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم 145 ما أعد الله لأهل الجنة من النعيم 148 مثل الجنتين 150 حوار بين المؤمن والكافر 152 ندم الكافر على ما فعل 153 مثل الحياة الدنيا 154 المال والبنون زينة الحياة الدنيا 156 أحوال يوم القيامة 156 كيفية عرض الخلائق يوم القيامة

الصفحة المبحث 158 المجرمون يشفقون مما فى كتابهم 162 هل إبليس من الجن أو الملائكة؟ 163 تدعى الأصنام للشفاعة فلا تستجيب 165 فى القرآن من الأمثال ما فيه مقنع لمن تذكر وتدبر 168 قال المشركون القرآن أساطير الأولين 170 قصص موسى والخضر 171 من موسى؟ ومن الخضر؟ 173 أين كان مجمع البحرين؟

تتمة سورة الكهف

الجزء السادس عشر [تتمة سورة الكهف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكهف (18) : الآيات 75 الى 78] قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) تفسير المفردات فلا تصاحبنى: أي فلا تجعلنى صاحبا لك. بلغت من لدنى عذرا: أي وجدت عذرا من قبلى، قرية: هى أنطاكية كما روى عن ابن عباس أو الأبّلة أو الناصرة، ولا يوثق بصحة شىء من هذا، استطعما أهلها: أي طلبا منهم أن يطعموهما، أن يصيفوهما: أي ينزلوهما أضيافا: يقال، ضافه إذا كان له ضيفا، وأضافه وضيّفه: أنزله لديه ضيفا وأصل ضاف: مال، من قولهم ضاف السهم عن الهدف: أي مال، جدارا: أي حائط

المعنى الجملي

أن ينقض: أي يسقط بسرعة، وقد كثر فى كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم كما قال: يريد الرمح صدر أبى براء ... ويعدل عن دماء بنى عقيل أقامه: أي مسحه بيده فقام كما روى عن ابن عباس، والتأويل: من آل الأمر إلى كذا: أي صار إليه، فإذا قيل ما تأويله: أي ما مصيره. المعنى الجملي لا يزال الكلام متصلا فى قصص موسى والخضر عليهما السلام، ولكن لوحظ فى تقسيم القرآن الكريم إلى أجزائه الثلاثين جانب اللفظ لا جانب المعنى، ولذا تجد نهاية جزء وبداءة آخر حيث لا يزال الكلام فى معنى واحد لم يتم بعد كما هنا. الإيضاح (قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا) زاد كلمة (لك) على سابقه لتشديد العتاب على رفض الوصية، ووسمه بقلة الصبر والثبات حين تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار مع عدم الارعواء بالتذكير أول مرة. قال البغوي: روى أن يوشع كان يقول لموسى: اذكر العهد الذي أنت عليه. (قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى) أي قال موسى عليه السلام للخضر: إن سألتك عن شىء بعدها من عجيب أفعالك التي أشاهدها وطلبت منك بيان حكمته، فضلا عن المناقشة والاعتراض عليه، فلا تجعلنى لك صاحبا. (قد بلغت من لدنى عذرا) أي قد بلغت الغاية التي تعذر بسببها فى فراقى، إذ خالفتك مرة بعد أخرى، وهذا كلام نادم أشد الندم قد اضطر، الحال إلى الاعتراف، وسلوك سبيل الإنصاف. وقد روى فى الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب، لكن أخذته من صاحبه ذمامة (حياء

وإشفاق من الذم) فقال (إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى عذرا) » . (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما) أي فانطلق الخضر وموسى بعد المرتين الأوليين حتى وصلا إلى قرية طلبا من أهلها أن يطعموهما فأبوا أن يضيفوهما، وفى الحديث «كانوا أهل قرية لئاما بخلاء» وفى قوله (فأبوا أن يضيفوهما) دون أن يقول فأبوا أن يطعموهما- زيادة تشنيع عليهم، ووصفهم بالدناءة والشح، فإن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب، ولكن لا يرد الغريب المستضيف إلا لئيم، ألا تراهم يقولون فى أهاجيهم. فلان يطرد الضيف. وعن قتادة: شر القرى التي لا يضاف فيها، ولا يعرف لا بن السبيل حقه (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه) أي فوجدا فى القرية حائطا مائلا مشرفا على السقوط فمسحه بيده فقام واستوى، وكان ذلك من معجزاته. (قال لو شئت لأتخذت عليه أجرا) أي قال موسى ذلك تحريضا للخضر وحثا له على أخذ الجعل (الأجر) على فعله، لإنفاقه فى ثمن الطعام والشراب وسائر مهامّ المعيشة. (قال هذا فراق بينى وبينك) أي قال الخضر عليه السلام لموسى: هذا الاعتراض المتوالى منك هو سبب الفراق بينى وبينك بحسب ما شرطت على نفسك، وإنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين، لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا دون هذا، إذ لا ينكر الإحسان إلى المسيء بل يحمد. (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) أي سأخبرك بعاقبة هذه الأفعال التي صدرت منى، وهى: خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة، وخلاص أبوى الغلام من شره مع الفوز ببدل حسن، واستخراج اليتيمين للكنز. وفى قوله: (بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) دون أن يقول بتأويل ما فعلت، أو بتأويل ما رأيت ونحوهما- تعريض به عليه السلام وعتاب له:

[سورة الكهف (18) : الآيات 79 إلى 82]

[سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) تفسير المفردات المساكين: واحدهم مسكين وهو الضعيف العاجز عن الكسب، لأمر فى نفسه وفى بدنه، يعملون فى البحر، أي يؤاجرون ويكتسبون، أعيبها: أي أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها، وراءهم: أي أمامهم وهو لفظ يستعمل فى الشيء وضده كما قال: أليس ورائي أن أدبّ على العصا ... فيأمن أعدائى ويسأمنى أهلى؟ وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ: أمامهم. خشينا: أي خفنا، أن يرهقهما: أي يحملهما، طغيانا: أي مجاوزة للحدود الإلهية، زكاة: أي طهارة من الذنوب، رحما: أي رحمة كالكثر والكثرة، عن أمرى: أي عن رأيى واجتهادي، ما لم تسطع: أي تستطع ماضيه اسطاع، الذي أصله استطاع.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر الأمور التي رآها موسى عليه السلام حين صاحب الخضر، وذكر ما كان من اعتراض موسى عليه مرة بعد أخرى، وقد كان أعلمه من قبل أنه لا يستطيع معه صبرا، وكان من جراء ذلك أنه فارقه ولم يستطع صحبته- أردف ذلك بتفسير ما أشكل عليه أمره، مما ينكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر على حكمة باطنة، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم يحكمون بناء على الظواهر كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر» . وأحكام هذا العالم مبنية على الأسباب الحقيقة الواقعة فى نفس الأمر، وهذه لا يطلع الله عليها إلا بعض خواص عباده، ومن ثمّ اعترض موسى على ما رأى ولم يعلم ما آتاه الله الخضر من قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور، ويطلع على حقائق الأشياء، فكانت مرتبة موسى فى معرفة الشرائع والأحكام بناء على الظواهر، ومرتبة هذا العالم الوقوف على بواطن الأمور وحقائق الأشياء، والاطلاع على أسرارها الكامنة. وخلاصة المسائل الثلاث- إنه حين يتعارض ضرران يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى، فلو لم يغب تلك السفينة بالتخريق لغصبها الملك وفاتت منافعها بتاتا، ولو لم يقتل ذلك الغلام لكان بقاؤه مفسدة لوالديه فى دينهم ودنياهم، ولأن المشقة الحاصلة بإقامة الجدار أقل ضررا من سقوطه، إذ بالسقوط كان يضيع مال أولئك الأيتام. ومجمل الأمر فى ذلك- إن الله أطلع الخضر على بواطن الأشياء وحقائقها فى أنفسها، وهذا لا يمكن تعلمه إلا بتصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسمية، ومن ثمّ قال فى صفة علمه: «وعلمناه من لدنا علما» وموسى عليه السلام لما كملت مرتبته فى علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم، ليعلمه أن كمال المعرفة فى أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على معرفة حقائق الأشياء على ما هى عليها فى الواقع

الإيضاح

الإيضاح (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) أي أما فعلى ما فعلت بالسفينة، فلأنها كانت لقوم ضعفاء، لا يقدرون على دفع الظّلمة، وكانوا يؤاجرونها ويكتسبون قوتهم منها، فأردت أن أعيبها بالخرق الذي خرقته، وكان قدامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة للاستعمال غصبا، ويدع كل معيبة، فعبتها لأرده عنها. وخلاصة ذلك- إن السفينة كانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها، فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافون ويعجزون عن دفعه من غصب ملك قدامهم، من عادته غصب السفن الصالحة. (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) أي وأما الغلام فإنه كان كافرا وكان أبواه مؤمنين فخفنا أن يحملهما حبه على متابعته على الكفر. قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحبّ، وفى الحديث «لا يقضى الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» ، وقال تعالى. «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم» . وخلاصة ذلك- إنا قد علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فأجاباه ودخلا معه فى دينه لفرط حبهما له. (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما) أي قال هذا العالم: أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين ولدا يكون خيرا من هذا الولد دينا وصلاحا وأقرب عطفا ورحمة بأبويه، وبرّا بهما وشفقة عليهما.

تنبيه

(وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) أي إن الداعي إلى إقامة الجدار أنه كان تحته كنز، وكان ليتيمين فى المدينة، وكان أبوهما امرأ صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين رعاية لحقهما ولصلاح أبيهما، فأمرنى بإقامة الجدار لتلك المصالح إذ لو سقط الجدار لضاع الكنز وقد كان مشرفا على السقوط. (وما فعلته عن أمرى) أي وما فعلت الذي رأيتنى أفعله عن رأيى، ومن تلقاء نفسى، بل فعلته عن أمر الله إياى به، لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا تجوز إلا بالوحى والنص القاطع. (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا) أي هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها، هو بيان ما تئول إليه الأفعال التي ضقت بها ذرعا، ولم تصبر حتى أخبرك بها ابتداء. تنبيه لذكر هذه القصة فى الكتاب الكريم فوائد: (1) ألا يعجب المرء بعلمه، وأ لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه، فلعل فيه سرا لا يعرفه. (2) إن فيها تأديبا لنبيه بترك طلب الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوه واستهزءوا به وبكتابه، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف فى الدنيا، واستحقاقهم من الله فى الآخرة الخزي والعذاب الدائم. (3) إن ما حدث فيها يجرى مثله كل يوم فى هذه الحياة، ألا ترى أن قتل الغلام وهو صغير لا ذنب له يشبه الطاعون الذي يهلك الأمم ويفتك بها فتكا ذريعا، والبهائم التي تفتك بها السباع أو تأكلها الناس- ولو تأمل الناس حكمة ذلك لعلموا

[سورة الكهف (18) : الآيات 83 إلى 99]

أنهم لو بقوا على الأرض مائة عام أو نحوها ولم يمت منهم أحد لضاقت بهم الأرض، ولماتوا جوعا، ولأكل الابن أباه، ولأصبحت الأرض منتنة قذرة، ولهلك الناس جميعا، وأن أكل كواسر الطير لصغارها ليخلوا الجو والأرض من الحيوان المزدحمة، ولولا ذلك لأصبحت الأرض مضرة بالناس والحيوان، فاقتناصها رحمة ونعمة على الناس. وأن خرق السفينة التي هى لمساكين أشبه بموت بقرة فلاح فقير بجانبه رجل غنى لم تصب بقرته بسوء، وذلك إنما يكون لحكم لا يعلمها إلا الله، وقد يكون منها أن الفقير حين موته يخرج من هذا العالم خفيفا لا يحزنه شىء، وأن الغنى إذا لم يهذب نفسه تكون روحه مجذوبة إلى هذا العالم متطلعة إلى ما فيه، فيصير فى حسرة حين موته. وأن ذكر الجدار وإقامته تشيران إلى كل من نرى أنه ليس أهلا للنعمة ظاهرا وقد أغدقت عليه، فأهل هذه القرية اللؤماء الأشحاء ليسوا أهلا للإكرام. وخلاصة ما قاله الخضر: إن هذه الأعمال ليست من جنس أعمال الناس، بل هى من أعمال الله، وإنما كنت واسطة فيها، فهى نماذج لفعل ربكم فى هذه الحياة. قصص ذى القرنين، ويأجوج ومأجوج وسدهما [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 99] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ذكرا: أي نبأ مذكورا وهو القرآن. ومكنه ومكن له، كنصحه ونصح له: أي مهد له الأسباب وجعله قادرا على التصرف فى الأرض من حيث التدبير والرأى، سببا: أي طريقا يوصله إليه من علم أو قدرة أو آلة، حمئة: أي ذات حمأة وهى الطين الأسود، حسنا: أي أمرا ذا حسن، نكرا: أي منكرا فظيعا، الحسنى: أي المثوبة الحسنى، يسرا: أي سهلا ميسرا غير شلقّ، سترا: أي بناء وكانوا إذا طلعت الشمس تغوّروا

المعنى الجملي

فى المياه، وإذا غربت خرجوا، خبرا أي علما يتعلق بظواهره وخفاياه. السدين أي الجبلين، يفقهون: يفهمون، خرجا أي جعلا من أموالنا على سبيل التبرع، والخراج: ما لزمك أداؤه. بقوة أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات والناس، ردما أي حاجزا حصينا، والردم: أكبر من السد وأوثق، يقال ثوب مردّم: أي فيه زقاع فوق رقاع، وزبر: واحدها زبرة (بضم فسكون) كغرفة: وهى القطعة العظيمة، والصدفين: واحدها صدف، وهو جانب الجبل، قطرا: أي نحاسا مذابا، وقيل رصاصا مذابا، أن يظهروه أي أن يعلوه ويرقوا فوقه لارتفاعه وملاسته. رحمة أي أثر رحمة: دكاء أي مثل دكاء وهى الناقة لا سنام لها والمراد بها الأرض المستوية، حقا أي ثابتا واقعا لا محالة، يموج أي يضطرب اضطراب البحر، والصور: قرن ينفخ فيه. المعنى الجملي هذه القصة رابعة ثلاثة من القصص التي ذكرت فى هذه السورة، وقد قدمنا أن كفار مكة بعثوا إلى أهل الكتاب يطلبون إليهم ما يمتحنون به النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: سلوه عن رجل طوّاف فى الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح؟ فنزلت سورة الكهف. وقبل الشروع فى تفسير هذه الآيات الكريمة لا بد من بيان أمور تمس الحاجة إليها: من ذو القرنين؟ من يأجوج ومأجوج؟ أين سد ذى القرنين؟ ذو القرنين يرى كثير من العلماء والمؤرخين أنه هو إسكندر بن فيلبس الرومي تلميذ أرسطاطاليس الفيلسوف المسمى بالمعلّم الاول الذي انتشرت فلسفته فى الأمة الإسلامية، وقد كان قبل الميلاد بنحو 330 سنة، وكان من أهل مقدونيا، وحارب الفرس واستولى

يأجوج ومأجوج

على ملك دارا وتزوج ابنته، ثم سافر إلى الهند وحارب هناك، ثم حكم مصر وبنى الاسكندرية والدليل على ذلك: أنه لم يعرف التاريخ أن أحدا من الملوك دوّخ العالم وسار شرقا وغربا وغلب أكثر المعمور غيره. ويرى أبو الرّيحان البيروني المنجّم فى كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) أنه من حمير واسمه أبو بكر بن إفريقش، وقد رحل بجيوشه إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فمر بتونس ومرّاكش وغيرهما، وبنى مدينة إفريقيّة فسميت القارة كلها باسمه، وهو الذي افتخر به أحد شعراء حمير حيث يقول: قد كان ذو القرنين جدّى مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتسجد بلغ المشارق والمغارب يبتغى ... أسباب ملك من كريم مرشد فرأى مآب الشمس عند غروبها ... فى عين ذى خلب وثأط حرمد «1» وسمى ذا القرنين لأنه بلغ قرنى الشمس. والدليل على أنه حميرىّ أن الأذواء إنما يعرفون فى بلاد حمير دون بلاد اليونان، وهو من الدولة الحميرية التي حكمت من سنة 115 ق م إلى 552 ب م من الطبقة الثانية منها، وملوكها يسمون التبابعة واحدهم تبّع (بضم التاء وتشديد الباء) . يأجوج ومأجوج يأجوج: هم التتر، ومأجوج: هم المغول، وأصلهما من أب واحد يسمى (ترك) وكانوا يسكنون الجزء الشمالي من آسيا، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي، وتنتهى غربا بما يلى بلاد التركستان وقد ذكر مؤرخو العرب والإفرنج أن هذه الأمم كانت تغير فى أزمنة مختلفة على الأمم المجاورة لها، فكثيرا ما أفسدوا فى الأرض، ودمّروا كثيرا من الأمم، فمنهم الأمم المتوحشة التي انحدرت من الهضبات المرتفعة من آسيا الوسطى وذهبت إلى أوربا فى العهد القديم

_ (1) الخلب: الطين: والثأط: الحمأة. والحرمد: الأسود.

كأمة التحيت والسّمريان والهون، وكثيرا ما أغاروا على بلاد الصين وآسيا الغربية التي كانت مقر الأنبياء. ثم لم يزالوا فى حدود بلادهم لا يتجاوزونها بعد زمن النبوة، إلى أن ظهر فيهم الداهية الرحالة (تموجين) الذي لقب نفسه (جنكيزخان- ملك العالم) بلغة المغول فخرج فى أوائل القرن السابع من الهجرة من الهضبات المرتفعة والجبال الشاهقة التي فى آسيا الوسطى، فأخضع الصين الشمالية أولا، ثم ذهب إلى البلاد الإسلامية فأخضع السلطان قطب الدين بن أرميلان من الملوك السلجوقية ملك خوارزم، وفعل بهذه الدولة من الفظائع ما لم يسمع بمثله فى التاريخ. ولما مات جنكيزخان قام مقامه ابنه (أقطاى) وأغار ابن أخيه (باتو) على بلاد الروس سنة 723 هـ ودمر بولنيا وبلاد المجر وأحرق وخرّب. وبعد أن مات أقطاى قام مقامه (جالوك) فحارب الروم وألزم ملكها دفع الجزية ثم مات (جالوك) فقام مقامه ابن أخيه (منجو) فكلّف أخويه (كيلاى) و (هولاكو) أن يستمرا فى طريق الفتح، فأخضع كيلاى بلاد الصين، وزحف هولاكو على الممالك الإسلامية ومقر الخلافة العباسية، وكان الخليفة إذ ذاك المستعصم بالله، فأخذ بغداد عنوة فى أواسط القرن السابع من الهجرة، وأسلمت للسلب والنهب سبعة أيام سالت فيها الدماء أنهارا، وطرحوا كتب العلم فى دجلة وجعلوها جسرا يمرون عليه بخيولهم وبذلك انتهت الخلافة العباسية ببغداد. ولما استولت ذرية جنكيزخان على آسيا كلها وأوربا الشرقية، اقتسموا بينهم ما فتحوه، وأنشئوا أربع ممالك، فاختصت أسرة كيلاى بالصين والمغول، وملك جافاقاى أخو أقطاى تركستان، وملكت ذرية باطرخان البلاد التي على شواطىء نهر فلجا، وصارت الروسيا تدفع لها الجزية زمنا طويلا، وأخذ هولاكو بلاد الفرس وبغداد حتى بلاد الشام- وقد لخصنا ذلك من دائرة المعارف وابن خلدون وابن مسكويه ورسائل إخوان الصفا.

سد ذى القرنين

سد ذى القرنين كانت البلاد التي شرقى البحر الأسود يسكنها قوم من الصقالبة (السلاف) وكان هناك سد منيع بالقرب من مدينة (باب الأبواب) أو (دربت) بجبل قوقاف وقد كشفوه فى القرن الحاضر وهو غير السدّ الشهير الذي بناه ذو القرنين، فإن هذا وراء جيحون فى عمالة (بلخ) واسمه (باب الحديد) بمقربة من مدينة (ترمذ) وقد اجتازه تيمور لنك بجيشه، ومر به أيضا (شاه روخ) وكان فى بطانته العالم الألمانى (سيلدبرجر) وذكر السد فى كتابه وكان ذلك فى أوائل القرن الخامس عشر، وكذلك ذكره المؤرخ الأسبانى (كلافيجو) فى رحلته سنة 1403 وكان رسولا من ملك كستيل (قشتاله) بالأندلس إلى تيمور لنك، وقال إن سد مدينة (باب الحديد) على الطريق الموصل بين سمرقند والهند انتهى ملخصا من مقتطف سنة 1888 م. وبذلك تعلم أن السد موجود فعلا، وأن هذا معجزة للقرآن الكريم حقا، وهى إحدى المعجزات التي أيدها التاريخ وعلم تقويم البلدان، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «ويل للعرب، من شرّ قد اقترب» وقد صدق رسوله، فأزال هؤلاء المغول دولة العرب وانتهت بقتل المستعصم آخر ملوكها، وبقي خليفة رسمى فى مصر، وزال ملكهم بتاتا فى حدود الألف، وتفرق ملك الإسلام شذر مذر، ولم تحفظه إلا الدولة العثمانية بعد العرب وقد كوّن أولئك التتار أغلب المسلمين فى الهند والصّين وأغلب آسيا، فهم كما ورثوا بلادهم ورثوا دينهم. الإيضاح (ويسئلونك عن ذى القرنين) أي تسألك قريش بتلقين اليهود سؤال اختبار وامتحان. (قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) أي قل لهؤلاء المتعنتين: سأقص عليكم قصصا وافيا جامعا لما تريدون، أعلمنيه ربى وأخبرنى به.

ثم فصّل ذلك فقال: (إنا مكنا له فى الأرض، وآتيناه من كل شىء سببا) أي مكنا له أمره من التصرف فيها كيف يشاء، بحيث يصل إلى جميع مسالكها، ويظهر على سائر ملوكها، وآتيناه من كل شىء أراده من مهامّ ملكه وبسطة سلطانه طريقا يوصله إليه، فآتيناه العلم والقدرة والآلات التي توصله إلى ذلك. (فاتبع سببا. حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة) أي فأراد بلوغ المغرب فاتّبع طريقا يوصله إليه، حتى إذا بلغ منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يمكن تجاوزه، ووقف على حافة البحر المحيط الاطلانطى (المحيط الأطلسى) وجد الشمس تغرب فى عين ذات حمأة وطين أسود. وخلاصة ذلك- إنه بلغ بلادا لا بلاد بعدها تغرب عليها الشمس، إذ لم يكن عمران إلا ما عرفوه عند بحر الظلمات، فهو قد سار إلى بلاد تونس ثم مرّاكش ووصل إلى البحر فوجد الشمس كأنها تغيب فيه، وهو أزرق اللون كأنه طين وماء. (ووجد عندها قوما) أي ووجد عند تلك العين قوما كفارا فخيّره الله بين أن يعذبهم بالقتل، وأن يدعوهم إلى الإيمان، وهذا تفصيل قوله: (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) أي قلنا له بطريق الإلهام: إما أن تقتلهم إن هم لم يقرّوا بوحدانيتى ويذعنوا لك فيما تدعوهم إليه من طاعتى، وإما أن تأمر بتعليمهم طريق الهدى والرشاد، وتبصيرهم بالشرائع والأحكام. (قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا) أي قال ذو القرنين لبعض خاصته وبطانته: أما من ظلم نفسه فأصرّ على الشرك بربه فسنعذبه بالقتل، ثم يرجع إلى ربه فى الآخرة فيعذبه عذابا منكرا فى نار جهنم (وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا) أي وأما من صدّق بالله ووحدانيته وعمل عملا صالحا فى الدارين فله المثوبة الحسنى جزاء وفاقا على تلك الخلال الجميلة التي عملها فى دنياه، وسنعلّمه فى الدنيا ما يتيسر لنا

تعليمه مما يقرّبه إلى ربه، ويلين له قلبه، ولا يشق عليه فعله مشقة كبيرة كالصلاة والزكاة والجهاد ونحوها. (ثم أتبع سببا. حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) أي ثم قفل راجعا من مغرب الشمس وسلك طريقا موصلا إلى مشرقها، حتى إذا بلغ الموضع الذي تطلع عليه الشمس أوّلا من المعمور، وجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنّهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم عن حر الشمس، فليس لهم سقوف ولا جبال تمنع من وقوع أشعة الشمس عليهم، لأن أرضهم لا تحمل بنيانا، بل لهم سروب يغيبون فيها حين طلوع الشمس، ويظهرون حين غروبها، فهم حين طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف فى المعاش، وحين غروبها يشتغلون بتحصيل مهماتهم، وأحوالهم على الضد من أحوال الناس. وخلاصة ذلك- إنه بلغ غاية المعمور من الأرض جهة المشرق ووجد قوما لا لباس لهم ولا بناء، فهم عراة فى العراء أو فى سراديب فى الأرض. (كذلك) أي إن أمر ذى القرنين كما وصفنا من قبل من بلوغه طرفى المشرق والمغرب، ومن فعله الأفاعيل التي ذكرت، فهو قد بلغ الغاية فى رفعة الشأن وبسطة الملك مما لم يتح لكثير غيره. (وقد أحطنا بما لديه خبرا) أي ونحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا شىء منها وإن تفرّقت أممهم وتقطعت بهم الأرض كما قال «لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء» . وخلاصة ذلك- إنه كما وصف، وفوق ما وصف، بما لا يحيط بعلمه إلا اللطيف الخبير. (ثم أتبع سببا) أي ثم سلك طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من مطلع الشمس إلى الشمال. (حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا)

أي حتى إذا وصل بين الجبلين، (وقد تقدم وصف مكانهما بالتحديد كما رآه السائحون فى القرن الخامس عشر الميلادى) وجد من دونهما أمة من الناس لا يكادون يفهمون كلام أتباعه ولا كلام غيرهم، لبعد لغتهم عن لغات غيرهم، مع قلة فطنتهم، إذ لو كان لهم فطنة لفهموا ما يراد من القول بالقرائن وفحوى الحال. (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الأرض) أي قال مترجموهم إن يأجوج ومأجوج يفسدون أرضنا بالقتل والتخريب وأخذ الأقوات وسائر ضروب الإفساد (تقدم تحقيق القوم فى ذلك) . (فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟) أي فهل تحب أن تجعل لك جعلا من أموالنا فتجعل بيننا وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا؟. وخلاصة ذلك- إنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم ما لا يعطونه إياه حتى يجعل بينهم وبينهم سدا. (قال ما مكنى فيه ربى خير) أي قال ذو القرنين: إن ما مكننى فيه ربى من بسطة الملك والسلطان ووفرة المال- خير مما تبذلونه لى من الخراج، فلا حاجة بي إليه، وهذا نحو ما قاله سليمان عليه السلام «أتمدونن بمال فما آتانى الله خير مما آتاكم» . والدول القوية يجب أن تحافظ على الدول الضعيفة، ولا تأخذ منها مالا مادامت قادرة على إغاثتها. وخلاصة ذلك- ما أنا فيه خير مما تبذلونه. (فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما) أي ولكن ساعدونى بفعلة وصنّاع يحسنون العمل والبناء، أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج سدا منيعا، وحاجزا حصينا أمنع مما تريدون. ثم بين تلك القوة التي طلبها فقال: (آتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله

نارا قال آتونى أفرغ عليه قطرا) أي جيئونى بقطع الحديد، فلما جاءوه بها أخذ يبنى شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبى الجبلين من البنيان مساويا لهما فى العلو، قال للعملة: انفخوا بالكيران فى زبر الحديد التي وضعت بين الصدفين ففعلوا، ومازالوا كذلك حتى صارت كالنار اشتعالا وتوهجا، فصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض، وسدّ الفجوات التي بين الحديد وصار جبلا صلدا. (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) أي إن يأجوج ومأجوج ما قدروا أن يصعدوا من فوق السد لارتفاعه وملاسته، ولا استطاعوا نقبه لصلابته وثخانته. (قال هذا رحمة من ربى) أي قال ذو القرنين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة من الله ورحمة بعباده، إذ صار حاجزا بينكم وبين يأجوج ومأجوج يمنعهم من أن يعيثوا فى الأرض فسادا. (فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء) اى فإذا دنا وقت خروجهم من وراء السد جعله ربى بقدرته وسلطانه أرضا مستوية، فسلط عليهم منهم أو من غيرهم من يهدمه ويسوى به الأرض. (وكان وعد ربى حقا) أي وكان كل ما وعد به سبحانه حقا ثابتا لا ريب فى تحققه، وقد جاء وعده تعالى بخروج جنكيزخان وسلائله فعاثوا فى الأرض فسادا من الشرق والغرب وفعلوا الأفاعيل بالدولة الإسلامية، وأزالوا معالم الخلافة من بغداد كما علمت ذلك فيما سلف. وقد ذكر المؤرخون أن سبب خروج جنكيز خان أن سلطان خوارزم السلجوقي قتل رسله وتجاره المرسلين من بلاده، وسلب أموالهم، وأغار على أطراف بلاده، فاغتاظ، وكتب إلى السلطان كتابا قال فيه: كيف تجرأتم على أصحابى ورجالى، وأخذتم تجارتى ومالى ... اتحركون الفتنة النائمة. وتنبهون الشرور الكامنة ...

أو ما جاءكم عن نبيكم (وعليكم أن تمنعوا من السفاهة غنيّكم، وعن ظلم الضعيف غويّكم) أو ما بلّغكم عنه مرشدوكم (اتركوا الترك ما تركوكم) وكيف تؤذون الجار وتسيئون الجوار. ونبيكم قد أوصى به ... ألا إن الفتنة نائمة فلا توقظوها، وهذه وصاياي إليكم فعوها واحفظوها، وتلافئوا التلف قبل أن ينهض داعى الانتقام، وينفتح عليكم سد يأجوج ومأجوج، وسينصر الله المظلوم ولينسلنّ عليكم يأجوج ومأجوج من كل حدب اه ملخصا. روى البخاري عن أم حبيبة بنت أبى سفيان عن زينب بنت جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما فزعا يقول «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب فقلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون فقال: نعم إذا كثر الخبث» . ولقد اتسع ذلك الفتح من هذا التاريخ شيئا فشيئا حتى فتح عن آخره فى القرن السابع الهجري، وخرج هؤلاء القوم كما قدمنا، وقد عثر على آثاره كما علمت فيما سلف. (وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض) أي ويوم يدك السد يخرج هؤلاء من ورائه يموجون فى الناس، ويفسدون عليهم زروعهم ويتلفون أموالهم، وهذا بمعنى قوله فى سورة الأنبياء: «حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون» أي وهم من كل مرتفع من الأرض يسرعون فى النزول من الآكام والمرتفعات، وتلك حال تنطبق على قوم جنكيزخان، فقد كان خروجهم من هضبات آسيا الوسطى، كما تقدم نقلا عن مؤرخى العرب والإفرنج. كل هذا قبل النفخ فى الصور بزمن مجهول غير معلوم. (ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا) أي فإذا دنا ميقات الساعة نفخ فى الصور وجمعنا الناس جمعا، وأحضرناهم للحساب كما قال: «قل إن الأولين والآخرين. لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم» وقوله: «وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا» .

[سورة الكهف (18) : الآيات 100 إلى 106]

[سورة الكهف (18) : الآيات 100 الى 106] وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) تفسير المفردات عرضنا: أي أظهرنا وأبرزنا، غطاء: أي غشاوة محيطة بها، عن ذكرى: أي عن الآيات الموصلة إلى ذكرى بتوحيدي وتمجيدى، أولياء: أي معبودات يقونهم بأسى، أعتدنا: أي هيأنا، نزلا: أي طعاما يتمتعون به حين ورودهم إلى ربهم، ولقائه: أي حين البعث والحشر وما يتبع ذلك، الهزؤ: السخرية والاحتقار. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة ينفخ فى الصور لقيام الخلق من قبورهم بعد أن تقطعت أوصالهم وتمزقت أجسامهم، وجمعهم فى صعيد واحد للحساب والجزاء- قفّى على ذلك ببيان أنه إذ ذاك يبرز النار للكافرين بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا، وفى ذلك تعجيل الهم والحزن لهم، من قبل أنهم تعاموا وتصامّوا عن قبول الهدى واتباع الحق وحسبوا أن اتخاذهم أولياء من دون الله ينجيهم من عذابه، وأن ما عملوه من

الإيضاح

تلك الأعمال الباطلة نافع لهم، وكل ذلك وهم وخيال، فلا فائدة منه فى ذلك اليوم، ولا نقيم له إذ ذاك وزنا. روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وحنى الجبهة وأصغى الأذن. متى يؤمر أن ينفخ؟ ولو أن أهل منّى اجتمعوا على القرن أن يقلّوه من الأرض ما قدروا عليه، قال: فأبلس (بئس وتحير) أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشق عليهم، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» والحديث يشير إلى قرب الساعة وأنها أوشكت تجىء. الإيضاح (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا) أي وأبرزنا جهنم يوم ينفخ فى الصور، وأظهرناها للكافرين بالله، حتى يروا أهوالها وشديد نكالها، ويسمعوا لها تغيظا وزفيرا، وفى هذا تعجيل للهمّ والحزن، ومعرفة أنهم مواقعوها، ولا يجدون عنها مصرفا. ثم بين أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال: (الذين كانت أعينهم فى غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا) أي إن هذا العذاب إنما بالهم من جراء أنهم كانوا لا ينظرون فى آيات الله فيتفكروا فيها، ولا يتأملون حججه فيعتبروا بها، وينيبوا إلى ربهم، وينقادوا لآمره ونهيه، وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكرهم به، وبيانه الذي بيّنه لهم فى آي كتابه، فتغافلوا، وتعاموا وتصامّوا عن قبول الهدى واتباع الحق كما قال: «ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين» . ذاك أنهم لما دنّسوا أنفسهم باجتراح المعاصي والآثام، وأطاعوا وساوس الشيطان، وما نصبه لهم من الحبائل، طبع الله على قلوبهم وجعل على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة.

ثم بيّن أن ما اعتمدوا عليه من المعبودات الأخرى لا يجديهم نفعا فقال: (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أولياء) أي أفظن الذين كفروا بي، واتخذوا عبادى الذين هم فى قبضتى وتحت سلطانى كالملائكة وعيسى- معبودات من دونى- أظنوا أن ذلك يجديهم نفعا، أو يرفع عنهم ما يحل بهم من النكال والوبال؟. وخلاصة هذا- أظنوا أن ذلك الاتخاذ ينفعهم، وأنه لا يغضبنى؟ - كلّا. ثم أكد هذا الإنكار بقوله: (إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) أي إنا هيأنا لهؤلاء الكافرين جهنم عوضا مما أعدوه لأنفسهم من الأولياء الذين اتخذوهم زادا ليوم المعاد. والخلاصة- إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدّة والذّخر- عدّة هى جهنم وبئس المصير. وفى ذلك تهكم بهم، وتخطئة لهم فى حسبانهم ذلك، وإيماء إلى أن لهم وراء جهنم ألوانا أخرى من العذاب، وما جهنم إلا أنموذج منه. ثم ذكر سبحانه ما فيه تنبيه إلى جهلهم فقال: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل من أهل الكتابين اليهود والنصارى: هل نخبركم بالذين أتعبوا أنفسهم فى عمل يبغون به ثوابا وفضلا، فنالوا به هلاكا وبوارا كالمشترى سلعة يرجو بها ربحا، فخاب رجاؤه، وخسر بيعه، ووكس فى الذي رجا فضله؟ وخلاصة ذلك- إنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، وظنوا أنهم بفعلهم هذا مطيعون له، وأنهم يحسنون صنعا، ثم استبان لهم أنهم كانوا مخطئين، وفى ضلال مبين، وأن سعيهم الذي سعوه فى الدنيا ذهب هباء، فلم يجدهم نقيرا ولا قطميرا. ثم بين السبب فى بطلان سعيهم فقال:

[سورة الكهف (18) : الآيات 107 إلى 110]

(أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) أي إن هؤلاء الأخسرين أعمالا هم الذين كفروا بالدلائل المنبثة فى الآفاق والأنفس التي تدعو إلى توحيده، وكفروا بالبعث والحساب وما يتبع ذلك من أمور الآخرة، ومن ثمّ حبطت أعمالهم، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها، بل لهم منها عذاب وخزى طويل، ولا تثقل بها موازينهم، لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة وليس لهم منها شىء. ثم بيّن مآلهم بسبب كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك الكفر فقال: (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتى ورسلى هزوا) أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم رسل الله ومعجزاتهم التي أظهرها على أيديهم هزؤا وسخرية، فلم يكتفوا بالكفر بها، بل ارتكبوا هذه الحماقة التي هى أعظم أنواع الاحتقار. [سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 110] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) تفسير المفردات الفردوس: البستان بالرومية. وقال السدى: إنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا، حولا: أي تحولا، والمداد: ما يمد به الشيء واختصّ بما تمد به الدواة من الحبر،

المعنى الجملي

كلمات ربى: معلوماته غير المتناهية، والرجاء: طمع حصول ما فيه مسرة مستقبلة، ولقاء ربه: هو البعث وما يتبعه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكفار من العذاب فى جهنم، جزاء كفرهم بربهم، واستهزائهم برسله وآياته- أردف ذلك بما يرغّب المؤمنين فى العمل الصالح من جنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا على إنابتهم إليه وإخباتهم له، ثم ختم السورة ببيان حال القرآن الذي ذكر فيه الدلائل والبينات على وحدانيته وإرساله الرسل والبعث والجزاء للدلالة على عظيم فضله، ومزيد إنعامه ثم أعقب ذلك ببيان أن العمل لا يتقبّل إلا إذا صاحبه أمران: أن يكون خالصا لوجهه تعالى، وأن يكون مبرأ من الشرك الخفىّ والجلىّ. روى البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من سمّع سمّع الله به، ومن يرائى يرائى الله به» أي من عمل عملا مراءاة للناس، وليشتهر به شهّره الله يوم القيامة وروى مسلم عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن الله تبارك وتعالى يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى تركته وشركه» . الإيضاح (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) أي إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، وعملوا صالح الأعمال ابتغاء المثوبة من ربهم- لهم بساتين الفردوس فى أعلى الجنة وأوسطها منزلا. أخرج البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:

«إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى، ومنه تفجر الأنهار» . (خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) أي لابثين فيها أبدا لا يبغون عنها تحولا إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحولوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى. وخلاصة هذا- إنه لا مكان أعز منها عندهم، ولا أرفع شأنا حتى تنازعهم إليه أنفسهم، وتطمح إليه أبصارهم. ثم نبّه إلى عظيم شأن القرآن بقوله: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا) أي قل لهم أيها الرسول: لو كان ماء البحر مدادا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وعلومه لنفد ماء البحر قبل أن تنفد تلك الكلمات، ولو مددنا ماء البحر بمثل ما فيه من الماء مددا وعونا، لأن مجموع المتناهيين متناه، وعلوم الله وحكمته لا نهاية لها، والمتناهي لا يفى البتة بغير المتناهي. ونحو الآية قوله «ولو أن ما فى الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» . روى أن اليهود قالوا: يا محمد تزعم أننا قد أوتينا الحكمة، وفى كتابك «ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا» ثم تقول «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» يريدون بذلك الاعتراض بوجود التناقض فأنزل الله الآية ردا عليهم. وقد أثبت العلم الحديث ما يتبين منه أن فى كل عالم من العوالم الأرضية والسماوية ما لا يحصى من النعم على عباده، وعليك أن تلقى سمعك إلى آخر الآراء التي اهتدى إليها العلماء فى العصر الحاضر. قال الأستاذ جينس الإنكليزى المدرس لعلوم الرياضيات التطبيقية فى جامعة (بنسلفانيا) بأمريقا فى 7 من مارث 1928 وهى أحدث الآراء فى منشأ الكائنات وعدم التناهى فى الزمان والمكان. ما خلاصته:

(1) إن عمر الأرض نحو ألفى مليون سنة. (2) إن الإنسان لم يعش على الأرض إلا منذ ثلاثمائة ألف سنة فحسب. (3) إن الشمس ستظل بعد ألف ألف مليون سنة كما هى الآن تقريبا، وتدور الأرض حولها كما هى الآن. (4) الإنسان فى المستقبل يكون أحكم من الإنسان الحاضر بثلاثة ملايين مرة على الأقل، فسينظم معيشته وفق حال الكرة الأرضية إذ ذاك. (5) مما تقدم نعلم أن الإنسان حديث العهد بالولادة على الأرض، فهو طفل فى علومه ومعارفه، وكل همّ هذا الطفل كان موجها إلى غذائه ومسكنه، وهو يجهل العوالم الأخرى، ولكنه الآن عرف أن هناك عوالم أخرى لا نهاية لها، وأن معرفته بها تافهة جد التفاهة، وربما عاش بعد الآن ألفى مليون سنة على الأرض، وبعبارة أخرى إنه يعيش مدة تعادل عمر الأرض فى الماضي. (6) الأجرام التي حولنا لها نهاية، أما الفضاء الذي بعدها فلا نهاية له، فالشمس والكواكب والمجرّات لها نهاية، ولكن وراءها فضاء لا نهاية له. (7) الأجرام العلويّة التي نراها والتي لا نراها كرية الشكل كقطرة الماء وكرة الأرض والشمس. (8) الإشارات اللاسلكية التي تنبعث من جهاز لا سلكى كبير تدور حول الكرة الأرضية فى أقل من سبع ثانية، وتعود إلى النقطة التي بدأت منها، وهكذا نحن لو اخترقنا هذه العوالم رجعنا إلى مبدإ سفرنا. (9) إننا لو صنعنا منظارا قويا (تلسكوبا) لنرى الأجرام السماوية، لرأينا النجوم بهيئتها التي كانت عليها حينما أرسلت إلينا النور قبل ملايين السنين. (10) إن الإنسان اليوم طفل فى العلوم، وربما علم فى المستقبل ما لا يتخيله الآن. (11) إن سرعة النور فى الثانية الواحدة 186 ألف ميل، ومثله فى ذلك الكهرباء اللاسلكية، لأنهما شىء واحد فى جوهرهما، ويرجح أن النور يسير

حول الفضاء الكروي مائة ألف مليون سنة، أي إن النور يدور فى هذا العالم المملوء بالأجرام العلوية الذي مجموعه كرة واحدة مدة مائة ألف مليون سنة مع العلم بأنه يدور حول الأرض فى سبع ثانية، فما أبعد النسبة بين سبع ثانية، وبين مائة ألف مليون سنة. إلا أن الأرقام لا تقدر أن تحصى المسافة المحصورة بين أىّ نقطتين كانتا على محيط الفضاء الكروي. (12) الشمس أكبر من الأرض حجما بمليون وثلاثمائة ألف مرة، وما هى إلا حبة رمل على شاطىء هذا الفضاء الكروي، وهى واحدة من أسرة من أسر الكائنات التي فى الفضاء الكروي التي قدرها العلامة (سيرز) بثلاثين ألف مليون مجموعة، وشمسنا وتوابعها حبة رمل فى مجموعة واحدة من هذه الثلاثين ألف مليون مجموعة. (13) إن هناك سدما لولبية فى خارج المجرة، وهى مجموعة من النجوم التي تمّ نشوءها أولا تزال فى طور التكوين، وفى بعضها من المادة ما يكفى لخلق ألف مليون شمس كشمسنا. (14) يقول (هويل) إن مرقب (تلسكوب) مونت ويلسون بأمريقا يريك نحو مليونين من تلك السدم، وإذا تمكن الإنسان من صنع مرقب أكبر من هذا فإنه يرى بلا شك ملايين كثيرة أخرى منها، وفيها من المادة ما يكفى لخلق ملايين الشموس والأجرام الفلكية، ويقول: إذا أردت أن تعرف عدد النجوم التي تسبح فى الفضاء على وجه التقريب، فضع رقم 2 وعلى يمينه 24 صفرا، وهذا العدد يغطى الجزائر البريطانية إلى عمق مئات من الأمتار.

(15) أضعف النجوم المعروفة هى نجم (وولف) ونوره جزء من عشرين جزءا من نور الشمس، ونور النجم (دورادوس) يساوى ثلاثمائة ألف ضعف بالنسبة للنور المنبثق من الشمس. وأصغر النجوم هو نجم (فان مانن) وحجمه كحجم الأرض، وأكبر النجوم الجوزاء، وهى أكبر من الشمس خمسا وعشرين مليون مرة، ونسبة نورها إلى نور الشمس كنسبة نور المصابيح الكهربائية إلى نور حشرة (الحباحب) . (16) إن الشمس تخرج أشعة تعادل قوتها خمسين حصانا من كل بوصة مربعة، وبعض النجوم التي هى أعظم من الشمس تشعّ نورا من البوصة المربعة يساوى قوة ثلاثين ألف حصان لكل بوصة مربعة. (17) إن الشمس تفقد كل يوم من المادة بسبب خروج الأشعة منها ما يساوى 250 مليون طن فى الدقيقة، ففى اليوم تفقد 360 ألف مليون طن. (18) يظن أن عمر الشمس الآن عشرة آلاف مليون سنة، ويمكن أن تعيش ملايين ملايين السنين دون أن تنطفىء. (19) عمر الأجرام الفلكية يختلف من خمسة آلاف مليون سنة إلى عشرة آلاف مليون سنة اه. هذه آراء علماء الفلك فى العصر الحاضر استنبطوها بالحساب تارة، وبوجه التقريب تارة أخرى، مما يرشد إلى تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى) الآية. فهذه هى الكلمات الإلهية التي أدهشت الألباب، وضاعت الأعمار فى البحث عن علم شىء منها، ولا يزال الناس فى عماية من أمرها، ولم يصلوا إلا إلى معرفة القليل كما قال: «والله يعلم وأنتم لا تعلمون» . (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد) أي قل لهم أيها الرسول: إنما أنا بشر مثل ما أنتم كذلك، ولا ادّعى الإحاطة بكلمات الله جلت

إجمال ما تضمنته السورة من الأغراض والمقاصد

قدرته، ولا علم لى إلا ما علمنى ربى، وأن الله أوحى إلىّ أن معبودكم الذي يجب أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا هو معبود واحد لا ثانى له ولا شريك. (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) أي فمن كان يطمع فى ثواب الله على طاعته فليخلص له العبادة، وليفرد له الربوبية، ولا يشرك به سواه، لا إشراكا جليّا كما فعل الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، ولا إشراكا خفيّا كما فعل أهل الرياء ممن يطلب بعمله الدنيا، وهذا هو الشرك الأصغر كما صح فى الحديث، وروى مستفيضا فى الأخبار من أن كل عمل أريد به الدنيا لا يقبل فقد أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يرويه عن ربه قال: «أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى فأنا برىء منه وهو الذي أشرك» نسأل المولى القدير أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، لا يراد به رضا أحد من خلقه إجمال ما تضمنته السورة من الأغراض والمقاصد (1) وصف الكتاب الكريم بأنه قيم لا عوج فيه، جاء للتبشير والإنذار. (2) ما جاء على ظهر الأرض هو زينة لها، وقد خلقه الله ابتلاء للإنسان ليرى كيف ينتفع به. (3) ما جاء من قصص أهل الكهف ليس بالعظيم إذا قيس بما فى ملكوت السموات والأرض. (4) وصف الكهف وأهله، مدة لبثهم فيه، عدد أهله. (5) أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجلوس مع فقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى أغنيائهم إجابة لدعوتهم. (6) ذكر ما يلاقيه الكفار من الوبال والنكال يوم القيامة. (7) ضرب مثل يبين حال فقراء المؤمنين وأغنياء المشركين.

(8) ضرب المثل لحال الدنيا. (9) عرض كتاب المرء عليه فى الآخرة وخوف المجرمين منه. (10) عداوة إبليس لآدم وبنيه. (11) قصص موسى والخضر. (12) قصص ذى القرنين وسد يأجوج ومأجوج، وكيف صنعه ذو القرنين (13) وصف أعمال المشركين وأنها ضلال وخيبة فى الآخرة. (14) ما يلقاه المؤمنون من النعيم فى الآخرة. (15) علوم الله تعالى لا نهاية لها.

سورة مريم

سورة مريم هى مكية إلا آيتي 58، 71 فمد نيتان، وآيها ثمان وتسعون. ومناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من أعاجيب القصص كقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى عليهما السلام. [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) تفسير المفردات زكريا (يمد ويقصر) من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وكان نجارا، نادى ربه: أي دعاه، خفيا: أي مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم، وهن العظم:

المعنى الجملي

ضعف ورقّ من الكبر إذ قد بلغ خمسا وسبعين سنة أو ثمانين، واشتعل الرأس شيبا: أي صار الشيب كالنار والشعر كأنه الحطب، ولقوتها وشدّتها أحرقت الرأس نفسه، شقيا. يقال شقى بكذا: أي تعب فيه ولم يحصّل مقصوده منه، والمراد أنه خائب غير مستجاب الدعوة، الموالي: هم عصبة الرجل، من ورائي: أي من بعدي، ويقال رجل عاقر وامرأة عاقر إذا كانا عقيمين، وليا: أي ولدا من صلبى، ويعقوب: هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وكان متزوجا أخت مريم بنت عمران من ولد سليمان عليه السلام، رضيا: أي مرضيا عندك قولا وفعلا، سميا: أي شريكا له فى الاسم فلم يسمّ أحد بهذا الاسم قبله، وهذا دليل على أن الأسماء السّنع- الشريفة- جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنتحى فى التسمية كما قال قائلهم فى المدح: سنع الأسامى مسبلى أزر ... حمر تمسّ الأرض بالهدب أنى: أي كيف، عتيا من عتا يعتو: أي يبست مفاصله وعظامه، شيئا: أي موجودا، آية: علامة، سويا: أي سوىّ الخلق سليم الجوارح ليس به بكم ولا خرس، المحراب: المصلّى، أوحى: أي أومأ وأشار، سبّحوا: أي صلوا، بكرة وعشيا أي صلاة الفجر وصلاة العصر. المعنى الجملي روى محمد بن إسحاق فى السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود فى قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة- أن جعفر بن أبى طالب قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه. الإيضاح (كهيعص) تقدم الكلام فى المراد من أوائل السور، وأن المختار أن المقصود بها التنبيه كحروف التنبيه التي تقع أول الكلام نحو ألا ويا وغيرهما، وتقرأ بأسمائها فيقال (كاف. ها. يا عيّين. صاد) .

(ذكر رحمت ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفيا) أي مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده زكريا حين دعا ربه دعاء خفيا مستورا عن أعين الناس. وإنما أخفى دعاءه، لأنه أدل على الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى الخلاص من لائمة الناس، على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة. وقصارى ذلك- إن فى هذه السورة ذكر الرحمة التي رحم الله بها عبده زكريا حين أسرّ بدعائه إليه. ثم فصّل كيفية دعائه بقوله: (قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا. وإنى خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتى عاقرا) أورد زكريا عليه السلام قبل سؤاله أمورا ثلاثة، كل منها يستحق الرحمة والشفقة: (1) ضعفه ظاهرا وباطنا، وأثر الأول قد ظهر فى العظام التي هى حاملة سائر الأعضاء، ومتى وصل إليها الضعف كان ضعف ما عداها أولى وأجدر، وأثر الثاني واضح باستيلاء الشيب على الرأس واضطرامه فى السواد كما قال ابن دريد: إما ترى رأسى حاكى لونه ... طرّة صبح تحت أذيال الدجى واشتعل المبيضّ فى مسودّه ... مثل اشتعال النار فى جمر الغضا (2) إنه ما ردّ دعاؤه ولا خاب استعطافه حينا من الدهر، بل كان كلما دعا استجيب له، وهو فى هذه الحال أجدر بالإجابة لضعفه وشيخوخته، وفى هذا إشارة إلى لطف الله به، وعظيم فضله عليه، مدى حياته. وقد روى التاريخ أن معن بن زائدة أتاه سائل فقال من أنت؟ قال أنا الذي أحسنت إليه حين كذا، قال مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته. (3) إن فى إجابة الطلب منفعة دينية، إذ أنه خاف أن الموالي أي الورثة الذين يخلفونه فى إقامة الشعائر الدينية- لا يؤدون ما يجب عليهم نحو الدين من نشره وتبليغه الناس وعبادة الله كما أمر، والذبّ عنه إذا جد الجدّ، ووجب الدفاع عنه، فقد أثر عنهم

أنهم كانوا من شرار بنى إسرائيل، فخافهم ألا يحسنوا خلافته فى أمته، لا فى الدين ولا فى المال، ولا فى السياسة التي تتبع فى إدارة شؤونها. وقد عرف زكريا عليه السلام ببعض الأمارات أن عصبته وهم إخوته وبنو عمه ربما استمروا على عادتهم فى الشر والفساد فخافهم على الدين أن يغيّروه، وألا يحسنوا الخلافة على أمته، فطلب عقبا من صلبه يقتدى به فى إحيائه، وينهج نهجه فيه فقال: (فهب لى من لدنك وليا. يرثنى ويرث من آل يعقوب «1» واجعله رب رضيا) أي أعطني من واسع فضلك، وعظيم جودك وعطائك، لا بطريق الأسباب العادية ولدا من صلبى، يرث الحبورة منى، ويرث من بنى ماثان ملكهم (قال الكلبي كان بنو ماثان رؤس بنى إسرائيل وملوكهم، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ) ويكون برا تقيا مرضيا عندك وعند خلقك، تحبه ويحبونه لدينه وخلقه ومحاسن شيمه. ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران حكاية عنه «قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة» وقوله فى سورة الأنبياء «وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين» . ثم أخبر سبحانه أنه أجاب دعاءه وتولى تسمية الولد بنفسه فقال: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) أي فاستجاب دعاءه وقال: يا زكريا إنا نبشرك بهبتنا لك غلاما اسمه يحيى (معرّب يوحنا، ففى إنجيل متى أنه يدعى يوحنا المعمدانى لأنه كان يعمّد الناس فى زمانه) لم يسم أحد من قبله بمثل اسمه. ثم ذكر جواب زكريا عند هذه البشرى مظهرا التعجب مما سمع: (قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتى عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا؟) أي ومن أي وجه يكون لى ذلك وامرأتى عاقر لا تحبل، وقد ضعفت من الكبر

_ (1) هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان والد مريم.

عن مباضعة النساء، أبأن تقوّينى على ما ضعفت عنه من ذلك، وتجعل زوجى ولودا وأنت القادر على ما تشاء، أم بأن أتزوج زوجا غير تلك العاقر؟ وخلاصة ذلك- إنه يستثبت ربه الخبر عن الوجه الذي يكون من قبله الولد الذي بشره به، لا إنكار منه لذلك وكيف يكون منه الإنكار لذلك وهو المبتدئ مسألة ربه به بقوله: فهب لى من لدنك وليا. وإجمال المعنى- إنه تعجب حين أجيب إلى ما سأل وبشّر بالولد، وفرح فرحا شديدا وسأل عن الوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته عاقر لم تلد من أول عمرها، والآن قد كبرت وهو قد كبر وعتا: أي يبس عظمه ونحل ولم يبق له قدرة على قربان النساء، وكأنّه يقول: إنى حين كنت شابا وكهلا لم أرزق الولد لاختلال أحد السببين وهو عقم المرأة، أفحين اختل السببان أرزقه؟ (قال كذلك) أي قال الله تعالى: الأمر كما قلت، فسنهب لك الولد مع ما أنتما عليه من العقم والشيخوخة. ثم علل هذا بقوله: (قال ربك هو على هين) أي قال ربك الذي عوّدك الإحسان: خلق ولد منكما على هذه الحال هيّن، فإنى إذا أردت شيئا كان دون توقف على الأسباب العادية التي رسمتها للحمل والولادة. ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال: (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) أي وليس خلق الغلام الذي وعدتك أن أهبه لك مع كبر سنك وعقم زوجك بأعجب من خلق البشر جملة من العدم، فإن خلق آدم ما هو إلا أنموذج لسائر أفراد الجنس، مستتبع لجريان آثاره عليه، فإبداعه عليه السلام على هذا النمط إبداع لجميع أفراد ذريته، والقادر على خلق الذوات والصفات من العدم المحض يكون أجدر بالقدرة على تبديل الصفات بخلق الولد من الشيخ والشيخة.

وخلاصة ذلك- أن من قدر على خلق الذوات والصفات والآثار من العدم، أجدر به أن يكون قادرا على تبديل الصفات، فيعيد إليه وإلى زوجه القوة وسائر الوسائل التي بها يمكن أن ينشأ منهما الولد كما قال «فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه» . ثم أخبر سبحانه أن زكريا تاقت نفسه إلى سرعة وجود المبشّر به، ليطمئن قلبه بما وعد به كما قال إبراهيم من قبله «رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبى» فقال حاكيا عنه: (قال رب اجعل لى آية) أي قال رب اجعل لى علامة تدلنى على تحقق المسئول فى زمن معين، إذ كانت البشارة غير مقيدة بوقت، والحمل خفى فى مبدئه ولا سيما ممن انقطع حيضها لكبرها- إلى أنه أراد أن يطلعه على ذلك ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر حين حدوثها. ثم بين أنه أجابه إلى ما طلب فقال: (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) أي علامتك على وجود المبشر به وحصول الحمل، ألا تقدر على تكليم الناس بكلامهم المعروف فى محاوراتهم وثلاث ليال وأنت صحيح، سوىّ الخلق، سليم الجوارح، ليس بك علة ولا مرض؟. وجاء فى سورة آل عمران «قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا» . (فخرج على قومه من المحراب) أي فخرج غبّ إعلام الله له بهذه الآية على قومه من المحراب (وهو المسمى عند أهل الكتاب بالمذبح وهو مقصورة فى مقدّم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذى درج قليلة يكون من فيه محجوبا عمن فى المعبد) ممتقع اللون منطلق اللسان بذكر الله منحبسه عن كلام الناس (وقد كانوا ينتظرون أن يفتح لهم الباب، إذ كان من عادتهم أن يصلوا معه صلاتى الغداة والعشى فى محرابه) فقالوا مالك يا نبى الله؟.

[سورة مريم (19) : الآيات 12 إلى 15]

(فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) أي فأومأ إليهم وأشار كما جاء فى الآية الأخرى «إلا رمزا» أي سبحوا الله ونزهوه عن الشريك والولد، وعن كل نقص طرفى النهار. وقد كان أخبرهم بما بشر به قبل وجود الآية، فلما تعذّر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشّر به من ذلك الأمر العجيب فى مجرى العادة فسرّوا به. فلما ولد وبلغ سنا يؤمر فيه مثله قلنا: [سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15] يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) تفسير المفردات الكتاب: هو التوراة، والقوة: الجد والاجتهاد، والحكم والحكمة: الفقه فى الدين، وحنانا: أي عطفا على الناس، وزكاة: أي طهارة من الذنوب والآثام، تقيا: أي مطيعا لأمر ربه، منتهيا عما نهى عنه، وبرا بوالديه: أي كثير البر والإحسان إليهما، جبارا: أي متعاليا عن قبول الحق والإذعان له، عصيا: أي مخالفا أمر مولاه، سلام: أي أمان من الله عليه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه دعاء زكريا ربه أن يهبه غلاما سريا، وذكر أنه أجاب طلبه وجعل لذلك أمارة يعلم منها وقت الحمل به- ذكر هنا أنه بعد أن ظهر ذلك المولود إلى عالم الوجود وترعرع ونما، أمره بالجد والعمل لطاعته، وجعله برّا بوالديه، لا يعصى أوامر ربه، ولا يتعالى عن قبول الحق.

الإيضاح

الإيضاح (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) أي خذ التوراة التي هى نعمة الله على بنى إسرائيل بجدّ واجتهاد، وحرص على العمل بها. ثم وصفه الله بصفات كلها مناهج للخير ووسائل للطاعة فقال: (1) (وآتيناه الحكم صبيا) أي وأعطيناه الحكمة والفقه فى الدين والإقبال على الخير وهو صغير لم يتم سبع سنين، روى أن الغلمان قالوا له يوما: هيّا بنا نلعب، قال: ما للّعب خلقنا اذهبوا بنا نصلى. (2) (وحنانا من لدنا) أي وجعلناه ذا حنان وشفقة على الناس وحسن نظر فيما وليه من الحكم فيهم، وقد وصف الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا فى قوله «فبما رحمة من الله لنت لهم» وقوله «حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم» (3) (وزكاة) أي طهارة من الدنس وبعدا من اجتراح الذنوب والآثام. (4) (وكان تقيا) أي مطيعا لما به أمر وعنه نهى، فلم يفعل معصية ولا همّ بها. (5) (وبرا بوالديه) أي كثير البر بهما والإحسان إليهما والحدب عليهما بعيدا عن عقوقهما قولا وفعلا، وقد جعل الله طاعة الوالدين فى المرتبة التي تلى مرتبة طاعته فقال: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا» . (6) (ولم يكن جبارا) أي لم يكن متكبرا على الناس، بل كان ليّن الجانب متواضعا لهم، وقد أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا فى قوله: «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين» ووصفه بقوله: «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» ومن ثم لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعدا من رحمة ربه. (7) (عصيا) أي مخالفا لما أمره ربه. ثم ذكر سبحانه جزاءه على ما قدم من عمل صالح وأسلف من طاعة ربه فقال: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) أي وتحية من الله عليه أول ما يرى الدنيا، وأول يوم يرى فيه أمر الآخرة، وأول يوم يرى فيه الجنة والنار.

[سورة مريم (19) : الآيات 16 إلى 21]

وإنما خص هذه المواضع الثلاثة، لأن العبد أحوج ما يكون إلى رضا ربه فيها لضعفه وحاجته وقلة حيلته، وافتقاره إلى رحمة ربه ورأفته به. [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 21] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) تفسير المفردات انتبذت: أي اعتزلت وتنحّت، مكانا شرقيا: أي شرقى بيت المقدس، حجابا: أي ساترا تورات به منهم، روحنا: هو جبريل عليه السلام، سويا: أي سويّ الخلق كامل البنية، أعوذ: أي أعتصم وألتجئ، تقيا: أي مطيعا، لأهب لك: أي لأكون سببا فى هبته، غلاما: أي ولدا ذكرا، زكيا: أي طاهرا من الأدناس والأرجاس، أنى: أي كيف يكون ذلك؟ آية: أي علامة على قدرة خالقكم، مقضيا: أي محتوما قد تعلق به قضاؤنا الأزلى. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه فى حال كبره وعقم زوجه ولدا زكيا مباركا- أردف ذلك بذكر قصص مريم وأنه أنجب منها ولدا من غير أب،

الإيضاح

وبين القصصين مناسبة ظاهرة، ومن ثم ذكرهما مقترنين فى سورة آل عمران وهنا وفى الأنبياء، وبدأ بقصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد بلا أب، ثم ثنّى بقصة عيسى لأنها أغرب من تلك. ومن حسن طرق التعليم والتفهيم التدرج بالانتقال من الأقرب منالا إلى أصعب منه، وهكذا صعدا. الإيضاح (واذكر فى الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) أي واتل أيها الرسول فى كتاب الله الذي أنزله إليك بالحق، قصص مريم بنة عمران حين اعتزلت من أهلها وانفردت عنهم إلى مكان شرقى بيت المقدس لتتخلى للعبادة. وعن ابن عباس أنه قال: إنى لأعلم خلق الله لأى شىء اتخذ النصارى المشرق قبلة، لقول الله عز وجل: «إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا» فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؟. (فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا) أي فاتخذت من دون أهلها سترا يسترها عنهم وعن الناس، فأرسلنا إليها جبريل عليه السلام فجاءها بصورة رجل معتدل الخلق ليعلمها بما يريد بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب، إذ ربما يشتبه عليها الأمر فتقتل نفسها أسى وغما، وإنما مثّل لها بهذا المثال، لتأنس بكلامه، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته، ولأنّه لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع محاورته. ثم حكى عنها سبحانه ما قالته حينئذ فقال: (قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) أي فلما رأته فزعت منه وقالت:

إنى أستجير بالرحمن منك أن تنال منى ما حرّم الله عليك إن كنت ذا تقوى له، تتقى محارمه، وتجتنب معاصيه، فمن يتق الله يجتنب ذلك. وإجمال المعنى- إنه لما تبدى لها فى صورة البشر وهى فى مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت: إنى أعوذ بالله منك إن كنت تخافه- وقد فعلت المشروع فى الدفع وهو أن يكون بالهوينى والأسهل فالأسهل. وخلاصة ذلك- إن الاستعاذة لا تؤثر إلا فى التقى، لأن الله تعالى يخشى فى حال، دون حال، فهو كقوله: «وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين» أي إن الإيمان يوجب ذلك. فلما علم جبريل خوفها: (قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) أي فقال الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لست ممن تظنين، ولا يقع منى ما تتوهمين من الشر، ولكنى رسول ربك بعثني إليك، لأهب لك غلاما طاهرا مبرّأ من العيوب، وقد أضاف الهبة إلى نفسه من قبل أنها جرت على يده بأن نفخ فى جيبها بأمر الله. ولما عجبت مريم مما سمعت: (قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا) أي قالت لجبريل: من أي وجه يكون لى غلام، ولست بذات زوج، ولا يتصور منى الفجور؟. (قال كذلك قال ربك هو على هين) أي قال الملك مجيبا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلام وإن لم تكونى ذات بعل، ولا تقترفين فاحشة، فإنه تعالى على ما يشاء قدير، ولا يمتنع عليه فعل ما يريده، ولا يحتاج فى إنشائه إلى الموادّ والآلات.

[سورة مريم (19) : الآيات 22 إلى 26]

ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران: «كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» . (ولنجعله آية للناس) أي وفعلنا ذلك لنجعل خلقه برهانا على قدرتنا، فقد خلقنا أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلقنا عيسى من أنثى فحسب، وخلقنا بقية الذرية من ذكر وأنثى، وإلى الأولين أشار القائل: ألا رب مولود وليس له أب ... وذى ولد لم يلده أبوان (ورحمة منا) أي ورحمة من الله لعباده، إذ بعثه نبيا يدعوا إلى عبادته وتوحيده. (وكان أمرا مقضيا) أي قد قضاه الله فى سابق علمه، ومضى به حكمه، فلا يغير. ولا يبدّل: «ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد» . [سورة مريم (19) : الآيات 22 الى 26] فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) تفسير المفردات فانتبذت: أي فاعتزلت، قصيا: أي بعيدا من أهلها وراء الجبل، فأجاءها المخاض: أي فألجأها واضطرها، والمخاض: الطلق حين تحرك الولد للخروج من البطن والنسى: (بفتح النون وكسرها) الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، والمنسى: ما لا يخطر بالبال لتفاهته، والسرىّ: السيد الشريف،

الإيضاح

والهز: تحريك الشيء بعنف أو بدونه، تساقط: أي تسقط، ورطبا: أي بسرا ناضجا جنيا: أي صالحا للاجتناء، فقولى: أي أشيرى إليهم. قال الفرّاء: العرب تسمى كل ما أفهم الإنسان شيئا- كلاما بأى طريق كان، إلا إذا أكد بالمصدر فيكون حقيقة فى الكلام كقوله: «وكلم الله موسى تكليما» صوما: أي صمتا. الإيضاح (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) أي فلما قال لها جبريل ما قال: استسلمت لقضاء الله، فنفخ جبريل فى جيب درعها (الفتحة التي من الأمام فى القميص) فدخلت النفخة فى جوفها فحملته قاله ابن عباس، وقال غيره: نفخ فى كمها، والقرآن قد أثبت النفخ فقال: فنفخنا فيها من روحنا» ولم يعين موضع النفخ فلا نجزم بشىء من ذلك إلا بالدليل القاطع، وحينئذ اعتزلت بالذي حملت وهو عيسى عليه السلام مكانا قاصيا عن الناس. والقرآن الكريم لم يعين مدة الحمل (ولا حاجة إليها فى العبرة) فنقول إنها كانت كما يكون غيرها من النساء إلا إذا ثبت غيره، وكذلك لا حاجة إلى تعيين سنها حينئذ، إذ لا يتعلق به كبير فائدة. وإنما اتخذت المكان البعيد حياء من قومها وهى من سلائل بيت النبوة، ولأنها استشعرت منهم اتهامها بالريبة، فرأت أن لا تراهم وأن لا يروها. (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) أي فألجأها وجع الولادة وألم الطلق أن تستند إلى جذع النخلة للتشبث به، لسهولة الولادة، وتمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت، حياء من الناس وخوفا من لأئمتهم، أو كانت شيئا لا يعتد به ولا يخطر ببال أحد من الناس.

(فناداها من تحتها: ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا) أي فناداها عيسى عليه السلام كما قال الحسن البصري وسعيد بن جبير، (وقد أنطقه الله حين وضعته تطييبا لقلبها، وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد بادى ذى بدء علوّ شأن ذلك المولود الذي بشرها به جبريل عليه السلام) ألا تحزنى فقد جعل ربك المحسن إليك، تحتك غلاما رفيع الشأن، سامى القدر ذا سخاء في مروءة. (وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) أي أميلى إليك جذع النخلة واجذبيه بتحريكه، يسقط عليك رطبا جنيا تأكلين منه ما تشائين. وتلك آية أخرى لها إذ روى أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء، فأنزل الله لها رزقا فجعل للنخلة رأسا وخوصا وجعل لها ثمرا رطبا- وهذه رواية يعوزها الدليل. وفى هذا إيماء وتنبيه إلى أن من يقدر أن يثمر النخلة اليابسة فى الشتاء يقدر أن يجعلها تحمل من غير السنن العادية، وإلى أن السعى فى الرزق مطلوب ولا ينافى التوكل، ولله در القائل: ألم تر أن الله أوحى لمريم ... وهزّى إليك الجذع يسّاقط الرّطب ولو شاء أحنى الجذع من غير هزّه ... إليها ولكن كل شىء له سبب (فكلى واشربى وقرى عينا) أي فكلى من ذلك الرطب، واشربى من عصيره، وطيبى نفسا، وأبعدى عنك الأحزان، فإن الله قدير أن ينزّه ساحتك ويبعد عنك تخرّصات المبطلين الذين يتقيدون بالسنن التي جعلها الله الطريق للولادة فى البشر، ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك حتى يثبتوا لك القداسة والطهر. (فإما ترين من البشر أحدا فقولى إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) أي فإن رأيت أحدا من بنى آدم يسألك عن أمرك، وأمر ولدك وكيف ولدته، فأشيرى إليهم- إنى أوجبت على نفسى لله صمتا ألّا أكلم اليوم أحدا، فإن كلامى يقبل الرد والجدل، ولكن يتكلم عنى ذلك المولود الذي لا يقبل كلامه الدفع والرد، وإنى أنزّه نفسى عن مجادلة السفهاء، ولا أكلم إلا الملائكة أو أناجى الخالق.

[سورة مريم (19) : الآيات 27 إلى 33]

وليس الصمت عن الكلام من شريعة الإسلام، فقد روى أن أبا بكر دخل على امرأة قد نذرت ألا تتكلم، فقال: إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمى، وروى ابن أبى حاتم عن ابن مسعود أنه جاءه رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا، فقال القوم: ما لصاحبك لم يسلّم؟ قال إنه نذر صوما، لا يكلم اليوم إنسيا، فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت، إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت، وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا- فتكلّم، وأمر بالمعروف، وأنه عن المنكر، فإنه خير لك. [سورة مريم (19) : الآيات 27 الى 33] فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) تفسير المفردات فريّا: أي عظيما خارقا للعادة، وهى الولادة بلا أب، من فرى الجلد أي قطعه على وجه الإفساد أو الإصلاح، ومنه فى وصف عمر «فلم أر عبقريا يفرى فريّه» وفى المثل: جاء يفرى الفرىّ، وهارون هو أخو موسى عليه السلام، وقيل هو رجل صالح من بنى إسرائيل، والأخت على هذا بمعنى المشابهة، وشبهوها به تهكما، أو لما رأوا من

الإيضاح

قبل من صلاحها، والمهد: الموضع يهيّأ للصبى ويوطّأ له والجمع مهود، والكتاب: الإنجيل، مباركا: نفّاعا للناس، أو ثابتا فى دين الله، الجبار: المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقا، والشقي: العاصي لربه. الإيضاح (فأتت به قومها تحمله قالوا: يا مريم لقد جئت شيئا فريا) أي إن مريم حين أمرت أن تصوم يومها، ولا تكلم أحدا من البشر، وأنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها- سلمت أمرها إلى الله، واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها وأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا ما رأوا، واستنكروا وقالوا يا مريم، لقد جئت أمرا عظيما منكرا. ثم زادوا تأكيدا فى توبيخها وتعييرها فقالوا: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيا) أي يا من أنت من نسل هارون أخى موسى، كما يقال للتميمى يا أخا تميم، وللمصرى يا أخا مصر، أو يا من أنت شبيهة بذلك الرجل المسمى بهذا الاسم الذي كنت تتأسّين به فى العبادة والزهد- ما كان أبوك بالفاجر وما كانت أمك بالبغىّ، فمن أين لك هذا الولد؟!. أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد وابن أبى شيبة وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون (يا أخت هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال فرجعت، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألا أخبرتم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» وهذا التفسير النبوي يغنى عن سائر ما روى عن السلف فى ذلك. (فأشارت إليه) أي فأشارت إلى عيسى أن كلّموه، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام، أو اقتصرت على ذلك

للمبالغة فى إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة، ويقدر على العبارة. (قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) أي قالوا لها، متهكمين بها، ظانين أنها تزدرى بهم وتهزأ: كيف نكلم من هو صبى فى المهد، ولم يعهد فى مثله وهو لم يدرج بعد من حجر أمه أن يكلم أحدا؟. روى أن عيسى لما سمع كلامهم أقبل عليهم وترك الرضاع وأشار بيمينه، ثم بدأ يتكلم فوصف نفسه بجملة صفات: (1) (قال إنى عبد الله) أي إنى عبد الله الذي له صفات الكمال لا أعبد غيره، وفى هذا إيماء إلى أن من كان لا يتخذ إلها من دونه، ولا يستعبده شيطان ولا هوى. (2) (آتانى الكتاب) أي سينزل علىّ الإنجيل. (3) (وجعلنى نبيا) أي وسيجعلنى نبيا، وفى هذا براءة لأمه، لأن الله لا يصطفى لنبوته أولاد سفاح. (4) (وجعلنى مباركا أين ما كنت) أي سيجعلنى نفاعا للناس هاديا لهم إلى سبيل الرشاد فى أىّ مكان كنت، وقد جعل هذه الصفات كأنها حدثت له فعلا وهى لم تحصل بعد، من قبل أنها لما كانت واقعة حتما نزّلت منزلة ما قد حصل. (5) (وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) أي وأمرنى بالصلاة، إذ فى إقامتها وإدامتها على الوجه الذي سنه الدين- تطهير النفوس من الأرجاس ومنع لها عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأمرنى بالزكاة بإعطاء جزء من المال للبائس والمحتاج، لما في ذلك من تطهير المال- ما دمت حيا فى الدنيا. (6) (وبرا بوالدتى) أي وجعلنى برا بوالدتي، مطيعا لها محسنا، وفى هذا رمز إلى نفى الريبة عنها، إذ لو لم تكن كذلك لما أمر الرسول المعصوم بتعظيمها.

[سورة مريم (19) : الآيات 34 إلى 40]

(7) (ولم يجعلنى جبارا شقيا) أي ولم يجعلنى جبارا مستكبرا عن عبادته، ولا شقيا بعقوق والدتي وعدم البر بها. (8) (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) أي والأمنة من الله علىّ، فلا يقدر أحد على ضرّى فى هذه المواطن الثلاثة التي هى أشق ما تكون على العباد. واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم فى المهد، واحتج النصارى على ذلك بأن هذا من الأحداث التي لو وجدت لتوافرت الدواعي على نقلها تواترا، لأنه من المناقب السامية، والفضائل التي لها الميزة العظمى بين الناس، ولما لم يعرف ذلك لدينا مع تتبعنا لفضائله، وشدة بحثنا عن الجليل والحقير من أحواله- علمنا أنه لم يوجد وأيضا فاليهود أظهروا عداوته حين ادعى النبوة، فلو أنه تكلم إذ ذاك لكانت عداوتهم له أشد، ولكان تحيلهم فى قتله أعظم، ومن حيث لم يحصل شىء من هذا علمنا أنه لم يتكلم. والمسلمون يقولون: كفى إثباتا لذلك نص القرآن القاطع- إلى أن العقل يرشد إليه، إذ لولا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا الحد عليها، وربما كان الحاضرون حين كلامه عددا قليلا ومن ثم لم يشتهر بينهم، وربما لم يحضر اليهود كلامه، ولم يسمعوا به. [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)

تفسير المفردات

تفسير المفردات قول الحق: أي قول الصدق الذي لا شبهة فيه، يمترون: أي يشكّون ويتنازعون، ما كان لله أن يتخذ من ولد. أي ما ينبغى ولا يصح أن يجعل له ولدا، صراط مستقيم: أي طريق لا يضل سالكه، الأحزاب: فرق النصارى الثلاث، مشهد: أي شهود وحضور، يوم عظيم: هو يوم القيامة، اليوم: أي فى الدنيا، يوم الحسرة، هو يوم القيامة حين يندم الناس على ما فرّطوا فى جنب الله، قضى الأمر: أي فرغ من الحساب. الإيضاح (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون) أي ذلك الذي فصّلت نبوّته، وذكرت مناقبه وأوصافه، هو عيسى بن مريم، نقول ذلك قول الصدق الذي لا ريب فيه، لا كما يقول اليهود من أنه ساحر وحاشاه، ولا كما تقول طائفة من النصارى إنه ابن الله، ولا كما تزعم طائفة أخرى أنه هو الله، ويخلعون عليه من صفات الألوهية ما هو منه براء. ثم أكد ما دل عليه سابق الكلام من كونه ابنا لمريم لا لغيرها بقوله: (ما كان لله أن يتخذ من ولد) أي لا يليق بحكمة الله وكمال ألوهيته أن يتخذ الولد لأنه لو أراده لخلقه بقول «كن» فلا حمل ولا ولادة، ولأن الولد إنما يرغب فيه، ليكون حافظا لأبيه يعوله وهو حىّ، وذكرا له بعد الموت، والله تعالى لا يحتاج إلى شىء من ذلك لعالم كله خاضع له، لا حاجة له إلى ولد ينفعه، وهو حى أبدا.

ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى تنزيهه تعالى عن ذلك فقال: (سبحانه) أي تنزه ربنا عن كل نقص من اتخاذ الولد أو غيره. ثم ذكر علة هذا التنزيه وبيان الوجه فيه فقال: (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) أي إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء كما قال: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» ومن كان هذا شأنه فكيف يتوهم أن يكون له ولد، لأن ذلك من أمارات النقص والاحتياج؟. (وإن الله ربى وربكم فاعبدوه) أي ومما أمر به عيسى قومه وهو فى مهده أن أخبرهم بقوله- إن الله ربى وربكم، وأمرهم بعبادته. (هذا صراط مستقيم) أي هذا الذي أوصيتكم أن الله أمرنى به هو الطريق المستقيم فمن سلكه نجا، ومن اتبعه اهتدى، لأنه هو الدين الذي أمر به أنبياءه، من خالفه ضل وغوى، وسلك سبيل الردى. ثم أشار إلى أنه مع وضوح الأمر فى شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه- اختلفوا فيه كما قال: (فاختلف الأحزاب من بينهم) أي فاختلف قوم عيسى فى شأنه فرقا ثلاثا. فقالت اليعقوبية: (نسبة إلى عالم منهم يسمى يعقوب) هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء، وقالت النسطورية (نسبة إلى عالم يسمى نسطور) . هو ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه. وقالت الملكانية (نسبة إلى الملك قسطنطين وكان فيلسوفا عالما) إنه عبد الله كسائر خلقه. وهذا الرأى هو الذي نصره الملك ونصره غيره من شيعته. ثم توعد من كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا فقال: (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) أي فعذاب شديد للكافرين من شهود ذلك اليوم وهو يوم القيامة، لشدة بأسه وعذابه، فالأيدى والأرجل والألسن

تشهد على أصحابها، وقد أجل الله عقابهم إلى هذا اليوم حلما منه وثقة بقدرته عليهم، فهو لا يعجّل عقوبة من عصاه كما جاء فى الصحيحين «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد) وفى الصحيحين أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله- إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم» . ثم عجب ربنا من قوة سمع الكفار وحذّة أبصارهم يوم القيامة وقد كانوا على الضد من هذا فى الدنيا فقال: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين) أي لئن كان هؤلاء الكفار الذين جعلوا لله أندادا وزعموا أن له ولدا- عميا فى الدنيا عن إبصار الحق والنظر إلى حجج الله التي أودعها فى الكون دالة على وحدانيته وعظيم قدرته وبديع حكمته، صما عن سماع آي كتبه وما دعتهم إليه الرسل مما ينفعهم فى دينهم ودنياهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم- فما أسمعهم يوم قدومهم على ربهم فى الآخرة، وما أبصرهم حينئذ، حيث لا يجدى السماع والإبصار شيئا، ويعضّون على أناملهم حسرة وأسفا، ويتمنون على الله الأمانى، فيودون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من صالح العمل، ولكن هيهات هيهات فقد فات الأوان. صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب ومن ثم لا يجاب لهم طلب، بل يقال لكل أفاك أثيم «خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه. ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم» . ثم أمر سبحانه نبيه أن ينذر قومه والمشركين جميعا فقال: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون) أي وأنذر الناس جميعا يوم يتحسر الظالمون على ما فرّطوا فى جنب الله حين فرغ من الحساب، وذهب

أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، ونودى كل من الفريقين لا خروج من هنا بعد اليوم، ولا موت بعد اليوم. روى الشيخان والترمذي عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يؤتى بالموت بهيئة كبش أملح (يخالط بياضه سواد) فينادى مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون. نعم، هذا الموت، وكلهم قد رأوه، ثم ينادى مناد يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رأوه، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ «وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم فى غفلة وهم لا يؤمنون» . وقوله إذ قضى الأمر أي إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها، ولأهل الجنة بمقام الأبد فيها بذبح الموت. وذبحه تصوير لأن كلّا من الفريقين يفهم فهما لا لبس فيه أنه لا موت بعد ذلك. وقوله: وهم فى غفلة: أي عن ذلك اليوم، وعن حسراته وأهواله، وقوله: وهم لا يؤمنون: أي وهم لا يصدّقون بالقيامة والبعث ومجازاة الله لهم على سييء أعمالهم بما أخبر أنه مجازيهم به. ثم سلى رسوله وتوعد المشركين فقال: (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون) أي لا يحزنك أيها الرسول تكذيب المشركين لك فيما أتيتهم به من الحق، فإن إلينا مرجعهم ومصيرهم ومصير الخلق أجمعين، ونحن وارثو الأرض ومن عليها من الناس بعد فنائهم، ثم نجازى كل نفس بما عملت حينئذ، فنجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب.

[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 50]

قصص إبراهيم عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) تفسير المفردات واذكر فى الكتاب: أي اتل فى هذه السورة، صدّيقا: أي مبالغا فى الصدق لم يكذب قط، صراطا سويا: أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل السعادة، وليا: أي قرينا تليه ويليك فى العذاب، أراغب أنت عن آلهتي: أي أكاره لها، لأرجمنك: أي لأشتمنك باللسان أو لأرجمنك بالحجارة، مليّا: أي دهرا طويلا. قال مهلهل: فتصدعت صمّ الجبال لموته ... وبكت عليه المرملات مليّا

المعنى الجملي

حفيا: أي مبالغا فى برّى وإكرامى يقال: حفى به إذا اعتنى بإكرامه، شقيا: أي خائب المسعى، لسان صدق: أي ثناء حسنا. المعنى الجملي اعلم أن المقصد من هذه السورة إثبات الوحدانية والنبوة والبعث، والمنكرون للتوحيد فريقان: فريق أثبتوا معبودا سوى الله حيا عاقلا وهم النصارى. وفريق أثبتوا معبودا هو جماد ليس بحي ولا عاقل وهم عبدة الأصنام. والفريقان وإن اشتركا فى الضلال، فضلال الفريق الثاني أشد، ومن ثم قدم الكلام فى النصارى على الكلام فى عبدة الأصنام. وذكر قصص إبراهيم أوّلا لأنه أبو العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه، معترفين بدينه كما قال «ملة أبيكم إبراهيم» إلى أنه تعالى نبههم إلى أن الطريق التي جروا عليها وهى التقليد بنحو قولهم «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون» تخالف طريق الاستدلال التي سار عليها أبوهم إبراهيم فى حجاجه مع أبيه آزر. الإيضاح (واذكر فى الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبية يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا؟) أي واتل أيها الرسول على قومك الذين يعبدون الأصنام ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدّعون أنهم على ملته (وهو الصّدّيق النبي) . حين نهى قومه عن عبادتها وقال لأبيه: ما الذي حبّب إليك أن تعبد ما لا يسمع ثناءك على حين عبادتك له، ولا يبصر خشوعك وخضوعك بين يديه، ولا ينفعك فيدفع عنك ضرا إذا استنصرت به؟. وقد سلك عليه السلام فى دعوته أجمل الآداب فى الحجاج، واحتج بأروع البرهانات ليرده عن غيه، ويقفه على طريق الهدى والرشاد، فاستهجن منه أن يعبد

ما يستخفّ به كل ذى لبّ، ويأبى الركون إليه كل ذى عقل، فالعبادة هى الغاية القصوى فى التعظيم، فلا يستحقها إلا الخالق الرازق، المحيي المميت، المثيب المعاقب، لا الأصنام التي لا تسمع الأصوات، ولا تنظر الأشياء، وتعجز عن جلب المنافع، ودفع المضار. وقصارى ما قال- إن الإنسان السميع البصير يأنف أن يعبد نظيره، فكيف تعبد ما خرج عن الألوهية بفقره وضعفه واحتياجه إلى من يصنعه، وعن الإنسانية بفقد العقل، وعن الحيوانية بفقد الحواس. أما كان لك عبرة فى حاجته وفقده السمع والبصر؟. (يا أبت إنى قد جاءنى من العلم ما لم يأتك فاتبعنى أهدك صراطا سويا) أي يا أبى إنى وإن كنت من صلبك، وترانى أصغر منك لأنى ولدك، فاعلم أنى قد اطّلعت من العلم على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه، فاتبعنى أهدك طريقا مستقيما لا زيغ فيه، يوصلك إلى نيل المطلوب، وينجيك من كل مرهوب. وفى قوله: قد جاءنى إيماء إلى أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبّىء، ولم يعين ما جاءه ليشمل كل ما يوصّله إلى الجنة ونعيمها، ويبعد به عن النار وعذابها. (يا أبت لا تعبد الشيطان) أي لا تطع الشيطان فى عبادة هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى عبادتها والموسوس بها. ونحو الآية قوله: «ألم أعهد إليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين» وقوله: «إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا» . ثم بين سبب النهى عن طاعته بقوله: (إن الشيطان كان للرحمن عصيا) أي إن الشيطان عاص مستكبر عمن شملته

رحمتك، وعمّته نعمتك، ولا ريب فى أن من أطاع العاصي يكون عاصيا وجديرا بأن تسترد منه النعم، وحقيقا بأن تنزل عليه النقم. ثم حذره من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام فقال: (يا أبت إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) أي يا أبى إنى أخاف لمحبتى لك، وغيرتى عليك، أن يصيبك عذاب من الرحمن على شركك وعصيانك. (فتكون للشيطان وليا) أي قرينا وتابعا له فى النار. وقصارى ذلك- إنى أخاف أن تكون تابعا للشيطان فى الدنيا، فيمسّك عذاب من الرحمن فى العقبى. ولما دعا إبراهيم أباه إلى التوحيد، وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان، وأردف ذلك بالوعظ واللطف، قابله أبوه بجواب هو على الضد من ذلك. (قال أراغب أنت عن آلهتى يا إبراهيم؟) أي أتكره آلهتي، ولا ترغب فى عبادتها يا إبراهيم؟. (لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من النهى عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتنى إليه، لأرجمنك بالحجارة، فاحذرنى وابعد عنى بالمفارقة من الدار والبلد دهرا طويلا. وقد قابل الأب رفق الابن بالعنف، فلم يقل يا بنى كما قال الابن يا أبت، وقابل وعظه بالسفاهة، إذ هدده بالشتم أو بالضرب بالحجارة بقوله: لئن لم تنته لأرجمنك. وفى ذلك تسلية للنبى صلّى الله عليه وسلّم وتأسية له بإبراهيم فيما كان يلقى من الأذى من قومه ويقاسيه منهم ومن عمه أبى لهب من العنت والمكروه. ولما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجابه بأمرين: (1) (قال سلام عليك) أي سلمت منى لا أصيبك بمكروه ما لم أومر فيك بشىء، وهذا جواب الحليم للسفيه، وفيه توديع ومتاركة ومقابلة للسيئه بالحسنة، وزاد على ذلك أن قال:

(2) (سأستغفر لك ربى) أي سأطلب لك من ربى الغفران، بأن يوفقك للهداية، وينير بصيرتك لقبول الحق، ويرشدك إلى ما فيه الخير. ونحو الآية قوله: «واغفر لابى إنه كان من الضالين» . وقصارى دعائه- رب اهد أبى، وأخرجه من الضلال. وإنما استغفر له، لأنه كان قد وعده أن يؤمن كما قال: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه» . ثم ذكر أنه محبب إلى ربه فإذا هو استغفر له أجاب طلبه فقال: (إنه كان بى حفيا) أي إنه سبحانه للطفه بي، وإنعامه علىّ، عوّدنى الإجابة، فإذا أنا استغفرت لك أغاثك بجوده وكرمه، وغفر لك ذنوبك إن تبت إليه وأنبت ثم بين ما بيّت النية عليه، وعزم على إنفاذه فقال: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) أي وأتباعد عنك وعن قومك وعما تعبدون من الأوثان والأصنام، وأفر بديني وأتشاغل بعبادة ربى الذي ينفعنى ويضرنى، إذ لم تؤثر فيكم نصائحى. وقد روى أنه عليه السلام هاجر إلى بلاد الشام، وفى هجرته هذه تزوج سارّة. (وادعوا ربى) أي وأعبده سبحانه وحده، وأجتنب عبادة غيره من المعبودات. (عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا) أي لعلى لا أكون بدعاء ربى المنعم علىّ خائب المسعى، كما خبتم أنتم وشقيتم بعبادة تلك الأوثان التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم. وقد حقق ما عزم عليه، فحقق الله رجاءه، وأجاب دعاءه فقال: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب، وكلا جعلنا نبيا) أي فلما اعتزل إبراهيم أباه وقومه لم يضره ذلك لا فى دين ولا دنيا، بل نفعه إذ أبدله بهم من هم خير منهم ووهبه بنين وحفدة هم آباء الأنبياء من بنى إسرائيل

ولهم الشأن الخطير، والقدر العظيم، فقد وهبه إسحاق وولد لإسحاق يعقوب وقاما مقامه بعد موته وورثا منه النبوة. أما إسماعيل فتولى الله تربيته بعد نقله رضيعا إلى المسجد الحرام فأحيا تلك المشاعر العظام، ومن ثم أفرده بالذكر بقوله: «واذكر فى الكتاب إسماعيل» الآية. ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته بقوله: (وكلا جعلنا نبيا) أي وجعلنا لكل منهما نسلا وعقبا من الأنبياء أقر الله بهم عينيه فى حياته. (ووهبنا لهم من رحمتنا) أي وآتينا هم من فضلنا الديني والدنيوي ما لم نؤته أحدا من العالمين، فآتيناهم النسل الطاهر، والذرية المباركة، وإجابة الدعاء، واللطف فى القضاء، والبركة فى المال والأولاد إلى نحو أولئك من خيرى الدنيا والآخرة. (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) فمحامدهم مذكورة فى جميع الأزمان، سطّرها الدهر على صفحاته، استجابة لدعوته عليه السلام بقوله: «واجعل لى لسان صدق فى الآخرين» قال ابن جرير وإنما قال عليّا، لأن جميع الملل والأديان تثنى عليهم وتمدحهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد اجتمعت لإبراهيم خلال لم تجتمع لسواه: (1) إنه اعتزل قومه حبا فى الله، فآتاه الله من هم خير منهم، فوهب له إسماعيل وإسحاق ويعقوب. (2) إنه تبرأ من أبيه حين تبين منه أنه عدو لله، لا جرم سماه الله أبا المسلمين بقوله: «ملة أبيكم إبراهيم» . (3) إنه تلّ ولده للجبين، ليذبحه إطاعة لأمر الله ففداه الله بذبح عظيم. (4) إنه أسلم نفسه للنار ابتغاء رضوان الله فكانت عليه بردا وسلاما. (5) إنه أشفق على هذه الأمة فقال: «ربنا وابعث فيهم رسولا منهم»

[سورة مريم (19) : الآيات 51 إلى 53]

فأشركه الله فى الدعاء وفى الصلوات الخمس- وصل على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. (6) إنه عادى كل الخلق فى الله فقال: «فإنهم عدو لى إلا رب العالمين» فاتخذه الله خليلا كما أخبر بذلك الكتاب: «واتخذ الله إبراهيم خليلا» . (7) إن الله مدحه بقوله: «وإبراهيم الذى وفى» لا جرم جعل موطىء قدميه مباركا كما قال: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» . قصص موسى عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 53] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) تفسير المفردات مخلصا: أي مختارا مصطفى، وقربناه: أي تقريب تشريف وتكريم، والطور: هو الجبل الذي بين مصر ومدين، ونجيا: أي مناجيا مكلّما لله بلا واسطة. الإيضاح (واذكر فى الكتاب موسى) أي واتل أيها الرسول على قومك ما اتصف به موسى عليه السلام من صفات الجلال والكمال التي سأقصها عليك، ليستبين لك علو قدره وعظيم شأنه، وتلك هى: (1) (إنه كان مخلصا) أي إن الله أخلصه واصطفاه، وأبعد عنه الرجس، وطهّره من الذنوب والآثام كما جاء فى الآية الأخرى: «إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى» .

[سورة مريم (19) : الآيات 54 إلى 55]

(2) (وكان رسولا نبيا) أي إن الله أرسله إلى الخلق داعيا ومبشرا ونذيرا، والرسول هو من أرسله الله إلى الناس ومعه كتاب فيه شريعته التي أرسله بها كموسى عليه السلام، والنبىّ هو الذي ينبىء عن الله ويخبر قومه عنه، وليس معه كتاب كيوشع عليه السلام. (3) (وناديناه من جانب الطور الأيمن) أي وكلمناه من الجانب الأيمن للطور أي الذي عن يمين موسى حين أقبل من مدين متوجها إلى مصر، وأنبأناه بأنه رسولنا، ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون، ورحمنا بنى إسرائيل بإنزال الكتاب عليهم. (4) (وقربناه نجيا) أي وقربناه تقريب تشريف وإجلال حين مناجاته لنا وقد مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته، واصطفاه لمصاحبته، ورفع الوسائط بينه وبينه. وقصارى ذلك- إنه تجاوز العالم المادي، وانغمس فى العالم الرّوحى، فقرب من ربه وارتقت نفسه حتى بلغت أقصى مناها، واستعدت للاطلاع على عالم الملكوت، ورؤية ما غاب عن عالم المادة. (5) (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) أي ووهبنا له من رحمتنا معاضدة أخيه ومؤازرته، إجابة لدعوته عليه السلام بقوله: «واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى» وحققنا ما طلبه له، وجعلناه نبيا: «قال قد أوتيت سؤلك يا موسى» قال بعض السلف: ما شفع أحد فى أحد فى الدنيا أعظم من شفاعة موسى فى هرون أن يكون نبيا، قال ابن عباس: كان هرون أكبر من موسى بأربع سنين. قصص إسماعيل عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 54 الى 55] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)

المعنى الجملي

المعنى الجملي قدم الكلام فى موسى على الكلام فى إسماعيل ليكون الحديث عن يعقوب وبنيه فى نسق واحد دون فاصل بينهما، وإسماعيل هو إسماعيل بن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وقد أثنى عليه ربه بما هو أهله ووصفه بصفات هى مفخرة البشر ومنتهى السموّ والفضل فى هذه الدنيا. الإيضاح (واذكر فى الكتاب إسماعيل) أي اتل أيها الرسول على قومك صفات أبيهم إسماعيل، علّهم يهتدون بهديه، ويحتذون حذوه، ويتخلقون بمثل ما له من مناقب وفضائل منها: (1) (إنه كان صادق الوعد) فما وعد عدة إلا وفّى بها، حتى وعد أباه بالصبر على الذبح فقال: «ستجدنى إن شاء الله من الصابرين» فصدق فى ذلك ووفّى بما قال وامتثل حتى جاءه الفداء. وصدق الوعد من الصفات التي حث عليها الدين، وشدد فيها أيّما تشديد فقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف. وإذا اؤتمن خان» وقد فقدت هذه الصفة من كثير من المسلمين، فلا تجد عالما ولا جاهلا إلا وهو بمنأى عنها ولا سيما التجار والصناع والعمال. (2) (وكان رسولا نبيا) أي وكان رسولا إلى جرهم الذين حلّوا بمكة معه ومع أمه، وكان مرسلا من الله بتبليغ شريعة إبراهيم، فنبأ بها قومه وأنذرهم وخوفهم ومن هذا يعلم أن الرسول لا يجب أن ينزل عليه كتاب مستقل.

[سورة مريم (19) : الآيات 56 إلى 57]

(3) (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) أي إنه بعد أن كمل نفسه اشتغل بتكميل أمته وأقرب الناس إليه، على نحو ما قاله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلم: «وأنذر عشيرتك الأقربين» وقال: «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها» وقال: «قوا أنفسكم وأهليكم نارا» . (4) (وكان عند ربه مرضيا) عمله، محمودا فيما كلفه به، غير مقصّر فى طاعته، فاقتد أيها الرسول به، لأنه من أجلّ آبائك. قصص إدريس عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 57] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) الإيضاح (واذكر فى الكتاب إدريس) بالثناء عليه، والنسابون يقولون: إنه جد أبى نوح عليه السلام، ويقولون: إنه أول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من نظر فى النجوم وتعلم الحساب. وجعل الله ذلك من معجزاته. وإن تقادم العهد، وطول الزمن، وعدم وجود السند الصحيح الذي يعوّل عليه فى الرواية، يجعلنا فى شك من كل هذا، فعلينا أن نكتفى بما جاء به الكتاب الكريم فى شأنه، وقد وصفه الله بجملة صفات كلها مفاخر ومناقب إعظام وإجلال: (1) (إنه كان صديقا) تقدم القول فى هذا. (2) (نبيا) (3) (ورفعناه مكانا عليا) أي أعلينا قدره ورفعنا ذكره فى الملأ، ونحو هذا قوله لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: «ورفعنا لك ذكرك»

[سورة مريم (19) : آية 58]

ويرى بعض الباحثين فى الآثار المصرية أن إدريس تعريب لكلمة (أوزريس- أموريس) وهو الذي ألف له المصريون القدماء رواية خلّدت فى بطون تواريخهم، ومنها أنه حصل بينه وبين أخيه تحاسد وشقاق أدى إلى قتله وتقطيعه إربا إربا، فجمعت امرأته تلك القطع وحفظتها وحنطتها، واتخذوه إلها بعد أن كان مصلحا عظيما. وهذا القصص الخرافى جعل المصريين يعنون بتحنيط الموتى، وقد أفاد هذا العمل صناعة التحنيط ورقّاها حتى صارت مضرب الأمثال فى الخافقين. وقد كان الملك والدين فى عهد تلك الدولة أمرا واحدا، فالملك يجمع بين شئون الدين والدنيا، فمن عصى الملك فقد عصى الله. ويعتقدون أن أوزريس صعد إلى السماء وصار إلى العالم العلوي وله عرش عظيم فى السماء، ويتمتع بأعظم الخيرات، وكل من حفظ جسمه ووزنت أعماله بعد الموت وحكم القضاة وهم اثنان وأربعون قاضيا بأن حسناته غلبت سيئاته- يلحق بأوزريس وهذا النبي الذي جعلوه إلها بعد ذلك هو الذي علمهم العلوم والمعارف وينسبون الفضل فى ذلك إليه. وقد ارتقت الأمة المصرية فى العلوم والمعارف إلى حد لم تصل إليه أمة أخرى لا فى القديم ولا فى الحديث، وخدمت النوع البشرى خدمة جليلة، فارتفاع إدريس إلى السماء راجع إلى رقى تعاليمه وانتفاع أمته بها، فالنبى بأمته، ومن ثم تجد آثار أمته بادية للعيان، بعد أن كانت خافية عن الأنظار. وبعد أن ذكّر الله أولئك المرسلين أخذ يعدد مناقبهم ويذكر صفاتهم فقال: [سورة مريم (19) : آية 58] أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)

تفسير المفردات

تفسير المفردات إسرائيل: يعقوب عليه السلام، واجتباه. اصطفاه واختاره، والسجّد، واحدهم ساجد، والبكىّ: وأحدهم باك، يقال: بكى يبكى بكاء، وبكيا: قال الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الجزن: أي لا صوت معه كما قال الشاعر: بكت عينى وحق لها بكاها ... وما يغنى البكاء ولا العويل المعنى الجملي بعد أن أفرد الله كل رسول من رسله العشرة الذين سبق ذكرهم بالثناء عليه بما هو جدير به- أردفه بذكر بعض ما جازاهم به من النعم، فقد هداهم إلى سبل الخير واصطفاهم من سائر خلقه. الإيضاح (اولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) أي هؤلاء النبيون الذين قصصت أنباءهم عليك أيها الرسول هم الذين أنعم الله عليهم بما خصصهم به من مزيد القرب منه، وعظيم المنزلة لديه، وهداهم إلى سبيل الرشاد، ورفع ذكرهم بين العباد. (من ذرية آدم) أبى البشر الأول. (وممن حملنا مع نوح) أي ومن ذرية من حملنا مع نوح أبى البشر الثاني فى الفلك كإبراهيم خليل الرحمن. (ومن ذرية إبراهيم) وهم إسحاق ويعقوب وإسماعيل. (وإسرائيل) أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب عليه السلام، وهم: موسى وهارون وزكريا وعيسى وأمه مريم. (وممن هدينا واجتبينا) أي ومن جملة من هديناهم إلى سبيل الحق، واجتبيناهم للنبوة والكرامة.

[سورة مريم (19) : الآيات 59 إلى 60]

(إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) أي إذا تتلى على هؤلاء الأنبياء الذين أنعم الله عليهم أدلة الله وحججه التي أنزلها عليهم فى كتبه- خروا لله سجدا استكانة له وتذللا، وخضوعا لأمره وانقيادا له، وهم باكون خشية منه وحذرا من عقابه. قال صالح المرّى: قرأت القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المنام فقال: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ وفى الحديث «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه» . وقصارى ذلك- إنه سبحانه أبان علوّ أمرهم فى الدين والنسب والقرب منه. جزاء خلف هؤلاء ممن ضل وغوى [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 60] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) تفسير المفردات الخلف: (بسكون اللام) عقب السوء، ويقال لعقب الخير والصدق خلف (بفتح اللام) ، أضاعوا الصلاة: أي تركوها بتاتا، اتبعوا الشهوات: أي انهمكوا فى المعاصي واللذات، غيّا: أي ضلالا، والمراد يلقون جزاءه فى نار جهنم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حزب السعداء وهم الأنبياء ومن تبعهم بإحسان ممن قاموا بحدود الدين فاتبعوا أوامره وأدّوا فرائضه وتركوا نواهيه- أردف هذا ذكر من

الإيضاح

خلفهم ممن أضاعوا واجباته، وأقبلوا على شهوات الدنيا ولذاتها، وأعقب هذا بذكر ما ينالهم من النكال والوبال فى الآخرة إلا من تاب وأناب، فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولا ينقصه شيئا من جزاء أعماله. قال مجاهد: نزلت هذه الآية فى قوم من هذه الأمة يتراكبون فى الطرق كما تراكب الأنعام، لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله فى السماء. وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم فى جماعة آخرين عن أبى سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتلا هذه الآية قال: «يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرؤن القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر» . وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيهلك من أمتى أهل الكتاب وأهل اللبن قلت يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال: قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا. قلت وما أهل اللبن؟ قال: قوم يتبعون الشهوات، ويضيعون الصلوات» . الإيضاح (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) أي فجاء من بعد الأنبياء الذين ذكروا- خلف سوء خلفوهم فى الأرض كاليهود والنصارى ومن على شاكلتهم من أهل الضلال، إذ تركوا الصلوات المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم على طاعة الله، فانكبوا على شرب الخمور، وشهادة الزور، ولعب الميسر، وإتيان الفاحشة خفيّة وعلانية. ثم ذكر عاقبة أعمالهم، وسوء مآلهم فقال: (فسوف يلقون غيّا) أي شرا وخسرانا، لإهما لهم أداء واجبات الدين، وانهما كهم فى المعاصي والآثام.

[سورة مريم (19) : الآيات 61 إلى 63]

(إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة) أي لكن من أنابوا إلى ربهم، وأقلعوا عن ذنبهم، وآمنوا بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمر به وأدّوا فرائضه، فأولئك يدخلهم ربهم جناته، ويغفر لهم حوباتهم، فالتوبة تجبّ ما قبلها كما جاء فى الحديث «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» . (ولا يظلمون شيئا) أي ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم، إذ أفعالهم السابقة ذهبت هباء، وصارت نسيا منسيا بكرم اللطيف الخبير، وعظيم حلمه على عباده. ولما ذكر أن التائب يدخل الجنة وصف هذه الجنة بأمور فقال: [سورة مريم (19) : الآيات 61 الى 63] جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) تفسير المفردات جنات عدن: أي جنات إقامة، وهذا وصف لها بالدوام، بالغيب: أي وهى غائبة عنهم، وعده، أي ما وعد به من الجنات: مأتيا، أي يأتيه من وعد به لا محالة، لغوا أي فضولا من الكلام لا طائل تحته، سلاما: أي سلاما من الله أو من الملائكة. المعنى الجملي لما ذكر أنه سبحانه يدخل التائبين الجنة- وصف هذه الجنة بجملة أوصاف كلها غاية فى تعظيم أمرها، وشريف قدرها، وجليل خطرها. الإيضاح أوصاف هذه الجنة: (1) (جنات عدن التى وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا) أي هذه الجنات هى جنات إقامة دائمة لا كجنات الدنيا، وقد وعد بها المتقين وهى غائبة عنهم لم يشاهدوها، ووعد الله لا يخلف، فهم آتوها لا محالة.

(2) (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) أي لا يسمع المتقون فيها فضول القول وما لا طائل تحته، ولكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم بما يشعرهم بالأمان والاطمئنان، وهما منتهى السعادة، والدنيا لا طمأنينة فيها ولا استقرار، فلا سعادة فيها ولا نعيم، ومن ثم طلب إلينا أن ندعو فى الصلاة بالأمان ونقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ولا شك أن تكرار هذه العبارة فى الصلوات يحدث فى النفس أثرا إذا أدركت مغزاها، ويشعر بأن الله لم يخلق العالم إلا لغاية واحدة وهى الطمأنينة، ولا تكون إلا إذا أمن المرء الفقر والمرض والشيخوخة، وأنى لنا بذلك فى الدنيا؟ وإنما تكون الطمأنينة لعباده المتقين فى الآخرة، وهذا المعنى هو الذي تترجم عنه الجملة (السلام عليكم) أي إن الأمان سيحققه الله لكم، بأن يأمن يعضكم بعضا فى الدنيا وفى الآخرة بالخروج من جميع المآزق. وهذا الدعاء أمنية من أمانى النفوس، لا تتحقق إلا إذا أمن الإنسان العذاب والعقاب، وانتهى الحساب، وارتفع السوء كالمرض والموت والفقر والذل يوم القيامة. (3) (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) أي ولهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب فى قدر وقت البكرة ووقت العشى من نهار أيام الدنيا: أي إن الذي بين غدائهم وعشائهم فى الجنة قدر ما بين غداء أحدنا فى الدنيا وعشائه. وخلاصة ذلك- إنه لا بكرة فى الجنة ولا عشى، إذ لا ليل ولا نهار، وإنما يؤتون بأرزاقهم فى مقدار طرفى النهار كما كانوا فى الدنيا ولما ذكر أن هذه الجنة تخالف جنات الدنيا- ذكر الدواعي التي توجب استحقاقها فقال: (تلك الجنة التى نورث من عبادنا من كان تقيا) أي هذه الجنة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة، نورثها عبادنا المتقين الذين يطيعون الله فى السر والعلن،

[سورة مريم (19) : الآيات 64 إلى 65]

ويحمدونه على السراء والضراء، والمراد أننا نجعلها ملكا لهم كملك الميراث الذي هو أقوى تمليك. وجاء بمعنى الآية قوله: «قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون» إلى أن قال: «أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون» [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) تفسير المفردات التنزل: النزول وقتا غب وقت، ما بين أيدينا: أي ما قدامنا من الزمان المستقبل، وما خلفنا: أي من الزمان الماضي، وما بين ذلك: هو الزمان الحاضر، نسيّا: أي تاركا لك، واصطبر عليها: أي اثبت لشدائد العبادة وما فيها من المشاق كما تقول للمبارز: اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من حملاته، سميّا: أي مثلا ونظيرا. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تثبيتا له صلّى الله عليه وسلّم وأعقبه بذكر ما أحدثه الخلف بعدهم، وذكر جزاء الفريقين، أعقب ذلك بقصص تأخر نزول جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلم إذا زعم المشركون أن الله ودّعه وقلاه، وقد رد عليهم زعمهم وأبان لهم أن الأمر على غير ما زعموا. روى «أن جبريل عليه السلام احتبس عنه صلّى الله عليه وسلّم أياما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح، ولم يدر عليه الصلاة والسلام كيف يجيب؟

الإيضاح

فحزن واشتد عليه ذلك، وقال المشركون إن ربه ودّعه وقلاه، فلما نزل قال له عليه السلام يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى، واشتقت إليك، فقال إنى إليك لأشوق، ولكنى عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، وأنزل الله هذه الآية» وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت هذه الآية إلى آخرها» . الإيضاح (وما نتنزل إلا بأمر ربك) أي وما تنزل الملائكة بالوحى على الرسل وقتا بعد وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته، وتدعو إليه مصلحة عباده، ويكون فيه الخير لهم فى دينهم ودنياهم. ثم علل الملك ذلك بقوله: (له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) أي إنه تعالى هو المدبر لنا فى جميع الأزمنة مستقبلها وماضيها وحاضرها. وقصارى ذلك- إن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته لا اعتراض لأحد عليه، فلا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل فى زمان دون زمان إلا بإذنه عزّ وجل. (وما كان ربك نسيا) أي إنه تعالى لإحاطة علمه بملكه، لا يطرأ عليه غفلة ولا نسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك، وإنما كان تأخير الوحى لحكمة علمها جل شأنه. أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه والطبراني فى جماعة آخرين عن أبى الدرداء مرفوعا قال «ما أحل الله فى كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا: وما كان ربك نسيا» . ثم أقام الدليل على ما تقدم بقوله:

[سورة مريم (19) : الآيات 66 إلى 72]

(رب السماوات والأرض وما بينهما) فلا يجوز عليه النسيان، فإن من بيده ملكوت كل شىء، كيف يتصور أن تحوم حوله الغفلة والنسيان. ثم بين ما ينبغى لرسوله أن يفعله بعد أن عرف هذا فقال: (فاعبده واصطبر لعبادته) أي وإذ قد علمت أنه الرب المسيطر على ما فى السموات والأرض وما بينهما، القابض على أعنّتهما، فاعبده ودم على مشاقّ العبادة وشدائدها، وإياك أن يصدّك عنها ما يحدث من إبطاء الوحى وتقوّل المشركين الخرّاصين عن سببه: ثم أكد الأمر بالعبادة بقوله: (هل تعلم له سميا؟) أي هل تعلم له شبيها ومثلا يقتضى العبادة لكونه منعما متفضلا بجليل النعم وحقيرها، ومن ثم يجب تعظيمه غاية التعظيم بالاعتراف بربوبيته، والخضوع لسلطانه؟. [سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) تفسير المفردات يذكر: أي يتذكر ويتفكر، لنحشرنهم: أي لنجمعنهم، جثيا: واحدهم جاث وهو البارك على ركبتيه، شيعة: أي جماعة تعاونت على الباطل وتشايعت عليه

المعنى الجملي

عتيا: أي تكبرا ومجاوزة للحد، صليّا: أي دخولا فيها من صلّى بالنار إذا قاسى حرها، واردها: أي مارّ عليها، حتما: أي واجبا، مقضيا: أي قضى بوقوعه البتة. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بالعبادة والمصابرة عليها على ما فيها من مشاق وشدائد- أبان فائدة ذلك وهى أنها تنجيهم يوم الحشر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وهو يوم لا ريب فيه ولا وجه لإنكاره، فإن إعادة الإنسان أهون من بدئه، ثم ذكر ما يلقاه الكافرون يومئذ من الذل والهوان، ثم أردف ذلك ببيان أن جميع الخلائق ترد على النار ولا ينجو منها إلا من اتقى ربه وأخلص فى عمله. روى الكلبي أنها نزلت فى أبىّ بن خلف أخذ عظما باليا فجعل يفتّه بيده ويذريه فى الريح ويقول: زعم فلان أنا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا، إن هذا لن يكون أبدا. الإيضاح (ويقول الإنسان ااذا ما مت لسوف أخرج حيا) أي ويقول الكافر الذي لا يصدّق بالبعث بعد الموت متعجّبا مستبعدا: أأخرج حيا مرة أخرى فأبعث بعد الموت والبلى؟ وأسند القول إلى الكفرة جميعا وإن لم يقل هذه المقالة إلا بعضهم، من حيث رضاهم عن هذا المقال وسكوتهم عن إنكاره كما سلف لك من قبل. ثم أقام الدليل على صحة ذلك بقوله: (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا؟) أي أولا يتفكر الإنسان المجترئ على ربه، المنكر لتلك الإعادة بعد الفناء، وللإحياء بعد الممات، أن الله خلقه من قبل مماته، فأنشأه بشرا سويا من غير شىء، فليعتبر بذلك وليعلم أن من أنشأه كذلك لا يعجز عن إحيائه بعد مماته، وإيجاده بعد فنائه.

ونحو الآية قوله تعالى: «وإن تعجب فعجب قولهم: ااذا كنا ترابا اانا لفى خلق جديد» وقوله: «وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم؟ قل يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم» وقوله: «وهو الذى يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه» وفى الحديث القدسي: يقول الله تعالى: كذّبنى ابن آدم ولم يكن له أن يكذبنى، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذينى، أما تكذيبه إياى فقوله لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علىّ من آخره، وأما أذاه إياى فقوله: إن لى ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» . ولما قرر القضية وأقام عليها الدليل أردفها بالتهديد من وجوه فقال: (1) (فو ربك لنحشرنهم والشياطين) أقسم الرب بذاته الكريمة أنه حاشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله. وفى قسمه على جمعهم وسوقهم إلى المحشر دون القسم على بعثهم، تنبيه إلى أن ذلك غنىّ عن الإثبات بعد أن أقام البرهان على إمكانه، وإنما الذي يحتاج إلى ذلك ما بعده من الشدائد والأهوال. روى أن الكافرين يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم، كلّ منهم مع شيطانه. (2) (ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) أي ثم لنحضرنهم بعد طول الوقوف حول جهنم من خارجها- جاثين على ركبهم إهانة لهم، أو لعجزهم عن القيام لما حل بهم من المكاره والأهوال. (3) (ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا) أي لنأخذن من

كل جماعة منهم من هو أشد على الرحمن الذي غمر هم بإحسانه- تكبرا ومجاوزة للحدود التي سهّا لخلقه وقصارى ذلك- إن الله تعالى يحضرهم أولا حول جهنم، ثم يميز بعضهم عن بعض، فمن كان أشدهم تمردا فى كفره، خص بعذاب أعظم، فعذاب الضالّ المضلّ فوق عذاب من يضلّ بالتبع لغيره. (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) أي ثم لنحن العالمون بظواهر أعمالهم وبواطنها، وبما اجترحوا من السيئات، وبما دسّوا به أنفسهم من الموبقات، من هم أولى بجهنم دخولا واحتراقا، فنبدأ بهم أولا ثم بمن يليهم. وخلاصة هذا- إنهم جميعا يستحقون العذاب، لكنا ندخلهم فى جهنم بحسب عتيّهم وتجبرهم فى كفرهم. ثم خاطب سبحانه الناس جميعا فقال: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) أي وما أحد منكم أيها الناس إلا يدنو من جهنم ويصير حولها، قد قضى ربك بذلك وجعله أمرا محتوما مفروغا منه. روى السدى عن ابن مسعود قال: «يرد الناس جميعا الصراط، ويقومون حول النار، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل ... » فى حديث طويل، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون بأعمالهم» . (ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة على قدر ما اجترحوا من الآثام والذنوب- نجى الله المتقين منها بحسب أعمالهم، وترك الكافرين جاثين على الركب كما جاءوا.

[سورة مريم (19) : الآيات 73 إلى 76]

[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) تفسير المفردات بينات: أي ظاهرات الإعجاز، مقاما: أي مكانا ومنزلا، نديّا: أي مجلسا ومجتمعا، ومثله النادي وقيل هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة، ومنه دار الندوة التي كان المشركون يتشاورون فيها فى أمورهم، والقرن: أهل كل عصر، والأثاث: متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها ولا واحد له، والرئى المنظر والمراد به النضارة والحسن، فليمدد: أي فليمهله بطول العمر والتمكن من سائر التصرفات، جندا: أي أنصارا، والباقيات الصالحات: أي الطاعات التي تبقى آثارها، مردّا: أي مرجعا وعاقبة. المعنى الجملي بعد أن أقام سبحانه الحجة على مشركى قريش المنكرين للبعث بعد الفناء، وللعودة إلى حياة أخرى- أتبعه بذكر شبهة أخرى قالوها وعارضوا بها حجة الله التي يشهد بصحتها كل منصف، ويعتقدها من له أدنى مسكة من عقل. تلك أنهم قالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم فى الدنيا أحسن وأطيب من حالنا، من قبل أن الحكيم لا يجدر به أن يوقع المخلصين من

الإيضاح

أوليائه فى الذل والمهانة، وأعداءه فى العز والراحة، لكنا نجد الأمر على العكس من هذا، فإنا نحن الذين يمتعون برفاهية العيش والرخاء والنعيم، وأنتم فى ضنك وفقر وخوف وذل، فهذا دليل على أنا على الحق وأنتم على الباطل. وقد رد الله عليهم مقالتهم بأن الكافرين قبلكم وكانوا أحسن منكم حالا، وأكثر مالا، قد أبادهم الله وأهلكهم بعذاب الاستئصال، فدل هذا على أن نعيم الدنيا لا يرشد إلى محبة الله لمن أوتوه، ولا إلى أنهم مصطفون له من بين خلقه. روى أن قائل هذه المقالة النضر بن الحرث ومن على شاكلته من قريش، للمؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا فى خشونة من العيش وفى رثاثة من الثياب، وهم كانوا يرجّلون شعورهم ويلبسون فاخر الثياب. ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية ببيان مآل الفريقين يوم القيامة، وأن ما كان للمشركين فى الدنيا من المال وسعة الرزق فإنما ذلك استدراج وإمهال من الله لهم، ثم يلقون النكال والوبال فى جهنم وبئس القرار. الإيضاح (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟) أي وإذا تتلى على المشركين آياتنا واضحات الدلالة قالوا مفتخرين على المؤمنين، ومحتجين على صحة ما هم عليه من الباطل، أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا، وأنعم بالا، وأفضل مسكنا، وأحسن مجلسا، وأجمع عددا؟ أنحن أم أنتم؟ فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك المستخفّون المستترون فى دار الأرقم ابن أبى الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟ ونحو الآية قوله تعالى «وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه» .

وقد رد الله عليهم شبهتهم بقوله: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) أي وكم من أمة من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم وقد كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأثاثا ومناظر ذات جمال وزخرف. وخلاصة هذا- إن كثيرا ممن كانوا أعظم منكم نعمة فى الدنيا كعاد وثمود وأضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله، فلو صدق ما تدّعون من أن النعمة فى الدنيا تدل على الكرامة عند الله، ما أهلك أحدا من المتنعمين بها. وفى هذا تهديد ووعيد لا يخفى، وكأنه قد قيل: فليرتقب هؤلاء، فسيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات. ثم أمر عز اسمه نبيه أن يجيب هؤلاء المفتخرين بقوله: (قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمن مدا. حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المدّعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: إن ما افتخرتم به من زخرف الدنيا وزينتها لا يدل على حسن الحال فى الآخرة، فقد جرت سنة الله بأن من كانوا منهمكين فى الضلالة، مرخين لأنفسهم الأعنّة، فى سلوك المعاصي والآثام، يبسط لهم نعيم الدنيا، ويطيب عيشهم فيها، ويمتعهم بأنواع اللذات، ولا يزال يمهلهم استدراجا لهم إلى أن يشاهدوا ما وعدوا به رأى العين، إما عذابا فى الدنيا كما حصل يوم بدر، وإما مجىء الساعة وهم بها مكذبون، وعن الاستعداد لها مفرّطون، وإذ ذاك يعلمون من هو شر من الفريقين مكانا، وأن الأمر على عكس ما كانوا يقدّرون، وسيرون أنهم شر مكانا وأضعف جندا وأقل ناصرا من المؤمنين، وهذا رد على قولهم (أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا) . وقصارى ذلك- إن من كان فى الضلالة فسنة الله أن يمدّ له ويستدرجه ليزداد

[سورة مريم (19) : الآيات 77 إلى 80]

إثما، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، إما بعذاب فى الدنيا يأتيه من حيث لا يحتسب، وإما بعذاب فى الآخرة لا قبل له بدفعه، وحينئذ يعلم أنه كان فى ضلال مبين، ويندم، ولات ساعة مندم. ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم ولا يجد عن النار محيصا ولا مهربا. (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) أي ويزيد الله الذين اهتدوا إلى الإيمان هدى بما ينزل عليهم من الآيات، عوضا مما منعوا من زينة الدنيا كرامة لهم من ربهم، كما بسط للضالين فيها لهوانهم عليه. ومجمل هذا- إن من كان فى الضلالة من الفريقين يمهله الله وينفّس له فى حياته ليزداد فى الإثم والغىّ ويجمع له عذاب الدارين، ومن كان فى الهداية منهما يزيد الله فى هدايته ويجمع له خيرى السعادتين. (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) أي والطاعات التي بها تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، وتصل إلى القرب من الله، ونيل رضوان- خير عند ربك منفعة وعاقبة مما منع به أولئك الكفرة من النعم الفانية التي يفخرون بها من مال وولد وجاه ومنافع تحصل منها، فإن عاقبة الأولين السعادة الأبدية، وعاقبة أولئك الحسرة الدائمة والعذاب المقيم. وخلاصة هذا- إن الطاعات التي يبقى ثوابها لأهلها خير عند ربهم جزاء وخير عاقبة من مقامات هؤلاء المشركين بالله وأنديتهم التي بها يفخرون على أهل الإيمان فى الدنيا. [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 80] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أطلع الغيب؟ من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه: أي أظهر له علم الغيب؟ عهدا: أي عملا صالحا، كلا: كلمة زجر وتنبيه إلى الخطأ، سنكتب ما يقول: أي سنظهر له أنا كتبنا، ونمد له من العذاب: أي سنطيل له العذاب الذي يستحقه ونرثه ما يقول: أي نسلب ذلك منه بموته ونأخذه أخذ الوارث ما يرثه، والمراد بما يقول مدلوله ومصداقه، وهو ما أوتيه فى الدنيا من المال والولد، فردا: أي لا يصحبه مال ولا ولد. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الدلائل على صحة البعث، ثم أورد شبه المنكرين له وأجاب عنها بما فيه مقنع لكل ذى لب- قفّى على ذلك بذكر مقالتهم التي قالوها استهزاء وطعنا فى القول بالحشر والبعث. أخرج البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وابن حبان عن خبّاب بن الأرت قال: «كنت رجلا قينا (حدادا) وكان لى على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت لا والله لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حتى تموت ثم تبعث، قال فإنى إذ متّ ثم بعثت جئتنى ولى ثمّ مال وولد فأعطيك، فأنزل الله تعالى: أفرأيت الآية» . الإيضاح (أفرأيت الذى كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) أي انظر إلى حال هذا الكافر، وأعجب من مقالته الشنيعة، وجرأته على الله، إذ قال لأعطينّ فى الآخرة مالا وولدا. ولما كان ما ادعاه لا يحصل له العلم له إلا بأحد أمرين- الاطلاع على الغيب أو اتخاذ العهد- ولم يحصل له واحد منهما، فتكون دعوى لا برهان عليها، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:

[سورة مريم (19) : الآيات 81 إلى 87]

(أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا؟) أي إن ما ادعى أنه سيكون، لا يعلم إلا بأحد الأمرين: إما علم الغيب، وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما هو قد وصل إليه؟. وقصارى ذلك- أو قد بلغ من عظم شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي انفرد به الواحد القهار، أم أعطاه الله عهدا موثقا وقال له: إن ذلك كائن لا محالة؟. ثم زاد فى تأكيد خطئه وهدده بقوله: (كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا) أي ليس الأمر كذلك، ما اطلع على الغيب، فعلم صدق ما يقول وحقيقة ما يذكر، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا موثّقا بذلك، بل كذب وكفر بربه، وسنظهر له أننا كتبنا قوله، ونزيده من العذاب فى جهنم بقيله الكذب والباطل فى الدنيا زيادة على كفره بالله وتكذيبه برسوله. (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) أي ونسلبه ما عنده من المال والولد ونأخذه منه أخذ الوارث ما يرث، ويأتينا إذ ذاك فردا لا يصحبه مال ولا ولد مما كان له فى الدنيا. [سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) تفسير المفردات العز: المنعة والقوة، سيكفرون: أي سيجحدون، ضدّا: أي أعداء وأعوانا

المعنى الجملي

عليهم والأزّ والهز والاستفزاز: شدة الإزعاج والمراد الإغراء على المعاصي والتهييج لها بالتسويلات، وتحبيب الشهوات، فلا تعجل عليهم: أي فلا تطلب الاستعجال بهلاكهم، الوفد والوفود والأوفاد: واحدهم وافد، وهم القوم يقدمون على الملوك يستنجزون الحوائج، والمراد يقدمون مكرمين مبجلين ركبانا إلى الرحمن: أي إلى دار كرامته وهى الجنة، وردا: أي مشاة مهانين باستخفاف واحتقار كأنهم نعم تساق إلى الماء، والمراد بالعهد شهادة أن لا إله إلا الله، والتبري من الحول والقوة، وعدم رجاء أحد إلا الله المعنى الجملي بعد أن ذكر إنكار المشركين للبعث مع قيام الدليل على إمكانه بما يشاهد من أمر الخلق فى النشأة الأولى- أردف ذلك الرد على عبّاد الأصنام الذين اتخذوا أصنامهم آلهة ليعتزوا بهم يوم القيامة عند ربهم، ويكونوا شفعاء لهم لديه، فبيّن أنهم سيكونون لهم أعداء، وأنه ما جرّأهم على تلك الغواية إلا وسوسة الشيطان لهم، ثم طلب إلى رسوله ألا يستعجل المشركين فإنما هى أنفاس معدودات ثم يهلكون، ثم ذكر ما يحوط المؤمنين من الكرامة حين وفودهم إلى ربهم. وما يحيق بالمشركين من الإهانة حين يردون عليه. الإيضاح (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) أي واتخذ المشركون من قومك أيها الرسول- آلهة يعبدونهم من دون الله، ليعتزوا بهم ويجعلوهم شفعاء عند ربهم يقربونهم إليه (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) أي ليس الأمر كما ظنوا وأمّلوا فى أنها تنقذهم من عذاب الله وتنجيهم منه، بل ستجحد الآلهة عبادتهم إياهم وينطق الله من لم يكن ناطقا منهم، فيقولون ما عبدتمونا كما قال سبحانه: «وإذا رأى

الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك، فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون» وقال: «إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا» وقال حاكيا عنهم: «ما كانوا إيانا يعبدون» ويكونون أعداء لهم وأعوانا عليهم إذ يلعنونهم ويتبرءون منهم. وبعد أن ذكر سبحانه ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم فى الآخرة، ذكر ما لهم مع الشياطين فى الدنيا، وأنهم يتولّونهم وينقادون لهم فقال: (الم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا) أي ألم تعلم أنا سلطنا الشياطين على الكافرين ومكناهم من إضلالهم، فهم يغرونهم بالمعاصي، ويهيجونهم على الوقوع فيها. وخلاصة ما سلف- تعجيب رسوله صلّى الله عليه وسلّم مما حكته الآيات السالفة عن هؤلاء الكفرة من تماديهم فى الغى، وانهما كهم فى الضلال، وتصميمهم على الكفر بدون رادع ولا زاجر، ومدافعتهم للحق مع وضوحه، وتنبيه له إلى أن ذلك إنما كان بإضلال الشياطين وإغوائهم، لا لقصور فى التبليغ. وفى هذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتهوين للأمر على نفسه. (فلا تعجل عليهم) بأن تطلب إهلاكهم وإبادتهم بعذاب الاستئصال حتى تطهر الأرض من خبائث أعمالهم. ثم علل هذا النهى بأن حين هلاكهم قريب فقال: (إنما نعد لهم عدا) أي إنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قليلة نعدّها عدا، وعن ابن عباس أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك. آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك- وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأ الآية ثم قال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفذ: إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بواب ولا حرس وكيف يفرح بالدنيا ولذتها ... فتى يعدّ عليه اللفظ والنفس

وقد أفصح عن هذا شاعر مصر أحمد بك شوقى فقال: دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثوانى ثم بين سبحانه ما سيظهر فى ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين فى كيفية الحشر فقال: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) أي واذكر أيها الرسول لقومك، يوم نحشر المتقين إلى دار الكرامة ركبانا، كما يفد الوافدون على أبواب الملوك، ينتظرون إكرامهم وإنعامهم. وقد أثر عن علىّ أنه قال: والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقا، ولكنهم يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها. وعليها رحال الذهب. وأزمّتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة- وهذا تمثيل لحالهم فى عزهم وعظمتهم وإكرام ربهم لهم. (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) أي ونسوق الكافرين بالله إلى جهنم مشاة قد تقطعت أعناقهم من العطش، فهم كالدواب التي ترد الماء. (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) أي لا يملك العباد الشفاعة إلا من اتخذ عهدا عند الله، بأن أعد لها عدّتها فكان فى الدنيا هاديا مصلحا، فيكون فى الآخرة شافعا مشفّعا، لا جرم أن ينالها فى الآخرة على مقدار هدايته فى الدنيا، فالشفاعة حينئذ لا تكون إلا للأنبياء والعلماء والشهداء على مقدار أتباعهم. روى أن ابن مسعود قرأ هذه الآية ثم قال: أتّخذ عند الله عهدا، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا يا أبا عبد الرحمن فعلّمنا، قال: قولوا «اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، إنى أعهد إليك فى هذه الحياة الدنيا ألا تكلنى إلى عمل يقربنى من الشر ويباعدنى من الخير، وإنى لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لى عندك عهدا تؤديه إلىّ يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد» .

[سورة مريم (19) : الآيات 88 إلى 95]

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرّنى، ومن سرنى فقد اتخذ عند الرحمن عهدا، فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد» ، وأخرج الطبراني فى الأوسط عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينتقص منها شيئا جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منها شيئا فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه» . [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) تفسير المفردات جئتم: أي فعلتم والإدّ: (بالكسر والفتح) المنكر العظيم، والإدة: الشدة يقال أدّنى الأمر وآدنى: أثقلنى وعظم علىّ، والتفطر: التشقق، وتخر: تسقط وتنهدم، دعوا: أي نسبوا وأثبتوا، قال شاعرهم: إنا بنى نهشل لا ندّعى لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا عبدا: أي منقادا خاضعا كما يفعل العبيد، أحصاهم: عدّهم وأحاط بهم، وعدهم عدّا: أي عد أشخاصهم، فردا: أي منفردا لا شىء معه من الأنصار والأتباع.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ردّ على عبدة الأوثان، وأثبت لهم بقاطع الأدلة أنهم فى ضلالهم يعمهون، وأنهم عن الحق معرضون- أردف ذلك الرد على من أثبت له الولد كاليهود الذين قالوا عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، والمشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. الإيضاح (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا إدا.) أي وقال الكافرون بالله: إن للرحمن ولدا، لقد جئتم أيها القائلون بمقالكم هذا شيئا منكرا عظيما يدل على الجرأة على الله وكمال القحة عليه سبحانه، وإنه ليغضبه أشد الغضب، ويسخطه أعظم السخط. (تكاد السماوات يتفطرن منه) أي إن السموات، تكاد تتشقق منه لشدة هوله، وعظم شأنه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك. نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين. (وتنشق الأرض) أي تخسف بهم. (وتخر الجبال هدا) أي تسقط وتنهد هدا، فتنطبق عليهم، روى عن ابن عباس أنه قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت تزول منه، لعظمة الله وكماله. وقصارى ذلك- إن هذه الكلمة الشنعاء لو صوّرت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام، وتفرقت أجزاؤها من شدتها. وفى ذلك تنبيه إلى غضب الله تعالى على قائل هذه الكلمة، وأنه لولا حلمه سبحانه لهلك.

[سورة مريم (19) : الآيات 96 إلى 98]

ثم بين علة ذلك فقال: (أن دعوا للرحمن ولدا) أي من أجل أنهم نسبوا إلى الله اتخاذ الولد. ثم نفى ذلك عن نفسه بقوله: (وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا) أي وما يليق به اتخاذ الولد، لأن ذلك يقتضى التجانس بينهما وأن يكون كل منهما حادثا، ولأن الولد إنما يكون للسرور به، والاستعانة به حين الحاجة، وللذكر الجميل، إلى نحو أولئك من المقاصد التي يتنزه عنها ربنا جل وعلا. ثم زاد الإنكار توكيدا فقال: (إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا) أي ما من أحد من الملائكة والإنس والجن إلا وهو مملوك له سبحانه، ينقاد لحكمه، ويلتجىء إليه حين الحاجة، ويخضع له خضوع العبد لسيده. (لقد أحصاهم) أي لقد حصرهم وأحاط بهم، فهم تحت أمره وتدبيره، يعلم ما خفى من أحوالهم وما ظهر، لا يفوته شىء منها. (وعدهم عدا) أي وعدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم وأقوالهم، فكل شىء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة. (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) أي وكل امرئ منهم يأتيه يوم القيامة وحيدا منفردا عن الأهل والأنصار، منقطعا إليه تعالى، محتاجا إلى معونته ورحمته. [سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الود: المودة والمحبة، بلسانك: أي بلغتك، واللّدّ: واحدهم ألد، وهو الشديد الخصومة، وركزا: أي صوتا خفيّا. المعنى الجملي بعد أن فصّل سبحانه أحوال الكافرين فى الدنيا والآخرة، وبالغ فى الرد عليهم- ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين، وبين أنه سبحانه سيغرس محبتهم فى قلوب عباده، وبعد أن استقصى فى السورة دلائل التوحيد والنبوة والحشر ورد فيها على فرق المبطلين بين أنه يسر ذلك بلسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليبشر به المتقين، وينذر به قوما من المشركين ذوى الجدل والمماراة. الإيضاح (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) أي إن الذين آمنوا بالله وصدّقوا برسله وبما جاءوهم به من عنده وعملوا به فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، سيجعل لهم الله محبة فى قلوب عباده المؤمنين. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي فى جمع كثير عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحب الله تعالى عبدا يقول لجبريل: إنى قد أحببت فلا نا فأحبه، فينادى فى السماء، ثم تنزل له المحبة فى الأرض، فذلك قول الله تعالى (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الآية» . وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه: «قل اللهم اجعل لى عندك عهدا، واجعل لى فى صدور المؤمنين ودا، فأنزل الله سبحانه الآية» .

وكان هرم بن حيّان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وخلاصة ذلك- سيجعل الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات مودة فى القلوب يزرعها لهم من غير تودد منهم، ولا تعرّض للأسباب التي يكتسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف. وقد خصهم الله بهذه الكرامة كما: قذف الرعب فى قلوب أعدائهم منهم إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم. ثم ذكر الحكمة فى إنزال القرآن بلغة العرب فقال: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) أي فإنما سهلنا نزول القرآن بلغتك العربية لتقرأه على الناس وتبشر به من اتقى عقاب الله، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه، بأن له الجنة، وتنذر به من عصاه من قريش، وهم أهل اللدد والجدل بالهوى ممن لا يقبل حقا، ولا يحيد عن باطل. وقصارى ذلك- بلّغ هذا المنزّل وبشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك العربي المبين، ليسهل على الناس فهمه ثم ختم السورة بتلك العظة البالغة فقال: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟) أي وقد أهلكنا كثيرا من الأمم قبل هولاء المعاندين، حين سلكوا فى خلافى مسلك هؤلاء، وركبوا معاصىّ، فهل تحس منهم أحدا فتراه وتعاينه أو تسمع له صوتا؟ لا- إنهم بادوا وخلت منهم الديار، وأقفرت المنازل، وصاروا إلى دار لا ينفع فيها إلا صالح العمل، وإن قومك لصائرون إلى مثل ما صاروا إليه، إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك.

خلاصة لما حوته السورة الكريمة من المقاصد

وفى هذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر والغلبة على هؤلاء المشركين، ووعيد لأولئك الكافرين الجاحدين، وحث له على التبشير والإنذار. وقصارى ذلك- إنا أهلكنا هم، فلم نبق منهم أحدا تراه، ولا تسمع له صوتا خفيا ولا ظاهرا. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد سيد المرسلين. خلاصة لما حوته السورة الكريمة من المقاصد (1) دعاء زكريا ربه أن يهب له ولدا سريا مع ذكر الأسباب التي دعته إلى ذلك (2) استجابة الله دعاءه وبشارته بولد يسمى يحيى لم يسمّ أحد من قبله بمثل اسمه. (3) تعجب زكريا من خلق ذلك الولد من أبوين: أمّ عاقر وأب شيخ هرم. (4) طلبه العلامة على أن امرأته حامل. (5) إيتاء يحيى النبوة والحكم صبيا. (6) ما حدث لمريم من اعتزالها لأهلها، وتمثل جبريل لها بشرا سويا، والتجائها إلى الله أن يدفع عنها شر هذا الرجل، وإخباره لها أنه ملك لا بشر. (7) حملها بعيسى عليه السلام وانتباذها مكانا قصيا حتى لا يراها الناس وهى على تلك الحال. (8) نداء عيسى لها حين الولادة، وأمرها بهزّ النخلة حتى تساقط عليها رطبا جنيا. (9) مجيئها بعيسى ومقابلتها لقومها وهى على تلك الحال وقد انهال عليها اللوم والتعنيف بأنها فعلت ما لم يسبقها إليه أحد من تلك الأسرة الشريفة التي اشتهرت بالصلاح والتقوى.

(10) كلام عيسى وهو فى المهد تبرئة لأمه ووصفه نفسه بصفات الكمال من النبوة والبركة والبر بوالديه وأنه لم يكن جبارا متكبرا على خالقه. (11) اختلاف النصارى فى شأنه. (12) قصص إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر ووصفه له بالجهل وعدم التأمل فى المعبودات التي يعبدها من دون الله ثم تحذيره إياه بسوء مغبة أعماله، وردّ أبيه عليه مهددا متوعدا (13) هبة الله له إسحاق ويعقوب، وإيتاؤهما الحكم والنبوة. (14) قصص موسى ومناجاته ربه فى الطور، والامتنان عليه بجعل أخيه هارون وزيرا ونبيا. (15) قصص إسماعيل ووصف الله له بصدق الوعد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. (16) قصص إدريس عليه السلام ووصف الله له بأنه صديق نبى رفيع القدر، عظيم المنزلة عند ربه. (17) مجىء خلف من بعد هؤلاء الأنبياء أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. (18) وعد الله لمن تاب وآمن وعمل صالحا بجنات لا لغو فيها ولا تأثيم. (19) إن جبريل لا ينزل إلى الأنبياء إلا بإذن ربه. (20) إنكار المشركين للبعث استبعادا له، ورد الله عليهم بأنه خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا. (21) الإخبار بأن الله يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين ثم يحضرهم حول جهنم جثيا، ثم بدئه بمن هو أشد جرما والله أعلم بهم. (22) الإخبار بأن جميع الخلق ترد على النار ثم ينجى الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا. (23) بيان أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن فخروا على المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا وأكرم منهم مكانا.

(24) تهديدهم بأنه أهلك كثيرا ممن كان مثلهم فى العتو والاستكبار، وأكثر أثاثا ورياشا. (25) بيان أن الله يمد للظالم ويمهله، ليجترح من السيئات ما شاء ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. (26) النعي على المشركين باتخاذ الشركاء، وأنهم يوم القيامة سيكونون لهم أعداء. (27) نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن طلب تعجيل هلاك المشركين، إذ أن حياتهم مهما طالت فهى محدودة معدودة. (28) التفرقة بين حشر المتقين إلى دار الكرامة، وسوق المجرمين إلى دار الخزي والهوان. (29) النعي الشديد على من ادعى أن لله ولدا. (30) بيان أن الله قد أنزل كتابه بلسان عربى مبين، ليبشر به المتقين، وينذر به الكافرين ذوى اللدد والخصومة

سورة طه

سورة طه هى مكية إلا آيتي 130، 131 فمدنيتان، وآيها خمس وثلاثون بعد المائة، نزلت بعد سورة مريم. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) إنه لما ذكر فى سورة مريم قصص عدد من الأنبياء والمرسلين، بعضها بطريق البسط والإطناب كقصص زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وبعضها بين البسط والإيجاز كقصص إبراهيم عليه السلام، وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السلام، ثم أشار إلى بقية النبيين بالإجمال- ذكر هنا قصة موسى التي أجملت فيما سلف، واستوعبها غاية الاستيعاب، ثم فصّل قصة آدم عليه السلام، ولم يذكر فى سورة مريم إلا اسمه فحسب. (2) إنه روى عن ابن عباس أن هذه السورة نزلت بعد سالفتها. (3) إن أول هذه السورة متصل بآخر السورة السابقة ومناسب له فى المعنى، إذ ذكر فى آخر تلك أنه إنما يسّر القرآن بلسانه العربي المبين، ليكون تبشيرا للمتقين وإنذارا للمعاندين، وفى أوائل هذه ما يؤكد هذا المعنى [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لتشقى: أي لتتعب وتنصب، تذكرة: أي تذكيرا وعظة، يخشى: أي يخاف الله، العلى: واحدها العليا مؤنثة الأعلى كالكبرى مؤنثة الأكبر، والعرش: فى اللغة سرير الملك، ويراد به فى لسان الشرع مركز تدبير العالم، واستوى: استولى عليه قال شاعرهم: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق والثرى: التراب الندىّ والمراد هنا مطلق التراب، وأخفى: أي من السر وهو ما أخطرته ببالك دون أن تتفوّه به بحال، والأسماء: أي الصفات كما جاء فى قوله: «وجعلوا لله شركاء قل سموهم» أي صفوهم، والحسنى: مؤنثة الأحسن. المعنى الجملي روى مقاتل أن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدىّ والنضر بن الحرث قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال عليه السلام: بل بعثت رحمة للعالمين، قالوا بل أنت تشقى، فأنزل الله الآية ردا عليهم، وتعريفا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، بأن دين الإسلام هو السبيل إلى نيل كل فوز، وسبب إدراك كل سعادة، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه. الإيضاح (طه) تقدم أن قلنا إن أصح الآراء فى الحروف المقطّعة التي فى أوائل السور أنها حروف تنبيه كألا ويا ونحوهما مما يذكر فى أوائل الجمل لقصد تنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها لأهميته وإرادة إصغائه إليه نحو ما جاء فى قوله تعالى. «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» وينطق بأسمائها حين القراءة فيقال (طا. ها)

(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب وتغلو فى مكابدة الشدائد حين تحاور أولئك القوم الطغاة، وتقاول أولئك العتاة، وتفرط فى الأسى على كفرهم، وتتحسر على عدم إيمانهم، بل أنزلناه عليك لتبلّغ وتذكّر وقد فعلت، فلا عليك إن لم يؤمنوا بعد هذا. ونحو الآية قوله: «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» . وقصارى ذلك- إنا أنزلناه عليك لتذكر به، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، إن عليك إلا البلاغ، ولست عليهم بمسيطر. وفى هذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم على ما كان يعتريه من التعب والنّصب حين كان يدعو أولئك القوم ذوى اللدد والخصومة، ولا عجب فالكلام صنعتهم، وبه يتفاخرون، وعليه يعتمدون، إذ يقرعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وهو لديهم أمضى من السّنان. (إلا تذكرة لمن يخشى) أي ما أنزلناه عليك لشقائك، ولكن أنزلناه تذكيرا لمن يخشى الله تعالى ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه، وحسن استعداده، وقد كان عليه السلام يعظهم به بتلاوته وتفسير ما جاء به من مقاصد وأغراض ومصالح لهم فى دنياهم وآخرتهم. وخص الخاشعين بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم، من قبل أن غيرهم كأنه لا وجود له لعدم انتفاعه به. وخلاصة ذلك- حسبك ما حمّلته من متاعب التبليغ والتبشير والإنذار، ولا تنهك بدنك بحملهم على قبول الدعوة والاستجابة لأمرك، فإن ذلك من شأننا لا من شأنك، وبيدنا لا بيدك. (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى) أي نزّل عليك تنزيلا من ربك الذي خلق الأرض والسموات العلى، والمراد بهما ما فى جهة السفل والعلو، ويستتبع ذلك كل ما يتعلق بهما.

[سورة طه (20) : الآيات 9 إلى 16]

(الرحمن على العرش استوى) أي هو الرحمن الذي على عرشه ارتفع وعلا، وقد تقدم إيضاح هذا فى سورة الأعراف ببسط وإطناب. (له ما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) أي له ما فى السموات والأرض وما بينهما ملكا وتدبيرا وتصرفا، وله ما واراه التراب وأخفاه من المعادن والفلزّات وغيرها. (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) أي وإن تجهر بدعاء الله وذكره، فاعلم أنه تعالى غنىّ عن جهرك، لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك ولم ترفع به صوتك، وأخفى منه مما تخطره ببالك دون أن تنفوّه به. والدعاء والذكر باللسان إنما شرعا ليتصور الداعي والذاكر المعنى فى نفسه، لا ليسمع صوته، ولا فضل للنطق والجهر به إلا فى منع الشواغل الشاغلة عن حضور المعاني فى القلوب كما قال تعالى: «وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور» ونحو الآية قوله: «واذكر ربك فى نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول» . (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) أي إن ما ذكر من صفات الكمال التي تقدمت ليس بأهل لها إلا ذلك المعبود الحق الذي لا رب غيره ولا إله سواه، وله الصفات الحسنى الدالة على التقديس والتمجيد، والأفعال التي هى غاية فى الحكمة والسداد. قصص موسى عليه السلام [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الحديث: كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحى فى يقظته أو فى منامه، والمكث: الإقامة، آنست: أي أبصرت، آتيكم: أجيئكم، بقبس: أي بشعلة مقتبسة على رأس عود ونحوه، هدى: أي هاديا يدلنى على الطريق، طوى: (بالضم) منونا: اسم لذلك الوادي، اخترتك: أي اصطفيتك، لذكرى: أي لتكون ذاكرا لى، أكاد أخفيها: أي أبالغ فى إخفائها ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية، هواه: أي ما تهواه نفسه، فتردى: أي فتهلك. المعنى الجملي بعد أن عظم سبحانه كتابه والرسول الذي أنزل عليه بما كلفه به من التبليغ بالإنذار والتبشير- أتبع ذلك بما يقوى قلبه من قصص الأنبياء وما فعلته أممهم معهم وكيف كانت العاقبة لهم والنصر حليفهم، ففى هذا سلوى له وتأسّ بهم فيما قاموا به من الذّود عن الحق مهما أصابهم من العنت والأذى من جراء الدعوة إليه، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: «وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك» . وبدأ بقصص موسى، لأن محنته كانت أشد، فقد تحمل من المكاره ما تنوء به راسيات الجبال، وقابل ذلك بعزم لا يفتر، وبقوة تفلّ الحديد.

الإيضاح

الإيضاح (وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا) أي وهل بلغك كيف كان ابتداء الوحى إلى موسى وتكليم الله إياه. ومن سنن العربية أنه إذا أريد تثبيت الخبر، وتقرير الجواب فى نفس المخاطب، أن يلقى إليه بطريق الاستفهام، فيقول المرء لصاحبه: هل بلغك كذا وكذا، فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر، ويصغى إليه أتم الإصغاء. روى أن موسى عليه السلام استأذن شعيبا فى الرجوع إلى والدته، فإذن له بعد أن قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره فى رعاية الغنم، فخرج وسار قاصدا مصر بعد أن طالت غيبته عنها، فقد زادت على عشر سنين ومعه زوجه، فولد له ابن فى الطريق فى ليلة شاتية ذات ثلج وبرد وسحاب وضباب وظلام، ونزل منزلا بين شعاب وجبال، وجعل يقدح بزند كان معه ليورى نارا، فلم تور المقدحة شيئا، وبينا هو يزال ذلك ويعالجه، إذ رأى نارا من بعد عن يسار الطريق. (فقال لأهله امكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) أي فقال لامرأته وولدها وخادمها مبشرا لهم: أقيموا مكانكم إنى أبصرت نارا وسأذهب إليها لعلنى أجيئكم منها بشعلة مقتبسة على رأس عود أو نحوه، أو أجد هاديا يدلنى على الطريق، وجاء فى سورة القصص: «لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون» . وقصارى ذلك- إنه قال لأهله أقيموا مكانكم- وإنى قد رأيت نارا فإما أن آتيكم منها بقبس تشعلون منه نارا تصطلون بها، وإما أن أجد دليلا يرشدنى إلى الطريق المسلوك وكان قد ضل عنه.

(فلما أتاها نودى يا موسى إنى أنا ربك) أي فلما خرج موسى نحوها وجد نارا بيضاء تتقد كأضو إما يكون فى شجرة خضراء، فلا ضوء النار يغير خضرتها، ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار- وهناك نودى يا موسى، قال من المتكلم؟ قال إنى أنا ربك. ثم أمره أن يخلع نعليه احتراما للبقعة المقدسة فقال: (فاخلع نعليك) إذ أن الحفوة أقرب إلى التواضع وحسن الأدب، ومن ثم طاف السلف الصالح بالكعبة حافين. ثم بين سبب الأمر بذلك بقوله: (إنك بالواد المقدس طوى) أي لأنك بالوادي المطهّر المسمى بطوى، فاخلعها ليحصل للقدمين بركته. (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) أي وأنا اصطفيتك من قومك بالنبوة والرسالة، فعليك أن تسمع لما أوحيه إليك. ونحو الآية قوله: «إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى» . وقصارى ذلك- لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له، واجعل كل خاطرك مصروفا إليه، وقد قالوا: إن من أدب الاستماع سكون الجوارح والأعضاء، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور القلب، والعزم على العمل. وقد بين سبحانه أهم ما يوحى إليه بقوله: (إننى أنا الله لا إله إلا أنا) أي إن أول الواجب على المكلف أن يعلم أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. (فاعبدنى) أي وإذ كنت أنا الإله حقا ولا معبود سواى، فخصنى بالعبادة والتذلل والانقياد فى جميع ما كلفتك به. (وأقم الصلاة لذكرى) أي وأدّ الصلاة على الوجه الذي أمرتك به مقوّمة الأركان مستوفاة الشرائط، لتذكرنى فيها وتدعونى دعاء خالصا لا يشو به إشراك ولا توجه إلى سواى.

وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات، لما لها من الفضل على سواها، إذ فيها ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذلك، ومن ثم تنهى عن الفحشاء والمنكر أخرج الترمذي وابن ماجه فى جماعة آخرين من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: أقم الصلاة لذكرى» ثم بين السبب فى وجوب العبادة وإقامة الصلاة فقال: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) أي إن الساعة آتية لا محالة، وإنى أكاد أخفيها من نفسى، فكيف يعلمها غيرى من الخلق، وقد جاء هذا على سنن العرب فى تخاطبهم يقول أحدهم إذا بالغ فى كتمان السر: كتمت سرى من نفسى، يريد أنه أخفاه غاية الإخفاء. وفائدة إخفائها التهويل والتخويف، فإنهم إن لم يعلموا متى تقوم الساعة يكونوا منها على حذر، ولمثل تلك الفائدة أخفى الله وقت الموت، لأن المرء إذا علم وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الحين فيتوب ويصلح عمله، وقد وعد الله بقبول توبته، وهذا يكون كالإغراء على المعصية، لكنه إن لم يعلم حين منيّته كان منها على حذر، ولا يزال على قدم الخوف والوجل، فيترك المعاصي ويتوب منها فى كل حين خوف معاجلة الموت. (لتجزى كل نفس بما تسعى) أي إن الساعة آتية لا محالة، ليجزى كل عامل بعمله كما قال: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» وقال: «إنما تجزون ما كنتم تعملون» . ثم خاطب سبحانه موسى محذّرا له فقال: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) أي فلا يردنّك يا موسى عن التأهب للساعة من لا يقرّ بقيامها ولا يصدّق بالبعث، ولا يرجو ثوابا، ولا يخاف عقابا، بل يركب رأسه ويخالف أمر ربه ونهيه، فإنك إن فعلت ذلك وقعت

[سورة طه (20) : الآيات 17 إلى 21]

فى هاوية الخذلان والعصيان، وهذا الخطاب من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد بمثل هذا الخطاب جميع المكلفين كما تقدم غير مرة. وخلاصة ذلك- لا تتّبعوا سبل من كذّب بالساعة، وأقبل على لذاته فى دنياه، وعصى أمر ربه واتبع هواه، فإن من سلك سبيلهم خاب وخسر كما قال: «وما يغنى عنه ماله إذا تردى» . [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 21] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) تفسير المفردات أتوكأ عليها: أعتمد عليها فى المشي والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك، وأهش بها: أي أخبط بها ورق الشجر، مآرب: أي منافع واحدها مأربة (مثلثة الراء) والحية: تطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى من هذا النوع، والثعبان: العظيم من الحيات، والجانّ: الصغير منها، سيرتها الأولى: أي حالها الأولى وهى كونها عصا، يقال لكل من كان على أمر فتركه وتحول عنه ثم راجعه: عاد فلان سيرته الأولى. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه مناجاته لموسى حين رأى النار التي فى الشجرة واختياره نبيا وإيحاءه إليه أن لا إله إلا هو، وأمره بإقامة الصلاة لما فيها من ذكره، وتخصيصه

الإيضاح

بالعبادة دون سواه، ثم إخباره بأن الساعة آتية لا محالة ليجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بما دسّى به نفسه جزاء وفاقا. قفّى على ذلك بذكر البرهانات التي آتاها موسى، دلالة على نبوته، وتصديقا له على رسالته، فبدأ بذكر العصا التي انقلبت حية تسعى حين ألقاها من يده، وكان قد سأله عنها استجماعا لقلبه، وتهدئة لروعه فى هذا المقام الرهيب، وإعلاما بما سيكون لها بعد من عظيم الشأن وجليل المنافع والمزايا التي لم تكن تدور بخلده عليه السلام. الإيضاح (وما تلك بيمينك يا موسى) سأله سبحانه عما فى يده وهو العليم به، ليبين له أنه سيجعل لتلك الخشبة التي ليس لها خطر كبير، ولا منفعة عظيمة- جليل المزايا والفوائد التي لم تكن تخطر له على بال، كانقلابها حية تسعى، وضرب البحر بها حتى ينفلق، وضرب الحجر حتى يتفجر منه الماء، ولينبهه بهذا الطريق إلى كمال قدرته، وبالغ عظمته، إذ أظهر لأحقر الأشياء هذه المنافع العظيمة- على سنن الناس فى تخاطبهم، إذا أراد أحدهم أن يظهر من الشيء الحقير شيئا شريفا، أن يأخذه ويعرضه على النظّارة ويقول لهم: ما هذا؟ فيقولون هو كذا، فيفيض فى شرح ما له من فائق المزايا، وجليل المنافع، التي لم تكن تدور بخلدهم، ولم تخطر ببالهم. فأجابه موسى معدّدا ما لها من فوائد ومزايا بحسب ما وصلت إليه معرفة البشر. (قال هى عصاى) وبهذا تم الجواب، ولكن موسى ذكر ما لها من فوائد، إذ أحب مكالمة ربه، فجعل ذلك كالوسيلة لهذا الغرض، فبين لها فائدتين على سبيل التفصيل، وواحدة على سبيل الإجمال فقال: (1) (أتوكؤا عليها) أي أعتمد عليها إذا مشيت أو تعبت أو وقفت على رأس القطيع من الغنم. (2) (وأهش بها على غنمى) أي أخبط ورق الشجر بها، ليسقط على غنمى فتأكله.

[سورة طه (20) : الآيات 22 إلى 35]

(3) (ولى فيها مآرب أخرى) أي ولى فيها مصالح ومنافع أخرى غير ذلك كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم، وإذا شئت ألقيتها على عاتقى، فعلّقت بها قوسى وكنانتى ومخلاتى وثوبى، وإذا وردت ماء قصر عنه رشائى وصلته بها. وقد أجمل عليه السلام فى المآرب رجاء أن يسأله ربه عنها، فيسمع كلامه مرة أخرى ويطول الحديث بهذا. وبعد أن ذكر هذه الجوابات أمره بإلقائها، لتتبين لها فوائد لم يعرفها من قبل. (قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هى حيه تسعى) أي قال له ربه: ألقها يا موسى لترى من شأنها ما ترى، فألقاها فإذا هى ثعبان عظيم ينتقل من مكان إلى آخر مسرعا، وجاء تشبيهها بالجان وهو الصغير من الحيات فى قوله (فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة، لا لصغرها. ثم أمره بأخذها وهى على تلك الحال دون خوف ولا ذعر. (قال خذها ولا تخف) أي قال له ربه: خذها بيمينك ولا تخف منها. وهذا الخوف مما تقتضيه الطبيعة البشرية حين مشاهدة الأمر الجلل الذي لا يعرف له نظير، ولا يدرك له سبب، ولا ينقص ذلك من جلالة قدره عليه السلام. ثم علل النهى عن الخوف بقوله: (سنعيدها سيرتها الأولى) أي سنرجعها إلى الحال التي كانت عليها من قبل وهى العصوية فأقدم على ذلك برباطة جأش دون تردد ولا ذعر. [سورة طه (20) : الآيات 22 الى 35] وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الضم: الجمع، وأصل الجناح للطائر ثم أطلق على اليد والعضد والجنب وهو المراد هنا، والسوء: القبح فى كل شىء، ويراد به هنا البرص والطباع تنفر منه، وآية أخرى: أي معجزة ثانية غير العصا، طغى: أي تجاوز الحد فى عتوّه وتجبره، اشرح لى صدرى: أي وسّعه لتحمّل أعباء الرسالة، ويسر لى أمرى: أي سهّل لى ما أمرتنى به من تبليغ الرسالة. واحلل عقدة من لسانى: أي أزل ذلك التعقد والحبسة التي فى لسانى، لئلا يستخف بي الناس وينفروا منى ولا يستمعوا لكلامى، يفقهوا قولى: أي يفهموه، وزيرا: أي معينا، والأزر: القوة، يقال آزره أي قوّاه وأعانه، وأشركه فى أمرى: أي اجعله شريكا لى فى النبوة والرسالة، إنك كنت بنا بصيرا: أي عالما بأحوالنا، لا نريد بالطاعة إلا رضاك. المعنى الجملي بعد أن ذكر المعجزة الأولى الدالة على نبوة موسى عليه السلام، وعلى صدق رسالته وهى العصا وما صدر منها من الأفاعيل حين ألقاها من يده، ثم عودتها سيرتها الأولى حين أخذها من الأرض- قفى على ذلك بذكر المعجزة الثانية التي آتاها إياه وهى معجزة اليد، فإنه كان إذا وضع يده اليمينى إلى جنبه الأيسر تحت العضد ثم أخرجها أضاءت كشعاع الشمس تعشى البصر، ثم بذكر أمره له بالذهاب إلى فرعون لتبليغ رسالة ربه، ثم دعائه ربه أن يشرح له صدره ويسهل له أمره، وأن يجعل له أخاه هارون نبيا كى يشد أزره ويقوى على تبليغ الرسالة، ويتعاونا على ذكر الله وعبادته

الإيضاح

الإيضاح (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء) أي أدخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك (قميصك) واجعلها تحت الإبط اليسرى تخرج بيضاء لامعة من غير برص ولا عيب. روى أن موسى كان إذا أدخل يده فى جيبه ثم أخرجها- تتلالأ كأنها فلقة قمر، قال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح فعلم أنه قد لقى ربه. (آية أخرى) أي وهذه علامة أخرى غير الآية التي أرينا كها من قبل من تحويل العصا حية تسعى- تدل على صدقك فيما بعثناك به من الرسالة لمن بعثناك إليهم. (لنريك من آياتنا الكبرى) أي افعل ذلك، كى نريك بعض أدلتنا، على عظيم سلطاننا، وكامل قدرتنا، وبديع تصرفنا، فى ملكوت السموات والأرض. وبعد أن أظهر له هذه الآيات أمره بالذهاب إلى فرعون المتكبر الجبار فقال: (اذهب إلى فرعون إنه طغى) أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى، وادعه إلى عبادتى، وحذّره نقمتى، فإنه قد تجاوز قدره، وتمرد على ربه، حتى تجاسر على دعوى الربوبية، وقال: أنا ربكم الأعلى. قال وهب بن منبّه: قال الله لموسى: اسمع كلامى، واحفظ وصيتي، وانطلق برسالتى، فإنك بعيني وسمعى، وإن معك يدى ونصرى، وإنى ألبستك جبّة من سلطانى تستكمل بها القوة فى أمرك، أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقى، بطر نعمتى، وأمن مكرى، وغرّته الدنيا حتى جحد حقى، وأنكر ربوبيتى أقسم بعزّتى، لولا الحجة التي وضعت بينى وبين خلقى لبطشت به بطشة جبار، ولكن هان علىّ، وسقط من عينى، فبلّغه رسالتى، وادعه إلى عبادتى، وحذّره نقمتى، وقل له قولا لينا، لا يغتر

بلباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي، قال: فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم حتى جاءه ملك فقال: أجب ربك فيما أمرك، فحينئذ. (قال رب أشرح لى صدرى) أي رب وسّع لى صدرى، لأعى عنك ما تودعه فيه من وحيك، وأجترى به على خطاب فرعون، فإنك قد كلفتنى أمرا عظيما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فقد بعثتني إلى أعظم ملك على وجه الأرض، وأجبرهم وأشدهم كفرا، وأكثر هم جندا، وأعمر هم ملكا، وأطغاهم وأبلغهم تمردا، وقد بلغ من تمرده أنه لا يعلم إلها غيره. وخلاصة ذلك- اجعلنى رابط الجأش حتى لا أخاف سواك، ولا أرهب غيرك، حين تبليغ رسالتك، وكن عونى ونصيرى، وإلا فلا طاقة لى بذلك. (ويسر لى أمرى) أي سهّل علىّ القيام بما تكلفنى به من تبليغ الرسالة، وتحمّلنى من الطاعة، وأفض علىّ من القوة ما يفى بالعمل على نشر الدين، وإصلاح حال الخلق. (واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى) أي وأطلق لسانى بالنطق ليفهموا قولى حين تبليغ الرسالة، وكان فى لسانه حبسة تمنعه من كثير من الكلام. وقد روى أن الحسين رضى الله عنه كان فى لسانه رتّة (حبسة) فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن هذه ورثها من عمه موسى. ولما كان التعاون على نشر الدين مع خلوص الود قربة عظيمة لله- طلب موسى المعاونة على ذلك فقال: (واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى) أي واجعل لى عونا من أهل بيتي هرون أخى، ليحمل معى أعباء الرسالة، ويكون ظهيرا لى عند الشدائد، وحلول المكاره، ولمثل هذا قال عيسى عليه السلام «من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن لى فى السماء وزيرين وفى الأرض وزيرين، فاللذان فى السماء جبريل وميكائيل، واللذان فى الأرض أبو بكر وعمر» .

وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أراد الله بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا، إن نسى ذكّره، وإن نوى خيرا أعانه، وإن أراد شرا كفّه» . وقال أنو شروان: لا يستثنى أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير. وقد اختصّ هرون بأمور منها: (1) الفصاحة لقول موسى هو أفصح منى لسانا. (2) الرفق لقول هرون: يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسى. (3) الوسامة والجمال وبياض اللون، وكان موسى آدم اللون أقنى جعدا. روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها خرجت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلا يقول: أىّ أخ كان فى الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا لا ندرى. قال: أنا والله أدرى، قالت فقلت فى نفسى، فى حلفه لا يستثنى إنه ليعلم أىّ أخ كان فى الدنيا أنفع لأخيه؟ قال موسى حين سأل لأخيه النبوة، فقلت صدق والله. ثم طلب موسى من ربه أن يشدّ به أزره فقال: (اشدد به أزرى وأشركه فى أمرى) أي أحكم به قوتى، واجعله شريكى فى أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها على الوجه الذي يؤدى إلى أحسن الغايات، ويوصل إلى الغرض على أجمل السبل. ثم حكى عنه سبحانه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال: (كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) أي لكى ننزّهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من بينها ما يدّعيه فرعون الطاغية، وفئته الباغية من الألوهية له، ونذكرك وحدك ابتغاء مرضاتك، دون أن نشرك معك غيرك أثناء أداء الرسالة، ودعوة المردة الطّغاة إلى الحق. ولا شك أن التعاون فى الدعوة أنجع فى الوصول إلى المقصد من الانفراد، فكل

[سورة طه (20) : الآيات 36 إلى 41]

من النبيّين يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يصدر عنه مثله فى حال الانفراد. (إنك كنت بنا بصيرا) أي عليما بأحوالنا، وأن ما طلبناه مما يفيدنا فى تحقيق ما كلفتنا به من إقامة مراسم الرسالة على أتم الوجوه وأكلها، فإن هرون نعم العون على أداء ما أمرت به من نشر معالم الدين، وكبح جماح المضلين، وإرشادهم إلى حق اليقين. [سورة طه (20) : الآيات 36 الى 41] قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) تفسير المفردات السؤل: بمعنى المسئول: أي المطلوب كالخبز بمعنى المخبوز، منّنا: أي أنعمنا، مرة أخرى: أي فى وقت آخر غير هذا الوقت، أوحينا: أي ألهمنا كما جاء فى قوله «وأوحى ربك إلى النحل» وقوله: «وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى» اقذفيه: أي ألقيه واطرحيه، واليمّ: البحر. والمراد به هنا نهر النيل، والساحل: الشاطئ، ولتصنع على عينى: أي ولتربّى وتغذّى بمرأى منى وأنا مراعيك ومراقبك كما يرعى الرجل الشيء بعينيه دلالة على عنايته به، يكفله: أي يضمه إلى نفسه، تقر عينها: أي تسر، والغم: الكدر الناشئ من خوف شىء أو فوات مقصود، والفتون: الابتلاء والاختبار بالوقوع فى المحن ثم تخليصه منها، لبثت: أي أقمت، مدين: بلد بالشام.

المعنى الجملي

المعنى الجملي اعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه أمورا ثمانية وكان قيامه بما كلّف به لا يتم على الطريق المرضىّ إلا إذا أجابه إليها- لا جرم أجابه الله تعالى إلى ما طلب، ليكون أقدر على الإبلاغ على الوجه الذي كلّف به، ثم ذكّره بنعمه السالفة حين كانت أمه ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه، فألهمها أن تصنع تابوتا وتضعه فيه وتلقيه فى النيل ففعلت، فألقاه النيل فى الساحل، فالتقطه آل فرعون وربّوه فى منزلهم، وألقى الله محبة فى قلوبهم له وصار كأنه ابنهم، ثم ذكّره بنجاته من القصاص حين قتل المصري وهرب إلى مدين. الإيضاح (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي قال الله تعالى لموسى: قد أعطيتك جميع ما سألتنى عنه من شرح صدرك، وتيسير أمرك، وحل عقدة لسانك، وجعل أخيك هارون وزيرا لك، وشد أزرك به، وإشراكه فى الرسالة معك. (ولقد مننا عليك مرة أخرى) أي ولقد تفضلنا عليك من قبل بنعم كثيرة، ومن راعى مصلحتك قبل سؤلك، وأعطاك ما ترجو، أفيمنع عنك ما تريد بعد سؤالك؟ ومن رقى بك إلى مراتب الكمال، وصعد بك فى أوج المعالي، وسما بك إلى درجات الرفعة. ووكل إليك ذلك المنصب الخطير، أفيليق به وهو الجواد الكريم أن يحجز عنك ما تؤمّل مما أنت فى شديد الحاجة إليه لتبليغ رسالته؟. وفى التعبير عن تلك النعم بالمنن إيماء إلى أنها إنما وصلت إليه بمحض التفضل والإحسان. وقد عد سبحانه من تلك النعم ثمانيا فقال: (1) (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه

اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له) أي واذكر حين ألهمنا أمك وأوقعنا فى قلبها عزيمة صادقة، أنّ أمثل الطرق لخلاصك من فرعون وجبروته، أن تضعك فى تابوت- صندوق- ثم تطرح هذا التابوت فى نهر النيل، ففعلت فألقاك النهر فى الساحل، فأخذك فرعون عدو الله ورباك فى بيته، وسيصير عدوا لك بعد ذلك كما هو عدو لى. روى أنها جعلت فى التابوت قطنا محلوجا ووضعته فيه، وطلت ظاهره بالجص والقار ثم ألقته فى اليم، وكان يشرع منه (يتفرع) نهر كبير إلى بستان فرعون، فبينا هو جالس إلى رأس بركة مع زوجه إذا بتابوت يجرى به الماء، فأمر فرعون غلمانه وجواريه بإخراجه ففعلوا، وفتحوا رأسه فإذا صبى من أصبح الناس وجها فأحبه فرعون حبا شديدا لم يتمالك أن يصبر عنه. (2) (وألقيت عليك محبة منى) أي وألقيت عليك محبة خالصة منى قد ركزتها فى القلوب وزرعتها فيها، ومن ثم أحبك فرعون وزوجه حتى قالت «قرت عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا» . (3) (ولتصنع على عينى) أي ولتربّى برعايتى، فأنا مراقبك وحافظك، كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا أراد شدة العناية به، يقول الرجل للصانع: اصنع هذا على عيني، أنظر إليه حتى يأتى وفق ما أحبّ وأبغى. (4) (إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله؟ فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن) أي وألقيت عليك محبة منى حين تمشى أختك تتبعك متعرّفة حتى وجدتك وصادفتهم يطلبون لك مرضعا تقبل ثديها، حتى اضطروا إلى تتبع النساء، فلما رأت ذلك منهم جاءت إليهم متنكرة وقالت: هل أدلّكم على من يضمّه إليه ويحفظه ويربيه؟ فجاءت بالأم فقبل ثديها ورجع إليها بما لطف الله له من التدبير، وقرت عينها بسلامته، وزال عنها الحزن والغم الذي كان قد ألمّ بها.

(5) (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم) أي وقتلت بعد كبرك القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلى فنجّيناك من الغم الذي نزل بك من وجهين: (ا) عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون كما جاء فى الآية «فأصبح فى المدينة خائفا يترقب» . (ب) عقابنا إذ قتلته بغير أمر منا، فغفرنا لك ذنبك حين قلت: «رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى» ووفقناك للهجرة إلى مدين. (6) (وفتناك فتونا) أي وأوقعناك فى محنة بعد محنة وتفضلنا عليك بالخلاص منها، فمن ذلك: (ا) إن أمك حملت بك فى السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأبناء، فنجاك الله من الذبح. (ب) إن أمك ألقتك فى البحر بعد وضعك فى التابوت فالتقطك آل فرعون وعنوا بتربيتك ورعايتك. (ح) إنك امتنعت عن الرضاع إلا من ثدى أمك وكان ذلك وسيلة إلى إرجاعك إليها. (د) إنك أخذت بلحية فرعون فغضب من ذلك وأراد قتلك لولا أن قالت له زوجه: إنه صغير لا يفرق بين الجمرة والتمرة وأتى لك بهما فأخذت الجمرة. (هـ) قتلك القبطي وخروجك إلى مدين هاربا. (7) (فلبثت سنين فى أهل مدين) قاسيت أثناءها من المحن ما قاسيت، وتحمّلت بسبب الفقر والغربة آلاما كثيرة حتى احتجت إلى أن تؤاجر نفسك لشعيب وترعى غنمه. (ثم جئت على قدر يا موسى) أي ثم جئت وفق الوقت الذي سبق فى قضائى وقدرى أن أكملك فيه، وأن أجعلك رسولا دون تقدم ولا تأخر عنه، ولولا توفيق الله لما تهيأ لك شىء من ذلك.

[سورة طه (20) : الآيات 42 إلى 48]

(8) (واصطنعتك لنفسى) أي اخترتك لإقامة حجتى، وجعلتك واسطة بينى وبين خلقى فى تبليغ الدين وهدايتهم إلى التوحيد والشرع القويم الذي به صلاح البشر فى دينهم ودنياهم. وخلاصة ذلك- إنى جعلتك من خواصى، واصطفيتك برسالاتى وبكلامي، فصرت بما آتيتك من كرامة النبوة وجليل النعمة بالمكالمة، أشبه بمن يراه الملك أهلا لكرامته، فيقر به إليه ويجعله من خواصه وندمائه، ويصطنعه بالإحسان إليه فى الحين بعد الحين والفينة بعد الفينة. [سورة طه (20) : الآيات 42 الى 48] اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) تفسير المفردات الآيات: هى المعجزات، والمراد بها العصا واليد البيضاء، فإن فرعون حين قال له: فأت بآية، ألقى العصا ونزع اليد وقال فذانك برهانان من ربك، ولا تنيا: أي لا تفترا ولا تقصّرا، فى ذكرى: أي فى تبليغ رسالتى، فالذكر يطلق على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، طغى: أي تجاوز الحد، قولا لينا: أي لا عنف فيه ولا غلظة: يتذكر: أي يتأمل فيذعن للحق ويؤمن، يخشى: أي يخاف من بطش الله وعذابه، يفرط: أي يعجّل بالعقوبة، من قولهم فرس فارط إذا كان سباقا للخيل،

المعنى الجملي

يطغى: أي يزداد طغيانا، أسمع وأرى: أي أسمع وأرى ما يجرى بينكما من قول أو فعل، فأتياه: أي فقابلاه وجها لوجه، فأرسل معنا بنى إسرائيل: أي فأطلقهم من الأسر، ولا تعذبهم: أي ولا تبقهم على ما هم عليه من العذاب والتسخير فى شاقّ الأعمال، والسلام على من اتبع الهدى: أي والسلامة من العذاب فى الدارين لمن صدّق بآيات الله الهادية إلى الحق، تولى: أي أعرض. المعنى الجملي بعد أن عدد سبحانه المنن الثمانية بإزاء ما طلبه موسى من المطالب الثمان- شرع يذكر الأوامر والنواهي التي طلب إليه أن يقوم بتنفيذها ويؤدى الرسالة على النهج الذي أمره به. الإيضاح (اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا فى ذكرى) أي اذهب أنت وأخوك إلى فرعون وقومه، وإنى ممدّ كما بحججي وبرهاناتى الدالة على صدق نبوتكما، ومظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل والمعاذير، ولا تفترا فى دعوتهم وتبليغ الرسالة إليهم، فبيّنا لهم أن الله أرسلكما إليهم مبشرين بثوابه ومنذرين بعقابه. (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) أي اذهبا معا إلى فرعون، وناضلاه الحجة بالحجة، وقارعاه البرهان بالبرهان، لأنه طغى وتجبر وتمرّد حتى ادعى الربوبية فقال «أنا ربكم الأعلى» . وتخصيص فرعون بالدعوة آخرا بعد أن كانت الدعوة عامة أوّلا، من قبل أنه إذا صادفت الدعوة من فرعون أذنا صاغية، واستجاب لدعوتهما وآمن بهما تبعه المصريون قاطبة كما قيل: الناس على دين ملوكهم. ثم بين لهما سبيل الدعوة فقال:

(فقولا له قولا لينا) أي فكلماه بكلام رقيق لين، ليكون أوقع فى نفسه، وأنجع فى استجابته للدعوة، فبرقيق القول تلين قلوب العصاة، وتنكسر سورة الطغاة، ومن ثم جاء الأمر به لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فى قوله: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتى هى أحسن» . ومن هذا ما حكى الله بعضه عن موسى فى قوله لفرعون: «هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى» وقوله تعالى له: «والسلام على من اتبع الهدى» . ثم علل الأمر بإلانة القول بقوله: (لعله يتذكر أو يخشى) تقدم أن قلنا إن (لعل) فى مثل هذا لتوقع حصول ما بعدها: أي أدّيا الرسالة، وقوما بتنفيذ ما دعوتكما إليه، واسعيا إلى إنجازه سعى من يرجو ويطمع أن يثمر عمله، ولا يخيب سعيه، فهو يجتهد قدر استطاعته، ويحتشد بأقصى وسعه آملا أن تكلل أعماله بالنجاح والفوز والفلاح. وقصارى ذلك- اصدعا بالأمر وأنتما طامعان أن أعمالكما ستثمر، وأنكما ستهديانه إلى سواء السبيل وقد جرت العادة أن من رجا شيئا طلبه، ومن يئس انقطع عمله، والمقصد من ذلك إلزامه الحجة، وقطع المعذرة، وإن لم يفد هدايته. (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) أي قال موسى وهارون: ربنا إننا نخاف فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا أن ندعوه إليه، أن يعجّل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة، وإظهار المعجزة، أو يزداد طغيانا فيقول فى شأنك ما لا ينبغى، لعظيم جرأته، وقساوة قلبه، وفجوره وشديد عصيانه. (قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى) أي قال الله لهما: لا تخافا فرعون إننى معكما بالنصرة والتأييد، والحفظ من غوائله، وإننى أسمع وأرى ما يجرى بينكما وبينه من قول وفعل، وأحدث فى كل حال ما يصرف شره عنكما. والخلاصة- لست بغافل عنكما، وإنى سأفعل ما يؤدى إلى حفظكما ونصركما عليه، فلا تأبها به، ولا تهتمّا بأمره.

(فأتياه فقولا إنا رسولا ربك) أي فقابلاه وقولا له: إن الله أرسلنا إليك- وقد أمرا بتبليغه ذلك من أول وهلة، ليعرف لهما حقهما، ويفكر فيما يقابلهما به من الرد على ما ادّعيا. وفى التعبير بقولهما (ربك) إيماء إلى أن ما ادعيته من الربوبية لنفسك، مما لا ينبغى أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه نظرة الاعتبار والصدق. (فأرسل معنا بنى إسرائيل ولا تعذبهم) أي فأطلق بنى إسرائيل من الأسر، ولا تعذبهم بتسخيرك إياهم فى شاقّ الأعمال كالحفر والبناء ونقل الأحجار، وقد كان المصريون يستخدمونهم هم ونساء هم فى تلك الأعمال. وإنما بدأ بهذا الطلب دون دعوة هذا الطاغية وقومه إلى الإيمان، لأنه أخف وأسهل من ذلك، لما فيه من تبديل الاعتقاد وهو عسر شاقّ على النفس. ثم ذكرا ما يوجب امتثال أمرهما، ويؤكد دعوى رسالتهما بقولهما. (قد جئناك بآية من ربك) أي قد جئناك بالحجة البالغة، والبرهان الساطع، على أنه أرسلنا إليك، وإن لم تصدقنا فيما نقول أريناكها. (والسلام على من اتبع الهدى) أي والسلامة والأمن من العذاب فى الدنيا والآخرة على من اتبع رسل ربه، واهتدى بآياته التي ترشد إلى الحق، وتنيل البغية، وتبعد عن الغى والضلال. قال الزّجّاج: أي من اتبع الهدى سلّم من سخط الله وعذابه، وليس بتحية، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب اه. ويمثل هذا كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل ملك الروم قال: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، فاسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين. وفى هذا ترغيب فى التصديق على أتم وجوهه، وتنفير من مخالفته، وصد عنها على أقصى غاية كما لا يخفى.

[سورة طه (20) : الآيات 49 إلى 55]

ثم ذكرا علة لما سبق لهما من النصح والإرشاد بقولهما. (إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) أي إنا قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا أن عذابه الذي لا نفاد له ولا انقطاع فى الدنيا والآخرة، على من كذّب بما ندعو إليه من توحيده وطاعته وإجابة رسله، وأدبر معرضا عما جئناه به من الحق. وجاء بمعنى الآية قوله تعالى: «فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم هى المأوى» وقوله: «فأنذرتكم نارا تلظى. لا يصلاها إلا الأشقى. الذى كذب وتولى» وقوله: «فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى» . [سورة طه (20) : الآيات 49 الى 55] قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) تفسير المفردات أعطى كل شىء خلقه: أي أعطى كل نوع صورته وشكله الذي يشاكل ما نيط به من الخواص والمنافع، ثم هدى: أي ثم عرّفه كيف يرتفق بما أعطى له، البال: الفكر يقال خطر ببالي كذا، ثم أطلق على الحال التي يعتنى بها وهو المراد هنا

المعنى الجملي

فى كتاب: أي دفتر مقيّد فيه والمراد بذلك كمال علمه الذي لا يضيع منه شىء، ضل الشيء: أخطأه ولم يهتد إليه، ونسيه: ذهب عنه ولم يخطر بباله، والمهد. ما يمهّد للصبى ويفرش له: أي جعل الأرض كالمهد، وسلك: أي سهّل، والسبل: واحد ها سبيل: أي طريق، أزواجا: أي أصنافا، شتى: واحدها شتيت كمريض ومرضى: أي مختلفة النفع والطعم واللون والشكل، لآيات: أي لدلالات، والنهى: واحدها نهية (بالضم) وهى العقل سمى بها لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح. المعنى الجملي اعلم أن موسى وهارون عليهما السلام سارعا إلى الامتثال وجاءا فرعون وأبلغاه ما أمرا به، فسألهما سؤال الإنكار والجحد للصانع الخالق لكل شىء وربه ومليكه، ودار بينهما من الحوار ما قصه الله علينا. روى عن ابن عباس أنهما لما جاءا إلى بابه أقاما حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد، فدخلا وكان من الحوار ما أخبرنا الله به. الإيضاح (قال فمن ربكما يا موسى) أي إذا كنتما رسولى ربكما الذي أرسلكما فأخبرانى، من ربكما الذي أرسلكما؟. وإنما خص موسى بالنداء مع توجيه الخطاب إليهما، لما ظهر له أنه هو الأصل وهارون وزيره. فأجاب موسى عن سؤاله: (قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه) أي ربنا الذي أعطى كل شىء ما يليق به مما قدر له من الخواص والمزايا، فأعطى العين الوضع الذي يطابق ما يراد بها من الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وهكذا الأنف واليد والرجل وجميع أعضاء الجسم.

(ثم هدى) أي ثم أرشده كيف ينتفع بما أعطاه ويرتفق به، وكيف يصل بذلك إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما فى الحيوان وإما طبعا كما فى النبات والجماد. وخلاصة هذا- ربنا الذي خلق كل شىء على الوجه الذي يليق بما قدّر له من المنافع والخواص، وأرشده كيف ينتفع بما خلق له، وجعل ذلك دليلا على وجوده، وعظيم جوده، وكأنه يقول له: إن ذلك الخالق والهادي هو الله. وبعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر- شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى الذين لم يعبدوا هذا الإله، وهذا ما أشار إليه بقوله: (قال فما بال القرون الأولى؟) أي فما حال القرون الماضية كعاد وثمود الذين لم يعبدوا الله بل عبدوا غيره؟. فأجاب موسى: (قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى) أي إن ذلك من علوم الغيب التي لا يعلمها إلا الله، فهو الذي ضبط أعمالهم وأحصاها فى كتاب لا يشذّ عنه شىء، ولا يفوته شىء، لا كبير ولا صغير، ولا ينسى شيئا، وسيجزيهم بما عملوا جزاء وفاقا. وقصارى ذلك- إن علمه تعالى محيط بكل شىء، وأنه لا ينسى شيئا، تبارك وتعالى، فعلمه ليس كعلم المخلوقين الذي يعتريه النقص من وجهين: عدم الإحاطة بالأشياء، ونسيانها بعد علمها. وإنما سأل فرعون هذا السؤال لخوفه أن يزيد موسى فى إظهار تلك الحجة فيستبين للناس صدقه، فأراد صرفه عن ذلك، وشغله بالقصص والحكايات التي لا تعلق لها بشئون رسالته، لكن موسى كان أحرص من أن يهتم بمثل هذا، ومن ثم أوجز فى رده. ووكل أمر ذلك إلى ربه.

وإجمال سؤاله- إنه إذا كان الأمر كما ذكرت ففضّل لنا حال الماضين من سعادة وشقاء، فرد عليه السلام عليه بأن علم ذلك إلى الله ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول بإبراز الدلائل على الوحدانية فقال: (الذى جعل لكم الأرض مهدا) أي ربى الذي لا يضل ولا ينسى هو الذي جعل لكم الأرض كالمهاد، تتمهّدونها وتستقرون عليها، فتقومون وتنامون وتسافرون على ظهرها. (وسلك لكم فيها سبلا) أي وجعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية تمشون فى مناكبها وتسلكونها من قطر إلى قطر، لتقضوا مآربكم، وتنتفعوا بمرافقها. ونحو الآية قوله: «وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون» . (وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى) أي وأنزل من السماء مطرا فأخرج به مختلف أنواع النبات من زروع وثمار حامضة وحلوة وهى أيضا مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للإنسان، وبعضها يصلح للحيوان وفى هذا بيان لنعمه على خلقه بما يحدث لهم من الغيث الذي يولد تلك المنافع. (كلوا وارعوا أنعامكم) أي فأخرجنا أصناف النبات قائلين لكم كلوا وارعوا أنعامكم إلخ. فشىء منها أعد لطعامكم وفاكهتكم، وشىء أعد لأنعامكم قوتا لها أخضر ويابسا. (إن فى ذلك لآيات لأولى النهى) أي إن فيما وصفت لكم من قدرة ربكم وعظيم سلطانه- لأدلة على وحدانيته وأنه لا إله غيره إذا كنتم من ذوى العقول الراجحة، والأفكار الثاقبة. ولما ذكر سبحانه منافع الأرض والسماء بين أنها غير مقصودة لذاتها، بل هى وسائل إلى منافع الآخرة فقال: (منها خلقناكم) أي من الأرض خلقنا النطفة المتولدة من الأغذية التي تكونت

[سورة طه (20) : الآيات 56 إلى 59]

منها بوسائط، إذ الغذاء إما حيوانى وإما نباتى، والحيواني ينتهى إلى نباتى، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء بالتراب. (وفيها نعيدكم) أي وفى الأرض نعيدكم بعد مماتكم فتصيرون ترابا كما كنتم قبل نشأتكم (ومنها نخرجكم تارة أخرى) أي وسنخرجكم منها بعد مماتكم مرة أخرى بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة، ثم نرد الأرواح من مقرّها إليها. وجاء بمعنى الآية قوله: «فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون» وقوله: «يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا» . وفى الحديث «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها فى القبر وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال وفيها نعيدكم، ثم أخذ أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى. وأخرج أحمد والحاكم عن أبى أمامة قال: «لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى القبر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى، بسم الله، وفى سبيل الله، وعلى ملة رسول الله» . [سورة طه (20) : الآيات 56 الى 59] وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) تفسير المفردات أبى: امتنع، موعد: أي ميعادا معيّنا، سوى: مستويا لا جبال فيه ولا وهاد بحيث يستر النظارة، يوم الزينة: يوم عيد كان لهم، يحشر الناس: أي يجمعون، والضحى: وقت ارتفاع النهار.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه سؤال فرعون عن رب موسى- قفى على ذلك ببيان أنه بصّره بالآيات الدالة على توحيد الله كقوله: ربنا الذي أعطى كل شىء خلقه ثم هدى، وقوله: الذي جعل لكم الأرض مهدا، والدالة على نبوته كإلقاء العصا وصيرورتها ثعبانا ونزع يده من تحت جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء، فعلم كل هذا وكذّب به كفرا وعنادا كما قال «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا» الآية. الإيضاح (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) أي ولقد بصّرنا فرعون وعرّفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وعلى نبوة موسى فكذب بها وأبى أن يذعن للحق. وقد يكون المراد بها الآيات التسع المذكورة فى قوله: «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات» . ثم فصل سبحانه صفة تكذيبه وإبائه فقال: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى؟) أي قال منكرا مستقبحا لما فعل موسى: أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا، لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر؟ إذ تستولى على عقول الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم. وخلاصة ما قال- أجئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبى يجب عليهم اتباعك والإيمان بما جئت به إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها ويكون لك الملك فيها، وإنما قال تلك المقالة، ليحمل قومه على السخط على موسى والغضب منه، بإظهار أن مراده ليس مجرد إنجاء بنى إسرائيل من أيديهم، بل مقصوده إخراج القبط من أوطانهم، وحيازة أموالهم وأملاكهم جملة، وبذا يسدّ عليه الباب فلا يتوجه أحد إلى اتباع دعوته، مبالغة فى المدافعة عن بلادهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولا ينظرون إلى معجزاته، ولا يلتفتون إلى ما يدعو إليه من الخير، ثم ادّعى أنه سيعارضه بمثل عمله فقال:

[سورة طه (20) : الآيات 60 إلى 64]

(فلنأتينك بسحر مثله) أي فو الله لنأتينك بسحر مثل سحرك، فإن عندنا مثل ما عندك، فلا يغرنّك ما أنت فاعل. (فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت) أي فاجعل بيننا وبينك ميقاتا وموعدا نجتمع نحن وأنتم فيه، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر. وإنما قال تلك المقالة، ليبين أنه قوى القلب، جلد متمكن من تهيئة وسائل المعارضة، وترتيب أسباب المغالبة، طال الأمد أو قصر. (مكانا سوى) أي ويكون الاجتماع فى مكان مستو من الأرض لا انخفاض فيه ولا ارتفاع، فلا جبال ولا وهاد تستر بعض الحاضرين عن بعض. وقصارى ذلك- عيّن لنا زمان المقابلة ومكانها على ألا يكون فيه ما يستر أحدا من الناس عن أحد ليروا ما يصدر منك ومن السحرة. وغير خاف ما فى ذلك من إظهار الجلد، وقوة الوثوق بالغلبة. ثم ذكر رد موسى على ما طلب فقال: (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) أي قال موسى: ميعادكم للاجتماع يوم عيد النيروز وكان على رأس سنتهم حين يفرغ الناس من أعمالهم ويجتمعون، ليكون الحفل عاما، ويتحدث الناس بذلك الأمر العجيب فى القرى والأمصار، فتعلو كلمة الله ويظهر دينه، ويزهق الباطل وينتصر الحق على رءوس الأشهاد. وفى ذلك من وضوح الحجة ما لا خفاء فيه، ومن وثوقه بفلجه على خصمه، وعدم مبالاته به. [سورة طه (20) : الآيات 60 الى 64] فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فتولى فرعون: أي انصرف عن المجلس، كيده: أي ما يكيد به من السحرة وأدواتهم، أتى: أي أتى الموعد ومعه ما جمعه من الأعوان والسحرة، ويلكم: أي هلاك لكم، والافتراء: الاختلاق والكذب، فيسحتكم بعذاب: أي يستأصلكم ويهلككم بعذاب شديد، فتنازعوا: أي فتفاوضوا وتشاوروا، وأسروا النجوى: أي بالغوا فى إخفاء كلامهم، بطريقتكم المثلى: أي بمذهبكم الذي أنتم عليه وهو أفضل المذاهب وأمثلها، فأجمعوا كيدكم: أي اجعلوا كيدكم مجمعا عليه، صفا: أي مصطفين، لأنه أهيب للصدور، أفلح: أي فاز بالمطلوب، استعلى: أي غلب. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن موسى وفرعون اتفقا على موعد يجتمعان فيه وهو يوم عيد لهم- أردف ذلك ذكر ما دبره فرعون بعد انصرافه عن المجلس من أمر السحرة وآلات السحر، وأتى بجميع ذلك، ثم ذكر أن موسى أوعدهم وحذرهم من عذاب لا قبل لهم به إن أقدموا على ما هم عازمون عليه، ثم بين أن السحرة حين سمعوا كلام موسى تنازعوا أمرهم وتشاوروا ماذا يفعلون، وبالغوا فى إخفاء ما يريدون، وقالوا ما موسى وهرون إلا ساحران يريدان أن يغلباكم ويخرجاكم من دياركم ويرجوان أن تتركوا دينكم وهو أمثل الأديان وأفضلها، لتعتنقوا دينهما، فحذار أن تفعلوا ذلك ولا يتخلفنّ منكم أحد وائتوا صفا واحدا وقد فاز بالمطلوب من غلب.

الإيضاح

الإيضاح (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) أي فانصرف عن مجلس الحجاج والمناظرة، وشرع يعدّ ما يكيد به من السحرة وآلاتهم وأنصاره وأعوانه، وكثير ما هم، ثم أقبل فى الموعد الذي عيّن ومعه جمعه، وجلس على سرير ملكه وحوله أكابر دولته، واصطفت الرعية يمنة ويسرة، وأقبل موسى يتوكأ على عصاه ومعه أخوه هارون، ووقف السحرة صفوفا بين يدى فرعون يحرّضهم ويستحثهم ويرغّبهم فى جودة العمل، ويتمنّون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، وقد جاء فى سورة الشعراء: «قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين. قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين» . ثم ذكر سبحانه ما كان من موسى حينئذ فقال: (قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) أي قال موسى للسحرة: لا تختلقوا الكذب على الله ولا تتقولوه عليه، بأن تدّعوا أن الآيات التي ستظهر على يدىّ سحر كما فعل فرعون، فيستأصلكم بعذاب من عنده، ولا يبقى منكم ولا يذر. (وقد خاب من افترى) على الله الكذب، ولم يفلح فى سعيه، ولم يصل إلى غرضه، فابتعدوا عن اختلاق الأكاذيب، ولا تضلّوا سواء السبيل، حتى لا يصيبكم ما أصاب المفترين الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولما سمع السحرة كلام موسى وهارون هاجهم ذلك. (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) أي فتشاوروا وتفاوضوا ماذا يفعلون، وبالغوا فى كتمان ما يقولون عن موسى وأخيه حتى لا يسمعا ما يدور من القول، فيعدّا للأمر عدته، ويهيئا وسائل الدفاع، ومن الطّبعى فى مثل هذه الأحوال أن يخفى أحد المتخاصمين كل ما يدبّره من وسائل الفوز والفلج عن خصمه الآخر. ثم بين سبحانه خلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور بقوله:

(قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) أي إن السحرة قالوا فيما بينهم: إن هذا الرجل وأخاه ساحران خبيران بصناعة السحر، وهما يريدان أن يغلباكم وقومكم ويخرجاكم من دياركم وتخلص لهم الرياسة دونكم. وخلاصة ما قالوه التنفير منهما لوجوه ثلاثة: (1) الطعن فى نبوتهما ونسبتهما إلى السحر، وكل ذى طبع سليم ينفر من السحر، ويبغض السحرة، ويعلم أن السحر لا بقاء له، ولا ينبغى اتباع من جاء به، ولا اعتناق مذهبه وطريقته. (2) إنّ بغيتهما إخراجكم من أرضكم، ومفارقة الوطن شديدة الوطأة على النفوس ومن ثم قال فرعون: «أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى» . (3) إنهما يريدان أن يستوليا على جميع المناصب والرياسات، ولا يبقيا شيئا من شئون الدولة والتصرف فى أمورها العامة. وإجمال هذا- إنهما إذا تم لهما الأمر أخرجاكم من دياركم، وتمحّضت لهما الرياسة دونكم. ثم بين السحرة ما يجب لمقابلة هذا الخطر الداهم، والبلاء المقبل فقالوا: (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا) أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به، كما جاء فى آية أخرى «فجمع كيده» ثم ائتوا مصطفين مجتمعين، وألقوا ما فى أيديكم دفعة واحدة لتبهروا الأبصار، وتعظم هيبتكم لدى النظارة فى هذا المشهد الحافل. (وقد أفلح اليوم من استعلى) أي وقد فاز بالمطلوب من غلب منا، أما نحن فقد وعدنا بالعطاء الجزيل والقرب من الملك: «قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين» وأما هو فسينال الرياسة، وما مقصدهم من ذلك إلا تشديد العزائم، وحفز الهمم، ليبذلوا أقصى الجهد للفوز والفلج بالمطلوب.

[سورة طه (20) : الآيات 65 إلى 76]

[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 76] قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) تفسير المفردات إيجاس الخوف: الإحساس بشىء منه، ما فى يمينك: هى العصا وأبهمها تفخيما لشأنها، وتلقف: تبتلع بقوة وسرعة، صنعوا: أي زوّروا وافتعلوا، كيد ساحر: أي كيد سحرىّ لا حقيقة له ولا ثبات، حيث أتى: أي أينما كان، كبيركم: أي

المعنى الجملي

زعيمكم ومعلمكم. قال الكسائي: الصبى بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال جئت من عند كبيرى، من خلاف: أي من حال مختلفة، فتقطع الأيدى اليمنى والأرجل اليسرى، أشد عذابا: أي أدوم، نؤثرك: أي نفضّلك ونختارك، فطرنا: أي ابتدعنا وأوجدنا من العدم، فاقض: أي فاحكم، جنات عدن: أي جنات أعدت للإقامة، من تحتها: أي من تحت غرفها، تزكى: أي تطهّر من أدناس الكفر وأرجاس المعاصي. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الموعد وهو يوم الزينة، وذكر أنهم قالوا ائتوا صفا- ذكر هنا أنهم بعد أن أتوا خيروه بين أن يبدأ بإلقاء ما معه، وأن يبدءوهم، فاختار الثانية، وحين بدءوا فألقو حبالهم وعصيهم خاف موسى عاقبة أمره، فأوحى إليه ربه «لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما فى يمينك» فسيكون لك الفلج والظفر عليهم، وقد تحقق ما وعد الله به، وكتب له النصر وآمن به السحرة، فلجأ فرعون إلى العناد والاستكبار، وتوعد السحرة بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسيصلبهم فى جذوع النخل، فقابلوا تهديده بالازدراء والسخرية، وقالوا إنما أنت مسلّط علينا فى هذه الحياة الدنيا، وعذابك لا يعدوها، وما عند الله من العذاب لا يضارعه عذاب، وما عنده من الثواب لا يقدر قدره، ففى جناته التي تجرى من تحتها الأنهار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. الإيضاح (قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى) أي فأجمع السحرة كيدهم ثم أتوا صفا فقالوا لموسى: اختر لك أحد الأمرين، إما أن تلقى ما معك، وإما أن نلقى ما معنا. وهذا التخيير منهم حسن أدب معه وتواضع منهم، وتنبيه إلى إعطائه النّصفة

من أنفسهم، وكأن الله ألهمهم ذلك، وعلم موسى أن من الخير له اختيار إلقائهم أولا، لأنهم إذا أبرزوا ما معهم من مكايد السحر واستنفذوا أقصى مجهودهم، أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلّط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين، ومن ثم حكى عنه. (قال بل ألقوا) أي بل ألقوا أنتم أوّلا لنرى ما تصنعون من السحر، ويظهر للناس حقيقة أمركم، وحين ألقوا: «قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون» . (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصىّ فخيّل إلى موسى أنها تمشى، وجاء فى آية أخرى «سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤ بسحر عظيم» . قيل إنهم حشوها بالزئبق الذي من طبعه أن يتأثر سريعا بحرارة الشمس، فما أسرع ما تحركت تلك الحبال والعصى حين سقطت عليها أشعة الشمس، فامتلأ الوادي بحيات يركب بعضها بعضا. وخلاصة ذلك- إنهم حشوها بزئبق أو بمادة أخرى إذا وقعت عليها الشمس اضطربت وتحركت واتصل بعضها ببعض، فمن رآها ظن أنها تمشى وتسعى. (فأوجس فى نفسه خيفة موسى) أي فأوجس موسى بشىء من الخوف حين فوجىء بذلك على مقتضى الطبيعة البشرية حين ترى الأمر المهول المخيف. ثم أبان سبحانه أنه ربط على قلبه فقال: (قلنا لا تخف) أي قلنا: له هدّىء روعك، واطمئن بالا. ثم علل ذلك بقوله: (إنك أنت الأعلى) أي إنك ستنتصر عليهم وستكون لك الغلبة، فالعاقبة للمتقين. (وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا) أي وألق عصاك تبتلع حبالهم وعصيهم التي سحروا بها أعين الناس حتى خيل إليك أنها تسعى.

وإنما أوتر إبهام العصا تهويلا لأمرها، وتفخيما لشأنها، وإيذانا بأنها ليست من جنس العصىّ المعهودة، لما سينشأ عنها من عجيب الأثر وغريب الصنع. (إنما صنعوا كيد ساحر) أي إن الذي فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة، كيد سحرى لا حقيقة له ولا بقاء. وخلاصة ذلك- إن الذي، معك يا موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويه وتلفيق ظاهر عليه الزور والبهتان، فكيف يتعارضان؟. (ولا يفلح الساحر حيث أتى) أي ولا ينال الساحر مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا حيثما كان. ثم ذكر سبحانه ما يدل على أنه امتثل أمر ربه وألقى العصا وكان ما وعد به من تلقفها لما صنعوا فقال: (فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى) أي فألقى ما فى يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر للسحرة جليّة الأمر وأن ما عمله ليس بالسحر، فهو ليس من فنون السحر التي حذقوها، ولا من أنواع الحيل التي عرفوها، وإنه الحق الذي لا مرية فيه، ولا يقدر على مثله إلا من يقول للشىء كن فيكون، حينئذ وقعوا سجدا لله وقالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهرون. روى أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحرا فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على وجود الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى على كونه رسولا صادقا من عند الله، لا جرم تابوا وآمنوا وأتوا وهم خاضعون ساجدون. قال صاحب الكشاف- سبحان الله، ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبا لهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود اه. روى عن ابن عباس أنه قال: كانوا أول النهار سحرة، وفى آخره شهداء بررة وروى عنه عكرمة أنه قال: كان السحرة سبعين رجلا، أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.

وإنما قالوا برب هرون وموسى ولم يقصروا على قولهم (رب العالمين) لأن فرعون كان قد ادّعى الربوبية فقال: «أنا ربكم الأعلى» والألوهية إذ قال: «ما علمت لكم من إله غيرى» فلو قالوا ذلك فحسب لقال فرعون: آمنوا بي، وإنما لم يقتصروا على ذكر موسى بل ذكروا هرون وقدموه عليه خوفا من هذه الشبهة أيضا، إذ أن فرعون كان يدعى ربوبيته لموسى، لأنه رباه فى صغره كما قال: «ألم نربك فينا وليدا» . ولما خاف فرعون أن يصير ذلك سببا لاقتداء الناس بهما فى الإيمان بالله ورسوله ألقى شبهة فى النبي ونبوته. (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر) أي إنكم قد فعلتم جريرتين وارتكبتم جرمين: (1) إنكم آمنتم له قبل البحث والتفكير، فإيمانكم لم يكن عن بصيرة وأناة فلا يعتدّ به. (2) إنكم تلاميذه فى السحر، فتواطأتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لدعوته وتفخيما لأمره. وبعد أن أورد هذه الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيرا لهم من الإيمان، وتحذيرا لغيرهم عن الاقتداء بهما فقال: (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي أقسم بالله لأقطّعنها مختلفات، بأن تقطع الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى، وإنما اختار ذلك دون القطع من وفاق، لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة. (ولأصلبنكم فى جذوع النخل) زيادة فى إيلامكم وتشهيرا بكم. وخلاصة ذلك- لأجعلنكم مثلة، ولأزيلن مالكم من منافع، ولأشهرنّ بكم، قال ابن عباس: فكان أول من عذب بهذا العذاب. (ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) أي ولتعلمن أنا أو موسى أشد عذابا وأبقى.

وفى ذلك إيماء إلى اقتداره وقهره وبيان ما ألفه وضرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، كما فيه تحقير لشأن موسى واستضعاف له مع السخرية منه. ثم لما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم فى الله. (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) أي لن نختارك بالإيمان والانقياد على ما جاءنا من الله على يد موسى من المعجزات التي اشتملت عليها العصا. وفى هذا إشارة إلى أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان بموسى، وإلا فعل بهم ما أوعدهم به. (والذى فطرنا) أي لن نختارك على ما جاءنا من الهدى، وعلى فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، إذ هو المستحق للعبادة والخضوع، لا أنت. ولما علموا أنهم متى أصروا على الإيمان، فعل فرعون ما أوعدهم به قالوا: (فاقض ما أنت قاض) أي فافعل ما شئت، وما وصلت إليه يدك فوعيدك لا يزحزحنا عن إيماننا واطمئناننا بما صرنا إليه. ثم بينوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك فقالوا: (إنما تقضى هذه الحياة الدنيا) أي إنما لك تسلط علينا فى هذه الدار دار الزوال ونحن نرغب فى دار البقاء. وقصارى ردهم- إنك إنما تصنع ما تهوى فى هذه الدنيا فحسب، وإنا لا نأبه بنعيمها، ولا نرهب عذابها. (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر) أي إنا آمنا بربنا المحسن إلينا طوال أعمارنا، ليستر ما اجترحنا من الذنوب والآثام، ولا سيما ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آيات الله ومعجزاته. روى الحسن أن السحرة الذين حشدوا من المدائن ليعارضوا موسى، أحضروا مكرهين، وأكرهوا على إظهار السحر، وروى أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان منهم من القبط، والباقون من بنى إسرائيل أكرههم فرعون على تعلّم السحر.

(والله خير وأبقى) أي والله خير منك جزاء وأدوم ثوابا مما كنت دعوتنا إليه ومنيتنا به. ولم يرد دليل على أنه نفّذ ما صمم عليه فى عقابهم، ولكن الراجح أنه نفّذ ذلك كما يرشد إلى ذلك قول ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة. ثم ختم السحرة كلامهم بشرح أحوال المجرمين وأحوال المؤمنين يوم العرض والحساب، عظة لفرعون وتحذيرا له من نقمة الله وعذابه السرمدي وترغيبا له فى ثوابه الأبدى. (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) أي إن من يلق الله وهو مجرم بكفره ومعاصيه فإن له جهنم لا يموت فيها فينتهى عذابه، ولا يحيا حياة طيبة ينتفع فيها بالنعيم المقيم، قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة، ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي ويبلغ به حالة الموت فى المكروه، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم والعرب تقول: فلان لا حى ولا ميت. إذا كان غير منتفع بحياته. كما قالت زوج صخر حين سئلت عنه وهو مريض: لا هو حىّ فيرجى، ولا ميت فينعى. ونحو الآية قوله «لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور» وقوله «ويتجنبها الأشقى. الذي يصلى النار الكبرى. ثم لا يموت فيها ولا يحيى» وقوله «ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون» . (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) أي ومن لقى ربه مؤمنا به وبما جاء به رسوله من عنده من المعجزات التي من جملتها ما رأيناه وشاهدناه، ثم عمل صالح الأعمال، فهؤلاء لهم بسبب إيمانهم وجليل أعمالهم المنازل الرفيعة والدرجات العالية.

[سورة طه (20) : الآيات 77 إلى 82]

وفى الصحيحين: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب العابر فى أفق السماء لتفاضل ما بينهم، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء، قال بلى، والذي نفسى بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» . وفى السنن: إن أبا بكر وعمر لمنهم ونعمّا. ثم فسر تلك الدرجات العلى بقوله: (جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي تلك الدرجات العلى هى جنات إقامة تجرى من تحت غرفها الأنهار ماكثين فيها أبدا. ثم بين سبب فوزهم بهذا النعيم فقال: (وذلك جزاء من تزكى) أي وذلك الفوز الذي أوتوه جزاء لهم على طهارة أنفسهم من دنس الكفر ومن تدسية أنفسهم بأوضار الذنوب والآثام، وعلى عبادتهم لله وحده لا شريك له واتباعهم للنبيين والمرسلين فيما جاءوا به من عند ربهم. [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) تفسير المفردات السرى والإسراء: السير ليلا، اضرب لهم: أي اجعل لهم، يبسا: أي طريقا يابسا لا ماء فيه، والدرك (بالفتح والسكون) : الإدراك واللحوق، تخشى: أي تخاف

المعنى الجملي

غرقا، وأتبع وتبع: بمعنى، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم: أي فغمرهم وعلاهم من البحر ما علاهم من الأمر الهائل الذي لا يعلم كنهه إلا الله، وأضل فرعون قومه: أي سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الخسران فى دينهم ودنياهم، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا، وما هدى: أي وما أرشدهم إلى طريق يصل بهم إلى طريق السعادة، الأيمن: أي الذي عن يمين من ينطلق من مصر إلى الشام، المنّ: نوع من الحلوى يسمى الترنجبين، والسلوى: طائر شبيه بالسّمانى، ولا تطغوا فيه: أي فلا تأخذوه من غير حاجة إليه، فيحل عليكم غضبى: أي ينزل بكم، هوى: سقط وهلك، غفار: كثير المغفرة والستر للذنوب، اهتدى: أي لزم الهداية واستقام. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه قصص موسى مع سحرة فرعون، وأنه تم له الغلب عليهم، وأن السحرة آمنوا به، وأن فرعون أبى أن يذعن للحق، وتمادى هو وقومه فى العناد والإعراض عن سبيل الرشاد- أردف ذلك ذكر ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الغرق فى البحر حين تبعوا موسى للحاق به لما خرج من مصر ذاهبا إلى الطور، وطوى فى البين ذكر ماجرى على فرعون وقومه بعد أن غلبت السحرة- من الآيات المفصّلة التي حدثت على يد موسى فى مدى عشرين سنة بحسب ما فصل فى سورة الأعراف، وكان فرعون كلما جاءته آية عذاب وعد أن يرسل بنى إسرائيل حين ينكشف عنه العذاب، فإذا هو انكشف نكص على عقبيه ونكث فى عهده، حتى أمر الله موسى بالهجرة والخروج ليلا من مصر، ثم عدد بعدئذ نعمه الدينية والدنيوية على بنى إسرائيل، فذكر أنه أنجاهم من عدوهم وقد كان ينزل بهم ضروبا من الظلم: من قتل وإذلال وتعب فى الأعمال، وأنه ذكر أنه أنزل عليهم كتابا فيه بيان دينهم وتفصيل شريعتهم، وأنه أنزل

الإيضاح

لهم المن والسلوى، وأنه أمرهم بأكل الطيبات من الرزق وزجرهم عن العصيان، وأن من عصى ثم تاب كانت توبته مقبولة عند ربه. الإيضاح (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى) أي ولقد أوحينا إلى نبينا موسى حين تابعنا له الحجج على فرعون فأبى أن يستجيب لأمر ربه وتمادى في طغيانه: أن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من هذا الطاغية، واخرج بهم من مصر، فاتخذ لهم طريقا يابسا فى البحر، ولا تخف من فرعون وقومه أن يدركوك، ولا تخش أن يغرقك البحر. وفى التعبير عن بنى إسرائيل (بعبادى) إظهار للعناية بأمرهم والرحمة لهم، وتنبيه إلى قبح صنيع فرعون بهم، إذ هو قد استعبدهم، وفعل بهم من ضروب الظلم ما فعل، ولم يراقب فيهم مولاهم الحق. (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) أي ولما سرى بهم موسى أتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر، فغشيهم من اليم ما لا سبيل إلى إدراك كنهه، فغرقوا جميعا. (وأضل فرعون قومه وما هدى) أي وقد سلك بقومه سبيل الضلال فى دينهم ودنياهم، وما هداهم إلى سبيل الرشاد، وفى هذا تهكم به إذ قال «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» . ثم شرع سبحانه يعدّد نعمه على بنى إسرائيل فقال: (1) (يا بنى إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) فرعون وقومه حين كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وأقر عينكم منهم، إذ أغرقهم وأنتم تنظرون كما قال: «وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون» .

[سورة طه (20) : الآيات 83 إلى 89]

(2) (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) فكلمناك تكليما وأعطيناك التوراة وفيها تفصيل شريعتك. (3) (ونزلنا عليكم المن والسلوى) فكان ينزل عليكم المن وأنتم فى التيه مثل الثلج بياضا مع حلاوة شديدة من الفجر إلى طلوع الشمس، وتبعث إليكم ريح الجنوب بطير السمانى فيأخذ كل منكم ما يكفيه. (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي وقلنا لكم، كلوا من تلك اللذائذ التي أنعمنا بها عليكم. (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى) أي ولا تطغوا فى رزقى بالإخلال بشكره وتعدى حدودى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على المعاصي ومنع الحقوق الواجبة فيه فينزل عليكم غضبى، وتجب عليكم عقوبتى. (ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى) أي ومن ينزل به غضبى فقد شقى وهلك. (وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) أي وإنى لذو مغفرة عظيمة لمن يتوب من شركه، ويقلع عن ذنبه، ويخلص لى فى العمل، ويؤدى فرائضى، ويجتنب المعاصي، ويستقيم حتى الموت. [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 89] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يقال جاء على أثره (بفتحتين وبكسر فسكون) : إذا جاء لاحقا به بلا تأخير، فتنا قومك: أي اختبرناهم، وأضلهم: أي أوقعهم فى الضلال والخسران، والسامري: من شعب إسرائيل من بطن يقال له السامرة واسمه موسى، والأسف: الحزين، والوعد الحسن: إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، والعهد: زمان الإنجاز، موعدى: أي وعدكم إياى بالثبات على الإيمان، وقيامكم بأداء ما أمرتم به من التكاليف، بملكنا: أي بقدرتنا واختيارنا، والأوزار: الأثقال والأحمال والمراد بالقوم هنا القبط، فقذفناها: أي طرحناها فى النار، جسدا: أي جثة لا روح فيها، والخوار: صوت العجل، فنسى: أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه فى الطور، أن لا يرجع إليهم قولا: أي لا يردّ عليهم جوابا، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا: أي لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه أوحى إلى موسى أن يخرج هو وقومه من مصر ليلا ويخترق بهم البحر ولا يخشى غرقا ولا دركا من فرعون وجنده، وأن البحر أغرق فرعون وقومه جميعا حينما أرادوا اللحاق ببني إسرائيل، ثم عدد نعمه عليهم من إنجائهم من عدوهم وإنزال المن والسلوى عليهم، ثم أمرهم بأكل الطيبات من الرزق ونهاهم عن الطغيان، ثم ذكر أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا- أعقب هذا بما جرى بينه سبحانه وبين موسى من الكلام حين موافاته الميقات بحسب المواعدة التي ذكرت آنفا،

الإيضاح

وبما حدث من فتنة السامري لبنى إسرائيل ورجوع موسى إليهم غضبان أسفا، ثم معاقبته لهم على ما صنعوا، ثم ذكر الحيلة التي فعلها السامري حين أخرج لهم من حليهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى، فرد الله عليهم ووبخهم بأن هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا فى دينهم ولا دنياهم. الإيضاح (وما أعجلك عن قومك يا موسى؟) المراد بالقوم النقباء السبعون، وإعجاله عنهم تقدمه عليهم، أي أىّ شىء عجّل بك عن قومك، وجعلك تتقدمهم؟. والمراد الإنكار عليه فى تقدمه عليهم، لأن ذلك يقتضى إغفال أمرهم وعدم العناية بهم، مع أنه مأمور باستصحابهم وإحضارهم معه، وإنكار للعجلة فى ذاتها أيضا، ولا سيما من أولى العزم الذين يجدر بهم مزيد الجزم. (قال هم أولاء على أثرى) أي قال موسى مجيبا ربه: هم أولاء بالقرب منى آتون على أثرى، وما تقدمتهم إلا بخطإ يسيرة لا يعتدّ بها، وليس بينى وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم بها بعض الرفقة على بعض. (وعجلت إليك رب لترضى) أي وعجلت إليك رب لتزداد عنى رضا، بالمسارعة إلى امتثال أمرك، والوفاء بعهدك. وخلاصة معذرته- إنى اجتهدت أن أتقدم قومى بخطإ يسيرة، ظنا منى أن مثل ذلك لا ينكر، فأخطأت فى اجتهادي، وقد حملنى على ذلك طلب الزيادة فى مرضاتك، وكأنه عليه السلام يقول: إنما أغفلت هذا الأمر مبادرة إلى رضاك ومسارعة إلى الميعاد، والموعود بما يسرّ يود لو ركب أجنحة الطير ليحظى بما يبتغى ويريد. (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) أي قال: إنا قد اختبرنا قومك الذين خلفتهم مع هرون من بعد فراقك. قال ابن الأنبارى: صيّرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل

من بعد انطلاقك من بينهم، وهم الذين خلفهم مع هرون اه. وهذه الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى بعشرين يوما. (وأضلهم السامرى) أي دعاهم إلى الضلال باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل فى دين بنى إسرائيل فى الظاهر وفى قلبه حنين لعبادة البقر، فأطاعه بعض وامتنع آخرون. (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) أي فانصرف موسى إلى قومه بنى إسرائيل بعد انقضاء الليالى الأربعين- مغتاظا من قومه، حزينا لما أحدثوا من بعده من الكفر بالله. روى أنه لما رجع موسى سمع الصياح والضجيج وكانوا يرقصون حول العجل فقال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوت الفتنة. قال القرطبي: سئل الإمام أبو بكر الطرشوشى عن جماعة يجتمعون ويكثرون من ذكر الله وذكر رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنهم يضربون بالقضيب على شىء من الطبل ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه، فهل الحضور معهم جائز أم لا؟ فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار فقاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعبّاد العجل وأما الطبل فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله، وإنما كان مجلس النبي مع أصحابه، كأنما على رءوسهم الطير من الوقار، فينبغى للسطان أن يمنعهم من الحضور فى المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم، وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين اه. (قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) لا سبيل لكم إلى إنكاره، فقد وعدكم بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع والأحكام، ووعدكم الثواب العظيم فى الآخرة

بقوله: «وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى» ووعدكم أنكم ستملكون أرض الجبارين وديارهم. (أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى؟) أي أفطال عليكم الزمان، فنسيتم وعدكم إياى بالثبات على دينى إلى أن أرجع من الميقات؟ أم تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم بعبادتكم للعجل وكفركم به؟. وخلاصة ذلك- أفطال عليكم العهد فنسيتم أم تعمدتم المعصية فأخلفتم؟. (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) أي قالوا ما أخلفنا عهدك بالثبات على دينك إلا لأنا لم نملك أمرنا، فلو خلّينا وأنفسنا ولم يسوّل لنا السامري ما سوّله، لما أخلفنا. وفى هذا إيماء إلى أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ وأنهم لم يطيقوا حمل أنفسهم على الصواب، ومن ثم وقعوا فيما وقعوا فيه من الفتنة. وقصارى كلامهم: إن السامري سول لنا ماسول، وغلب على عقولنا فخالفنا عهدك. (ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها) أي ولكن غلبنا موسى السامري إذ حمّلنا أحمالا من حلى القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر بعلة أن لنا عيدا غدا، وقال: إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها ثم أمرنا أن نحفر حفرة ونملأها نارا وأن نقذف الحلي فيها فقذفناه. وسميت أوزارا: أي آثاما، لأنه لا يحل لهم أخذها، ولا تحل لهم الغنائم فى شريعتهم. (فكذلك ألقى السامرى) أي فكما قذفنا نحن تلك الأثقال، ألقى السامري ما كان معه منها. (فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار) أي فأخرج لهم من تلك الأثقال التي

[سورة طه (20) : الآيات 90 إلى 98]

قذفوها جسد عجل من ذهب لا روح فيه، وله خوار كخواره، إذ هو قد صنعه بدقة وجعل فيه أنابيب يظهر فيها الصوت بمرور الريح بعد أن جعله فى اتجاهه. (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى) أي فقال السامري ومن افتتن به أول ما رآه: هذا هو إلهكم وإله موسى فاعبدوه، وقد غفل عنه موسى وذهب يطلبه فى الطور. فرد عليهم سبحانه، مقبّحا أفعالهم، مسفها أحلامهم فقال: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا؟) أي أفلا يعتبرون ويتفكرون فى أن هذا العجل لا يرجع إليهم كلاما، ولا يرد عليهم جوابا وأنه لا يقدر أن يدفع عنهم ضرا، ولا يجلب لهم نفعا؟ وقصارى ما يقول- إنه عاجز عن الخطاب، وعن النفع والضر، فكيف يتخذونه إلها؟ [سورة طه (20) : الآيات 90 الى 98] وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فتنتم به: أي وقعتم فى الفتنة والضلال، فاتبعونى: أي فى الثبات على الحق، لن نبرح: أي لا نزال، عاكفين: أي مقيمين، بلحيتي ولا برأسى: أي بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى، خشيت: أي خفت، ولم ترقب قولى: أي ولم تراع، فما خطبك: أي ما شأنك، وما الأمر العظيم الذي صدر منك، بصرت بما لم يبصروا به (بضم الصاد فيهما) : أي علمت ما لم يعلمه القوم، وفطنت لما لم يفطنوا له يقال بصر بالشيء إذا علمه، وأبصره إذا نظر إليه، والرسول موسى عليه السلام، وأثره: سنته، فنبذتها: أي طرحتها وسوّلت لى نفسى: أي زينت وحسنت، لا مساس: أي لا مخالطة فلا يخالطه أحد ولا يخالط أحدا، فعاش وحيدا طريدا، لن تخلفه: أي سيأتيك به الله حتما، ظلت (أصله ظللت دخله حذف) : أي أقمت، لنحرقنه: أي لنبردنّه بالمبرد، لننسفنه: أي لنذرينه، فى اليمّ: أي فى البحر، وسع كل شىء علما: أي وسع علمه كل شىء وأحاط به. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أن عبادتهم للعجل مخالفة لقضية العقل، لأنه لا يستجيب لهم دعاء ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا- أكد هذا وزاد عليهم فى التشنيع ببيان أنهم قد عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطإ ما فعلوا، ثم حكى معاتبة موسى لهرون على سكوته على بنى إسرائيل وهو يراهم يعبدون العجل، ثم ذكر أنه اعتذر له، ولكنه لم يقبل معذرته، ثم قص علينا ما قاله السامري وما أنّبه به موسى وما عاقبه الله به فى الدنيا والآخرة، وما صنعه موسى بالعجل من نسفه وإلقائه فى البحر، ثم بين لهم أن الإله

الإيضاح

الحق هو الذي يحيط علمه بما فى السموات والأرض، لا ذاك الجماد الذي لا يضر ولا ينفع، ولا يرد جوابا، ولا يسمع خطابا. الإيضاح (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به) أي ولقد قال هرون لعبدة العجل من بنى إسرائيل ناصحا لهم من قبل رجوع موسى إليهم يا قوم إنما اختبر الله إيمانكم ومحافظتكم على دينكم بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار، ليعلم به الصحيح الإيمان منكم من المريض الشاك فى دينه. (وإن ربكم الرحمن) أي وإن خالقكم وخالق كل شىء هو الذي عمت رحمته جميع مخلوقاته، فآتاهم ما فيه كمالهم الجسمى والروحي، وما به سعادتهم فى معاشهم ومعادهم. وفى ذكر الربوبية والرحمة استمالة لهم إلى الحق إثر زجرهم عن الباطل، وتذكير لهم بإنجائهم من فرعون وعذابه، وتنبيه لهم إلى أنهم متى تابوا قبلت توبتهم. (فاتبعونى وأطيعوا أمرى) أي فاتبعونى فيما آمركم به من عبادتى وترك عبادة العجل، وأطيعونى فى اتباع ما يبلغكم رسولى. ثم بين أنهم لم يسمعوا نصحه، ولم يطيعوا أمره. (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) أي قال عبدة العجل من قوم موسى لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يرجع موسى إلينا، لنرى ماذا يقول، وماذا يرى فى ذلك؟. وما مقصدهم من ذلك إلا التعلل والتسويف وعدم إجابة طلب هرون. ثم ذكر مقال موسى لهرون بعد أن فرغ من خطاب قومه وبيان خطأ فعلهم. (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) أي قال موسى لهرون: أىّ شىء منعك حين رأيت ضلالهم أن تلحقنى إلى جبل الطور بمن آمن معك من بنى إسرائيل؟.

وقد كان موسى يرى أن مفارقة هرون لهم، وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية يكون أزجر لهم من الاقتصار على النصائح وحدها، لما فى ذلك من الدلالة على شديد الغضب والإنكار عليهم، فإن مفارقة الرئيس المحبوب لديهم من أجل أمر مبغوض لديهم مما تشق على النفوس، وتقتضى ترك ذلك الأمر الذي يكرهه. (أفعصيت أمرى) فيما قدمت إليك من قولى: «اخلفنى فى قومى وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين» . فلما أقام بينهم ولم يبالغ فى الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة امره. فترفّق هرون فى خطاب موسى استعطافا له وترقيقا لقلبه إذ أضافه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه. ال يا بن أم لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى) أي فامتلأ موسى غضبا مما رأى، وألقى ما فى يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه فقال: يا بن أمي لا تأخذ بشعر لحيتى ولا بشعر رأسى. وقد روى أن موسى أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله، وكان عليه السلام حديدا غضو با لله تعالى، وقد شاهد ما شاهد، وغلب على ظنه تقصير هرون عليه السلام ففعل ما فعل. قال صاحب الكشاف: كان موسى عليه السلام رجلا حديدا مجبولا على الحدة والخشونة والتصلب فى كل شىء، شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام، أن ألقى ألواح التوراة، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، غضبا لله واستنكافا وحميّة، وعنّف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو المكاشف، قابضا على شعر رأسه (وكان أفرع) وعلى شعر وجهه يجره إليه اه. ثم بين علة هذا النهى بأنى لست عاصيا أمرك ولا مقصرا فى المصلحة، بل: نى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل ولم ترقب قولى) أي إنى خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرقوا، فتريثت حتى تكون أنت المتدارك ذلك بنفسك،

المتلافيه برأيك، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتنى به، ولم يكن بد من مراقبة ذلك والعمل على موجبه. وخلاصة ذلك- إنى رأيت من صواب الرأى أن أحفظ العامة وأداريهم على وجه لا يختل به نظامهم، ولا يكون سببا للومك حتى ترجع فتتدارك الأمر بحسب ما ترى ولا سيما أن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوننى. وبعد أن انتهى من سماع اعتذار قومه وإسنادهم الفساد إلى السامرىّ ومن سماع اعتذار هارون- وجه الكلام إلى السامري. (قال فما خطبك يا سامرى) أي قال موسى للسامرى: ما شأنك وما الذي دهاك حتى فعلت ذلك الأمر الجلل؟ وقد خاطبه بهذا ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه، ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم. (قال بصرت بما لم يبصروا به) أي قال السامري: إنى عرفت ما لم يعرفه القوم ولم تعرفه أنت، وعرفت أن ما أنتم عليه ليس بالحق. (فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها) أي وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من سنتك ودينك فطرحته، كما يقال فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه، ويتبع طريقته، وأجرى الكلام على طريق الغيبة وهو يخاطبه على نهج قول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير فى كذا وبماذا يأمر الأمير؟ قاله أبو مسلم الأصفهانى، وأيده الرازي وقال إنه أقرب إلى التحقيق. وخلاصة هذا- إن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والتعنيف والسؤال عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم- رد عليه بأنه كان استن بسنته، واقتفى أثره وتبع دينه، ثم استبان له أن ذلك هو الضلال بعينه، وأنه ليس من الحق فى شىء فطرحه وراءه ظهريا وسار على النهج الذي رأى وفى التعبير بكلمة (الرسول) على هذا نوع من التهكم والسخرية، لأنه جاحد

مكذب له، فهو على نحو ما حكى الله عن بعض الجاحدين بقوله: «وقالوا يا ايها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون» وهم لا يؤمنون بالإنزال عليه. (وكذلك سولت لى نفسى) أي كما زينت لى نفسى أولا اتباع سنتك واقتفاء أثرك، زينت لى أيضا ترك ذلك بمحض الهوى لا لشىء آخر من برهان عقلى أو نقلى أو إلهام إلهى. والخلاصة- لم يدعنى إلى ما فعلت إلا هوى النفس فحسب: ولما سمع موسى من السامري ما سمع بيّن له ما سينزل به من الجزاء فى الدنيا والآخرة وذكر له حال إلهه، أما عزاؤه هو فى الدنيا فما حكاه سبحانه عنه. (قال فاذهب فإن لك فى الحياة أن تقول لا مساس) أي قال له: اذهب فأنت طريد من بين الناس، فلا يخالطك أحد ولا تخالط أحدا، حتى لو سئلت عن حالك لم تقل إلا أنه لا مساس: أي لا يماسّنى أحد، ولا أماسّ أحدا، قال مقاتل: إن موسى عليه السلام أمره هو وأهله بالخروج من محلة بنى إسرائيل، فخرج طريدا فى البراري. وروى أنه لما قال له موسى ذلك هرب، فجعل يهيم فى البريّة مع السباع والوحش، ولا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه. وقصارى ذلك- إنه خاف وهرب، وجعل يهيم فى الصحارى والقفار حتى صار لبعده عن الناس كأنه قائل ذلك. وأما جزاؤه فى الآخرة فقد ذكره بقوله: (وإن لك موعدا لن تخلفه) أي وإن لك موعدا فى الآخرة لن يخلفكه الله، بل سينجزه لك البتة، بعد أن يعاقبك فى الدنيا، وهو آت لا محيص منه. وأما حال إلهه فقد بينه بقوله: (وانظر إلى إلهك الذى ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه فى اليم نسفا)

[سورة طه (20) : الآيات 99 إلى 104]

أي وانظر إلى هذا المعبود بزعمك الذي عكفت على عبادته، لنبردنّه بالمبرد ثم لنذرينه فى البحر إذا صار سحالة كذرات الهباء. ولقد برّ موسى فى قسمه وفعل ما أوعده به كما يدل على ذلك قوله (وانظر إلى إلهك) ولم يصرح بهذا تنبيها إلى وضوحه واستحالة الخلف فى وعيده المؤكد باليمين. وفى فعله ذلك به عقوبة للسامرى، وإظهار لغباوة المفتونين به لمن له أدنى نظر. وبعد أن فرغ من إبطال الباطل شرع فى تحقيق الدين الحق فقال: (إنما إلهكم الله الذى لا إله إلا هو) أي ليس هذا بإلهكم، وإنما المستحق للعبادة والتعظيم الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغى العبادة إلا له، فكل شىء فقير إليه، وهو الخالق لكل شىء. (وسع كل شىء علما) أي هو العالم بكل شىء وقد أحاط بكل شىء عدّا، فلا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين. [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) تفسير المفردات ذكرا: أي قرآنا كما قال: «يا أيها الذى نزل عليه الذكر» وسمى بذلك، لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، والوزر: الحمل الثقيل

المعنى الجملي

والمراد به العقوبة التي تثقل على حاملها، والصور: قرن ونحوه ينفخ فيه حين يدعى الناس إلى المحشر كما ينفخ فيه فى الدنيا حين الأسفار وفى المعسكرات، زرقا: أي زرق الأبدان سود الوجوه، لما هم فيه من الشدائد والأهوال، يتخافتون بينهم: أي يخفضون أصواتهم ويخفونها، لشدة ما يرون من الهول، إلا عشرا: أي عشرة أيام، أمثلهم طريقة: أي أعدلهم رأيا، وأرجحهم عقلا. المعنى الجملي بعد أن شرح قصص موسى عليه السلام مع فرعون أولا ثم مع السامري ثانيا على نمط بديع وأسلوب قويم- بين لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن مثل هذا القصص عن الأمم الماضية والقرون الغابرة كعاد وثمود وأصحاب الأيكة، نلقيه إليك تسلية لقلبك، وإذهابا لحزنك إذ به تعرف ما حدث للرسل من قبلك من شدائد الأهوال، وتذكيرا للمستبصرين فى دينهم، وتأكيدا للحجة على من عاند وكابر من غيرهم. الإيضاح (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) يخاطب الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ويبين له أنه كما قص عليه خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على هذا الأسلوب الرائع والمسلك البديع- يقص عليه أخبار الحوادث التي جرت على الأمم الخالية، ليكون له فى ذلك سلوة، ليتأسى بالأنبياء السالفين وما لا قوه من أممهم من شديد العناد والجحود والتكذيب ومكابدة الشدائد والأهوال. (وقد آتيناك من لدنا ذكرا) أي وقد أعطيناك من لدنا كتابا جديرا بالتذكر به، لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يعط نبىّ قبلك مثله، فهو جامع للأخبار، حاو للأحكام التي فيها صلاح حال البشر فى دينهم ودنياهم، مشتمل على مكارم الأخلاق، وسامى الآداب التي بها يرتفع قدر الأمم وينبه ذكرها

(من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) أي من كذب به وأعرض عن اتباعه وابتغى الهدى من غيره، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم، وسيحمل يوم القيامة من الأوزار والآثام ما لا يقدر على حمله، بل ينقض ظهره، وبمعنى الآية قوله: «ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده» . وكل من بلغه القرآن من العرب والعجم من أهل الكتاب وغيرهم فهو نذير له، فمن اتبعه هدى ومن أعرض عنه ضل وشقى فى الدنيا، والنار موعده يوم القيامة كما قال «لانذركم به ومن بلغ» . (خالدين فيه) أي مقيمين فى ذلك الوزر أي فى عقوبته لا يجدون عنها محيصا ولا انفكاكا. (وساء لهم يوم القيامة حملا) أي وبئس الحمل الذي حملوه من الأوزار والآثام جزاء إعراضهم وسائر ذنوبهم. (يوم ينفخ فى الصور) أي هذا اليوم هو يوم ينفخ فى الصور النفخة الثانية إيذانا بالقيام للحشر والحساب. (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) أي وفى هذا اليوم يساق المجرمون إلى المحشر شاحبى الألوان زرق الوجوه، لما هم فيه من مكابدة الأهوال ومقاساة الشدائد التي تحلّ بهم. (يتخافتون بينهم) أي يخفضون أصواتهم ويهمس بعضهم فى أذن بعض، لما امتلأت به قلوبهم من الرعب والذعر. وبمعنى الآية قوله تعالى: «فلا تسمع إلا همسا» . (إن لبثتم إلا عشرا) أي يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم فى الدنيا إلا عشرة أيام، ذاك أنهم لما عاينوا تلك الأهوال ذهلوا عن مقدار عمرهم فى الدنيا، ولم يذكروا إلا القليل فقالوا ما عشنا إلا تلك الأيام القلائل. والإنسان حين الشدائد والأهوال تغيب عنه أظهر الأشياء، وأكثرها خطورا بباله.

[سورة طه (20) : الآيات 105 إلى 112]

(نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) أي نحن أعلم بالذي يقولونه فى مدة لبثهم، لا هم، حين يقول أعدلهم رأيا وأكملهم عقلا: ما لبثتم إلا يوما واحدا. ذاك أن الدنيا وإن تكررت أوقاتها، وتعاقبت لياليها وأيامها- قصيرة المدى إذا قيست بالنظر إلى يوم القيامة وكأن غرضهم بذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر الأجل على نحو ما جاء فى قوله: «ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة» وقوله «قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين» . [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 112] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) تفسير المفردات ينسفها: أي يجعلها ذرات صغيرة ثم يصيرها هباء منثورا، يذرها: أي يتركها، القاع: الأرض التي لا بناء فيها ولا نبات قاله ابن الأعرابى، والصفصف:

المعنى الجملي

الأرض الملساء، والعوج: الانخفاض، والأمت: النتوء اليسير يقال مد حبله حتى ما فيه أمت، والداعي: هو داعى الله إلى المحشر لا عوج له: أي لا عوج لدعائه فلا يميل إلى ناس دون ناس، بل ليسمع الجميع، خشعت: ذلت، والهمس: الصوت الخفىّ، وعنت: خضعت وانقادت، ومن ذلك العاني: وهو الأسير، والقيوم: القائم بتدبير أمور عباده ومجازاة كل نفس بما كسبت، خاب: أي خسر، والظلم الأول: الشرك. والظلم الثاني: منع الثواب عن المستحق، والهضم: النقص. المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه حال يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال التي تجعل المجرمين يتخافتون فى حديثهم وينسون مقدار لبثهم فى الدنيا، ويحشرون زرق الوجوه والأبدان إلى نحو أولئك مما سلف- قفى على ذلك بذكر سؤال من لم يؤمن بالحشر- عن الجبال وأحوالها فى ذلك اليوم ثم الإجابة عنه، وضم إلى الجواب أمورا أخر تشرح شؤون هذا اليوم وأهواله، فبين أن الأرض فى ذلك اليوم تكون مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، وأن الناس يسرعون إلى إجابة الداعي، ولا يسمع لهم كلام إلا همس، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين إلا إذا أذن لهم الرحمن ورضى للمشفوع له قولا، ثم ذكر أن الله هو العليم بما أصابوا من خير أو شر، وهم لا يحيطون به علما، وفى ذلك اليوم تذل الوجوه وتخضع للواحد الديان، وقد خسر حينئذ من ظلم نفسه، فأشرك مع الله غيره، وعبد معه سواه، وعصى أوامره ونواهيه. أما المتقون فإنهم لا يظلمون، فلا يزاد فى سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم. أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت الآية (ويسئلونك عن الجبال) إلخ. ولا شك أن سؤالهم هذا سؤال تهكم واستهزاء وطعن فى الحشر والنشر، لا سؤال معرفة للحق وتثبيت له.

الإيضاح

الإيضاح (ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) أي ويسألك المشركون أيها الرسول عن الجبال كيف تكون يوم القيامة؟ فقل مجيبا لهم يدكّها ربى دكا، ويصيّرها هباء تذروه الرياح. (فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) أي فيدع أماكنها من الأرض بعد نسفها ملساء مستوية، لا نبات فيها ولا بناء، ولا ارتفاع ولا انخفاض. وخلاصة هذا- لا ترى فى الأرض يومئذ واديا ولا رابية، ولا مكانا مرتفعا ولا منخفضا. (يومئذ يتبعون الداعى لا عوج له) أي يوم يرى الناس هذه الأهوال يتبعون صوت داعى الله الذي يجمعهم إلى موقف الحساب والجزاء، ولا يكون لهم ميل عنه ولا انحراف، ولكنهم سراعا إليه يقبلون، إذا أمروا بشىء قالوا لبّيك، ونحن بين يديك، والأمر منك وإليك كما قال: «مهطعين إلى الداع» وقال: «أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا» . (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) أي وعلمت الخلائق أن لا مالك لهم سواه، ولا يسمع لهم صوت يزيد على الهمس الذي لا يكاد يفهم إلا بتحريك الشفتين لضعفه، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه، ويضعف صوته، ويختلط قوله، ويطول غمه، قاله أبو مسلم. (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا) أي يومئذ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضى له قولا صدر منه. والفاسق قد قال قولا يرضاه الرحمن فقد قال لا إله إلا الله كما روى عن ابن عباس. والخلاصة- إن الشفاعة لا تكون نافعة للمشفوع له إلا بشرطين: (1) إذن الله للشافع بالشفاعة.

(2) رضا الله عن قول صدر من المشفوع له، ليأذن بشفاعة الشافع له. وقصارى ذلك- إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن فى أن يشفع له، وكان له قول يرضى. وبمعنى الآية قوله تعالى: «من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه» وقوله «وكم من ملك فى السماوات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى» وقوله: «ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون» وقوله: «يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا» . ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه علل ذلك بقوله: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) أي يعلم ما بين أيدى عباده من شؤون الدنيا، وما خلفهم من أمور الآخرة، وهم لا يعلمون جملة ذلك ولا تفصيله. ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها فقال: (وعنت الوجوه للحى القيوم) أي واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القائم على خلقه بتدبير شؤونهم، وتصريف أمورهم. وخص الوجوه بالذكر، لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة، ولأن آثار الذل والغبطة والسرور تظهر عليها. (وقد خاب من حمل ظلما) أي وقد حرم الثواب من وافى الموقف وهو مشرك بالله، كافر بأنبيائه، أو تارك لأوامره، منغمس فى معاصيه. وبعد أن ذكر أهوال يوم القيامة بين حال المؤمنين حينئذ فقال: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) أي ومن يعمل صالح الأعمال على قدر طاقته، وهو مؤمن بربه ورسله، وما أنزله عليهم من كتبه فلا يخاف من الله ظلما بأن يحمل عليه سيئات غيره وأوزاره، ولا يخاف أن يهضمه حسناته فينقصه ثوابها، ونحو الآية قوله: «ولا تزر وازرة وزر أخرى» .

[سورة طه (20) : الآيات 113 إلى 114]

وخلاصة ذلك- إنه لا يؤاخذ العبد بذنب لم يعمله، ولا تبطل له حسنة قد عملها. [سورة طه (20) : الآيات 113 الى 114] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) تفسير المفردات صرّفنا: كررنا وفصلنا، ذكرا: أي عظة وعبرة، فتعالى الله: أي تنزه وتقدس الحق: أي الثابت فى ذاته وصفاته، يقضى إليك وحيه: أي يتم جبريل تبليغه لك. المعنى الجملي ذكر سبحانه أنه كما أنزل الآيات المشتملة على الوعيد المنبئة بما سيحدث من أحوال القيامة وأهوالها- أنزل القرآن كله كذلك على نمط واحد قرآنا عربيا ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم البديع، والأسلوب العجيب الخارج عن طوق البشر، ثم بين عز اسمه نفع هذا القرآن لعباده، وأنه سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وأنه يصون رسوله عن السهو والنسيان فى أمر الوحى. روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحرص على أخذ القرآن من جبريل عليه السلام فيعجل بقراءته قبل استتمام جبريل إياه مخافة النسيان، فنهى عن ذلك وقيل له: لا تعجل به إلى أن يستتم وحيه فيكون أخذك إياه عن تثبت وسكون، وادع ربك أن يزيدك فهما وعلما.

الإيضاح

الإيضاح (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا) أي وكما أنزلنا ما ذكر من الوعد والوعيد وأحوال يوم القيامة وأهوالها- أنزلنا القرآن كله بأسلوب عربى مبين، ليتفهمه العرب الذين نزل عليهم، ويتفقهوا بدراسته، ويسعدوا بالعمل بما حواه مما فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم. (وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) أي وخوفناهم فيه بضروب من الوعيد، كى يجتنبوا الشرك والوقوع فى المعاصي والآثام، أو يحدث لهم عظة تدعوهم إلى فعل الطاعات. وخلاصة ذلك- إنهم بدراستهم إما أن يصلوا إلى مرتبة هى ترك المعاصي والوقوع فى الآثام، وإما أن يرتقوا إلى مرتبة هى فوق ذلك، وهى أن يفعلوا الطاعات ويؤدوا الفرائض والواجبات. وبعد أن عظم الله كتابه أردفه بتعظيم نفسه فقال: (فتعالى الله الملك الحق) أي تقدس الله المتصرف بالأمر والنهى، الحقيق بأن يرجى وعده، ويخشى وعيده، وهو الثابت الذي لا يزول ولا يتغير- من ألا يكون إنزال القرآن على من أنزل عليهم مؤديا إلى الغاية التي أنزل لأجلها وهى تركهم للمعاصى وفعلهم للطاعات. ولا يخفى ما فى هذا من طلب الإقبال على دراسة القرآن وبيان أن قوارعه وزواجره سياسات إلهية، فيها صلاح الدارين، لا يحيد عنها إلا من خذله الله، وأن ما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله، لا يحوم الباطل حول حماه، وأن المحق من أقبل عليه بشراشره، والمبطل من أعرض عن تدبر زواجره. (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أي ولا تعجل بقراءته فى نفسك من قبل أن يتم جبريل تبليغه لك، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا ألقى

[سورة طه (20) : الآيات 115 إلى 127]

عليه جبريل القرآن يتبعه حين يتلفظ بكل حرف وكل كلمة خوفا أن يصدر عليه الصلاة والسلام ولم يحفظه، فنهى عن ذلك، إذ ربما يشغله التلفظ بالكلمة عن سماع ما بعدها: وفى هذا أنزل قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه» . وخلاصة ذلك- أنصت حين نزول الوحى بالقرآن عليك، حتى إذا فرغ الملك من قراءته، اقرأه بعده. (وقل رب زدنى علما) أي سل الله زيادة فى العلم دون استعجال بتلاوة الوحى، فإن ما أوحى إليك يبقى لا محالة، روى الترمذي عن أبى هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم انفعني بما علمتنى، وعلمنى ما ينفعنى، وزدنى علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدنى إيمانا وفقها، ويقينا وعلما. [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)

تفسير المفردات

تفسير المفردات العهد: الوصية يقال عهد إليه الملك بكذا وتقدم إليه بكذا: إذا أمره وأوصاه به، من قبل: أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين، فنسى: أي فترك، ولم نجدله: أي ولم نعلم، والعزم على الشيء: تصميم الرأى والثبات عليه، أبى أي امتنع، فتشقى: أي تتعب بمتاعب الدنيا وهى لا تكاد تحصى، تظمأ: تعطش، تضحى، أي تصيبك الشمس يقال ضحا كسعى وضحى كرضى: إذا أصابته الشمس بحرها اللافح، شجرة الخلد: أي الشجرة التي إذا أكل منها الإنسان خلد ولم يمت، لا يبلى: أي لا يفنى، طفقا يخصفان أي شرعا يلزقان ورق التين على سوءاتهما لسترها، غوى: أي ضل عن الرشد حيث اغترّ بقول عدوه، اصطفاه وقربه إليه، وهدى: أي إلى الثبات على التوبة، عن ذكرى: أي عن الهداية بكتبي السماوية، والضنك: الضيق الشديد، أعمى: أي عن النظر فى الحجج والبراهين الإلهية، عن آياتنا: أي عن أدلتنا، فنسيتها: أي فتركتها، وتنسى: أي تترك، أسرف: أي انهمك فى الشهوات واسترسل فيها. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه صرّف الوعيد فى القرآن وكرره لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا- قفىّ على هذا ببيان أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم آدم

الإيضاح

إلى الوعيد ونسى العهد، فمخالفتهم قديمة، وعرقهم فيها راسخ ثم فصل عهده لآدم وبين كيف نسيه وفقد العزم، ثم ذكر عصيان إبليس للسجود لآدم وتحذيره من الخروج من الجنة إذا هو اتبع نصائحه، وهو بعد كل هذا قد أطاع وساوسه وقبل إرشاده، فأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها، فأخرج من الجنة مع إعلامه بأن الشيطان عدو له ولذريته، ثم بين أن من جاءه الهدى من ربه واتبعه عاش فى الدنيا قرير العين هادىء البال، ويؤتى فى الآخرة ما شاء الله أن يؤتى من ألوان النعيم والسعادة، ومن أعرض عن ذلك عاش فى الدنيا عيشة ضنكا، إذ هو لشدة حرصه عليها يخاف انتقاصها، ومن ثمّ يغلب عليه الشح والبخل، ويفعل كل منكر فى سبيل جمع المال من أي وجه كان، ولا يبالى أمن حلال كان أم من حرام؟ ولذلك تراهم يقولون (الغاية تبرر الواسطة) . أما المؤمن الذي لا يعنيه جمع حطام الدنيا فإنه فى سرور وراحة قلّ ماله أو كثر. وهو فى الآخرة يكون أعمى عن الحجة التي تنقذه من ذلك الخزي الدائم، والعذاب المقيم. ثم أردف هذا ببيان سبب ذلك وهو إعراضه فى الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد، ومن ثم يسير فى جهالته إلى يوم القيامة، وهذا مما يوجب له أشد الآلام الروحية من حين مماته إلى حين الحشر، وهكذا يجازى الله المسرفين المكذبين بآياته فى الدنيا والآخرة جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات، وارتكبوا من الذنوب والآثام كما قال سبحانه: «لهم عذاب فى الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق» . الإيضاح (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) أي ولقد وصينا آدم وقلنا له: إن إبليس عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة، فوسوس إليه الشيطان فأطاعه،

وخالف أمرى، وترك العهد الذي أمرته، به ولم يهتم بالعمل به، ولم نجد له ثباتا فى الرأى ولا تصميما فى العزيمه. وخلاصة ذلك- إنه ترك ما وصّى به من الاحتراس من الأكل من الشجرة. ثم بين سبحانه ما عهد إليه به وكيفية نسيانه وفقدان عزمه فقال: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) أي واذكر أيها الرسول الكريم ما وقع فى ذلك الحين منا ومن آدم، حتى يستبين لك نسيانه وفقدان عزمه إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فلبّوا الأمر إلا إبليس فإنه امتنع وأبى أن يكون مع الساجدين. وقد تقدم هذا القصص فى سورة البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف، وسيأتى ذكره فى سورة ص، وفيه إشارة إلى تكريم آدم وتشريفه، وتفضيله على كثير ممن خلق. (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) أي فقلنا له عقب ذلك رعاية لإرشاده ونصحه: إن هذا الذي رأيت منه ما رأيت- عدوّ لك ولزوجك، ومن ثم لم يسجد لك وخالف أمرى وعصانى، فلا تطيعاه فيما يأمر كما به. (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) أي فلا يكونن سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعبا بمتاعب الدنيا التي لا تكاد تحصى. وخلاصة ذلك- إياك أن تسعى فى إخراجك منها فتتعب وتشقى فى طلب رزقك، وأنت هاهنا فى عيش رغد هنىء بلا كلفة ولا مشقة. ثم علل ما يوجبه النهى عن ذلك فقال: (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) أي لا يكون لك فى الجنة جوع ولا عرى، ولا ظمأ ولا إصابة بحر الشمس. وقرن بين الجوع والعرى أوّلا، لأن فى الجوع ذل الباطن وفى العرى ذل الظاهر، وبين حر الباطن وهو العطش وحر الظاهر وهو الضّحى ثانيا.

وخلاصة ذلك- إن الجنة اجتمعت فيها الأسباب التي توجب راحة الإنسان، وذلك مما يوجب الاهتمام بتحصيل الوسائل التي توجب البقاء فيها، والابتعاد عما يدعو إلى الخروج منها. وقصارى ذلك- إن لك فيها تمتعا بأنواع المعاش، وتنعما بأصناف النعم، من المآكل الشهية، والملابس البهية. وبعد أن بين أنه عظم آدم وعرفه شدة عداوة إبليس له بين أنه قبل نصحه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها فقال: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟) أي فألقى الشيطان النصيحة إلى آدم وقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت ولم تمت، وملكت ملكا لا ينقضى ولا يفنى. (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها وأطاعا أمر إبليس وخالفا أمر ربهما، فانكشفت عورتهما وكانت مستورة عن أعينهما، فشرعا يلزقان ورق التين عليهما، ليغطيا جسمهما. (وعصى آدم ربه فغوى) أي وخالف أمر ربه، وتعدى ما لم يكن له أن يتعدى إليه، من الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها. (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) أي ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته، ورزقه التوبة والعمل بما يرضيه حين قال هو وزوجه: «ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين» . (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) أي قال الرب الذي انتهكت حرمة داره وخولف أمره. انزلا من الجنة إلى الأرض، أنتما عدو لإبليس وذريته، وإبليس عدوكما وعدو ذريتكما. (فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) أي فإن يأتكم

يا آدم وحواء وذريتهما بيان لسبيلى وما أختاره لخلقى من دين بإرسال الرسل والكتب فمن اتبع ذلك وعمل به ولم يزغ عنه فإنى أهديه فى الدنيا وأرشده إلى محجة الصواب ولا يشقى فى الآخرة. أخرج ابن أبى شيبة والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: «أجار الله تابع القرآن من أن يضل فى الدنيا أو يشقى فى الآخرة، ثم قرأ الآية» وروى عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «من اتبع كتاب الله هداه الله تعالى من الضلالة فى الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة» . (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا) أي ومن أعرض عن ذكرى الذي أذكّره به وتولى عنه، ولم يتعظ به فينزجر عما هو مقيم عليه من مخالفة أمر ربه، فإن له معيشة ضيقة شديدة لما يكون فيه من القلق والحرص على الدنيا والتهالك على ازديادها والخوف من انتقاصها، فترى الشح غالبا عليه، والبخل راسخا فى أعراقه: (ونحشره يوم القيامة أعمى) عن الجنة، لأن الجهالة التي كانت له فى الدنيا تبقى كذلك فى الآخرة، وهذا يصير سببا لأعظم الآلام الروحية له: وقصارى ذلك- إن الله عز اسمه جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه العيش الهنيء الذي لا همّ فيه ولا غم، وجعل لمن أعرض عن دينه التعب والنصب، وهو فى الآخرة أشد تعبا، وأعظم ضيقا، وأكثر ألما: (قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا؟) أي قال رب لم حشرتنى أعمى عن حجتى وعن رؤية الأشياء على حقيتها، وقد كنت فى الدنيا ذا بصر بذلك كله؟، ونحو الآية: «ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما» : (قال) ربه مجيبا هذا السائل: (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) أي فكما تركت آياتنا ترك للنسى الذي لا يذكر أصلا وأعرضت عنها- اليوم ننساك فنتركك فى النار.

[سورة طه (20) : الآيات 128 إلى 132]

(وكذلك نجزى من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه) أي وهكذا نعاقب من أسرف، فعصى ربه ولم يؤمن برسله وكتبه، فنجعل له معيشة ضنكا. أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال فى الآية: يقول كل مال أعطيته عبدا من عبادى قلّ أو كثر لا يتقينى فيه فلا خير فيه وهو الضنك فى المعيشة. وعن عكرمة ومالك بن دينار نحوه، وقيل إن تلك المعيشة له فى القبر بأن يعذّب فيه، وقد روى ذلك عن جماعة منهم ابن مسعود وأبو سعيد الخدرىّ ومجاهد، وروى ذلك مرفوعا أيضا فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن حبّان وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «المؤمن فى قبره فى روضة خضراء، ويرحب له قبره سبعين ذراعا، ويضىء حتى يكون كالقمر ليلة البدر، وهل تدرون فيم أنزلت (فإن له معيشة ضنكا) ؟ قالوا: الله ورسوله اعلم، قال عذاب الكافر فى قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا، هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رءوس يخدشونه ويلسعونه وينفخون فى جسمه إلى يوم يبعثون» . وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن زيد قال: المعيشة الضنك فى النار شوك وزقّوم وغسلين وضريع، وليس فى القبر ولا فى الدنيا معيشة، وما المعيشة والحياة إلا فى الآخرة. (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) أي ولعذاب الآخرة فى النار أشد مما نعذبهم به فى الدنيا وأكثر بقاء، لأنه لا أمد له ولا نهاية. [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 132] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أفلم يهد لهم: أي أفلم يبيّن لهم العبر، لأولى النهى: أي لذوى العقول الراجحة لزاما: أي لازما لهم لا يتأخر عنهم، فسبح بحمد ربك: أي اشتغل بتنزيه الله وتعظيمه آناء الليل: ساعاته واحدها إنى وإنو (بكسر الهمزة وسكون النون) ولا تمدن عينيك: أي لا تطيلن النظر رغبة واستحسانا، متعنا: أي جعلناهم يتلذذون بما يدركون من المناظر الحسنة، ويسمعون من الأصوات المطربة، ويشمّون من الروائح الطيبة، أزواجا: أي أشكالا وأشباها، زهرة الحياة الدنيا: أي زينتها وبهجتها، لنفتنهم: أي لنبتليهم ونختبرهم، ورزق ربك: أي ما ادّخره لك، واصطبر عليها: أي دم عليها. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حال من أعرض عن ذكر الله فى الآخرة بقوله: ونحشره يوم القيامة أعمى- أتبعه بما يكون عبرة للمشركين لو تفكروا فيه، وهو ما نزل بالمكذبين بالرسل ممن قبلهم من الأمم الذين يمرون بديارهم بكرة وعشيا كقوم عاد وثمود، وكيف أصبحت ديارهم خرابا بلقعا ليس فيها ديّار ولا نافخ نار، ثم بين أنه لولا سبق الكلمة بتأخير عذابهم إلى أجل مسمى لحاق بهم مثل ما حاق بمن قبلهم، ثم أمر رسوله بالصبر على ما يسمونه به من نحو قولهم: إنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مجنون وعدم المبالاة بمقالتهم، وعليه أن يكثر من التسبيح وعبادة ربه آناء الليل وأطراف النهار ولا يلتفت إلى شىء مما متّع به الكفار من زهرة الدنيا التي أوتيت

الإيضاح

لهم لتكون ابتلاء واختبارا، وما عند الله خير منها وأبقى، ثم طلب إليه أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، وهو لا يكلفه رزقا لنفسه ولا لغيره، فالله يرزقه من واسع فضله، وعظيم عطائه، والعاقبة لمن اتقى: «فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض» . الإيضاح (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم؟) أي أفلم يرشدهم إلى وجه العبر، إهلاكنا كثيرا من الأمم الماضية، والقرون الغابرة، التي يمرون عليها مصبحين وبالليل كعاد وثمود الذين يشاهدون آثارهم العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعيم ثم ما حلّ بهم من صنوف البلاء، فيتعظوا ويعتبروا ويؤمنوا بالله ورسوله خوف أن يصيبهم بكفرهم مثل ما أصاب هؤلاء السابقين. وللمشاهدة من العبرة ما ليس لغيرها فقد قالوا «ليس الخبر كالخبر» وقالوا: «ما راء كمن سمع» . وخلاصة ذلك- إن فى مشاهدة ما حصل للأمم الماضية، ورؤية آثارها البائدة التي يمرون عليها فى رحلاتهم فى الصيف لعبرة وزاجرا لهم لو كانوا يعقلون. ثم علل هذا الزجر والإنكار بقوله: (إن فى ذلك لآيات لأولى النهى) أي إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذبة لرسلنا وحلول المثلات بهم لكفرهم بربهم- لعبرا وعظات لأرباب الحجا الدين ينهاهم دينهم، ويؤنّهم عقلهم، من مواقعة ما يضرهم. ولما هدد المشركين بالهلاك كهلاك المكذبين من الماضين، ذكر سبب تأخير ذلك عنهم فقال: (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) أي ولولا الكلمة النافذة التي سبقت منا فى الأزل، وهى أن أمة محمد- وإن كذبوا- سيؤخر عذابهم

ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من عذاب الاستئصال، كما قال: «بل الساعة موعدهم» لعجّل لهم العذاب كفاء ما قاموا به من تكذيب الرسول وإيذائه. وقد جعل العلماء من الحكمة فى تأخير العذاب أنه ربما تاب بعضهم أو خرج من أصلاب بعضهم من يؤمن، فيكون فى ذلك إكرام لنبيّه، ورحمة لأمته، وتكثير لسواد أتباعه، وإلى ذلك أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» . وبعد أن أخبر سبحانه بأنه لا يهلك أحدا قبل استيفاء أجله- أمره بالصبر على ما يقولون فقال: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار) أي فاصبر أيها الرسول على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من نحو قولهم: إنك لساحر، وإنك لمجنون، وإنك لشاعر، واشتغل بتنزيه الله تعالى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وفى ساعات الليل المختلفة وفى أطراف النهار، والمراد من مثل ذلك عموم الأوقات، وفى صحيح مسلم سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لن يلج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» . وفى الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون فى رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا وقرأ هذه الآية» . وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى يا بن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك» . وعن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من كانت الدنيا همه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» .

(لعلك ترضى) أي سبحه رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك من الثواب ونحو الآية قوله تعالى: «ولسوف يعطيك ربك فترضى» وفى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله تعالى: يا أهل الجنة فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، فيقول هل رضيتم؟ فيقولون ربنا ومالنا لا ترضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول إنى أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون وأىّ شىء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا» ولما صبّر رسوله على ما يقولون وأمره بالتسبيح- أتبع ذلك بنهيه عن مدّ عينيه إلى ما متّعوا به من زينة الدنيا فقال: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) أي ولا تطل النظر استحسانا ورغبة فيما متّع به هؤلاء المترفون من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، نختبرهم بها، ونعلم هل يؤدون شكرها أو تكون وبالا عليهم ونكالا لهم، وقد آتاك ربك خيرا مما آتاهم، فرضاه خير وأبقى كما قال: «ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم» . وخلاصة هذا- التنفير من الانهماك فى التمتع بزهرة الدنيا لسوء عاقبتها. وبعد أن أمر الله نبيه بتزكية النفس أمره أن يأمر أهله بالصلاة فقال: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) أي وأمر أهلك أيها الرسول بالصلاة، وحافظ أنت عليها فعلا، فإن الوعظ بالفعل أشد أثرا منه بالقول كما قال: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلّا لنفسك كان ذا التعليم

وإنا إنما نريد منك ومنهم العبادة والتقوى، ولا نطلب منك رزقا كما تطلب السادة من عبيدهم الخراج- والعاقبة الجميلة لمن اتقى الله وأطاعه، فإن ما عندهم ينقطع، وما عند الله دائم لا يفنى كما قال: «ما عندكم ينفد وما عند الله باق» . والخلاصة- داوم على الصلاة، لا نكلفك مالا، بل نكلفك عملا نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا، ونحن نعطيك المال ونكسبكه ولا نسألكه، والعاقبة الصالحة لأهل الخشية والتقوى، لا لمن لا يخاف عقابا ولا يرجو ثوابا كما قال: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» وقال: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» . عن أبى رافع قال: «نزل ضيف برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن عنده ما يصلحه فأرسلنى إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب، فقال لا إلا برهن، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فقال أما والله إنى لأمين فى السماء أمين فى الأرض، ولئن أسلفنى أو باعني لأدّيت إليه، اذهب بدرعي الحديد، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية كأنه يعزيه عن الدنيا» أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبى شيبة فى جماعة آخرين. وأخرج ابن المنذر والطبراني وأبو نعيم فى الحلية عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا: وأمر أهلك بالصلاة. وأخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلى من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلى حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم: الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية.

[سورة طه (20) : الآيات 133 إلى 135]

[سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135] وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) تفسير المفردات لولا: أي هلا وهى كلمة تفيد الحث على حدوث ما بعدها، آية: أي معجزة تدل على صدقه، البينة: القرآن، والصحف الأولى: التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية، نذل: أي نهان، ونخزى: أي نفتضح، متربص: أي منتظر، الصراط: الطريق، والسوىّ: أي المستقيم. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه رسوله بالصبر على أقاويلهم التي أرادوا بها تكذيبه وكيده له وشديد أذاه- حكى بعض تلك الأقاويل الباطلة، ومنها ادعاؤهم أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم أبان لهم أنهم يوم القيامة سيعترفون بأنه آية بينة، فلو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا، ومن ثم لم نهلكهم قبله حتى تنقطع معذرتهم كما حكى الله عنهم من قوله: «قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شىء» . ثم ختم السورة بضرب من الوعيد وكأنه قال: قل لهم كل منا ومنكم منتظر لما يئول إليه أمرنا وأمركم، وحينئذ يتميز المحق من المبطل بما يظهر على الأول من أنواع

الإيضاح

الكرامة والتعظيم، وعلى الثاني من ضروب الخزي والإهانة، ويظهر من منّا سار على الطريق السوي ومن المهتدى؟. الإيضاح (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) أي وقال المشركون: هلا يأتينا بمعجزة تدل على صدقه فى دعوى النبوة كما أتى صالح قومه بالناقة وموسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى وإبراء الأكمه، وهم بذلك قد بلغوا فى العناد والمكابرة شأوا بعيدا، أفلا يعدّون ما شاهدوه من المعجزات التي تخر لها صمّ الجبال من قبيل الآيات حتى يجترئوا على التفوه بهذه الكلمة الشنعاء؟ ونحو الآية قوله فى سورة العنكبوت: «وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم، إن فى ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون» وقوله: «فلياتنا بآية كما أرسل الأولون» . (أولم تأتهم بينة ما فى الصحف الأولى؟) أي ألم يأتهم القرآن وهو أم الآيات وأنفع المعجزات، فالعلم هو أجلّ الأمور وأعلاها، وهو مبدأ الأمور ومنتهاها، فبه تنال السعادة الأبدية، فأى معجزة تطلب بعده، وهو الذي جمع ما فيه مصلحة البشر، وصلاح المجتمع، فى معاشه ومعاده، وهو الشاهد على حقية ما فى الكتب قبله وما جاء فيها من العقائد وأصول الأحكام التي اتفقت عليها الرسل كافة. وخلاصة ذلك- أليس قد جاءهم القرآن وهو البينة والشاهد على صحة ما فى الكتب الأولى، وكفى بذلك آية، ولا حاجة للرسول بعدها إلى آية.

ثم بين أن المشركين يوم القيامة يعترفون بأن القرآن آية بينة، فقال: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) أي ولو أنا أهلكناهم فى الدنيا بعذاب الاستئصال من قبل إتيان البينة وهى القرآن لقالوا يوم القيامة: ربنا هلا أرسلت إلينا فى الدنيا رسولا معه الآيات الدالة على صدقه، فنتبع حججك وما تنزله عليه من أمرك ونهيك من قبل أن نذل بتعذيبك ونفتضح به. والخلاصة- إنا لو أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وننزل عليهم الكتاب العظيم- لقالوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، لكنا لم نهلكهم قبله فانقطعت معذرتهم. (قل كل متربص فتربصوا، فستعلمون من أصحاب الصراط السوى ومن اهتدى) أي قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المشركين بالله: كلنا منتظر لمن يكون الفلاح؟ وإلام يئول أمرى وأمركم؟ فتربصوا وارتقبوا فستعلمون من أهل الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه إذا جاء أمر الله وقامت القيامة؟ أنحن أم أنتم؟ وستعلمون من المهتدى الذي هو على سنن الطريق القاصد؟. ونحو الآية قوله: «وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا؟» . وقوله: «سيعلمون غدا من الكذاب الأشر» . وغير خاف ما فى بدء السورة وخاتمتها من المناسبة، فإنها بدئت ببيان أن القرآن قد أنزل لتحمل تعب الإبلاغ، وحيث قد بلغت فلا عليك، وختمت بطلب الإقبال على طاعة الله قدر الطاقة وأمر أهله بالصلاة وترك الذين لا ينجع فيهم الإنذار، فإنه تذكرة لمن يخشى، وسيندم المخالف حيث لا ينفع الندم.

خلاصة لما تضمنتة السورة الكريمة

خلاصة لما تضمنتة السورة الكريمة (1) إن القرآن أنزل على نبيه صلّى الله عليه وسلّم تذكرة لمن يخشى، أنزله من خلق الأرض والسموات العلى. (2) قصص موسى عليه السلام وتكليمه ربه فى الطور، وحديث العصا واليد البيضاء من غير سوء، وطلبه من ربه أن يجعل له أخاه هرون وزيرا وإجابة سؤاله فى ذلك، وامتنانه عليه بما حدث له حين وضع فى التابوت وألقى فى اليمّ وقصّ أخته ورجوعه إلى أمه، ثم طلب ربه منه أن يبلغ فرعون دعوته وينصح له فى قبول دينه وإقامة شعائره، وإجابة فرعون له بأنه ساحر كذاب، وأنه سيجمع له السحرة ثم إيمان السحرة به فتوعدهم فرعون بالعذاب فلم يأبهوا له، واستمر فرعون فى غيه حتى أوحى الله إلى موسى أن يخرج من مصر فأتبعه هو وجنوده فأغرقوا. (3) حديث السامري وإضلاله بنى إسرائيل باتخاذه عجلا جسدا له خوار حين كان موسى بالطور، وحين رجع ورأى ذلك هاله الأمر وغضب من أخيه هرون وأخذ يجره من رأسه، ثم إغلاظه القول للسامرى ودعوته عليه بأنه يعيش طريدا فى الحياة وسيعذبه الله فى الآخرة أشد العذاب، ثم نسف إلهه وإلقاؤه فى اليمّ. (4) بيان أن من أعرض عن القرآن فإنه سيلقى الجزاء والوبال يوم القيامة. (5) ذكر أوصاف المجرمين حينئذ، وأنهم يختلفون فى مدة لبثهم فى الدنيا. (6) سؤال المشركين عن حال الجبال يوم القيامة، وأن الأصوات حينئذ تخشع للرحمن فلا تسمع إلا همسا، وأن الوجوه تخضع لربها القائم بأمرها. (7) وصف القرآن الكريم بأنه عربى مبين أنزل تذكرة للناس، وأن الله سيعصم رسوله من نسيانه، فلا ينبغى أن يعجل بتلاوته قبل أن يتم تبليغ جبريل له. (8) قصص آدم عليه السلام مع إبليس، وترك آدم للعهد الذي وصاه به ربه وقبول نصيحة إبليس مما كان سببا فى إخراجه من الجنة.

(9) بيان أن من أعرض عن ذكر ربه عاش فى الدنيا عيشة ضنكا وعمى فى الآخرة عن الحجة التي تنقذه من العذاب، لأنه قد كان فى الدنيا أعمى عنها تاركا لها فتركه ربه من إنعامه. (10) بيان أن فى المثلات التي سلفت للأمم قبلهم ممن يمرون على ديارهم مصبحين وبالليل كعاد وثمود- ما كان ينبغى أن يكون رادعا لهم وزاجرا لو تدبروا وعقلوا. (11) إن كلمة الله قد سبقت بأنه سيؤخر عذاب المشركين إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة. (12) طلبه من رسوله تنزيهه والثناء عليه آناء الليل وأطراف النهار رجاء أن يعطيه ما يرضيه. (13) أمر رسوله أن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر هو عليها وهى لا تكون شاغلا لهم عن الرزق. (14) طلب المشركين من الرسول أن يأتيهم بآية من نوع ما أوتى الرسل الأولون (15) إن إنزال القرآن على رسوله ليزيح العلة ويمنع المعذرة يوم القيامة، فلا يقولون: لولا أرسلت إلينا رسولا وأتيتنا بكتاب نتبعه. (16) وعيد المشركين بأنهم يتربصون، وسيعلمون يوم القيامة لمن يكون حسن العاقبة؟. ربنا إنك رءوف بعبادك رحيم بهم، ربنا اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل ربنا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. تمت مسودّة هذا الجزء فى صبيحة اليوم الرابع والعشرين من شوال سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 فى الحديث «رحمة الله علينا وعلى موسى» 7 إذا تعارض ضرران وجب تحمل الأدنى 8 «لا يقضى الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» 9 لذكر قصص الخضر فى القرآن فوائد 13 يأجوج ومأجوج 15 سد ذى القرنين 19 سبب خروج جنكيزخان 22 فى الحديث «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه» 26 ما أثبته العلم الحديث فى عمر الأرض 28 الشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة 34 دعاء زكريا ربه 35 إجابة الله دعاءه 37 علامة إجابة الدعاء 39 ما وصف الله به يحيى 42 الاستعاذة لا تؤثر إلا فى التقى 45 السعى فى الرزق لا ينافى التوكل 47 من هارون الذي نسبت إليه مريم؟ 48 ما وصف به عيسى نفسه

الصفحة المبحث 49 اليهود والنصارى ينكرون تكلم عيسى فى المهد 52 قوة سمع الكفار وحدة أبصارهم يوم القيامة 55 الحوار الذي دار بين إبراهيم وأبيه آزر 59 قد اجتمعت لإبراهيم خلال لم نجتمع لغيره 61 قصص إسماعيل 63 قصص إدريس- ما وصفه الله به 65 ما جازى به سبحانه أولئك الأنبياء 68 «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» 68 أوصاف الجنة 70 احتبس جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أياما 71 لا تتنزل الملائكة بالوحى إلا بأمر الله 73 جميع الخلائق ترد على النار 74 تهديد منكرى البعث 75 ينجّى الله المتقين، ويترك الكافرين جاثين على الركب 78 سنة الله أن يستدرج أهل الضلال ليزدادوا إثما 79 الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا 80 قال الكافر لأعطينّ مالا وولدا يوم القيامة 82 اتخذ المشركون آلهة يعبدونهم ويجعلونهم شفعاء عند ربهم 83 الشياطين يغرون الكافرين بالمعاصي 84 يحشر المتقون ركبانا والكافرون مشاة 86 قال الكافرون اتخذ الرحمن ولدا 87 يأتى المرء يوم القيامة وحيدا منفردا عن الأهل والإخوان 88 فى الحديث «اللهم اجعل لى عهدا، واجعل لى فى صدور المؤمنين ودا» .

الصفحة المبحث 94 أصح الآراء فى الحروف المقطعة التي فى أوائل السور 95 القرآن تذكرة لمن يخشى الله 98 ما حدث لموسى وهو عائد إلى مصر 100 أمر موسى بإقامة الصلاة 102 صفات العصا 104 اليد البيضاء 105 أمر موسى بدعوة فرعون إلى التوحيد 106 ما طلبه موسى من ربه 107 اختص هارون بأمور 109 منن الله على موسى وهارون 113 تبليغ موسى وهارون الرسالة إلى فرعون 119 الدلائل التي أتى بها موسى لفرعون 120 العناد الذي أظهره فرعون بعد أن أظهر له موسى الأدلة 122 ما أعده فرعون ليوم الزينة 125 خلاصة ما استقر رأى السحرة عليه بعد التشاور 125 ما ذكره السحرة لدفع هذا الخطر 127 تخيير موسى بين أن يلقى أو يلقى السحرة 128 ما عشا به السحرة عصيهم 129 لا يفلح الساحر حيث أتى 130 ما قاله فرعون للسحرة مهددا لهم 132 أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة 133 «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر»

الصفحة المبحث 135 نعمة الله على بنى إسرائيل 139 أضل السامري قومه بنى إسرائيل 142 عتاب موسى لهارون على سكوته على بنى إسرائيل 144 كان موسى رجلا حديدا مجبولا على التصلب فى كل شىء 145 مقالة موسى للسامرى ورده عليه 146 خاف السامري وهرب إلى البرية 148 فى قصص الأنبياء الماضين عبرة وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم 149 يحشر المجرمون زرق الوجوه شاحبى الألوان 151 قال المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم ما يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ 152 الشفاعة لا تنفع إلا بشروط 153 تستسلم الخلائق للحى الذي لا يموت 154 نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العجلة بالقرآن قبل أن يستتم الوحى 156 كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم انفعني بما علمتنى إلخ 159 نصح آدم وإرشاده 160 وسوسة إبليس لآدم 161 من اتبع هدى الله فلا يضل ولا يشقى 164 فى إهلاك من قبلهم من الأمم عبرة لهم 165 رؤية الله سبحانه يوم القيامة 169 طلب المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم آية كآيات موسى وعيسى 170 لا يعذب الله أمة إلا إذا أرسل إليها رسولا

سورة الأنبياء

الجزء السابع عشر سورة الأنبياء هى مكية وآيها اثنتا عشرة ومائة. أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال: «بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادى» . وعن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم مثواه، وكلّم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه الرجل فقال: إنى استقطعت رسول الله واديا ما فى ديار العرب واد أفضل، وقد أردت أن أقطع إليك قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر: لا حاجة لى فى قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا، يريد هذه السورة. ومناسبتها لما قبلها. أن السورة السالفة ختمت بأن الناس قد شغلتهم زهرة الدنيا التي جعلها الله لهم فتنة، وأن الله نهى رسوله أن يتطلع إليها، وأمره بالصلاة والصبر عليها، وأن العاقبة للمتقين- وبدئت هذه السورة بمثل ما ختمت به السالفة، فذكر فيها أن الناس غافلون عن الساعة والحساب، وأنهم إذا سمعوا القرآن استمعوه وهم لاعبون، وقلوبهم لاهية عنه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 إلى 6]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) تفسير المفردات اقترب وقرب بمعنى، والمراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه: وهو مجىء الساعة، والناس: هم المكلفون، معرضون: أي عن التأهب لهذا اليوم، من ذكر: أي قرآن، محدث: أي جديد إنزاله، يلعبون: أي يسخرون ويستهزئون، لاهية قلوبهم: أي غافلة قلوبهم عن ذكر الله، النجوى: التناجي، والمراد أنهم أخفوا تناجيهم ولم يتناجوا بمرأى من غيرهم، أضغاث أحلام: أي تخاليط أحلام رآها فى النوم، افتراه: اختلقه من تلقاء نفسه، بل: كلمة تذكر للانتقال من غرض إلى آخر، ولا تذكر فى القرآن إلا على هذا الوجه كما قال ابن مالك وسبقه إليه صاحب الوسيط ووافقه ابن الحاجب وهو الحق.

الإيضاح

الإيضاح (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) أي دنا حساب الناس على أعمالهم التي عملوها فى دنياهم، وعلى النعم التي أنعمها عليهم ربهم فى أجسامهم وعقولهم ومطاعمهم ومشاربهم، ماذا عملوا فيها؟ هل أطاعوه فيها فانتهوا إلى أمره ونهيه؟ أو عصوه فخالفوا أمره فيها، وهم فى هذه الحياة فى غفلة عما يفعل الله بهم يوم القيامة، ومن ثم تركوا الفكر والاستعداد لهذا اليوم والتأهب له، جهلا منهم بما هم لاقوه حينئذ من عظيم البلاء وشديد الأهوال وآثر بيان اقتراب هذا اليوم مع أن الكلام مع المشركين المنكرين للبعث، للإشارة إلى أن البعث لا ريب فيه، وأن الذي يرجى بيانه ذكر ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب على وجه أكيد ونهج سديد. وخلاصة ذلك- أنه قد دنا وقت الساعة وهم غافلون عن حسابهم، ساهون لا يتفكرون فى عاقبتهم، مع أن قضية العقل تقضى بجزاء المحسن والمسيء، وإذا هم نبّهوا من غفلتهم بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا، وسدوا أسماعهم عن سماعه. ثم ذكر ما يدل على غفلتهم وإعراضهم بقوله: (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي ما ينزل الله من قرآن ويذكّرهم به إلا استمعوه وهم لاهون لاعبون مستهزئون. والخلاصة- إنه ما جدد لهم الذكر وقتا فوقتا، وكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، إلا زادهم ذلك سخرية واستهزاء. وفى هذا ذم لأولئك الكفار وزجر لغيرهم عن مثله، فالانتفاع بما يسمع لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر، وإلا حصل مجرد الاستماع الذي تشارك البهيمة فيه الإنسان

وبعد أن ذكر ما يظهرونه حين الاستماع من اللهو واللعب، ذكر ما يخفونه بقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي وأسرّ هؤلاء الذين اقتربت الساعة منهم وهم فى غفلتهم معرضون- التناجي بينهم وأخفوه عن سواهم. ثم بين ما تناجوا به فقال: (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؟) أي قالوا فى تناجيهم متعجّبين من دعواه النبوة، هل هذا الذي آتاكم بهذا الذكر إلا بشر مثلكم فى خلقه وأخلاقه، يأكل كما تأكلون ويشرب كما تشربون، ويموت كما تموتون، فكيف يختص دونكم بالرسالة؟ (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟) أي ما هذا الذي أتى به مما لا تقدرون عليه إلا سحر لا حقيقة له، فكيف تعلمون ذلك ثم تذعنون له وتتبعونه وتجيبون دعوته؟. وخلاصة ذلك- إنهم طعنوا فى نبوته بأمرين: (1) إن الرسول لا يكون إلا ملكا. (2) إن الذي يظهر على يديه من قبيل السحر. وإنما أسروا ذلك، لأنه كالتشاور بينهم والتحاور لطلب الطريق الموصل إلى هدم دينه، وقد جرت عادة المتشاورين فى خطب عظيم ألا يشركوا أعداءهم فى مشورتهم، بل يجتهدون فى طىّ سرهم عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا كما جاء فى حكمهم: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» . فأجابهم عليه السلام عما قالوا: (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فىّ، فإن ربكم عليم بذلك وإنه معاقبكم عليه، وهو السميع لجميع المسموعات، العليم بجميع المعلومات. وفى هذا من الوعيد والتهديد ما لا يخفى. وإنما آثر كلمة (القول) التي تعم السر والجهر دون كلمة (السر) التي تقدمت

فى الكلام- للإيذان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة، لا تفاوت فيه بالجلاء والخفاء كما فى علوم العباد. وخلاصة ذلك- إنه يعلم هذا الضرب من الكلام وأعلى منه وأدنى منه، وفى هذا مبالغة فى علمه تعالى بكل ما يمكن أن يسمع أو يعلم. ثم بين سبحانه أنهم اقتسموا القول فى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيما يقوله فقال: (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ، بَلِ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي إنهم لم يقتصروا على قولهم السابق (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وعلى قولهم فيما ظهر على يديه أنه سحر- بل قال بعضهم: أخلاط أحلام قد رآها فى النوم، وقال آخرون: بل اختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى الله، وقال قوم: بل هو شاعر وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معانى لا حقيقة لها. وخلاصة ذلك- إنهم ما صدّقوا بحكمة هذا القرآن، ولا أقروا أنه من عند الله، ولا أنه وحي أوحاه الله إليه، بل قالوا هذه المقالات. وهذا الاضطراب والتردد فى القول دأب المحجوج المغلوب على أمره، لا يتردد إلا بين باطل وأبطل منه، ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه. وقد ذكرت هذه المقالات على هذا الوضع، إشارة إلى ترقيها فى الفساد، فإن كونها سحرا أقرب من كونها أضغاث أحلام، فقد يقال: «إن من البيان لسحرا» ، بخلاف تخاليط الكلام التي لا تضبط، ولا شبه لها بهذا النظم البديع، وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد، لأنه عليه الصلاة والسلام قد شهر بالأمانة والصدق- إلى أنهم أعرف الناس بالفرق بين المنظوم والمنثور، وبين ما يساق له الشعر، وما سيق له هذا الكلام، إلى أنهم يعلمون من مخالطته مدى أربعين سنة أنه لا يتسهل له الشعر وإن أراده. ولما قد حوا فى القرآن طلبوا آية أخرى غيره فقالوا: (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي إن كان صادقا فى أن الله بعثه رسولا إلينا، وأن الذي يتلوه وحي أوحاه الله إليه- فليأتنا بحجة تدل على ما يقول ويدّعى كما جاء

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 إلى 10]

به الرسل الأولون من قبله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وناقة صالح وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله ولا يأتى بها إلا الأنبياء والرسل. وفى التعبير بقولهم (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) بيان كونها آيات مسلمات تثبت الرسالة بمثلها، ويترتب عليها المقصود، وليس لأحد أن ينازع فيها. ثم كذبهم سبحانه فيما تضمنته خاتمة مقالهم من الوعد بالإيمان حين إتيان الآية المقترحة، وبين أن فى ترك إجابتهم عما طلبوا- إبقاء عليهم فإنهم لو أوتوها ولم يؤمنوا بها لاستؤصلوا بالعذاب كما هى سنة الله فى الأمم السالفة إذا كذبت رسلها بعد إتيانهم بما اقترحوا، ولكن قد سبقت كلمة الله أن مشركى هذه الأمة لا يعذّبون بعذاب الاستئصال فقال: (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ؟) أي إن هؤلاء أشد عتوّا من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات ووعدوا أنهم يؤمنون حين مجيئها، فلما جاءتهم نكثوا العهد وخالفوا، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلو أعطوا ما اقترحوا لكانوا أشد نكثا، فينزل بهم عذاب الاستئصال، وقد سبقت كلمة ربك أنه سيؤخر عذابهم إلى اليوم المعلوم. قال قتادة: قال أهل مكة للنبى صلّى الله عليه وسلّم إذا كان ما تقوله حقا ويسرّك أن نؤمن، فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان، ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال بل أستأنى بقومي فأنزل الله «ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ» الآية. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 الى 10] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أهل الذكر: هم أهل الكتاب، الجسد: كالجسم إلا أنه لا يقال لغير الإنسان كما قال الخليل بن أحمد، خالدين: أي باقين، الوعد: هو نصرهم وإهلاك أعدائهم، المسرفين: أي الكافرين، ذكركم: أي عظتكم، تعقلون: أي تتدبرون ما فى تضاعيفه من العبر والمواعظ. المعنى الجملي لما ذكر سبحانه فيما سلف إنكارهم لأن يكون الرسول بشرا بقولهم «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أجاب عن هذه الشبهة بأن هذه سنة الله فى الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ليس ببدع بينهم، وإن كنتم فى ريب من ذلك فاسألوا أهل الكتاب من قبلكم ثم ذكر أن الرسل كسائر البشر فى سنن الطبيعة البشرية يأكلون الطعام ولا يخلدون فى الأرض، بل يموتون كما يموت سائر الناس، وقد صدقهم الله وعده، فينجّيهم ومن آمن بهم ويهلك المكذبين لهم، وأعقب ذلك بأن فى القرآن عظة لهم لو كانوا يعقلون ما فى تضاعيفه من مواعظ وزواجر، ووعد ووعيد. الإيضاح (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي وما أرسلنا قبلك أيها الرسول رسولا إلى أمة من الأمم التي خلت من قبلك إلا رجلا مثلهم نوحى إليه ما نريد من أمرنا ونهينا، لا ملكا نوحى إليه بوساطة الناموس ما نوحى من الشرائع والأحكام والقصص والأخبار، فما بالهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل؟. وجاء بمعنى الآية قوله: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ من أهل القرى» وقوله: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» وقوله حكاية عمن تقدم من الأمم: «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا» ؟.

ثم أمرهم سبحانه أن يسألوا فى ذلك أهل الكتاب من اليهود والنصارى تبكيتا لهم وإزالة لما علق بأذهانهم من الاستبعاد بعد أن بين لهم وجه الحق فقال: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فاسألوا أهل الكتاب ممن يؤمن بالتوراة والإنجيل- يخبروكم عن ذلك إن كنتم لا تعلمون الحق، ولا يستبين لكم الصواب. وبعد أن بين أنه صلّى الله عليه وسلم على سنة من مضى من الرسل فى كونه رجلا- بين أنه على سنتهم فى سائر الأوصاف التي حكم بها على البشر فى معيشتهم وموتهم فقال: (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) أي وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك إلى الأمم الماضية قبل أمتك- جسدا لا يأكلون الطعام: أي لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام، بل جعلناهم أجسادا مثلك يأكلون الطعام وتعرض لهم أطوار البشر جميعا من صحة ومرض وسرور وحزن ونوم ويقظة، وما كانوا مخلّدين لا يموتون ولا يفنون، ولكنهم غبروا حينا من الدهر وهم أحياء ثم طواهم الثرى وضمتهم القبور. وخلاصة ذلك- إنا جعلنا الرسل أجساما تتغذّى حين الحياة، ثم يصير أمرها إلى الفناء بعد استيفاء آجالها، ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون، وما كانوا مخلدين بأجسادهم، بل يموتون كما مات الناس قبلهم وبعدهم، وإنما امتازوا عن غيرهم من سائر الناس بما يأتيهم عن الله من الوحى والزلفى عنده. (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أي إنا أرسلنا رسلا من البشر وصدقناهم وعدنا فنصرناهم على المكذبين وأنجيناهم هم ومن آمن معهم وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم بتكذيبهم رسل ربهم.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 إلى 15]

ونحو الآية قوله: «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» . وبعد أن حقق رسالته صلّى الله عليه وسلّم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام- شرع يحقق فضل القرآن الكريم ويبين نفعه للناس بعد أن ذكر فى صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واضطرابهم فى شأنه فقال: (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي ولقد آتيناكم كتابا فيه عظتكم بما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق، وفاضل الآداب، وسديد الشرائع والأحكام، مما فيه سعادة البشر فى حياتهم الدنيوية والأخروية. ثم حثهم على التدبر فى أمر هذا الكتاب فقال: (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتفكرون فيما فى تضاعيفه من فنون المواعظ، وقوارع الزواجر، فتحذروا الوقوع فيما يخالف أمره ونهيه، ولا يخفى ما فى هذا من الحث على التدبر، لأن الخوف من لوازم العقل، فمن لم يتدبر فكأنه لا عقل له. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 15] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) تفسير المفردات كم: لفظ يفيد تكثير وقوع ما بعدها، القصم: هو الكسر بتفريق الأجزاء وإذهاب التئامها، والإحساس: الإدراك بالحساسة: أي أدركوا بحاسة البصر عذابنا

المعنى الجملي

الشديد، والبأس: الشدة، والركض: الفرار والهرب يقال ركض الرجل الفرس برجليه إذا كدّه بساقيه ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، ومنه «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» والإتراف: إبطار النعمة يقال أترف فلان أي وسّع عليه فى معاشه وقلّ فيه همه، يا ويلنا: أي يا هلاكنا، دعواهم: أي دعوتهم التي يردّدونها، حصيدا: أي كالزرع المحصود بالمناجل، خامدين: أي كالنار التي خمدت وانطفأت. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنه سبحانه أهلك المسرفين فى كفرهم بالله، والعاصين لأوامره ونواهيه- بيّن هنا طريق إهلاكهم، وكثرة ما حدث من ذلك فى كثير من الأمم، ثم بين أنه أنشأ بعد الهالكين قوما آخرين، وأنهم حينما أحسّوا بأس الله فروا هاربين، فقيل لهم على ضرب من التهكم والسخرية فلترجعوا إلى ما كنتم فيه من الترف والنعيم وإلى تلك المساكن المشيدة والفرش المنجّدة، فلعلكم تسألون عما جرى عليكم، ونزل بأموالكم ومنازلكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، ثم بعد أن يئسوا من الخلاص وأيقنوا بالعذاب قالوا هلاكا لنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا، مستوجبين العذاب بما قدمنا، وما زالوا يكررون هذه الكلمة ويرددونها، وجعلوها هجّيراهم حتى صاروا كالنبات المحصود والنار الخامدة. الإيضاح (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) أي وكثير من أهل القرى أهلكناهم بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله، ثم أنشأنا بعد إهلاكهم أمما أخرى سواهم. ونحو الآية قوله: «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ» وقوله: «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» .

ثم بين حالهم حين حلول البأس بهم فقال: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي فلما أيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما أوعدهم أنبياؤهم- إذا هم يهربون سراعا عجلين يعدون منهزمين. والخلاصة- إنهم لما علموا شدة بأسنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا فى ديارهم هاربين من قواهم بعد أن كانوا قد تجبروا على رسلهم وقالوا لهم «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» . ثم ذكر أنهم فى ذلك الحين ينهون عن الهرب ويقال لهم: (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) أي يقال لهم على طريق الاستهزاء والتهكم: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور، والمساكن الطيبة، والفرش المنجّدة الوثيرة، لعلكم تقصدون للسؤال عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائلين عما تشاهدون وتعلمون. ثم حكى عنهم ما أجابوا به القائلين لهم لا تركضوا وارجعوا فقال: (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي قالوا حين يئسوا من الخلاص إذ نزل بهم بأس الله بظلمهم أنفسهم: هلاكا لنا، لكفرنا بربنا- وهذا منهم اعتراف بالكفر المستتبع للعذاب، وندم عليه حين لا ينفع الندم: ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) أي فما زالوا يرددون هذه المقالة، ويجعلونها هجّيراهم حتى حصدوا حصدا، وخمدت حركاتهم، وهدأت أصواتهم، ولم ينبسوا ببنت شفة. وخلاصة هذا- إنهم صاروا يكررون الاعتراف بظلمهم أنفسهم، ولكن لم ينفعهم ذلك كما قال: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» حتى لم يبق لهم حس ولا حركة، وأبيدوا كما يباد الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 إلى 20]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 16 الى 20] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) تفسير المفردات اللعب: الفعل لا يقصد به مقصد صحيح، واللهو: الفعل يعمل ترويحا عن النفس، ومن ثم تسمى المرأة والولد لهوا لأنه يستروح بكل منهما، ويقال لا مرأة الرجل وولده ريحانتاه، من لدنا: أي من عندنا، القذف: الرمي البعيد، وأصل الدمغ: كسر الشيء الرّخو ويراد به هنا القهر والإهلاك، زاهق: أي زائل ذاهب، الويل: الهلاك، من عنده: هم الملائكة، لا يستكبرون أي لا يتعظمون، يستحسرون: أي يكلون ويتعبون، يقال حسر البعير إذا أعيا وكلّ، ومثل استحسر وتحسر، لا يفترون: أي لا يضعفون ولا يتراخون. المعنى الجملي بعد أن ذكر مطاعنهم فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بتلك المقالات التي سلف ذكرها- قفّى على ذلك بذكر فساد تلك المطاعن وبيان أن من أنكر نبوته فقد جعل تلك المعجزات التي ظهرت على يديه من باب العبث واللعب. تنزه ربنا عن ذلك، فإنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلا لعبادته ومعرفته ومجازاة من قام بهما بالثواب والنعيم، ومن لم يقم بذلك بالعقاب الأليم، ولن يتم علم هذا إلا بإنزال الكتب، وإرسال الرسل صلوات الله عليهم، فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لهوا ولعبا، تعالى خالقهما علوّا كبيرا.

الإيضاح

ثم أردف هذا بالرد على من ادعى أن المسيح ابن الله وعزير ابن الله، بأنه لو اتخذ ولدا لا تخذه من الملائكة، وعقّب على هذا بأن الغلبة للحق دائما مهما طال أمد الباطل، وأن جميع من فى السموات والأرض كلهم عبيده لا يستكبرون عن عبادته ولا يملون. الإيضاح (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي وما خلقنا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع، وما بينهما من أصناف المخلوقات البديعة- للهو واللعب، بل خلقناهما لفوائد دينية، وحكم ربانية، كأن تكون دليلا على معرفة الخالق لها، ووسيلة للعظة والاعتبار- إلى ما فيها من منافع أخرى لا حصر لها. وخلاصة ذلك- إن إيجاد العالم كله، ولا سيما النوع الإنسانى واستخلافه فى الأرض- مبنى على بديع الحكم، مستتبع لغايات جليلة لا تخفى على ذوى الألباب، وقد علم بعضها من أنعموا النظر فى الكون وعجائبه، وأوتوا حظا من صادق المعرفة، فعرفوا بعض أسراره، وانتفعوا ببعض ما أودع فى باطن الأرض وما على ظاهر سطحها، مما كان سببا فى رقىّ الإنسان، ولا يزال العلم يولّد لنا كل يوم عجيبا، ويظهر لنا من كنوزها غريبا «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» . ونحو الآية قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» . ثم أكد نفى اللعب بقوله: (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) أي لو أردنا أن نتخذ لهوا كما يتخذ العباد لاتخذناه من عندنا من العوالم المجردة من المادة كالملائكة، لكنا لا نتنزل لملابسة ما هو من شأنكم المادي كالزوج والولد، إذ لا يجمل بنا، لأنه

خارج عن سنن حكمتنا، وقوانين نظامنا، ورفعة قدرنا، فنحن لا نلهو بالصور الجسمية، ولا بالنفوس الروحية. وخلاصة هذا- إنا خلقناكم لحكمة، وصورناكم لغاية، وجعلنا لكم السمع والأبصار لمنافع قدرناها لكم، لا للهونا ولعبنا، ومن ثم لا نترككم سدى، بل نحاسبكم ونؤاخذكم، والجدّ مطلبنا، واللهو واللعب من شأن العبيد المخلوقين، لا من شأن رب العالمين. ونحو الآية قوله: «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» . (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي إن من شأننا أن رمى الحق الذي من جملته الجدّ، على الباطل الذي منه اللعب فيكسر دماغه بحيث يشق غشاءه فيؤدى ذلك إلى زهوق روحه فيهلك- وقد شبه الباطل بإنسان كسر دماغه فهلك-. وإذا كان هذا شأننا فكيف نترككم بلا إنذار كأننا خلقناكم لنلهو بكم. (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي ولكم العذاب الشديد من وصفكم ربكم بغير صفته، وقيلكم إنه اتخذ ولدا وزوجة وافترائكم ذلك عليه. ولما حكى كلام الطاعنين فى النبوات وأجاب عنها، وبين أن غرضهم من تلك المطاعن إنما هو التمرد والعناد- بين فى هذه الآية أنه غنى عن طاعتهم، لأنه هو المالك لجميع المخلوقات، والملائكة على جلالة قدرهم مطيعون له خائفون منه، فأجدر بالبشر على ضعفهم أن يطيعوه، وما أخلقهم أن يعبدوه، فقال: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله تعالى جميع المخلوقات خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة دون أن يكون لأحد فى ذلك سلطان لا استقلالا ولا استتباعا.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 إلى 29]

(وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي والملائكة الذين شرفت منزلتهم عند ربهم لا يستعظمون عن عبادته ولا يكلّون ولا يتعبون: وتخصيص الملائكة بالذكر للدلالة على رفعة شأنهم، كما خصص جبريل من بين الملائكة فى قوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ» . ثم بين سبحانه كيف يعبدون ربهم فقال: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) فهم دائبون فى العمل ليلا ونهارا، مطيعون قصدا وعملا، قادرون عليه كما قال فى الآية الأخرى: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» . وخلاصة ذلك- المبالغة فى تنزيه الله وتسبيحه، وهذا لا يمنع من تخلل فترات لا يفعلون فيها ذلك، كما يقال: فلان لا يفتر عن ثنائك وشكر آلائك. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 29] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ينشرون: من أنشره. أي أحياه، لفسدتا: أي لخرجتا عن نظامهما وخربتا، فسبحان الله: أي تنزيها له عما وصفوه به، هذا ذكر من معى: أي هذا الوحى المتضمن للتوحيد عظة أمتى، وذكر من قبلى: أي وموعظتهم وإرشادهم، لا يسبقونه بالقول: أي لا يتكلمون حتى يأمرهم، مكرمون: أي مقربون عنده، من خشيته: أي بسبب خوف عذابه، مشفقون: أي حذرون. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فى سابق الآيات أن كثيرا من الأمم المكذبة لرسلها قد أبيدت وأنشئ بعدها أقوام آخرون، وأنهم حين أحسوا بالبأس ارعووا وندموا حيث لا ينفع الندم ثم أردف ذلك ذكر أن من فى السموات والأرض عبيده، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، ولا يكلّون ولا يملون منها- ذكر هنا أنه كان يجب عليهم أن يبادروا إلى التوحيد، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل فعلوا ضده فكانوا جديرين بالتوبيخ والتعنيف، ثم أقام البرهان على وحدانيته وأنه لو كان فى السموات والأرض إلهان لهلك من فيهما، تنزه ربنا عما يقول هؤلاء المشركون، وقد كذب من اتخذ آلهة لا دليل عليها، وأن جميع الأديان جاءت بإخلاص التوحيد، كما كذب من جعل لله ولدا فقال: الملائكة بنات الله، والملائكة خلق مطيعون لربهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خوفه حذرون، ومن يقل منهم إنه إله فلا جزاء له إلا جهنم، وهى جزاء كل ظالم. الإيضاح (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى.

وإنهم ولا شك بمعزل عن ذلك- والمشركين وإن لم يقولوا ذلك صريحا، فما ادّعوه لها من الألوهية يستدعى ثبوت إحياء الموتى لها، لأنه من خصائصها. ووصف الآلهة بكونها من الأرض- للإشارة إلى أنها من الأصنام التي تعبد فيها، وللإيماء إلى ضعة شأنها، وحقارة أمرها. ثم أقام الدليل العقلي على التوحيد ونفى أن يكون هناك إله غير الله فقال: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) أي لو كان فى السموات والأرض إله غير الله لخريتا وهلك من فيهما- ذاك أنه لو كان فيهما إلهان فإما أن يختلفا أو يتفقا فى التصرف فى الكون، والأول ظاهر البطلان، لأنه إما أن ينفذ مرادهما معا فيريد أحدهما الإيجاد والثاني لا يريده فيثبت الوجود والعدم لشىء اختلفا فيه، وأما أن ينفذ مراد أحدهما دون الثاني، فيكون هذا مغلول اليد عاجزا، والإله لا يكون كذلك، والثاني باطل أيضا، لأنهما إذا أوجداه معا وجب توارد الخلق من خالقين على مخلوق واحد. ولما أثبت بالدليل أن المدبر للسموات والأرض لا يكون إلا واحدا، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله قال: (فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي فتنزيها لله رب العرش المحيط بهذا الكون ومركز تدبير العالم عما يقول هؤلاء المشركون من أن له ولدا أو شريكا. ثم أكد هذا التنزيه بقوله: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أي هو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله، وعلمه وحكمته، وعدله ولطفه، وهو سائل خلقه عما يعملون كما قال: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» وقال: «وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» .

ثم أعاد الإنكار مرة أخرى استفظاعا لشأنهم، واستعظاما لكفرهم، وإظهارا لجهلهم فقال: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي أبعد هذه الأدلة التي ظهرت تقولون: إن لله شركاء؟. ثم أمرهم بإقامة الدليل على صحة ما يدّعون فقال: (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي بعد أن ثبت أنه لا إله غيره، فهاتوا برهانكم على صحة اتخاذ الآلهة من الأصنام والأوثان، ولا سبيل إلى ذلك، لا بالدليل العقلي، لأنه مر بطلانه، ولا بالدليل النقلى، لأن الكتب السماوية جميعا متفقة على هذا، وإلى ذلك أشار بقوله: (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي هذا هو الكتاب المنزل على من معى، وهذه هى الكتب المنزلة على من تقدمنى من الأنبياء كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، انظروا فيها هل تجدون إلا الأمر بالتوحيد والنهى عن الإشراك. قال الزجاج: قيل لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولا من الرسل أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله، فهل فى ذكر من معى وذكر من قبلى إلا توحيد الله؟. وفى هذا تبكيت لهم متضمن إثبات نقيض مدّعاهم، وإذا فليس لهم إلا العجز مركبا. ولما كانوا لا يجدون لهم شبهة فضلا عن حجة، ذمهم على جهلهم بمواضع الحق فقال: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) أي بل أكثر هؤلاء لا يميزون بين الحق والباطل، فلا تؤثّر فيهم الحجة والبرهان ولا يقتنعون به. ثم ذكر أن هذا كان سببا فى إعراضهم وتجافيهم عن سماع الحق فقال: (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فهم لأجل هذا الجهل المستولى على أكثرهم أعرضوا عن

قبول الحق وعن النظر الموصل إليه، فلا يتأملون حجة، ولا يتدبرون برهانا، ولا يتفكرون فى دليل. ثم أكد ما تقدم من أدلة التوحيد فقال: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) أي وما أرسلنا رسولا إلى أمة من الأمم إلا أوحينا إليه أن لا معبود فى السموات والأرض إلا أنا، فأخلصوا لى العبادة وأفردوا لى الألوهة. وخلاصة ذلك- إن الرسل جميعا أرسلوا بالإخلاص والتوحيد لا يقبل منهم سواه ونحو الآية قوله: «واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا، اجعلنا من دون الرّحمن آلهة يعبدون؟» وقوله: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» . وبعد أن بيّن سبحانه بالدلائل الباهرة أنه منزه عن الشريك والندّ- أردف ذلك ببراءته من اتخاذ الولد فقال: (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) أي وقال فريق من هؤلاء المشركين وهم بطون من خزاعة وجهينة وبنى سلمة- الملائكة بنات الله، فرد الله تعالى عليهم بقوله: (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن ذلك، لأن الولد لا بد أن يكون شبيها بالوالد، فلو كان له ولد لأشبهه ولا مجانسة بين النعمة والمنعم، والخالق والمخلوق. ثم أكد إبطال ما سلف بقوله: (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي ليس الملائكة كما قالوا، بل هم عباد مخلوقون له تعالى، فهم ملكه لكنهم مقربون عنده فى منازل عالية، ومقامات سامية. ثم بين سبحانه كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره وتادبهم معه تعالى فقال: (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله.

وخلاصة ذلك- إنهم فى نهاية المراقبة لربهم، يجمعون بين الطاعة فى القول والفعل. ثم علل هذه الطاعة، بعلمهم بأن ربهم محيط بهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم فقال: (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما يعلم ما عملوا وما هم عاملون، لا تخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا، فلا يزالون يراقبونه فى جميع شئونهم. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي وهم لا يشفعون إلا لمن رضى عنه، فلا تطمعوا فى شفاعتهم لكم بغير رضاه تعالى. قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله، وقد ثبت فى الصحيح أن الملائكة يشفعون فى الدار الآخرة، قال قتادة أي لأهل التوحيد. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي وهم من خوف الله والإشفاق من عقابه حذرون أن يعصوه ويخالفوا أمره ونهيه. (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) أي ومن يدعى منهم أنه إله مع الله فجزاؤه جهنم على ما ادعى كسائر المجرمين، ولا يغنى عنه ما سبق من أوصافه ومرضىّ أفعاله. قال قتادة والضحاك وغيرهما: عنى بهذه الآية إبليس حيث ادعى الشركة ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة (إِنِّي إِلهٌ) غيره. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي وهكذا نجزى كل من ظلم نفسه، فكفر بالله وعبد غيره. وخلاصة ما تقدم- إنه تعالى وصف الملائكة بخمس صفات تدل على العبودية وتنافى الولادة. (1) المبالغة فى الطاعة، فإنهم لا يقولون قولا ولا يفعلون فعلا إلا بإذنه. (2) إنه سبحانه يعلم أسرارهم وهم لا يعلمون أسراره، فهو المستحق للعبادة لا هم كما قال عيسى عليه السلام: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» .

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 إلى 33]

(3) (إنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الشفاعة له، ومن يكون إلها أو ولدا للإله لا يكون كذلك. (4) إنهم فى نهاية الإشفاق والوجل من الله. (5) إن حالهم كحال سائر المكلفين فى الوعد والوعيد، فكيف يكونون آلهة [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) تفسير المفردات الرتق: الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة، والفتق: الفصل بين الشيئين الملتصقين، الرواسي: الثوابت واحدها راسية، وتميد: تتحرك وتضطرب، والفجاج واحدها فج، وهو شقة يكتنفها جبلان، والسبل واحدها سبيل: وهو الطريق الواسع والفلك: كل شىء دائر، وجمعه أفلاك. المعنى الجملي بعد أن حكى مقالات أولئك المشركين الذين كانوا يعبدون آلهة من دون الله، ومقالات أولئك الذين قالوا اتخذ الله ولدا من الملائكة وطالبهم بالدليل على صدق ما يدّعون، وبين لهم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك لا من طريق العقل كما هو واضح ولا من طريق النقل، إذ كل الرسل السابقين كان أسّ دعوتهم أن لا إله إلا أنا فاعبدون

الإيضاح

قفى على ذلك بتوبيخهم على عدم تدبرهم الآيات المنصوبة فى الكون الدالة على التوحيد: ولفت أنظارهم إلى أنه لا ينبغى عبادة الأصنام والأوثان، فإن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات لا يعبد سواه من حجر أو شجر لا يضر ولا ينفع. الإيضاح اعلم أنه سبحانه ذكر أدلة ستة تثبت وجود الخالق الواحد القادر، لو تدبرها المنصفون، وعقلها الجاحدون، لم يجدوا مجالا للإنكار، ولا سبيلا إلى الجحد: (1) (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) أي ألم يعلم الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا مرتوقتين: أي ملتحمتين متصلتين، ففصلناهما وأزلنا اتحادهما. وهكذا يقول علماء الفلك حديثا، إذ يثبتون أن الشمس كانت كرة نارية دائرة حول نفسها ملايين السنين، وفى أثناء سيرها السريع انفصلت منها أرضنا والأرضون الأخرى وهى السيارات من خط الاستواء الشمسى، فتباعدت عنها، وما زالت أرضنا دائرة حول نفسها وحول الشمس على نظام خاص بحكم الجاذبية. قال الأستاذ عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الملكي المصري: إن النظرية الحديثة فى كيفية مولد الأرض وأخواتها الكواكب السيارة من الشمس، هى افتراض اقتراب نجم كبير من الشمس فيما مضى من الزمن اقترابا كافيا، فجذب من سطحها كتلة لم تلبث أن انفصلت من الشمس على شكل منهم مدبب الطرفين سميك فى الوسط، ثم تكثفت هذه الكتلة فى الفضاء البارد إلى كتل منفصلة، وبقيت هذه الكتل التي تمثل الأرض وأخواتها الكواكب السيارة تدور بفعل الجاذبية للشمس فى مدارتها حولها بلا انقطاع، وانطفأ نورها لأن كتلها كانت أصغر من أن تحتفظ بصفتها الأصلية قبل الانفصال وهو إشعاع الضوء فالكواكب السيارة ومنها الأرض لا نراها بضوء يتشعع منها، بل بضوء

الشمس منعكسا على سطوحها كما نرى القمر وكما نرى وجوهنا بضوء الشمس أو المصباح منعكسا عليها. والكواكب السيارة تسعة، وهى بترتيب قربها من الشمس عطارد. الزّهرة. الأرض. المرّيخ. المشترى. زحل. أورانوس. نبتون. بلوتوه. ويدخل ضمن هذه الأسرة المجموعة كبيرة العدد من أجسام صغيرة تقع بين مدارى المريخ والمشترى وتدور حول الشمس كسرب من الطير، ومن بينها المذنّبات أيضا، والشهب التي نرى الكثير منها كل ليلة يهوى نحو الأرض ويحترق باحتكاكه بالغلاف الجوى الذي حولها. أما بقية الأجرام السماوية التي نراها ليلا تزين سطح القبة السماوية فهى النجوم. والنجوم شموس موادها المركبة منها هى المواد المركبة منها شمسنا، فسبحان الخلاق العظيم اه. وبعد أزمنة طويلة لا يعلم مداها بردت القشرة الأرضية وصارت صالحة لإنبات بعض أنواع النبات، ثم لسكنى الحيوان ثم لسكنى الإنسان. ولا شك أن هذه النظرية التي لم يكن يعرفها العرب ولا الأمم المعاشرة لهم، ولم تعرف إلا منذ القرن السابع عشر الميلادى ومحّصت بعض التمحيص فى عصرنا الحاضر- تدل أكبر دلالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم، وأن القرآن وحي أرسله إليه ربه هداية للبشر ورحمة للعالمين. وخلاصة ذلك- إن العقل البشرى مستعد لدرس عجائب هذا الكون، ومعرفة سير هذه الكواكب ودورانها بنظام الجاذبية حول الشمس على سنن لا يتغير ولا يتبدل، وقد دل البحث على أنها كلها كانت مجموعة واحدة انفصل بعضها من بعض بأسباب خاصة قدّرها العليم الخبير. وقد أرشد إلى بيان هذا خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله، ولم يكن قومه ولا الأمم المعاصرون لهم يفكرون فيه، مما يدل على أن ذلك وحي أوحى إليه من لدن عليم خبير،

وقد كان هذا وحده كافيا فى الإسراع إلى تصديقه والإيمان برسالته لولا الجحد والإنكار وعمى القلوب «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» . (2) (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) أي وخلقنا من الماء كل حيوان كما قال فى آية أخرى «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» وكذا يحيا به كل نبات وينمو. وقال قتادة: خلقنا كل نام من الماء، فيدخل الحيوان والنبات. ويرى بعض علماء العصر الحاضر أن كل حيوان خلق أولا فى البحر، فأصل جميع الطيور والزواحف وحيوان البر- من البحر. ثم تطبعت بطباع حيوان البر على مدى الأيام وتنوعت أصنافها، ولهم على ذلك كثير من الأدلة. (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بأن يتدبروا هذه الأدلة، فيعلموا بها الخالق الذي لا يشبه غيره، ويتركوا طريق الشرك. (3) (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت، لئلا تميد وتضطرب بهم. وقد أثبت العلم حديثا أن الأرض كانت نارا ملتهبة، ثم بردت قشرتها، وصارت صوّانية صلبة، وقدّروا زمن ذلك بنحو ثلاثمائة مليون سنة. ومما يدل على صدق هذه النظرية ما نراه من حمم النيران التي تخرجها البراكين فى جهات كثيرة من الأرض كما حدث فى سنة 1909 لبركان ويزوف بإيطاليا، وقد طغى على مدينة مسيّنا، وابتلعها فى باطنه ولم يبق منها شيئا. فهذه البراكين أشبه بأفواه تتنفس بها الأرض، لتخرج من باطنها نيرانا ومواد ذائبة، مما يرشد إلى أنها كلها فى أحقاب طويلة كانت كذلك. ولولا هذه القشرة الصّلبة لتفجرت ينابيع النيران من سائر جهاتها كما كانت بعد ما انفصلت من الشمس كثيرة الثوران والفوران.

وهذه القشرة الصوانية البعيدة الفور المغلّفة للكرة النارية هى الحافظة لكرة النار التي تحتها، وهى التي نبتت منها الجبال التي نراها فوق أرضنا، وقد جعلت لحفظ الأرض من أن تميد، وما هى إلا كأسنان لها، طالت وامتدت فوق طبقات الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقى ما تحتها مفتوحا، وإذ ذاك ربما تثور البراكين فى جهات كثيرة من الأرض وتضطرب اضطرابا شديدا وتزلزل زلزالا كثيرا. وخلاصة ذلك- إنه لو لم تكن هذه لجبال التي هى قطعة من قشرة الأرض مرتفعة لما وجد ما يحفظ النيران المشتعلة فى باطن الأرض من الظهور على سطحها بالبراكين والزلازل، وإذ ذاك ربما تضطرب الأرض اضطرابا شديدا وتخرج نيرانها الملتهبة من باطنها وتطغى على سطحها وتهلك الحرث والنسل. وقد قدر العلماء حديثا نسبة الجبال إلى الأرض فقالوا: لو كان قطر الكرة الأرضية مترا لم تزد الجبال على ملليمتر ونصف فحسب. وهذه هى المعجزة الثالثة فى الآية التي ترشد الى أن القرآن وحي يوحى، فما محمد ولا قومه ولا الأمم المعاصرون لهم يعلمون شيئا من هذه الآيات الكونية التي أيد صحتها تقدم العلوم، ففهم ظاهر الأرض وباطنها. وفى هذا مصداق لما أثر عن على كرم الله وجهه «القرآن جديد لا تبلى جدّته» . (4) (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي وجعلنا فى الأرض طرقا بين جبالها يسلكها الناس من قطر إلى قطر ومن إقليم إلى آخر، ليهتدوا بذلك إلى مصالحهم ومهامّ أمورهم المعيشية. (5) (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي إنه تعالى نظّم السماء وجعلها كالسقف المحفوظ من الاختلال وعدم النظام، فقد حفظت الشموس والكواكب فى مداراتها بحيث لا يختلط بعضها ببعض، ولا يختبط بعضها فى بعض، بل جعلت فى أماكنها الخاصة بها بقوة الجاذبية.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 إلى 36]

فالشمس والقمر والكواكب الأخرى متجاذبات حافظات لمداراتها لا تخرج عنها، وإلا اختل نظام هذا العالم، وبهذا الحفظ ونظام الدوران كان الليل والنهار الحادثين من جرى الأرض حول الشمس. ونحو الآية قوله: «وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» . (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) أي والمشركون معرضون عن التفكر فى تلك الآيات الدالة على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وإحاطة علمنا. (6) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي والله خلق لكم الليل والنهار نعمة منه عليكم، وحجة على عظيم سلطانه، فهما يختلفان عليكم لصلاح معايشكم وأمور دنياكم وآخرتكم، وخلق الأرض والشمس والقمر تجرى فى أفلاكها كما يجرى السمك فى الماء. وهذا هو الرأى الحديث، وأن هذه كلها تجرى فى عالم الأثير المالئ لهذا الفضاء، فالشمس تجرى، والأرض تجرى، والقمر يجرى، وبينها هذه المخلوقات الحية، فما مثل هذه العوالم إلا كآلة الطباعة والمخلوقات كلماتها وسطورها، أو كدار صناعة تخرج كل يوم مصنوعات جديدة بعد فناء القديمة وزوالها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 36] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) تفسير المفردات الخلد: الخلود والبقاء، الذوق: هنا الإدراك والمراد من الموت مقدماته من الآلام العظيمة، والمدرك لذلك هى النفس المفارقة التي تدرك مفارقتها للبدن، ونبلوكم:

المعنى الجملي

أي نختبركم والمراد نعاملكم معاملة من يختبركم، بالخير والشر: أي المحبوب والمكروه، فتنة: أي ابتلاء، إن يتخذونك إلا هزوا: أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به مسخورا منه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الأدلة على وجود الخالق الواحد القادر، بما يرون من الآيات الكونية- أردف ذلك ببيان أن هذه الدنيا ما خلقت للخلود والدوام، ولا خلق من فيها للبقاء، بل خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون وسيلة إلى الآخرة التي هى دار الخلود، فلا تشمتوا إذا مات محمد صلّى الله عليه وسلّم فما هذا بسبيله وحده، بل هذا سنة الله فى الخلق أجمعين. تمنى رجال أن أموت، وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذى يبغى خلاف الذي مضى ... تزوّد لأخرى مثلها فكأن قد ثم ذكر أنهم نعوا على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، ورد عليهم بأنهم قد كفروا بالرحمن المنعم على عباده، الخالق لهم، المحيي المميت، ولا شىء أقبح من هذا وأخلق بالذم منه. أخرج ابن أبى حاتم عن السدى «أنه صلّى الله عليه وسلّم مرّ على أبى سفيان وأبى جهل وهما يتحادثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال: هذا نبىّ بنى عبد مناف، فغضب أبو سفيان وقال: أتنكر أن يكون لعبد مناف نبى؟ فسمعها النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجع إلى أبى جهل فوقع به وخوّفه وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة، وقال لأبى سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حميّة، فنزلت الآية» .

الإيضاح

الإيضاح (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي وما كتب لأحد من قبلك البقاء فى الدنيا حتى نبقيك فيها، بل قدّر لك أن تموت كما مات رسلنا من قبلك. (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟) أي أفهؤلاء المشركون بربهم هم الخالدون بعدك؟ لا- ما ذلك كذلك، بل هم ميتون، عشت أو متّ. أخرج البيهقي وغيره عن عائشة قالت: دخل أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وسلم وقد مات فقبّله وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفيّاه، ثم تلا: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد: الآية. ثم أكد ما سلف وبين أن أحدا لا يبقى فى هذه الدنيا فقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس منفوسة من خلقه ذائقة مرارة الموت، ومتجرعة كأسه، وشدة مفارقة الروح للبدن وقد جاء فى الحديث «إن للموت لسكرات» فلا يفرحنّ أحد لموت أحد ولا يظهرنّ التشفي منه، كما لا ينبغى أن تبدو عليه علامات الجزع والحسرة لموت أحد. (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي ونختبركم أيها الناس بالمضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد، وبنعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور والتمكين من حصول ما تريدون، لنرى أتصبرون فى المحن، وتشكرون فى المنح؟ فيزداد ثوابكم عند ربكم إذا قمتم بأداء ذلك، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فالمنحة أعظم البلاءين ومن ثم قال عمر رضى الله عنه: بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر، وقال على كرم الله وجهه: من وسّع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله. وخلاصة ذلك- إنا نعاملكم معاملة من يختبركم ونفتنكم كما يفتن الذهب إذا أريد تصفيته بالنار عما يخالطه من الغش، لنرى أتصبرون فى الشدائد وتشكرون حين الرخاء؟.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 37 إلى 41]

(وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فنجازيكم وفق ما يظهر من أعمالكم. ولا يخفى ما فى هذا من الوعد والوعيد بالثواب والعقاب. (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي وإذا رآك المشركون لم يكن لهم عمل إلا أن يجعلوك موضع السخرية والهزؤ، وقد كان من حقهم أن يفكّروا مليّا فيما يشاهدون من أخلاقك وآدابك، وفيما ينزل عليك من الوحى الذي فيه عظة وذكرى لقوم يعقلون، لعل بصائرهم تستنير، وطباعهم ترقّ، وقلوبهم ترعوى عن غيها، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» . (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) أي ويقولون استنكارا وتعجبا: أهذا الذي يسبّ آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟ وكيف يعجبون من ذلك وهم كافرون بالله الذي خلقهم وأنعم عليهم، وبيده نفعهم وضرهم وإليه مرجعهم؟ قال الزجاج يقال فلان يذكر الناس أي يغتابهم ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله أي يصفه بالتعظيم ويثنى عليه. وخلاصة ذلك- كيف يعجبون من نبز آلهتهم بالسوء، وهم قد كفروا بربهم الذي برأهم وصورهم فأحسن صورهم، وإليه مرجعهم فيحاسبهم على النّقير والقطمير. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 37 الى 41] خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)

تفسير المفردات

تفسير المفردات العجل والعجلة: طلب الشيء قبل أوانه، والمراد بالإنسان: هذا النوع، وقد جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق من العجل مبالغة كما يقال للرجل الذكي هو نار تشتعل، ويقال لمن يكثر منه الكرم: فلان خلق من الكرم، قال المبرد: خلق الإنسان من عجل: أي إن من شأنه العجلة كقوله: «خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» أي خلقكم ضعفاء، والآيات هى آيات النقم التي هددهم بوقوعها، وإراءتهم إياها: إصابتهم بها. والمراد بالوعد قيام الساعة، لا يكفون: أي لا يمنعون، بغتة: أي فجأة، تبهتهم: أي تدهشهم وتحيّرهم، ينظرون: أي يمهلون ويؤخّرون، حاق: حل ونزل. المعنى الجملي بعد أن بين جلت قدرته أنه كلما آتى المشركين آية كفروا بها، وكلما توعدهم بالعذاب كذبوا به وقالوا تهكما وإنكارا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ - قفى على ذلك بنهيهم عن العجلة وبيان أن ما أوعدوا به آت لا محالة، ثم أرشد إلى أن العجلة من طبيعة الإنسان التي جبل عليها، ثم ذكّرهم بجهلهم بما يستعجلون، فإنهم لو عرفوا كنه ما طلبوا ما دار بخلدهم ذلك المطلب. وفى هذا تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم كما سلّاه بأن الاستهزاء به وبما أتى به ليس بدعا من المشركين، فكثير من الرسل قبله أوذوا واستهزىء بهم، وكان النصر آخرا حليفهم وحاق الهلاك بالمكذبين، فانتظر لهؤلاء يوما يحل بهم فيه مثل ما حل بمن قبلهم، وقل لهم: انتظروا إنا منتظرون. روى أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث، وهو القائل: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .

الإيضاح

الإيضاح (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) أي إنه تعالى فطر هذا النوع على العجلة، وجعلها من سجيته وجبلّته، فليس بعجيب من المشركين أن يستعجلوا عذاب الله ونزول نقمته بهم، وقد كان من الحق عليهم أن يتلبّثوا قليلا، فإن الله سينزل بهم من سخطه مثل ما أنزل بالمكذبين قبلهم، ويحلّ بهم من العذاب ما لا قبل لهم بدفعه، وهذا ما أشار إليه بقوله: (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) أي إن نقمى ستصيبكم لا محالة، فلا تتعجلوا عذابى، واصبروا حتى يأتى وعد الله، إن الله لا يخلف الميعاد. وقد نهى الإنسان عن العجلة مع أنها ركّبت فى طبيعته، من قبل أنه أوتى المقدرة التي يستطيع بها تركها وكف النفس عنها. ثم حكى عنهم ما يستعجلون فقال: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون للنبى صلّى الله عليه وسلّم ولمن معه من المؤمنين الذين يتلون الآيات المنبئة بقرب الساعة ونزول العذاب بمن كفر بها استهزاء: متى يجيئنا هذا العذاب الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين فى وعدكم. وهذا منهم استبطاء للموعود به يراد به إنكار وقوعه وأنه لن يكون البتة. ثم بين شديد جهلهم بما يستعجلون وعظيم حماقتهم لهذا الطلب فقال: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون ماذا أعدّ لهم ربهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون، فلا يستطيعون ردها عن تلك الوجوه، ولا يدفعونها بأنفسهم عن الظهور، ولا يجدون ناصرا ينصرهم وينقذهم من ذلك

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 إلى 47]

العذاب- لما أقاموا على كفرهم بربهم ولسارعوا إلى التوبة منه، ولما استعجلوا لأنفسهم هذا النكال والوبال. وإنما خص الوجوه والظهور، لأن مس العذاب لهما أعظم موقعا. ولما بين شدة العذاب فى ذلك اليوم بين أن وقته لا يكون معلوما لهم فقال: (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي بل تأتيهم الساعة وهم لأمرها غير مستعدين، فتدعهم حائرين لا يستطيعون حيلة فى ردها، ولا منصرفا عما يأتيهم منها، ولا هم يمهلون لتوبة، ولا لتقديم معذرة، فقد فات مافات، وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون. وإنما لم يعلم الله عباده وقتها، لما فى ذلك من فائدة، فإن المرء يكون مع جهله بها أشد حذرا، وأقرب إلى التلافي وانتهاز الفرصة. ثم سلى رسوله على استهزائهم به فقال: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ولقد استهزىء برسل من رسلنا الذين أرسلناهم قبلك إلى أممهم، فنزل بالذين استهزءوا بهم العذاب والبلاء الذي كانت الرسل تخوّفهم نزوله، ولن يعدو أن يكون أمر هؤلاء الكفار كأمر أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه باستهزائهم مثل ما نزل بمن قبلهم فانظر لهم عاقبة وخيمة كعاقبة أولئك، وسيكون لك النصر عليهم. ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» . [سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 47] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يكلؤكم: يحرسكم ويحفظكم قاله ابن عباس، من الرحمن: أي من بأسه وعقابه الذي تستحقونه، من دوننا: أي من غيرنا، يصحبون: أي يجارون من عذابنا تقول العرب أنا لك جار وصاحب من فلان: أي ومجير منه واختاره الطبري، نفحة: أي قسط ونصيب ضئيل، حبة الخردل: مثل فى الصغر، حاسبين: أي عادّين محصين. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أن الكافرين فى الآخرة لا يستطيعون أن يمنعوا عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم، وأنه سيكون لهم من الأهوال ما لم يكن يخطر لهم ببال أعقبه ببيان أنه لولا أن الله قدر لهم السلامة فى الدنيا وحرسهم إلى حين لما بقوا سالمين، وأنه مع إنعامه عليهم ليلا ونهارا بالحفظ والحراسة- هم معرضون عن الدلائل الدالة على أنه لا حافظ لهم سواه، وأنه قد كان ينبغى لهم أن يتركوا عبادة الأصنام التي لا حظ لها فى شىء من ذلك، فهى لا تستطيع أن تحفظ أنفسها من الآفات،

الإيضاح

فضلا عن منع بأس الله إن حل بهم، ثم أردف ذلك ببيان أن الذي حملهم على الإعراض عن ذلك هو طول الأمد حتى نسوا العهد وجهلوا مواقع النعمة، وقد كان لهم فى نقص الأرض من أطرافها وفتح المسلمين لها عبرة أيّما عبرة، فهاهم يرون محمدا صلى الله عليه وسلّم وأتباعه يفتحون البلاد والقرى حول مكة ويدخلونها تحت راية الإسلام ويقتلون الرؤساء والعشائر من المشركين، فمن حقهم أن يفكروا فى هذا مليّا ويرعووا عن غيهم ويعلموا آثار قدرتنا وأن جندناهم الغالبون، ثم قفى على ذلك ببيان أن وظيفة الرسل هى الإنذار والتبليغ، وليس عليهم الإلزام والقبول، فإذا كانت القلوب متحجرة، والآذان صماء، فماذا تجدى العظة، وماذا ينفع النصح، ولئن أصابهم القليل من عذاب الله لتنادوا بالويل والثبور، واعترفوا على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين- ثم قفى على ذلك ببيان أن الدار الآخرة لا ظلم فيها ولا محاباة، فالمرء يحاسب فيها على الجليل والحقير، فهناك تنصب موازين العدل ويجازى كل امرئ بما قدم من خير أو شر: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . الإيضاح (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي سل أيها الرسول أولئك المستهزئين سؤال إنكار وتوبيخ، من يستطيع أن يحفظكم من الرحمن إذا أراد أن ينزل بكم بأسه وعذابه الذي تستحقونه؟. والخلاصة- من يحفظكم بالليل إذا نمتم، وبالنهار إذا تصرفتم فى أمور معايشكم من عذاب الرحمن إن نزل بكم، ومن بأسه إذا حل بساحتكم؟ وفى ذكر (الرحمن) إيماء وتنبيه إلى أنه لا حفظ لهم إلا برحمته، وإلى أن بأسه أليم شديد، وإلى أنه قد عذبهم من غلبت رحمته قسوته، جزاء وفاقا بما دسّوا به أنفسهم من فاسد الطوايا، وسيىء الأعمال.

ثم ذكر أنهم قد غفلوا عن الكالئ الحافظ فقال: (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) أي إن هؤلاء القوم قد ألهتهم النعم عن المنعم، فلا يذكرون الله حتى يخافوا بأسه، أو يعدّوا ما كانوا فيه من الأمن والدعة كلاءة وحفظا لهم حتى يسألوا عن الكالئ الحافظ. وخلاصة ذلك- إنهم على وجود الدلائل العقلية والنقلية الدالة على أنه تعالى هو الكالئ الحافظ- معرضون عنها، لا يتأملون فيها. وفى ذكر (الرب) إيماء إلى أنهم خاضعون لسلطانه، وأنهم فى ملكوته وتدبيره، وجميل رعايته وتربيته، وهم على ذلك معرضون، فهم فى الغاية القصوى من الضلال وفى النهاية من الجهل والغباء. ثم انتقل من وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهة لا تضر ولا تنفع فقال: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟) أي بل ألهؤلاء المستعجلى عذابنا آلهة تمنعهم منا إن نحن أنزلناه بهم، وتدفع عنهم بأسنا إن حل بساحتهم؟. ومجمل ذلك- إن آلهتهم لا تمنعهم بأسنا إن أردنا؟. ثم وصف تلك الآلهة التي اتخذوها بالضعف فقال: (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي وكيف تستطيع آلهتهم أن تمنعهم منا وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا دفع ما ينزل بهم من البلاء، ولا هم يصحبون منا بنصر، فكيف يتوهّم أن ينصروا غيرهم. والخلاصة- إنهم فى غاية العجز، فكيف يتوهّم فيهم ما يتوهمون من القدرة والسلطان، ويدينون لهم بالخضوع والعبادة. ثم بين سبحانه تفضله عليهم مع سوء ما أتوا به من الأعمال فقال: (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي إن الذي غرهم وحملهم على

ما هم فيه من الضلال أنهم متّعوا فى الحياة الدنيا ونعموا بها وطال عليهم العمر حتى اعتقدوا أنهم على شىء. وقصارى ذلك- إنهم طالت أعمارهم وهم فى الغفلة فنسوا عهدنا، وجهلوا مواقع نعمتنا، فاغتروا بذلك ولم يعرفوا مواضع الشكر. ثم بين لهم سوء مغبتهم فقال: (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟) أي أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون للعذاب آثار قدرتنا فى إتيان الأرض من جوانبها، ففتحناها للمؤمنين وزدناها فى ملكهم واقتطعناها من أيدى المشركين؟ فقد تم لهم فتح البلاد التي حوالى مكة وقتل رؤسائها وإزالة دولة الشرك وأهله منها، ألا يفكرون فى هذا فيكون لهم فيه مزدجر لو كانوا يعقلون؟. والخلاصة- ألا يعتبرون ويحذروا أن ينزل بهم بأسنا كما أنزلناه بسواهم؟. ثم وبخهم وأنّبهم على غفلتهم عن الحق بعد وضوحه فقال: (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أي أفهم الغالبون أم نحن؟ أي أفبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم إياه يتوهمون غلبتهم؟. وبعد أن بين هول ما يستعجلون، وحالهم السيئة حين نزوله بهم، ثم نعى عليهم جهلهم وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار، أمر رسوله أن يقول لهم: إن ما أخبركم به جاء به الوحى الصادق فقال: (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي إنى إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة وشديد أهوالها- بالوحى الصادق الناطق بحصوله وفظاعة أهواله، وقد أمرنى ربى بذلك، وهأنذا قد قمت بما أمرنى به، فإن لم تجيبوا داعى الله وتقبلوا ما دعوتكم إليه فعليكم النكال والوبال لا علىّ. ثم أردف هذا أن الإنذار مع مثل هؤلاء لا يجدى فتيلا، فما حالهم إلا حال الصم الذين لا يسمعون دعوة الداعي فقال:

(وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) أي فما مثلهم إذ لم ينتفعوا بما سمعوا من الإنذار على كثرته وتتابعه إلا مثل الصم الذين لا يسمعون شيئا، إذ ليس الغرض من الإنذار السماع فحسب، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب والتحرز من الإنذار السماع فحسب، بل العمل بما يسمع بالإقدام على فعل الواجب والتحرز من المحرم ومعرفة الحق، فإذا لم يحصل شىء من هذا فلا جدوى فى السمع وكأن لم يكن. والخلاصة- إن الكافر بالله لا يوجه همه إلى العظة بما فى كتابه من المواعظ حتى يقلّع عما هو عليه مقيم من الضلال، بل يعرض عن التفكر فيها فعل الأصم الذي لا يسمع ما يقال له حتى يعمل به. ثم بين سرعة تأثرهم من العذاب حين مجيئه إثر بيان عدم تأثرهم به حين مجىء خبره فقال: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي ولئن أصاب هؤلاء المستعجلين للعذاب أدنى قسط من عقاب ربك بكفرهم به وتكذيبهم رسوله- ليقولنّ إنا كنا ظالمين لأنفسنا بعبادتنا الآلهة والأنداد وتركنا عبادة الذي برأنا وأنعم علينا، وجحدنا لما يجب علينا من الشكر له بالإخلاص فى عبادته. والخلاصة- إنهم يوم القيامة حين يمسهم العذاب يدعون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ويقولون هلاكا لنا، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بمن خلقنا، وخصوعنا لمن لا يضر ولا ينفع، ويندمون على ما فرط منهم، ولات ساعة مندم. ثم بين الأحداث التي ستقع حين يأتى ما أنذروا به فقال: (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي ونحضر يوم القيامة الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال، وهذا قول أئمة السلف، وقال مجاهد وقتادة والضحاك المراد من الوزن العدل بينهم، فلا يظلم عباده مثقال ذرة، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه: أي ذهبت حسناته بسيئاته، ومن أحاطت سيئاته بحسناته خفت موازينه: أي ذهبت سيئاته بحسناته.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 إلى 50]

(فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي فلا تظلم أىّ نفس شيئا من الظلم، فلا ينقص ثوابها الذي تستحقه، ولا يزاد عذابها الذي كان لها على قدر ما دسّت به نفسها من سيىء الأعمال. (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) أي وإن كان العمل الذي فعلته النفس صغيرا مقدار حبة الخردل جازينا عليه جزاء وفاقا، سيئا كان أو حسنا. (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) أي وحسب من شهدوا ذلك الموقف بنا حاسبين لأعمالهم محصنين لها، لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم وما سلف منهم فى الدنيا من صالح أو سيىء منا. ولا يخفى ما فى الآية من التحذير وشديد الوعيد للكافرين على ما فرطوا فى جنب الله، فإن المحاسب إذا كان عليما بكل شىء ولا يعجز عن شىء كان جديرا بالعاقل أن يكون فى حذر وخوف منه. نزول التوراة على موسى عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) تفسير المفردات الفرقان: هى التوراة، وهى الضياء والموعظة، وكانت فرقانا، لأنها تفرق بين الحق والباطل، وكانت ضياء لأنها تنير طريق الهدى للمتقين، وكانت موعظة لما فيها من عبرة للسالكين سبل النجاة، يخشون ربهم: أي يخشون عذابه، مشفقون. أي خائفون، مبارك: أي كثير الخير غزير النفع.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: إنما أنذركم بالوحى- أردفه ببيان أن هذه سنة الله فى أنبيائه، فكلهم قد آتاهم الوحى، وبلغهم من الشرائع والأحكام ما فيه هداية للبشر وسعادة لهم فى دنياهم وآخرتهم. الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي قسما لقد آتيناهم كتابا جامعا لأوصاف كلها مدح وفخار، فهو كتاب فارق بين الحق والباطل، وضياء يستضاء به فى ظلمات الجهل والغواية، وعظة يتعظ بها من يتعظ، ويتذكر بها ما يجب لله من اعتقاد وعمل، وما ينبغى سلوكه من أدب وفضيلة. ثم ذكر أوصاف المتقين فقال: (1) (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي إن المتقين يخافون عذاب ربهم وهو غائب عنهم غير مرئىّ لهم. ونحو الآية قوله تعالى: «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ» وقوله: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» . (2) (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي وهم من عذاب يوم القيامة وسائر أحوالها خائفون وجلون. وبعد أن ذكر فرقان موسى وكان العرب يشاهدون تمسك اليهود به- حثهم على التمسك بالكتاب الذي نزله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) أي وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكر لمن تذكر به، وموعظة لمن اتعظ بها، وهو كثير النفع والخير لمن اتبع أوامره، وانتهى بنواهيه

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 إلى 58]

وبعد أن أبان صفة هذا الكتاب وبخهم على إنكارهم له فقال: (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟) أي أفبعد أن استبان لكم جليل خطره، وعظيم أمره، تنكرون وتقولون: هو أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون. وقد يكون المعنى- كيف تنكرون كونه منزلا من عند الله؟ وأنتم من أهل اللسان تدركون مزايا الكلام ولطائفه، وتفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيركم، وفيه شرفكم وصيتكم. وخلاصة ذلك- أفبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة، تنكرون أنه منزل من عند الله؟ فهذا ما لا يستسيغه عقل راجح، ولا فكر رصين، فمثل هذا فى غاية الوضوح والجلاء. حجاج إبراهيم لأبيه وقومه ودعوتهم إلى التوحيد [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 58] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الرشد: هو الاهتداء إلى وجوه الصلاح فى الدين والدنيا، والاسترشاد بالنواميس الإلهية، التماثيل: واحدها تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه مخلوق من صنع الله كطير أو شجر أو إنسان والمراد بها هنا الأصنام، سماها بذلك تحقيرا لشأنها، والعكوف على الشيء: ملازمته والإقبال عليه، بالحق: أي بالشيء الثابت فى الواقع، اللاعبين: أي الهازلين، فطرهن: أي أنشأهن، من الشاهدين: أي المتحققين صحته، المثبتة بالبرهان، والكيد: الاحتيال فى إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه، والمراد المبالغة فى إلحاق الأذى بها، جذاذا: أي قطعا، من الجذ، وهو القطع. الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي ولقد آتينا إبراهيم ما فيه صلاحه وهداه من قبل موسى وهرون، ووفقناه للحق، وأضأنا له سبيل الرشاد، وأنقذناه من بين قومه من عبادة الأصنام، وكنا عالمين بأنه ذو يقين وإيمان بالله وتوحيد له، لا يشرك به شيئا، فهو جامع لأحاسن الفضائل ومكارم الأخلاق وجميل الصفات، وقال الفراء: أعطيناه هداه من قبل النبوة والبلوغ اهـ. أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جنّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم، وعلى هذا جرى كثير من المفسرين. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ؟) أي آتيناه الرشد حين قال لأبيه آزر ولقومه وهم مجتمعون: ما هذه الأصنام التي تقيمون على عبادتها وتعظيمها؟. وقد أراد عليه السلام بهذا السؤال تنبيه أذهانهم إلى التأمل فى شأنها، وتحقير أمرها، متجاهلا حقيقتها، وكأنه يومىء بذلك إلى أنهم لو تأملوا قليلا لأدركوا أن مثل هذه الأحجار والخشب لا تغنى عنهم قلّا ولا كثرا.

ولما لم يجدوا ما يعوّل عليه فى تعرف حقيقتها لجئوا إلى التشبث بالتقليد دون إقامة الحجة والبرهان. (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) أي قال آزر وقومه له: إنا وجدنا آباءنا يعبدون هذه الأوثان فسرنا على نهجهم واقتفينا أثرهم ولا حجة لنا غير ذلك. وخلاصة مقالهم: ليس لنا برهان على صحة ما نفعل، وإنما نحن مقلدون للآباء والأجداد، وكفى بهذا سبّة لهم، فإن الشيطان قد استدرجهم وكاد لهم حتى عفّروا لها جباههم وجدّوا فى نصرتها، وجادلوا أهل الحق فيها- وما كان أجدرهم أن يتواروا خجلا وحياء ولا يقولوا مثل هذا. والتقليد هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز، والحبل الذي يتشبث به كل غريق وهكذا يجيب المقلّدة من أهل الملة الإسلامية إذا أنكر عليهم العالم بالكتاب والسنة العمل بالرأى الذي يدفعه الدليل- بهذا قال إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين، وبرأيه آخذين وكأنه يقول: وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزيّة أرشد وقد أجابهم إبراهيم ببيان قبح ما يصنعون، وبكّتهم على سوء ما يفعلون. (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قال لهم: لقد كنتم أيها القوم أنتم وآباؤكم بعبادتكم إياها فى ضلال بيّن، وجور واضح عن سبيل الحق لمن تأمله بلبه، وفكّر فيه بعقله. وخلاصة هذا- إن المقلدين ومن قلّدوا فى ضلال ظاهر لا يخفى على من لديه أدنى مسكة من عقل، فالفريقان لا يستندان إلا إلى هوى متبع، وشيطان مطاع وقد أحسن من قال: يأبى الفتى إلا اتّباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح وفى ذلك إيماء إلى أن الباطل لا يصير حقا بكثرة المستمسكين به. وقد أجابوه إجابة مستفهم متعجب مما يسمع ويرى.

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟) أي قالوا له حين سمعوا مقالته، مستبعدين أنهم فى ضلال، ومتعجبين من تضليله إياهم: أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ فإنا لم نسمع بمثله من قبل. وخلاصة هذا- إنهم لما سمعوا منه ما يدل على تحقير آلهتهم، وتضليله إياهم، وشاهدوا منه الجد فى القول والغلظة فيه، طلبوا منه الدليل على صدق ما يقول إن كان جادا، ثم ارتقوا من هذا إلى بيان أنه هازل لاعب، كما هو دأبه وعادته من قبل، ولا يقصد بذلك إظهار حق البتة. فردّ عليهم منتقلا من تضليلهم فى عبادة الأوثان، إلى بيان الحق، وذكر المستحق للعبادة. (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي قال لهم: بل جئتكم بالحق لا اللعب- إن الذي يستحق العبادة من أنشأ السموات والأرض على غير مثال يحتذى، وأنتم مغمورون بجميل عطفه، وعظيم جوده وبرّه. وصفوة هذا- إن الجدير بالعبادة هو من ربّاكم تحت ظلال عطفه، وأنعم عليكم بجزيل برّه ولطفه، وأوجدكم وأوجد السموات والأرض من العدم، لا من كان بمعزل عن كل ذلك. وفى هذا إرشاد إلى أنه ينبغى لهم أن يرعووا عن غيهم، ويعلموا من يستحق العبادة، فيعبدونه ويخضعون له، وبذلك يهتدون إلى الطريق السوىّ. ثم ختم مقاله بنفي اللعب والهزل عن نفسه فقال: (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وأنا أدلى على ما أقول بالحجة كما تصحح الدعوى بالشهادة، وأبرهن عليه كما تبين القضايا بالبينات، فلست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته، فإنكم لم تقدروا على الاحتجاج على مذهبكم، ولم تزيدوا على أن تقولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. وقصارى ما أقول: لست من اللاعبين الهازلين، بل من العالمين بذلك

بالبراهين القاطعة، والحجج الساطعة، كالشاهد الذي يكون قوله الفصل فى إثبات الدعوى، وإحقاق الحق. وبعد أن أقام البرهان على إثبات الحق أتبعه بالتهديد لهدم الباطل ومحو آثاره، وأنه سينتقل من المحاجة القولية إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله، ومخاماة عن دينه، جمعا بين القول والفعل (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي وتالله القوى العظيم لأجتهدنّ فى كسر أصنامكم وإلحاق الأذى بها بعد أن تذهبوا إلى عيدكم، وقد فعل ذلك عليه السلام، ليرشدهم إلى ما هم فيه من الضلال، ويبين لهم خطأهم على ألطف أسلوب، وأتم وجه. وفى التعبير بالكيد إيذان بصعوبة انتهاز الفرصة، وتوقفها على استعمال الحيلة فى كل زمان، ولا سيما زمن نمرود، على عتوه واستكباره، وقوة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه. قال مجاهد وقتادة: قال إبراهيم هذه المقالة سرا من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد، فأفشاه عليه وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. وقال السّدّى: كان لهم فى كل سنة مجمع عيد، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال آزر: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج معهم، ولما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه وقال إنى سقيم أشتكى برجلي، فلما مضوا نادى فى آخرهم وقد بقي فيهم ضعفاء الناس: تالله لأكيدنّ أصنامكم، فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهى فى بهو عظيم، وكان مستقبل هذا البهو صنم عظيم إلى جنبيه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدى الآلهة وقالوا إذا رجعنا وباركت الآلهة عليه أكلنا منه، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم مستهزئا:

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 إلى 65]

ألا تأكلون، فلما لم يجيبوه قال لهم: مالكم لا تنطقون؟ وراغ عليهم ضربا باليمين، وجعل يكسرهن بفأس فى يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس فى عنقه ثم خرج فذلك قوله: (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي فتولّوا فأتى إبراهيم الأصنام فجعلهم قطعا قطعا إلا كبيرا لهم لم يكسره. (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي لعل هؤلاء الضلال يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم فى حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس فى عنقك أو فى يدك؟ وحينئذ يستبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر لهم أنهم فى عبادتهم على جهل عظيم. وقد كان هذا بناء على ظنه فى أمرهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم فى آلهتهم وتعظيمهم لها. فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 59 الى 65] قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) تفسير المفردات يذكرهم: أي يعيبهم ويسبهم، على أعين الناس: أي على رءوس الأشهاد فى الملأ، يشهدون: أي بفعله أو قوله، فرجعوا إلى أنفسهم: أي ففكروا وتدبروا،

الإيضاح

الظالمون: أي الظالمون لأنفسكم بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها، ويقال نكسته: أي قلبته فجعلت أعلاه أسفله، والمراد أنهم بعد أن أفروا أنهم ظالمون انقلبوا من تلك الحال إلى المكابرة والجدل بالباطل. الإيضاح (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟) أي قال قوم إبراهيم على سبيل التوبيخ والتأنيب حين رأوا آلهتهم قد صارت جذاذا إلا الذي علق فيه إبراهيم الفأس: من كسر هذه الآلهة وجعلها هكذا؟. وفى تعبيرهم بالآلهة دون الأصنام تشنيع ومبالغة فى اللوم والتعنيف. (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إنه لمن زمرة الذين ظلموا أنفسهم وجرءوا على إهانة هذه الآلهة، وهى الحفيّة بالإعظام والتكريم. (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) أي قال بعض منهم ممن سمع قوله تالله لأكيدن أصنامكم: سمعنا فتى يعيهم ويستهزىء بهم ولم نسمع أحدا يقول ذلك غيره، وإنا لنظن أنه صنع ذلك بهم. (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي قال أولئك القائلون من فعل هذا بآلهتنا: إذا كان الأمر كما ذكرتم فأتوا به بمرأى من الناس ومسمع. (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أنه الذي فعل ذلك، فتكون شهادتهم عليه حجة لنا. (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟) أي فلما أتوا به قالوا له أأنت الذي كسر هذه الأصنام وجعلهم جذاذا؟ وقد طلبوا منه الاعتراف بذلك ليقدموا على إيذائه وهم مقتنعون بصحة هذه الجريمة فى زعمهم، فما كان منه إلا أن بادرهم بما أدهشهم حتى تمنّوا الخلاص منه فقال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أي قال: بل الذي فعل هذا هو الصنم الأكبر الذي لم يكون

وإيضاح هذا- أن إبراهيم عليه السلام لما رأى تعظيمهم لهذا الصنم أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام غضب أشد الغضب وأسند إليه الفعل الصادر منه هو من قبلى أنه هو الذي حمله على ذلك، وهو يومىء بذلك إلى مقصده وهو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه، مع حملهم على التأمل فى شأن آلهتهم. ومجمل كلامه- إن شديد غضبى من تعظيمكم له حملنى على أن أفعل هذا، والفعل كما ينسب إلى المباشر له ينسب إلى الباعث عليه فهذا الصنم الأكبر قد كان السبب فى استهانتى بهم وتحطيمى إياهم. (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي فاسألوهم عن كسرها ليخبروكم به إن كانوا ممن ينطق على زعمكم أنهم آلهة تنفع وتضر. وقد كانت مقالة إبراهيم عليه السلام قوية الحجة شديدة الوقع فى نفوسهم، وكأنما ألقمهم حجرا، وذلك ما أشار إليه بقوله: (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي فرجعوا على أنفسهم بالملامة، إذ علموا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على إلحاق الضر بمن ألحق به الأذى- يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له، وإذا فكيف يستحق أن يكون معبودا؟ ثم بين ملامتهم لأنفسهم بقوله: (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي فقال بعضهم لبعض: إنكم أنتم الظالمون بعبادة ما لا ينطق، وما هذا منكم إلا غرور وجهل بما ينبغى أن تكون عليه حال المعبود. ثم أبان أنهم اركسوا بعدئذ ورجعوا عن فكرة سليمة لا غبار عليها بوصفهم أنفسهم بالظلم إلى فكرة خاطئة وهى الحكم بصحة عبادتها مع اعترافهم بأن حالهم دون حال الحيوان، فلا ينبغى لعاقل أن يعبدها فقال: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا إنما اتخذناهم آلهة مع علمنا بأنهم لا ينطقون ولا يتكلمون، فكيف تأمرنا بسؤالهم، وإنما قال ينطقون ولم يقل يسمعون أو يعقلون، مع أن السؤال موقوف على

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 66 إلى 70]

السمع والعقل أيضا، من قبل أن نتيجة السؤال الجواب، وأن عدم نطقهم أبلغ فى تبكيتهم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 66 الى 70] قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) تفسير المفردات أف: كلمة تدل على أن قائلها متضجر متألم من أمر، والكيد: المكر والخديعة. المعنى الجملي بعد أن أقروا على أنفسهم بأن لا فائدة فى آلهتهم، قامت لإبراهيم الحجة عليهم فوبخهم على عبادة ما لا يضر ولا ينفع، إذ هذا ما لا ينبغى لعاقل أن يقدم عليه، وبعد أن دحضت حجتهم وبان عجزهم انقلبوا إلى العناد واستعمال القوة الحسية، إذ أعيتهم الحجة، فقالوا حرقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم التي جعلها جذادا، ولكن الله سلمه من كيدهم وجعل النار بردا وسلاما عليه. الإيضاح (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟) أي قال إبراهيم مبكتا لهم: أفتعبدون غير الله معبودات لا تنفعكم شيئا فتعلقوا رجاءكم بها، ولا تضركم شيئا فتخافوها.

(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي تبّا لكم وقبحا لمعبوداتكم التي اتخذتموها من دون الله. (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الذي لا يروج إلا على جاهل فاجر، وأنتم الشيوخ الذين بلوا الزمان حلوه ومرّه، وحنّكتهم تجارب الأيام، فمن حقكم أن تعاودوا الرأى وتقلّبوه ظهرا لبطن، لعلكم ترشدون بعد الضلال، وتهتدون بعد الغىّ والعمى. ولما بان عجزهم وحصحص الحق لجئوا إلى الغلظة واستعمال القسوة، وذلك ما أشار إليه بقوله: (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي قال بعضهم لبعض: حرّقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها، ولا تريدون خذلانها وترك عبادتها. ثم أبان سبحانه أنه أبطل كيدهم ودفع عنه هلاكا محققا بمعونته وتأييده فقال: (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) أي فأوقدوا له نارا ليحرّقوه ثم ألقوه فيها فقلنا للنار: يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم أي ابردى بردا غير ضارّ به. روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما ألقى إبراهيم فى النار قال: اللهم إنك فى السماء واحد، وأنا فى الأرض واحد أعبدك» . (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي وأرادوا بإبراهيم مكرا لإيصال الأذى به، فجعلناهم من ذوى الخسران والوبال، إذ صار سعيهم فى إطفاء نور الحق قولا وفعلا- برهانا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل، وأنهم استحقوا أشد العذاب. وفى هذا القصص من العبرة- أن الجهاد لنصرة الحق والفضيلة فيه الخير كل الخير، وأنه مهما صادف المرء فيه من آلام وأهوال فهى هيّنة لينة، فلنجاهد إذا مثل ما جاهد إبراهيم، فإن متنا أو قتلنا فإن ما يصيبنا فى سبيل الحق يكون لنا عزا وشرفا.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 إلى 75]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 75] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) تفسير المفردات لوط: هو ابن أخى إبراهيم: قاله ابن عباس، والأرض: هى أرض الشام. نافلة: أي عطية ومنحة، حكما: أي نبوة، القرية: هى سدوم التي بعث إليها لوط، والخبائث: الأعمال الخبيثة التي يستقذرها أرباب الفطر السليمة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما أكرم به إبراهيم من نجاته من النار- قفى على ذلك ببيان أنه أخرجه من بين قومه مهاجرا إلى بلاد الشام وهى الأرض المباركة، ثم وهب له من الذرية إسحق وابنه يعقوب عليهما السلام وكانا أهل صلاح وتقوى يقتدى بهما ويأتمر بأمرهما، ثم أردف ذلك بذكر ما آتاه لوطا من العلم والنبوة، وجعله يعزف عن مفاسد تلك القرية التي كان يقيم فيها بين ظهرانى أهلها وقد أهلكهم جميعا، وأنجاه هو وأهله وأدخله في جنات النعيم، وقرّبه إلى حظيرة قدسه، وساحة رحمته. الإيضاح (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) أي إنه تعالى أتم عليه النعمة فأنجاه وأنجى لوطا معه إلى الأرض التي باركها بكثرة ما بعث فيها من الأنبياء الذين

انتشرت شرائعهم فى أقاصى المعمور وكثرة خصبها وأشجارها وثمارها وأنهارها، فهى أس الخيرات الدينية والدنيوية معا. وقد خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق ومعه لوط وسارّة يلتمس الفرار بدينه، والأمان على عبادة ربه، حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله، ثم خرج منها وجاء إلى مصر، ثم رجع إلى الشام ونزل بفلسطين، وترك لوطا بالمؤتفكة وهى منها مسيرة يوم وليلة. ثم ذكر سبحانه ما أفاضه من النعم على إبراهيم فقال: (1) (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) أي ووهبنا لإبراهيم إسحق ولدا ويعقوب ولد ولد، عطية منا وفضلا، لا جزاء مستحقا. (2) (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) أي وجعلنا كلا من إبراهيم وإسحق ويعقوب مطيعا لربه، مجتنبا محارمه. (3) (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي وجعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين الله تعالى، وإلى الخيرات بأمرنا وإذننا. (4) (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي وأوحينا إليهم فيما أوحينا، أن افعلوا الطاعات، واتركوا المحرمات. (5، 6) (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي وأوحينا إليهم، أن أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وقد خصهما بالذكر من بين سائر العبادات، لأن الصلاة أشرف العبادات البدنية، والزكاة أفضل العبادات المالية، والمال شقيق الروح، ومجموع العبادتين تعظيم الخالق والشفقة على المخلوق. وبعد أن بين صنوف نعمه عليهم ذكر اشتغالهم بعبادته فقال: (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) أي وكانوا خاشعين لا يستكبرون عن طاعتنا وعبادتنا، ولا يخطر لهم ببال سواها.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 إلى 77]

وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى حين وفى لهم بعهد الربوبية من الإحسان والإنعام وفوا له بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة. وبعد أن ذكر ما أنعم به على إبراهيم أتبعه بذكر ما أنعم به على لوط فقال: (1) (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً) أي وآتينا لوطا الحكم وهو حسن الفصل بين الخصوم فى القضاء. (2) (وعلما) بأمر دينه وما يجب عليه لله من واجب الطاعة والإخبات له. (3) (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) أي ونجيناه من عذابنا الذي أحللناه بأهل تلك القرية التي كانت تعمل خبائث الأعمال، التي من أشنعها إتيان البيوت من غير أبوابها. ثم بين السبب الذي دعاهم إلى ذلك فقال: (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) أي إن الذي حملهم على ذلك وجرأهم على ارتكابه أنهم كانوا خارجين عن طاعة الله، منتهكين حرماته، قد دسّوا أنفسهم بقبيح الأفعال والأقوال، فلا عجب إذا هم لجوا فى طغيانهم يعمهون. (4) (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي وجعلناه فى جملة من يستحقون رحمتنا ولطفنا، بإدخاله جنتنا، كما جاء فى الحديث الصحيح: «قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتى، أرحم بك من أشاء من عبادى» . ثم ذكر علة هذا بقوله: (إِنَّهُ مِنَ عبادنا الصَّالِحِينَ) الذين سبقت لهم منا الحسنى، إذ كان ممن يعملون بطاعتنا، فيأتمرون بأمرنا، وينتهون عن نهينا. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 77] وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الكرب: الغم الشديد والمراد به هنا العذاب النازل بقومه وهو الغرق بعد أن لقى منهم الأذى، قوم سوء: أي منهمكين فى شرورهم وآثامهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه قصة إبراهيم وهو أبو العرب- أردفها بقصة نوح وهو الأب الثاني للبشر على المشهور من أن جميع الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام. الإيضاح (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي واذكر أيها الرسول نبأ نوح إذ نادى ربه من قبلك ومن قبل إبراهيم، فسألنا أن نهلك قومه الذين كذبوا الله فيما توعدهم به من وعيده، وكذبوه فيما آتاهم به من الحق من عند ربه فقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» وقال: «أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» فاستجبنا له دعاءه، ونجيناه وأهل الإيمان من ولده وأزواجهم، مما حل بالمكذبين من الغرق. روى أنه بعث وهو ابن الأربعين ومكث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، فذلك ألف وخمسون سنة كذا فى التحبير. (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ونصرناه على القوم الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لأنهم كانوا يسيئون الأعمال، فيعصون الله ويخالفون أوامره، ويتصدّون لأذى نبيهم، ويتواصون جيلا بعد جيل بمخالفة أمره، ورفع راية العصيان فى وجهه.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 إلى 82]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) تفسير المفردات الحرث هنا: الزرع، والنفش: رعى الماشية فى الليل بلا راع، وشاهدين: أي حاضرين، واللبوس: الدروع، والبأس: الحرب، والريح العاصف: الشديدة الهبوب، إلى الأرض التي باركنا فيها: هى أرض الشام، والغوص: النزول إلى قاع البحار لإخراج شىء منها، ودون ذلك: أي غير ذلك كبناء المدن والقصور واختراع الصناعات الغريبة. المعنى الجملي بعد أن ذكر ما أنعم الله به على نوح عليه السلام من النعم الجليلة- قفّى على ذلك بذكر الإحسان العظيم الذي آتاه داود وسليمان عليهما السلام وهو قسمان: (1) نعم مشتركة بينهما وبين غيرهما من النبيين وهى العلم والفهم وإلى ذلك أشار بقوله: وكلا آتينا حكما وعلما. (2) نعم خاصة بواحد دون الآخر.

الإيضاح

(ا) فأنعم على داود بتسخير الجبال والطير للتسبيح معه، وتعليم صنعة الدروع للوقاية من أذى الحرب. (ب) وأنعم على سليمان بتسخير الريح العاصفة التي تجرى بأمره، وبتسخير الشياطين تغوص فى البحار، لتخرج له اللؤلؤ والمرجان، وتعمل له أعمالا أخرى غير ذلك. الإيضاح (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي واذكر أيها الرسول الكريم نبأ داود وسليمان عليهما السلام حين حكما فى الزرع الذي رعته غنم لقوم آخرين غير صاحب الحرث ليلا فأفسدته، وكان ربك شاهدا عليما بما حكم به داود وسليمان بين القوم الذين أفسدت غنمهم الحرث وصاحب الحرث، لا يخفى عليه شىء منه ولا يغيب عنه علمه، ففهّم الفتيا فى ذلك لسليمان دون داود، وقد كان كل منهما فيصلا فى الحكم فى الخصومات، ذا علم بالدين والتشريع. وقد روى الرواة فى تفصيل هذه القصة- أن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا الرجل أرسل غنمه فى حرثى فلم تبق منه شيئا، فقال داود: اذهب فإن الغنم كلها لك، ومرّ صاحب الغنم بسليمان فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود فقال يا نبى الله: إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال كيف؟ قال ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من درّها وأولادها وأشعارها، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان، ثم يترادان فيأخذ صاحب الحرث حرثه وصاحب الغنم غنمه، فقال داود: القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك.

نعم الله على داود عليه السلام

وجه الرأى لدى كل منهما- إن داود قدر الضرر فى الحرث فكان مساويا لقيمة الغنم فسلم الغنم للمجنى عليه، وإن سليمان قدر منافع الغنم بمنافع الحرث فحكم بها، وكان حكمهما بالاجتهاد دون الوحى، إذ لو كان به ما أمكن تغييره. نعم الله على داود عليه السلام (1) (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي وسخرنا الجبال والطير لداود تقدّس الله معه بحيث تتمثل له مسبّحة، فيكون ذلك أملك لوجدانه وجميع مشاعره، فيستغرق فى التسبيح، وكنا فاعلين لأمثاله، فليس ذلك ببدع منا وإن كنتم أنتم تعجبون منه، فإن المستغرقين فى التسبيح والتقديس يحصل لهم من الأنس بالله ما يجعل العالم كله فى نظرهم مسبحا، وكأن العوالم كلها تنطق لهم به بلسان أفصح من لسان المقال، ولا يدرك هذا أحد إلا بوجدانه. ونحو الآية قوله: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» . (2) (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي وعلمناه صنعة الدروع وقد كانت صفائح فجعلها حلقا، فتمنع عنكم إذا لبستموها ولقيتم أعداءكم- أذى الحرب من قتل وجرح ونحوهما. (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟) أي فاشكروا الله على ما يسّره لكم من هذه الصنعة التي تمنع عنكم غوائل الحروب وتقيكم ضرها وعظيم أذاها. نعم الله على سليمان عليه السلام ورّث الله سليمان من داود ملكه ونبوته وزاده أمرين أشار إليهما بقوله: (1) (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة شديدة الهبوب تارة، ورخاء لينة تارة أخرى.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 إلى 84]

وفى كل حال منهما تجرى بأمره إلى أي بقعة من الأرض المقدسة، فيخرج هو وأصحابه حين الغداة إلى حيث شاءوا ثم يرجعون فى يومهم إلى منزله بالشام. وقد رووا أنه كان له بساط من الخشب يضع عليه كل ما يحتاج إليه من أدوات الحرب كالخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ثم تحركه ثم ترفعه وتسير به، وتظله الطير لتقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، ثم ينزل وتؤخذ الآلات إلى حيث شاء كما قال: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» وقال: «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» . (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي فما آتيناه الملك والنبوة وما سخرنا له الريح تجرى بأمره إلا لعلمنا بما فى ذلك من الحكمة والمصلحة، وأن قومه سيعرفون نعمتنا فيشكروننا عليها. (2) (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي وسخرنا له من الشياطين من يغوصون له فى البحار ويستخرجون منها اللؤلؤ والمرجان ونحو ذلك. (وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ) أي ويعلمون له غير ذلك كبناء المحاريب والتماثيل والقصور والجفان ونحو ذلك. (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي وكنا حافظين لأعمالهم فلا يناله أحد منهم بسوء، فكل فى قبضته وتحت قهره لا يجسر على الدنوّ منه وهو المتحكم فيهم إن شاء حبس وإن شاء أطلق كما قال: «وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ» . [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84] وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أيوب: هو أيوب بن أموص اصطفاه الله وبسط الدنيا وكثر أهله وماله، ثم ابتلاه بموت أولاده بسقوط البيت وبذهاب أمواله وبالمرض فى بدنه ثمانى عشرة سنة، وسنه إذ ذاك سبعون سنة، ثم آتاه الله من الأولاد ضعف ما كان وأزال عنه ما به من مرض، وسيأتى تفصيل قصصه فى سورة ص، والضرر: شائع فى كل ضرر، والضر (بالضم) : خاص بما فى النفس من مرض وهزال ونحوهما، والذكرى: التذكرة. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص داود وسليمان وما كان منهما من شكر على النعماء- أردف ذلك قصص أيوب لما فيه من صبر على البلاء، فداود وسليمان شكرا على النعم المترادفة، وأيوب صبر على النقم النازلة، فأزيلت عنه. وإن فى قصصه الذي ذكر هنا وفى مواضع من الكتاب الكريم لعبرا له ولغيره ممن سمع به، ولفتا لأنظارهم إلى أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها ويجتهد فى القيام بحق الله ويصبر فى حالى السراء والضراء. الإيضاح (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي واذكر نبأ أيوب حين دعا ربه وقد مسه الضر والبلاء فقال: رب إنى قد مسنى الضر وأنت أعظم رحمة من كل رحيم. وقد وصف أيوب نفسه بما يستحق به الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بمطلوبه إيماء منه بأن ربه به عليم، فكأنه يقول: أنا أهل لأن أرحم، وأنت

الكريم الجواد الذي يرحم، فأفض علىّ من جودك ورحمتك ما يسعفنى ويدفع الضر عنى فأنت أرحم الراحمين. وهذا أسلوب من الطلب دقيق المسلك حكيم المنحى. روى أن امرأته قالت له يوما لو دعوت الله، فقال: كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت ثمانين سنة، فقال أستحيى من الله أن أدعوه، ما بلغت مدة بلائي مدة رخائى. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي فاستجبنا له دعاءه فكشفنا ضره، وقد كان الذي نزل به امتحانا من الله واختبارا له. (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي وأعطيناه فى الدنيا مثل أهله عددا مع زيادة مثل آخر، فولد له من الأولاد ضعف ما كان. (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي آتيناه ما ذكر رحمة منا لأيوب، وتذكرة للعابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب فى الدنيا والآخرة. وخلاصة ما سلف- إن أيوب ابتلى فى نفسه وولده وماله، فابتلى بالمرض وهلاك الأولاد وضياع الأموال امتحانا منه تعالى واختبارا له، ثم كشف عنه ما به من ضر فشفى من أمراضه التي أصيب بها، وأنجب من الأولاد ضعف ما كان، وحسن حاله فى ماله فزال ما به من عدم وإقتار. ولم يصرح القرآن الكريم بما صار إليه من سعة فى المال كما صرح بما صار إليه أمره من كثرة الولد. وما روى من مقدار ما لحقه من الضر فى نفسه حتى وصل إلى حد النفرة منه، وأن الناس جميعا تحاموه وطردوه من مقامه إلى ظاهر المدينة فى موضع الكناسة ولم يكن يتصل به إلا امرأته التي تذهب إليه بالزاد والقوت- فكل ذلك من الإسرائيليات التي يجب الاعتقاد بكذبها، لأنه ليس لها من سند صحيح يؤيدها، ولأن من شروط النبوة ألا يكون فى النبي من الأمراض والأسقام ما ينفر الناس منه، ولأنه متى كان كذلك لا يستطيع الاتصال بهم وتبليغ الشرائع والأحكام إليهم، وسيأتى لهذا مزيد إيضاح فى سورة ص.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 إلى 86]

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه صبر أيوب عليه السلام ودعاءه ربه وانقطاعه إليه حتى كشف عنه الضر- قفّى على ذلك بذكر هؤلاء الأنبياء الذين صبروا على ما أصابهم من لمحن والشدائد. الإيضاح (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي واذكر نبأ هؤلاء الرسل الكرام الذين صبروا على ما ابتلاهم الله به وأخبتوا له، فنالوا رضاه وأدخلهم جنته. (1) أما إسماعيل فإنه صبر على الانقياد للذبح، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع، وصبر على بناء البيت وتكلف المشاق فى ذلك وقد أكرمه الله فأخرج من صلبه خاتم النبيين. (2) وأما إدريس- أخنوخ- فهو موضع التجلة والاحترام لدى قدماء المصريين وهو المسمى عندهم (أوزيس) ويزعم كثير من الناس أنه أول من خاط الثياب، ولبس المخيط، وكانوا من قبل يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح عدّة، وقد تقدم قصصه بإسهاب فى سورة مريم. (3) وأما ذو الكفل- والكفل: الحظ والنصيب- فقد اختلف العلماء فى شأنه، فمن قائل إنه نبى وهم الأكثرون، وقالوا إنه ابن أيوب عليه السلام، بعثه الله نبيا بعد أبيه وسماه ذا الكفل، وأمره بالدعاء إلى توحيد الله، وأقام عمره بالشام. وقال

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 إلى 88]

أبو موسى الأشعري ومجاهد لم يكن نبيا بل كان عبدا صالحا استخلفه اليسع عنه على أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ففعل. (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأدخلنا كل هؤلاء جنات النعيم جزاء لهم على ما فعلوا من صالح الأعمال. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) تفسير المفردات النون: الحوت وجمعه نينان، وذو النون: أي صاحب الحوت وهو يونس بن متى، مغاضبا: أي غضبان من قومه، لتماديهم فى العناد والطغيان، نقدر عليه: أي نضيق عليه فى أمره بحبس ونحوه، والظلمات: هى ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل الإيضاح (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي واذكر نبأ يونس عليه السلام حين بعثه الله إلى أهل نينوى (قرية بالموصل) فدعاهم إلى توحيد الله وعبادته، فأبوا عليه وتمادوا فى كفرهم، فخرج من بين ظهرانيهم مغاضبا لهم، وأوعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا أنه كائن لا محالة، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله وجأروا إليه ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وعجاجيلها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله

عنهم العذاب كما قال: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» . وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم فى سفينة، فلما وصلوا اللجة تكفّأت بهم وأشرفوا على الغرق، فاقترعوا على رجل منهم يلقونه فى البحر يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت القرعة عليه أيضا فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا كما يرشد إلى ذلك قوله: «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» ثم قام يونس وتجرد من ثيابه وألقى بنفسه فى البحر، فأرسل الله إليه حوتا يشق البحر فالتقمه. ومعنى مغاضبته قومه أنه أغضبهم بفراقه وهجرته من ديارهم، لأنهم حين تمادوا فى تكديبه توعدهم بالعذاب، لكنه لم يأتهم لأنهم تابوا، فكره أن يكون بين ظهرانى قوم جرّبوا عليه الخلف فيما أوعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم توبتهم التي كانت سبب رفع العذاب عنهم. وخلاصة ذلك- إن غضبه كان أنفة من ظهور خلف وعده لا كراهية لحكم الله، وقد بحث عنه قومه فلم يجدوه، لأنه نزل إلى سفينة فى البحر هاربا، فأخرجه الله من الأنبياء أولى العزم كما قال لنبيه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» أي لا تلق أمرى كما ألقاه. (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي فظن أن لن نضيّق، عليه الأمر بالحبس أو بغيره. (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) أي فدعا ربه فى الظلمات الثلاث التي سبق ذكرها- سبحانك لا إله غيرك، ولا يعجزك شىء. (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسى بالمبادرة بالهجرة دون أمر منك. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه الذي دعا به، وأظهر به التوبة على ألطف وجه وأحسنه

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 إلى 90]

روى ابن جرير والبيهقي فى جماعة عن سعد بن أبى وقاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوة ذى النون فى بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين، لم يدع بها مسلم ربه فى شىء قط إلا استجاب له» . وروى عن أنس مرفوعا أنه عليه الصلاة والسلام حين دعا بذلك أقبلت دعوته تحفّ بالعرش، فقالت الملائكة هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال الله تعالى: أما تعرفون ذلك؟ قالوا يا رب من هو؟ قال ذاك عبدى يونس، قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبّل ودعوة مجابة، يا رب أفلا ترحم من كان يصنع فى الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال بلى، فأمر الحوت فطرحه ، فذلك قوله: (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ) الذي ناله حين التقمه الحوت، فجعلناه يقدفه إلى الساحل بعد ساعات، قال الشعبي: التقمه ضحى، ولفظه عشيّة. (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من كربهم إذا استغاثوا بنا طالبين رحمتنا. قال الرازي: شرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد، ثم بعده بالتسبيح والثناء، ثم بالاستغفار والاعتراف بالذنب، وسيأتى ذكر هذا القصص فى الصافات ون. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 90] وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) المعنى الجملي بين سبحانه فى هذا القصص انقطاع زكريا إلى ربه لمّا مسه الضر بتفرده، وأحب أن يكون معه من يؤنسه ويقوّيه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته،

الإيضاح

فدعا ربه دعاء مخلص عارف بأنه قادر على ذلك، وأنه قد انتهت الحال به وبزوجه من كبر وغيره إلى اليأس من الولد على مجرى العادة. الإيضاح (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي واذكر خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيا، فقال خفية عن قومه: رب لا تدعنى وحيدا لا ولد لى ولا وارث يقوم بعدي فى النادي، فإن لم ترزقنى من يرثنى فلا أبالى فإنك خير وارث، وقد تقدم هذا القصص، مبسوطا فى سورتى آل عمران ومريم. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي فأجبنا سؤله، ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه بأن أزلنا عنها الموانع التي كانت تمنعها من الولادة، فولدت له بعد أن كانت عقيما. ثم ذكر السبب فى إجابة مطلبهم فقال: (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي لأن زكريا وزوجه ويحيى كانوا يسارعون فى طاعتنا، والعمل بما يقرّبهم إلينا. (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي ويعبدوننا، رغبة منهم فيما يرجون من رحمتنا وفضلنا، وخوفا من عذابنا وعقابنا. (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أي وكانوا لنا متواضعين متذللين، لا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا. وخلاصة ما سلف- إنهم نالوا من الله ما نالوا، لا تصافهم بتلك الخلال الحميدة. [سورة الأنبياء (21) : آية 91] وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الإحصان: المنع مطلقا، والفرج فى الأصل: الشق بين الشيئين كالفرجة، ثم أطلق على السّوءة، وكثر حتى صار كالصريح فى ذلك، والروح هو المعنى المعروف، ونفخ الروح: هو الإحياء، آية: أي برهانا ودليلا على قدرة الله. الإيضاح (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي ومريم التي منعت نفسها من قربان الرجال سواء أكان من حلال أم من حرام كما قالت: «وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» وجاء فى سورة التحريم: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» . (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي فنفخنا الروح فى عيسى فى بطنها وجعلناه يجرى فى جوفها. (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي وجعلنا أمرهما آية للناس يستدلون به على قدرة الله وحكمته، ويتدبرون فيما خصّا به من الآيات. أما آيات مريم فمنها: (1) ظهور الحمل من غير ذكر. (2) إن الملائكة كانت تأتيها برزقها كما حكى القرآن قول زكريا لها وردها عليه: «يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» . وأما آيات عيسى فقد سبق تفصيلها فى سورتى آل عمران ومريم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 97] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأمة: القوم المجتمعون على أمر ثم شاع استعمالها فى الدين، وتقطعوا أمرهم بينهم: أي جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، وحرام: أي ممتنع، وقرية: أي أهلها، أهلكناها: أي قدرنا هلاكها، يأجوج ومأجوج تقدم الكلام فيهما وفى بيان أصلهما، وحدب: أي مرتفع من الأرض، ينسلون: أي يسرعون، واقترب: أي قرب، الوعد الحق: هو يوم القيامة، شاخصة: أي مرتفعة أجفانها لا تكاد تطرف من شدة الهول، والويل: الهلاك. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص جمع من الأنبياء كنوح وإبراهيم وإدريس وموسى وعيسى وبيّن ما أوتوا من الشرائع والأحكام على وجه الإجمال- قفى على ذلك ببيان أن لبّ الدين عند الله واحد، وأن جميع الأنبياء قد اتفقوا عليه، ولم يختلفوا فيه فى عصر من الأعصار، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وأنه هو القاهر فوق عباده المالك لجميع السموات والأرض، لا يئوده حفظهما وهو العلى العظيم، وإن اختلفوا فى الرسوم والأشكال بحسب اختلاف الأزمان والأمكنة، فعليكم أيها المسلمون أن تحافظوا على وحدة دينكم، وألا تجعلوه عضين، وكأنه يقول لهم: عليكم ألا تركنوا

الإيضاح

إلى خوارق العادات كما رأيتم فى قصص موسى، ولا تدعوا نظم الدولة بل سوسوها كما كان يفعل داود وسليمان، ولا تذروا الصبر فى جميع الأعمال كما رأيتم فى قصص أيوب ومن بعده. ثم نعى على المسلمين ما سيحدث منهم فى مستأنف الزمان حين يتفرقون شيعا، يذوق بعضهم بأس بعض، ويجعلون الدين قطعا فيما بينهم كما تتوزع الجماعة الشيء يقتسمونه، فيصير لهذا نصيب ولذاك آخر. وهذا إخبار بالغيب، لما سيحصل فى هذه الأمة الإسلامية، وقد حدث فعلا وافترقت الأمة سياسيا واجتماعيا بوساطة بعض رؤساء الدين، فأعرض الله عن هؤلاء المختلفين وقطّعهم بين الأمم، كما قطعوا أمرهم بينهم واقتسموه. ثم بين سبحانه أنه يثيب عباده على صالح الأعمال إذا كانت القلوب عامرة بالإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن كل عمل جلّ أو قل فهو مكتوب محفوظ لديه، لا يغيب عنه مثقال ذرة، وأن جميع الخلق راجعون إليه، فيثيب كل إنسان بما عمل من خير أو شر، وأن الساعة قد اقترب ميقاتها، ثم أخبر أن المشركين يدعون إذ ذاك على أنفسهم بالويل والثبور، ويقولون يا حسرتنا على ما فرطنا فى جنب الله، وكنا ظالمين لأنفسنا، ولا ينفع الندم إذ ذاك. ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم الإيضاح (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي إن الدين عند الله هو الانقياد له وحده لا يقبل غيره، وعليه اتفق جميع الأنبياء والشرائع، وما اختلفوا إلا فى الرسوم والصور بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة، فعليكم أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا من صنم أو وثن، شجر أو حجر أو بشر أو ملك. ثم نعى على المسلمين ما فعلوا من تفريق شأنهم فرقا وشيعا فقال:

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي وإنهم قد فرقوا أمرهم بينهم فرقا شتى كل فرقة تنمى على من سواها، وتشيد بمفاخرها، وقد كان لهم فى عبر الماضين ما يمنعهم أن يقترفوا مثل هذا الجرم وكبير ذلك الإثم. قال الحسن البصري فى هذه الآية- يبين لهم ما يتّقون وما يأتون- يريد أن هذا إخبار بالغيب بما سيكون منهم. والخلاصة- إنهم قد غفلوا عما أمر به دينهم من وجوب الاعتصام بوحدة الأمة ونبذ الفرقة، ففعلوا ضد هذا، وذاق بعضهم بأس بعض، وكان فى هذا وبال للجميع، وتمكن عدوهم من أن يهيض جناحهم، ويبطش بهم ويستعبدهم فى عقر دارهم، ويسيمهم الخسف والصغار، بعد أن كانوا سادة أحرارا، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ثم توعدهم على ما فعلوا فقال: (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي إنهم سيرجعون إلينا ونجازيهم على تفرقهم واختلافهم شيعا. وفى هذا إخبار بالغيب بما سيحدث فى هذه الأمة التي ذاقت وبال أمرها، وعاقبة اختلافها، وكانت لقمة سائغة للآكلين، ونهبا مقسّما بين الطامعين، جزاء ما اجترحت من التفرق شذر مذر «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . وبعد أن أبان أن افتراق الأمة واقع لا محالة أردفه فتح باب الرجاء فى لمّ شعثها واتفاقها بعد تفرقها، عسى أن تقوم من كبوتها، وترجع إلى وحدتها، وتصير لها الدّولة والصّولة كما كانت فى سالف عهدها فقال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي ومن يعمل صالح الأعمال وقلبه ملىء بالإيمان بربه، والتصديق لأنبيائه ورسله، واليقين بيوم الآخر يوم تجزى كل نفس بما عملت من خير أو شر، فإنا لا نضيع سعيه ولا نبخسه حقه، بل نوفيه على عمله الجزاء الأوفى، وإنا مثبتون له ذلك فى صحيفة أعماله، لا نترك منه شيئا جلّ أو قل، عظم أو حقر.

ونحو الآية قوله: «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» وقوله: «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» . (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ممتنع أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا. (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) أي ويستمر هذا الامتناع إلى قيام الساعة: ومن أماراتها فتح سد يأجوج ومأجوج، وإتيان الناس سراعا من كل مرتفع من الأرض، والمقصود الرد على المشركين فى إنكارهم للبعث والجزاء. والخلاصة- إنه لا تزال حياة من مات وهلك ممتنعة ولا يمكن رجوعهم إليها حتى تقوم الساعة، ويسرع الناس من كل حدب من الأرض. (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وقرب مجىء يوم القيامة، وإذ ذاك تشخص أبصار الذين كفروا وترتفع أجفانهم، فلا تكاد تطرف من هول ما هم فيه حين يقومون من قبورهم ويعلمون أن هذا يوم الحساب الذي لم يعدّوا له العدّة، بل كانوا ينكرون مجيئه وحينئذ يقولون: (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) أي يا هلاكنا احضر فهذا أوانك، فقد كنا فى الدنيا فى غفلة من هذا الذي دهمنا من البعث والرجوع إلى الله للحساب والجزاء- لا بل الحق أننا لم نكن فى غفلة إذ نبهتنا الآيات والنذر، وإنما كنا ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب. وصفوة القول- إن الناس لا يرجعون إلى الحياة حتى تزلزل الأرض زلزالها، ويختل نظام هذا العالم، فتموج الأمم بعضها فى بعض بتفريق أجزائها، لا فرق بين يأجوج ومأجوج وغيرهما- فذكرهما رمز لاختلال الأرض وخرابها، فكأنه قيل إنهم لا يرجعون إلى الحياة إلا إذا اختل نظام العالم ورجّت الأرض رجا، وماجت الأمم بعضها فى بعض، وخرج الكفار من قبورهم شاخصة أبصارهم من الهول الذي هم فيه،

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 إلى 104]

وقد ذكرنا فى سورة الكهف من يأجوج ومأجوج؟ وأين مساكنهم على وجه البسط؟ فلا حاجة إلى إعادته هنا. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 104] إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) تفسير المفردات الحصب: ما يرمى به فى النار لاشتعالها، والزفير: صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف، والحسنى: أي الكلمة الحسنى التي تتضمن البشارة بثوابهم حين الجزاء على أعمالهم، والحسيس: الصوت الذي يحس من حركتها، والسجل: هو الصحيفة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه هول الموقف، ودعاء المشركين على أنفسهم بالهلاك فى هذا الحين، وشخوص أبصارهم من الحيرة والدّهش مما يشاهدون ويرون- أردف هذا ذكر ما يئول إليه أمرهم بعد الحساب، وأنهم يكونون هم ومعبوداتهم من الأصنام والأوثان

الإيضاح

حطبا للنار حين يردونها، وأنهم من شدة العذاب فيها يكون لهم أنين وزفير، حتى لا يسمع بعضهم أصوات بعض، لفظاعة ما هم فيه من العذاب. أما من كتبت له السعادة والنجاة من النار فأولئك يكونون مبعدين عنها لا يسمعون صوت لهيبها، ولا يخافون من أهوالها وآلامها، بل يكونون فى نعيم دائم وتستقبلهم الملائكة مهنئين لهم قائلين: هذا يومكم الذي كنتم توعدون فى الدنيا. ثم أعقب ذلك بذكر حال السماء حينئذ، وأنها تطوى طيا وكأنها لم تكن كما يطوى الكاتب الطومار الذي يكتب فيه، ويحوّل ذلك العالم المشاهد إلى عالم آخر فيخلق الله أرضا جديدة وكواكب جديدة ويعيد الناس للحساب، وهو القادر على ذلك، فكما قدر على خلقه أول مرة يعيده فى حال أخرى كما قال: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» . الإيضاح (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي إنكم أيها المشركون بالله العابدون من دونه الأوثان والأصنام، وما تعبدون من دونه من الآلهة- وقود جهنم، وإنكم واردوها وداخلون فيها. ونحو الآية قوله: «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» . والحكمة فى أن الآلهة تقرن بهم وتدخل معهم فى النار: (1) إنهم كلما رأوهم ازدادوا غما وحسرة، لأنهم ما وقعوا فى العذاب إلا بسببهم وقد قالوا: النظر إلى وجه العدوّ باب من أبواب العذاب (2) إنهم قد كانوا فى الدنيا يظنون أنهم يشفعون لهم فى الآخرة ويدفعون عنهم العذاب، فإذا استبان لهم أن الأمر على عكس ما كانوا يظنون لم يكن شىء أبغض إليهم منهم. (3) إن إلقاءهم فى النار استهزاء بهم وبعبادتهم.

ثم بين لهم بالدليل خطأ ما يعتقدون فقال: (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) أي لو كان هؤلاء الأصنام آلهة كما تزعمون أيها العابدون- ما وردوا النار ولا دخلوها، لكنه قد اتضح لكم على أتمّ وجه أنهم وردوها، إذ صاروا حطبها، فامتنع كونهم آلهة. وقصارى ذلك- إن الأصنام إذا كانت لا تنفع نفسها، ولا تدفع الضر عنها، فهى أبعد من أن تدفع الضر عن غيرها، ومن جرّاء ذلك فهى جديرة بالتحقير والإهانة، لا بالتعظيم والعبادة. (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي وكل من الآلهة ومن عبدوها ما كثون فى النار أبدا، لا خلاص لهم منها. ثم بين أحوالهم فيها فقال: (1) (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي لهم فى النار أنين ونفس متقطع، من شدة ما ينالهم من العذاب. (2) (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) أي وهم فى النار لا يسمع بعضهم زفير بعض، لعظم الهول وفظاعة العذاب. وبعد أن ذكر حال أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف عليه بيان أحوال السعداء من المؤمنين بالله ورسوله وقد أسلفوا صالح الأعمال فقال: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) أي إن الذين سبق لهم التوفيق للطاعة، وأخبتوا لله وأخلصوا له العمل- لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة. ثم ذكر أوصافهم حينئذ فقال: (1) (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي لا يسمعون صوت النار الذي يحسّ من حركتها، ولا يرون اضطرابها من شدة توهّجها. (2) (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي إنهم فى حبور دائم، ونعيم لا ينقطع. (3) (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي لا يخيفهم هول النفخة الأخيرة فى الصور

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 105 إلى 107]

حين قيامهم من قبورهم للحساب كما قال: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» . (4) (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي وتستقبلهم الملائكة بالبشرى من النجاة من العذاب قائلين لهم: هذا هو اليوم الذي كنتم توعدون فى الدنيا بمجيئه، وتبشرون بما لكم فيه من الثواب، كفاء إيمانكم بالله وطاعتكم له، وتزكية أنفسكم بصالح الأعمال، باتباعكم أوامر ربكم واجتنابكم نواهيه. وقصارى ذلك- إنهم خلصوا من كل ما يكرهون، وفازوا بكل ما يحبون (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) أي هم لا يفزعون حين تطوى السماء وتزال، وتأتى سماء أخرى جديدة، وكواكب أخرى، كما يطوى الطومار على ما يكتب فيه، لحفظه من الضياع والمحو. والخلاصة- إنه لا يلحقهم الفزع حين تمحى رسوم السماء وتذهب آثارها، وتخلق أرض جديدة وكواكب جديدة. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي وهكذا نخلقكم خلقا جديدا للحشر كى تحاسبوا، فالناس ترجع للحياة على طراز غير طراز الدنيا، وكذلك العوالم جميعها. (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي تلك الإعادة عدة منا كائنة لا محالة، ولا بد من تحققها، لأنا قادرون عليها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 105 الى 107] وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) تفسير المفردات الزبور: الكتب التي أنزلت على الأنبياء، والذكر: اللوح المحفوظ، والبلاغ الكفاية، والعابد: من عمل بما يعلم من أحكام الشريعة وآدابها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر أحوال كل من الكافرين والمؤمنين فى الآخرة- ذكر أن الدنيا ليست كالآخرة، فلا يرثها إلا من كان قادرا على إصلاحها، والانتفاع بخيراتها، والاستفادة مما على ظاهرها وباطنها، فمن كان أحصف رأيا، وأحكم فكرا، ملكها وتسلط عليها، وجنى ثمارها واهتدى إلى ما أودع فيها من الخير. ثم بين أن ما أوحى إلى الرسول من الشرائع وضروب الهداية كاف جدّ الكفاية لمن يعتبر بسنن الله فى الكون، فيستفيد منها ما ينفعه فى دينه ودنياه، فجميع ما جاء به الوحى من المواعظ وأحكام الشرائع هداية وذكرى لو تدبرها المتدبرون، وتأملها المنصفون. الإيضاح (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) أي ولقد كتب الله عنده، وأثبت فى قديم علمه الأزلى الذي لا ينسى، ثم أثبت فى الكتب السماوية من بعد ذلك أن الأرض لا يعمرها من عباده إلا من يصلح لعمارتها من أي دين كان وأىّ مذهب انتجل. وصلاح الأمة يقوم على أربعة عمد: (1) أن يكون قادتها علماء مفكرين، وساستها حكماء عادلين، بعيدين عن الجور والظلم والمحاباة، يأخذون بيد المظلوم وينصفونه من الظالم، ويعملون لخير الأمة وسعادتها، ويواصلون ليلهم بنهارهم فى كل ما يرفع من شأنها، ويسمو بها على الأمم. (2) أن يكون لها جيش منظم يحمى حريمها، ويدافع عنها إذا جدّ الجدّ، وادلّهم الخطب، ولن يكون كذلك إلا إذا كان فيه المهندسون والمخترعون والقادة البارعون، ولديه من السلاح وعدد الحرب ما يكشف عنه العلم من وسائل الدفاع، من

طائرات وغواصات وسفن خربية وآلات للهدم والتدمير، وجند حذقوا فنون الحرب، ويلوا أساليبها المختلفة. (3) أن يقوم أبناء الحرف المختلفة، من تجار وصناع وزراع بأداء أعمالهم على الوجه المرضى، وكل طائفة منها تظاهر الطوائف الأخرى وتعاونها لخير الجميع، وتقوم بما يجب نحوها من المساعدة فيما يكفل نجاح الأعمال. (4) أن تنظّم هذه الطوائف أعمالها بحيث تتوزع هذه المهن بين الأفراد بحسب حاجة الأمة إليها حتى لا تمد يدها إلى غيرها لمعونتها، ويكون فى كل طائفة جماعة مبرّزون، يفكرون فيما يرقى شئون الطائفة، بحيث تنافس أمثالها فى الأمم الأخرى أو تفوقها، بما أوتيت من حسن التدبير والتصرف. وهذا حكم أيدته التجارب فى سائر العصور لدى جميع الدول، فما من أمة تهاونت فى هذه الأمور أو فى شىء منها إلا حكم عليها بالفناء والزوال، وتواريخ الفرس والروم والأمم الإسلامية والدولة التركية تدل على صدق ما نقول. ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» . (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي إن فيما ذكر فى هذه السورة من أنظمة الدول والتسلط على ألطف الأشياء كالهواء، وعلى أصلبها كالحديد، ومن الجمع بين حرب الأعداء، والاستغراق فى ذكر الله، وتسخير العمال فى المبانى العظيمة، واستخراج ما فى البحار من أصناف اللآلئ، وما فى باطن الأرض من مختلف المعادن- لكفاية لقوم يجمعون بين العلم والعمل، إذ يعلمون أن العلم شجرة، ثمرتها العمل. فعلى المسلمين قاطبة أن يصدعوا بما أمروا به فى هذا الكتاب، وأن يعرضوا عن الجاهلين بأمور دينهم، فالله محاسبهم على أعمالهم، كما يحاسبهم على قدرهم الجسمية،

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 إلى 112]

وليعلموا أنه متى ذاعت هذه الآراء فى الأمة، قامت كلها قومة رجل واحد، فى تنظيم شئونها، وتربية أبنائها تربية تؤهلهم أن يكونوا قادة العالم الإنسانى. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي وما أرسلناك بهذا وأمثاله من الشرائع والأحكام التي بها مناط السعادة فى الدارين- إلا لرحمة الناس وهدايتهم، فى شئون معاشهم ومعادهم. بيان هذا أنه عليه الصلاة السلام أرسل بما فيه المصلحة فى الدارين، إلا أن الكافر فوّت على نفسه الانتفاع بذلك، وأعرض عما هنالك، لفساد استعداده وقبح طويّته، ولم يقبل هذه الرحمة، ولم يشكر هذه النعمة، فلم يسعد لا فى دين ولا دنيا، كما قال «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» وقال فى صفة القرآن «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» وقال صلّى الله عليه وسلم «إن الله بعثني رحمة مهداة» . [سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112] قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) تفسير المفردات مسلمون: أي منقادون خاضعون، تولوا: أي أعرضوا، آذنتكم: أي أعلمتكم وكثر استعماله فى الإنذار كما فى قوله: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ما توعدون: من

المعنى الجملي

غلبة المسلمين عليكم، فتنة: أي اختبار، واحكم: أي اقض، وبالحق: أي العدل والمراد بذلك تعجيل العذاب لهم، ما تصفون: أي ما تقولون وتفترون من الكذب كقولكم «بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ» وقولكم إن للرحمن ولدا. المعنى الجملي بعد أن أورد سبحانه الحجج والبراهين، لإقناع الكافرين بأن رسالة الرسول حق، حتى لم يبق فى القوس منزع، وبلغ الغاية التي ليس بعدها غاية، وبين أن هذا الرسول رحمة للعالمين، وهداية للناس أجمعين، وأن من اتبعه سلك سبيل الرشاد، ومن نأى عنه ضل وسار فى طريق الغواية والعناد- أردف ذلك ما يكون إعذارا وإنذارا، فى مجاهدتهم والإقدام على مناوأتهم، بعد أن أعيته الحيل، وضاقت به السبل، ولم تغنهم الآيات والنذر، فتمادوا فى غوايتهم، ولجّوا فى عنادهم، وأصبح من العسير إقناعهم وهدايتهم. الإيضاح (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي قل لمشركى قومك ولمن بلغته الدعوة من غيرهم: ما أوحى إلىّ ربى إلا أنه لا إله إلا هو، فلا تصلح العبادة لسواه، فانقادوا لأمره، وأذعنوا لطاعته، وابتعدوا عن عبادة الأوثان والأصنام، وتبرءوا منها حتى تسلكوا سبيل النجاة، وتفوزوا بالسعادة. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي فإن أعرضوا عن اتباع ما أوحى إليك فقل لهم: هأنذا أعلمكم بأنى حرب لكم، كما أنكم حرب لى، فأنا برىء منكم كما أنكم برآء منى، وأنتم سواء فى هذا الإعلام، لا أخص أحدا منكم دون أحد. ونحو الآية قوله «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» .

(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي وإن ما توعدون من غلب المسلمين عليكم واقع لا محالة، ولكن لا علم لى بقربه ولا ببعده، لأن الله لم يطلعنى على ذلك. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي إن الله يعلم ما تجهرون به من الطعن فى الإسلام وتكذيب الآيات، ويعلم ما تكتمون من الأضغان والعداوات للمسلمين، فيجازيكم على قليل ذلك وجليله. (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي وما أدرى سبب تأخير جزائكم، ولعل ذلك زيادة فى افتتانكم وامتحانكم، لينظر كيف تعملون، وإنه ليؤخركم إلى حين، كى تتمتعوا بلذات الدنيا مع إعراضكم عن الإيمان، فيكون فى ذلك زيادة عذابكم، لأن المعرض عن الإيمان مع توالى الآيات وتتابع البينات والنذر يكون عقابه أشد. (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي قال الرسول: رب افصل بينى وبين من كذبنى من مشركى قومى، وكفر بك وعبد غيرك، بإحلال عذابك ونقمتك به بالعدل الذي يقتضى تعجيل العذاب به، وتشديده عليه. وخلاصة ذلك- رب عجّل بعذابهم وقد أجاب الله دعوته وأنزل بهم العذاب الأليم يوم بدر. قال قتادة: كان الأنبياء يقولون «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» فأمر رسول الله أن يقول ذلك. (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي والله المستعان على ما تصفون، من الشرك والكفر، والكذب والأباطيل، كقولكم إن الله اتخذ ولدا، وقولكم فى الرسول «بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ» . وخلاصة ذلك- إنه طلب من ربه أن يحكم بما يظهر الحق للجميع، وأمره ربه أن يتوعد الكفار بقوله: وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.

خلاصة ما تتضمنه هذه السورة

وقد كثر استعمال الوصف فى الكتاب الكريم بمعنى الكذب كقوله «وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» وقوله «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ» وصلّى الله على محمد وآله. خلاصة ما تتضمنه هذه السورة (1) الإنذار بقرب الساعة مع غفلتهم عنها. (2) إنكار المشركين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه بشر مثلهم، وأن ما جاء به أضغاث أحلام، وأنه قد افتراه، ولو كان نبيا حقا لأتى بآية كآيات موسى وعيسى. (3) الرد على هذه الشبهة بأن الأنبياء جميعا كانوا بشرا، وأهل العلم من اليهود والنصارى يعلمون ذلك حق العلم. (4) الإخبار بأن الله أهلك كثيرا من الأمم المكذبة لرسلها وأنشأ بعدهم أقواما آخرين. (5) بيان أن السموات والأرض لم تخلقا عبثا، وأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يملّون. (6) إقامة الدليل على وحدانية الله تعالى والنعي على من يتخذ آلهة من دونه بلا دليل على صدق ما يقولون مع أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم أنه لا إله إلا هو. (7) النعي على من ادعى أن الملائكة بنات الله. (8) وصف النشأة الأولى ببيان أن السموات والأرض كانتا رتقا فانفصلتا، وأن الجبال جعلت فى الأرض أوتادا حتى لا تميد بأهلها، وأن كلا من الشمس والقمر يسبح فى فلكه. (9) استعجال الكافرين للعذاب، مع أنهم لو علموا كنهه ما طلبوه. (10) بيان أن الساعة تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون. (11) قصص بعض الأنبياء كموسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذى الكفل ويونس وزكريا وقصص مريم.

(12) بيان أن الدين الحق عند الله هو الإسلام وبه جاءت جميع الشرائع والاختلاف بينها إنما هو فى الرسوم بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة. (13) حادث يأجوج ومأجوج من أشراط الساعة واقتراب يوم القيامة. (14) بيان أن الأصنام وعابديها يكونون يوم القيامة حطب جهنم، وأنهم لو كانوا آلهة حقا ما دخلوها. (15) وصف ما يلاقيه الكفار من الأهوال فى النار يوم القيامة. (16) وصف النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة إذ ذاك. (17) بيان أن الأرض ستبدل غير الأرض، وأن السماء تطوى طى السحل للكتاب. (18) إن سنة الله فى الكون أن يرث الأرض من يصلح لعمارتها من أي دين كان وأيّ مذهب اعتنق. (19) الوحى إنما جاء بالتوحيد وأن لا إله إلا إله واحد، وأن الواجب الاستسلاء له والانقياد لأمره. (20) ما ختمت به السورة من طلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم الله بينه وبين أعدائه المشركين، وأنّ الله هو المستعان على ما يصفونه به من أنه مفتر وأنه محنور وأنه شاعر يتربصون به ريب المنون.

سورة الحج

سورة الحج هى مدينة إلا الآيات 52، 53، 54، 55 فبين مكة والمدينة، والأصح أنها مختلطة منها المكي ومنها المدني، قال العزيزي وهى من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، محكما ومتشابها. وآيها ثمان وسبعون. وهى بحسب موضوعاتها أقسام ثلاثة: (1) البعث والدليل عليه وما يتبع ذلك. (2) الحج والمسجد الحرام. (3) أمور عامة كالقتال وهلاك الظالمين والاستدلال بنظام الدنيا على وجود الخالق وضرب المثل بعجز الأصنام وعدم استطاعتها خلق الذباب. ومناسبتها للسورة قبلها من وجوه: (1) إن آخر السورة قبلها كان فى أمر القيامة كقوله: يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب، وقوله: واقترب الوعد الحق- وأول هذه السورة الاستدلال على البعث بالبراهين العقلية. (2) إنه قد أقيمت فى السورة السالفة الحجج الطبيعية على الوحدانية- وفى هذه جعل العلم الطبيعي من براهين البعث. (3) فى السورة السالفة وما قبلها قصص الأنبياء وبراهينهم لقومهم، وفى هذه السورة خطاب من الله للأمم الحاضرة، وهو خطاب يسترعى السمع ويوجب علينا ولو إجمالا أن نعرف صنع الله فى أرضه وسمائه وتدبيره خلق الأجنّة والنبات والحيوان

[سورة الحج (22) : الآيات 1 إلى 2]

[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) تفسير المفردات التقوى: التباعد عن كل ما يكسب الإثم من فعل أو ترك، والزلزلة: الحركة الشديدة بحيث تزيل الأشياء من أماكنها، والذهول: الدهش الناشئ عن الهمّ والغم الكثير، والمرضعة: الأنثى حال الإرضاع، والمرضع ما من شأنها أن ترضع ولو لم ترضع حال وصفها به. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي يا أيها الناس احذروا عقاب ربكم، فأطيعوه ولا تعصوه، بفعل ما أمركم به من الواجبات، وترك ما نهاكم عنه من المحرمات، وهذا خطاب ينتظم فيه المكلفون حين النزول ومن سيوجدون بعده إلى يوم القيامة. ثم علل هذا الأمر بقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) أي إن الزلزلة التي تكون حين قيام الساعة قبل قيام الناس من أجداثهم كما قال: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» وقال: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» الآية، وقال: «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» الآية- أمر هائل وخطر عظيم، لا يقدر قدره إلا موجده، وإذا كانت الزلزلة

[سورة الحج (22) : الآيات 3 إلى 4]

وحدها لا تحتمل، فما بالك بما يحدث فى ذلك اليوم من الحشر والجزاء والحساب على الأعمال لدى من لا يغيب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء. ثم بين شيئا من أهوال هذا اليوم فقال: (1) (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي فى هذا اليوم يبلغ الأمر من الدهشة والاضطراب والحيرة والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الذي ترضعه، وهو أعز شىء لديها، فكيف بذهولها عن سواه؟. (2) (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي وتسقط كل ذات حمل الجنين الذي فى بطنها قبل التمام رعبا وفزعا قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما فى بطنها بغير تمام. (3) (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) أي وترى الناس حينئذ، كأنهم سكارى وما هم بسكارى على التحقيق، ولكن شدة العذاب هى التي أذهلت عقولهم، وأذهبت تمييزهم. وقد يكون المراد من ذهول الحامل ووضع المرضع ضرب المثل لشدة الأمر وبلوغه أقصى الغايات كما يؤوّل به أيضا قوله تعالى: «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» . [سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 4] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) المعنى الجملي بعد أن أخبر فيما سلف بأهوال يوم القيامة وشدتها، ودعا الناس إلى تقوى الله- بين أنه مع هذا التحذير الشديد فإن كثيرا من الناس ينكرون هذا البعث، ويجادلون فى أمور الغيب بغير علم.

الإيضاح

أخرج ابن أبى حاتم أن هذه الآيات نزلت فى النضر بن الحارث وكان جدلا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا يقدر الله على إحياء من بلى وصار ترابا. الإيضاح (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ومن الناس من يتعاطى الجدل فيما يجوز على الله من الصفات والأفعال، وما لا يجوز عليه، غير متبع فى ذلك حجة ولا برهانا بل يجهل بحقيقة ما يقول، فيزعم أن الله غير قادر على إحياء من بلى وصار ترابا، وأن لله ولدا، وأن القرآن ما هو إلا أسطورة من أساطير الأولين إلى نحو ذلك من الترّهات والأباطيل. وقد ذم المجادلة بغير علم فأومأ إلى أن الجدل إذا كان مع العلم والحجة والبرهان فلا يدم ولا يقبح، وعليه جاء قوله تعالى: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» . (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) المريد المتجرد للفساد، العاري عن الخير، من قولهم شجرة مرداء إذا كان لا ورق لها، ورملة مرداء إذا لم تنبت شيئا، أي ومن الناس من يتّبع فى كل ما يأتى وما يذر من شئونه وأهوائه، شياطين من شياطين الإنس والجن الذين يزينون له طرق الغواية، ويسلكون به الطرق التي تزلق به فى المهاوى، ويقودونه إلى الأعمال التي تصل به إلى النار، من شرك بالله وعبادة للأوثان والأصنام، وشرب للخمر، ولعب للميسر، إلى نحو أولئك مما يحسّنون له عمله، ويكونون له فيه القادة الذين لا يردّ لهم قول، ولا يقبح منهم فعل. ثم وصف سبحانه ذلك الشيطان بقوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي قدر سبحانه أن من اتبع ذلك الشيطان، وسلك سبيله، أضله فى الدنيا، بما يوسوس له، ويدسّى

[سورة الحج (22) : الآيات 5 إلى 7]

به نفسه، ويزين لها من اتباع الغواية، الفجور، وسلوك سبيل المعاصي والآثام التي توبقه فى جهنم وبئس القرار. وخلاصة ذلك- إنه يضله فى الدنيا، ويقوده فى الآخرة إلى عذاب السعير، بما يجترح من السيئات، ويرتكب من الآثام. [سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) تفسير المفردات الريب: الشك، وأصل النطفة: الماء العذب ويراد بها هنا ماء الرجل، والعلقة: القطعة الجامدة من الدم، والمضغة: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ، والأجل المسمى: هو حين الوضع، والطفل: يكون للواحد والجمع، والأشد: القوة، وأرذل العمر: أدنؤه وأردؤه، هامدة: أي ميتة يابسة من قولهم همدت الأرض إذا يبست ودرست، وهمد الثوب: بلى، واهتزت: أي اهتز نباتها وتحرك، وربت: ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات، زوج: أي صنف، بهيج: أي حسن سارّ للناظرين، والحق: هو الثابت الذي يحق ثبوته.

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما حكى سبحانه عن المشركين الجدل بغير علم فى البعث والحشر وذمهم على ذلك- قفى على هذا بإثباته من وجهين: (1) الاستدلال بخلق الحيوان وهو ما أشار إليه فى الآية الأخرى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» وقوله «فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . (2) الاستدلال بحال خلق النبات فى قوله «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً» إلخ. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) أي إن كنتم فى شك من مجىء البعث فانظروا إلى مبدإ خلقكم ليزول ريبكم وتعلموا أن القادر على خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم ثانيا. وعبر سبحانه بالريب مع أنهم موقنون بعدم حصوله، إيذانا بأن أقصى ما يمكن صدوره منهم وإن بلغوا غاية المكابرة والعناد- هو الارتياب فى شأنه، أما الجزم بعدم إمكانه فلا يدور بخلد عاقل على حال. ثم ذكر سبحانه من مراتب الخلق أمورا سبعة: (1) (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) إذ خلق الإنسان من المنى المتولد من الأغذية، والأغذية تنتهى إلى النبات، وهو يتولد من الأرض والماء. (2) (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم من منى مكون من الدم المتولد من الغذاء المنتهى إلى التراب: (3) (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي ثم من دم جامد غليظ، ولا يخفى ما بين الماء والدم من المباينة والمخالفة.

(4) (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي ثم من قطعة من اللحم مسوّاة، لا نقص فيها ولا عيب فى ابتداء خلقها، ومضغة غير مسواة، فيها عيب، وبهذا التفاوت فى الخلق يتفاضل الناس فى صورهم وأشكالهم وطولهم وقصرهم. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي خلقناكم على هذا النمط البديع، لنبين لكم جميل نظامنا، وعظيم حكمتنا، التي من جملتها أمر البعث. (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ونبقى ما نشاء من الأجنّة إلى الوقت الذي قدّر أن تلد فيه المرأة. (5) (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) أي ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الأجل الذي قدّرته لخروجكم منها أطفالا صغارا فى المهد. (6) (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي ثم يعمّركم ويسّهل تربيتكم حتى تبلغوا كمال عقولكم، ونهاية قواكم. (7) (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي ومنكم من يتوفى على كمال قوته وكمال عقله، ومنكم من يبقى حتى يبلغ الهرم والخرف فيصير كما كان فى أول طفولته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم. وخلاصة ذلك- إنه إما أن يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل. ثم ذكر الاستدلال على إمكان البعث بحال خلق النبات أيضا فقال: (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي وترى الأرض يابسة دارسة الآثار من النبات والزرع، فإذا نحن أنزلنا عليها الماء تحركت بالنبات وازدادت وانتفخت، لما يتداخلها من الماء والنبات، ثم أنبتت أنواعا يسر الناظرين ببديع منظرها، وجميل شكلها، واختلاف طعومها وروائحها، ومقاديرها ومنافعها.

وبعد أن قرر سبحانه هذين البرهانين رتب عليهما النتيجة الحتمية لذلك، وذكر أمورا خمسة: (1) (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أي هذا الذي ذكرت لكم من بدئنا خلقكم فى بطون أمهاتكم، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد وبعده، طفلا وكهلا وشيوخا فى حال الهرم، وتنبيهنا إياكم إلى فعلنا بالأرض الهامدة بما ينزل عليها من الغيث- لتصدّقوا بأن الذي فعل ذلك هو الله الحق الذي لا شك فيه، وأن ما تعبدون من الأوثان والأصنام فهو باطل، لأنها لا تقدر على فعل شىء من ذلك. (2) (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي ولتعلموا أن الذي قدر على هذه الأشياء البديعة لا يتعذر عليه أن يحيي الموتى بعد فنائها ودروسها فى التراب. (3) (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وأن فاعل ذلك قادر على كل شىء. ولا يمتنع عليه شىء أراده، فهو قادر على إيجاد جميع الممكنات، ومن ذلك إعادة الأجسام بعد موتها. (4) (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي ولتعلموا أن الساعة التي وعدكم أن يبعث فيها الموتى من قبورها آتية لا محالة، ولا شك فى حدوثها، وليس لأحد أن يرتاب فيها (5) (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي ولتوقنوا بأن الله حينئذ يبعث من فى القبور أحياء إلى مواقف الحساب. وخلاصة ذلك- أنكم إذا تأملتم فى خلق الحيوان والنبات أمكنكم أن تستدلوا بذلك على وجود الخالق وقدرته على إحياء الموتى وعلى غيرها من الممكنات، وأن الساعة آتية لا شك فيها، وأنه يبعث من فى القبور للحساب والجزاء، ولولا ذلك ما أوجد هذا العالم، لأن أفعاله تعالى مبنية على الحكم الباهرة، والغايات السامية.

[سورة الحج (22) : الآيات 8 إلى 10]

[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) تفسير المفردات الهدى: الاستدلال والنظر الصحيح الموصل إلى المعرفة، والكتاب المنير: الوحى المظهر للحق، ثانى عطفه: أي لاويا جانبه متكبرا مختالا، ونحوه تصعير الخد ولىّ الجيد. والخزي: الهوان والذل، عذاب الحريق: أي عذاب النار التي تحرق داخليها.. المعنى الجملي بعد أن ذكر فى الآية قبلها حال الضلال المقلدين الذين يتبعون أهل الكفر والمعاصي- أردف ذلك بذكر حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفرة والمبتدعين. الإيضاح (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي ومن الناس من يخاصم فى توحيد الله والإقرار بالألوهية، بغير علم منه بما يخاصم به، ولا برهان معه على ما يقول، ولا وحي من الله أتاه ينير حجته، بل يقول ما يقول من الجهل ظنا منه وتخرّصا. وخلاصة ذلك- إنه يجادل بلا عقل صحيح، ولا نقل صريح، بل يجادل اتباعا للرأى والهوى. (ثانى عطفه) تقول العرب: جاءنى فلان ثانى عطفه إذا جاء متبخترا متكبرا،

[سورة الحج (22) : الآيات 11 إلى 13]

فالمراد- ومن الناس من يجادل وهو لاو عنقه معرض عما يدعى إليه من الحق مستكبر عن قبوله. ونحو الآية قول لقمان لابنه: «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ» . (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي ليصد المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم الله إليه ويستنزلهم عنه. وبعد أن ذكر فعله وثمرته ذكر ما أعدّ له عليه فى الدنيا والآخرة فقال: (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي له فى الدنيا إهانة وذل كفاء استكباره عن آيات الله كما حدث من القتل والأسر بأيدى المؤمنين يوم بدر، وسيصلى فى الآخرة عذاب النار ويحرق بلهبها. ثم بين سبحانه سبب هذا الخزي المعجّل والعذاب المؤجل فقال: (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي ويقال له حينئذ: إن هذه النار التي تصطلى بلهبها اليوم- جزاء ما اجترحت يداك فى الدنيا من الآثام، واكتسبته من الذنوب والمعاصي (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي وقد فعلنا ذلك، لأن الله لا يظلم عباده، فيعاقب بعض عبيده على جرم، ويعفو عن مثله عن آخر غيره. وقصارى ذلك- إنهم استحقوا هذا العذاب لما اجترحوه من الآثام والذنوب، والله لا يظلم أحدا بغير جرم قد فعله. ومآل ذلك توبيخهم وتبكيتهم بأنهم هم سبب هذا العذاب. [سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

تفسير المفردات

تفسير المفردات على حرف: أي على طرف، خير: أي سعة فى المال وكثرة فى الولد، فتنة: أي بلاء ومحنة فى نفسه أو أهله أو ماله، على وجهه: أي جهته ويراد بذلك أنه ارتد ورجع إلى الكفر، خسر الدنيا والآخرة: أي ضيّعهما، إذ فاته فيهما ما يسره، يدعو الأولى يراد بها يعبدو يدعو الثانية يراد بها يقول- والمولى: الناصر، والعشير: الصاحب والمعاشر المعنى الجملي بعد أن ذكر حال الضالين المقلدين الذين يجادلون فى توحيد الله بلا بينة ولا دليل، وحال المضلين الذين يجادلون بلا سلطان من عقل، ولا برهان صحيح من نقل، ثم سوء مآلهما فى الدنيا والآخرة وأن لهما فى الدنيا خزيا وفى الآخرة عذابا فى النار تحترق منه أجسامهما- أعقب ذلك بذكر قوم مضطربى الإيمان، مذبذبين فى دينهم، لا ثبات لهم فى عقيدتهم، ولا استقرار لهم فى آرائهم، إن أصابوا خيرا فرحوا به وركنوا إليه، وإن نالهم بلاء وشدة فى أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم ارتدوا كفارا، فلحقهم الخسار والدمار فى دينهم ودنياهم، وذلك هو الخسران الذي لا خسران بعده وهم فى ذلك الحين يعبدون الأصنام والأوثان، لتكشف عنهم ضرهم وتدفع عنهم ما نزل بهم من البلاء، وقد ضلوا فى ذلك ضلالا بعيدا، وأنهم يوم القيامة ليجأرون ويصرخون ويقولون: (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) . روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فى أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صح جسمه ونتجت

الإيضاح

فرسه مهرا حسنا أو ولدت امرأته غلاما أو كثر ماله وما شيته- رضى به واطمأن إليه وإن أصابه وجع أو ولدت امرأته جارية أو أجهضت رماكه (خيله) أو ذهب ماله. أو تأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان وقال له: ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين فينقلب عنه. الإيضاح (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) أي على طرف من الدين لا فى وسطه وقلبه، فهو فى قلق واضطراب فيه لا فى سكون وطمأنينة، فمثله مثل الذي يكون على طرف من العسكر إن أحسّ بغنيمة قرّ وسكن، وإن كانت هزيمة فرّ وهام على وجهه، وهذا ما أشار إليه بقوله: (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي فإن أصابه ورخاء وسعة فى العيش سكن واستبشر بهذا الخير والدين فعبد الله، وإن أصابه شر وبلاء فى جسمه أو ضيق فى معيشته ارتد ورجع إلى الكفر. والثبات فى الدين إنما يكون إذا كان الغرض منه إصابة الحق وطاعة الرب والخوف من عقابه، أما إذا كان المقصد منه الخير المعجّل فإنه يظهر فى السراء ويختفى لدى الضراء، وهذا هو النفاق بعينه كما يرشد إلى ذلك قوله فى المنافقين: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» وقوله: «فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» . وخلاصة ذلك- أن من الناس من ليس له ثبات فى أمر دينه، بل هو مرجحنّ مضطرب مذبذب، يعبد الله على وجه التجربة انتظارا للنعمة، فإن أصابه خير بقي مؤمنا، وإن أصابه شر من سقم أو ضياع مال أو فقد ولد ترك دينه وارتد كافرا. ثم بين سوء عاقبة عمله فقال:

[سورة الحج (22) : آية 14]

(خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي ضيّع نفعهما، وزالت عنه فائدتهما، فإنه خسر فى الدنيا العزّ والكرامة وإصابة الغنيمة، وخسر فى الآخرة الثواب الدائم، بل حل به العقاب اللازب. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي ذلك هو الخسران الذي لا خسران مثله لمن تدبر فيه وتفكر. ثم أكد عظم ذلك الخسران بقوله: (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) أي يعبد من دون الله آلهة لا تضره إن لم يعبدها فى الدنيا، ولا منفعة له فى الآخرة إن عبدها. (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك الارتداد وعبادة تلك الآلهة دون الله هو السير على غير استقامة والذهاب على غير هدى، فما مثله إلا مثل من أبعد فى التيه ضالا، وبعدت مسافة ضلاله، فلم يهتد إلى الصراط السوي، ولم ينل ما يبتغى وبلغت به الحيرة كل مبلغ. ثم زاد ما سلف توكيدا وبين مآل دعائه وعبادته غير الله فقال: (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي يقول الكافر برفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بذلك المعبود ودخوله النار بسببه، ولا يرى أثرا مما كان يتوقع من نفعه لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير. وخلاصة ذلك- أىّ عشير هذا، وأي ناصر ذاك الذي لا ينفع ولا ينصر من يعاشره؟ والله لبئس العشير ولبئس النصير. [سورة الحج (22) : آية 14] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما ذكر فى الآية السالفة حال عباده المنافقين وحال معبوديهم- عطف على ذلك بذكر حال المؤمنين الذين آمنوا بقلوبهم، وصدّقوا إيمانهم بأفعالهم، وعملوا الصالحات وتركوا المنكرات. الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله سبحانه يتفضل على المؤمنين الذين عملوا صالح الأعمال، ويكافئهم لقاء إحسانهم، بدخول الجنات التي تجرى من تحت أشجارها الأنهار جزاء وفاقا على ما قاموا به من جليل الأعمال، وما زكّوا به أنفسهم من جميل الخصال: ولما بين سبحانه حال الفريقين ذكر أنه قادر على أن يفعل بهما ما يشاء فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من إكرام من يطيعه وإهانة من يعصيه، لا رادّ لحكمه، ولا مانع لقضائه، فهو يعطى المتقين ضروبا من الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال: «فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» ويدخل الكافرين نارا وقودها الناس والحجارة، لما دسّوا به أنفسهم من أنواع الرجس والفسوق. [سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) تفسير المفردات بسبب: أي بحبل، إلى السماء: أي إلى سقف بيته، ليقطع: أي ليختنق، فلينظر: أي فليقدر فى نفسه النظر، كيده: أي فعله، ما يغيظ: أي غيظه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر حال المجادل بالباطل وخذلانه فى الدنيا، لأنه لا يدلى بحجة من العقل ولا ببرهان من الوحى، ثمّ بيّن ما يئول إليه أمره من النكال فى الدنيا والخزي فى الآخرة، ثم ذكر مشايعيه وعمم خسارهم فى الدارين، وأردف ذلك ذكر حال المؤمنين وما يلقونه من السعادة والنعيم فى الدار الآخرة- قفى على ذلك بذكر المجادل عنهم وعن دين الله بالتي هى أحسن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغ فى إثبات نصره بما لا مزيد عليه، ثم ذكر شأن كتابه وأنه آيات واضحات ترشد إلى سواء السبيل. الإيضاح (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) أي من كان يحسب أن الله لن ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم فى الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى سماء بيته ثم ليختنق به، ثم ليصور فى نفسه النظر، هل يذهبنّ ذلك الكيد الذي كاده، والفعل الذي فعله ما يغيظه من النصرة- كلّا. وخلاصة المعنى- من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا ولا كتابه ولا دينه فليذهب وليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» وسيعلى فى الدنيا كلمته ويظهر دينه، ويرفع فى الآخرة درجته ويدخل من صدقه جنات تجرى من تحتها الأنهار وينتقم ممن كذّبه، ويذيقه عذاب الحريق، فمن كان من أعاديه يغيظه ذلك فليبالغ فى كيده إلى أقصى مجهوده، فقصارى أمره خيبة مسعاه ودوام غيظه دون أن يصل إلى غاية، أو يبلغ أمنيّة. وتلخيص هذا- أيها الكاره لمحمد الذي أرسل لإنقاذك، إن نعم الله على

[سورة الحج (22) : آية 17]

عباده كثيرة ولا سيما بعثة الأنبياء، فإذا كرهت ما أنعم الله به عليك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكأنك تختنق، لأنك تكره النعم لنفسك فتستبيح خنقها من حيث لا تشعر. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي وكما بينت لكم حججى على من جحد قدرتى على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه وأوضحتها غاية الإيضاح- أنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها. وخلاصة ذلك- إن القرآن كله كامل البيان فى جميع أبوابه وفصوله لا فى أمر البعث وحده. (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي وكذلك أنزله ليوفق به لسبيل الحق من أراد هدايته وإرشاده إلى سبل السلام. [سورة الحج (22) : آية 17] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) تفسير المفردات الذين هادوا: هم اليهود، والصابئين: قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور، وفى كتاب الملل والنحل للشّهرستانى: إن الصابئة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال لمقابليهم الحنفاء، وعمدة مذهبهم تعظيم النجوم ثوابتها وسياراتها، والمجوس- على ما قاله قتادة- قوم يعبدون الشمس والقمر والنيران، والذين أشركوا: هم عبّاد الأوثان، فالأديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن، يفصل: أي يقضى بإظهار المحقّ من المبطل، شهيد: أي عالم بكل الأشياء ومراقب لها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فى الآية السالفة أنه سبحانه يهدى من يريد- أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي إن الله يقضى بين هذه الفرق، ويجازى كلّا بما يفعل، ويضعه فى الموضع اللائق به، إذ ليس شىء من أحوالهم بغائب عنه، بل هو عليم بأقوالهم مراقب لأفعالهم. وخلاصة ذلك- إنه تعالى يحكم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ويلقى من كفر به فى جهنم، وبئس القرار، وهو الشهيد على أعمالهم، الحفيظ لأفعالهم، العليم بسرائرهم، وما تكنّه ضمائرهم. [سورة الحج (22) : آية 18] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) تفسير المفردات ألم تر: أي ألم تعلم، والسجود: لغة التطامن والتذلل، ثم أطلق على التذلل لله وعبادته، وهو ضربان: سجود بالاختيار، وهو خاص بالإنسان وبه يستحق الثواب. وسجود بالتسخير والانقياد لإرادته سبحانه، وهو دالّ على الذلة والافتقار إلى عظمته، جلّت قدرته، من فى السموات: هم الملائكة، ومن فى الأرض: هم الإنس والجن، وحق، أي ثبت وتقرر.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أبان فيما سلف أنه تعالى يقضى بين أرباب الفرق السالفة يوم القيامة وهو شهيد على أقوالهم وأفعالهم- أردف هذا ببيان أنه ما كان ينبغى لهم أن يختلفوا. ألا يرون أن جميع العوالم العلوية والسفلية كبيرها وصغيرها، شمسها وقمرها ونجومها، وجبالها وحيوانها ونباتها- خاضعة لجبروته مسخرة لقدرته، وقد كان فى هذا مقنع لهم لو أرادوا- ولكن من يهنه الله ويكتب عليه الشقاء فلا يستطيع أحد أن يسعده. فالله وحده هو القدير على الإشقاء والإسعاد. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي ألم تعلم أيها المخاطب بهذا أن هذه الخلائق مسخرة لقدرة بارئها، وجبروت منشئها، منقادة لإرادته طوعا أو كرها فهى مفتقرة فى وجودها وبقائها إليه، فهو الذي أنشأها ورتّبها، وأكمل وجودها على النحو الذي أراده، والحكمة التي قدرها لها فى البقاء. وأفرد الشمس وما بعدها بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله، فعبدت الشمس حمير، والقمر كنانة، والشّعرى لخم، والثريّا طي، والمصريون عبدوا العجل (أبيس) وعبدت العزّى- شجرة- غطفان. (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي وكثير منهم لا يسجدون فاستحقوا بذلك العذاب (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي ومن يهنه الله من خلقه فيكتب له الشقاء لسوء استعداده فما له من مكرم يسعده، لأن الأمور كلها بيده يوفق من يشاء لطاعته، ويخذل من يشاء لتدسيته نفسه، واجتراحه للسيئات، وارتكابه للآثام والمعاصي.

[سورة الحج (22) : الآيات 19 إلى 24]

(إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي إن الله يفعل فى خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته، وإكرام من أراد إكرامه، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) تفسير المفردات خصمان: واحدهما خصم، وهو من له رأى غير رأيك فى موضوع ما، وكل منهما يحاجّ صاحبه فيه، قطعت لهم: أي قدّرت، والحميم: الماء الذي بلغت حرارته أقصى الغاية، يصهر به: أي يذاب، ومقامع: واحدها مقمعة، وهى السوط، والغم: الحزن الشديد، والطيّب من القول: ما يقع فى محاورة أهل الجنة بعضهم بعضا، وصراط الحميد: أي الطريق المحمود فى آداب المعاشرة والاجتماع. المعنى الجملي بعد أن ذكر أرباب الفرق الست فيما سلف، وذكر أن الله يفصل بينهم يوم القيامة وهو العليم بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم- قفىّ على ذلك بذكر طرفى الخصومة،

الإيضاح

وتعيين موضع الخصومة، وبيان مآل كل من الفريقين من الإهانة والكرامة، والعذاب والنعيم. أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: تخاصم المؤمنون واليهود فقالت اليهود: نحن أولى بالله تعالى وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله تعالى. آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنا بنبيكم، وبما أنزل الله تعالى من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا فنزلت الآية ويرى جماعة من الصحابة والتابعين وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول أن المراد بالخصمين هنا هم الذين برزوا يوم بدر، فمن المؤمنين حمزة وعلى وعبيدة، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وكان أبو ذر يقسم إن هذه الآيات نزلت فى هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه فى الصحيحين وغيرهما. وروى البخاري وغيره عن علىّ أنه قال: فينا نزلت هذه الآية وأنا أول من يجثو فى الخصومة على ركبتيه بين يدى الله يوم القيامة. الإيضاح (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي إن أهل الأديان الستة التي سبق ذكرها فريقان: فريق المؤمنين. وفريق الكافرين أرباب الديانات الخمس المتقدمة- جادلوا فى دين الله، فكل فريق يعتقد أن ما هو عليه هو الحق وأن ما عليه خصمه هو الباطل، وبنى على ذلك كل أقواله وأفعاله، وهذا كاف فى تحقيق الخصومة وإن لم يحصل بينهما تحاور بالفعل. ثم ذكر مآل كل فريق وما يلقاه من الجزاء بعد أن يفصل الله بينهما، وذكر من جزاء فريق الكافرين أمورا ثلاثة: (1) (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فالكافرون أعدّت لهم نيران تحيط بهم كأنها ثياب قدّرت على قدر أجسامهم.

ولا يخفى ما فى هذا الأسلوب من التهكم بهم واحتقار شأنهم. والتعبير بثياب، للإشارة إلى تراكم طبقات النار المحيط بهم وكون بعضها فوق بعض. وشبيه بالآية قوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» . (2) (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يصب من فوق رءوسهم الماء الحار الذي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يحرق جلودهم، فله أثر فى الباطن والظاهر. أخرج عبد بن حميد والترمذي فى جماعة عن أبى هريرة أنه تلا هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ من الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما فى جوفه حتى يبلغ قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان» . (3) (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) أي ولتعذيبهم سياط من حديد، تضرب بها رءوسهم ووجوههم، يقمعون بها ويردّون ردا عنيفا إذا أرادوا الهرب من النار. وإلى هذا أشار بقوله: (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي إنهم كلما حاولوا الهرب من جهنم والخروج منها حين يلحقهم عظيم عذابها أعيدوا فيها وضربوا بسياط من حديد وقيل لهم: ذوقوا عذاب هذه النار التي تحرق الأمعاء والأحشاء. وبعد أن بين سوء حال الكافرين أردف ذلك ببيان ما يناله المؤمنون من الكرامة فى المسكن والحلية والملبس وحسن القول والعمل فقال: (1) (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله يدخل من آمن به وبرسله وعمل صالح الأعمال التي تزكى نفوسهم وتقربهم

[سورة الحج (22) : آية 25]

إلى ربهم- جنات تجرى من تحت قصورها وأشجارها الوارفة الظلال: الأنهار الواسعة يتمتعون بها كما شاءوا. (2) (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي يلبسون فى أيديهم حلية من ذهب، وفى رءوسهم تيجانا من لؤلؤ. (3) (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي ويلبسون الحرير الذي حرم عليهم لبسه فى الدنيا، وكان فيها عنوان العزة والكرامة فأوتوه فى الآخرة إجلالا وتعظيما لهم. (4) (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) أي وأرشدوا إلى القول الطيب وهو قولهم حين دخول الجنة: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» . (5) (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي وأرشدوا إلى الطريق الحميد الذي يجعل أقوالهم وأفعالهم مرضيّة عند ربهم، محمودة لدى معاشريهم وإخوانهم لما فيها مما يجمل فى المعاشرة والاجتماع. [سورة الحج (22) : آية 25] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) تفسير المفردات المراد بالمسجد الحرام: مكة، وعبر به عنها لأنه المقصود المهم منها، العاكف: المقيم، والبادي: الطارئ القادم عليها، والإلحاد: العدول عن الاستقامة، بظلم: أي بغير حق.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر مآل كل فريق من الكفار والمؤمنين- أردف ذلك بيان عظيم حرمة البيت، وأنكر على الكفار صدهم المؤمنين عن شهوده وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه. روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الآية نزلت فى أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود فى العام المقبل. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسوله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم، ويمنعون الناس أن يدخلوا فى دين الله، ويصدون عن الدخول فى المسجد الحرام الذي جعله للذين آمنوا به كافة، سواء منهم المقيم فيه والطارئ عليه النازع إليه من غربته- نذيقهم عذابا مؤلما موجعا لهم، ويدل على هذا قوله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي ومن يرد أن يميل إلى الظلم فى المسجد الحرام فيعصى الله ويخالف أو امره- نذقه يوم القيامة العذاب الموجع له. وخلاصة ذلك- إنه سبحانه توعد الكفار الذين يصدون عن الدين، ويمنعون الناس عن اعتناقه، ويحولون بين الناس ودخول مكة- بالعذاب المؤلم لهم يوم القيامة، كما توعد بذلك من يرتكب الذنوب والآثام فى المسجد الحرام.

[سورة الحج (22) : الآيات 26 إلى 29]

[سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 29] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) تفسير المفردات يقال بوأه منزلا: أي أنزله فيه وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل ثم أطلق على كل مأوى متخذ من حجر أو مدر أو صوف أو وبر، والمراد به هنا الكعبة، وقد بنيت عدة مرات فى أوقات مختلفة، وأذن: أي ناد بالحج: أي بالدعوة إليه، رجالا: أي مشاة، والضامر: البعير الهزيل الذي أتعبته كثرة الأسفار، ويطلق على الذكر والأنثى، والفج: الطريق، والعميق: البعيد، ويذكروا اسم الله: أي يحمدوه ويشكروه، والأيام المعلومات: هى أيام النحر وهى ثلاثة أيام يوم العيد ويومان بعده، والمراد ببهيمة الأنعام: الإبل والبقر والضأن، والبائس: الذي أصابه البؤس والشدة، وليقضوا: أي ليزيلوا، والتفث: الوسخ، ويراد به هنا قص الشعور وتقليم الأظفار، والنذور: ما ينذر من أعمال البر في الحج، والعتيق: القديم لأنه أول بيت وضع للناس. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن كثيرا من مشركى قريش صدوا عن دين الله وعن دخول المسجد الحرام- أردف ذلك بتأنيبهم وتوبيخهم على ما يفعلون، فبيّن أنه ما كان

الإيضاح

ينبغى لهم ذلك، فإن أباهم إبراهيم الذي يفخرون به وينتسبون إليه هو الذي ابتناه وجعله مباءة للناس وأمر بتطهيره من الشرك للطائفين والمصلين، وأن ينادى فى النّاس ليأتوه من كل فج عميق، لما لهم فى ذلك من منافع دينية ودنيوية، ويذكروا اسم الله فى أيام النحر على ما آتاهم من بهيمة الأنعام، فاذكروه على ذلك، وكلوا منها، وأطعموا الفقراء والبائسين، فإذا قضيتم مناسككم فأزيلوا ما عليكم من الوسخ والقذر، فقلّموا أظفاركم وأزيلوا شعوركم، ثم وفّوا ما عليكم من نذور كنتم قد نذرتموها من أعمال البر والخير، ثم طوفوا طواف الزيارة بالبيت العتيق، وبذلك تكونون قد أتممتم مناسك الحج. الإيضاح (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يصدون عن سبيل الله وعن دخول المسجد الحرام- الوقت الذي جعلنا فيه هذا البيت مباءة للناس يرجعون إليه للعبادة، والمراد بذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من حوادث جسام، ليتذكروا فيقلعوا عن غيّهم ويرعووا إلى رشدهم، ويستبين لهم عظيم ما ارتكبوا من خطاء، وكبير ما اجترحوا من جرم، بصدهم الناس عن بيت بناه أبوهم، وجعله الله قبلة للناس فى الصلاة ومكانا للطواف حين أداء شعيرة الحج. (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي وقلنا له: لا تشرك بي شيئا من خلقى فى العبادة وطهّر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلى عنده. (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي وقلنا له: ناد الناس داعيا لهم إلى الحج وزيارة هذا البيت الذي أمرت بينائه- يأتوك مشاة على أرجلهم وركبانا على ضوامر من الإبل من كل طريق بعيد. ثم بين السبب فى هذه الزيارة فقال:

[سورة الحج (22) : الآيات 30 إلى 33]

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي يأتونك ليحضروا منافع لهم فى الدنيا من تجارة رائجة وسلع نافقة، ومنافع فى الآخرة بما يعملون من عمل يرضى ربهم، وبما يحمدونه على النعم التي تترى عليهم، وما رزقهم من الهدايا والبدن التي أهدوها أيام النحر الثلاثة يوم العيد ويومين بعده. (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم، وكلوا من لحومها، وأطعموا ذوى الحاجة الفقراء الذين مسّهم الضر والبؤس. (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي ثم ليزيلوا ما علق بهم من الأوساخ، فيحلقوا الشعر ويقلمّوا الأظفار ويأخذوا من الشوارب والعارضين، وليوفوا ما نذروه من أعمال البر وليطوّفوا طواف الوداع بالبيت العتيق، إذ هو أقدم بيت للعبادة فى حياة البشر. [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 33] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) تفسير المفردات ذلك: أي الأمر هكذا، ويقع للفصل بين كلامين أو بين وجهى كلام واحد كقوله تعالى «هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ» ، والحرمات: التكاليف الدينية من مناسك الحج وغيرها، وتعظيمها: العلم بوجوبها والعمل على موجب ذلك،

المعنى الجملي

والزور: الكذب، وحنفاء واحدهم حنيف: وهو المائل عن كل دين زائغ إلى الدين الحق، وخر: سقط، والخطف: الاختلاس بسرعة، تهوى: أي تسقط، سحيق: أي بعيد، والشعائر واحدها شعيرة: وهى العلامة والمراد بها البدن الهدايا، وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان، والأجل المسمى: هو أن تنحر وتذبح، ومحلّها مكان نحرها، والمراد بالبيت العتيق: ما يليه ويقرب منه وهو الحرم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه أمر إبراهيم ببناء البيت وتطهيره من عبادة الأوثان والأصنام، وأن ينادى الناس ليحجوا هذا البيت الحرام مشاة وركبانا من كل فج عميق، لما لهم فى ذلك من منافع دنيوية ودينية، وأن ينحروا البدن الهدايا ذاكرين اسم الله عليها فى أيام معلومات، وأن يأكلوا منها ويطعموا البائس الفقير، وأن يقصوا شعورهم ويقلّموا أظفارهم ثم ليطوّفوا بهذا البيت العتيق- قفىّ على ذلك ببيان أن اجتناب المحرمات حال الإحرام خير عند الله مثوبة وأعظم أجرا، وأن ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرّم عليكم، وأنه يجب اجتناب عبادة الأوثان وترك شهادة الزور، وأن من يشرك بالله فقد هلك، وأن تعظيم شعائر الله علامة على أن القلوب مثيئة بالتقوى والخوف من الله، وأن فى هذه الهدايا منافع من الدرّ والصوف والنسل إلى أجل مسمّى وهو أن تنحر ثم تؤكل ويتصدق بلحومها. الإيضاح (ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت هو الفرض الواجب عليكم أيها الناس فى حجكم- ومن يجتنب ما أمر باجتنابه فى حال إحرامه تعظيما منه لحدود الله ان يواقعها، وحرمه أن يستحلها- فهو خير له عند ربه فى الآخرة، بما يناله من رضاه وحزيل ثوابه.

وعن ابن زيد: الحرمات المشعر الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام. و (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي وأحل لكم أيها الناس أن تأكلوا الأنعام إذا ذكيتموها، فلم يحرّم عليكم بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاميا إلا ما يتلى عليكم فى كتاب الله، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، فإن كل ذلك رجس. (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي فابتعدوا عن عبادة الأوثان، وطاعة الشيطان، فإن ذلك رجس، واتقوا قول الكذب والفرية على الله كقولكم فى الآلهة «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» وقولكم: الملائكة بنات الله، ونحو هذا من القول، فإن ذلك كذب وزور وشرك بالله، وقوله حنفاء لله غير مشركين به: أي تمسكوا بهذه الأمور على وجه العبادة لله وحده دون إشراك أحد سواه معه. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي إن من أشرك مع الله سواه فقد أهلك نفسه هلاكا ليس وراءه هلاك، وكانت حاله أشبه بحال من سقط من السماء فتخطفته الطير ففرقت أجزاءه فى حواصلها إربا إربا، أو عصفت به الريح فهوت به فى المهاوى البعيدة التي لارجعة له منها. (ذلك) أي امتثلوا ذلك واحفظوه، ولا تتهاونوا فى الحرص عليه والسير على نهجه. (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي ومن يعظم البدن التي يهديها للحرم، بأن يختارها عظيمة الأجسام سمينة غير هزيلة غالية الثمن ويترك المكاس حين شرائها- فقد اتقى الله حقا، فإن تعظيمها باب من أبواب التقوى، بل هو من أعظم أبوابها.

[سورة الحج (22) : الآيات 34 إلى 35]

روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبى جهل فى أذنه برة- حلق- من ذهب، وأن عمر أهدى نجيبة- ناقة- طلبت منه بثلاثمائة دينار، وقد سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشترى بثمنها بهما فنهاه عن ذلك وقال بل أهدها، وكان ابن عمر رضى الله عنهما يسوق البدن مجللّة بالقباطي- ثياب مصرية غالية الثمن- فيتصدق بلجومها وبجلالها. (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي لكم فى تلك الهدايا منافع كركوبها حين الحاجة وشرب ألبانها حين الضرورة إلى أن تنحر ويؤكل منها ويتصدق بلحومها (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي ثم مكان حل نحرها عند البيت العتيق أي عند الحرم جميعه، إذ الحرم كله فى حكم البيت الحرام. أخرج البخاري فى تاريخه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن جرير والطبري وغيرهم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما سماه الله البيت العتيق، لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط» وإلى هذا ذهب قتادة، وقد قصده تبّع ليهدمه فأصابه الفالج فأشير عليه أن يكف عنه، وقيل له إن ربّا يمنعه، فتركه وكساه، وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه. [سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 35] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) تفسير المفردات المنسك (بكسر السين وفتحها) والنسك فى الأصل: العبادة مطلقا، وشاع استعماله فى أعمال الحج، والمراد به هنا الذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى، أسلموا:

المعنى الجملي

أي انقادوا له، المخبتين: أي المتواضعين الخاشعين، من أخبت الرجل: إذا سار فى الخبت وهو المطمئن من الأرض، وجلت: أي خافت. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن تعظيم الشعائر من أعظم دعائم التقوى، وأن محل نحرها هو البيت العتيق- قفىّ على ذلك ببيان أن الذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى ليس بخاص بهذه الأمة، بل لكل أمة مناسك وذبائح تذكر بالله حين ذبحها والشكر له على توفيقه لإقامة هذه الشعائر، فالإله واحد والتكاليف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والمصالح، وبعدئذ أمر رسوله أن يبشر المتواضعين الخاشعين لله الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم بجنات تجرى من تحتها الأنهار. الإيضاح (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي جعلنا لأهل كل دين من الأديان التي سلفت من قبلكم ذبحا يذبحونه، ودما يريقونه على وجه التقرب لله، وليس ذلك خاصا بقوم دون آخرين. ثم بين السبب فى ذلك فقال: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي وإنما شرعنا لهم ذلك كى يذكروا الله حين ذبحها، ويشكروه على ما أنعم به عليهم، إذ هو المقصود الأهم. وفى الصحيحين عن أنس قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكبشين أملحين (فيهما بياض يخالطه سواد) أقرنين فسمّى وكبّر ووضع رجله على صفاحهما» وروى أحمد عن زيد بن أرقم قال: «قلت يا رسول الله ما هذه الأضاحى؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا ما لنا منها؟ قال: «بكل شعرة حسنة» قالوا فالصوف؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة»

[سورة الحج (22) : الآيات 36 إلى 37]

ثم أخبر سبحانه بتفرده بالألوهية وأنه لا شريك له فقال: (فإلهكم إله واحد فله أسلموا) أي فإن معبودكم واحد وإن اختلفت العبادات بحسب الأزمنة والأمكنة ونسخ بعضها بعضا، فما المقصد منها جميعا إلا عبادة الله وحده لا شريك له كما قال: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» فأخلصوا له العمل واستسلموا لحكمه وانقادوا له فى جميع ما كلّفكم به. (وبشر المخبتين) أي وبشر أيها الرسول الخاضعين لله بالطاعة، المذعنين له بالعبودية، المنيبين إليه بالتوبة، بما أعدّ لهم من جزيل ثوابه، وجليل عطائه. ثم بين سبحانه علاماتهم فقال: (1) (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي إنهم إذا ذكر الله عرتهم رهبة من خشيته، وخوف من عقابه. (2) (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من النوائب والمحن فى طاعة الله. (3) (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) أي والمؤدين حقه تعالى فيما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة فى الأوقات التي حددها لهم. (4) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق فى وجوه البر وعلى أهليهم وأقاربهم وعلى الخلق كافة، ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون فى أثمانها. [سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

تفسير المفردات

تفسير المفردات البدن: واحدها بدنة، وهى الناقة أو البقرة التي تنحر بمكة، وتطلق على الذكر والأنثى، وشعائر الله: أعلام دينه التي شرعها لعباده، صوافّ: أي قائمات قد صفت أيديهن وأرجلهن، واحدها صافة، وجبت جنوبها: أي سقطت جنوبها على الأرض ويراد بذلك زهقت أرواحها وفقدت الحركة، القانع: أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة، قال لبيد: فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ... ومنهم شقىّ بالمعيشة قانع والمعترّ: أي المتعرض للسؤال، المحسنين: أي المخلصين فى كل ما يأتون وما يذرون في أمور دينهم. المعنى الجملي بعد أن حث سبحانه على التقرب بالأنعام كلها، وبين أن ذلك من تقوى القلوب، خص من بينها الإبل، لأنها أعظمها خلقا، وأكثرها نفعا، وأنفسها قيمة. الإيضاح (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) امتن سبحانه على عباده بأن خلق لهم البدن وجعلها من شعائره، فتهدى إلى بيته الحرام، بل جعلها أفضل ما يهدى إليه. وإطلاق البدنة على البعير والبقرة هو قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب أبى حنيفة وقول عطاء وسعيد بن المسيّب من التابعين، وروى عن بعض الصحابة فقد أثر عن ابن عمر رضى الله عنهما: لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر.

وتجزىء البدنة عن سبعة لما رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» . (لكم فيها خير) أي لكم فيها نفع فى الدنيا كالركوب واللبن، وأجر فى الآخرة بنحرها والتصدق بها. (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ) أي فاذكروا اسم الله على البدن حين نحركم إياها قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، وقولوا: بسم الله والله أكبر، اللهم منك وإليك. (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) أي فإذا سقطت وزهقت أرواحها ولم يبق لها حركة، فكلوا منها وأطعموا القانع المستغنى بما تعطونه وهو فى بيته بلا مسألة، والمعترّ الّذى يتعرض لكم، ويأتى إليكم لتطعموه من لحمها. وخلاصة ذلك- كلوا وأطعموا. (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي هكذا سخرنا البدن لكم مع عظم أجرامها وكمال قوتها، فلا تستعصى عليكم، بل تأتى إليكم منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنونها فى لباتها، لتشكروا إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص فى أعمالكم. ولما حث سبحانه على التقرب بها مذكورا اسمه عليها- بيّن السبب فقال: (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي لن ينال رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر، ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة والإخلاص فيها بإرادة وجهه تعالى فحسب. والخلاصة- لن يرضى المضحّون ربهم إلا إذا أحسنوا النية وأخلصوا له فى أعمالهم، فإذا لم يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية والتقرب بها شيئا وإن كثر ذلك، فقد جاء فى الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» . ثم كرر سبحانه التنبيه على عظم تسخيرها، لافتا أنظارهم إلى ما أوجب عليهم بقوله:

[سورة الحج (22) : الآيات 38 إلى 41]

(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي هكذا سخرها لكم، لتشكروه على هدايته إياكم لمعالم دينه، ومناسك حجه، فتقولوا: الله أكبر على ما هدانا ولله الحمد على ما أولانا. ثم وعد من امتثل بقوله: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول الذين أطاعوا الله فأحسنوا فى طاعتهم إياه فى الدنيا- بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) تفسير المفردات أذن: أي رخّص، الصوامع: واحدها صومعة، وهى معبد الرهبان فى الصحراء- الدير- والبيع: واحدها بيعة وهى معبد النصارى، والصلوات: واحدها صلاة معرّب صلوثا بالعبرية معبد اليهود، ومساجد: واحدها مسجد، وهو معبد المسلمين.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه صدّ المشركين عن دين الله وعن المسجد الحرام، ثم أردفه ذكر مناسك الحج، وبين ما فيها من منافع فى الدين والدنيا- قفى على ذلك ببيان ما يزيل الصدّ عنه ويؤمن معه من التمكن من أداء تلك الفريضة على أتم الوجوه. الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الله يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه- شر الأشرار وكيد الفجار، ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم ويكتب لهم الفلج عليهم والظفر بهم كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» . ثم ذكر السبب فى وعيدهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي وإنما دفعهم وقهرهم، لأنهم خانوا أمانة الله وهى أوامره ونواهيه، وكفروا أنعمه التي يسديها إليهم بكرة وعشيا، وعبدوا غيره مما لا يضر ولا ينفع. وفى هذا إيماء إلى أن المؤمنين هم أحباء الله. (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي رخّص للمؤمنين، وأبيح لهم أن يقاتلوا المشركين لظلمهم إياهم، فقد كانوا يؤذون أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أذى شديدا فيأتون إليه بين مضروب ومشجوج فى رأسه ويتظلمون إليه فيقول لهم صبرا صبرا، فإنى لم أوذن بالقتال حتى هاجر، وأنزل الله هذه الآية، وهى أول آية نزلت بالإذن بالقتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية كما رواه الحاكم فى المستدرك عن ابن عباس. ثم وعدهم بالنصر ودفع أذى المشركين عنهم فقال: (وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) أي وإن الله على نصر المؤمنين الذين يقاتلون فى سبيله لقادر، وقد فعل فأعزهم ورفعهم، وأهلك عدوهم وأذلهم بأيديهم.

وفى هذا الأسلوب مبالغة عظيمة زيادة فى توطين عزائم المؤمنين وتثبيتهم على الجهاد فى سبيله. وبمعنى الآية قوله: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» وقوله: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» وقوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» . وإنما شرع الجهاد بعد الهجرة إلى المدينة، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر من المؤمنين عددا، حتى أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهمّوا بقتله وشرّدوا أصحابه، فذهبت طائفة منهم إلى الحبشة وذهب آخرون إلى المدينة، فلما استقروا بالمدينة وأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا إليه وقاموا بنصره وصارت المدينة لهم دار إسلام ومعقلا يلجئون إليه- شرع الجهاد ونزلت الآية مرخّصة فيه. روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس أنه قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون. ليهلكنّ القوم. فأنزل الله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال. ثم وصف سبحانه هؤلاء المؤمنين بقوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) أي أولئك المظلومون هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة وعذبوا بعضهم وسبوا بعضا آخر، وما كان لهم من إساءة إليهم ولا ذنب جنوه إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له.

ونحو الآية قوله: «يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» وقوله فى قصة أصحاب الأخدود «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» . ولما كان المسلمون ينشدون حين بناء الخندق: لا همّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا إن الألى بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا كان رسول الله يوافقهم ويقول معهم آخر كل قافية، فإذا قالوا: إذا أرادوا فتنة أبينا يقول أبينا ويمدّ بها صوته. ثم حرض المؤمنين على القتال، وبيّن أنه أجرى العادة به فى الأمم الماضية، لينتظم أمر الجماعات، وتقوم الشرائع، وتصان بيوت العبادة من الهدم فقال: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) أي فليقاتل المؤمنون الكافرين، فلولا القتال وتسليط المؤمنين على المشركين فى كل عصر وزمان لهدّمت فى شريعة كل نبى معابد أمته، فهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود ومساجد المسلمين التي يذكرون فيها اسم الله كثيرا. وفى هذا ترقّ وانتقال من الأقل إلى الأكثر حتى انتهى إلى المساجد وهى أكثر عمّارا وأكثر عبّادا وهم ذوو القصد الصحيح. والخلاصة- إنه لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، وإقامة حدود الأديان، لاستولى أهل الشرك على مواضع العبادة وهدموها، وقد يكون المراد لولا هذا الدفع لهدمت فى زمن موسى الكنائس، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع، وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي وليعينن الله من يقاتل فى سبيله، لتكون كلمته

العليا، وتكون كلمة عدو دينه السفلى، ولقد أنجز الله وعده. وسلط المهاجرين والأنصار على صناديد قريش وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم. ونحو الآية قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» . (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله لقوى على نصر من جاهد فى سبيله من أهل طاعته، منيع فى سلطانه، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب. ونحو الآية قوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقوله: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» . ثم وصف الله الذين أخرجوا من ديارهم بقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) أي هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم هم الذين إن مكنا لهم فى البلاد، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها- أطاعوا الله فأقاموا الصلاة على النحو الذي طلبه، وأعطوا زكاة أموالهم التي حباها لهم، ودعوا الناس إلى توحيده، والعمل بطاعته، وأمروا بما حثت عليه الشريعة، ونهوا عن الشرك واجتراح السيئات. وخلاصة ذلك- إنهم هم الذين كمّلوا أنفسهم باستحضار المعبود والتوجه إليه فى الصلاة على قدر الطاقة، وكانوا عونا لأممهم بإعانة فقرائهم وذوى الحاجة منهم، وكمّلوا غيرهم، فأفاضوا عليهم من علومهم وآدابهم، ومنعوا المفاسد التي تعوق غيرهم عن الوصول إلى الرقى الخلقي والأدب السامي. ثم وعد بإعلاء كلمته ونصر أوليائه فقال: (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي ولله آخر الأمور ومصايرها، فى الثواب عليها أو العقاب فى الدار الآخرة. ونحو الآية قوله: «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .

[سورة الحج (22) : الآيات 42 إلى 46]

[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 46] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) تفسير المفردات أمليت: أي أمهلت، أخذتهم: أي أهلكتهم، فكيف استفهام يراد به التعجب، والنكير والإنكار على الشيء: أن تفعل فعلا به يزجر المنكر عليه على ما فعل، خاوية: ساقطة، وعروشها: أي سقوفها، معطلة: أي عطلت من منافعها، مشيد: أي مبنى بالشيد، وهو الجصّ (الجير) . المعنى الجملي بعد أن بيّن سبحانه فيما سلف أن المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأنه أذن لهم فى مقاتلتهم، وضمن لهم النصرة عليهم- أردف هذا تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه، وتصبيره على أذاهم وتكذيبهم إياه، فأبان له أن هذا التكذيب ليس بدعا فى الأمم، فكثير منها قد كذبت رسلها فحل بها من البوار ما فيه عبرة لمن اعتبر وتذكر، مما يشاهدونه رأى العين فى حلهم وترحالهم، وفى غدوهم ورواحهم، فلا تحزن على ما ترى، واصبر فإن العاقبة للمتقين.

الإيضاح

الإيضاح (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي أي فإن يكذبك هؤلاء المشركون بالله على ما أتيتهم به من الحق وما تعدهم به من العذاب على كفرهم به، فلست بأوحدي فى ذلك، فتلك سنة إخوانهم من الأمم الخالية المكذبة لرسلها، وذلك منهاج من قبلهم، فلا يصدّنّك ذلك فإن العذاب من ورائهم، ونصرى إياك وأتباعك عليهم آت لا محالة، كما أتى عذابى على أسلافهم من الأمم من قبلهم بعد الإمهال، فقد أمهلت أهل الكفر من هذه الأمم فلم أعاجلهم بالنقمة والعذاب ثم أحللت بهم عقابى بعدئذ، فانظر أيها الرسول كيف كان تغييرى ما كان بهم من نعمة، وتنكرى لهم عما كنت عليه من الإحسان إليهم- ألم أبدلهم بالكثرة قلة، وبالحياة موتا وهلاكا، وبالعمارة خرابا، فكذلك سأفعل بمكذبيك من قريش وإن أمليت لهم إلى آجالهم، فإنى منجزك وعدي فيهم كما أنجزت غيرك من رسلى وعدى فى أممهم فأهلكتهم وأنجيت رسلى من بين أظهرهم. ونحو الآية قوله: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» . (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي فكثير من القرى أهلكناها، إذ كان أهلها يعبدون غير من ينبغى أن يعبد، ويعصون من لا ينبغى أن يعصى فخوت من مكانها وتساقطت على عروشها، أي سقطت حيطانها فوق سقوفها، وكم من بئر عطلناها بإفناء أهلها وهلاك وارديها، فلا واردة لها ولا صادرة منها، وكم من قصر شيد بالصخور والجصّ قد خلا من سكانه، بما أذقنا أهله بسوء أفعالهم، فبادوا وبقيت القصور المشيدة خالية منهم، قال قتادة: شيّدوه وحصّنوه، فهلكوا وتركوه.

[سورة الحج (22) : الآيات 47 إلى 51]

ثم أكد لهم صدق وعيده، وأحالهم على ما يشاهدون بكرة وعشيا فقال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي أفلم يسر هؤلاء المكذبون بآيات الله الجاحدون لقدرته- فى البلاد فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذّبى رسل الله الذين خلوا من قبلهم كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب، ويروا أوطانهم ومساكنهم، ويسمعوا بآذانهم أخبارهم، فيتفكروا ويعتبروا بها، ويعلموا أمرها وأمر أهلها، وكيف نابتهم النوائب، وغالتهم غوائل الدهر؟ فيكون فى ذلك معتبر لهم لو أرادوا، فينيبوا إلى ربهم، ويعقلوا حججه التي بثها فى الآفاق. ثم أظهر اليأس من إيمانهم، لأن القلوب قد عميت، فلا تبصر الدلائل الكونية، ولا البراهين العقلية فقال: (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي إن أبصارهم وإن كانت سالمة لا عمى بها فقد أصابهم عمى القلوب، والعمدة على الثاني لا على الأول، فعمى الأبصار ليس بشىء إذا قيس بعمى القلوب والبصائر. وفى هذا تهويل أيّما تهويل، وفى وصف القلوب بكونها فى الصدور فضل توكيد كما جاء فى قوله تعالى. «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ» فقد تعورف أن مكان العمى هو البصر بأن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، فحين أريد إثبات ما هو خلاف الأصل بنسبته إلى القلوب ونفيه عن الأبصار احتيج إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، وهذا على سنن قولهم: ليس المضاء للسيف ولكن للسان (الذي بين فكّيك) - فكأنهم قالوا ما نفينا المضاء عن السيف وأثبتناه للسان فلتة وسهوا، بل تعمدنا ذلك تعمدا. [سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 51] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الإنذار: التخويف، وأصل السعى: الإسراع فى المشي، ثم استعمل فى الإصلاح والإفساد، يقال سعى فى أمر فلان: إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه، معاجزين: أي مسابقين المؤمنين ومعارضين لهم، فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله، وأصله من قولهم: عاجزه فأعجزه، إذا سابقه فسبقه. المعنى الجملي لما ذكر سبحانه أن المشركين كذبوا رسوله وبالغوا فى تكذيبه وسلّاه على ذلك بأنك لست ببدع فى الرسل، فكثير ممن قبلك منهم قد كذّبوا وأوذوا فلا تبتئس بما يفعلون، واصبر على ما تدعو إليه ولا يضيرنّك ما يأتون وما يذرون- قفى على ذلك ببيان أنهم لاستهزائهم به وشديد تكذيبهم كانوا يستعجلونه العذاب كما قال تعالى حكاية عنهم: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ثم أنّبهم على إنكار ذلك العذاب وقد سبق وعد الله به فكان لزاما عليهم ألا يستعجلوه، فإنهم لو عرفوا ما ينالهم من آلامه وشدائده ما طلبوا استعجاله، فيوم عند ربك تصيبهم فيه المحن والشدائد كألف سنة لو بقوا وعذبوا فى الدنيا، ثم ذكّرهم بأن كثيرا من القرى الظالمة أمهلت ولم تعذب، لعلها ترعوى عن غيّها ثم أخذت أخذ عزيز مقتدر، وحسابها مدّخر ليوم تشخص فيه الأبصار، ثم أبان أن وظيفة الرسول إنما هى الإنذار والتحذير وليس عليهم من حسابهم

الإيضاح

من شىء، فإن شاء الله عجل لهم العذاب، وإن شاء أخره عنهم، وقد وعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة من الذنوب ودخول دار النعيم، وأوعد الذين يثبّطون العزائم عن قبول دعوة الإسلام بدوام العذاب فى نار الجحيم. الإيضاح (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي ويستعجلك كفار قريش المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر- مجىء العذاب الذي تحذرهم منه وتوعدهم إياه، إنكارا منهم لوقوعه، واستهزاء بحلوله. ثم بيّن أنه آت لا محالة فقال: (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) أي وكيف ينكرون مجىء ذلك العذاب وقد وعد الله به؟ وما وعد به كائن لا محالة، وهو كما فعل بمن قبلهم يفعل بهم، لأن ذلك هو نهجه، الثابت، وصراطه المستقيم، وسيحل بهم مثل ما حل بغيرهم. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي وإن قلتم إن العهد قد طال ولم يحلّ بكم العذاب فأين هو؟ فإن الله حليم، وألف سنة عندكم كيوم عنده، فهو سينفذ وعده بعد أمد طويل عندكم قريب عنده كما قال: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» فإذا تأخر عذاب الآخرة أمدا طويلا فلا يكون فى ذلك إخلاف للوعد، فعشرون ألف سنة عند ربك كعشرين يوما عندكم. والخلاصة- إن سنّتى لا بد من نفاذها، ولا بد من إهلاك الظالمين ولو بعد حين أمما وأفرادا فى الدنيا والآخرة أو عذابهم فى الآخرة فحسب مع الأكدار فى الدنيا وهم لا يشعرون. ثم أكد ما ذكره من عدم إخلاف الوعد وإن طال الأمد فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي وكم من قرية أخرت إهلاكها مع استمرارها على ظلمها فاغترت بذلك التأخير، ثم أنزلت

بها بأسى وشديد انتقامي، وحسابها بعد مدّخر ليوم الحساب حين لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد. ثم أبان لهم عظيم خطئهم فى طلب استعجال العذاب من الرسول بقوله: (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قل يا أيها المشركون المستعجلون مجىء العذاب: ليس ذلك إلىّ، وإنما أرسلنى ربى نذيرا لكم بين يدى عذاب شديد، وليس إلىّ من حسابكم من شىء، بل أمر ذلك إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب وينيب إليه «لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» . ثم فصل هذا الإنذار بذكر الوعد للمتقين والوعيد للكافرين فقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي فالذين آمنت قلوبهم، وصدّقوا إيمانهم بأعمالهم- لهم مغفرة لما سلف من سيئاتهم، وثواب عند ربهم على ما قدموا من حسناتهم، ولهم رزق كريم فى الجنة يفوق وصف الواصفين، ومقال المادحين كما قال تعالى: «فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» وفى الحديث: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين اجتهدوا فى رد دعوة الدين والتكذيب بها وثبّطوا الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أنهم يعجزوننا وأنهم لا يبعثون، فأولئك هم المقيمون فى النار المصاحبون لها لا يخرجون منها. ونحو الآية قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» .

[سورة الحج (22) : الآيات 52 إلى 57]

[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) تفسير المفردات الرسول: من جاء بشرع جديد، والنبي يشمل هذا ويشمل من جاء لتقرير شرع سابق كأنبياء بنى إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهما السلام، والتمني والأمنية: القراءة كما قال تعالى: «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» أي إلا قراءة، وقال حسان فى عثمان حين قتل: تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لاقى حمام المقادر وينسخ: أي يزيل ويبطل، يحكم: أي يجعلها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بحال، فتنة: أي ابتلاء واختبارا، مرض: أي شك ونفاق، القاسية قلوبهم: هم الكفار المجاهرون بالكفر، شقاق بعيد: أي عداوة شديدة، فتخبت: أي تذل وتخضع، مرية: أي شك، بغتة: أي فجأة، الساعة: الموت، يوم عقيم: أي منفرد عن سائر

المعنى الجملي

الأيام لا مثيل له فى شدته والمراد به الحرب الضروس، الملك: أي التصرف والسلطان، يحكم بينهم: أي يقضى بين فريقى الكافرين والمؤمنين، مهين: أي مذل جزاء استكبارهم عن الحق. المعنى الجملي بعد أن ذكر فى الآيات السالفة أن قومه قد كذّبوه بوسائل شتى من التكذيب، فقالوا تارة إنه ساحر، وأخرى إنه شاعز، وثالثة إن القرآن أساطير الأولين، ثم سلاه على هذا بأنه ليس بدعا من الرسل، فكثير قبله قد كذّبوا، ثم ذكر أن لعظيم استهزائهم به، وتهكمهم بما يبلّغهم عن ربه- طلبوا منه استعجال العذاب الذي يعدهم به- أردف ذلك بذكر نوع آخر من التكذيب وهو إلقاؤهم الشبه والأوهام فيما يقرؤه على أوليائه من القرآن، ليجادلوه بالباطل ويردّوا ما جاء به من الحق ويكون فى ذلك فتنة لضعاف الإيمان وللكافرين، وليزداد المؤمنون إيمانا ويقينا بأنه الحق من ربهم فتخبت له قلوبهم، وإن هذه حالهم حتى يموتوا أو يأتيهم عذاب لا يبلغ الوصف كنه حقيقته، وعندئذ يحكم الله بين عباده فيدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات النعيم، ويجازى الذين كذبوا بآياته وكانوا فى مرية من رسالة رسوله بالعذاب المهين جزاء وفاقا على تدسية أنفسهم وتدنيسها بزائغ العقائد وسيىء الأعمال وباطلها. الإيضاح (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي وما أرسلنا قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ، ألقى الشيطان على سامعيه وهو يتلو الوحى الذي أنزل إليه- شبهات فيما يقرأ، فيقول قوم إنه سحر، ويقول آخرون إنه نقله الرسول عن بعض الأولين، وهكذا من الأباطيل والترّهات التي يتقوّلونها.

(فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ) أي فيزيل سبحانه تلك الخرافات التي علقت ببعض النفوس، بأن يقيّض للدين من يدافع عنه ويدفع الشبهات، ثم يجعل آياته محكمة مثبتة لا تقبل الرد بحال. وخلاصة ذلك- إن الله حين أنزل القرآن وقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم قال المشركون فيه ما قالوا، ثم لما استبان الحق وجاءت غزوة بدر ونصر الله المسلمين الذين بشرهم كتابه بالنصر على أعدائهم: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» استتب لهم الأمر ودخل أعداؤهم فى دينهم أفواجا «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا» . وما مثل هذا إلا مثل النباتات الطّفيلية التي تنبت فى الأرض بجانب ما يزرع فيها من حنطة وفول وغيرهما مما يحتاج إليه الناس، ولا تزال تتغذى من الأرض وتأخذ غذاء النبات النافع، فلا يهدأ للزارع بال حتى يزيلها ويوفّ غذاءها للنبات الذي هو فى أشد الحاجة إليه. وما أشبه الليلة بالبارحة، فإنك الآن لترى أهل أوربا يرسلون الجيوش من القساوسة التي تفتح المدارس فى بلاد الشرق ويقولون للمسلمين: إن دينهم محشو بالخرافات والأكاذيب ويشككون فيه من تعلموا فى تلك المدارس، ويصدق بعض غوغائهم تلك الأباطيل، حتى لقد قالوا إن هذا الدين لا يعيش فى ظل العلم، ولا يقبل الأفكار والآراء الراقية، وهو والعلم عدوان لا يجتمعان، ومما جعل لهم بعض المعذرة فيما يقولون، حال المسلمين من الخمول وسوء الأحوال، وقبيح المعتقدات والأعمال مما جعلهم مضغة فى أفواه الأمم المتمدينة: «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» . وإن الله لينسخ تلك الوساوس، ويزيل هذه الأوهام، فقد تصدى كثير من ذوى المعرفة لدحض تلك المفتريات، فقام العالم الحكيم محمد عبده، وألف كتابه [الإسلام والنصرانية] ودفع كثيرا من مطاعن أولئك المبشرين، وقام بعده كثير من أهل الفقه بالدين، فاحتذوا حذوه، وواصلوا الليل بالنهار فى دحض تلك الشبه، وإن الله ناصر دينه ولو كره الكافرون.

هذا وقد دسّ بعض الزنادقة فى تفسير هذه الآية أحاديث مكذوبة لم ترد فى كتاب من كتب السنة الصحيحة، وأصول الدين تكذّبها، والعقل السليم يرشد إلى بطلانها، وأنها ليست من الحق فى شىء، وهى مما تشكّك المسلمين فى دينهم، وتجعلهم فى حيرة من أمر الوحى وكلام الرسول، فيجب على العلماء طرحها وراءهم ظهريّا، ولا يضيعون الزمن فى تأويلها وتخريجها، ولا سيما بعد أن نص الثقات من المحدّثين على وضعها وكذبها، لمصادمتها لأصول الدين التي لا تقبل شكا ولا امتراء. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بكل شىء، ومن ذلك ما يصدر عن الشيطان وأوليائه، فيجازيهم عليه أشد الجزاء، حكيم فى أفعاله، ومن ذلك أن يمكّن الشيطان من إلقاء الشبهات، ليحاجّ أولياؤه بها، فيتمكن المؤمنون من ردها ودحض المفتريات التي يتشدقون بها، ويرجع الحق إلى نصابه، فتظهر الحقيقة ناصعة بيضاء من بين تلك الظلمات، فتمحو الظلام الذي كان عالقا بنفوس الذين فى قلوبهم مرض، وتضىء آفاق العقول السليمة، وتهديهم إلى طريق الرشاد وإلى الفريقين أشار بقوله: (1) (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي ليجعل ما يلقيه الشيطان على قلوب أوليائه فتنة واختبارا للمنافقين الذين فى قلوبهم مرض، وللكافرين الذين قست قلوبهم، فلا تلين لقبول الحق، ولا ترعوى عما هى فيه من الغىّ. ثم بين مجانفة هذين الفريقين للحق وبعدهما عن الرشد لا إلى غاية فقال: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي وإن هذين الصّنفين من الضلّال لفى عداوة لأمر الله، وبعد عن الرشاد والسداد، بما لا مطمع لهما معه فى النجاة والفوز برضا الله. (2) (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)

أي ولكى يعلم أهل العلم بالله أن الذي أنزله الله من آياته التي أحكمها ونسخ ما ألقى الشيطان- أنه الحق من ربهم، فيصدقوا به وتخضع له قلوبهم وتذعن للإقرار به نفوسهم، وتعمل بما فيه من عبادات وآداب وأحكام وهى مثلجة الصدر هادئة مطمئنة ببرد اليقين، والسير على نهج سيد المرسلين. ثم بين حسن مآلهم وفوزهم بسعادة العقبى فقال: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإن الله لمرشد الذين آمنوا به وصدّقوا برسوله، وموفّقهم إلى الحق الواضح، بنسخ ما ألقى الشيطان فى أمنية رسوله حين تلاوة الوحى، وحفظ أصول الدين الصحيحة فى نفوسهم، والعمل بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وخلاصة ذلك- إن الله ليهدى الذين آمنوا إلى تأويل ما تشابه من الدين، وتفصيل ما أجمل منه، بما تقتضيه الأصول المحكمة. فلا تلحقهم حيرة، ولا تعتريهم شبهة، ولا تزلزل أقدامهم ترّهات المبطلين. ثم أردفه بيان مآل الفريق الأول فقال: (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أي ولا يزال الكافرون فى شك مما ألقى الشيطان فى قلوبهم حين قراءة القرآن عليهم حتى يأتيهم الموت فجأة وهم فى بيوتهم آمنون، أو يشتبكوا مع المؤمنين فى قتال يهلك فيه أبطالهم وصناديدهم كما حدث يوم بدر. وقد جعل هذا اليوم عقيما، لأن المقاتلين يسمّون أبناء الحرب، فإذا هم قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم. وخلاصة هذا- إنه لا مطمح فى إيمانهم، ولا لزوال المرية من قلوبهم، فهم لا يزالون كذلك حتى يهلكوا. وبعد أن بين سبحانه حال الفريقين فى الدنيا أرشد إلى حالهم فى الآخرة فقال: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي إذا جاء يوم القيامة حكم ربهم بينهم بالحق

[سورة الحج (22) : الآيات 58 إلى 62]

وجازى كلا منهما بما هو له أهل، وبما أعدّ نفسه له فى الدنيا من عمل صالح زكى به نفسه وطهر روحه، أو عمل سيىء دسّاها به، فرانت على قلبه غشاوة الشكوك والأوهام، واجترام المعاصي والآثام. ثم فصّل هذا الحكم والمحكوم عليهم فقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي فالذين آمنوا بهذا القرآن وبمن أنزله وبمن جاء به، وعمل بما فيه من أوامر ونواه- يثيبهم ربهم جنات النعيم يتمتعون فيها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، جزاء وفاقا على ما زكّوا به أرواحهم، وأخلصوا له فى أعمالهم، وراقبوه فى السر والعلن، وخافوا عذابه فى ذلك اليوم الذي تشيب من هوله الولدان. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي والذين كفروا بالله، وكذبوا رسوله، وجحدوا بآيات كتابه، وقالوا إنما هو إفك افتراه محمد وأعانه عليه قوم آخرون- أولئك لهم عذاب عند ربهم يذلّهم ويخزيهم كفاء استكبارهم عن النظر فيها وجحودهم بها عنادا، وقد كان لهم فيها لو تأمّلوا حق التأمل ما يكون صادا لهم عن غيّهم ورادعا لهم عن ضلالهم. [سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 62] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر جلت قدرته أن الملك له يوم القيامة، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين، وأنه يدخل المؤمنين جنات النعيم- أردف ذلك ذكر وعده الكريم للمهاجرين فى سبيله بأنه يرزقهم الرزق الحسن ويدخلهم مدخلا يرضونه، ثم ذكر وعده لمن قاتل مبغيا عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن بأنه ينصره وهو قدير على ذلك، إذ من قدر على إدخال الليل فى النهار وإدخال النهار فى الليل، بأن يزيد فى أحدهما ما ينقصه من الآخر- يقدر على نصره، وهو الثابت الإلهية وحده، إذ لا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم، وأن ما سواه باطل لا يقدر على شىء. أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول «من مات مرابطا أجرى عليه الرزق، وأمن من الفتّانين واقرءوا إن شئتم: (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) » وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمرّوا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفّى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: مالى أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا هذا القتيل فى سبيل الله، فقال والله لا أبالى من أي حفرتيهما بعثت، اسمعوا كتاب الله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) الآية. وروى عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المقتول فى سبيل الله والمتوفّى فى سبيل الله بغير قتل هما فى الأجر شريكان» .

الإيضاح

الإيضاح (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي والذين فارقوا أوطانهم، وتركوا عشائرهم، فى رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه، ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك- ليثيبنّهم الله الثواب الجزيل جزاء ما ناضلوا عن دينه، وأخلصوا فى الذود عنه، وإن الله ليعطى من يشاء بغير حساب، ويرزق الخلق كافة بارّهم وفاجرهم. ثم بين هذا الرزق الحسن بقوله: (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ) أي ليدخلنّ المقتولين فى سبيله والموتى مهاجرين فى طاعة ربهم وذودا عن دينه- جنات النعيم، ويكرمون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما لا ينالهم فيها مكروه ولا أذى كما قال «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» . (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) أي وإن الله الذي عمّت رحمته، وعظمت نعمته- لعليم بمقاصدهم وأعمالهم وأعمال أعدائهم، حليم فلم يعاجل هؤلاء المكذبين بالعقوبة جزاء تكذيبهم ومقاومتهم دعوة الدين. (ذلك) أي ذلك الرزق الحسن والمدخل الكريم لمن قتلوا فى سبيل الله أو ماتوا، ولهم أيضا النصر فى الدنيا على أعدائهم وإلى ذلك أشار بقوله: (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ) أي وإن من جازى من المؤمنين بمثل ما عوقب به ظلما من المشركين، فقاتلهم كما قاتلوه ثم بغى عليه باضطراره إلى الهجرة ومفارقة الوطن- لينصرنّه الله الذي لا يغالب، ولينتقمنّ له من أعدائه، ولينكّلنّ بهم، ويمكننه منهم، ويجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والخلاصة- إنه تعالى كما يدخلهم مدخلا كريما، يعدهم بالنصر على أعدائهم إذا هم قاتلوهم وبغوا عليهم وأخرجوهم من ديارهم.

(وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي وإن الله الذي أحاطت قدرته بكل شىء- ليعفو عن المؤمنين، فيغفر لهم ما أمعنوا فيه من الانتقام. وما أعرضوا عنه مما ندبه من العفو بمثل قوله «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» وقوله: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» وقوله: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وهم بفعلهم هذا تركوا ما كان أجدر بهم وأحرى بمثلهم. والخلاصة- كأنه سبحانه قال: عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها لهم لأنى أذنت بها. ثم قرر نصره لعباده المؤمنين وأكده بقوله: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ذلك النصر الذي أنصره لمن بغى عليه، لأنى أنا القادر على ما أشاء، ألا تروننى أدخل ما ينقص من ساعات الليل فى ساعات النهار، وأدخل ما ينقص من ساعات النهار فى ساعات الليل، وبهذه القدرة التي تفعل ذلك أنصر محمدا وصحبه على الذين قد بغوا عليهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وآذوهم أشد الأذى على إيمانهم بي وحدي. (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي وأن الله سميع للأقوال وإن اختلفت فى النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يعملون لا يغيب عنه شىء ولا يعزب عنه شىء وإن كان مثقال ذرة. ولما وصف نفسه بما لا يقدر عليه غيره علل ذلك بقوله: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي ذلك الاتصاف بكمال القدرة وكمال العلم بسبب أن الله هو الثابت لذاته، وأنه لا مثيل له ولا شريك، وأن الذي يدعون من دونه من الآلهة باطل لا يقدر على صنع شىء بل هو المصنوع الموجد بعد العدم. (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وأن الله فوق كل شىء وكل شىء دونه، وهو الكبير عن أن يكون له شريك، إذ لا شىء أعلى منه شأنا ولا أكبر سلطانا

[سورة الحج (22) : الآيات 63 إلى 66]

وخلاصة ذلك- أفتتركون أيها الجهال عبادة من بيده النفع والضر وهو القادر على كل شىء وكل شىء دونه وهو فوق كل شىء وتعبدون من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا؟ [سورة الحج (22) : الآيات 63 الى 66] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) الإيضاح بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف عظيم قدرته وبالغ حكمته فى ولوج الليل فى النهار والنهار فى الليل، ونبه بذلك على سابغ نعمه على عباده، أردف ذلك بذكر أنواع أخرى من الدلائل على قدرته فقال: (1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي ألم تبصر أيها الرائي أن الله ينزل من السماء مطرا فيحيى به الأرض فتنبت ضروبا مختلفة من النبات بديعة الألوان والأشكال ذات خضرة سندسية تبهر العين بحسن منظرها وبديع تنسيقها. ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي إنه تعالى لطيف يصل علمه إلى الدقيق والجليل، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم.

ونحو الآية قوله تعالى: «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» . (ب) (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي إن كل ما فى السموات وما فى الأرض منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه، وهو الغنى عن حمد الحامدين، لأنه كامل لذاته، غنى عن كل ما عداه، وقد فعل ما فعل إحسانا منه إلى عباده وتفضلا عليهم. (ج) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي إنه تعالى سخر ما فى ظاهر الأرض وباطنها، لينتفع به الإنسان فى مصالحه ومرافقه المختلفة ويصرفه فيما أراد من شئون معايشه، ولا يزال العلم يهديه إلى غريب الأمور مما لم يكن يخطر لأسلافه على بال مما لو حدّث به السالفون لقالوا إنه ترّهات وأباطيل وما صدّقه بشر، ولا يزال العلم يولّد كل يوم جديدا: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» ويهتدى العقل إلى ما هو أشبه بالمعجزات، لولا أن سدّت أبواب النبوات. ونحو الآية قوله: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» . (د) (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي وسخر لكم السفن تجرى فى البحار برفق وتؤدة حاملة ما تريدون من نائى الأصقاع، وبعيد المسافات، من سلع وحيوان وأناسىّ، وبذلك يتم تبادل مرافق الحياة بالأخذ والعطاء. (هـ) (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي وإن الله يمسك أجرام الكواكب من شمس وقمر وكواكب نيرات بنظام الجاذبية، إذ جعل لكل منها مدارا خاصا بها لا تعدوه بحال، ولا تزال كذلك ما بقيت الحياة الدنيا، حتى إذا اقتربت الساعة اختل نظامها وانتثرت فى الفضاء كما ألمع إلى ذلك سبحانه بقوله: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» الآية. ولولا هذا النظام الخاص لاصطدمت الكواكب العظيمة بعضها ببعض، وفسد العالم الأرضى، ولم يعش على ظهر البسيطة إنسان ولا حيوان.

[سورة الحج (22) : الآيات 67 إلى 69]

(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى رحيم بهم، إذ جعلهم على تلك الشاكلة، ليتسنى لهم البحث عن أسباب معايشهم وأسباب منافعهم، وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية على وجوده وبعثة رسله. (و) (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي وهو الذي أنعم عليكم بهذه النعم، وجعلكم أجساما حية بعد أن كنتم ترابا، ثم يميتكم حين انقضاء آجالكم، ثم يحييكم بالبعث والنشور إلى عالم آخر تلقون فيه حسابكم وجزاءكم من نعيم أو جحيم، ثم بين طبيعة الإنسان التي فطر عليها فقال: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي إن الإنسان لم يوجّه همه إلى كل هذه الآلاء التي يتقلب فيها ليل نهار، بل جحدها وجحد خالقها على وضوح أمرها، وعبد غيره، وجعل له الأنداد من الأصنام والأوثان. ونحو الآية قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» وقوله: «قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» . [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 69] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) تفسير المفردات المنسك: الشريعة والمنهاج، ناسكوه: أي عاملون به، والهدى: الطريق الموصل إلى الحق، مستقيم: أي سوىّ لا عوج فيه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن قدّم عز اسمه ذكر نعمه وأنه رءوف بعباده رحيم بهم، وأن الإنسان كفور بطبعه، ومن ثم جحد الخالق لهذه النعم- أتبعه بزجر معاصريه عليه السلام من أهل الأديان السماوية عن منازعته، بذكر خطئهم فيما تمسكوا به من الشرائع، وبيان أن لكل أمة شريعة خاصة، ثم أمره بالثبات على ما هو عليه من الحق، وأنه لا يضره عناد الجاحدين، فالله هو الحكم بينهم وبينه يوم القيامة. الإيضاح (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) أي إنا أنزلنا لأهل كل دين من الأديان السماوية شريعة خاصة يعملون بها، ويسيرون على نهجها، لا يتخطونها إلى غيرها، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى منسكها ما فى التوراة، والأمة التي من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم منسكها ما فى الإنجيل، وأمة محمد صلى الله عليه وسلّم وهم من وجد حين مبعثه إلى يوم القيامة منسكهم ما فى القرآن، لأن لكل زمان ما يليق به من الشرائع التي تناسب من فيه فى تلك الحقبة. (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي فلا ينبغى لهم أن ينازعوك فى أمر هذا الدين، فإن تعيينه تعالى لكل أمة شريعة خاصة موجب لطاعة هؤلاء لك وعدم منازعتهم إياك فى أمر هذه الشريعة زعما منهم أن شريعتهم هى ما عيّن لآبائهم من التوراة والإنجيل، فذلك خطأ منهم، فإن ذلك إنما كان شريعة لمن مضى قبل نسخه بالقرآن. والخلاصة- اثبت أيها الرسول على دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك منه ليزيلوك عنه، والمراد بذلك تهييج حميّته عليه السلام، وإلهاب غضبه لله ولدينه، ومثل هذا كثير فى كتاب الله، وكأنه قد قيل له: تأسّ بالأنبياء قبلك فى متاركة القوم الظالمين، والإمساك عن مجادلتهم بعد اليأس من إيمانهم.

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي وادع هؤلاء المنازعين إلى توحيد الله وعبادته، إنك لعلى طريق يهدى إلى الحق، وشريعة توصل إلى السعادة. ونحو الآية قوله: «وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ» (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي وإن جادلك هؤلاء المشركون فى نسكك بعد أن ظهر الحق ولزمتهم الحجة- فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد: الله عليم بما تعملون وبما أعمل، ومجاز كلا بما هو له أهل. ونحو الآية قوله: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» وقوله: «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» . وبعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم وكان ذلك شديد الوقع على النفس سلاه بأن الله سيجازيهم لا محالة يوم القيامة على ما يقولون ويفعلون فقال: (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي الله يقضى بين المؤمنين منكم والكافرين يوم القيامة فيما كنتم تختلفون فيه من أمر الدين، فيتبين المحق من المبطل. ونحو الآية قوله: «فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» الآية. وقصارى ما سلف- ادع إلى شريعتك، ولا تخصّ بالدعاء أمة دون أمة، فكلهم أمتك، وإنك لعلى طريق واضحة الدلالة تصل بمن اتبعها إلى سبيل السعادة، فإن عدلوا عن النظر فى الأدلة إلى المراء والتمسك بالعادات، وبما وجدوا عليه الآباء

[سورة الحج (22) : الآيات 70 إلى 72]

والأجداد، فدعهم فى غيهم يعمهون، فقد أنذرت، وما عليك إلا البلاغ، وقل لهم مهددا منذرا: الله يحكم بيننا وبينكم، يوم القيامة، ويتبين المحق منا من المبطل، ويجازى كلا بما يستحق. [سورة الحج (22) : الآيات 70 الى 72] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) تفسير المفردات سلطانا: أي حجة وبرهانا، نصير: أي ناصر ومعين، يسطون: أي يبطشون بهم من فرط الغيظ. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه يحكم بين عباده يوم القيامة ويجازى كلا من المسيء والمحسن بما هو له أهل- أعقب هذا ببيان أنه العليم بما يستحقه كل منهم، فيقع حكمه بينهم بالعدل، ثم أرشد إلى أنه على وضوح الدلائل وعظيم النعم عليهم عبدوا غيره مما لم يقم الدليل على وجوده، وأنهم مع جهلهم إذا نبّهوا إلى الحق، وعرضت عليهم المعجزة، وتلى عليهم الكتاب الكريم ظهر فى وجوههم الغيظ والغضب، وهمّوا أن يبطشوا بمن يذكّرهم بآياته، إنكارا منهم لما خوطبوا به، ثم أبان لهم أن ما ينالهم من

الإيضاح

النار التي يقتحمونها بأفعالهم وأقوالهم أعظم مما ينالهم من الغم والغيظ حين تلاوة هذه الآيات. الإيضاح (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي قد علمت أيها الرسول أن علم الله محيط بما فى السموات وما فى الأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة على علم منه بما عملوه فى الدنيا، فمجازى المحسن منهم بإحسانه، والمسيء بإساءته. ثم أكد علمه بقوله. (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) أي إن علمه بذلك فى اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ربنا قبل أن يخلق ما هو كائن إلى يوم القيامة ويرى أبو مسلم الأصفهانى أن المراد بالكتاب فى مثل هذا الحفظ والضبط الشديد بحيث لا يغيب عنه مثقال ذرة. ثم زاده تأكيدا بقوله. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي إن علمه تعالى بما فى السماء والأرض وكتبه فى اللوح المحفوظ والفصل بين عباده يوم القيامة- يسير عليه إذ لا يخفى عليه شىء، ولا يتعسر عليه مقدور. ثم حكى سبحانه بعض أباطيل المشركين وأحوالهم الدالة على سخافة عقولهم فقال: (ا) (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه ما لم ينزل بجواز عبادته حجة وبرهانا من السماء فى كتاب من كتبه التي أنزلها إلى رسله، وما ليس لهم بجواز عبادته علم من ضرورة العقل، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بغير حجة ولا برهان. والخلاصة- ويعبدون من دون الله ما لم يقم دليل من الوحى ولا من العقل على صحة عبادته.

ونحو الآية قوله: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي وليس للظالمين من ينصرهم يوم القيامة فينقذهم من عذاب الله ويدفع عنهم عقابه إذا أراد ذلك. (ب) (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي وإذا تتلى على المشركين العابدين من دون الله ما لم ينزّل به سلطانا- آيات القرآن ذوات الحجج والبينات، بدت على وجوههم أمارات الإنكار بالتّجهّم والعبوس والبسور ونحو ذلك مما يذل على الغيظ والحفيظة الكامنة فى نفوسهم مما يسمعون منها. ثم بين مقدار ذلك الغيظ ومبلغ أمره فقال: (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي هم من شدة حنقهم على من يتلونه من المؤمنين يكادون يثبون عليهم ويبطشون بهم ويبسطون أيديهم وألسنتهم بالسوء. وقصارى ذلك- إنهم قد بلغوا من الجهالة حدا لا ينفع فيه العلاج، ولا تقنع فيه البينات والحجج. ثم ذكر لهم أن هذا الغيظ الكمين فى نفوسهم ليس بشىء إذا قيس بما سيلاقونه من العذاب يوم القيامة فقال: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ؟) أي قل لهم: أتسمعون فأخبركم بشر من ذلكم الذي فيكم من الغيظ من التالين للآيات حتى قاربتم أن تسطوا بهم وتمدّوا إليهم أيديكم وألسنتكم بالسوء؟ ثم أجاب عن هذا الاستفهام فقال: (النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي النار وعذابها أشق وأعظم مما تخوّفون به أولياء الله المؤمنين فى الدنيا، ومما تنالون منهم إن نلتم بإرادتكم واختياركم.

[سورة الحج (22) : الآيات 73 إلى 76]

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وبئس النار موئلا ومقاما لهؤلاء المشركين بالله. ونحو الآية قوله: «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» . [سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 76] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) تفسير المفردات ضرب: أي جعل، والمثل والمثل: الشبه، لا يستنقذوه: أي لا يقدروا على استنقاذه، ما قدروا الله: أي ما عظّموه، عزيز: أي غالب على جميع الأشياء، يصطفى: أي يختار. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم عليه من الوحى، ولا دليل عليه من العقل- أردف هذا بما يدل على إبطاله ويؤكد جهلهم بمقام الألوهية، وما ينبغى أن يكون لها من إجلال وتعظيم، ثم أعقب ذلك ببيان أنه سبحانه يصطفى من الملائكة والناس لرسالته من يشاء وهو العليم بمن يختار «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ»

الإيضاح

روى أن الوليد بن المغيرة قال: أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ فأنزل الله الآية: «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ» وأخرج الحاكم وصححه عن عكرمة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى موسى بالكلام وإبراهيم بالخلّة» الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي يا أيها الناس جعل المشركون لى أشباها وأندادا وهى الآلهة التي يعبدونها معى، فأنصتوا وتفهّموا حال ماملوهم وجعلوهم لى فى عبادتهم إياهم أشباها وأمثالا. ثم بين حال هؤلاء الأشباه والأمثال فقال: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأوثان على أن يخلقوا ذبابة واحدة على صغر حجمها وحقارة شأنها ما قدروا وما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. روى عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى، فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة» . (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي وإن يسلب الذباب الآلهة والأوثان شيئا مما عليها من طيب وما أشبهه- لا تستنقذ ذلك منه على ضعفه. والخلاصة- إنهم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أعجب من ذلك أنهم عاجزون عن مقاومته والانتصار منه لو سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه. وفى ذلك إيماء إلى أنهم قد بلغوا غاية الجهالة، وأشركوا بالله القادر على كل شىء آلهتهم من الأصنام والأوثان التي لا تقدر على خلق أحقر المخلوقات وأصغرها وهو الذباب ولو اجتمعت له، ولا تستطيع أن تنتصر منه لو سلبها شيئا.

(ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي عجز الطالب وهو الآلهة أن تستنقذ من المطلوب وهو الذباب ما سلبها إياه من الطيب وما أشبهه. وقصارى هذا- إنه سبحانه وصف هذه الآلهة بما وصف، للدلالة على مهانتها وضعفها، تقريعا منه لعبدتها من مشركى قريش وكأنه قيل لهم: كيف تجعلون لى مثلا فى العبادة، وتشركون معى فيها ما لا قدرة له على خلق ذباب، وإن أخذ منه الذباب شيئا لم يقدر أن ينتصر منه، وأنا الخالق لما فى السموات والأرض، المالك لجميع ذلك، المحيي لما أردت والمميت له-؟ إن فاعل ذلك بالغ غاية الجهل وعظيم السفه. ثم زاد هذا الإنكار توكيدا فقال: (ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظّموه حق التعظيم، إذ عبدوا معه غيره من هذه الأصنام التي لا تقاوم الذباب لضعفها، ولا تنتصر منه إن سلبها شيئا. (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إنه تعالى قوىّ لا يتعذر عليه شىء، وبقدرته خلق كل شىء، عزيز لا يغالب، لعظمته وسلطانه، ولا يقدر شىء أن يسلبه من ملكه شيئا، وليس كآلهتكم التي تدعونها من دون الله. ونحو الآية قوله: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقوله: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» . وبعد أن ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر ما يتعلق بالنبوات فقال: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) أي الله يختار من الملائكة رسلا يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحى، ويصطفى من الناس رسلا يدعون عباده إلى ما يرضيه، ويبلغونهم ما نزّله عليهم من وحيه، إرشادا لهم وتشريعا للأحكام التي فيها سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم. (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إنه تعالى سميع لأقوال عباده، بصير بهم فيعلم من يستحق أن يختار منهم لهذه الرسالة.

[سورة الحج (22) : الآيات 77 إلى 78]

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم ما كان بين أيدى ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم، ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم. وخلاصة ذلك- يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها. (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإليه ترجع الأمور يوم القيامة، فلا أمر ولا نهى لأحد سواه، وهو يجازى كلا بما عمل إن خيرا وإن شرا. [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) تفسير المفردات فى الله: أي فى سبيله، والجهاد كما قال الراغب: هو استفراغ الوسع فى مجاهدة العدو، وهو ثلاثة أضرب: (ا) مجاهدة العدو الظاهر كالكفار. (ب) مجاهدة الشيطان. (ج) مجاهدة النفس والهوى، وهذه أعظمها فقد أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال: «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة فقال: قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه» .

المعنى الجملي

والمراد بالجهاد هنا ما يشمل الأنواع الثلاثة، كما يؤيده ما روى عن الحسن أنه قرأ الآية وقال: «إن الرجل ليجاهد فى الله تعالى وما ضرب بسيف» . واجتباكم: أي اختاركم، حرج: أي ضيق بتكليفكم ما يشق عليكم، واعتصموا بالله أي استعينوا به وتوكلوا عليه، مولاكم: أي ناصركم. المعنى الجملي بعد أن تكلم فى الإلهيات ثم فى النبوات- أتبعهما بالكلام فى الشرائع والأحكام. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، اخضعوا لله، وخروا له سجدا، واعبدوه بسائر ما تعبّدكم به، وافعلوا الخير الذي أمركم بفعله من صلة الأرحام ومكارم الأخلاق، لتفلحوا وتفوزوا من ربكم بما تؤمّلون من الثواب والرضوان. (وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي وجاهدوا فى سبيل الله جهادا حقا خالصا لوجهه لا تخشون فيه لومة لائم. (هو اجتباكم) أي هو اختاركم من سائر الأمم، وخصكم بأكرم رسول، وأكمل شرع. (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي وما جعل عليكم فى الدين الذي تعبدكم به ضيقا لا مخرج لكم منه، بل وسّع عليكم وجعل لكم من كل ذنب مخلصا، فرخص لكم فى المضايق فالصلاة وهى أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب فى الحضر أربعا وفى السفر تقصر إلى اثنتين، ويصليها المريض جالسا، فإن لم يستطع فعلى جنبه،

وأباح الفطر حين السفر وحين الإرضاع والحمل والشغل فى شاقّ الأعمال، ولم يوجب علينا الجمعة فى المساجد حين السفر أو الخوف من عدو أو سبع أو مطر إلى نحو أولئك، كما فتح لكم باب التوبة وشرع لكم الكفارات فى حقوقه ودفع الدية بدل القصاص إذا رضى الولي. ونحو الآية قوله سبحانه: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وقوله: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» وقوله: «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» . (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي وملتكم هى ملة أبيكم إبراهيم الحنيفية السمحة التي لم يعتورها جنف ولا إشراك. ونحو الآية قوله تعالى: «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» الآية. (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ، وَفِي هذا) أي إن الله سماكم يا معشر من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم- المسلمين فى الكتب المتقدمة وفى هذا الكتاب. وخلاصة هذا- إنه تعالى ذكر أنه اختارهم من بين سائر الأمم، ثم حثهم على اتباع ما جاءهم به الرسول، لأنه ملة أبيهم إبراهيم، ثم نوّه بذكره والثناء عليه فى كتب الأنبياء قبله وفى القرآن. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي إنما جعلكم هكذا أمة وسطا عدولا مشهودا بعدالتكم بين الأمم، ليكون محمد صلّى الله عليه وسلّم شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا شهداء على الناس بأن الرسل قد بلغوهم ما أرسلوا به إليهم.

خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام

وإنما قبلت شهادتهم على الناس لسائر الأنبياء، لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم، ولاعتراف سائر الأمم يومئذ بفضلهم على سواهم، وقد تقدم ذكر هذا فى سورة الأنعام عند قوله: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» الآية. ولما ندبهم لأداء الشهادة على الأمم جميعا طلب منهم دوام عبادته والاعتصام بحبله المتين فقال: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) أي فقابلوا هذه النعم العظيمة بالقيام بشكرها، فأدّوا حق الله عليكم بطاعته فيما أوجب وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة التي هى وصلة بينكم وبين ربكم، وإيتاء الزكاة التي هى طهرة أبدانكم، وصلة ما بينكم وبين إخوانكم، واستعينوا بالله فى جميع أموركم، وهو ناصركم على من يعاديكم. ثم علل الاعتصام به بقوله: (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي إن من تولاه كفاه كل ما أهمه، وإذا نصر أحدا أعلاه على كل من خاصمه، إذ لا ناصر فى الحقيقة سواه ولا ولىّ غيره، فله الحمد وهو رب العالمين. خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام (1) وصف حال يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال تشيب منها الولدان. (2) جدال عبدة الأصنام والأوثان بلا حجة ولا برهان. (3) إثبات البعث وإقامة الأدلة عليه. (4) وصف المنافقين المذبذبين فى دينهم وعدم ثباتهم على حال واحدة. (5) ما أعد الله لعباده المؤمنين من الثواب المقيم فى جنات النعيم.

(6) بيان أن الله ناصر نبيه ومظهر دينه على سائر الأديان. (7) بيان أن الله يحكم يوم القيامة بين عباده من أرباب الديانات المختلفة ويجازى كلا بما يستحق. (8) إقامة الأدلة على وجود خالق السموات والأرض وبيان أن العالم كله خاضع لقدرته. (9) أمر المؤمنين بقتال المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم، وبيان أن هذا القتال لا بد منه لنصرة الحق فى كل زمان ومكان وأن الله ينصر من يدافع عنه. (10) تسلية الرسول على ما يناله من أذى قومه وأنهم ليسوا بدعا فى الأمم، فكثير ممن قبلهم كذبوا رسلهم ثم كانت العاقبة للمتقين، وأهلك الله القوم الظالمين، والعبرة ماثلة أمامهم فى حلهم وترحالهم. (11) بيان أن المفسدين يلقون الشبهات على الحق ليزلزلوا عقائد المؤمنين، لكنها لا تلبث أن تزول وينكشف نور الحق ويزيل ظلام الباطل. (12) الثواب على الهجرة لله ورسوله سواء قتل المهاجر أو مات. (13) وصف حال الكافرين إذا تلى عليهم القرآن، بما يظهر على وجوههم من أمارات الغضب. (14) بيان أن الله يرسل رسلا من الملائكة ورسلا من البشر وأن الله عليم بمن يصلح لهذه الرسالة. (15) أمر المؤمنين بدوام الصلاة والزكاة وفعل الخيرات والجهاد حق الجهاد فى سبيل الحق. (16) بيان أن الدين يسر لا عسر، وأنه كمّلة إبراهيم سمح لا شدة فيه.

(17) بيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة وأن هذه الأمة تشهد على الأمم السالفة بأن رسلهم قد بلغوهم شرائع الله وما قصّروا فى ذلك. اللهم ألهمنا الحق، واهدنا سبيل الرشاد، وتقبل أعمالنا، إنك أنت السميع المجيب. قد انتهى تفسير هذا الجزء فى اليوم الثامن عشر من ذى الحجة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية، وفقنا الله لإتمام تفسير كتابه الكريم.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء المبحث 3 فى الحديث: «بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادى» 6 طعن المشركون فى نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأمرين 7 طلب المشركون من النبي صلّى الله عليه وسلّم آية أخرى غير القرآن 11 فضل القرآن 13 كانت الأمم السابقة تعترف بظلمها حين إهلاكها 14 فساد المطاعن التي وجهوها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم 17 السموات والأرض لم تخلقا عبثا فلابد من الحساب والجزاء 19 لو كان فى السموات والأرض إلهان لفسدتا 20 الكتب السماوية جميعا جاءت بوحدانية الله وطلب عبادته 21 الملائكة عباد مكرمون يسبحون الليل والنهار لا يفترون 24 الأدلة على وجود الله 29 الدنيا ما خلقت للخلود والدوام 30 الابتلاء والفتنة تكون بالخير والشر 32 جبل الإنسان على حب العجلة 34 تأتى الساعة بغتة وهم لا يشعرون 39 يوم القيامة يدعو المشركون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور 41 أوصاف المتقين

42 حجاج إبراهيم لأبيه وقومه ودعوتهم إلى التوحيد 44 احتجاج قومه بالتقليد 46 كسر إبراهيم عليه السلام للأصنام 47 رجوع قوم إبراهيم على أنفسهم بالملامة 51 اتفاق قوم إبراهيم على إحراق إبراهيم 53 النعم التي أفاض الله بها على إبراهيم 54 النعم التي أسبغها على لوط 56 ما أنعم الله به على داود وسليمان 57 قضاء داود وسليمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم 58 نعم الله على داود عليه السلام نعم الله على سليمان عليه السلام 61 ما أحيطت به قصة أيوب من العجائب والغرائب 63 نداء يونس عليه السلام لربه فى الظلمات واستجابة الله له 66 دعاء زكريا ربه واستجابته لدعوته 68 لبّ الدين عند الله واحد واختلاف الأديان فى التفاصيل 73 الأصنام وعابدوها فى النار، وحكمة ذلك 74 أحوال أهل النار وما يلاقونه من الأهوال 75 ما كتب لأهل السعادة فى الجنة 76 صلاح الأمة يقوم على أربعة عمد 78 الرسول صلّى الله عليه وسلّم أرسل رحمة للعالمين 83 ما اشتملت عليه سورة الحج من المباحث 85 أهوال يوم القيامة 86 ذمّ المجادل بغير علم

88 مراتب الخلق والاستدلال بها على البعث 91 المجادل بلا عقل صحيح ولا نقل صريح 94 من الناس المذبذب المضطرب فى دينه 97 إثبات نصر الرسول والمبالغة فى ذلك بما لا مزيد عليه 98 القرآن هاد إلى سواء السبيل الأديان ستة خمسة للشيطان وواحد للرحمن 99 السجود ضربان اختياري وتسخيرى 100 من يهنه الله فلا مكرم له 102 جزاء الكافرين يوم القيامة 103 جزاء المؤمنين يومئذ 105 جزاء الصادّ عن البيت الحرام 106 تأنيب من يصد عنه من المشركين 108 سبب الأمر بزيارة البيت الحرام 109 ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرم 110 من أشرك بالله فقد أهلك نفسه وكان كمن سقط من السماء فتخطفه الطير 112 الذبح وإراقة الدماء قربة لله ليس بخاص بهذه الأمة 113 علامات المخبتين 114 الهدايا من شعائر الله ودليل تقواه 117 وعد الله رسوله والمؤمنين بالنصر على المشركين 119 تحريض المؤمنين على القتال وبيان أن به انتظام أمر الجماعات 121 تسلية الرسول على ما يرى من قومه من الأذى 124 كان المشركون يستهزئون بالعذاب فيستعجلونه

125 سنة الله إهلاك الظالمين ولو بعد حين 126 وعد الله للمتقين ووعيده للكافرين 128 إلقاء المشركين الشبه والأوهام فيما يقرأ من القرآن 129 ما يفعله القساوسة والمبشرون الآن فى البلاد الإسلامية 131 هداية الله لعباده المؤمنين إلى الصراط المستقيم 133 المقتول فى سبيل الله والمهاجر إعزازا لدين الله فى الأجر سواء 135 الله قدير على نصر عباده المؤمنين 136 الله سابغ نعمه على عباده المؤمنين 138 لكل أمة منسك وشريعة خاصة بها 141 النعي على عبادة الأوثان والأصنام 142 لا دليل على صحة عبادة الأصنام من عقل ولا نقل 143 كانت إذا تليت آيات القرآن على المشركين ظهر على وجوههم آثار الغيظ والألم 145 الأصنام لا تستطيع خلق الذباب ولا تدفع عن نفسها ما يسلب منها 147 الجهاد ضروب 148 الدين يسر لا عسر 149 الرسول صلّى الله عليه وسلّم شهيد عليكم وأنتم شهداء على الناس

سورة المؤمنون

الجزء الثامن عشر سورة المؤمنون هى مكية وقد نزلت بعد سورة الأنبياء، وآيها ثمانى عشرة ومائة. روى أن بعض الصحابة قالوا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله؟ قالت. كان خلقه القرآن، ثم قرأت: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ- حتى انتهت إلى- وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها من وجوه: (1) إنه تعالى ختم السورة السابقة بخطاب المؤمنين وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات لعلهم يفلحون- وحقق فلاحهم فى بدء هذه السورة. (2) إنه تكلم فى كل من السورتين فى النشأة الأولى وجعل ذلك دليلا على البعث والنشور. (3) إن فى كل من السورتين قصصا للأنبياء الماضين وأممهم ذكرت عبرة للحاضرين والآتين. (4) إنه نصب فى كل منهما أدلة على وجود الخالق ووحدانية.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 إلى 11]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) تفسير المفردات الفلاح: الظفر بالمراد، وأفلح: دخل فى الفلاح كأبشر دخل فى البشارة، والمؤمن: هو المصدّق بما جاء عن ربه على لسان نبيه من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، والخاشع: هو الخاضع المتذلل مع خوف وسكون للجوارح، واللغو: هجر القول وقبيحه، والزكاة: تزكية النفس وطهارتها بفعل العبادة المالية. والفرج: سوءة الرجل والمرأة، وحفظه: التعفف عن الحرام، وابتغى: طلب، وراء ذلك: أي غير ذلك، والعادون: أي المتناهون فى العدوان ومجاوزة الحدود الشرعية، والأمانات: واحدها أمانة، وهى ما ائتمن المرء عليه من قبل الله كالتكاليف الشرعية أو من قبل الناس كالأموال المودعة لديه والنذور والعقود ونحوها، والعهد: ما عقده الإنسان على نفسه مما يقربه إلى ربه، وما أمر به الله كما قال: «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا» والرعي: الحفظ. والراعي: القائم على الشيء لحفظه وإصلاحه، يحافظون: أي يواظبون عليها، والفردوس: أعلى الجنة.

الإيضاح

الإيضاح حكم الله سبحانه بالفلاح لمن كان جامعا لخصال سبع من خصال الخير: (1) الإيمان (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي فاز وسعد المصدّقون بالله ورسله واليوم الآخر. (2) الخشوع فى الصلاة (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي الذين هم مخبتون لله أذلاء منقادون له خائفون من عذابه، روى الحاكم أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلى رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده أي موضع سجوده، والخشوع واجب على المرء فى الصلاة لوجوه: (1) للتدبر فيما يقرأ كما قال: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» والتدبر لا يكون بدون الوقوف على المعنى كما قال: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» أي لتقف على عجائب أسراره وبديع حكمه وأحكامه. (ب) لتذكر الله والخوف من وعيده كما قال: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» . (ج) إن المصلى يناجى ربه، والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة البتة، ومن ثم قالوا: صلاة بلا خشوع جسد بلا روح، وجمهور العلماء على أن الخشوع ليس شرطا للخروج من عهدة التكليف وأداء الواجب، وإنما هو شرط لحصول الثواب عند الله وبلوغ رضوانه. (3) الإعراض عن اللغو (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) أي والذين يعرضون عن كل ما لا يعنيهم، وعن كل كلام ساقط حقّه أن يلغى كالكذب والهزل والسب، إذ لهؤلاء من الجدّ ما يشغلهم، فهم فى صلاتهم معرضون عن كل شى إلا عن خالقهم، وفى خارجها معرضون عن كل ما لا فائدة فيه، فهم متجهون للجد وصالح العمل، فهم قد استفادوا من خشوع الصلاة درسا انتفعوا منه بعدها، وتخلقوا بأخلاق للنبيين والصديقين.

(4) تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي والذين هم لأجل طهارة أنفسهم وتزكيتها يؤدون المفروض للفقير والمسكين كما قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» وقال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» (5) حفظ الفرج (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) أي والذين يحفظون فروجهم فى كافة الأحوال إلا فى حال تزوجهم أو تسرّيهم (قربان الأمة بالملك) فإنهم حينئذ يكونون غير ملومين، والمراد بهذا الوصف مدحهم بنهاية العفة والإعراض عن الشهوات. (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي فمن طلب غير أربع من الحرائر وما شاء من الإماء فأولئك هم المتناهون فى العدوان والمتعدّون لحدود الله. (6) رعاية الأمانة والعهد (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي والذين إذا ائتمنوا لم يخونوا، بل يؤدون الأمانة لأهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بما عاهدوا عليه، إذ الخيانة وخلف العهد من صفات المنافقين كما جاء فى الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذ ائتمن خان» وقصارى ذلك- إنهم يؤدون ما ائتمنوا وعوهدوا عليه من الرب أو العبد كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والعقود التي عاقدوا الناس عليها. (7) المحافظة على الصلوات (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يواظبون عليها على أكمل وجه فى الأوقات التي رسمها الدين، روى عن ابن مسعود أنه قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله: أىّ العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت ثم أىّ؟ قال: بر الوالدين قلت ثم أىّ؟ قال: الجهاد فى سبيل الله» رواه الشيخان. وقد افتتح سبحانه هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة، دلالة على عظيم فضلها، وكبير مناقبها، وقد ورد فى الحديث: «اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 إلى 16]

ولما كان الجزاء فى الآخرة نتيجة للعمل فى الدنيا، وما فيها من نعيم حصّاد لما زرع فيها، رتب على ذلك قوله: (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي أولئك المؤمنون الذين تحلّوا بتلك الخلال السامية جديرون بأن يتبوءوا أرفع مراتب الجنات، كفاء ما زينوا به أنفسهم من الأخلاق الفاضلة، والآداب العالية، ويبقون خالدين فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون. وقصارى ما سلف- إن فلاح المؤمن موقوف على اتصافه بتلك الصفات السامية العالية القدر، العظيمة الأثر فى حياته الروحية، وكمالاته النفسية. روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عند وجهه دوىّ كدوىّ النحل، فأنزل عليه يوما، فمكث ساعة ثم سرّى عنه، فاستقبل القبلة فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، ثم قال لقد أنزل علىّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ: قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر» . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) تفسير المفردات السلالة: ما سلّ من الشيء واستخرج منه، وتارة تكون مقصودة كخلاصات الأشياء كالزّبد من اللبن، وتارة تكون غير مقصودة كقلامة الظفر وكناسة البيت

المعنى الجملي

وقرار: أي مستقر، مكين: أي متمكن، والعلقة: الدم الجامد، والمضغة: قطعة اللحم قدر ما يمضغ، تبارك الله: أي تعالى وتقدس. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أحوال السعداء المفلحين- قفّى على ذلك بذكر مبدئهم ومآل أمرهم وأمر غيرهم من بنى الإنسان، وفى هذا إعظام للمنة، وحث على الاتصاف بحميد الصفات، وتحمل مئونة التكاليف، ثم ذكر أن كل ذلك منته إلى غاية هى يوم القيامة الذي تبعثون وتحاسبون فيه على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. الإيضاح (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي ولقد خلقنا أصل هذا النوع وأول أفراده، وهو آدم عليه السلام من صفوة طين لا كدر فيه. ويرى جماعة من المفسرين: أن المراد بالإنسان هنا ولد آدم وهم يقولون: إن النطف تتوالد من الدم الحادث من الأغذية وهى إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانية تنتهى إلى نباتية، والنبات يتوالد من صفو الأرض والماء، فالإنسان على الحقيقة متوالد من سلالة من طين، ثم تواردت على تلك السلائل أطوار الخلقة إلى أن صارت نطفا (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي ثم جعلنا نسله نطفا فى أصلاب الآباء، ثم قذفت إلى الأرحام، فصارت فى حرز حصين من وقت الحمل إلى حين الولادة. ونحو الآية قول: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ» . (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي ثم خولنا النطفة من صفتها الثانية إلى صفة العلقة وهى الدم الجامد. (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي ثم جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم بمقدار ما يمضغ.

(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي فصيرناها كذلك، وميزنا بين أجزائها، فما كان منها من العناصر الداخلة فى تكوين العظام جعلناه عظاما، وما كان من مواد اللحم جعلناه لحما، والمواد الغذائية شاملة لذلك ومنبثة فى الدم، ومن ثم قال: (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي فجعلنا اللحم كسوة لها، من قبل أنه يستر العظام، فأشبه بالكسوة الساترة للجسم. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) مباينا للخلق الأول، إذ نفخنا فيه الروح وجعلناه حيوانا بعد ما كان أشبه بالجماد، ناطقا سميعا بصيرا، وأودعنا فيه من الغرائب ظاهرها وباطنها ما لا يحصى. وقد قال العلماء: إن جميع أعضاء الإنسان مقسمة تقسيما دقيقا على نسب معينة مقيسة بشبره، فطوله ثمانية أشبار بشبره، وإذا مدّ يديه إلى أعلى كان عشرة أشبار بقياسه، وإذا مد يديه إلى الجانبين كان طولهما كطوله على السواء، ومن ثمّ جعل المصريون أصل المقاييس الشبر، وجعلوا كل ضلع من أضلاع الهرم الأكبر بالجيزة ألف شبر بشبر الإنسان. (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي فتنزه ربنا جلت قدرته، وهو أحسن المقدّرين المصورين. عن أنس قال: قال عمر «وافقت ربى فى أربع، قلت يا رسول الله لو صلينا خلف المقام فأنزل الله «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» وقلت يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابا، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر فأنزل الله «إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لتنتهنّ أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن فنزلت «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ» الآية ونزلت «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ- إلى قوله- ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، فقلت: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت يا عمر أخرجه الطيالسي.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) أي ثم إنكم بعد النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت. (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) من قبوركم للحساب ثم المجازاة بالثواب والعقاب. إذ يوفّى كل عامل جزاء عمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وخلاصة ما تقدم- إنه تعالى بعد أن ذكر أنه كلف عباده بما كلف- بين أن هذه التكاليف شكر من الإنسان لربه الذي أنشأه النشأة الأولى وقلّبه فى أطوار مختلفة حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله، فأصبح قادرا على تكليفه بتلك التكاليف، ولا بد له من طور يستحق فيه الجزاء على ما كلّف به، وهو طور البعث بعد الموت يوم القيامة. ويقول الدكتور أحمد محمد كمال فى مجلة الدكتور، إن كلمة (تراب) أو (طين) الواردة فى القرآن وردت بمعناها المجازى، فالإنسان بل جميع الكائنات الحية تتركب كيميائيا من عناصر أولية جمعها الخالق سبحانه وتعالى وركبها فى شكل مادة كيميائية معقدة هى البروتوبلازم أي المادة الحيوية التي تتركب منها الخلايا والأنسجة الحيوانية والنباتية، وهذه المادة الحيوية تتركب من عناصر الأكسجين والأيدروجين والكربون والأزوت والكبريت والفسفور والكالسيوم والصديوم والكلور والحديد والنحاس واليود إلخ. فإذا نظرنا إلى التراب وقمنا بتحليل عينات منه وجدنا أنه يحتوى على نفس العناصر لأولية المذكورة. وليس أدل على أن التعبير مجازى من أن جسم الإنسان أو الحيوان أو النبات عند ما يتحلل بعد الوفاة يتحول إلى رماد أو تراب بنفس العناصر. ويقول الدكتور سالم محمد فى هذه المجلة إن الخلق فى قوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ويكون إشارة إلى خلق آدم نفسه وقد يكون بمعنى أن النطفة فى كل من الذكر والأنثى ليدة عملية التغذية التي يتغذى بها الإنسان أو الجسم، وأصل هذه التغذية ومنشؤها من تراب، والنطفة هى الحيوان المنوي للذكر والبويضة للأنثى، فإذا تم التلقيح بدأت البويضة فى الانقسام بدأ تطور العلقة وهى مجموعة من الخلايا الحية تنقسم إليها بويضة بعد تلقيحها. وإنما سميت فى هذا الطور علقة للشبه الكبير بينها وبين علق الماء

وطور العلقة فى حياة الجنين يبلغ أربعة أسابيع، ثم تتطور العلقة إلى مضغة للشبه الكبير بينها وبين قطعة اللحم الممضوغة ويبلغ طور المضغة بضعة أسابيع، ثم يبدأ ظهور خلايا العظام، فاللحم أي العضلات التي تكسو هذه العظام. وقوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي انه من هذه الخلايا ومن هذه الأطوار المتعددة يخرج الله لنا هذه الصورة الإنسانية الجميلة التي تشهد بقدرة الخالق وعظمته. وقوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) فالقرار المكين هو الرحم، ومن يدرس تشريح الرحم وموضعه المكين الأمين فى أسفل بطن المرأة ويرى ذلك الوعاء ذا الجدار المريض السميك ثم ترى هذه الأربطة العريضة والأربطة المستديرة، وهذه الأجزاء من البريتون التي تشده إلى المثانة والمستقيم، وكلها تحفظ توازن الرحم وتشد أزره، وتحميه من الميل أو السقوط، وتطول معه إذا ارتفع عند تقدم الحمل، وتقصر إلى طولها الطبيعي تدريجا بعد الولادة. وكذلك من يدرس تكوبن الحوض عظامه يعرف جليا صدق قوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) وكذلك فى الرحم سائل أمينوس داخل جيب المياه يعوم فيه الجنين بحرية ويدفع عن الجنين ما قد تلاقيه الأم من صدمات وهزات عنيفة قد تصل إليه فتؤذيه إن لم يهدىء هذا السائل من قوتها ويضعف من شدتها. ثم هو يحتفظ للجنين بحرارة مناسبة حيث أنه موصل ردىء للحرارة، وكذلك هو يقوم بعملية تحديد عنق الرحم وتوسيعه وقت الولادة (القرن) كما يقوم بعملية التطهير أمام الجنين بما فيه من خواص مطهرة، فكل ذلك يزيد الرحم مكنة وأمنا. وهكذا يبدو أن مصير هذا الكتاب العجيب الخالد لا يفنى، وأن معين العلم والإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض، وأن الدنيا ستظل تكشف فيه آفاقا بعد آفاق كلما تقدم العلم فتلقى ما بهذا الكتاب الكريم من إيحاءات وإشراقات (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) .

[سورة المؤمنون (23) : آية 17]

[سورة المؤمنون (23) : آية 17] وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) تفسير المفردات الطرائق: السموات واحدها طريقة أي مطروق بعضها فوق بعض من قولهم طارق بين ثوبين: إذا لبس ثوبا فوق ثوب، قال الخليل والزجاج: وهذا كقوله «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» وقوله: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» والخلق: أي المخلوقات التي منها السموات السبع، غافلين: أي مهملين أمرها كما قال: «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» . المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان فى أطواره المختلفة، واستدل بذلك على قدرته وتفرده بالتصرف فى الملك والملكوت- أردفه بيان ما يحتاج إليه فى بقائه لما فيه من المنافع التي لا غنى له عنها الإيضاح (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي ولقد خلقنا فوقكم سبع سموات بعضها فوق بعض وهى أيضا طرق الكواكب المعروفة عند البشر قديما، وهناك طرائق أخرى عرفها الناس حديثا. (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي وما كنا عن المخلوقات- سواء كانت هذه الطرائق أو غيرها- غافلين عن أمرها، إذ تسير الكواكب فى تلك الطرائق بحساب منتظم، ولو أهملناها لاختل توازنها وسار كل كوكب فى غير مداره أو زلّ نجم عن سنن سيره، ففسد النظام العام للعالم العلوي والعالم الأرضى.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 18 إلى 20]

والخلاصة- إنا خلقنا السموات لمنافعهم، ولسنا غافلين عن مصالحهم، بل نفيض عليهم ما تقتضيه الحكمة، فخلقها دال على كمال قدرتنا، وتدبير أمرها دال على كمال علمنا. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 18 الى 20] وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) تفسير المفردات السماء: هنا السحاب، بقدر: أي بتقدير خاص وهو مقدار كفايتهم، فأسكناه فى الأرض: أي جعلناه ثابتا قارا فيها، والذهاب: الإزالة إما بإخراجه من المائية أو بتغويره فى الأرض بحيث لا يمكن استخراجه، والشجرة: هى الزيتون، وطور سيناء: هو جبل الطور الذي ناجى فيه موسى ربه، ويسمى طور سينين أيضا، والصبغ: ما يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام، قال فى المغرب: يقال صبغ الثوب بصبغ حسن، وصباغ حسن، ومنه الصّبغ والصباغ من الإدام، لأن الخبز يغمس فيه ويلوّن به كالخل والزيت. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن من دلائل قدرته خلق الطرائق السبع- قفى على ذلك ببيان ما فيها من منافع للإنسان، فمنها ينزل الماء الذي به تنشأ الجنات من النخيل والأعناب وكثير من أشجار الفاكهة التي تؤكل، وينبت به شجر الزيتون الذي يؤخذ من ثمره الزيت الذي يتّخذ دهنا للأجسام، وإداما فى الطعام.

الإيضاح

الإيضاح (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي وأنزلنا من السحاب مطرا بقدر الحاجة، لا هو بالكثير فيفسد الأرض، ولا هو بالقليل فلا يكفى الزرع والثمار، حتى إن الأرضين التي تحتاج إلى ماء كثير لزرعها ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها يساق إليها الماء من بلاد أخرى كما فى أرض مصر، ويقال لمثلها (الأرض الجرز) فيساق إليها ماء النيل حاملا معه الطين الأحمر (الغرين) يجترفه من بلاد الحبشة فى زمن الأمطار فيستقر فيها ويكون سمادا لها ونافعا لزرعها. وبعض هذا الماء يسكن فى الأرض فيتغذى به ما فيها من الحب والنوى، ومنه تتكون الآبار والعيون التي تمر على معادن مختلفة، فتتشكل بأشكالها وتتصف بصفاتها فيكون ماؤها حاويا إما للنوشادر وإما للكبريت وإما للأملاح وهكذا. (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي وإنا على ذهابه وإزالته لقادرون بحيث يتعذر استخراجه، كما كنا قادرين على إنزاله، ولو شئنا ألا يمطر السحاب لفعلنا، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى جهات أخرى لا تستفيد منه كالأرضين السبخة والصحارى، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فى الأرض يغور فيها إلى مدى بعيد لا تصلون إليه ولا تنتفعون به، ولكن بلطفنا ورحمتنا ننزل عليكم الماء العذب الفرات، ونسكنه فى الأرض ونسلكه ينابيع فيها، لتسقوا به الزرع والثمار، وتشربوا منه أنتم ودوابكم وأنعامكم. (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) أي فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء بساتين فيها نخيل وأعناب. (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي لكم فى الجنات فواكه كثيرة تتمتعون بها زيادة على ثمرات النخيل والأعناب. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي ومن زروع الجنات وثمارها ترزقون وتحصّلون معايشكم،

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 إلى 22]

كما يقال فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن تجارة يتربح بها أي إنها طعمته وجهته التي منها يحصّل رزقه. (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت فى هذا الجبل بتلك البقعة المباركة، وتثمر زيتونا تصنع منه الزيوت التي يدّهن بها، وتتخذ إداما للآكلين. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 الى 22] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) المعنى الجملي بعد أن ذكرنا سبحانه بنعمة إنزال الماء من السماء الذي ينبت به جنات النخيل والأعناب والفواكه المختلفة والزيتون- أردفها ذكر النعم المختلفة التي سخّرها لنا من خلق الحيوان. الإيضاح (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي إن فى خلق الأنعام لعبرة فضلا عن كونها نعمة، ووجه العبرة فيها أن الدم المتوالد من الأغذية يتحول فى الغدد التي فى الضّرع إلى شراب طيب لذيذ الطعم صالح للتغذية، وهذا من أظهر الدلائل على قدرة الخالق لها. ثم فصّل منافعها وذكر منها أريعا فقال: (1) (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) فتنتفعون بألبانها على ضروب شتى، فتتخذون منها الققشدة والسمن والجبن ونحوها. (2) (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) فتأخذون أصوافها وأشعارها وأوبارها، وتتخذونها ملابس وفرشا للدفء وبيوتا فى الصحارى ونحوها مما يجرى هذا المجرى. (3) (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي وتأكلون منها بعد ذبحها، فكما انتفعتم بها وهى حية تنتفعون بها بعد الذبح بالأكل.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 إلى 30]

(4) َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي وتركبون ظهورها وتحمّلونها الأحمال الثقيلة إلى البلاد النائية كما قال فى آية أخرى: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» وقال: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ؟» . وقصارى ذلك- إن فى خلق الأنعام عبرا ونعما من وجوه شتى، ففيه دلائل على قدرة الخالق بخلق الألبان من مصادر هى أبعد ما تكون منها- ونعما لنا فى مرافقها وأعيانها، فننتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونجعلها مطايا لنا فى أسفارنا إلى نحو أولئك من شتى المنافع. قصة نوح عليه السلام [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الملأ: أشراف القوم، يتفضل: أي يدعى الفضل والسيادة، جنة: أي جنون، فتربصوا: أي انتظروا، بأعيننا: أي بحفظنا ورعايتنا، وفار: نبع، والتنور: وجه الأرض، استويت: أي علوت، لآيات: أي عبرا، لمبتلين: أي لمختبرين ممتحنين لهم: أي لمعامليهم معاملة من يختبر. المعنى الجملي بعد أن عدد سبحانه ما أنعم به على عباده فى نشأتهم الأولى وفى خلق الماء لهم لينتفعوا به، وفى خلق الحيوان كذلك- ذكر هنا أن كثيرا من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار فى هذا، فكفروا بهذه النعم، وجهلوا قدر المنعم بها، وعبدوا غيره، وكذبوا رسله الذين أرسلوا إليهم، فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وأهلكهم بعذاب من عنده، فأصبحوا كأمس الدابر، والمثل السائر، وفى هذا تخويف لقريش، وإنذار لهم على ما يفعلون، وأنه سيحل بهم ما داموا على تكذيب رسولهم والكفر به مثل ما حل بمن قبلهم. الإيضاح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه منذرا لهم عذاب الله وشديد بأسه وانتقامه على إشراكهم به وتكذيب رسوله، فقال لهم متعطفا عليهم مستميلا لهم لقبول الحق: يا قوم اعبدوا الله وحده وأطيعوه، ولا تشركوا معه ربا سواه، فإنه لا رب لكم غيره، ولا معبود سواه. (أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي أفلا تخشون عقابه فتحذروا أن تعبدوا معه سواه؟. (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم من العريقين فى الكفر ومن ذوى الكلمة المسموعة والرأى المطاع: ما نوح إلا رجل منكم ليس له ميزة عليكم فى فضل ولا خلق فيكون

أهلا للنبوة وتلقى الوحى من ربه وما هو إلا رجل يريد أن يسودكم ويكون له الصّولة والسلطان عليكم، وقد ادعى الرسالة ليصل إلى ما تصبو إليه نفسه وليس له من حقيقتها شىء. وبعد أن بينوا أن لا مقتضى لاختصاصه بالنبوة ذكروا الموانع التي تحول بينه وبينهما فذكروا أمورا ثلاثة: (1) (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي ولو شاء الله ألا نعبد سواه لأرسل بالدعاء إلى ما يدعوكم إليه نوح ملائكة تؤدى إليكم رسالته. (2) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي ما سمعنا فى القرون الغابرة عهود الآباء والأجداد بمثل هذا الذي يدعو إليه نوح من أنه لا إله إلا إله واحد لا ربّ غيره ولا معبود سواه. وفى هذا إيماء إلى أنهم قوم لا رأى لهم، وإنما يعولون على التقليد وقول الآباء والأجداد، فلما لم يجدوا عن آبائهم شيئا مثل هذا أنكروا نبوّته، وفيه إشارة أيضا إلى أنهم قد بلغوا الغاية فى العناد والتكذيب والانهماك فى الغى والضلال. (3) (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي وما نوح إلا رجل به خبل فى عقله، فمزاعمه لا تصدر إلا من رجل لا يزن قوله، ولا يدعم رأيه بحجة ناصعة، فلا يلتفت إذا إلى ما يدّعى، ولا ينبغى أن نضيع الوقت فى محاجّته، ودحض مزاعمه فى صدق دعوته. وبعد أن ذكروا موانع نبوّته ذكروا الطريقة المثلى فى إبطال دعوته فقالوا: (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي فتلبثوا وانتظروا، لعله يضيق مما هو فيه فيعود سيرته الأولى، ويرجع من تلقاء نفسه إلى دينكم ودين آبائكم وأجدادكم. وهذا من مكابراتهم لفرط عنادهم، إذ هم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا، وأرزنهم قولا. ولم يردّ سبحانه على هذه الشبه لسخافتها ووضوح فسادها، إذ كل عاقل يعلم أن الرسول يتميز من غيره بالمعجزات التي تأتى على يديه سواء أكان ملكا أم بشرا

وإرادته التفضل عليهم إن كانت لأجل أن يستبين فضله حتى ينقادوا له فلا ضير فى ذلك بل هو واجب، وإن أرادوا أنه يبغى التجبر عليهم فالأنبياء منزهون عن ذلك، وقولهم: ما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين، اعتناق للتقليد وهو لا يصلح حجة تدفع بها حجج المعارضين الواضحة وضوح الشمس فى رائعة النهار، وقولهم: به جنة كذب صراح. لأنهم يعلمون ذكنه، وعظيم فطنته، وما أوتيه من أصالة الرأى، وثاقب الفكر. ولما استبان لنوح إصرارهم على ضلالهم وتماديهم فى غيّهم ويأسه من إيمانهم وأوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن- طلب إلى ربه أن ينصره عليهم: (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال رب انصرني بإنجاز ما أوعدتهم به من العذاب بقولي «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» . ونحو الآية قوله: «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» وقوله: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» . وقد أجاب الله دعاءه فقال: (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي فقلنا حين استنصرنا على كفرة قومه: اصنع السفينة بحفظنا ورعايتنا لك، من التعدي عليك، وتعليمنا إياك كيفية صنعها. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي فإذا جاء قضاؤنا من قومك بعذابهم وهلاكهم، ونبع الماء من وجه الأرض- فأدخل فيها من كل طائفة من الحيوان فردين مزدوجين كناقة وجمل، وحصان ورمكة، وأدخل ولدك ونساءهم إلا من سبق عليه القول منا بأنه هالك فيمن يهلك، فلا تحمله معك وهو كنعان وأمه. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي ولا تسألنى أن أنجّى الذين كفروا بالله من الغرق. فإن كلمتى قد حقت عليهم أجمعين.

ثم أمره بحمده والثناء عليه إذا هو استوى على الفلك فقال: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فإذا اطمأننت فى السفينة أنت ومن معك ممن حملته من أهلك، فقل الحمد لله الذي نجانا من هؤلاء المشركين الظلمة. وفى هذا إيماء إلى أنه لا ينبغى المسرة بمصيبة أحد ولو عدوّا إلا إذا اشتملت على دفع ضرره أو تطهير الأرض من دنس شركه وإضلاله. قال ابن عباس: كان فى السفينة ثمانون إنسانا نوح وامرأته غير التي غرقت وثلاثة بنين سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم واثنان وسبعون إنسانا، وكل الخلائق من نسل من كان فى السفينة. ثم أمر نوح أن يدعو ربه حين خروجه من السفينة. (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي وقل إذا سلمت وخرجت من السفينة: رب أنزلنى من الأرض منزلا مباركا وأنت خير من أنزل عباده المنازل. قال قتادة: علمكم الله أن تقولوا حين ركوب السفينة: «بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها» وحين ركوب الدابة: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» وحين النزول: «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) أي إن فيما فعلنا بقوم نوح من إهلاكهم إذ كذبوا رسولنا وجحدوا وحدانيتنا وعبدوا الآلهة والأصنام- لعبرا لقومك من مشركى قريش، وحججا لنا عليهم يستدلون بها على سنننا فى أمثالهم فينزجرون عن كفرهم، ويرتدون عن تكذيبهم حذر أن يصيبهم مثل الذي أصاب من قبلهم من العذاب، وقد كنا مختبريهم بالتذكير بهذه الآيات لننظر ماذا يفعلون قبل أن ننزل بهم عقوبتنا. ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» وقد تقدم هذا القصص بتفصيل فى سورة هود عليه السلام.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 إلى 41]

قصة هود عليه السلام [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) تفسير المفردات القرن: الأمة، والمراد بهم عاد قوم هود لقوله تعالى فى سورة الأعراف: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ» أترفناهم: أي وسّعنا عليهم وجعلناهم فى ترف ونعيم، لخاسرون: أي لمغبونون فى آرائكم، إذ أنكم أذللتم أنفسكم لعبادة من هو دونكم، هيهات: أي بعد، ما توعدون: هو البعث والحساب، بمؤمنين: أي بمصدقين، عما قليل: أي بعد زمان قليل، ليصبحنّ: أي ليصيرنّ، والصيحة: العذاب الشديد كما قال: صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خرّوا لشدتها على الأذقان

الإيضاح

والغثاء: ما يحمله السيل من الورق والعيدان البالية التي لا ينتفع بها، بعدا: أي هلاكا. الإيضاح (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي ثم أوجدنا من بعد مهلك قوم نوح قوما آخرين وهم عاد، فأرسلنا فيهم رسولا منهم، وهو هود عليه السلام داعيا لهم قائلا: يا قوم اعبدوا الله وأطيعوه دون الأوثان والأصنام، فإن العبادة لا تنبغى إلا له، ولا تصلح لسواه، أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره من وثن أو صنم؟ (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي وقال أشراف قومه الذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بالبعث والحساب، وقد وسعنا عليهم فى الحياة الدنيا بما بسطنا لهم من الرزق حتى بطروا وعتوا وكفروا بربهم: ما هود إلا بشر مثلكم لا ميزة له عنكم، فهو يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، ومرادهم بذلك توهين أمره، وتحقير شأنه. (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي ولئن أطعتم بشرا مثلكم فاتبعتموه وقبلتم ما يقول: إنكم إذا لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة فى الدنيا. ثم بينوا سبب إنكارهم لاتباعه، واستبعادهم وقوع ما يدعيه بقولهم: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا فى القبور بعد أن تذهب لحومكم وتبقى عظامكم. (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) أي بعد ما توعدون أيها القوم من أنكم بعد موتكم ومصيركم ترابا وعظاما تخرجون من قبوركم للبعث والحساب ثم الجزاء على ما تعملون

ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي ما حياة إلا هذه حياة فى الدنيا، تموت الأحياء منا فلا تحيا، ويحدث آخرون منا ويولدون، وما نحن مبعوثين بعد الموت، إنما مثلنا مثل الزرع يحصد هذا وينبت ذاك والخلاصة- إنه يموت منا من هو موجود، وينشأ آخرون بعدهم. وبعد أن كان أمرهم معه مقصورا على الاستبعاد فحسب، جاهروا بتكذيبه فيما يدعى فقالوا: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي ما هود إلا رجل يختلق الكذب على الله، فتارة يقول: مالكم من إله غير الله خالق السموات والأرض وأخرى يقول: إنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون، وما نحن بمصدقيه فيما يدّعى ويزعم من التوحيد والبعث. ولما يئس هود من إيمانهم بعد ذكر هذه المقالة «وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» فزع إلى ربه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي قال بعد أن يئس من إيمانهم وقد سلك فى دعوتهم كل مسلك، متضرعا إلى ربه: رب انصرني عليهم وانتقم لى منهم بتكذيبهم إياى فيما دعوتهم إليه من الحق وإصرارهم على الباطل. فأجابه ربه إلى ما سأل. (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أي قال تعالى مجيبا دعاءه: ليصيرنّ مكذبوك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، وستحل بهم نقمتنا، ولا ينفعهم الندم حينئذ. ثم أخبر أنه أنجز وعيده فيهم فقال: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي فسلطنا عليهم نقمتنا فأخذهم العذاب الذي لا قبل لهم به، وقد كانوا لمثله مستحقين، بسبب كفرهم وتكذيبهم برسوله، فجعلناهم كغثاء السيل، لاغناء فيهم، ولا فائدة ترجى منهم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 إلى 44]

(فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فأبعد الله القوم الكافرين بهلاكهم، إذ كفروا بربهم وعصوا رسوله وظلموا أنفسهم. وفى هذا من الذلة والمهانة لهم والاستخفاف بأمرهم ما لا يخفى، وأن الذي ينزل بهم فى الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم من العقاب فى الدنيا، وفيه عظيم العبرة لمن بعدهم ممن هم عرضة لمثله. قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 44] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) تفسير المفردات تترى، من المواترة: وهى التتابع بين الأشياء مع فترة ومهلة بينها قاله الأصمعى. أحاديث: واحدها أحدوثة، وهى ما يتحدث به تعجبا منه وتلهيا به، وقد جمعت العرب ألفاظا على أفاعيل كأباطيل وأقاطيع، وقال الزمخشري: الأحاديث اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الجمهور على أنه جمع كما علمت. الإيضاح (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) أي ثم أنشأنا من بعد هلاك عاد أقواما آخرين، كقوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي ما تتقدم أمة من تلك الأمم المهلكة الوقت الذي قدّر لهلاكهم وما يستأخرون عنه. والخلاصة- ما تهلك أمة قبل مجىء أجلها ولا بعده، فلكل شىء ميقات لا يعدوه.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 إلى 49]

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين، وقد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به، بعضهم فى إثر بعض. (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) أي كلما بلّغهم الرسول ما جاء به من عند ربه من الشرائع والأحكام كذبوه، كما فعل قومك بك حين أمرتهم بذلك. (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي فأهلكنا بعضهم فى إثر بعض حين تألّبوا على رسلهم وكذبوهم. (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدث بها للناس ويتلهّون بذكرها. ونحو الآية قوله: «فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» . ولما ترتب على تكذيبهم الهلاك المقتضى لبعدهم قال: (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي فأبعد الله قوما لا يؤمنون به ولا يصدقون برسوله قصة موسى وهرون عليهما السلام [سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 49] ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) تفسير المفردات الآيات: هى الآيات التسع التي سبقت فى سورة الأعراف، والسلطان: الحجة عالين: أي متكبرين، عابدون: أي خدم منقادون، قال أبو عبيدة: العرب تسمى كل من دان للملك عابدا، وقال المبرد: العابد: المطيع الخاضع، الكتاب: هو التوراة. الإيضاح (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) أي ثمّ أرسلنا بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم من قبل- موسى

وأخاه هرون إلى فرعون وأشراف قومه من القبط، بالآيات والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، فاستكبروا عن اتباعهما والانقياد لما أمروا به ودعوا إليه، من الإيمان وترك تعذيب بنى إسرائيل كما جاء فى سورة النازعات: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» وقد كان من دأبهم العتوّ والبغي على الناس وظلمهم كبرا وعلوا فى الأرض. ثم ذكر ما استتبعه هذا العتو والجبروت. (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟) أي فقال فرعون وملؤه كيف ندين لموسى وأخيه، وبنو إسرائيل قومهما خدمنا وعبيدنا يخضعون لنا ويتلقّون أوامرنا؟ وما قصدوا بهذا إلا الزراية بهما والحط من قدرهما، وبيان أن مثلهما غير جدير بمنصب الرسالة، وقد قاسوا الشرف الديني والإمامة فى تبليغ الوحى عن الله بالرياسة الدنيوية المبنية على نيل الجاه والمال. وهم فى هذا أشبه بقريش إذ قالوا: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» وقد فاتهم أن مدار أمر النبوة والاصطفاء للرسالة إنما هو السبق فى الفضائل النفسية والصفات السنية التي يتفضل الله بها على من يشاء من عباده، فالأنبياء لصفاء نفوسهم يتصلون بالعالم العلوي وعالم المادة، فيتلقون الوحى من الملأ الأعلى ويبلغونه إلى البشر، ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق، عن التبتل والانقطاع إلى حضرة الحق. وإن تعجب من شىء فاعجب لهؤلاء وأمثالهم ممن لم يرض النبوة للبشر، كيف سوّغت لهم أنفسهم ادعاء الألوهية للحجر: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» . ثم ذكر عاقبة أعمالهم وما آل إليه أمرهم فقال: (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي فأصر فرعون وملؤه على تكذيب موسى

[سورة المؤمنون (23) : آية 50]

وهرون، فأهلكهم الله بالغرق فى بحر القلزم (البحر الأحمر) كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبهم لرسلهم. ثم ذكر ما أولاه موسى بعد هلاكهم من التشريف والتكريم فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفيها الأحكام من الأوامر والنواهي بعد أن أهلكنا فرعون وملأه وأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، رجاء أن يهتدى بها قومه إلى الحق، ويعملوا بما فيها من الشرائع. قصص عيسى عليه السلام إجمالا [سورة المؤمنون (23) : آية 50] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) تفسير المفردات الآية: الحجة والبرهان، وآويناهما: أي جعلنا مأواهما ومنزلهما الربوة: وهى ما ارتفع من الأرض دون الجبل، ذات قرار: أي ذات استقرار للناس لما فيها من الزرع والثمار، ومعين: أي ماء جار. الإيضاح (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي وجعلنا عيسى آية للناس دالة على عظيم قدرتنا وبديع صنعنا، إذ خلقناه من غير أب، وأنطقناه فى المهد، وأجرينا على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وجعلنا أمه آية إذ حملته من غير أب. وجعلهما آية واحدة، لأنهما اشتركا فى هذا الأمر العجيب الخارق للعادة وهو الولادة بلا أب. ونحو الآية قوله: «وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ» . (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) أي وجعلناهما ينزلان بمرتفع من الأرض ذى ثمار وماء جار كثير.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 إلى 56]

قال قتادة: الربوة: بيت المقدس، وقال مقاتل والضحاك: هى غوطة دمشق إذ هى ذات الثمار والماء. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) تفسير المفردات الطيبات: ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه، أمتكم: أي ملتكم وشريعتكم، فتقطعوا: أي قطّعوا ومزّقوا، أمرهم: أي أمر دينهم، زبرا: أي قطعا واحدها زبور، فذرهم: أي فدعهم واتركهم، وأصل الغمرة الماء الذي يغمر القامة ويسترها والمراد بها الجهالة، حتى حين: أي إلى أن يموتوا فيستحقوا العذاب، نمدهم: أي نعطيه مددا لهم. المعنى الجملي بعد أن قص سبحانه علينا قصص بعض الأنبياء السالفين- عقّب هذا ببيان أنه أوصاهم جميعا بأن يأكلوا من الحلال، ويعملوا صالح الأعمال، كفاء ما أنعم به عليهم من النعم العظيمة، والمزايا الجليلة التي لا يقدر قدرها، ثم حذرهم وأنذرهم بأنه عليم بكل أعمالهم، ظاهرها وباطنها، لا تخفى عليه من أمورهم خافية، ثم أرشدهم إلى أن الدين الحق واحد لا تعدد فيه، ولكن الأمم قد فرقت دينها شيعا، وكل أمة فرحة مسرورة بما تدين به كما هى حال قريش، ثم خاطب رسوله بأن يتركهم وما يعتقدون إلى حين، ثم ذكر أنهم فى عماية حين ظنوا أن ما أوتوه من النعم هو حظوة من

الإيضاح

ربهم لهم- كلا، فهم لا يشعرون بحقيقة أمرهم وعاقبة حالهم، ولو عقلوا لعلموا أنهم فى سكرتهم يعمهون. الإيضاح (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) أمر الله كل نبى فى زمانه بأن يأكل من المال الحلال مالذّ وطاب، وأن يعمل صالح الأعمال، ليكون ذلك كفاء ما أنعم به عليه من النعم الظاهرة والباطنة. وهذا الأمر وإن كان موجها إلى الأنبياء فإن أممهم تبع لهم، وكأنه يقول لنا: أيها المسلمون فى جميع الأقطار، كلوا من الطيبات أي من الحلال الصافي القوّام- الحلال ما لا يعصى الله فيه، والصافي ما لا ينسى الله فيه، والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل- واعملوا صالح الأعمال. أخرج أحمد وابن أبى حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد ابن أوس رضى الله عنها أنها بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن حين فطره وهو صائم، فرد إليها رسولها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت من شاة لى، ثم رده وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت اشتريتها بمالى فأخذه، فلما كان من الغد أمته وقالت يا رسول الله: لم رددت اللبن؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: أمرت الرسل ألا يأكلوا إلا طيبا، ولا يعملوا إلا صالحا. وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أبى هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس! إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» وقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّى بالحرام، يمدّ يديه إلى السماء، يا رب يا رب فأنى يستجاب له» ؟

وفى تقديم أكل الطيبات على العمل الصالح إيماء إلى أن العمل الصالح لا يتقبّل إلا إذا سبق بأكل المال الحلال. وجاء فى بعض الأخبار «إن الله تعالى لا يقبل عبادة من فى جوفه لقمة من حرام» وصح أيضا «أيّما لحم نبت من سحت فالنار أولى به» . ثم علل هذا الأمر بقوله: (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي إنى بأعمالكم عليم، لا يخفى على شىء منها، وأنا مجازيكم بجميعها، وموفّيكم أجوركم، وثوابكم عليها، فخذوا فى صالح الأعمال، واجتهدوا قدر طاقتكم فيها، شكرا لربكم على ما أنعم به عليكم وفى هذا تحذير من مخالفتهم ما أمروا به، وإذا قيل للأنبياء ذلك فما أجدر أممهم أن تأخذ حذرها، وترعوى عن غيها، وتخشى بأس الله وشديد عقابه. (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي وإن دينكم معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. واختلاف الشرائع والأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال لا يسمى اختلافا فى الدين، لأن الأصول واحدة. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي وإنى أنا ربكم لا شريك لى فى الربوبية فاحذرو عقابى وخافوا عذابى. وفى هذا إيماء إلى أن دين الجميع واحد فيما يتصل بمعرفة الله واتقاء معاصيه. ثم بين أن أمم أولئك الرسل خالفوا أمر رسلهم واتبعوا أهواءهم وجعلوا دينهم فرقا وشيعا فقال: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي فتفرق أتباع الأنبياء فرقا وجماعات، وأصبح كل فريق معجبا بنفسه، فرحا بما عنده، معتقدا أنه الحق الذي لا معدل عنه.

فيا أتباع الأنبياء. أين عقولكم؟ إن الله أرسل إليكم رسلا فجعلتموهم محل الشقاق ومثار النزاع، لم هذا؟ هل اختلاف الشرائع مع اتحاد الأصول والعقائد ينافى المودة والمحبة؟ وأين أنتم يا أتباع محمد؟ ما لكم كيف تفرقتم أحزابا؟ هل اختلاف المذاهب كشافعية ومالكية، وزيدية وشيعة يفرق العقيدة؟ وكيف يكون هذا سبب التفرقة فهل تغير الدين؟ وهل تغير القرآن؟ وهل تغيرت القبلة؟ وهل حدث إشراك؟ كلا كلا، فإذا كان العيب قد لحق الأمم المختلفة على تنابذها، فما أجدركم أن يلحقكم الذم على تنابذكم وأنتم أهل دين واحد. ولا علة لهذا إلا لجهالة الجهلاء، فقد خيّم الجهل فوق ربوعكم ومدّت طنبه بين ظهرانيكم، لأنكم فرطتم فى كتاب ربكم: ظننتم أن أسس الدين هى مسائل العبادات والأحكام، وتركتم الأخلاق وراءكم ظهريا، وتركتم آيات التوحيد والنظر فى الأكوان ولو أنكم نظرتم إلى شىء من هذا لعلمتم أن كل ذلك من دينكم وأنتم عنه غافلون. وبعد أن ذكر سبحانه ما حدث من أمم أولئك الأنبياء من التفرّق والانقسام فيما كان يجب عليهم فيه اتفاق الكلمة، ومن فرحهم بما فعلوا- أمر نبيه أن يتركهم فى جهلهم الذي لا جهل فوقه، لأنه لا ينجع فيهم النصح، ولا يجدى فيهم الإرشاد فقال: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) أي فذرهم فى غيّهم وضلالهم إلى حين يرون العذاب رأى العين. ونحو الآية قوله: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» وقوله: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» . وقد جعلوا فى غمرة تشبيها لحالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء وغطّاه. ثم بين خظأهم فيما يظنون من أن سعة الرزق فى الدنيا علامة رضا الله عنهم فى الآخرة فقال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 إلى 61]

أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد، كرامة لهم علينا وإجلالا لأقدارهم عندنا- كلا، إن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا فى المعاصي، واستجرارا لهم إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة فى الخيرات، إذ هم أشبه بالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا فى أنه- استدراج هو أم مسارعة فى الخيرات؟ ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» وقوله: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وقوله: «إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» . قال قتادة فى تفسير الآية: مكر الله بالقوم فى أموالهم وأولادهم. يا ابن آدم لا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح. وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطى الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا وما بوائقه يا رسول الله؟ قال: غشّه وظلمه» . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 61] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) تفسير المفردات الخشية: الخوف من العقاب، والإشفاق نهاية الخوف والمراد لازمه، وهو دوام الطاعة، والآيات: هى الآيات الكونية فى الأنفس والآفاق والآيات المنزلة، وجلة: أي خائفة، سابقون: أي ظافرون بنيلها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذم سبحانه من فرقوا دينهم شيعا وفرحوا بما عملوا وظنوا أن ما نالوه من حظوظ الدنيا هو وسيلة لنيل الثواب فى الآخرة، وبين أنهم واهمون فيما حسبوا- قفّى على ذلك بذكر صفات من له المسارعة فى الخيرات، ومن هو جدير بها. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي إن الذين هم من خوفهم من عذاب ربهم دائبون فى طاعته، جادّون فى نيل مرضاته، فهم فى نهاية الخوف من سخطه عاجلا، ومن عذابه آجلا، ومن ثم يبتعدون عن الآثام والمعاصي. (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي والذين هم بآيات ربهم الكونية التي نصبها فى الأنفس والآفاق دلالة على وجوده ووحدانيته، وبآياته المنزّلة على رسله- مصدّقون موقنون، لا يعتريهم شك ولا ريب. (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أي والذين لا يعبدون مع الله سواه، ويعلمون أنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له صاحبة ولا ولد. وفيما سبق وصف لله بتوحيد الربوبية، وهنا وصف له بتوحيد الألوهية، ولم يقتصر على الأول، لأن كثيرا من المشركين يعترفون بتوحيد الربوبية كما قال: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة، ومن ثم عبدوا الأصنام والأوثان على طرائق شتى، وعبدو معبودات مختلفة. (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي والذين يعطون ما أعطوا، ويتصدقون بما تصدقوا، وقلوبهم خائفة ألا يتقبّل ذلك منهم، وألا يقع على الوجه المرضى حين يبعثون ويرجعون إلى ربهم، وتنكشف الحقائق، ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لديه وإن قل «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .

ويدخل فى قوله: (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) كل حق يلزم إيتاؤه، سواء أكان من حقوق الله كالزكاة والكفارة وغيرها أم من حقوق العباد كالودائع والديون والعدل بين الناس، فمتى فعلوا ذلك (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، من التقصير والإخلال بها بنقصان أو غيره) اجتهدوا فى أن يوفّوها حقّها حين الأداء. وسألت عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله: « (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهو الذي يزنى ويشرب الخمر، ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى؟ فقال لا يا بنة الصديق، ولكن هو الرجل يصلى ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل ذلك منه. (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي أولئك الذين جمعوا هذه المحاسن يرغبون فى الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها لئلا تفوتهم إذا هم ماتوا، ويتعجلون فى الدنيا وجوه الخيرات العاجلة التي وعدوا بها على الأعمال الصالحة فى نحو قوله: «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» وقوله: «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي إنهم يرغبون فى الطاعات وهم لأجلها سابقون الناس إلى الثواب، لا أولئك الذين أمددناهم بالمال والبنين فظنوا غير الحق أن ذلك إكرام منّا لهم، فإن إعطاء المال والبنين والإمداد بهما لا يؤهل للمسارعة إلى الخيرات، وإنما الذي يؤهل للخيرات هو خشية الله وعدم الإشراك به وعدم الرياء فى العمل والتصديق مع الخوف منه. ومعنى (هم لها) أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة، كقولك لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره- أنت لها- وعلى هذا قوله: مشكلات أعضلت ودهت ... يا رسول الله أنت لها وخلاصة ذلك- إن النعم ليست هى السعادة الدنيوية ونيل الحظوظ فيها، بل هى العمل الطيب، بإيتاء الصدقات ونحوها مع إحاطة ذلك بالخوف والخشية.

[سورة المؤمنون (23) : آية 62]

[سورة المؤمنون (23) : آية 62] وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) تفسير المفردات الوسع: ما يتسع على الإنسان فعله ولا يضيق عليه، والكتاب: هو صحائف الأعمال، بالحق: أي بالصدق. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه صفات المؤمنين المخلصين الذين يسارعون إلى الخيرات- أرشد إلى أن ما كلّفوا به سهل يسير لا يخرج عن حد الوسع والطاقة، وأنه مهما قلّ فهو محفوظ عنده فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى، وهو لا يظلم أحدا من خلقه، بل يجزى بقدر العمل، وبما نطقت به الصحف على وجه الحق والعدل. الإيضاح (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي إن سنتنا جارية على ألا نكلف نفسا إلا ما فى وسعها وقدر طاقتها، ومن ثم قال مقاتل: من لم يستطع القيام فى الصلاة فليصلّ قاعدا، ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء. (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) أي وليدنا صحائف أعمالهم يقرءونها حين الحساب، وتظهر فيها أعمالهم التي عملوها فى الدنيا دون لبس ولا ريب، ويجازون على الجليل منها والحقير، والقليل والكثير. ونحو الآية قوله «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» وقوله: «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» . ثم بين فضله على عباده وعدله بيننهم فى الجزاء إثر بيان لطفه فى التكليف وكتابة الأعمال على ما هى عليه فقال: (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وهم لا يظلمون فى الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب، بل يجازون مما عملوا ونطقت به كتبهم بالعدل والحق.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 إلى 77]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 77] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) تفسير المفردات الغمرة: الغفلة والجهالة، من دون ذلك: أي غير ذلك، والمترف: المتوسع فى النعمة، وجأر الرجل: صلح ورفع صوته، لا تنصرون: أي لا يجيركم أحد ولا ينصركم، تنكصون: أي تعرضون عن سماعها، وأصل النكوص: الرجوع على

المعنى الجملي

الأعقاب (العقب مؤخر الرّجل) ورجوع الشخص على عقبه: رجوعه فى طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه، سامرا: أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، والهجر (بالضم) الهذيان، والجنّة: الجنون، والذكر: القرآن الذي هو فخرهم، عن ذكرهم: أي فخرهم، خرجا: أي جعلا وأجرا، صراط مستقيم: أي طريق لا عوج فيه، لنا كبون: أي عادلون عن طريق الرشاد، يقال نكب عن الطريق: إذا زاغ عنه، لج فى الأمر: تمادى فيه، يعمهون: أي يتحيرون ويترددون فى الضلال، واستكانوا: خضعوا وذلوا، وما يتضرعون: أي يجددون التضرع والخضوع، مبلسون: أي متحيرون آيسون من كل خير. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه سجاحه هذا الدين، وأنه دين يسر لا عسر، فلا يكلفها النفس إلا ما تطيق، وأن ما يعمله المرء فهو محفوظ فى كتاب لا يبخس منه شيئا ولا يزاد له فيه شىء- أردف هذا بيان أن المشركين فى غفلة عن هذا الذي بيّن فى القرآن، ولهم أعمال سوء أخرى من فنون الكفر والمعاصي، كطعنهم فى القرآن واستهزائهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وإيذائهم للمؤمنين، فإذا حل بهم بأسنا يوم القيامة جأروا واستغاثوا، فقلنا لهم لا فائدة فيما تعملون، فقد جاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عنها واتخذتموها هزوا تسمرون بها فى البيت الحرام، وقد كان من حقكم أن تتدبروا القرآن لتعلموا أنه الحق من ربكم، وأن مجىء الكتب إلى الرسل سنة قديمة، فكيف تنكرونها؟ وهل رابكم فى رسولكم شىء حتى تمتنعوا من تصديقه وتقولوا إن به جنة وأنتم تعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا- لا- إن الأمر على غير ما تظنون، إنه قد جاءكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون، لما دسّيتم به أنفسكم من الزيغ والانصراف عن سبيل الحق، ولو أجابكم ربكم إلى ما فى أنفسكم من الهوى وشرع الأمور وفق ذلك لفسدت السموات والأرض لفساد أهوائكم واختلافها، وأنتم

الإيضاح

لو تأملتم لعلمتم أن ما جاءكم به هو فخركم فكيف تعرضون عنه؟ وهل تظنون أنه يسألكم أجرا على هدايتكم وإرشادكم، فما عند الله خير مما عندكم وهو خير الرازقين. فها هو ذا قد تبين الرشد من الغىّ، واستبان أن ما تدعوهم إليه هو الحق الذي لا محيص منه، وأن الذين لا يؤمنون به عادلون عن طريق الحق، وقد بلغوا حدا من التمرد والعناد لا يرجى معه صلاح، فلو أنهم ردّوا فى الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم. ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم، ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه، بل استمروا فى غيهم وضلالهم كما قال «فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» . فإذا جاءتهم الساعة بغتة، وأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، أيسوا من كل خير، وانقطع رجاؤهم من كل راحة وسعادة. الإيضاح (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) أي بل قلوب المشركين فى غفلة عن هدى القرآن والاسترشاد بما جاء به، مما فيه سعادة الناس فى دينهم ودنياهم، فلو قرءوه وتدبروه لرأوا أنه كتاب ينطق بالصدق، وأنه يقضى بأن أعمال المرء مهما دقّت فهو محاسب عليها، وإن ربك لا يظلم أحدا من عباده. ثم ذكر جنايات أخرى لهم فوق جنايتهم السابقة فقال: (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) أي إن لهم أعمالا أخرى أسوأ من ذلك، فقد أغرقوا فى الشرك والمعاصي، واتخذوا هذا الكتاب هزوا، وجعلوه سمرهم فى البيت الحرام يقولون فيه ما هو منه براء، يقولون إن هو إلا سحر مفترى، وما هو إلا أساطير الأولين، وما هو إلا كلام شاعر، ويتقوّلون على من أرسل به، فيزعمون أنه رجل به جنّة، وأنه قد تعلمه من غيره من أهل الكتاب، وانغمسوا فى عبادة

الأوثان والأصنام، ولقد تراهم إذا جاء البرهان الساطع أعرضوا عنه وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي حتى إذا حلّ بهم بأسنا يوم القيامة، وحاق بهم سوء العذاب، صاحوا صيحة منكرة وقالوا: وا غوثاه، ووا سوء منقلباه، لشدة ما يروه من الكرب والهول، ولا سيما مترفوهم الذي انقلب أمرهم من النعيم إلى العذاب الأليم، وندموا حين لا ينفع الندم: ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم ثم أبان أن الصريخ والعويل لا يجديهم نفعا فقال: (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي قلنا لهم: هيهات هيهات، قد فات ما فات، الآن لا يجديكم البكاء والعويل، فهذا وقت الجزاء على ما كسبت أيديكم وقد حقّت عليكم كلمة ربكم، ولا مغيث من أمره، ولا ناصر يحول بينكم وبين بأسه. ولا يخفى ما فى ذلك من التهويل الشديد لذلك اليوم وأنه لا تجدى فيه ضراعة ولا استغاثة، ولا ينفع فيه ولىّ ولا نصير. ثم ذكر سببا آخر يبين أن البكاء والصراخ لا ينفع شيئا فقال: (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي دعوا الصراخ فإنه لا يمنعكم منا، واتركوا النصير فإنه لا ينفعكم عندنا، فقد ركبتم شططا، وجاءتكم الآيات والنذر فأعرضتم عن سماعها، فضلا عن تصديقها والعمل بها، وكنتم كمن ينكص على عقبيه مولّيا القهقرى، نافرا مما يسمع ويرى. ثم ذكر سببا ثالثا يدعو إلى التنكيل بهم والتشديد فى عذابهم فقال: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) أي تعرضون عن الإيمان، مستعظمين بالبيت الحرام، تقولون نحن أهل حرمه وخدّام بيته، فلا يظهر علينا أحد، ولا نخاف أحدا، وتسمرون حوله وتتخذون القرآن سلواكم، والطعن فيه هجّيراكم، تهذون فتقولون: هو سحر، هو شعر، هو كهانة إلى آخر ما يحلولكم أن تتقوّلوه.

والخلاصة- إنكم كنتم عن سماع آياتي معرضين، مستعظمين بأنكم خدام البيت وجيرانه، فلا تضلمون، وتهذون فى أمر القرآن وتقولون فيه ما ليس فيه مسحة من الحق، ولا جانب من الصواب. ثم أنّبهم على ما فعلوا وبيّن أن إقدامهم عليه لا بد أن يكون لأحد أسباب أربعة فقال: (1) (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي إنهم لم يتدبروا القرآن فيعلموا ما خصّ به من فصاحة وبلاغة، وقد كان لديهم فسحة من الوقت، تمكنهم من التدبر فيه ومعرفة أنه الحق من ربهم، وأنه مبرأ من التناقض وسائر العيوب التي تعترى الكلام- إلى ما فيه من حجج دامغة، وبراهين ساطعة، إلى ما فيه من فضائل الآداب، وسامى الأخلاق، إلى ما فيه من تشريع إن هم اتبعوه كانوا سادة البشر، واتبعهم الأسود والأحمر، كما كان لمن اتبعه من السابقين الأولين من المؤمنين. (2) (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي أم اعتقدوا أن مجىء الرسل أمر لم تسبق به السنن من قبلهم، فاستبعدوا وقوعه، لكنهم قد عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تترى وتظهر على أيديهم المعجزات، فهلّا كان ذلك داعيا لهم إلى التصديق بهذا الرسول الذي جاء بذلك الكتاب الذي لا ريب فيه. (3) (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أم أنهم لم يعرفوا رسولهم بأمانته وصدقه وجميل خصاله قبل أن يدّعى النبوّة؟ كلا، إنهم لقد عرفوه بكل فضيلة، وشهر لديهم باسم (الأمين) فكيف ينكرون رسالته، ولقد قال جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه للنجاشى: إن الله بعث فينا رسولا نعرف نسبه، ونعرف صدقه وأمانته، وكذلك قال أبو سفيان لملك الروم حين سأله وأصحابه عن نسبه، وصدقه وأمانته، وقد كانوا بعد كفارا لم يسلموا. (4) (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي أم إن به جنونا فلا يدرى ما يقول، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأوفرهم رزانة.

وبعد أن عدد سبحانه هذه الوجوه، ونبّه إلى فسادها، بيّن وجه الحق فى عدم إيمانهم فقال: (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي إن ما جاءهم به هو الحق الذي لا محيص منه، فما هو إلا توحيد الله، وما شرعه لعباده مما فيه سعادة البشر، لكن أكثرهم جبلوا على الزيغ والانحراف عن الحق، لما ران على قلوبهم من ظلمات الشرك والإسراف فى الآثام والمعاصي، ومن ثم فهم لا يفقهون الحق ولا تستسيغه نفوسهم فهم له كارهون. وإنما نسب هذا الحكم للأكثر، لأن فيهم من ترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه أن يقولوا: ترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما أثر عن أبى طالب من قوله: فو الله لولا أن أجىء بسبّة ... تجرّ على أشياخنا فى القبائل إذا لا تبعناه على كل حالة ... من الدهر جدّا غير قول التخاذل ثم بين سبحانه أن اتباع الهوى يؤدى إلى الفساد العظيم فقال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي ولو سلك القرآن طريقهم، بأن جاء مؤيدا للشرك بالله، واتخاذ الولد، (تعالى الله عن ذلك) وزيّن الآثام واجتراح السيئات، لاختل نظام العالم كما جاء فى قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» ولو أباح الظلم وترك العدل لوقع الناس فى هرج ومرج، ولوقع أمر الجماعات فى اضطراب وفساد، والمشاهد فى الأمم التي يفشو فيها التخاذل والذلة والمسكنة يئول أمرها إلى الزوال، ولو أباح العدوان واغتصاب الأموال وأن يكون الضعيف فريسة للقوى، لما استتبّ أمن ولا ساد نظام، وحال العرب قبل الإسلام شاهد صدق على ذلك. ولو أباح الزنا لفسدت الأنساب وما عرف والد ولده، فلا تتكوّن الأسر، ولا يكون من يعول الأبناء، ولا يبحث لهم عن رزق، فيكونون شرّدا فى الطرقات لا مأوى لهم، ولا عائل يقوم بشئونهم، وأكبر برهان على هذا ما هو حادث فى أوروبا الآن من

وجود نسل بازدواج غير شرعى مما تئنّ منه الأمم والجماعات إلى نحو أولئك مما سبق ذكره من قبل وفصّلناه تفصيلا. وبعد أن أنبّههم على كراهتهم للحق، شنّع عليهم لإعراضهم عما فيه الخير لهم، وهو يخالف ما جبلت عليه النفوس من الرغبة فى ذلك فقال: (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم فأعرضوا عنه، ونكصوا على أعقابهم، وازدروا به وجعلوه هزوا وسخرية، وما كان لهم من الخير أن يفعلوا ذلك. ونحو الآية قوله: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» . ثم نفى عن رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما ربما صدّهم عن دعوته، وهو طلبه المال منهم أجرا لنصحه وإرشاده فقال: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي أم يزعمون انك طلبت منهم أجرا على تبليغ الرسالة، فلأجل هذا لا يؤمنون. والمراد- إنك لا تسألهم أجرا، فإن ما رزقك الله فى الدنيا والعقبى خير من ذلك، لسعته ودوامه وعدم تحمل منّة فيه، ولأنك تحتسب أجره عند الله لا عندهم. ونحو الآية قوله: «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» وقوله: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» وقوله: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» . (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) توكيد لما قبله، إذ من يكون خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره. وبعد أن فنّد آراءهم أتبعها ببيان صحة ما جاء به الرسول وأنه الحق الذي لا معدل عنه فقال: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتدعو هؤلاء المشركين من

قومك إلى ذلك الدين القيم الذي تشهد العقول السليمة باستقامته، وبعده عن الضلال والهوى والاعوجاج والزيغ. وخلاصة ما سبق ما قاله صاحب الكشاف: قد ألزمهم الحجة فى هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم- بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره، وحاله مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدّعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلّما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، مع إبراز المكنون من أدوائهم، وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضّلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق، وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيّرة، وكراهتهم للحق، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر اه. ثم بين أن الذين ينكرون البعث هم فى ضلال مبين فقال: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي وإن الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت، وبقيام الساعة ومجازاة الله عباده فى الآخرة- عادلون عن محجة الحق، وعن قصد السبيل، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، ونصب الأدلة عليه. (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي إنهم بلغوا فى التمرد والعناد حدا لا يرجى معه صلاح لهم، فلو أنهم ردوا فى الآخرة إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، لشدة لجاجهم وتدسيتهم لأنفسهم. (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ولقد قتلنا سراتهم بالسيف يوم بدر، فما خضعوا لربهم ولا انقادوا لأمره ونهيه ولا تذللوا ولا ردهم ذلك عما كانوا فيه، بل استمروا فى غيهم وضلالهم. ونحو الآية قوله: «فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» . ثم أبان عاقبة أمرهم وما يكون من حالهم إذا جاءت الساعة فقال:

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 إلى 80]

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة بغتة، وأخذهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون- أيسوا من كل خير وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 78 الى 80] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) تفسير المفردات ذرأكم فى الأرض: أي خلقكم وبثكم فيها، اختلاف الليل والنهار: تعاقبهما من قولهم: فلان يختلف إلى فلان: أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه إعراض المشركين عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل فى الحقائق- أردف ذلك الامتنان على عباده بأنه قد أعطاهم الحواس من السمع والبصر وغيرهما ووفقهم لاستعمالها، وكان من حقهم أن يستفيدوا بها، ليستبين لهم الرشد من الغى، لكنها لم تغن عنهم شيئا، فكأنهم فقدوها كما قال: «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» ثم ساق أدلة أخرى على وجوده وقدرته، فبين أنه أوجدهم من العدم وأن حشرهم إليه، وأنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم، وأنه هو الذي يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل، أفلا عقل لكم تتأملون به فيما تشاهدون؟

الإيضاح

الإيضاح امتن سبحانه على عباده بأمور هى دلائل قدرته وواسع علمه فقال: (1) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي والله هو الذي أحدث لكم السمع، لتسمعوا به الأصوات التي تخاطبون بها، والأبصار لتشاهدوا بها الأضواء والألوان والأشكال المختلفة، والعقول لتفقهوا بها ما ينفعكم ويوصلكم إلى سعادة الحياتين الدنيا والعقبى. وخص هذه الثلاثة بالذكر، لأنها طريق الاستدلال الحسى والعقلي لمعرفة الموجودات، وذكرها على هذا الترتيب، لما أثبته الطب أن الطفل فى الأيام الثلاثة الأولى يسمع ولا يبصر، ثم يبدأ الرؤية بعدئذ، ومن الواضح تأخر العقل عن ذلك. (قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) تقول العرب للكفور الجحود للنعمة: ما أقل شكر فلان على نعمتى، على معنى أنه لم يشكرها، فالمراد هنا أنكم لم تشكروه على هذه النعم العظيمة، وقد كان ينبغى أن تشكروه عليها فى كل حين. (2) (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وهو الذي خلقكم فى الأرض وبثكم فيها على اختلاف أجناسكم ولغاتكم، ثم يجمعكم لميقات يوم معلوم فى دار لا حاكم فيها سواه. (3) (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي وهو الذي جعل الخلق أحياء بنفخ الروح فيهم بعد أن لم يكونوا شيئا، ثم يميتهم بعد أن أحياهم، ثم يعيدهم تارة أخرى للثواب والجزاء. (4) (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وهو الذي سخر الليل والنهار وجعلهما متعاقبين يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا، لا يملانّ ولا يفترقان كما قال: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» . ثم أنب من ترك النظر فى كل هذا فقال:

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 إلى 83]

(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا تتفكرون فى هذه الموجودات، لتعلموا أن هذه صنع الإله العليم القادر على كل شىء، وأن كل شىء خاضع له تحت قبضته دالّ على وجوده؟ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 الى 83] بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) تفسير المفردات الأساطير: الأكاذيب واحدها أسطورة كأحدوثة وأعجوبة، قاله المبرد وجماعة. المعنى الجملي بعد أن ذكر أدلة التوحيد المبثوثة فى الأكوان والأنفس والتي يراها الناس فى كل آن- أعقبها بذكر البعث والحشر وإنكار المشركين لهما، وتردادهم مقالة من سبقهم من الكافرين الجاحدين فى استبعادهما والتكذيب بحصولهما. الإيضاح (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي ما اعتبر هؤلاء المشركون بآيات الله، ولا تدبروا حججه الدالة على قدرته على فعل كل ما يريد، كإعادة الأجسام بالبعث، وحياتها حياة أخرى للحساب والجزاء، بل قالوا مثل مقالة أسلافهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم، تقليدا لهم دون برهان ولا دليل. ثم فصل تلك المقالة. فقال: قالوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي قالوا: أئذا متنا وصرنا ترابا قد بليت أجسامنا، وجرّدت عظامنا: من لحومنا: أإنا لمبعوثون من قبورنا أحياء كهيئتنا قبل الممات؟ إن هذا لن يكون.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 إلى 90]

ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي قالوا: لقد وعدنا هذا الوعد الذي تعدنا به، ووعد آباؤنا من قبل مثل هذا على أيدى قوم زعموا أنهم رسل الله، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد. ثم زادوا فى تأكيد الإنكار فقالوا: (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الذي تعدنا به من البعث بعد الممات إلا أكاذيب الأولين، قد تلقفناها منهم دون أن يكون لها ظل من الحقيقة، ولا نصيب من الصحة ونحو الآية قوله حكاية عنهم: «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله: «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 90] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) تفسير المفردات تتقون: أي تحذرون عقابه، الملكوت: الملك والتدبير، يجير: أي يغيث، من قولهم أجرت فلانا من فلان إذا أنقذته منه، ولا يجار عليه: أي لا يعين أحد منه أحدا، تسحرون: أي تخدعون وتصرفون عن الرشد.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه شبهات المشركين فى أمر البعث والحساب والجزاء وأحوال النشأة الآخرة- عقب ذلك بذكر الأدلة التي تثبت تحققه وأنه كائن لا محالة. الإيضاح احتج سبحانه عليهم لإثبات البعث ببرهانات ثلاثة: (1) (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالآخرة من قومك: لمن ملك السموات والأرض ومن فيها من الخلق، إن كنتم من أهل العلم بذلك؟ وفى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) استهانة بهم وتوكيد لفرط جهالتهم كما لا يخفى ولما كانت بداهة العقل تضطرهم أن يجيبوا بأن الخالق لها هو الله- أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي إنهم سيقرون بأنها لله ملكا وخلقا وتدبيرا دون غيره. ثم أمر رسوله أن يرغبهم فى التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه فقال: (قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي قل لهم حين يعترفون بذلك موبّخا لهم: أفلا تتدبرون فتعلموا أن من قدر على خلق ذلك ابتداء؟ - فهو قادر على إحيائهم بعد مماتهم، وإعادتهم خلقا جديدا بعد فنائهم. (2) (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي قل لهم: من خلق السموات وخلق العرش المحيط بهن كما قال: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ومن يدبر أمرهن على هذا الوضع البديع والنظام العجيب، كما قال: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» . ثم أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال:

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي له كل شىء وهو رب ذلك، ليس لهم جواب غيره ولما تأكد الأمر وزاد وضوحا حسن التهديد فقال: (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟) أي قل لهم منكرا وموبخا: أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقاب ربكم، فتنكروا ما أخبر به من البعث؟ وبعد أن قررهم بأن العالمين العلوي والسفلى ملك له تعالى- أمره أن يقررهم بأن له تدبير شئونهما وتدبير كل شىء فقال: (3) (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قل لهم: من المالك لكل شىء؟ والمدبر لكل شىء؟ وفى قبضته وتحت سلطانه وتصرفه كل شىء؟ وهو يغيث من يشاء فيكون فى حرز لا يقدر أحد على الدنوّ منه، ولا يغاث أحد ولا يمنع منه، لأنه ليس فى العوالم كلها ما هو خارج من قبضته. والخلاصة- إنه المدبر لنظام العالم جميعه، وهو الذي يغيث من شاء، ولا يستطيع أحد أن يغيث منه. ثم أجاب عن هذا السؤال قبل أن يجيبوا فقال: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الذي بيده ذلك دون غيره. (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟) أي قل لهم على طريق الاستهجان والتوبيخ: كيف تخدعون وتصرفون عن توحيد الله وطاعته؟ فأنتم بعبادة الأصنام أو بعض البشر قد سحرت عقولكم كأنما غابت عن رشدها، واعتراها الذهول، فتصورت الأشياء على غير ما هى عليها. وقد ثبت بالتجربة أن تكرار الكلام يخدع العقول والحواس حتى تتخيل غير الحق حقا، وتتوهم صدق ما يقال وإن كان باطلا، ومن ثم كثرت المذاهب الإسلامية وابتدع الرؤساء الدينيون والسياسيون من الأساليب ما خدعوا به عقول الشعوب فى دينهم ودنياهم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 إلى 92]

والخلاصة- إن الكتاب الكريم عبر عن انصراف المشركين عن الحقائق الملموسة إلى ما لا أصل له إلا فى أوهامهم وخيالاتهم بالسحر، فإن قوما يعترفون بإله خالق للسموات والأرض بل للعالم كله، ثم هم بعد ذلك يقولون إن له شريكا- ليس له من سر إلا أن العقول قد سحرت عن أن تفهم الحقائق، وعوّلت على الاقتناع بالترهات والأباطيل. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من قولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين، بل جئناهم فيه بالدين الحق الذي فيه سعادة البشر، وإنهم لكاذبون فى إنكار ذلك، لأن عقولهم قد سحرت بخدع الآباء، وتكرار القول، وحكم العادة، وهى طبيعة ثانية. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 92] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن المشركين كاذبون فى إنكار البعث والجزاء، وفى مقالتهم: إن القرآن أساطير الأولين، قفى على ذلك ببيان أنهم كاذبون فى أمرين آخرين. اتخاذ الله للولد، وإثبات الشريك له. الإيضاح نفى سبحانه عن نفسه شيئين: (1) (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) أي ليس له ولد كما زعم قوم من المشركين حين

قالوا: الملائكة بنات الله، وكيف يكون له ذلك، ولا مثل له ولا ندّ، والوالد إنما يتخذ للحاجة إلى النصير والمعين، والله غنى عن كل شىء. (2) (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يشركه فى الألوهية، لا قبل خلق العالم ولا حين خلقه له ولا بعد خلقه. ثم ذكر دليلين على بطلان تعدّد الآلهة فقال: (ا) (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي لو قدّر تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما خلق، إذ لكل صانع ضرب من الصنعة يغاير صنعة سواه، فكان يحصل التباين فى نظم الخلق والإيجاد، ويوجد الاختلاف بين المخلوقات المتحدة الأنواع فلا ينتظم الكون، والمشاهد أنه منتظم متسق، وهو الغاية فى الكمال كما قال: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» . (ب) (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ولكان لكل منهم أن يطلب قهر الآخر وغلبته، فيعلو بعضهم على بعض كما هو حال ملوك الدنيا، وإذا لم تروا أثرا للتحارب والتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون. وبعد أن وضح الحق وصار كفلق الصبح جاء بما هو كالنتيجة لذلك فقال: (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه ربنا وتقدّس عما يقوله الكافرون من أن له ولدا أو شريكا. ثم وصف نفسه بصفات الكمال فقال: (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي هو العالم بما غاب عن خلقه من الأشياء فلا يرونه ولا يشاهدونه، وبما يرونه ويبصرونه، والمراد أن الذين قالوا بالولد والشريك مخطئون فيما قالوا، فإنهم يقولون عن غير علم، وأن الذي يعلم الأشياء شاهدها وغائبها ولا تخفى عليه خافية من أمرهما- قد نفى ذلك، فخبره هو الحق دون خبرهم. (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس عما يقول الجاحدون الظالمون.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 إلى 100]

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 100] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) تفسير المفردات الهمزات: الوساوس المغرية بمخالفة ما أمرنا به، واحدها همزة، وأصل الهمز النخس والدفع بيد أو غيرها، ومنه مهماز الرائض (حديدة توضع فى مؤخر الرحل ينخس بها الدابة لتسرع) كلا: كلمة تستعمل للردع والزجر عن حصول ما يطلب، من ورائهم: أي من أمامهم، برزخ: أي حاجز بينهم وبين الرجعة. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه ما لهم من مقالات السوء، كإنكار البعث والجزاء واتخاذ الولد، ووصف الله بما لا يليق به، وكان كل هذا مما يدعو إلى استئصالهم وأخذهم بالعذاب- أمر رسوله أن يدعوه بألا يجعله قرينا لهم فيما يحيق بهم من العذاب، ثم ذكر أنه قدير على أن يعجّل لهم العذاب، ولكنه أخره ليوم معلوم، ثم أرشده إلى الترياق النافع فى مخالطة الناس، وهو إحسان المرء إلى من يسىء إليه حتى تعود عداوته صداقة، وعنفه لينا. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان

الإيضاح

ثم أمره أن يستعيذ من حيل الشياطين وأن يحضروه فى أي عمل من أعماله، ولا يكون كالكافرين الذين قبلوا همزها وأطاعوا وسوستها، حتى إذا ما حان وقت الاحتضار تمنّوا أن يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالحا، وإنه لا يسمع لمثل هؤلاء دعاء، فإنه لارجعة لهم بعد هذا، وأمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم البعث. الإيضاح (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ. رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قل رب إن عاقبتهم وأنا مشاهد ذلك فلا تجعلنى فيهم، ولا تهلكنى بما تهلكهم به، ونجّنى من عذابك وسخطك، واجعلنى ممن رضيت عنهم من أوليائك. وفى أمره بذلك إيماء إلى أن العذاب قد يلحق غير من هو أهل له كما قال: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» . روى الإمام أحمد والترمذي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدعو «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّنى إليك غير مفتون» . (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي وإنا أيها الرسول لقادرون على أن نريك ما ننزله بهم من العذاب، فلا يحزننك تكذيبهم بك، وإنما تؤخره حتى يبلغ الكتاب أجله، علما منا أن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمن، ومن جزاء ذلك لا نستأصلهم ولا نمحو آثارهم. ثم أرشده إلى ما يفعل بهم إذا لحقه أذاهم فقال: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي ادفع الأذى عنك بالخصلة التي هى أحسن، بالإغضاء والصفح عن جهلهم والصبر على أذاهم وتكذيبهم بما أتيتهم به من عند ربك، ونحن أعلم بما يصفوننا به، وينحلونه إيانا من الاختلاق والأكاذيب،

وبما يقولون فيك من السوء وهجر القول ومجازوهم على ما يقولون، فلا يحزنك ذلك، واصبر صبرا جميلا. ونحو الآية قوله: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» . روى عن أنس رضى الله عنه أنه قال فى الآية: «يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول له: إن كنت كاذبا فإنى أسأل الله أن يغفر لك، وإن كنت صادقا فإنى أسأل الله أن يغفر لى» . ولما أدب سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يدفع بالحسنى أرشده إلى ما به يقوى على ذلك فقال: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي وقل: رب إنى ألتجئ إليك من أن يصل إلىّ الشياطين بوساوسهم، أو أن يبعثوا إلىّ أعداءك لإيذائى، وهكذا يدعو المؤمنون فإن الشيطان لا يصل إليهم إلا بأحد هذين الأمرين. وإذا انقطع العبد إلى مولاه وتبتل إليه وسأله أن يعيذه من الشياطين استيقظ قلبه، وتذكرر به فيما يأتى ويذر، ودعاه ذلك إلى التمسك بالطاعة، وازدجر عن المعصية. وقد استعاذ صلّى الله عليه وسلّم أن تحضره الشياطين فى عمل من أعماله ولا سيما حين الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل. أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا كلمات نقولها عند النوم خوف الفزع: بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، قال فكان ابن عمرو يعلمها من بلغ من أولاده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها فى عنقه» .

وأخرج أحمد عن الوليد بن الوليد أنه قال: «يا رسول الله إنى أجد وحشة، قال: إذا أخذت مضجعك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنه لا يحضرك وبالحرى لا يضرك» . وروى أبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم إنى أعوذ بك من الهزم، وأعوذ بك من الهدم، ومن الغرق، وأعوذ بك أن تتخبّطنى الشياطين عند الموت» . ثم أخبر عما يقوله الكافرون حين معاينة الموت من سؤال الرجعة إلى الدنيا ليصلحوا ما كانوا قد أفسدوا حال حياتهم فقال: (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي ولا يزال الكافر يجترح السيئات ولا يبالى بما يأتى وما يذر من الآثام والأوزار، حتى إذا جاءه الموت وعاين ما هو قادم عليه من عذاب الله ندم على ما فات، وأسف على ما فرّط فى جنب الله وقال: رب ارجعنى إلى الدنيا لأعمل صالحا فيما قصّرت فيه من عبادتك وحقوق خلقك. وخلاصة ذلك- إنه حين الاحتضار يعاين ما هو مقبل عليه من العذاب فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا، ليصلح ما أفسد، ويطيع فيما عصى. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» وقوله: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» وقوله: «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» وقوله: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» . ومن كل هذا تعلم أنهم يطلبون الرجعة حين الاحتضار، وحين النشور، وحين

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 إلى 111]

العرض على الملك الجبار، وحين يعرضون على النار وهم فى غمرات جهنم، فلا يجابون إليها فى كل حال. (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي إنا لا نجيبه إلى ما طلب، لأن طلبه الرد ليعمل صالحا هو قول فحسب ولا عمل معه وهو كاذب فيه، فلو ردّ لما عمل كما قال: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» . (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي ومن أمامهم حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا إلى يوم القيامة. وفى هذا تيئيس لهم من الرجوع أبدا، لأنهم إذا لم يرجعوا قبل يوم القيامة، فهم بعدها لا يرجعون أبدا، لما علم أنه لا رجعة بعد البعث إلا إلى الآخرة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 الى 111] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الصور واحدها صورة نحو بسر وبسرة: أي نفخت فى الأجساد أرواحها، ولا يتساءلون: أي لا يسأل بعضهم بعضا، موازينه: أي موزوناته وهى حسناته، المفلحون: أي الفائزون، خسروا أنفسهم: أي غبنوها، تلفح: أي تحرق، كالحون: أي عابسون متقلصو الشفاه، الشقوة والشقاوة: سوء العاقبة، وهى ضد السعادة، اخسئوا: أي اسكتوا سكوت ذلة وهوان، سخريا: أي هزوا، ذكرى: أي خوف عقابى. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن وراء الرجوع إلى الدنيا حاجزا إلى يوم القيامة- أعقب ذلك بذكر أحوال هذا اليوم، فبين أنه عند البعث وإعادة الأرواح فى الأجسام لا تنفع الأحساب، ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، وأن من رجحت حسناته على سيئاته فاز ونجا من النار ودخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته خاب وهلك وأدخل النار خالدا فيها أبدا، وكان عابس الوجه متقلّص الشفتين من شدة الاحتراق، وأنه يقال لأهل النار توبيخا لهم على ما ارتكبوا من الكفر والآثام، ألستم قد أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت عليكم الكتب؟ فيقولون بلى، ولكنا لم ننقد لها ولم نتبعها فصللنا، ربنا ارددنا إلى دار الدنيا، فإن نحن عدنا فإنا ظالمون مستحقون العقوبة، فيجيبهم ربهم: امكثوا فى النار صاغرين أذلاء ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا، إنكم كنتم تستهزئون بعبادي المؤمنين وكنتم منهم تضحكون، إنهم اليوم هم الفائزون جزاء صبرهم على أذاكم واستهزائكم بهم. الإيضاح (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي فإذا أعيدت الأرواح إلى الأجساد حين البعث والنشور، لا تنفعهم الأنساب، لأن التعاطف يزول، والود

يختفى، لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، واشتغال كل امرئ بنفسه كما جاء فى قوله: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ» (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، لاشتغاله بأمر نفسه كما قال: «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» وما جاء فى بعض الآيات من إثبات التساؤل بينهم كقوله: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» فإنما هو عند القرار فى الجنة أو النار. ثم شرع يبين أحوال السعداء وأحوال الأشقياء حينئذ فقال: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي فمن رجحت موزونات أخلاقه وأعماله فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، والحائزون لكل مرغوب. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي ومن ثقلت سيئاته على حسناته فأولئك الذين خابوا وآبوا بالصفقة الخاسرة، إذ هم دسّوا أنفسهم باسترسالهم فى الشهوات وفعل الموبقات. (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي مآلهم أن يمكثوا فى جهنم لا يخرجون منها أبدا. ثم وصف حال النار وحالهم فيها فقال: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرق النار وجوههم وهم فيها منقلصو الشفاه من أثر ذلك اللفح. وإنما خص الوجوه من بين باقى الأعضاء، لأنها أشرفها، فذكر ما ينوبها من ألم، ويلحقها من أذى، يكون أزجر عن المعاصي التي تصل بهم إلى النار. أخرج ابن مردويه عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى قول الله تعالى (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم. ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ توبيخا وتقريعا وتذكيرا لما به حقّ عليهم العذاب (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي قد أرسلت إليكم الرسل،

وأنزلت عليكم الكتب، وأزلت عنكم الشّبه، ولم يبق لكم حجة كما قال: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» وقال: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» فكذبتم بها، وأعرضتم عنها، وآذيتم من جاء بها. ونحو الآية قوله: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» . ثم ذكر جوابهم عن ذلك فقال: (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي قالوا قد قامت علينا الحجة ولم ننقد لها، لسوء استعدادنا وتغلّب شهواتنا، ولما دسّينا به أنفسنا من الآثام والمعاصي ومن ثم ضللنا طريق الهدى، ولم نتبع الحق. ونحو الآية قوله «فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» . والخلاصة- إنا كنا نعرف الحق، ولكن العادة وخشية الناس ملكتا علينا أمرنا، فلم نقدر على الخلاص مما نحن فيه، وما مثلنا إلا مثل شاربى الخمر والتّبغ والمولعين بحب الكبرياء والعظمة والمغرمين بالإسراف، فإنهم يعرفون أضرارها، ثم لا يجدون سبيلا إلى تركها ولا للبعد عنها. وبعدئذ حكى دعاءهم ربّهم أن يخرجهم منها: وقولهم فإن عدنا كنا ظالمين فقال: (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي قالوا ربنا أخرجنا من النار، وارددنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا من الشرور والآثام كنا ظالمين لأنفسنا جديرين بالعقوبة. ثم ذكر ما أجيبوا به عن طلبهم هذا فقال: (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي قال امكثوا فيها أذلاء صاغرين واسكتوا، ولا تعودوا إلى مثل سؤالكم هذا، فإنه لا رجعة لكم إلى الدنيا، وإنما يكلمنى من سمت نفسه إلى عالم الأرواح، ولبس رداء الخوف والخشية من ربه، واحتقر الدنيا وشهواتها، وعزف عنها، لما يرجوه من ربه من ثواب عميم، ونعيم مقيم.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 إلى 118]

ثم بين السبب فيما نالهم من العذاب فقال: (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي إن فريقا من عبادى ممن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فى الدنيا يقولون: ربنا آمنا بك وبرسلك وبما جاءوا به من لدنك، فاستر زلّاتنا، وآمن روعاتنا، ولا تخزنا يوم العرض، ولا تعذبنا بعذابك، فإنك أرحم من رحم أهل البلاء. (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي فتشاغلتم بهم، ساخرين منهم، ودأبتم على هذا، حتى نسيتم ذكرى، ولم تخافوا عقابى، وكنتم تضحكون منهم استهزاء بهم. والخلاصة- إنكم أضفتم إلى سيئاتكم، الاستهزاء بمن يفعلون الحسنات، ويتقربون إلى رب الأرض والسموات، روى أنها نزلت فى كفار قريش وقد كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كبلال وعمار وصهيب. ونحو الآية قوله: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ» . ثم ذكر ما جازى به أولئك المستضعفين فقال: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) أي إنى جزينهم بصبرهم على الأذى والسخرية بهم- بالفوز بالنعيم المقيم. والخلاصة- إنهم صبروا فجوزوا أحسن الجزاء. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

تفسير المفردات

تفسير المفردات اللبث: الإقامة، العادّين: الحفظة العادين لأعمال العباد وأعمارهم، والعبث: ما خلا من الفائدة الحق: أي الثابت الذي لا يبيد ولا يزول ملكه، والعرش: هو مركز تدبير العالم، ووصفه بالكريم لشرفه، وكل ما شرف فى جنسه يوصف بالكرم كما فى قوله: «وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ» وقوله: «وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» يدعو: يعبد، حسابه: أي جزاؤه. المعنى الجملي بعد أن ذكر إنكارهم للبعث وأنهم لا يعترفون بحياة إلا ما كان فى هذه الدنيا، وأنه بعد الفناء لا حياة ولا إعادة- ذكر هنا أنهم بعد أن يستقروا فى النار ويوقنوا أنهم مخلدون فيها أبدا، يسألون سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم فى الأرض، ليستبين لهم أن ما ظنوه أمدا طويلا يسير بالنسبة إلى ما أنكروه، وحينئذ يزدادون حسرة وألما على ما كانوا يعتقدون فى الدنيا حين رأوا خلاف ما ظنوا، ثم بين بعدئذ ما هو كالدليل على وجود البعث، وهو تمييز المطيع من العاصي، ولولاه لكان خلق العالم عبثا، تنزه ربنا عن ذلك. ثم أتبع هذا بالرد على من أشرك معه غيره، وأنذره بالعذاب الأليم، ثم أمر رسوله أن يطلب منه غفران الذنوب، وأن يثنى عليه بما هو أهله.

الإيضاح

الإيضاح (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟) أي قال الملك المأمور بسؤالهم: كم لبثتم فى الأرض أحياء؟. (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فقد نسى هؤلاء الأشقياء مدة لبثهم فى الدنيا، لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب، وقصّر عندهم الأمد الذي مكثوه فيها، ما حل بهم من نقمة الله، حتى حسبوا أنهم لم يمكثوا إلا يوما أو بعض يوم، ولعل بعضهم يكون قد أقام بها الزمان الطويل والسنين الكثيرة. (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي فاسأل الحفظة العارفين لأعمال العباد وأعمارهم كما روى ذلك جماعة عن مجاهد. (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي قال لهم الملك: ما لبثتم إلا زمنا يسيرا، ولو كنتم تعلمون شيئا من العلم لعملتم على مقتضى ذلك، ولما صدر منكم ما أوجب خلودكم فى النار، ولما قلنا لكم «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» . روى مرفوعا «إن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال: يا أهل الجنة كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، قال: لنعم ما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم رحمتى ورضوانى وجنتى، امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول يا أهل النار. كم لبثتم فى الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، فيقول بئسما أنجزتم فى يوم أو بعض يوم نارى وسخطى، امكثوا فيها خالدين مخلدين» : ثم زاد فى توبيخهم على تماديهم فى الغفلة وتركهم النظر الصحيح فيما يرشد إلى حقية البعث والقيامة فقال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي أظننتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم لعبا وباطلا؟ كلا، بل خلقناكم لنهذبكم ونعلمكم، لترتقوا إلى عالم أرقى مما أنتم فيه، لا كما ظننتم أنكم لا ترجعون إلينا للحساب والجزاء.

وفى هذا إشارة إلى أن الحكمة تقتضى تكليفهم وبعثهم لمجازاتهم على ما قدموا من عمل، وأسلفوا من سعى فى الحياة الدنيا. ثم نزه الله نفسه عما يصفه به المشركون فقال: (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي تنزه ربنا ذو الملك والملكوت الذي لا يزول، وليس هناك معبود سواه، وهو ذو العرش الكريم الذي يدبر فيه نظام الكون علويّه وسفليّه وجميع ما خلق عن أن يخلق الخلق عبثا، وأن تخلوا أفعاله عن الحكم والمقاصد الحميدة، وأن يكون له ولد أو شريك. وبعد أن ذكر أنه الملك الحق الذي لا إله إلا هو- أتبعه ببيان أن من ادعى أن فى الكون إلها سواه فقد ادعى باطلا، وركب شططا فقال: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ومن يعبد مع ذلك المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، معبودا آخر لا بيّنة له به، فحزاؤه عند ربه، وهو موفيه ما يستحقه من جزاء وعقاب. وفى ذلك من شديد التوبيخ والتقريع ما لا يخفى. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي إنه لا يسعد أهل الشرك، ولا ينجيهم من العذاب. وما ألطف افتتاح السورة بفلاح المؤمنين، وختمها بخيبة الكافرين، وعدم فوزهم بما يؤملون!. وبعد أن شرح أحوال الكافرين وجهلهم فى الدنيا وعذابهم فى الآخرة، أمر رسوله بالانقطاع إليه، والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله: (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي وقل أيها الرسول: رب استر على ذنوبى بعفوك عنها، وارحمني بقبول توبتى وترك عقابى على ما اجترحت من آثام وأوزار، وأنت ربّنا خير من رحم ذا ذنب، فقبل توبته وتجاوز عن عقابه إنك ربنا خير غافر، وإنك المتولى للسرائر، والمرجوّ لإصلاح الضمائر، وصلّ ربّنا على محمد وآله.

خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام والآداب

أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان فى جماعة عن أبى بكر أنه قال «يا رسول الله علّمنى دعاء أدعو به فى صلاتى قال: قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» . خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام والآداب (1) فوز المؤمنين ذوى الصفات الفاضلة بدخول الجنات خالدين فيها أبدا. (2) ذكر حال النشأة الأولى. (3) خلق السموات السبع وإنزال المطر من السماء وإنشاء الجنات من النخيل والأعناب وذكر منافع الحيوان للإنسان. (4) قصص بعض الأنبياء كنوح وشعيب وموسى وهرون وعيسى عليهم السلام ثم أمرهم جميعا بأكل الطيبات وعمل الصالحات. (5) لا يكلف الله عباده إلا بما فيه يسر وسجاحة. (6) وصف ما يلقاه الكافرون من النكال والوبال يوم القيامة وتأنيبهم على عدم الإيمان بالرسول، وتفنيد المعاذير التي اعتذروا بها. (7) ذكر ما أنعم به على عباده من الحواس والمشاعر. (8) إنكار المشركين للبعث والجزاء والحجاج على إثبات ذلك. (9) النعي على من أثبت الولد والشريك لله. (10) دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه ألا يجعله فى القوم الظالمين حين عذابهم.

(11) تعليم نبيه صلّى الله عليه وسلّم الأدب فى معاملة الناس، وأمره أن يدعوه بدفع همزات الشياطين عنه. (12) طلب الكفار العودة إلى الدنيا حين رؤية العذاب، لعلهم إذا عادوا عملوا صالحا. (13) وصف أهوال يوم القيامة وبيان ما فيها من الشدائد. (14) أوصاف السعداء والأشقياء. (15) تأنيب الكافرين على طلبهم العودة إلى الدنيا وزجرهم على هذا الطلب. (16) سؤال المشركين عن مدة لبثهم فى الدنيا، وبيان أنهم ينسون ذلك. (17) النعي على من عبد مع الله إلها آخر. وصلّى الله على سيدنا محمد النبي الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.

سورة النور

سورة النور هى مدنية وآيها أربع وستون. ووجه اتصالها بما قبلها: (1) إنه قال فى السورة السالفة: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» وذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغضّ البصر الذي هو داعية الزنا، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، والنهى عن إكراه الفتيات على الزنا. (2) إنه تعالى لما قال فيما سلف إنه لم يخلق الخلق عبثا بل للأمر والنهى- ذكر هنا جملة من الأوامر والنواهي. روى عن مجاهد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علّموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور» وعن حارث بن مضرّب رضى الله عنه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور. [سورة النور (24) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) تفسير المفردات أنزلناها: أي أعطيناها الرسول كما يقول العبد إذا كلم سيده: رفعت إليه حاجتى، والفرض: التقدير كما قال: «فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ» وقال: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» والمراد هنا تقدير ما فيها من الحدود والأحكام على أتمّ وجه، بينات: أي واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام، ولعلّ هنا يراد بها الإعداد والتهيئة، تذكرون: أي تتذكرون وتتعظون.

الإيضاح

الإيضاح امتنّ سبحانه على عباده بما أنزل عليهم فى هذه السورة من الفرائض والأحكام وفصله لهم من أدلة التوحيد وبيناته الواضحة التي لا تقبل جدلا، ليعدّهم بذلك لأن يتعظوا ويعملوا بما جاء فيها مما فيه سعادتهم فى دنياهم وآخرتهم وفيه صلاحهم، فإن فى حفظ الفروج صيانة للأنساب واطمئنانا على سلامتها مما يشوبها، كما أن فيه أمنا من حصول الضغائن والأحقاد التي قد تجر إلى القتل وارتكاب أفظع الجرائم بين الأفراد، وأمنا على الصحة والبعد من الأمراض التي قد تودى بحياة المرء وتوقعه فى أشد المصايب وأعظم ألوان البلاء. كما جاء فيها توثيق روابط المودة بين أفراد المجمع، ففيها نظام دخول البيوت للتزاور، وفيها حفظ الألسنة وصونها عن الولوغ فى الأعراض بما لا ينبغى أن يقال حتى لا ينتسر الفحش بين الناس، وفيها تحذير للعباد من ذلك «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . والخلاصة- إنه تعالى ذكر فى أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود الشرعية. وفى آخرها الدلائل على وحدانيته وكامل قدرته، فأشار إلى الأولى بقوله (وَفَرَضْناها) وإلى الثانية بقوله: (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) . والفائدة فى كل هذا اتقاء المحارم والبعد عنها ومعرفة الله المعرفة التي تجعل المرء يخضع لجلاله وعظيم سلطانه، ويشعر بأنه محاسب على كل ما يعمل من عمل قلّ أو كثر فإذا تم له ذلك صلحت نظم الفرد ونظم المجتمع، وسادت السكينة والطمأنينة بين الناس. [سورة النور (24) : آية 2] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

عقوبة الزنا الدنيوية

عقوبة الزنا الدنيوية الزاني والزانية إما أن يكونا محصنين: أي متزوجين، أو غير محصنين: أي غير متزوجين. عقوبة المحصنين إن كان الزانيان محصنين واستوفيا الشروط الآتية، وهى أن يكونا بالغين عاقلين حرين مسلمين متزوجين بعقد نكاح صحيح- وجب رجمهما: أي رميهما بالحجارة حتى يموتا، ويكون ذلك فى حفل عامّ للمسلمين ليعتبر بهما غيرهما. وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة، ورواه الثقات عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد رواه أبو بكر وعمر وعلىّ وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وزيد ابن خالد وبريدة الأسلمى فى آخرين من الصحابة، وجاء فى رواياتهم أن رجلا من الصحابة يسمى ما عزا أقر بالزنا فرجم، وأن امرأتين من بنى لخم وبنى غامد أقرتا بالزنا فرجمعا على مشهد من الناس ومرأى منهم. عقوبة غير المحصنين إن كان الزانيان غير محصنين فالعقوبة مابة جلدة بمحضر جمع من المسلمين كما بينته الآية ليفتضح أمرهما كما تقدم ذلك. طريق إثبات الزنا يثبت الزنا بأحد أمور ثلاثة: (1) الإقرار به وهذا هو الطريق الذي ثبت به الزنا فى الإسلام، وبه أوقع النبي صلى الله عليه وسلّم وصحابته العقوبة على من زنى. (2) الحبل للمرأة بلا زوج معروف لها. (3) شهادة أربعة من الشهود يرونهما وهما ملتبسان بالجريمة.

عقوبة الزنا الأخروية

عقوبة الزنا الأخروية تقدم أن بيّنا المساوى والأضرار التي تنشأ من الزنا للأفراد والجماعات فى الدنيا، وهنا نذكر حكمه الأخروى فنقول: اتفقت الأمة على أن الزنا من أكبر الآثام، وأنه من الذنوب التي شدد الدين فى تركها، وأغلظ فى العقوبة على فعلها، وجاء فيه من النصوص ما لم يأت فى غيره مما حرم الله، فقد قرن بالشرك فى قوله: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً» وروى عن حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث فى الدنيا وثلاث فى الآخرة، أما التي فى الدنيا فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي فى الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار» . وعن عبد الله بن مسعود قال: «قلت يا رسول الله، أىّ الذنب أعظم عند الله؟ قال أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت ثم أىّ؟ قال وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت ثم أىّ؟ قال وأن تزنى بحليلة جارك، فأنزل الله تصديقها: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ» الإيضاح (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي من زنى من الرجال أو زنت من النساء وهما حران بالغان عاقلان غير محصنين بزوجين فاجلدوا كلا منهما مائة جلدة عقوبة له على ما أتى من معصية الله. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) أي ولا تأخذكم بهما رحمة ورقة فى حكم

[سورة النور (24) : آية 3]

الله، فتعطلوا الحدود أو تخففوا الضرب، بل الواجب عليكم أن تتصلبوا فى دين الله ولا يأخذكم اللين والهوادة فى استيفاء الحدود، وكفى برسول الله أسوة فى ذلك، إذ يقول: «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» . (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي إن كنتم تصدقون بالله ربكم، وأنكم مبعوثون للحشر ومجازون بالثواب والعقاب. فإن من كان مصدّقا بذلك لا يخالف أمر الله ونهيه خوف عقابه على معاصيه. وفى هذا تهييج وإغضاب لتنفيذ حدود الله وإقامة شريعته. (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنهما إذا جلدا بمحضر من الناس كان ذلك أبلغ فى زجرهما، وأنجع فى ردعهما، والزيادة فى تأنيبهما على ما فعلا. والطائفة: الأربعة فصاعدا كما روى عن ابن عباس، وعن الحسن: عشرة فصاعدا. [سورة النور (24) : آية 3] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) المعنى الجملي قال مجاهد وعطاء: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة عيشا، ولكل منهن علامة على بابها للتعريف عن نفسها والإعلان عن أمرها، وكان لا يدخل عليهن إلا زان أو مشرك، فرغب فى كسبهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا ننّزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهنّ، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية. الإيضاح (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أي إن الفاسق الفاجر الذي من شأنه الزنا والفسق لا يرغب فى نكاح الصوالح من النساء،

[سورة النور (24) : الآيات 4 إلى 5]

وإنما يرغب فى فاسقة خبيثة أو فى مشركة مثلها، والفاسقة المستهترة لا يرغب فى نكاحها الصالحون من الرجال، بل ينفرون منها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة، ولقد قالوا فى أمثالهم: إن الطيور على أشكالها تقع. ولا شك أن هذا حكم الأعم الأغلب كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقى، وقد يفعل الخير من ليس بتقى، فكذا هذا فإن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف. (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي إن نكاح المؤمن المتّسم بالصلاح الزانية، ورغبته فيها واندماجه فى سلك الفسقة المشهورين بالزنا- محرم عليه، لما فيه من التشبه بالفسّاق ومن حضور مواضع الفسق والفجور التي قد تسبب له سوء القالة واغتياب الناس له، وكم فى مجالسة الفساق من التعرض لاقتراف الآثام، فما بالك بمزاوجة الزواني والفجار، وجاء فى الخبر «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» . حكم قذف غير الزوجة من النساء [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) تفسير المفردات المراد بالمحصنات هنا العفيفات الحرائر البالغات العاقلات المسلمات. المعنى الجملي بعد أن نفّر سبحانه من نكاح الزانيات وإنكاح الزانين وبيّن أن ذلك عمل لا يليق بالمؤمنين الذين أشربت قلوبهم حب الإيمان والتصديق برسله- نهى هنا عن رمى

الإيضاح

المحصنات به، وشدد فى عقوبته الدنيوية والأخروية، فجعل عقوبته فى الدنيا الجلد وألا تقبل له شهادة أبدا، فيكون ساقط الاعتبار فى نظر الناس ملغى القول لا تسمع له كلمة، وجعل عقوبته فى الآخرة العذاب المؤلم الموجع إلا إذا تاب إلى الله وأناب وأصلح أعماله، فإنه يزول عنه اسم الفسوق وتقبل شهادته. الإيضاح (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) أي إن الذين يشتمون العفيفات من حرائر المسلمين فيرمونهن بالزنا، ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون بأنهم رأوهن يفعلن ذلك- فاجلدوهم ثمانين جلدة جزاء لهم على ما فعلوا من ثلم العرض، وهتك الستر دون أن يكون ذلك بوجه الحق. (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي وردوا شهادتهم، ولا تقبلوها أبدا فى أي أمر من الأمور. ثم بين سوء حالهم عند ربهم بقوله: (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي وأولئك هم الخارجون عن طاعة ربهم إذ أنهم فسقوا عن أمره وركبوا كبيرة من الكبائر، باتهامهم المحصنات الغافلات المؤمنات كذبا وبهتانا كما قال حسان يمدح أمّ المؤمنين عائشة: حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «1» وهم إن كانوا صادقين فقد هتكوا ستر المؤمنات، وأوقعوا السامعين فى شك من أمرهن، دون أن يكون فى ذلك فائدة دينية ولا دنيوية لهم، وقد أمرنا بستر العرض إذا لم يكن فى ذلك مصلحة فى الدين.

_ (1) حصان: عفيفة، ورزان: حصيفة الرأى، وتزن: تتهم، وريبة: أي شك فى عرضها، وغرثى: جائعة، والمراد أنها لا تغتاب النساء كما هو شأن المرأة.

[سورة النور (24) : الآيات 6 إلى 10]

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي إلا الذين رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا من بعد ما اجترحوا ذلك الإثم وأصلحوا حالهم. وقد اختلف فى هذا الاستثناء، أيعود إلى الجملة الأخيرة فترفع التوبة الفسق فحسب، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب؟ وإلى هذا ذهب من السلف القاضي شريح وسعيد بن جبير وأبو حنيفة، أم يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيّب وجماعة من السلف، وهو رأى مالك والشافعي وأحمد، وعليه فتقبل شهادته ويرفع عنه حكم الفسق. ثم ذكر علة قبول التوبة فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن الله ستّار لذنوبهم التي أقدموا عليها بعد أن تابوا منها، رحيم بهم فيزيل عنهم ذلك العار الذي لحقهم بعدم قبول شهادتهم ووسمهم بميسم الفسوق الذي وصفوا به. حكم قذف الرجل زوجه [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) تفسير المفردات يرمون أزواجهم: أي يقذفونهنّ بالريبة وتهمة الزنا، ولعنة الله: الطرد من رحمته، ويدرأ: أي يدفع، والعذاب: الحد، وغضب الله: سخطه والبعد من فضله وإحسانه

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بيّن سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنا وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء- ذكر هنا ما هو فى حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة فى الآية، لأن فى تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه. روى عن ابن عباس أنه قال: «لما نزل قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات إلخ قال عاصم بن عدىّ الأنصاري: إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك، فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عو يمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتى خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا فى أهل بيتي! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قال أخبرنى عويمر ابن عمى أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهم جميعا وقال لعويمر اتقى الله فى زوجتك وابن عمك ولا تقذفها، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيرى، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتقى الله ولا تخبري إلا بما صنعت، فقالت يا رسول الله: إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلىّ ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

الإيضاح

فنودى (الصلاة جامعة) فصلى العصر ثم قال لعويمر: قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإنى لمن الصادقين، ثم قال: قل أشهد بالله إنى رأيت شريكا على بطنها وإنى لمن الصادقين، ثم قال: قل أشهد بالله إنها حبلى من غيرى وإنى من الصادقين ثم قال: قل: أشهد بالله إنها زانية وإنى ما قربتها منذ أربعة شهور وإنى لمن الصادقين ثم قال: قل لعنة الله على عويمر (يعنى نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال، ثم قال: اقعد، وقال لخولة: قومى فقامت وقالت أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا زوجى لمن الكاذبين، وقالت فى الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت فى الثالثة: إنى حبلى منه، وقالت فى الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآنى على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت فى الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين فى قوله، ففرق رسول الله بينهما» . «و فى رواية عن ابن عباس: أنها حين كانت تؤدى الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت والله لا أفضح قومى فشهدت فى الخامسة كما تقدم، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتفريق بينهما وألا يدعى ولدها لأب، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة» فصار هذا سنّة المتلاعنين وسمى عملهما (اللعان والملاعنة) . وفى رواية «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة (سحلية) فلا أراه إلا كاذبا فجاءت به على النعت المكروه» . الإيضاح (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ)

أي والأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا، ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما قذفوهن به من الفاحشة، فعلى كل منهم أن يشهد أربع شهادات إنه لصادق فيما رماها به من الزنا، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به. (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي ويدفع عنها العقوبة الدنيوية وهى الحد أن تخلف بالله أربعة أيمان إن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة- لمن الكاذبين فيما قال، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما اتهمها به. وخصّت الملاعنة بأن تخمّس بغضب الله عليها تغليظا عليها، لأنها هى سبب الفجور ومنبعه، بخديعتها وإطماعها الرجل فى نفسها. وبعد أن ذكر حكم الرامي للمحصنات وللأزواج بين أن فى هذا تفضلا بعباده ورحمة بهم فقال: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أي ولولا تفضله سبحانه ورحمته بكم وأنه قابل لتوبتكم فى كل آن، وأنه حكيم فى جميع أفعاله وأحكامه التي منها ما شرعه لكم من اللعان- لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان، إذ لو لم يشرع لكم ذلك لوجب على الزوج حد القذف، مع أن قرائن الأحوال تدل على صدقه، لأنه أعرف بحال زوجه، وأنه لا يفترى عليها، لاشتراكهما فى الفضيحة، ولو جعل شهادته موجبة لحد الزنا عليها لأهمل أمرها وكثر افتراء الزوج عليها لضغينة قد تكون فى نفسه من أهلها، وفى كل هذا خروج من سبق الحكمة والفضل والرحمة، ومن ثم جعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما درائة عنه العقوبة الدنيوية، وإن كان قد ابتلى الكاذب منهما فى تضاعيف شهادته بأشد مما درأه عن نفسه وهو العقاب الأخروى.

[سورة النور (24) : الآيات 11 إلى 22]

[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الإفك: أبلغ الكذب والافتراء، والعصبة: الجماعة، وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين، وقد عدّت عائشة منها المنافق عبد الله بن أبى ابن سلول وقد تولّى كبره، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضى الله عنها وزوج طلحة ابن عبيد الله، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، كبره (بكسر الكاف وضمها وسكون الباء) أي معظمه فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه، (لولا) كلمة بمعنى هلّا تفيد الحث على فعل ما بعدها، مبين: أي ظاهر مكشوف، أفضتم: أي خضتم فى حديث الإفك، تلقونه: أي تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض، يقال تلقّى القول وتلقّنه وتلقّفه ومنه «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» سبحانك: تعجب ممن تفوّه به، بهتان: أي كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته، يعظكم: أي ينصحكم، تشيع: أي تنتشر، الفاحشة: الخصلة المفرطة فى القبح وهى الزنا، وخطوات واحدها خطوة (بالضم) ما بين القدمين من المسافة، ويراد بها نزغات الشيطان ووساوسه: والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر منه، زكا: أي طهر من دنس الذنوب، ولا يأتل: أي لا يحلف، الفضل الزيادة فى الدين، السعة: الغنى. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات- ذكر فى هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن حرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى (نصيبى) فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت فى هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودى بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى، فلست صدرى فإذا عقدى من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسنى ابتغاؤه، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلون بي فاحتملوا هودجى فرحّلوه على بعيري وهم يحسبون أنى فيه لخفتى، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلى وظننت أنهم سيفقدوننى ويعودون فى طلبى، فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمى من وراء الجيش، فلما رآنى عرفنى فاستيقظت باسترجاعه، فخمّرت وجهى بجلبابي، وو الله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا فى نحر الظهيرة، وافتقدنى الناس حين نزلوا وماج القوم فى ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا فى حديثى فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبى، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون فى قول أصحاب الإفك لا أشعر بشىء من ذلك، ويريبنى فى وجعي أنى لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذلك يريبنى ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول فى التنزه فى البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح

(هى ابنة أبى رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبى بكر الصديق) قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح فى مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه أولم تسمعى ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتنى بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضى فلما رجعت إلى منزلى ودخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال كيف تيكم؟ قلت أتأذن لى أن آتى أبوىّ؟ قال نعم، قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوىّ فقلت لأمى: أي أماه، ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: أي بنيّة هوّنى عليك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراتر إلا أكثرن عليها: قالت قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت نعم، قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقألى دمع ولا أكتحل بنوم؟ ثم أصبحت فدخل علىّ أبو بكر وأنا أبكى، فقال لأمى ما يبكيها؟ قالت: لم تكن علمت ما قيل لها، فأكبّ يبكى، فبكى ساعة ثم قال: اسكتي يا بنية، فكيت يومى ذلك لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلى المقبل لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواى أن البكاء سيفلق كبدى، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحى يستشيرهما فى فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي فى نفسه من الود، فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علىّ فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية (يعنى بريرة) تصدقك، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريرة فقال: هل رأيت من شىء يريبك من عائشة؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتى الدواجن فتأكله، فقام

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبىّ فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغني أذاه فى أهلى، فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلى إلا معى، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضى الله عنه فقال: أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس صربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة، فقال أىّ سعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة، كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا، ثم أتانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا فى بيت أبوىّ، فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى استأذنت علىّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكى معى، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم جلس عندى ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى بشىء، قالت فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعى حتى ما أحسّ منه دمعة، قلت لأبى: أجب عنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال، قال والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت لأمى: أجيبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، إنى والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر فى أنفسكم حتى كدتم أن تصدّقوا به،

فإن قلت لكم إنى بريئة (والله يعلم أبى بريئة) لا تصدّقونى بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنى منه بريئة لتصدّقنى، وإنى والله لا أجد لى ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» ثم توليت فاضطجعت على فراشى وأنا والله أعلم أنى بريئة، وأن الله سيبرئنى ببراءتي، ولكنى والله ما كنت أظن أن ينزل فى شأنى وحي يتلى، ولشأنى كان أحقر فى نفسى من أن يتكلم الله فى بأمر يتلى، ولكنى كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المنام رؤيا يبرئنى الله بها، قالت والله ما دام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحى حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق فى اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت: فلما سرّى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشرى يا عائشة، إن الله قد يراك، فقالت لى أمي قومى إليه، فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله: «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ» العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا فى براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله: «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ- إلى قوله- غَفُورٌ رَحِيمٌ» فقال أبو بكر: إنى لأحب أن يغفر الله لى، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل زينب بنت جحش عن أمرى وما سمعت، فقالت: يا رسول الله أحمى سمعى وبصرى، والله ما رأيت إلا خيرا. قالت عائشة: وهى التي كانت تساميى، فعصمها الله بالورع، وطفقت أحبها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك» .

الإيضاح

وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدثتنى الصّديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبرّأة من السماء. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان جماعة منكم أيها المؤمنون تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس لمقاصد لهم أخفوها والله عليم بما يفعلون. وفى التعبير (بعصبة) بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون، وأنهم هم الذين ينتسرونه، لا أنهم عدد كثير من الناس. (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لا تظنوا أن فيه فتنة وشرا، بل هو خير لكم، لاكتسابكم به الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وإظهار كرامتكم على الله بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر فى براءتكم وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية والآداب التي لا تخفى على من تأملها. ثم ذكر عقاب من اجترحوه- كل منهم بقدر ما خاض فيه فقال: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي لكل امرئ منهم جزاء ما اجترح من الإثم بقدر ما خاض فيه، فإن بعضهم تكلم، وبعضهم ضحك كالمسرور الراضي بما سمع، وبعضهم أقلّ، وبعضهم أكثر. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي والذي تحمّل معظم ذلك الإثم منهم وهو عبد الله بن أبىّ (عليه اللعنة) له عذاب عظيم فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فبإظهار نفاقه على رءوس الأشهاد، وأما فى الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العليم الحكيم. وقد كان هو أول من اختلقه لإمعانه فى عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم،

وقال الضحاك: الذي تولى كبره حسان ومسطح فجلدهما صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله عذرها، وجلد معهما امرأة من قريش، وإنما أضاف الكبر إليه، لأنه ابتدأ بذلك القول، لاجرم حصل له من العقاب مثل ما حصل لكل من قال ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . ثم عاتب الله أهل الإيمان به فيما وقع فى أنفسهم من إرجاف من أرجف فى أمر عائشة وزجرهم بتسعة أمور: (1) (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي هلا إذ سمعتم ما قال أهل الإفك فى عائشة ظنتم بمن اتّهم بذلك خيرا، لأن الإيمان يحملكم على إحسان الظن، ويكفّكم عن إساءتكم أنفسكم أي أمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم كما قال «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» وقال «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» وهلا قلتم حينئذ: هذا كذب ظاهر مكشوف؟ فإن الذي وقع لم يكن فيه ما يرتاب منه- ذاك أن مجىء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان وقت الظهيرة والجيش أجمعه يشاهد ذلك، ورسول الله بين أظهرهم ينفى كل شك، وإنما قيل ما قيل لحسد فى القلوب كامن، وبغض فى النفس مكتوم. ثم علل سبحانه كذب الآفكين ووبّخهم على ما اختلفوه وأذاعوه بقوله: (2) (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي هلا جاء الخائضون فى الإفك بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا وما رموها به. (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك المفسدون هم الكاذبون فى حكم الله وشرعه. (3) (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله سبحانه عليكم فى الدنيا بضروب النعم التي من أجلّها الإمهال للتوبة، ورحمته فى الآخرة بالعفو بعد التوبة- لعجل لكم العقاب فى الدنيا من جراء ما خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان.

ثم بين سبحانه وقت حلول العذاب الذي كانوا يستحقونه لولا الفضل والرحمة بقوله: (4) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله ورحمته لمسكم ذلك العذاب وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه، وقولكم قولا بالأفواه دون أن يكون له منشأ فى القلوب يؤيده، وظنكم إياه هينا سهلا لا يعبأ به، وهو من العظائم والكبائر عند الله. وخلاصة ذلك- إنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها: (ا) تلقى الإفك بالألسنة، فقد كان الرجل يلقى أخاه فيقول له ما وراءك، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه، فهم قد فعلوا جهد المستطاع فى نشره. (ب) إنه قول بلا روية ولا فكر، فهو قول باللسان لا يترجم عما فى القلب، إذ ليس هناك علم يؤيده ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه (ج) استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له، وهو عند الله عظيم الوزر، مستحق لشديد العقوبة. (هـ) (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي وهلّا حين سمعتموه ممن بدأ به وانتحله أو ممن تابعه فى القول- قلتم تكذيبا له وتهويلا لشأن ما ارتكبه من الجرم: لا يحل لنا أن نتكلم بهذا ولا ينبغى لنا أن نتفوه به سبحانك رب- هذا كذب صراح يحيّر السامعين، أمره، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس، بيت النبوة الذي هو فى الذروة العليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة، وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة فماذا يبقى للمؤمنين بعدئذ؟ أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة، وينبوع الطهر، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين، وشريف الأخلاق؟ وإنا لنبرأ إليك

ربنا منه وأن تلوكه ألسنتنا، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفّاك أثيم سولت له نفسه أن يكون الوسيلة فى انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين. وخلاصة هذا- تنزه ربنا أن يرضى بظلم هؤلاء القاذفين، وألا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق، وأن توسم زوج نبيه بالفجور، والعقل والدين يمنعان الخوض فى مثل هذا، لأن فيه إيذاء للنبى صلّى الله عليه وسلّم والله يقول «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر الله بسترها، ولأن فى إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلقا بأخلاق الله والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «تخلقوا بأخلاق الله» . ثم حذر عباده المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا فقال: (6) (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب، وكبر هذا الجرم، وأن فيه النكال والعقاب بالحد فى الدنيا، والعذاب فى الآخرة، كى لا تعودوا لمثله أبدا إن كنتم من أهل الإيمان تتعظون بعظات الله، وتأتمرون بأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه. وفى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إيماء إلى أن الإيمان يمنع من فعل هذا. (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ويفصّل الله لكم فى كتابه، آيات التشريع، ومحاسن الفضائل والآداب، وهو العليم بكم، لا يخفى عليه شىء منها، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. الحكيم فى تدبير شئونكم وفيما كلفكم به، مما فيه سعادتكم فى معاشكم ومعادكم، وبه تسمو نفوسكم وترقى إلى عالم الأرواح، وتكونون خير الأمم فى سياسة الشعوب وعمارة الأرض، وإقامة ميزان العدل بين أفرادها «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» ولقد صدق الله وعده وعمر أسلافنا الأولون ما كان معروفا فى ذلك الحين وبثوا فيه فضائل الدين وسماحته

حتى صاروا مضرب الأمثال، فلما انحرفوا عن الصراط السوي، والنهج القويم، تقلّص ظلهم، وذهب ريحهم، وصاروا أذلاء مستعبدين بعد أن كانوا السادة الحاكمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولما كان من أنفع المواعظ بيان ما يستحقه المذنب من العقاب على جرمه بيّن ذلك بقوله: (7) (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن الذين يحبون أن يذيع الزنا فى المحصنين والمحصنات من المؤمنين والمؤمنات، لهم عذاب موجع فى الدنيا بإقامة الحد عليهم واللعن والذم من الناس، وفى الآخرة بعذاب النار وبئس القرار. وفى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة، ومن أقال عثرة مسلم أقال الله عثرته يوم القيامة» . (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فردوا الأمور إلى ربكم ترشدوا، ولا ترووا ما لا علم لكم به، ولا سيما حلائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتهلكوا. ثم كرر فضله ورحمته على عباده للمنة عليهم بترك المعاجلة بالعقاب فقال: (8) (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ولولا أن الله تفضل عليكم وأبقاكم بعد الخوض فى الإفك ومكّنّكم من التلافي بالتوبة لهلكتم، لكنه لرأفته بعباده لا يدع ما هو أصلح للعبد وإن جنى على نفسه. وبعدئذ حذر عباده من اتباع وساوس الشيطان فقال: (9) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تسلكوا سبل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره، بإشاعتكم الفحشاء فى الذين آمنوا، وإذا عتكموها فيهم، بروايتكم إياها عمن نقلها إليكم.

ثم ذكر سبب النهى فقال: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي ومن اتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر، فإنه لا يأمر إلا بهما، ومن هذا شأنه لا ينبغى اتباعه ولا طاعته. ثم أكد منته على عباده فقال: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بتوفيقكم للتوبة التي تمحو الذنوب وتغسل أدرانها ما طهر أحد منكم من ذنبه وكانت عاقبته النكال والوبال، ولعاجلكم بالعقوبة كما قال: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ على ظهرها مِنْ دَابَّةٍ» . (وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي ولكنّ الله جلت، قدرته يطهر من يشاء من خلقه بقبول توبتهم من تلك الذنوب التي اجترحوها تفضلا منه ورحمة كما فعل بمن سلّم من داء النفاق ممن وقع فى حديث الإفك كحسان ومسطح وغيرهما. (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما تقولون بأفواهكم من القذف وإثبات البراءة، عليم بما فى قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو كراهتها، ومجازيكم بكل ذلك. وفى هذا حث لهم على الإخلاص فى التوبة، والابتعاد جهد المستطاع عن المعصية، وارتكاب الأوزار والآثام. (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي ولا يحلف من كان ذا فضل وسعة منكم أيها المؤمنون بالله، ألا يعطوا ذوى قرابتهم المساكين المهاجرين كمسطح ابن خالة أبى بكر الذي كان فقيرا وهاجر من مكة إلى المدينة وشهد مع رسول الله بدرا. روى أن الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قول فى عائشة ما قال

[سورة النور (24) : الآيات 23 إلى 25]

ذاك أنه بعد أن أنزلت براءة عائشة وطابت النفوس وتاب الله على من تكلم من المؤمنين فى ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه- تفضل وله الحمد والمنة فعطّف الصّدّيق على قريبه مسطح وكان ابن خالته وكان مسكينا لا مال له وكان من المهاجرين فى سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحدّ عليها. (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أي وليتركوا عقوبتهم على ذلك، بحرمانهم مما كانوا يؤتونهم، وليعودوا لهم إلى مثل الذي كان لهم عليهم من الإفضال. ثم رغبهم فى العفو والتفضل فقال: (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) أي ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضاله عليكم، والجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح الله عنك، فحينئذ قال الصديق: بلى والله نحب أن تغفر لنا ربّنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال والله لا أنزعها منه أبدا. (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله غفور لذنوب من أطاعه واتبع أمره، رحيم به أن يعذبه على ما كان له من زلة قد استغفر منها وتاب إليه من فعلها. وفي هذا ترغيب عظيم فى العفو، ووعد كريم عليه بالمغفرة من الذنوب وحث على مكارم الأخلاق. [سورة النور (24) : الآيات 23 الى 25] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المحصنات: العفيفات، الغافلات: أي عن الفواحش وهن النقيات القلوب اللاتي لا يفكّرن فى فعلها، لعنوا: أي طردوا من رحمة الله فى الآخرة وعذبوا فى الدنيا بالحدّ، دينهم: أي جزاءهم ومنه «كما تدين تدان» الحق: أي الثابت الذي يحق لهم لا محالة، أن الله: أي وعده ووعيده، الحق: أي العدل الذي لا جور فيه. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة وبين عقاب من اتهمها بالإفك وشديد عذابه يوم القيامة وأسهب فى هذا- أعقب ذلك ببيان حكم عام وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور- فهو مطرود من رحمة الله، بعيد عن دار نعيمه، معذّب فى جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إن الذين يتهمون بالفاحشة العفيفات الغافلات عنها المؤمنات بالله ورسوله- يبعدون من رحمة الله فى الدنيا والآخرة، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم، فهم مصدر قالة السوء فى المؤمنات، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والقدوة السيئة لمن يتكلم بها، فعليهم وزرها ووزر من تكلم بها كما ورد فى الحديث: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ولهم ذلك العذاب الذي لا يقدر قدره يوم يجحدون ما اكتسبوا فى الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون من قول أو فعل، إذ ينطقها الله بقدرته، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها.

ونحو الآية قوله تعالى: «وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ» . عن أبى سعيد الخدرىّ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول كذبوا، فيقال أهلك وعشيرتك، فيقول كذبوا، فيقال احلفوا فيحلفون، ثم يصمّهم الله فتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ثم يدخلهم النار» . ويرى فريق من المفسرين أن الشهادة هنا ليست الشهادة باللسان، بل شهادة الإثبات والبيان، إذ كل ما يعمله الإنسان فى الدنيا من قول أو فعل تنطبع له صورة على العضو الذي فعله، فالكلمة يقولها تنطبع لها صورة على اللسان، واليد التي تمتد لفعل شىء، والرجل التي تخطو إلى عمل، كل ذلك يحفظ على نفس الجارحة التي فعلته، فما أشبه ذلك بالصور التي تؤخذ اليوم لأصابع المجرمين وبصمات أيديهم وأرجلهم فى قلم تحقيق الشخصية للرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى ضبط أولئك المجرمين، فما ينطبع إذ ذاك على اللسان واليد والرجل يكون كافيا جد الكفاية فى إثبات الجرم على أولئك المجرمين والطغاة الظالمين. (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي فى هذا اليوم يوفيهم الله جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن ما كانوا يوعدون به فى حياتهم الدنيا من العذاب هو الحق الذي لا شك فيه، ويزول عنهم كل ريب كان قد ألمّ بهم فى الدار الأولى. عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» رواه الشيخان. قال صاحب الكشاف: ولو قلّبت القرآن كله وفتّشت عما أوعد به العصاة

[سورة النور (24) : آية 26]

لم تر أن الله قد غلّظ فى شىء تغليظه فى إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعقاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، على طرق مختلفة، وأساليب مفتنّة، كل واحد منها كاف فى بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين فى الدارين جميعا وتوعّدهم بالعذاب العظيم فى الآخرة، بأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفّيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله اه. [سورة النور (24) : آية 26] الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) المعنى الجملي بعد أن برأ سبحانه عائشة مما رميت به من الإفك، ثم ذكر أن رامى المحصنات الغافلات مطرود من رحمة الله- أردف ذلك دليلا ينفى الريبة عن عائشة بأجلى وضوح- ذاك أن السنة الجارية بين الخلق مبنية على مشاكلة الأخلاق والصفات بين الزوجين، فالطيبات للطيبين، والخبيثات للخبيثين، ورسول الله من أطيب الطيبين، فيجب كون الصّدّيقة من أطيب الطيبات على مقتضى المنطق السليم، والعادة الشائعة بين الخلق. الإيضاح (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال لا يتجاوزنهم إلى غيرهم

[سورة النور (24) : الآيات 27 إلى 29]

(وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، لأن المجالسة من دواعى الألفة ودوام العشرة. (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) أي والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، لما قد عرفت من الأنس بمن يحاكيك فى الصفات، ويجانسك فى الفضل والكمال. (وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي والطيبون أيضا للطيبات منهن لا يتجاوزونهن إلى من عداهن. وإذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، استبان أن الصديقة رضى الله عنها من أطيب الطيبات واستبان بطلان ما أشاعه المرجفون من أهل الإفك. (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي أولئك الطيبون والطيبات ومنهم صفوان وعائشة مبرءون مما يقول الخبيثون والخبيثات من النساء. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة عن ذنوبهم التي اقترفوها من قبل، ورزق كريم عند ربهم فى جنات النعيم. [تنبيه] هذه الآية الكريمة تشرح الغرائز والطباع، وتبين أن الإنسان بل هذا الوجود لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة، فالكرة الأرضية متجاذبة الأجزاء وكرة الهواء مطيعة لمجموعها، لما بينها من تناسب وتشابه فى الصفات، وهكذا أخلاق الناس وصفاتهم إذا تشابهت اتفقوا، وهم يكونون يوم القيامة كذلك، لا يجتمعون إلا حيث يتفقون. [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)

تفسير المفردات

تفسير المفردات حتى تستأنسوا: أي حتى تستأذنوا، إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت، وبدونه يستوحشون ويشق عليهم الدخول، تذكرون: أي تتعظون، أزكى: أي أطهر، جناح: أي حرج، متاع: أي حق تمتع ومنفعة كإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع، كحوانيت التجارة والفنادق والحمامات ونحوها. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات الأجنبيات وحكم قذف الزوجات، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك وبسط ذلك غاية البسط، وكان مما يسهل السبيل إلى التّهمة فى كل هذا وجود الخلوة بين رجل وامرأة- أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يوجد بحال تورث التّهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة، إلى أن الإنسان قد يكون فى بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها. روى عدى بن ثابت عن رجل من الأنصار «أن امرأة قالت يا رسول الله: إنى أكون فى بيتي على الحال التي لا أحب أن يرانى عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتينى آت فيدخل علىّ فكيف أصنع؟ فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية» . الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) أدب الله عباده المؤمنين بآداب نافعة فى بقاء الود وحسن العشرة بينهم، ومن ذلك

ألا يدخلوا بيوت غيرهم إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يطلعوا على عورات سواهم، ولا ينظروا إلى ما لا يحل لهم النظر إليه، ولا يقفوا على الأحوال التي يطويها الناس فى العادة، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها إلى أن فى هذا تصرفا فى ملك غيرك فلابد أن يكون برضاه. وينبغى أن يكون الاستئذان ثلاث مرات، فإن أذن له دخل وإلا انصرف، فقد ثبت فى الصحيح أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس (يعنى أبا موسى) يستأذن؟ ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال ما أرجعك؟ قال إنى استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لى، وإنى سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف» . (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي الاستئذان والتسليم والانتظار حتى يؤذن لكم خير من الدخول بغتة أو من الدخول على عادة الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول حيّيتم صباحا، حيّيتم مساء، ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته فى لحاف واحد. وقد أرشدكم ربكم إلى ذلك كى تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به. (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي فإن لم تجدوا فيها أحدا ممن يملك الإذن، بأن كان فيها عبد أو صبى فلا تدخلوها حتى يأذن لكم من يملكه وهو رب الدار. وقد استثنى من ذلك ما إذا دعت الضرورة إلى الدخول فورا كإطفاء حريق أو منع حدوث جناية أو نحو ذلك. (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي وإن قال لكم أهل البيت تستأذنون فيه ارجعوا فارجعوا، فإن الرجوع أطهر لكم فى دينكم ودنياكم، لأن رب الدار قد يستوحش ويتأذى بوقوف غيره على بابه بعد منع الاستئذان،

[سورة النور (24) : الآيات 30 إلى 31]

ولما فى ذلك من الدناءة والتسكع على بيوت الناس، وربما ظن بأهل البيت سوء من وقوف الأجانب على أبوابهم. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي والله عليم بكل مقاصدكم ونواياكم من دخول البيوت ومجازيكم على ذلك. ولما بين حكم البيوت المسكونة بين حكم البيوت غير المسكونة فقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي ليس عليكم أيها المؤمنون إثم ولا حرج أن تدخلوا بيوتا غير معدّة لسكنى قوم معينين، بل معدة ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان كالفنادق والحوانيت والحمامات ونحوها مما فيه حق التمتع لكم كالمبيت فيها وإيواء الأمتعة والبيع والشراء والاغتسال ونحو ذلك، لأن السبب الذي لأجله منع دخول البيت وهو الاطلاع على عورات الناس والوقوف على أسرارهم- غير موجود فيها. روى أن أبا بكر قال «يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية فى الاستئذان، وإنا لنختلف فى تجارتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت الآية» . (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي والله عليم بما تظهرون بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة، وما تضمرون من حب الاطلاع على عورات الناس أو من قصد ريبة أو فساد. وفى هذا من الوعيد الشديد ما لا يخفى. [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

تفسير المفردات

تفسير المفردات غض بصره: خفّض منه، والخمر: واحدها خمار وهو ما تغطى به المرأة رأسها (طرحة) والجيوب واحدها جيب: وهو فتحة فى أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد، والبعولة: الأزواج واحدهم بعل، والإربة: الحاجة إلى النساء، والطفل: يطلق على الواحد والجمع، لم يظهروا: أي لم يعلموا عورات النساء لصغرهم. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه عن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها منعا للقيل والقال والاطلاع على عورات الناس وأسرارهم- أمر رسوله أن يرشد المؤمنين إلى غض البصر عن المحارم لمثل السبب المتقدم، إذ ربما كان ذلك ذريعة إلى وقوع المفاسد وانتهاك الحرمات التي نهى الدين عنها. الإيضاح (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي قل أيها الرسول للمؤمنين كفّوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، ولا تنظروا إلا ما يباح لكم النظر إليه، فإن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرفوا أبصارهم عنه سريعا لما رواه مسلم عن عبد الله البجلىّ قال:

«سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجاءة فأمرنى أن أصرف بصرى» ، وروى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلى: «يا علىّ لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» ، وفى الصحيح عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال صلّى الله عليه وسلم: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال غضّ البصر، وكفّ الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» . والحكمة فى ذلك: أن فى غض البصر سدا لباب الشر، ومنعا لارتكاب المآثم والذنوب، ولله در أحمد شوقى حيث يقول: نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) بمنعها من عمل الفاحشة، أو بحفظها من أن أحدا ينظر إليها، وقد جاء فى الحديث: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» . (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي ما ذكر من غض البصر وحفظ الفرج أطهر من دنس الريبة وأنفع دينا ودنيا فقد قالوا: النظر بريد الزنا ورائد الفجور، ولله در شاعرهم: كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فعلت فى قلب فاعلها ... فعل السهام بلا قوس ولا وتر والمرء مادام ذا عين يقلّبها ... فى أعين العين موقوف على الخطر بسر ناظره ما ضر خاطره ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) فلا يخفى عليه شىء مما يصدر منهم من الأفعال كإجالة النظر واستعمال سائر الحواس، وماذا يراد بذلك، فلتكونوا على حذر منه تعالى فى كل ما تأتون وما تذرون.

وبعد أن أمر رسوله بأمر المؤمنين بغضّ أبصارهم أمره بأن يأمر المؤمنات بذلك. (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء (ما بين السرة والركبة) وإذا نظرن إلى ما عدا ذلك بشهوة حرم، وبدونها لا يحرم، ولكن غض البصر عن الأجانب أولى بهن وأجمل لما روى أبو داود والترمذي عن أم سلمة «أنها كانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أوعمياوان أنتما؟ أولستما تبصرانه؟» . (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) عما لا يحل لهن من الزنا والسّحاق ويسترنها حتى لا يراها أحد. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي ولا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه مما جرت العادة بظهوره كالخاتم والكحل والخضاب، فلا يؤاخذن إلا فى إبداء ما خفى منها كالسوار والخلخال والدّملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، لأن هذه الزينة واقعة فى مواضع من الجسد (وهى الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن) لا يحل النظر إليها إلا لمن استثنى فى الآية بعد. ولما نهى عن إبداء الزينة أرشد إلى إخفاء بعض مواضعها فقال: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) أي وليلقين خمرهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن حتى لا يرى منها شىء، وكان النساء يغطين رءوسهن بالخمر ويسدلها من وراء الظهر فتبدو نحورهن وبعض صدورهن كعادة الجاهلية فنهين عن ذلك، قالت عائشة: رحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها.

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) أي قل للمؤمنات لا يظهرن هذه الزينة الخفيّة إلا لأزواجهن، فإنهم المقصودون بها والمأمورات نساؤهم بصنعها لهم، حتى إن لهم ضربهن على تركها، ولهم النظر إلى جميع بدنهن، أو لآباء النساء أو لآباء الأزواج أو لأبنائهن أو لأبناء أزواجهن أو لاخواتهن أو لأبناء الإخوة أو لأبناء الأخوات، لكثرة المخالطة بينهم وبينهن، وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولأن الطباع السليمة تأبى أن تفتتن بالقريبات، إلى أنهن محتاجات إلى صحبتهم فى الأسفار للركوب والنزول. (أو نسائهن) أي المختصات بهن بالصحبة والخدمة. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من الجواري، أما العبيد فقد اختلفوا فيهم، فقال قوم عبد المرأة محرم لها فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا، وله أن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم، وروى ذلك عن عائشة وأم سلمة، وقد روى أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها، وقال قوم هو كالأجنبى معها وهو رأى ابن مسعود والحسن وابن سيرين، ومن ثم قالوا لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، وسئل طاوس هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا، فأما رجل ذو لحية فلا. (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) وهم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا غرض لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم إلى النساء، إما لأنهم طعنوا فى السن ففنيت شهواتهم، وإما لكونهم ممسوحين قطعت منهم أعضاء التناسل. (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي أو الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والقدرة على ملامسة النساء. ثم نهى عن إظهار وسوسة الحلي بعد النهى عن إبداء مواضعه فقال: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي ولا يضربن بأرجلهن.

[سورة النور (24) : الآيات 32 إلى 34]

الأرض لتقعقع خلاخلهن، فإن ذلك مما يهيج الرجال ويورث ميلا إليهن، وللنساء أفانين فى هذا، فقد يجعلن الخرز ونحوه فى جوف الخلخال، فإذا مشين ولو هونا كان له رنين وصوت خاص، ومن الناس من تهيجه وسوسة الحلي أكثر مما تهيجه رؤيته (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج وترك دخول بيوت غيركم بلا استئذان ولا تسليم، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة. أخرج أحمد والبخاري والبيهقي فى شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: أيها الناس توبوا إلى الله، فإنى أتوب إليه كل يوم مائة مرة» . ومن شرط التوبة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إليه، ورد الحقوق إلى أهلها، لا كما يظن الناس الآن أنها كلمة تلاك باللسان دون أن يكون لها أثر فى القلب، ولا عزم على عدم العود، حتى إن كثيرا ممن يزعمون أنهم تابوا من الذنب يحكون ما فعلوه من الآثام على وجه الفخر والاستلذاذ بذكره، وهذا دليل على أنهم كاذبون فى توبتهم مراءون فى أفعالهم. [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأيامى: واحدهم أيم وهو كما قال النضر بن شميل كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها بكرا كانت أو ثيبا، ويقال آمت المرأة وآم الرجل إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين، وكثر استعماله فى الرجل إذا ماتت امرأته وفى المرأة إذا مات زوجها، والصالحين: أي الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه، والإماء: واحدهن أمة وهى الرقيقة غير الحرة، واسع: أي غنىّ، وليستعفف: أي وليجتهد فى العفة، لا يجدون: أي لا يتمكّنون من وسائله وهى المال والكتاب والمكاتبة: كالعتاب والمعاتبة يراد بها شرعا إعتاق المملوك بعد أداء شىء من المال منجّما أي فى موعدين أو أكثر فيقول له كاتبتك على كذا درهما ويقبل المملوك ذلك، فإذا أدّاه عتق وصار أحق بمكاسبه، كما صار أحق بنفسه، والفتيات: واحدهن فتاة، ويراد بالفتى والفتاة لغة العبد والأمة، والبغاء: الزنا والتحصن: العفة، لتبتغوا: أي لتطلبوا، عرض الحياة الدنيا: أي الكسب وبيع الأولاد، مبينات: أي مفصّلات ما أنتم فى حاجة إلى بيانه من الأحكام والآداب، مثلا: أي فصة عجيبة من قصص الماضين كقصة يوسف ومريم. المعنى الجملي لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج ونحوهما مما يفضى إلى السفاح أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامى، لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع، وحفظ الأنساب الذي يستدعى مزيد الشفقة على الأولاد وحسن تربيتهم ودوام الألفة بينهم، ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه، ثم رغّب فى مكاتبة الأرقاء، ليصيروا أحرارا فى أنفسهم

الإيضاح

وفى أموالهم يتزوجون كما يشاءون، وبعدئذ أردف ذلك النهى عن إكراه الإماء على الفجور إن أردن العفة، ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا. ثم ختم هذا ببيان أنه أنزل عليكم فى هذه السورة وفى غيرها آيات مبينات لكل ما أنتم فى حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة، وعقوبات رادعة، وقصص عجيبة عن الماضين، وأمثال مضروبة، لتكون عبرة وذكرى لكم. الإيضاح (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) أي زوّجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر: أي من الرجال والنساء، والمراد بذلك، مدّيد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك، كإمدادهم بالمال، وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة. (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي والقادرين والقادرات على النكاح والقيام بحقوق الزوجية من الصحة والمال ونحو ذلك. والخلاصة- إن فى الآية أمرا للأولياء بتزويج من لهم عليهم حق الولاية، وللسادة بتزويج العبيد والإماء، والجمهور قد حملوا الأمر على الاستحسان لا على الوجوب، لأنه قد كان فى عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وفى سائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك أحد عليهم، والظاهر أن الأمر يكون للوجوب إذا خيفت الفتنة وغلب على الظن حصول السفاح من الرجل أو المرأة. ثم رغّب فى الزواج بالفقير والفقيرة وألا يكون عدم وجدان المال حائلا عن إتمامه فقال: (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون زواجها، ففى فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح. وكم يسر أتى من بعد عسر ... وفرّج كربة القلب الشجىّ (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي والله ذو سعة وغنى، فلا انتهاء لفضله ولا حد لقدرته،

فهو يسع هذين الزوجين وغيرهما، وهو عليم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. قال ابن عباس: أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغّبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم ووعدهم فى ذلك الغنى. وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي فى سبيل الله» . وبعد أن بين حال القادرين على النكاح ووسائله، بين حال العاجزين عن تلك الوسائل فقال: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وليجتهد فى العفّة وصون النفس من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله حتى يصل إلى بغيته من النكاح، وقد جاء فى الحديث الصحيح: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» الباءة مؤن النكاح من مهر ونفقة وكسوة، والوجاء نوع من الخصاء يكون برضّ عروق الأنثيين مع بقاء الخصيتين كما هما، فشبه الصوم فى قطعه شهوة النساء به. (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم أن يكاتبوهم على أداء مال معين نجوما ليصيروا بعد أدائها أحرارا، ويكونون قادرين على الكسب وأداء ما كوتبوا عليه مع الأمانة والصدق- فكاتبوهم ويكونون بعد انتهاء الأجل وأداء ما أوجبوه على أنفسهم أحرارا فى رقابهم وفى كسبهم. ثم حث المؤمنين جميعا على تحرير الرقاب فقال: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي وآتوا أيها السادة المكاتبين شيئا من مال الله الذي أعطاكم وليس لكم فيه فضل، فإن الله ربكم ورب عبيدكم، وأموالكم

ملكه، وأعطوا أيها الحكام المكاتبين سهومهم التي جعلها الله لهم فى بيت المال فى مصارف الزكاة بقوله (وَفِي الرِّقابِ) أي وفى تحرير الأرقاء. وفى هذا حث لجميع المؤمنين على عتق الرقاب، روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد فى سبيل الله» . ثم نهى المؤمنين عن السعى فى جمع المال بسبل الحرام فقال: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ولا تكرهوا إماءكم على الزنا إن كنّ يردن التعفف والتحصن، التماسا لعرض الدنيا من مال وزينة ورياش. وفى قوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) زيادة فى تقبيح حالهم وتشنيع عليهم، فإن ذا المروءة لا يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه، فضلا عن أمرهن بذلك وإكراههن عليه، ولا سيما عند إرادة التعفف وتوافر الرغبة فيه. والخلاصة- لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراه الإماء على البغاء، طلبا لمتاع سريع الزوال، وشيك الفناء والاضمحلال. أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضى الله عنه أن جارية لعبد الله بن أبىّ ابن سلول يقال لها (مسيكة) وأخرى يقال لها (أميمة) كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية. وأخرج ابن مردويه عن على كرم الله وجهه أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ليأخذوا أجورهن، فنهوا عن ذلك فى الإسلام ونزلت الآية. ثم أبان أنهن إن أكرهن فالوزر على من أكرههن لا عليهن فقال: (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ومن يكرههن على البغاء فإن الله غفور رحيم لهن من بعد إكراههن والذنب على المكره لهن، وكان الحسن إذا قرأ الآية قال: لهن والله، لهن والله.

[سورة النور (24) : آية 35]

وبعد أن فصّل هذه الأحكام وبيّنها امتنّ على عباده بذلك فقال: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي ولقد أنزلنا آيات القرآن مبينات لما أنتم فى حاجة إليه من الأحكام والآداب، كما أنزلنا قصصا من أخبار الأمم السالفة كقصة يوسف وقصة مريم وفيها شبه بقصص عائشة، وفيها عظة لمن اتقى الله وخاف عقابه وخشى عذابه. وأثر عن على كرم الله وجهه فى وصف القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله. [سورة النور (24) : آية 35] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) تفسير المفردات نور: أي ذو نور أي هو هاد أهل السموات والأرض، والمراد العالم كله، والمشكاة: لفظ حبشى معرّب يراد به الكوّة غير النافذة، الزجاجة: القنديل من الزجاج، والدرىّ: المضيء المتلألئ منسوب إلى الدر، لا شرقية ولا غربية: أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شىء من الشروق إلى الغروب، يضرب الله الأمثال: أي يبين للناس الأشباه والأمثال.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه أنزل فى هذه السورة آيات مبينات لكل ما يحتاج إليه الناس فى صلاح أحوالهم فى معاشهم ومعادهم من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق- بين أنه نور السموات والأرض بما بث فيهما من الآيات الكونية والآيات التي أنزلها على رسله دالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته من قدرة وعلم إلى نحو أولئك، هادية إلى صلاح أمورهم فى الدنيا والآخرة. الإيضاح (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الله هاد أهل السموات والأرض بما نصب من الأدلة فى الأكوان، وبما أنزل على رسله من الآيات البينات، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلال ينجون. (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) أي مثل أدلته التي بثها فى الآفاق وهدى بها من شاء من عباده كنور مشكاة فيها سراج ضخم ثاقب له الصفات الآتية. (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي وذلك المصباح فى قنديل من الزجاج الصافي الأزهر. (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي الزجاجة كأنها كوكب ضخم مضىء من درارى النجوم وعظامها كالزّهرة والمشترى. (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي رويت ذبالته (فتيلته) بزيت شجرة زيتونة كثيرة المنافع، زرعت على جبل عال أو صحراء واسعة، فهى ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها حاجب من حين طلوعها إلى حين غروبها، فزيتها أشد ما يكون صفاء. فقوله: (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي لا شرقية فحسب، ولا غربية فحسب، بل هى شرقية غربية تصيبها الشمس من حين طلوعها إلى حين غروبها كما يقال فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يسافر أحيانا ويقيم أخرى.

(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي هو لصفائه وبريقه ولمعانه كأنه يضىء بنفسه دون أن تمسه النار، لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا ثم رئى من بعد يرى كأن له شعاعا، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء- كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد نورا على نور وهدى على هدى. قال يحيى بن سلام: قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبيّن له، لموافقته إياه، وهو المراد من قوله صلّى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» . (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي هو نور مترادف متضاعف، قد تناصرت فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم يبق بقية مما يقوّى النور ويزيده إشراقا ويمدّه بإضاءة. ذاك أن المصباح إذا كان فى مكان ضيق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينبعث فيه وينتشر، والقنديل أعون شىء على زيادة الإنارة، وكذلك الزيت وصفؤه. (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يوفّق الله من يشاء من عباده لإصابة الحق بالنظر والتدبر وتوجيه الفكر لسلوك طريق الجادّة الموصلة إليه، ومن لم يتدبر فهو كالأعمى سواء لديه جنح الليل الدّامس، وضحوة النهار الشامس. وعن على رضى الله عنه: «الله نور السماوات والأرض، ونشر فيهما الحق وبثه، فأضاء بنوره» . (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أي ويسوق الله الأمثال للناس فى تضاعيف هدايتهم بحسب ما تدعو إليه حالهم، لما فيها من الفوائد فى النصح والإرشاد، إذ بها تتفتّق الأذهان للوصول إلى الحق، وبها تأنس النفس بتصويرها المعاني بصور المحسوسات التي تألفها وتدين بها، ولأمر ما كثرت فى القرآن الكريم، فقلّما ساق حجاجا أو أقام دليلا إلا أردفه بالمثل، ليكون أدعى إلى الإقناع، وأرحى للاقتناع. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعطى هدايته من يستحقها ممن صفت نفوسهم،

[سورة النور (24) : الآيات 36 إلى 38]

واستعدّوا لتلقى أحكام الدين وآدابه وكذلك يجعل وسائلها على ضروب شتى بحسب اختلاف أحوال عباده، لتقوم له الحجة عليهم. وفى هذا وعد وبشارة لمن تدبر الأمثال ووعاها، ووعيد وإنذار لمن لم يتفكر فيها ولم يكترث بها، فإنه لا يصل إلى الحق ولا يهتدى لطريقه. وخلاصة ذلك ما قاله ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه فى قلب المؤمن، فكما يكاد الزيت الصافي يضىء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته ازداد ضوءا على ضوء- يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد هدى على هدى ونورا على نور. [سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) تفسير المفردات المراد بالبيوت: المساجد، وأذن: أمر، أن ترفع: أي أن تعظم وتطهّر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال، يسبح: أي ينزّه ويقدّس، الغدو والغداة: أول النهار، والآصال: واحدها أصيل وهو العشى: أي آخر النهار، تلهيهم: أي تشغلهم وتصرفهم، تجارة: أي نوع من هذه الصناعة، ولا بيع: أي فرد من أفراد البياعات وخصه بالذكر لأنه أدخل فى الإلهاء، وإقام الصلاة: أي إقامتها لمواقيتها، وإيتاء الزكاة:

المعنى الجملي

أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين، واليوم: هو يوم القيامة، وتتقلّب فيه القلوب والأبصار: أي تضطرب وتتغير من الهول والفزع. المعنى الجملي بعد أن ذكر- جلّت آلاؤه- نوره لعباده وهدايته إياهم على أتم الوجوه- بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية. الإيضاح (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أي كمشكاة فى بيوت أمر الله بتطهيرها من الأنجاس الحسية والمعنوية، كاللغو ورفث الحديث وأمر بذكره فيها وإخلاص العبادة له. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «المساجد بيوت الله فى الأرض، تضىء لأهل السماء كما تضىء النجوم لأهل الأرض» . وعن عمرو بن ميمون قال: «أدركت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها» . (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي ينزه الله ويقدسه فى أول النهار وآخره، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم وتجاراتهم عن ذكر ربهم وهو خالقهم ورازقهم، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، فما عندهم ينفد، وما عند الله باق، ويؤدون الصلاة فى مواقيتها على الوجه الذي رسمه الدين، ويؤتون الزكاة المفروضة عليهم تطهيرا لأنفسهم من الأرجاس. ونحو الآية قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» الآية. وقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» .

ثم ذكر السبب فى شغل أنفسهم بالعبادة فقال: (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي إنهم يخافون عقاب يوم تضطرب فيه الأفئدة من الهول والفزع، وتشخص فيه القلوب والأبصار من الهلع والحيرة والرعب والخوف ونحو الآية قوله: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» وقوله: «إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ» . ثم بين مآل أمرهم وحسن عاقبتهم فقال: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي يفعلون هذه القربات من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة مع الخوف من عذاب يوم القيامة- ليثيبهم الله على حسناتهم التي فعلوها، فرضها ونفلها، واجبها ومستحبها. ونحو الآية قوله: «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً، فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» . وفى قوله (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) إيماء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم. (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يجزيهم بأحسن الأعمال، ويضاعف لهم ما يشاء كما قال: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» وقال: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» وقال صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن ربه: «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» . ثم نبه إلى كمال قدرته وعظيم جوده وسعة إحسانه فقال: (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفى به الحساب، فهم لما اجتهدوا فى الطاعة، وخافوا ربهم أشد الخوف- جازاهم بالثواب العظيم على طاعتهم وزادهم الفضل الذي لا غاية له، لخوفهم من قهره وشديد عذابه.

[سورة النور (24) : الآيات 39 إلى 40]

[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) تفسير المفردات السراب: ما يرى فى الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب ويحرى على وجه الأرض كأنه ماء، والقيعة والقاع: المنبسط من الأرض، والظمآن: شديد العطش، لجى: أي ذى لج (بالضم) واللجّ معظم الماء، والمراد بحر عميق الماء كثيره، يغشاه: أي يغطيه، لم يكد يراها: أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها. المعنى الجملي بعد أن بين عز اسمه أحوال المؤمنين وأنهم فى الدنيا يكونون فى نور الله، وبه يستمسكون بالعمل الصالح، وفى الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم- أردف ذلك بيان حال أضدادهم وهم الكفار، فذكر أنهم يكونون فى الآخرة فى أشد الخسران والبوار، وفى الدنيا فى ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وضرب لكلتا الحالين مثلا يوضحها أتم الإيضاح والبيان. الإيضاح (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) شبه الأعمال الصالحة التي يعملها من جحدوا توحيد الله وكذبوا بهذا القرآن

وبمن جاء به ويظنون أنها تنفعهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب فى العاقبة آمالهم ويلقون خلاف ما قدّروا- بالسراب يراه من اشتد به العطش فيحسبه ماء فيطلبه ويظن أنه قد حصل على ما يبغى، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا- هكذا حال الكافرين يحسبون أعمالهم نافعة منجيّة لهم من بأس الله، حتى إذا جاءهم العذاب يوم القيامة لم تنفعهم ولم تغنهم من عقابه إلا كما ينتفع بالسراب من اشتد ظمؤه، واحتاج إلى ما به يروى غلّته. ثم بين شديد عقابه بقوله: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي ووجد عقاب الله الذي توعد به الكافرين أمامه، وتحوّل ما كان يظنه نفعا عظيما إلى ضرر محقق وتجيئه الزبانية تعتله وتسوقه إلى جهنم وتسقيه الحمم والغساق. ونحو الآية قوله: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» . (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله حساب عبد عن حساب آخر. وخلاصة ما سلف- إن الخيبة والخسران فى الآخرة لمن عملوا صالح الأعمال فى الدنيا كصلة الأرحام، وإغاثة الملهوفين، وقرى الأضياف ونحو ذلك. وظنوا أنها تنجيهم من عذاب ربهم، وهم مع ذلك جاحدو ووحدانيته مكذبون لرسله، فما مثلهم إلا مثل من اشتد أوامه ورأى السراب فخاله ماء وظن أنه قد وجد ضالته فسعى إليه، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ورجع يخفّى حنين. هذه حالهم فى الآخرة، أما حالهم فى الدنيا فكما قال: (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي ومثل أعمالهم التي عملت على غير هدى مثل ظلمات مترادفة فى بحر عميق ماؤه، بعيد غوره، يغطّيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب- فالظلمات هى أعمال الكافرين، والبحر اللجىّ قلوبهم التي غمرها الجهل، وتغشبتها الحيرة والضلالة، فلا تعقل ما فى السكون من

[سورة النور (24) : الآيات 41 إلى 42]

آيات، ولا تسمع عظة الناصحين، ولا تبصر حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض. قال الحسن: الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وقال ابن عباس: هى ظلمة قلبه وبصره وسمعه. والخلاصة- إن الكافر لشدة إصراره على كفره تراكمت عليه الضلالات، حتى إن أظهر الدلالات إذا ذكرت عنده لا يفهمها، فقلبه مظلم فى صدر مظلم فى جسد مظلم. (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) أي ما تقدم ذكره ظلمات متراكمة، فإن البحر يكون مظلم القعر جدا بسبب غور الماء، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة، فإذا كان فوق الماء سحاب يغطّى النجوم ويحجب أنوارها بلغت الظلمة حدا عظيما. (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي إذا أخرج الناظر يده، وهى أقرب ما يرى إليه، لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) أي ومن لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة فما له هداية من أحد. ونحو الآية قوله: «وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» وقوله: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» . وخلاصة ذلك- من لم يوله الله نور توفيقه ولطفه فهو فى ظلمة الباطل لا نور له. [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 42] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يسبح: أي ينزه ويقدس، صافات: أي باسطات أجنحتها فى الهواء، المصير: المرجع. المعنى الجملي لما وصف سبحانه قلوب المؤمنين بالنور والهداية وقلوب الكافرين بالظلمة- أردف ذلك ذكر دلائل التوحيد وساق منها أربعة. الإيضاح (1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي ألم تعلم بالدليل أن الله ينزهه آنا فآنا فى ذاته وصفاته وأفعاله جميع ما فى السموات والأرض من العقلاء وغيرهم، تنزيها تفهمه أرباب العقول السليمة، إذ كل المخلوقات فى وجودها وبقائها دالة على وجود خالق لها متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص. وخص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه بجميع أوصاف الكمال، من جرّاء أن سياق الكلام لتقبيح شأن الكفار الذين أخلّوا بالتنزيه، فجعلوا الجمادات شركاء له سبحانه، ونسبوا له اتخاذ الولد إلى نحو أولئك، تعالى ربنا عما يقول الكافرون علوّا كبيرا. كما ذكر الطير مع دخولها فى جملة ما فى الأرض، من قبل أنها غير مستقرة فيها، ولاستقلالها ببديع الصنع وإنبائها عن كمال قدرة خالقها ولطف تدبير مبدعها، فإن منح تلك الأجرام الثقيلة الوسائل التي تتمكن بها من الوقوف فى الجو وتتحرك كيف تشاء، وإرشادها إلى طريق استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينا وشمالا- حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد، وحكمة المبدع المعيد.

[سورة النور (24) : الآيات 43 إلى 44]

(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي كل مصلّ منهم ومسبّح قد علم الله صلاته وتسبيحه، لا يخفى عليه شىء من أفعالهم طاعتها ومعصيتها، وعلمه محيط بها ومجازيهم عليها. وقد يكون المعنى- إن كل مصلّ ومسبح يعلم ما يجب عليه من الصلاة والتسبيح اللذين كلف بهما، وليس بالبعيد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. انظر إلى النحل كيف تبنى بيوتها السداسية الأشكال التي لا يتمكن من بنائها فطاحل المهندسين إلا بدقيق الآلات، وإلى العنكبوت كيف تفعل الحيل اللطيفة لاصطياد الذباب، وإلى الدبّ يستلقى فى ممر الثور، حتى إذا قرب منه ورام نطحه شبث ذراعيه بقرنيه ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ثم يفترسه. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي إن لله تعالى ملك السموات والأرض وهو الحاكم المتصرف فيهما إيجادا وإعداما بدءا وإعادة، وإليه وحده مصيركم ومعادكم، فيوفيكم أجور أعمالكم التي عملتموها فى الدنيا، فأحسنوا عبادته، واجتهدوا فى طاعته، وقدموا لأنفسكم صالح الأعمال. [سورة النور (24) : الآيات 43 الى 44] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)

تفسير المفردات

تفسير المفردات زجى: يسوق برفق وسهولة، يؤلف: أي يجمع بين أجزائه وقطعه، ركاما: أي متراكما بعضه فوق بعض، الودق: المطر، من خلاله: أي من فتوقه التي حدثت بالتراكم، واحدها خلل كجبال وجبل، من جبال: أي من قطع عظام تشبه الجبال، والسنا: الضوء، يذهب بالأبصار: أي يخطفها لشدة ضوئه وسرعة وروده، وهو كقوله فى البقرة «يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» يقلب الله الليل والنهار: أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا فى قصر ذاك حتى يعتدلا ويغير أحوالهما بالحر والبرد، لأولى الأبصار: أي لأهل العقول والبصائر. الإيضاح (3) هاتان الآيتان دليلان آخران على وحدانية الله وقدرته. وخلاصتهما- انظر أيها الرسول الكريم إلى السحاب، ويسوقه الله بقدرته أول ما ينشئه، ثم يجمع بين ما تفرق من أجزائه ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، فينزل المطر من فتوقه، وحينا ينزل منه قطعا كبيرة من البرد كأنها الجبال، فيصيب بما ينزل منه من يشاء من عباده، فيناله الخير والنفع العميم أو الضرر الشديد إذا كان فوق الحاجة، ويصرفه عمن يشاء أن يصرفه، وإلى ما فى هذا السحاب من برق يضىء بشدة وسرعة حتى ليكاد يخطف الأبصار، وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة، إذ فيه توليد الضد من الضد، ففيه توليد النار من الماء. وانظر أيضا إلى اختلاف الليل والنهار وتقلبهما بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وإلى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، إن فى هذا لعبرة لمن اعتبر، وعظة لمن تأمل فيه ممن له عقل، فهو واضح الدلالة على أن له مدبرا ومقلّبا لا يشبهه شىء. عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: يؤذينى

[سورة النور (24) : آية 45]

ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار» أخرجه البخاري ومسلم. [سورة النور (24) : آية 45] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) الإيضاح (4) هذا هو رابع الأدلة على التوحيد، فقد استدل بأحوال السماء والأرض، وبالآثار العلوية، وهنا استدل بأحوال الحيوان فقال: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) أي والله خلق كل حيوان يدبّ على الأرض من ماء هو جزء مادته. وخص الماء بالذكر من بين ما يتركب منه من المواد، لظهور احتياج الحيوان إليه، ولا سيما بعد كمال تركيبه، ولامتزاج الأجزاء الترابية به. ثم فصل أقسام الحيوان مما يدب على وجه الأرض فقال: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات والسمك وغيرهما من الزواحف، وسمى حركتها مشيا مع كونها تزحف زحفا، إشارة إلى كمال القدرة، وأنها مع عدم وجود آلة المشي كأنها تمشى. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام والوحوش. ولم يذكر سبحانه ما يمشى على أكثر من ذلك كالعناكب وغيرها من الحشرات، لدخوله فى قوله: (يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ) مما ذكر ومما لم يذكر، مع الاختلاف فى الصور والأعضاء، والحركات والطبائع، والقوى والأفاعيل.

[سورة النور (24) : آية 46]

(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء- لذو قدرة فلا يتعذر عليه شىء أراده. وعلى الجملة فاختلاف هذه الحيوانات فى الأعضاء والقوى، ومقادير الأبدان والأعمال والأخلاق- لا بد أن يكون بتدبير مدبّر حكيم، مطلع على أحوالها وأسرار خلقها، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، تعالى الله عما يقول الجاحدون علوا كبيرا [سورة النور (24) : آية 46] لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) المعنى الجملي بعد أن ساق سبحانه ما يدل على وجوده من أحوال السماء والأرض والآثار العلوية وأحوال الحيوان- ذكر هنا أن هذه وغيرها آيات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون لا خفاء فيها. الإيضاح (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي لقد أنزلنا عليك دلائل واضحات على طريق الحق والرشاد، لكن لا يصل إلى فهمها إلا من أوتى بصيرة نيرة، وفطرة سليمة، تضىء له الفكر حتى يسير على نهج الحق ويبتعد عن الغى والضلال، ومن ثم قال: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي والله يرشد من يشاء إلى الطريق الذي لا عوج فيه، وهو إخلاص العبادة له وحده والإنابة إليه. [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 54] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يتولى: أي يعرض، مذعنين: أي منقادين، مرض: أي فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال، ارتابوا: أي شكّوا فى نبوّتك، يحيف: أي يجور، الظالمون: أي الذين يريدون ظلم الناس وجحد حقوقهم، ويخشى الله: أي فيما صدر منه من الذنوب فى الماضي، ويتقه: أي فيما بقي من عمره، جهد أيمانهم: أي أقصى غايتها من قولهم: جهد نفسه إذا بلغ أفصى وسعها وطاقتها، تولوا: أي تتولوا (بحذف إحدى التاءين) . المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتمّ بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون

الإيضاح

الذين يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم، فيقولون: آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون صد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان إذا ما دعى إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بيّن بعض أكاذيبهم التي يراءون بها ويدّعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول فى كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبّوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والإيمان لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم: أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علىّ التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتمونى اهتديتم، وإن توليتم فقد فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء. قال مقاتل: نزلت هذه الآية فى بشر المنافق دعاه يهودى فى خصومة بينهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم لليهودى فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال نتحاكم إلى عمر رضى الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي: قضى لى النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال بلى، فقال مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضى الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم. الإيضاح (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي ويقول هؤلاء المنافقون: صدّقنا بالله وبالرسول وأطعنا الرسول، ثم يخالفون ذلك فيعرضون عن طاعة الله ورسوله ضلالا منهم عن الحق، وما أولئك بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان، بل هم ممن فى قلوبهم مرض، وقد مرنوا على النفاق، يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.

وخلاصة ذلك- لا يدخل فى زمرة المؤمنين من يقول آمنا بالله والرسول وأطعنا، ثم يعرض عما تقتضيه الطاعة وينحاز إلى غير المؤمنين. ثم بين هذا التولّى بقوله: (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي وإذا دعى هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله- أعرضوا عن قبول الحق واستكبروا عن اتباع حكمه، لأنه لا يحكم إلا بالحق. ونحو الآية قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» . (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا إلى الرسول مطيعين، لعلهم بأنه يحكم لهم، لأنه لا يحكم إلا بالحق، فإذعانهم لم يكن عن اعتقاد أن حكمه الحق، بل لأنه وافق هواهم، ومن جرّاء هذا لما خالف الحقّ قصدهم عدلوا عنه إلى غيره. ثم فصل ما يحتمل أن يكون السبب فى عدولهم عن قبول حكمه صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟) أي أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلّى الله عليه وسلّم أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق؟ أم سببه أنهم ارتابوا وشكّوا فى نبوته عليه السلام على ظهور أمرها؟ أم سببه أنهم يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم فى الحكم؟ وخلاصة ذلك- لا يخرج أمرهم عن أن يكون فى القلوب مرض لازم بالكفر والنفاق، أو عروض شك فى الدين، أو خوف من أن يجور الله ورسوله عليهم، وأيا كان الأمر فهو كفر وضلال، والله عليم بما انطوت عليه قلوبهم من المرض.

ثم أبطل السببين الأولين وأثبت الثالث فقال: (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ليس العدول إلا للسبب الأول فحسب، فهم ما عدلوا إلا لما فى قلوبهم من المرض والنفاق، وظلمهم لأنفسهم بمخالفة أمر ربهم ومعصيتهم له فيما أمرهم به من الرضا بحكم رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أحبّوا وكرهوا، والتسليم لقضائه. وبعد أن نفى عنهم الإيمان الحق بين صفات المؤمن الكامل فقال: (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ينبغى أن يكون قول المؤمنين إذا دعاهم الداعون إلى حكم الله ورسوله فيما بينهم وبين خصومهم- سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم، وأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مخوف. وبعد أن رتب الفلاح على هذا النوع من الطاعة أتبعه ببيان أن كل طاعة لله ورسوله موجبة للفوز فقال: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه، ويخش الله فيما صدر منه من الذنوب فيحمله ذلك على الطاعة وترك المعاصي، ويتقه فى مستأنف أموره، فأولئك الذين وصفوا بكل هذا هم الفائزون برضاه عنهم يوم القيامة، والآمنون من عذابه. ثم حكى سبحانه نوعا آخر من أكاذيب المنافقين بقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) أي وحلفوا بالله جاهدين أيمانهم بالغين غايتها- لئن أمرتهم بالخروج للجهاد والغزو ليلبّنّ الطلب وليخرجنّ كما أمرت. والخلاصة- إنهم أغلظوا الأيمان وشددوها فى أن يكونوا طوع أمرك ورهن اشارتك وقالوا: أينما تكن نكن معك، فإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا فرد الله عليهم وزجرهم عن التفوّه بهذه الأيمان الفاجرة وأمره أن يقول لهم:

(قُلْ لا تُقْسِمُوا) أي قل لهم: لا تحلفوا، فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى قسم ويمين لوضوح كذبه. ثم علل النهى عن الحلف بقوله: (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي لا تقسموا لأن طاعتكم معروفة لنا، فهى طاعة باللسان فحسب من غير مواطأة القلب لها، ولا يجهلها أحد من الناس. ونحو الآية قوله: «يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» وقوله: «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» . ثم هددهم وتوعدهم على أيمانهم الكاذبة وأنه مجازيهم على أعمالهم السيئة، ولا سيما ذلك النفق المفضوح فقال: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى لا تخفى عليه خافية من ظاهر أعمالكم وخافيها، فيعلم ما تظهرونه من الطاعة المؤكدة بالأيمان الكاذبة، وما تبطنونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين ونحو ذلك من أفانين الشر والفساد التي دبّرتموها. ولما نبه سبحانه إلى خداعهم وأشار إلى عدم الاغترار بأيمانهم- أمر بترغيبهم وترهيهم مشيرا إلى الإعراض عن عقوبتهم بقوله: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي مرهم باتباع كتاب الله وسنة رسوله، وفى هذا إيماء إلى أن ما أظهروه من الطاعة ليسوا منها فى شىء. ثم أكد الأمر السابق، وبالغ فى إيجاب الامتثال به، والحمل عليه بالترغيب والترهيب بقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي فإن تتولوا عن الطاعة بعد أن أمركم الرسول بها، فما ضررتم الرسول بشىء، بل ضررتم أنفسكم، لأنه عليه

[سورة النور (24) : آية 55]

ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد فعل، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة، فإن أنتم لم تفعلوا وتولّيتم فقد عرّضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد خرجتم من الضلال إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم. (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه- تهتدوا إلى الحق الموصّل إلى كل خير، المنجّى من كل شر، وما الرسول إلا ناصح وهاد ومبلّغ لكم، فإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم أصبتم طريق الصواب، وإن خالفتموه أوقعتم أنفسكم فى الهلكة. والخلاصة- إن الرسول فعل ما يجب عليه من أداء الرسالة، وقد بقي ما يجب عليكم أن تفعلوه. ونحو الآية قوله: «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» وقوله: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» . [سورة النور (24) : آية 55] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) المعنى الجملي بعد أن بيّن أن من أطاع الرسول فقد اهتدى إلى الحق، ومن اهتدى إلى الحق فجزاؤه دار النعيم- أردف ذلك وعده الكريم بأنه سيجعل المؤمنين المطيعين لله ورسوله خلفاء فى الأرض، ويؤيدهم بالنصرة والإعزاز، ويبدلهم من بعد خوفهم من العدوّ أمنا، فيعبدون الله وحده وهم آمنون، ومن جحد هذه النعم من بعد ذلك فقد عصى ربه، وكفر أنعمه.

الإيضاح

روى الطبراني والحاكم وابن مردويه عن أبىّ بن كعب قال: «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحبه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا فى السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟» فنزلت الآية. الإيضاح (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وعد الله المؤمنين منكم المصلحين لأعمالهم- ليورثنّهم أرض المشركين من العرب والعجم، وليجعلنهم ملوكها وساستها، كما استخلف بنى إسرائيل بالشام حين أهلك الجبابرة وجعلهم ملوكها وسكانها. وقد وفى سبحانه بوعده، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس فى مصر، والنجاشي ملك الحبشة. ولما قبض صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى قام بالأمر من بعده الخلفاء الراشدون، فنهحوا منهجه، وافتتحوا كثيرا من المشرق والمغرب، ومزّقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستعبدوا أبناء القياصرة، وصدق قول رسوله «إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها» . (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي وليجعلنّ دين الإسلام راسخا قويا ثابت القدم، ويعظم أهله فى نفوس أعدائه الذين يواصلون الليل بالنهار فى التدبير لإطفاء أنواره، لتعفو آثاره. (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) أي وليغيرنّ حالهم من الخوف إلى الأمن قال الربيع من أنس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال

[سورة النور (24) : الآيات 56 إلى 57]

حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون فى السلاح ويصبحون فى السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله: أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم فى الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة، فأنزل الله «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» إلى آخر الآية. ونحو الآية قوله: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . ثم أتبع ذلك بتعليل التمكين وما بعده بقوله: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) أي يعبدوننى غير خائفين أحدا غيرى: (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي ومن جحد هذه النعم فأولئك هم الذين أنكروا فضل المنعم بها، وتناسوا جليل خطرها. [سورة النور (24) : الآيات 56 الى 57] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) تفسير المفردات معجزين فى الأرض: أي جاعلين الله عاجزا عن إدراكهم وإهلاكهم وإن هربوا فى الأرض جميعها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بشر المؤمنين بأنه سيمكن لهم فى الأرض، ويجعل لهم من بعد الخوف أمنا- أردف ذلك أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، شكرا له على ما أنعم به عليهم، وإحسانا إلى عباده البائسين الفقراء كما أحسن إليهم بتبديل ذلهم عزة وضعفهم قوة، ثم أعقبه برفع استبعاد تحقق الوعد السابق، مع كثرة عدد عدوهم وعددهم، وبعدئذ ذكر أن مآلهم إلى النار، وبئس القرار. الإيضاح (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأقيموا أيها الناس الصلاة على الوجه الذي رسمه الله فى مواقيتها ولا تضيعوها، وآتوا الزكاة التي فرضها على أهلها، لما فيها من الإحسان إلى الفقير والمسكين وذوى البؤس والحاجة، وأطيعوا رسول ربكم فيما أمركم به ونهاكم عنه، لعل ربكم أن يرحمكم فينجيكم من شديد عذابه. ثم بين أن الكافرين سيحل بهم النكال، ولا يجدون مهربا مما أوعدهم به ربهم فقال: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي أيها الرسول لا تضّنّ الكافرين يجدون مهربا فى الأرض إذا أردنا إهلاكهم، بل نحن قادرون على أخذهم والبطش بهم متى أردنا، والكلام من وادي قولهم: (اسمعي يا جاره) . وبعدئذ بين مآلهم فى الآخرة فقال: (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي كما أنا سنضيّق عليهم فى الدنيا وننكّل بهم، ولا يفلتون من عذابنا- سنجعل عاقبة أمرهم نارا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذّب وتولى.

[سورة النور (24) : الآيات 58 إلى 60]

والخلاصة- إنه سيلحقهم سخطنا فى الدنيا، وسينالهم الذل والصغار، وسيكون مصيرهم فى الآخرة سعيرا وحميما وغساقا، جزاء وفاقا، إنهم كذبوا بآياتنا كذابا. [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) تفسير المفردات ما ملكت أيمانكم: يشمل العبيد والإماء أي الذكران والإناث، الحلم: بسكون اللام وضمها أي وقت البلوغ إما بالاحتلام، وإما ببلوغ الخامسة عشرة سنة من حلم بفتح اللام، تضعون: أي تخلعون، الظهيرة: وقت اشتداد الحرّ حين منتصف النهار، والعورات: أي الأوقات التي يختل فيها تستركم، من قولهم: أعور الفارس: إذا اختلت حاله. جناح: أي إثم وذنب، طوافون عليكم: أي يطوفون عليكم للخدمة والمخالطة الضرورية، القواعد: واحدها قاعد، وهى العجوز، لا يرجون نكاحا: أي لا يطمعن فيه لكبر سنهن، والتبرج: التكلف فى إظهار ما يخفى من الزينة، من قولهم: سفينة بارج، إذا كان لا غطاء عليها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن نهى فيما سلف عن دخول الأجانب فى البيوت إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها، وبين أن فى ذلك الخير كل الخير لهم، فإن لم يجدوا فيها أحدا رجعوا لما لذلك من كبير الأثر فى المجتمع الإسلامى، بصيانة الآداب العامة، ومنع القيل والقال، وحفظ الأعراض والأنساب. استثنى فى هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض، ودخول المملوكين على سادتهم، وبين أن الاستئذان لا يكون فى جميع الأوقات، بل فى ثلاث أوقات هى عورات لأرباب البيوت، لما فيها من رفع الكلفة وقلة التحفظ فى الستر، ثم ذكر أن النساء الطاعنات فى السن إذا لم يطمعن فى الزواج فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة. روى أن سبب نزول الآية «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضى الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج، وكان عمر نائما فدقّ عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس، فانكشف منه شىء، فقال: لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا فى هذه الساعة إلا بإذن، فانطلق معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجد الآية قد نزلت فخرّ ساجدا» وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضى الله عنه للوحى. وقيل إن السبب ما روى من أن أسماء بنت أبى مرشد دخل عليها غلام كبير لها فى وقت كرهت دخوله فيه، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا فى حال نكرهها فنزلت الآية. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ

الْعِشاءِ) أي لا يدخل أيها المؤمنون فى بيوتكم عبيدكم وإماؤكم ثلاث مرات فى ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم إلا بإذن: قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم وليس ثياب اليقظة، وكل ذلك مظنة انكشاف العورة، وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، لأنه وقت خلع ثياب اليقظة ولبس ثياب النوم. وخص هذه الأوقات الثلاثة، لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب والالتحاف باللحاف. وهكذا حكم حال الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم. ثم علل طلب الاستئذان بقوله: (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي لأن هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم يختل فيها التستر عادة. وبعد أن بين حكم هذه الأوقات الثلاث بين حكم ما عدا ذلك فقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ) أي ليس عليكم معشر- أرباب البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء ولا على الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم- حرج ولا إثم فى غير هذه العورات الثلاث. والخلاصة- لا حرج ولا إثم على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون وصبيانهم الصغار بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاث- أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال. ثم علل الإباحة فى غيرها بقوله: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي هؤلاء المماليك والصبيان الصغار يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم فى منازلهم غدوة وعشية بغير إذن، لأنهم يخدمونهم، أو لاحتياج الأقارب إليهم، كما أن السادة والأقارب يطوفون على ذوى قرابتهم ومماليكهم إذا عرضت لهم حاجة إليهم.

ثم بين فضله على عباده فى بيان أحكام دينهم لهم فقال: (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ومثل هذا التبيين لتلك الأحكام يبين لكم شرائع دينكم وأحكامه، والله عليم بما يصلح أحوال عباده، حكيم فى تدبير أمورهم، فيشرع لهم ما يصلح أحوالهم فى المعاش والمعاد. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» الآية، وقوله فى النساء: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى» الآية، وقوله فى الحجرات: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» . وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان فى العورات الثلاث التي أمر الله بها فى القرآن فقال: إن الله ستّير يحب الستر، كأن الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال فى بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه فى حجره وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا فى تلك العورات، ثم بسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الجبال فرأوا أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به اه. ولما بين الله حكم الأرقاء والصبيان الذين هم أطوع للأمر وأقبل لكل خير- أتبعه بحكم البالغين الأحرار بقوله: (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وإذا بلغ الصغار من أولادكم وأقربائكم الأحرار سنّ الاحتلام وهو خمس عشرة سنة فلا يدخلوا عليكم فى كل حين إلا بإذن لا فى أوقات العورات الثلاث ولا فى غيرها، كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه. وذكر الله فى هذه الآية حكم الأطفال إذا بلغوا ولم يذكر حكم ما ملكت أيماننا مع أن ما قبلها فيه ذكر المماليك والأطفال- لأن حكم ما ملكت اليمين وحد كبارهم، صغارهم، وهو الاستئذان فى الساعات الثلاث التي ذكرت فى الآية قبل

ثم أكد نعمه عليهم ببيان أحكام دينهم بقوله: (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي كما بين لكم ما ذكر غاية البيان، يبين لكم ما فيه سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم، وهو العليم بأحوال خلقه، الحكيم فيما يدبر لهم. ولما بين سبحانه حكم الحجاب حين إقبال الشباب أتبعه بحكمه حين إدباره فقال: (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي والنّساء اللواتى قعدن عن الولد كبرا، وقد يئسن من التبعل فلا يطمعن فى الأزواج، فليس عليهن إثم ولا حرج أن يخلعن ثيابهن الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار إذا كنّ لا يبدين زينة خفية كشعر ونحر وساق لدى المحارم وغير المحارم من الغرباء. وخلاصة ذلك- لا جناح على القواعد من النساء أن يجلسن فى بيوتهن بدرع وخمار ويضعن الجلباب، ما لم يقصدن بذلك الزينة وإظهار ما يجب إخفاؤه- هذا إذا لم يكن فيهن بقية من جمال تورث الشهوة، فإن كان فيهن ذلك فلا يدخلن فى حكم الآية. (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) أي وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن، فلبسنها كان ذلك خيرا لهن من خلعها، لتباعدهن حينئذ عن التّهمة، ولقد قالوا: لكل ساقطة فى الحىّ لاقطة. ثم توعد من يخالف تلك الأوامر فقال: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع بما يجرى بينهن وبين الرجال من الأحاديث، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن، فاحذروا أن يسوّل لكم الشيطان مخالفة ما به أمر، وعنه نهى.

[سورة النور (24) : آية 61]

[سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) تفسير المفردات الحرج لغة: الضيق، ويراد به فى الدين الإثم، ما ملكتم مفاتحه: أي ما كان تحت تصرفكم من بستان أو ماشية بطريق الوكالة أو الحفظ، والصديق: يطلق على الواحد والجمع كالخليط والعدو، جميعا: أي مجتمعين، أشتاتا: أي متفرقين، واحدهم شتيت، على أنفسكم: أي على أهل البيوت، طيّبة: أي تطيب بها نفس المستمع. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن للمماليك والصبيان الدخول فى البيوت فى غير العورات الثلاث بلا استئذان ولا إذن من أهل البيت- ذكر هنا أنه لا حرج على أهل هذه الأعذار الثلاثة فى تركهم للجهاد وما يشبهه، وذلك يستلزم عدم الاستئذان منه صلّى الله عليه وسلم فلهم القعود من غير استئذان ولا إذن، كما لا حرج عمن ذكروا بعدهم فى الأكل من البيوت المذكورة فى الآية.

الإيضاح

قال صاحب الكشاف: والكلام على هذا التفسير صحيح لالتقاء الطائفتين فى أن كلا منهما منفى عنه الحرج، ومثاله أن يستفتى مسافر عن الإفطار فى رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاجّ أن تقدّم الحلق على النحر اه. قال الحسن: أنزلت الآية فى ابن أم مكتوم وضع الله عنه الجهاد وكان أعمى. وقال مقاتل: نزلت فى الحارث بن عمرو، وكان قد خرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غازيا وخلف مالك بن يزيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك. الإيضاح (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم فى ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم: قاله عطاء وزيد بن أسلم. ونحو الآية قوله فى سورة براءة: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد من الحرج المنفي فى الآية الحرج فى الأكل ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام. فأنزل الله هذه الآية. والمعنى على هذه الرواية: ليس فى مؤاكلة الأعمى ولا ما بعده حرج. (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي ولا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، ويشمل ذلك بيوت الأولاد، لأن بيت الولد كبيته لقوله صلّى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك» وقوله «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه» .

وفائدة ذكر قوله: (عَلى أَنْفُسِكُمْ) الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن، فقد كثر إقحام (النفس) فى ذوى القدر كقوله: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» ولم يقل: كتب ربكم عليه الرحمة، وقوله فى الحديث القدسي «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى» ولم يقل: حرمت الظلم علىّ وذكر هذا الحكم وهو معلوم، ليعطف عليه غيره فى اللفظ، وليساويه ما بعده فى الحكم. (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) لما علم بالعادة أن هؤلاء تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم من الأقارب. (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه فى ضيعته وماشيته، فلا حرج عليه أن يأكل من ثمر الضيعة ويشرب من لبن الماشية، ولكن لا يحمل ولا يدّخر، وهذا إذا لم يجعل له أجرا على ذلك، فإن جعل له أجرا فلا يحل له أكل شىء منها. (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي أو بيوت أصدقائكم الذين يصدقونكم المودة وتصدقونهم، هذا إذا علم رضاهم بذلك بالإذن أو بشاهد الحال، ولا فرق بينهم وبين غيرهم إذا وجد الإذن. قال ابن زيد: هذا شىء قد انقطع، إنما كان فى أوّله ولم يكن لهم ستور أبواب، أو كانت الستور مرخاة فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، وربما وجد الطعام وهو جائع، فسوّغ له أن يأكل منه، ثم قال ذهب ذلك اليوم، البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا اه. وعلى هذا، فالمعنى يجوز الأكل من بيوت هؤلاء وإن لم يحضروا إذا علم رضاهم به بصريح اللفظ أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة. وإنما خص هؤلاء بالذكر، لأنهم اعتادوا التبسط بينهم، والرضا فيهم محقق غالبا

وعن جعفر الصادق رضى الله عنه. من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ. وقيل لأفلاطون: من أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال لا أحب أخى إلا إذا كان صديقى، ولكن أنّى هو؟ فقد أثر عن هشام بن عبد الملك أنه قال: نلت مانلت حتى الخلافة، وأعوزنى صديق لا أحتشم منه. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) أي لا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين، روى عن ابن عباس والضحاك وقتادة أنها نزلت فى بنى ليث ابن عمرو بن كنانة تحرّجوا أن يأكلوا طعامهم متفرقين، وكان الرجل منهم يمكث طوال يومه لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله إلى الرواح، وقد تكون معه الإبل الحفّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، وفى مثل هذا يقول حاتم: إذا ما صنعت الزاد فالتمسى له ... أكيلا فإنى لست آكله وحدي وفى الحديث: «شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده» وإنما ذمّ هذا لأنه بخل بالقرى. ثم شرع سبحانه يبين ما ينبغى رعايته حين دخول البيوت بعد أن ذكر الرخصة. فيه فقال: (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت فليسلم بعضكم على بعض. وفى التعبير عن أهل تلك البيوتات (بأنفسكم) إيماء إلى السبب الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت، وأنه إنما كان لأن الداخل فيها كأنه داخل فى بيته، لما بينهما من قرابة أو نحوها.

[سورة النور (24) : الآيات 62 إلى 64]

(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) أي حيّوا تحية ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه، يرجى بها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع. وعن جابر بن عبد الله قال: «إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة» أخرجه البخاري وغيره. روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: أوصانى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخمس خصال قال: «يا أنس أسبغ الوضوء يزد فى عمرك، وسلّم على من لقيك من أمتى تكثر حسناتك، وإذا دخلت (يعنى بيتك) فسلم على أهلك يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأوّابين قبلك، يا أنس، ارحم الصغير، ووقّر الكبير، تكن من رفقائى يوم القيامة» . (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هكذا يفصّل الله لكم معالم دينكم، كما فصّل لكم فى هذه الآية ما أحل لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه، لكى تفقهوا أمره ونهيه وأدبه، وبذا تفوزون بسعادة الدارين، ويكون لكم المقام المحمود عند ربكم. [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أمر جامع: أي خطب جلل يستعان فيه بأرباب التجارب والآراء كقتال عدو أو تشاور فى حادث قد عرض، والتسلل: الخروج من البيت تدريجا وخفية، واللواد والملاوذة: التستر، يقال لاذ فلان بكذا، إذا استتر به، والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر فى حاله أو فعله، فتنة: أي بلاء وامتحان فى الدنيا، عذاب أليم: أي عذاب مؤلم موجع فى الآخرة. المعنى الجملي بعد أن أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول أمرهم بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا فى أمر جامع مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كتشاور فى قتال أحد أو فى حادث عرض، وبيّن أن من يفعل ذلك فهو من كاملى الإيمان، ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه، ثم أمر المؤمنين أن يبجّلوا نبيهم ولا يسموه باسمه بل يقولوا يا نبى الله، ويا رسول الله، وليحذروا أن يخالفوا أمره وسنته وشريعته، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على فاعله وقائله كائنا من كان، وقد ثبت فى الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» . الإيضاح (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي ما المؤمنون حق الإيمان إلا الذين صدقوا الله ورسوله،

وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور فى أمر قد نزل، لم ينصرفوا عما اجتمعوا له حتى يستأذنوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا أدب على نهج سابقه، فكما أرشدهم من قبل إلى الاستئذان حين الدخول، أمرهم بالاستئذان حين الانصراف، ولا سيما إذا كانوا فى أمر جامع، روى الترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة» . ولما كان الإذن كالدليل على كمال الإيمان والمميّز للمخلص من غيره أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إن الذين لا ينصرفون إذا كانوا معك أيها الرسول في أمر جامع إلا بإذنك لهم، طاعة منهم لله ولك، وتصديقا بما أتيتهم به من عنده- أولئك هم المؤمنون حقا. ولما ذكر ما يلزم المؤمن من الاستئذان أعقبه بما يفعله الرسول حينئذ فقال: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) أي فإذا استأذنوك لبعض ما يعرض لهم من مهامّ أمورهم فأذن لمن شئت منهم أن ينصرف لقضاء ما عرض له، بحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها، كما وقع لعمر رضى الله عنه حين خرج مع النبي صلى الله عليه وسلّم فى غزوة تبوك، حيث استأذن فى الرجوع إلى أهله فأذن له صلّى الله عليه وسلّم وقال له: ارجع فلست بمنافق. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وادع الله أن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم، إنه غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.

وفى هذا إيماء إلى أن الاستئذان وإن كان لعذر قوى- فيه بعض الملامة لما فيه من تقديم شئون الدنيا على أمور الآخرة، كما أن فيه احتفالا برسوله صلّى الله عليه وسلّم إذ جعل الاستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا إلى الاستغفار، فضلا عن الذهاب بلا إذن، ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان لأى أمر مهما كان، مهمّا كان أو غير مهمّ، على أنه علق الإذن بالمشيئة. وبعد أن ظهر فى هذه السورة شرف الرسول، ولا سيما فى هذه الآية التي بهرت العقول- أردف هذا ما يؤكده فقال: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) أي لا تقيسوا أيها المؤمنون دعاءه عليه السلام إياكم بدعاء بعضكم بعضا فى المساهلة والرجوع من مجلسه بغير ستئذان، فإن هذا محرم عليكم. ثم توعد المنصرفين خفية بغير استئذان فقال: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي قد يعلم الله الذين يخرجون متسللين من المسجد فى الخطبة واحدا بعد واحد من غير استئذان خفية مستترين بشىء، وإن عملهم هذا إن خفى على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلا يخفى على من يعلم السر والنجوى ومن لا يعزب عنه مثقال ذرة، ويعلم الدواعي التي تحملهم على ذلك، ولديه الجزاء على ما يفعلون. روى أبو داود أنه كان من المنافقين من يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس فى المسجد فإذا استأذن أحد من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به فأنزل الله الآية. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي فليتق الله من يفعلون ذلك منكم، فينصرفون عن رسول الله بغير إذنه، أن تصيبهم محنة وبلاء فى الدنيا أو يصيبهم عذاب مؤلم موجع فى الآخرة، بأن يطبع الله على قلوبهم، فيتمادوا فى العصيان ومخالفة أمر الرسول، فيدخلهم النار وبئس القرار.

والآية تعم كل من خالف أمر الله وأمر رسوله وجمد على التقليد من بعد ما تبين له الهدى، وظهر له الصواب من الخطأ. وبعد أن أقام الأدلة على أنه نور السموات والأرض، ثم حذر كل مخالف لرسوله صلى الله عليه وسلّم- ختم السورة ببيان أنه المالك للموجودات بأسرها، خلقا وملكا، وتصرفا وإيجادا، وإعداما بدءا وإعادة، فقال: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي إنه تعالى مالك السموات والأرض وإنه عالم بما يعمل العباد كما قال: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» وقال تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ؟» . ثم هدّد وتوعد فقال: (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي ويوم يرجع الخلائق إلى ربهم حين العرض والحساب يخبرهم بما فعلوا فى الدنيا من جليل وحقير، وكبير وصغير كما قال: «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» وقال: «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» وبعدئذ ذكر ما هو كالدليل على ما سلف بقوله: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه سينبئهم بما عملوا فى حياتهم الأولى، لأنه ذو علم بكل شىء وإحاطة به وهو موف كل عامل أجر عمله، يوم يرجعون إلى حكمه، إذ لا حكم يومئذ إلا هو.

مجمل ما حوته السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد

عن عقبة بن عامر قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية فى خاتمة النور، وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه يقول بكل شىء بصير» أخرجه الطبراني وغيره، قال السيوطي بسند حسن. وصلّ ربنا على محمد النبي الأمى وعلى آله. مجمل ما حوته السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد (1) عقوبة الزاني والزانية. (2) عقوبة قاذفى المحصنات الغافلات المؤمنات. (3) حكم قذف الزوجات. (4) قصص الإفك وبراءة أم المؤمنين عائشة. (5) آداب الزيارة. (6) أمر المؤمنين بغضّ الأبصار وحفظ الفروج. (7) نهى النساء عن إبداء زينتهن لغير بعولتهن إلخ. (8) أمر المؤمنين بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء، فالمجتمع الإسلامى كأنه أسرة واحدة. (9) أمر من لم تتوافر له وسائل النكاح لعدم وجود المال أو سواه بالعفة حتى يغنيه الله. (10) بيان أن الأعمال الصالحة التي يعملها الكافرون فى الدنيا لا تجدى عنهم نفعا يوم القيامة، بل تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (11) الأدلة التي نصبها الله فى الأكوان علويها وسفليها شاهدة بوحدانيته. (12) المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم. (13) وصف المؤمنين الصادقين.

(14) وعد الله عباده المؤمنين بأنه سيستخلفهم فى الأرض وينشر دينهم الذي ارتضى لهم. (15) استئذان الموالي والأطفال فى أوقات ثلاث إذا أرادوا الدخول على أهليهم (16) رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض فى الجهاد. (17) لا حرج فى الأكل من بيوت الآباء والأمهات إلخ بلا إذن. (18) نهى المؤمنين عن الانصراف من مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كانوا معه فى أمر جامع. (19) إباحة إذنه لهم إن شاء حين الطلب. (20) بيان أن مجلس الرسول مبجّل موقر وليس كمجلس المؤمنين بعضهم مع بعض.

سورة الفرقان

سورة الفرقان هى مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهى 68، 69، 70، وآيها سبع وسبعون نزلت بعد سورة يس. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) إنه سبحانه اختتم السورة السابقة بكونه مالكا لما فى السموات والأرض مصرّفا له على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة مع النظام البديع والوضع الأنيق، وأنه سيحاسب عباده يوم القيامة على ما قدموا من العمل خيرا كان أو شرا، وافتتح هذه بما يدل على تعاليه فى ذاته وصفاته وأفعاله وعلى حبه لخير عباده بإنزال القرآن لهم هاديا وسراجا منيرا. (2) اختتم السورة السالفة بوجوب متابعة المؤمنين للرسول صلّى الله عليه وسلم مع مدحهم على ذلك وتحذيرهم من مخالفة أمره خوف الفتنة والعذاب الأليم، وافتتح هذه بمدح الرسول وإنزال الكتاب عليه لإرشادهم إلى سبيل الرشاد، وذمّ الجاحدين لنبوته بقولهم: إنه رجل مسحور، وإنه يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق إلى آخر ما قالوا. (3) فى كل من السورتين وصف السحاب وإنزال الأمطار وإحياء الأرض الجرز فقال فى السالفة: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً» إلخ وقال فى هذه: «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً» إلخ. (4) ذكر فى كل منهما وصف أعمال الكافرين يوم القيامة وأنها لا تجزيهم فتيلا ولا قطميرا فقال فى الأولى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ» إلخ وقال فى هذه: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» . (5) وصف النشأة الأولى للإنسان فى أثنائهما فقال فى الأولى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» وفى الثانية: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً»

[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 إلى 2]

[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) تفسير المفردات تبارك: من البركة، وهى كثرة الخير لعباده، بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم كما قال «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» والفرقان: هو القرآن، سمى بذلك لأنه فرّق فى الإنزال كما قال: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» على عبده: أي على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ووصفه بذلك تشريفا له بكونه فى أقصى مراتب العبودية، وتنبيها إلى أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل، وفيه ردّ على النصارى الذين يدّعون ألوهية عيسى عليه السلام، للعالمين: أي الثقلين من الإنس والجن، فقدره: أي هيّأه لما أعدّه له من الخصائص والأفعال. المعنى الجملي حوت هذه السورة توحيد الله وإثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وبيان صفات النبي، والرد على من أنكروا نبوته صلّى الله عليه وسلم، ثم بيان أحوال يوم القيامة وما يكون فيها من الأهوال، ثم ختمت بأوصاف عباده المخلصين الذين يمشون على الأرض هوبا، ثم ذكر جلال الله، وتصرفه فى خلقه، وتفرده بالخلق والتقدير. الإيضاح (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) حمد سبحانه نفسه على ما نزّله على رسوله من القرآن الكريم، لينذر به الثقلين الجن والإنس ويخوفهم

بأسه، وإنما ذكر الإنذار ولم يذكر التبشير مع أن الرسول مرسل بهما، من قبل أن السورة بصدد بيان حال المعاندين المتخذين لله ولدا والطاعنين فى كتبه ورسله واليوم الآخر. وخلاصة ذلك- تعالى الله عما سواه فى ذاته وصفاته وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن المعجز الناطق بعلوّ شأنه، وسمو صفاته، وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح، على عبده محمد صلّى الله عليه وسلم، لينذر به الناس ويخوفهم بأسه، ووقائعه بمن خلا قبلهم من الأمم. ونحو الآية قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ» . ثم وصف سبحانه نفسه بأربع صفات من صفات الكبرياء: (1) (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان القاهر عليهما، فله القدرة التامة فيهما وفيما حوياه إيجادا وإعداما وأمرا ونهيا بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح. (2) (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أي ولم يكن له ولد كما زعم الذين قالوا ذلك للمسيح وعزير والملائكة، كما حكى الله عنهم فى قوله: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» وقوله: «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟» (3) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي وما كان لله شريك فى ملكه وسلطانه يصلح أن يعبد من دونه، فأفر دواله العبادة وأخلصوها له دون كل ما تعبدون من دونه من الآلهة والملائكة والجن والإنس. وفى هذا ردّ على مشركى العرب الذين كانوا يقولون فى تلبيتهم للحج: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك» .

[سورة الفرقان (25) : آية 3]

(4) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي وأوجد كل شىء بحسب ما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة، وهيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال التي تليق به، فأعدّ الإنسان للإدراك والفهم، والتدبر فى أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصناعات المختلفة، والانتفاع بما فى ظاهر الأرض وباطنها، وأعدّ صنوف الحيوان للقيام بأعمال مختلفة تليق بها وبإدراكها. والخلاصة- إن كل شىء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شىء وربه ومليكه وإلهه، وكل شىء تحت قهره، وتسخيره وتقديره، ومن كان كذلك فكيف يخطر بالبال أو يدور فى الخلد كونه سبحانه والدا له أو شريكا له فى ملكه كما قال: «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟» الآية. [سورة الفرقان (25) : آية 3] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) الإيضاح بعد أن وصف سبحانه نفسه بصفات العزة والجلال، وبيّن وجه الحق فى ذلك أردفه حكاية أباطيل عبدة الأوثان الذين اتخذوا من دونه آلهة، تعجيبا لأولى النّهى من حالهم، وتنبيها إلى خطأ أفعالهم، وتسفيها لأحلامهم، فقد انحرفوا عن منهج الحق وركبوا المركب الذي لا يركبه إلا كل آفن الرأى، مسلوب العقل. وقد أبان سبحانه ما بها من النقص من وجوه متعددة: (1) إنها لا تخلق شيئا، والإله يكون قادرا على الخلق والإيجاد. (2) إنها مخلوقة، والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 4 إلى 6]

(3) إنها لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها، ومن كان كذلك فلا فائدة فى عبادته وإجلاله وتعظيمه. (4) إنها لا تقدر على التصرف فى شىء ما، فلا تستطيع إماتة الأحياء، ولا إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم، ومن كان كذلك فكيف يسمى إلها، وتعطى له خصائص الآلهة من الخضوع لعظمته والإخبات لجلاله؟. وعلى الجملة فعبدة الأصنام قد تركوا عبادة الخالق المالك لكل شىء، المتصرف فيه بقدرته وسلطانه، وعبدوا ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وليس بعد هذا من حماقة، ولا يرضى بمثله من له مسكة من عقل، ولا أثارة من علم. [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 6] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) تفسير المفردات الافتراء: الاختلاق والكذب، من قولهم: افتريت الأديم- الجلد- إذا قطّعته للإفساد، جاءوا: أي أتوا، والظلم: وضع الشيء فى غير موضعه، إذ هم قد نسبوا القبيح إلى من كان مبرأ منه، والزور: الكذب، والأساطير: واحدها أسطار أو أسطورة كأحدوثة، وهو ما سطّره المتقدمون، اكتتبها: أي أمر بكتابتها، تملى عليه: أي تلقى عليه بعد اكتتابها ليحفظها، بكرة وأصيلا: أي صباحا ومساء، والمراد دائما.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن تكلم أوّلا فى التوحيد، ثم فى الرد على عبدة الأوثان- أردف ذلك الرد على الطاعنين فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد قسموا مطاعنهم قسمين: مطاعن فى القرآن، ومطاعن فيمن نزل عليه القرآن. روى أن هذه الآيات نزلت فى النضر بن الحرث إذ هو الذي قال هذه المقالة، وعنى بالقوم الآخرين عدّاسا مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسارا مولى العلاء بن الحضرمي، وأبا فكيهة الرومي، وكانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة ويحدّثون أحاديث منها، فأسلموا، وكان النبي يتعهدهم ويختلف إليهم، فمن ثم قال النضر ما قال. الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي وقال الكافرون: إن هذا القرآن ليس من عند الله، بل اختلقه محمد، وأعانه على ذلك جماعة من أهل الكتاب ممن أسلموا، وكان يتعهدهم ويختلف إليهم: «تقدم ذكر أسمائهم» فيلقون إليه أخبار الأمم الغابرة، وهو يصوغها بلغته وأسلوبه الخاص. فرد الله عليهم مقالهم فقال: (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي فقد وضعوا الأشياء فى غير مواضعها، وكذبوا على ربهم، إذ جعلوا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- إفكا مفترى من قبل البشر، وكيف يتقوّلون ذلك على الرسول وقد تحداهم أن يأتوا بمثله، وهم ذوو اللسن والفصاحة والغاية فى البلاغة، فعجزوا أن يأتوا بمثله، ولو كان ذلك فى مكنتهم ما ادّخروا وسعا فى معارضته، وقد ركبوا الصعب والذلول ليدحضوا حجته، ويبطلوا دعوته، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولو كان محمد صلّى الله عليه وسلّم قد استعان فى ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا هم بغيرهم، فما مثله فى اللغة إلا مثلهم فلما

لم يفعلوا علم أنه قد بلغ الغاية التي لا تجارى وانتهى إلى حد الإعجاز- إلى أنه اشتمل على الحكم والأحكام التي فيها سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم، كما اشتمل على أخبار من أمور الغيب التي لا تصل إليها مدارك البشر ولا عقولهم. وبعد أن حكى عنهم قولهم فى الافتراء بإعانة قوم آخرين عليه- حكى عنهم طريق تلك الإعانة. (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي وقال المشركون الذين قالوا إن هذا إلا إفك مفترى: أي ما هذا إلا أحاديث الأولين الذين كانوا يسطرونها فى كتبهم من نحو أحاديث رستم وإسفنديار- اكتتبها من اليهود فهى تستنسخ منهم وتقرأ عليه، ليحفظها غدوة وعشيا: أي قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم، وقد عنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذه جرأة عظيمة منهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وقد يكون مرادهم أنها تملى عليه دائما. ثم أمره الله تعالى بإجابتهم عما قالوا بقوله: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل لهم ردّا وتحقيقا للحق: ليس ذلك كما تزعمون، بل هو أمر سماوى أنزله الذي لا يعزب عن علمه شىء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفكار، ومن ثم أعجزكم بفصاحته وبلاغته، كما أخبركم فيه بمغيّبات مستقبلة، وأمور مكنونة، لا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير. وقد وصف سبحانه نفسه بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية، فالجلية المعلومة من باب أولى، إيذانا بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر. (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنكم استوجبتم العذاب بمكايدتكم لرسوله، لكنه لم يعجله لكم رحمة بكم، رجاء توبتكم وغفران ذنوبكم، ولولا ذلك لصبّ عليكم العذاب صبّا.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 إلى 16]

وفى هذا إيماء إلى أن هذه الذنوب مع بلوغها الغاية فى العظم- مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها، فلا ييأسوا منها بما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من معاداة الرسول ومخاصمته. [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) تفسير المفردات مسحورا: أي سحر فاختلّ عقله، الأمثال: أي الأقاويل العجيبة الجارية لغرابتها مجرى الأمثال، فضلوا: أي فبقوا متحيرين فى ضلالهم، أعتدنا: أي هيأنا والسعير: النار الشديدة الاشتعال، رأتهم: أي إذا كانت منهم بمرأى الناظر فى البعد، من قولهم: دور تتراءى أي تتناظر، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن المؤمن والكافر

المعنى الجملي

لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى، إذ يجب على المؤمن مجانبة الكافر والمشرك فى أمور الدين، والتغيظ: إظهار الغيظ، والمراد صوت التغيظ، والزفير: إخراج النفس بعد مده، مقرنين: أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى السلاسل، والثبور: الهلاك، وجنة الخلد: هى التي لا ينقطع نعيمها، مسئولا: أي جديرا أن يسأل ويطلب، لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون. المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه شبهتهم فيما يتعلق بالمنزّل وهو القرآن- ساق شبهتهم فى المنزّل عليه، وهو الرسول على الوجه الذي ذكره ثم فنّد تلك الشبه وبين سخفها وأنها لا تصلح مطعنا فى النبي، ثم حكى عنهم نوعا ثالثا من أباطيلهم وهو تكذيبهم بيوم القيامة، ثم وصف ما أعد للكافرين فيه مما يشيب من هوله الولدان من نار تلظى يسمعون لها تغيظا وزفيرا، ووضعهم فيها مقرنين فى الأصفاد، وندائهم إذ ذاك بقولهم يا ثبوراه، ثم أتبع ذلك بما يؤكد حسرتهم وندامتهم بوصف ما يلقاه المتقون فى جنات النعيم: مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن هذا ما وعدهم به ربهم الذي لا خلف لوعده. الإيضاح حكى الله هنا أن المشركين ذكروا خمس صفات للنبى تمنع النبوة فى زعمهم: (1) (وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ؟) أي أىّ شىء ميّزه عنا وجعله يدعي النبوة مع أنه يأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب؟ (2) (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لابتغاء الرزق كما نفعل فهو مثلنا، فمن أين له الفضل علينا؟ وهم يقصدون بذلك استبعاد الرسالة عنه، لمنافاتها للأكل والشرب وطلب المعاش، وكأنهم قالوا: إن صح ما يدعيه، فما باله لم يخالف حاله حالنا ولم يؤت ميزة دوننا؟

وما هذا منهم إلا لضعف عقولهم وقصور إدراكهم، فإن الرسل لم يمتازوا بأمور حسية، بل بصفات روحية، وفضائل نفسية، فطرهم الله عليها توجب صفاء عقولهم وطهارة نفوسهم، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» . (3) (لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أي فهلا أنزل إليه ملك من عند الله يكون شاهدا على صدق ما يدعيه، ويردّ على من يخالفه، وشبيه بهذا ما قال فرعون عن موسى: «فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» . (4) (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي وهلا أنزل عليه كنز من السماء ينفق منه حتى لا يحتاج إلى المشي فى الأسواق لطلب المعاش. (5) (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي وهلا كان له بستان يعيش من غلته كما يعيش المياسير من الناس. قال صاحب الكشاف: إنهم طلبوا أن يكون الرسول ملكا، ثم زلوا عن ملكيّته إلى صحبة ملك يعينه، ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودا بكنز، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل ويرزق منه اه. وعن ابن عباس قال: إن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبى أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومنبّه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، قال فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن

نسودّك، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن بعثني إليكم رسولا، وأنزل على كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه علىّ أصبر حتى يحكم الله بينى وبينكم، قالوا يا محمد: فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فسل لربك، وسل لنفسك أن يبعث معك ملكا يصدّقك فيما تقول ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك عما نراك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فأنزل الله فى ذلك هذه الآية. أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر. وبعد أن حكى عنهم أوّلا أنهم يثبتون له كمال العقل ولكنهم ينتقصونه بصفات فى شئون الدنيا- حكى عنهم ثانيا أنهم نفوا عنه العقل بتاتا وادّعوا أنه مختلّ الشعور والإدراك، وإلى هذا أشار بقوله: (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) أي وقال الكافرون الظالمون لأنفسهم بنسبتهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما هو منه براء، وما يدل العقل والمشاهد على نفيه عنه: ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختلّ عقله فهو لا يعى ما يقول، ومثله لا يطاع له رأى، وهذا منهم ترقّ فى انتقاصه، وأنه لا يصلح للنبوة بحال. ولما ذكر ضلالاتهم التفت إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم مسليا له بقوله: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) أي انظر واعجب لهم: كيف جرءوا على التفوّه بتلك الأقاويل العجيبة، فاخترعوا لك صفات وأحوالا بعيدة كل البعد عن صفاتك التي أنت عليها، فضلوا بذلك عن طريق الهدى

وصاروا حائرين لا يدرون ماذا يقولون ولا ما يقدحون به فى نبوتك إلا مثل ذلك السّخف والهذر. والخلاصة- إن ما أتوا به لا يصلح أن يكون قادحا فى نبوتك ولا مطعنا فيك، فإن كان لهم مطعن فى المعجزات التي أتيت بها فليفعلوا، ولكن أنّى لهم ذلك؟ ثم رد على ما اقترحوه من الجنة والكنز بقوله: (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي كثر خير ربك، فإن شاء وهب لك فى الدنيا خيرا مما اقترحوا فإن أراد جعل لك فى الدنيا مثل ما وعدك به فى الآخرة، فأعطاك جنات تجرى من تحتها الأنهار، وآتاك القصور الشامخة والصياصي التي لا يصل إلى مثلها أكثرهم مالا وأعزهم نفرا، ولكن الله لم يشأ ذلك لأنه أراد أن يكون عطاؤه لك فى الدار الباقية الدائمة، لا فى الدار الزائلة للفانية، وإنما كانت مما ذكروا: لكثرتها وجريلن الأنهار من تحت أشجارها وبناء المساكن الرفيعة فيها، والعرب تسمى كل بيت مشيد قصرا. ثم انتقل من ذلك إلى كلامهم فى البعث وأمر الساعة مبينا بذلك السبب فى عدم تصديقهم برسوله فقال: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي ما أنكر هؤلاء المشركون ما جئتهم به من الحق، وتقوّلوا عليك ما تقوّلوا، إلا من قبل أنهم لا يوقنون بالبعث، ولا يصدقون بالثواب والعقاب. والخلاصة- إنهم أتوا بأعجب من هذا كله، وهو تكذيبهم بالساعة، ومن ثمّ فهم لا ينتفعون بالدلائل، ولا يتأملون فيها. ثم توعدهم وبين عاقبة أمرهم وما كتب لمثلهم من الخيبة والخذلان فقال: (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً

وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي إنا أعددنا لمن كذب بالبعث والحشر، والنشر والحساب والجزاء نارا تسعر وتتقد عليهم، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ لشدة توقدها، وصوت الزفير الذي يخرج من فم الحزين المتهالك حسرة وألما. أخرج ابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال «إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب، ولا نبىّ مرسل إلا ترعد فرائصه، حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه فيقول: رب لا أسألك اليوم إلا نفسى» . وإذا ألقوا منها فى مكان ضيق قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم فى الأغلال والسلاسل، استغاثوا وقالوا يا ثبوراه: أي باهلاكنا احضر فهذا وقتك، فيقال لهم: لا تنادوا هلاكا واحدا وادعوا هلاكا كثيرا: أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحدا، إنما ثبوركم منه كثير، لأن العذاب ألوان وأنواع، ولكل منها ثبور لشدته وفظاعته. وخلاصة ذلك- إن الله قد أعدّ لمن كذب بالقيامة نارا مستعرة، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر فى البعد سمعوا صوت غليانها، وإذا طرحوا منها فى مكان ضيق وهم مقرنون فى السلاسل والأغلال تمنوا الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل: (أشد من الموت ما يتمنى معه الموت) فيقال لهم حينئذ: لا تدعوا هلاكا واحدا فإنه لا يخلّصكم، بل اطلبوا هلاكا كثيرا لتخلصوا به- والمقصد من ذلك تيئيسهم مما علّقوا به أطماعهم من الهلاك، وتنبيه إلى أن عذابهم أبدى لاخلاص لهم منه. وبعد أن وصف عقاب المكذبين بالساعة، أردفه ما يؤكد حسرتهم وندامتهم فقال: (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ؟) أي قل لهؤلاء المكذبين تهكما بهم وتحسيرا لهم على مافاتهم: أهذه النار التي وصفت لكم خير أم جنة الخلد التي يدوم نعيمها ولا يبيد، وقد وعدها من اتقاه فى الدنيا بطاعته فيما به أمره ونهاه؟

[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 إلى 19]

ثم حقق أمرها تأكيدا للبشارة بقوله: (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) أي كانت هذه الجنة لهم جزاء أعمالهم فى الدنيا بطاعته، وثوابا لهم على تقواه، ومرجعا لهم ينتقلون إليه فى الآخرة. ثم وصف مقدار تنعمهم فيها بقوله: (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) أي لهم فى جنة الخلد ما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ونحو ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهم فيها خالدون أبدا بلا انقطاع ولا زوال. (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا) أي وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم حين سألوه بقولهم: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ» [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) تفسير المفردات ضل السبيل: فقده وخرج عنه، والذكر: ما ذكّر به الناس على ألسنة أنبيائهم، بورا: أي هالكين وهو لفظ يستوى فيه الواحد والجمع، صرفا: أي دفعا للعذاب، يظلم: أي يكفر.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما أعدّ لأولئك المكذبين بيوم القيامة من الشدائد والأهوال فى النار ودعائهم على أنفسهم بالويل والثبور- أردفه ذكر أحوالهم مع معبوداتهم من دون الله وتوبيخهم على عبادة من عبدوا من الملائكة وغيرهم، ثم ذكر أن معبوداتهم تكذبهم فيما نسبوه إليهم، ثم بين أن العابدين لا يستطيعون دفع العذاب عن أنفسهم ولا يجدون من يستنصرون به. الإيضاح (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟) أي واذكر لقومك تخويفا وتحذيرا يوم يحشر عابدو الأصنام والملائكة عيسى وعزير وأضرابهم من العقلاء الذين عبدوا من دون الله، ثم يقال لأولئك المعبودين: ء أنتم دعوتم عبادى إلى الغى والضلال حتى دسّوا أنفسهم وهلكوا، أم هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحق، وسلكوا سبيل الهلاك بإعراضهم عن اتباع الرسول؟ فأجاب المعبودون: (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي قال المعبودون على طريق التعجب مما قيل لهم، لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون، فما أبعدهم عن الإضلال: تنزهت ربنا مما نسب إليك هؤلاء المشركون، ما كان يليق بنا ونحن لا نتخذ من دونك أولياء أن ندعو غيرنا إلى ذلك، ولكنك ربنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم نعمك ليعرفوا حقها ويشكروك، فاستغرقوا فى الشهوات، وانهمكوا فى اللذات وغفلوا عن ذكرك والإيمان بك، فكانوا من الهالكين، فحينئذ يقال لأولئك العابدين. (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) أي فقد كذبكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم ودعوكم إلى عبادتهم- فيما تقولون،

[سورة الفرقان (25) : آية 20]

فما تستطيعون صرف العذاب عن أنفسكم ولا تجدون من ينصركم ويدفع عقاب الله عنكم والخلاصة- إنكم لا تستطيعون النجاة، لا بالهرب ولا بالانتصار لأنفسكم، فأنتم معذبون لا محالة. ثم عمم سبحانه الحكم وخاطب جميع المكلفين فقال: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) أي ومن يكفر منكم أيها المكلفون فيعبد الله إلها غيره كهؤلاء الذين كذبوا بيوم القيامة- نذقه فى الآخرة عذابا كبيرا بقدر قدره، ولا تصل العقول إلى معرفة كنهه. [سورة الفرقان (25) : آية 20] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) المعنى الجملي بعد أن ذكر مقالتهم التي طعنوا فيها على رسوله بقولهم: «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» زاعمين أن هذا مما لا ينبغى للرسول أن يفعل مثله- أردن ذلك الاحتجاج عليهم بأن محمدا ليس بدعا فى الرسل، فكلهم كانوا يفعلون فعله. وفى هذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتصبير له على أذاهم. ثم بين أن سنته أن يبتلى بعض الناس بعض، فيبتلى الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم، فيناصبوهم العداء وعودهم، ليعلم أيّهم يصبر وأيهم يجزع؟ وهو البصير بحال الصابرين وحال الجازعين

الإيضاح

الإيضاح (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) أي إن جميع من سبقك من الرسل كانوا يأكلون الطعام للتغذى به، ويمشون فى الأسواق للتكسب والتجارة، ولم يقل أحد إن ذلك نقص لهم يغضّ من كرامتهم ويزرى بهم، ولم يكن لهم امتياز عن سواهم فى هذا، وإنما امتازوا بصفاتهم الفاضلة، وخصائصهم السامية، وآدابهم العالية، وبما ظهر على أيديهم من خوارق العادات، وباهر المعجزات، مما يستدلّ به كل ذى لب سليم وبصيرة نافذة على صدق ما جاءوا به من عند ربهم- فمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا من الرسل، إذ يأكل ويمشى فى الأسواق، وليس هذا بذم له ولا مطعن فى صدق رسالته كما تزعمون. ونحو الآية قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» وقوله: «وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ» . ثم سلى رسوله على قولهم: «أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» بقوله. (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ؟) أي وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض، فجعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة، وهذا ملكا وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيرا وحرمناه من لذات الحياة ونعيمها، لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغنى، والملك بصبره على ما أوتيه الرسول من الكرامة، وكيف يكون رضى كل منهم بما أعطى وقسم له، وطاعته ربه على حرمانه مما أعطى سواه- ومن جرّاء هذا لم أعط محمدا الدنيا وجعلته بمشى فى الأسواق يطلب المعاش، لأبتليكم وأختبر طاعتكم وإجابتكم إياه إلى ما دعاكم إليه وهو لم يرج منكم عرضا من أعراض الدنيا، ولو أعطيتها إياه لسارع كثير منكم إلى اتباعه، طمعا فى أن ينال شيئا من دنياه.

والخلاصة- لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى حتى لا يخالفوا لفعلت، لكنى أردت أن أبتلى العباد بهم، وأبتليهم بالعباد، فينالهم منهم الأذى، ويناصبوهم العداء، فاصبروا على البلاء، فقد علمتم ما وعد الله به الصابرين. (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي وربك أيها الرسول بصير بمن يجزع، وبمن يصبر على ما امتحن به من المحن، ويجازى كلا بما يستحق من عقاب أو ثواب. روى مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «انظروا إلى أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هم فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» . اللهم اجعلنا من الصابرين على أذى السفهاء، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وارزقنا من لدنك قناعة وغنى نربأ بهما عما فى أيدى الناس، وثبت أقدامنا فى فهم كتابك، وبلغنا ما نرجوه من إرشاد عبادك بما نقدّم لهم من نور يهتدون به إلى صراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصل ربنا على محمد وآله. ثم تفسير هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية، لثلاث خلون من صفر سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، ولله الحمد أولا وآخرا.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 5 المؤمن المفلح هو الجامع لخصال سبع من خصال الخير 7 أطوار خلق الإنسان 9 قال عمر: وافقت ربى فى أربع إلخ 12 ما يحتاج إليه الإنسان فى معيشته 14 ما فى السماء من منافع للإنسان 15 النعم التي سخرها الله لنا من خلق الحيوان 16 قصص نوح عليه السلام مع قومه وما فيه من عبرة 21 قصص هود عليه السلام مع قومه 24 قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام 25 قصص موسى وهرون عليهما السلام 27 قصص عيسى عليه السلام إجمالا 28 الرسل جميعا أمروا أن يأكلوا من الحلال الطيب 29 فى الحديث: إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا 30 دين الأنبياء دين واحد وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده، واختلاف الشرائع لا يسمى اختلافا فى الدين 31 كثرة المال والبنين ليست كرامة من الله لعباده 32 صفات المسارعين فى الخيرات 35 لا يكلف العبد إلا بما فى وسعه وهو فى كتاب محفوظ عليه 38 المشركون فى عمى بين فى القرآن 39 لا ينفع المشركين يوم القيامة الصريح والعويل 40 الأسباب التي ركن إليها المشركون فى إنكارهم لهذا الدين 41 لو جاء التشريع بحسب الهوى لاختل نظام العالم 42 ما أنت أيها الرسول بطالب أجرا على هدايتهم 45 ما امتنّ به سبحانه على عباده 46 المشركون أنكروا البعث تقليدا لمن سبقهم 48 إثبات البعث ببرهانات ثلاثة 50 كذب المشركون فى ادعائهم اتخاذ الله للولد واتخاذ الشريك 51 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكمال 52 أمر الله رسوله أن يدعوه ألا يجعله قرينا للمشركين فى العذاب 53 أمر الرسول بالدفع بالحسنى 54 كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم صحبه كلمات يقولونها عند النوم 55 طلب المشركين الرجوع إلى الدنيا عند معاينة العذاب 57 أهوال يوم القيامة 58 أحوال الأشقياء يومئذ 62 يسأل المجرمون توبيخا لهم عن مده لبثهم فى الأرض 63 تنزيه الله نفسه عما يصفه به المشركون 68 عقوبة الزنا الدنيوية لنير المحصن 68 طريق إثبات الزنا 69 العقوبة الأخروية 70 الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة 71 حكم قذف غير الزوجة من النساء 73 حكم قذف الرجل زوجه 74 ما ورد فى ذلك من الآثار 77 حديث الإفك على أم المؤمنين عائشه رضى الله عنها 79 من هلك بسببه من المؤمنين 83 وعيد من أشاع هذا الحديث 84 عتاب الله للمؤمنين على ما وقر فى نفوسهم من إرجاف المرجفين 85 ارتكاب المرجفين ثلاثة آثام

86 تحذير المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا 87 جزاء من يحب إشاعة الفاحشة فى المؤمنين 90 من اتهم محصنة غافلة بالخنا والفجور فهو مطرود من رحمة الله 90 شهادة الأيدى والأرجل والألسنة 92 الأدلة على براءة عائشة 93 الإنسان لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة 94 دخول المرء بيت غيره لا بد فيه من الإذن 95 من قيل للداخل ارجع وجب أن يرجع 96 حكم دخول البيوت غير المسكونة سكنى خاصة 96 الأمر بغض البصر وحفظ التزوج سدّ الباب الشر ومنعا 99 الأمر بضرب الخمر على الجيوب لارتكاب الآثام 100 النهى عن إبداء الزينة إلا للبعولة أو آباء البعولة إلخ 101 الأمر بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء حفظا للأنساب 104 ثلاثة حق على الله عونهم وبقاء للنوع 106 مثل نور الله فى السموات والأرض 108 فوائد ضرب الأمثال فى القرآن 110 المساجد بيوت الله، وحق على الله أن يكرم من زاره فيها 111 أعددت لعبادى الصالحين- الحديث 112 مثل أعمال الكافرين فى الآخرة 115 ذكر دلائل التوحيد 119 المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم 122 المنافقون يعرضون عن التحاكم إلى الرسول 123 طاعة الله ورسوله توجب الفوز والنجاة 124 نهى المنافقين عن الحلف 126 وعد المؤمنين بالاستخلاف فى الأرض 127 الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة 129 الأمر بالاستئذان فى العورات الثلاث 130 سبب نزول آية الاستئذان 133 لا حرج على النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فى ترك الزينة 134 الأمر بالسلام عند دخول البيوت 135 لا حرج على الأعمى ولا على المريض ولا على الأعرج فى ترك الجهاد 138 الأمر بالاستئذان حين الانصراف عن مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 141 النهى عن الانصراف خفية من مجلسه 142 علم الله محيط بكل شىء 147 ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكبرياء 148 ما فى الأصنام من صفات النقص 150 الرد على الطاعنين فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم 151 قال المشركون إن محمدا اكتتب أساطير الأولين 153 الصفات التي تمنع نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فى زعمهم 155 ادعى المشركون أن محمدا رجل مسحور 156 تكذيب المشركين بيوم القيامة 160 الرسل جميعا كانوا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق 162 لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلى لفعلت

تتمة سورة الفرقان

الجزء التاسع عشر [تتمة سورة الفرقان] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) تفسير المفردات لا يرجون: أي لا يخافون كما جاء فى قوله: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» واللقاء: مقابلة الشيء ومصادفته، ولقاءنا: أي لقاء جزائنا، واستكبروا فى أنفسهم: أي أوقعوا الاستكبار فى شأن أنفسهم بعدّها كبيرة الشأن، والعتوّ: تجاوز الحد فى الظلم تجاوزا بلغ أقصى الغاية حيث كذبوا الرسول الذي جاء بالوحى ولم يكترثوا بالمعجزات التي أتاهم بها، حجرا محجورا: كلمة تقولها العرب حين لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة

المعنى الجملي

هائلة، يقصدون بها الاستعاذة من وقوع ذلك الخطب الذي يلحقهم والمكروه الذي يلمّ بدارهم: أي نسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا، وقدمنا: أي عمدنا وقصدنا، والهباء كما قال الراغب: دقاق التراب وما انبثّ فى الهواء ولا يبدو إلا فى أثناء ضوء الشمس من كوّة ونحوها، والمستقر: المكان الذي يستقر فيه المرء فى أكثر الأوقات للجلوس والمحادثة، والمقيل: المكان الذي يؤوى إليه للاستمتاع بالأزواج والتمتع بحديثهن، سمى بذلك لأن التمتع به يكون وقت القائلة غالبا. المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه أباطيل المشركين السالفة بطعنهم فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» أردف ذلك بذكر سخافات أخرى لهم فى هذا الصدد فقالوا: هلا أنزل علينا الملائكة فيخبرونا بصدقه، أو يرى ربنا فينبئنا بذلك، ثم بين أن هذا عتو عظيم منهم، ثم أعقب هذا ببيان أنهم سيرون الملائكة حين الهول يوم الجزاء والحساب حين يقولون لهم: لا بشرى لكم اليوم بل فيه منعكم من كل خير، فإن ما قدمتم من عمل صالح فى الدنيا صار هباء منثورا، ثم أخبر بما يكون لأهل الجنة من خير المستقر، وحسن المقيل، فى ظل ظليل، ونعم لا مقطوعة ولا ممنوعة، حين يقولون: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» ولعل فى ذكر هذا ما يكون حافزا لهم على مراجعة أنفسهم وتخمير الرأى، ليرشدوا إلى طريق السّداد، ويقلعوا عما هم فيه من هوى متّبع، وشيطان مطاع. الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر ويطعنون فى صدق الرسول فيما أوحى به إليه: هلا أنزل علينا

الملائكة فيخبرونا بأن محمدا صادق فيما يدّعى، فإنا فى شك من أمره، وفى ريب مما يخبر به، وإن لم يكن هذا فلنر ربنا ونعلم أنه هو حقا بأمارات لا يعتريها لبس ثم يقول لنا: إنى أرسلت إليكم محمدا من لدنى بشيرا ونذيرا، فإن تم لنا ذلك صدّقناه وآمنا به، وما مقصدهم من هذا وذاك إلا التمادي فى الإنكار والعناد والعتوّ ومن ثم قال: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أي والله لقد استكبروا فى شأن أنفسهم، وتجاوزوا الحد فى الظلم والطغيان تجاوزا بلغ أقصى الغاية، تكذيبا برسوله، وشموخا بأنوفهم عن أن ينصاعوا إليه ويتبعوه، ولم يأبهوا بباهر معجزاته، ولا كثرة آياته، وإنهم لقد بلغوا غاية القحة فى الطلب، وفى الحق إن شأنهم لعجب، وإن العقل ليحار فى أمرهم، ويدهش لقصور عقولهم، وسذاجة آرائهم، وضعف أحلامهم، «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» ولله در القائل: ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى ونحو الآية قوله تعالى: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ» . ثم بين أنهم سيلقون الملائكة حين الهول يوم القيامة لا على الوجه الذي طلبوه، ولا على الصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر لم يمر ببالهم فقال: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) أي يوم يرى هؤلاء المجرمون الملائكة فلا بشرى لهم بخير، إذ يقولون لهم: حجرا محجورا أي محرم عليكم البشرى بالغفران والجنة، أي جعلهما الله حراما عليكم، إذ هما لا يكونان إلا لمن اعترف بوحدانية الله وصدّق رسوله. والخلاصة- لا بشرى يومئذ للكافرين وتقول لهم الملائكة: حرام أن نبشركم بما نبشر به المتقين. ثم بين السبب فى وبالهم وخسرانهم حينئذ فقال: (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) أي فعمدنا إلى محاسن

[سورة الفرقان (25) : الآيات 25 إلى 29]

أعمالهم التي قاموا بها فى الدنيا كصلة رحم، وإغاثة ملهوف، ومن على أسير ونحو ذلك مما لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها- فجعلناه كالهباء المنثور لا يجدى ولا يفيد. وخلاصة ذلك- إنه تعالى جعل مثل هؤلاء الكفار ومثل أعمالهم التي عملوها حال كفرهم- مثل قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقصد إلى ما بين أيديهم فأفسده وجعله شذر مذر، ولم يترك له أثرا ولا عينا. وبعد أن بين حال الكافرين حينئذ ذكر حال أضدادهم المؤمنين فقال: (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) أي إن منازل أهل الجنة خير من منازل أولئك المشركين الذين يفتخرون بأموالهم وما أوتوا من الترف والنعيم فى الدنيا، وأحسن فيها قرارا حين القائلة من مثلها لهم فى الدنيا، لما يتزين به مقيلهم من حسن الصور وجمال التنوّق والأبّهة والزّخرف وغيرها من المحاسن التي لا يوجد مثلها فى الدنيا فى بيوت المترفين، ولما فيه من نعيم لا يشو به كدر ولا تنغيص بخلاف مقيل الدنيا. [سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فى سابق الآيات أن المشركين طلبوا إنزال الملائكة- أردف هذا ببيان أنهم ينزلون حين ينتهى هذا العالم الدنيوي، ويختلّ نظام الأفلاك،

الإيضاح

والأرض والسموات، ويحشر الناس من قبورهم للعرض والحساب، فيعض الكافر على يديه نادما على مافات ويتمنى أن لو كان قد أطاع الرسول فيما أمر ونهى ولم يكن قد أطاع شياطين الإنس والجن الذين أضلوه السبيل وخذلوه عن الوصول إلى محجة الصواب. الإيضاح (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أي واذكر أيها الرسول لقومك أهوال هذا اليوم حين تكون شمسنا وكواكبنا والشموس الأخرى وسياراتها أشبه بالغمام، لأنها تصير هباء متفرقة فى الجو وترجع سيرتها الأولى أي تتحلل وترجع فى الجو كما كانت ويختلى نظام هذا العالم المشاهد كما قال تعالى: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» . (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا) بصحائف أعمال العباد، لتقدّم لدى العرض والحساب، وتكون شاهدة عليهم لدى فصل القضاء. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) أي الملك الحق فى هذا اليوم ملك الرحمن، فله السلطان القاهر، والاستيلاء العام ظاهرا وباطنا، ولا ملك لغيره فى هذا اليوم وهو الذي يقضى بين عباده بالعدل، ولا شفيع ولا نصير: «الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ» . ثم ذكر الهول الذي ينال الكافرين حينئذ فقال: (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي وكان ذلك اليوم شديد الهول على الكافرين، لأنه يوم عدل وفصل للقضاء، وهو على المؤمنين يسير، لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى، وفى الحديث «إنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلّاها فى الدنيا» .

ونحو الآية قوله: «فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» . ثم بين شدة ندم المشركين وعظيم حسرتهم فى هذا اليوم: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) أي وفى هذا اليوم يعضّ المشرك بربه على يديه ندما وأسفا على ما فرّط فى جنب الله، وعلى ما أعرض عنه من الحق الواضح الذي جاء به رسوله ويقول: ليتنى اتخذت مع الرسول طريقا إلى النجاة، ولم تتشعب بي طرق الضلالة. (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا) أي يا هلكتى احضرى فهذا أوانك، ليتنى لم أتخذ فلانا الذي أضلنى وصرفنى عن طريق الهدى خليلا وصديقا. ومن الأخلاء الشياطين، ولا فارق بين شياطين الإنس وشياطين الجن، ومن هؤلاء أبىّ بن خلف، فقد روى أن عقبة بن أبى معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبىّ صديقه فعاتبه، وقال له: صبأت، فقال: لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامى وهو فى بيتي فاستحييت منه فشهدت له، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق فى وجهه، فوجده ساجدا فى دار النّدوة ففعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلّا علوت رأسك بالسيف فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله، وقتل أبىّ بن خلف بيده الشريفة يوم أحد، طعنه بحربة فوقعت فى ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم فى جوفه فجعل يخور كما يخور الثور، فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور، فما لبث إلا يوما أو نحوه حتى ذهب إلى النار فأنزل الله الآية. وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يحشر المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخال» أخرجه أبو داود والترمذي. وعن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقىّ» وروى الشيخان عن أبى موسى الأشعري أن

[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 إلى 31]

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة» . ثم بين علة هذا التمني بقوله: (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) أي لقد أضلنى عن الإيمان بالقرآن بعد إذ جاءنى من ربى. ثم أخبر عن طبيعة الشيطان ودأبه فقال: (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا) أي وكان من عادة الشيطان أن يخذل الإنسان فيصرفه عن الحق ويدعوه إلى الباطل ثم لا ينقذه مما يحل به من البلاء، ولا ينجيه منه. [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 31] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) المعنى الجملي بعد أن ذكر مقالاتهم الباطلة، وتعنتهم الظالم فى الرسول من نحو قولهم: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، وقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، وقولهم فى القرآن: إن هو إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وقولهم فيه: إن هو إلا أساطير الأولين اكتتبها- أعقب ذلك بشكاية الرسول إلى ربه بأن قومه قد هجروا كتابه، ولم يلتفتوا إلى ما فيه من هداية لهم، ورعاية لمصالحهم فى دينهم ودنياهم، ثم سلاه سبحانه على ذلك بأن هذا ليس دأب قومك فحسب، بل إن كثيرا من

الإيضاح

الأمم قد فعلوا مع رسلهم مثل هذا، فاقتد بأولئك الأنبياء ولا تجزع، ثم وعده وعدا كريما بأن يهديه إلى مطلبه، وينصره على عدوه، وكفى به هاديا ونصيرا. الإيضاح (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أي وقال الرسول مشتكيا إلى ربه: رب إن قومى الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك، وأمرتنى بإبلاغه إليهم، قد هجروا كتابك، وتركوا الإيمان بك، ولم يأبهوا بوعدك ووعيدك، بل أعرضوا عن استماعه واتباعه. وفى ذكره صلى الله عليه وسلم بلفظ (الرَّسُولُ) تحقيق للحق، ورد عليهم، إذ كان ما أورده قدحا فى رسالته صلى الله عليه وسلم. ثم سلى رسوله على ما يلاقيه من الشدائد والأهوال، بأن له فى سلفه من الأنبياء قبله أسوة بقوله: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك ما يتقولون من التّرهات والأباطيل ويفعلون من السخف ما يفعلون- جعلنا لكل نبى من الأنبياء الذين سلفوا وأوتوا من الشرائع ما فيه هدى للبشر- أعداء لهم من شياطين الإنس والجن، وكانوا لهم بالمرصاد، وقاوموا دعوتهم، َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» . فلا تجزع أيها الرسول فإن هذا دأب الأنبياء قبلك، واصبر كما صبروا قال ابن عباس: كان عدو النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى. ونحو الآية قوله: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» . ثم وعده بالهداية والنصر والتأييد وغلبته لأعدائه فقال: (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) أي وكفاك ربك هاديا لك إلى مصالح الدين

[سورة الفرقان (25) : الآيات 32 إلى 34]

والدنيا، وسيبلغك أقصى ما تطلب من الكمال، وسينصرك على أعدائك، وستكون لك الغلبة عليهم آخرا، فلا يهولنك كثرة عددهم وعددهم، فإنى لا محالة جاعل كلمة الله هى العليا وكلمة أعدائه هى السفلى، فاصبر لأمرى، وامض لتبليغ رسالتى، حتى يبلغ الكتاب أجله. [سورة الفرقان (25) : الآيات 32 الى 34] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) تفسير المفردات جملة واحدة: أي دفعة واحدة، لنثبت به فؤادك: أي لنقوى به قلبك، ورتلناه: أي أتينا ببعضه إثر بعض على تؤدة ومهل من قولهم ثغر مرتّل: أي متفلج الأسنان، بمثل: أي بنوع من الكلام جار مجرى المثل فى تنميقه وتحسينه، ورشاقة لفظه وصدق معناه، تفسيرا: أي إيضاحا، يحشرون على وجوههم إلى جهنم: أي يسحبون على وجوههم ويجرّون إليها. المعنى الجملي بعد أن ذكر مطاعنهم فى الكتاب الكريم كقولهم إن هو إلا إفك مبين، وقولهم هو أساطير الأولين- قفى على ذلك بذكر شبهة أخرى لهم وهى قولهم: لو كان القرآن من عند الله حقا لأنزله جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل جملة على عيسى والزبور على داود، فرد الله عليهم مقالتهم، وبين لهم فوائد إنزاله

الإيضاح

منجّما، فذكر منها تثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم بتيسير الحفظ، وفهم المعنى، وضبط الألفاظ، إلى نحو أولئك، ثم وعده بأنهم كلما جاءوا بشبهة دحضها بالجواب الحق، والقول الفصل الذي يكشف عن وجه الصواب، وبعدئذ ذكر حال المشركين وأنهم حين يحشرون يكونون فى غاية الذل والهوان ويجرّون على وجوههم إلى جهنم وهم مصفّدون بالسلاسل والأغلال. الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي وقال اليهود: هلا أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة كما أنزلت الكتب السالفة على الأنبياء كذلك، وهذا زعم باطل، ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت متفرقة فقد أنزلت التوراة منجمة فى ثمانى عشرة سنة كما تدل على ذلك نصوص التوراة، وليس هناك دليل قاطع على خلاف ذلك من كتاب أو سنة كما نزل القرآن، لكنهم معاندون أو جاهلون لا يدرون كيف نزلت كتب الله على أنبيائه، وهو اعتراض بما لا طائل تحته، لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو متفرقا. فرد الله عليهم ما قالوا وأشار إلى السبب الذي لأجله نزل منجما فقال: (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي أنزلناه كذلك لنقوّى قلبك به بإعادته وحفظه كما قال: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» . وخلاصة تلك الفوائد: (1) إنه عليه الصلاة والسلام لما كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة كان من الصعب عليه أن يضبطه، وجاز عليه السهو والغلط. (2) إنه أنزل هكذا ليكون حفظه له أكمل ويكون أبعد عن المساهلة وقلة التحصيل. (3) إنه لو أنزل جملة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة عليهم،

ولا يخفى ما فى ذلك من حرج عليهم بكثرة التكاليف مرة واحدة، ولكن بإنزاله منجّما جاء التشريع رويدا رويدا فكان احتمالهم له أيسر ومرانهم عليه أسهل. (4) إنه عليه الصلاة والسلام إذا شاهد جبريل الفينة بعد الفينة قوى قلبه على أداء ما حمل به، وعلى الصبر على أعباء النبوة، وعلى احتمال أذى قومه، وقدر على الجهاد الذي استمر عليه طوال حياته الشريفة. (5) إنه أنزل هكذا بحسب الأسئلة والوقائع، فكان فى ذلك زيادة بصر لهم فى دينهم. (6) إنه لما نزل هكذا، وتحداهم بنجومه وبما ينزل منه، وعجزوا عن معارضته- كان عجزهم عن معارضته جملة أجدر وأحق فى نظر الرأى الحصيف. (7) إن بعض أحكام الشريعة جاء فى بدء التنزيل وفق حال القوم الذين أنزلت عليهم، وبحسب العادات التي كانوا يألفونها، فلما أضاء الله بصائرهم بهدى رسوله تغيرت بعض أحوالهم واستعدت أنفسهم لتشريع يزيدهم طهرا على طهر، ويذهب عنهم رجس الجاهلية الذي كانوا فيه، فجاء ذلك التشريع الجديد الكامل المناسب لتلك الحال الجديدة، ولو نزل القرآن جملة لم يتسنّ شىء من هذا. (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) أي وأنزلناه عليك هكذا على مهل، وقرأناه بلسان جبريل شيئا فشيئا في ثلاث وعشرين سنة. وبعد أن أبان فساد قولهم بالدليل الواضح أعقبه بما يقوّى قلبه إزاء المشركين، وأنه قد كتب له الفلج عليهم، فهم محجوجون فى كل آن، وقولهم مدفوع على كل وجه فقال: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي ولا يأتيك هؤلاء المشركون بصفة غريبة من الصفات التي يقترحونها، ويريدون بها القدح فى نبوتك إلا دحضناها بالحق الذي يدفع قولهم ويقطع عروق أسئلتهم السخيفة، ويكون أحسن بيانا مما يقولون.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 إلى 40]

ونحو الآية قوله: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ» . والخلاصة- إنهم لا يقترحون اقتراحا من فاسد مقترحاتهم، إلا أتيناك بما يدفعه، ويوضح بطلانه. وبعد أن وصفوا رسوله بتلك الأوصاف السالفة تحقيرا له- سلاه على ذلك، وطلب إليه أن يقول لهم. (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي إنى لا أقول لكم كما تقولون ولا أصفكم بمثل ما تصفوننى به، بل أقول لكم: إن الذين يسحبون إلى جهنم ويجرّون بالسلاسل والأغلال هم شر مكانا وأضل سبيلا، فانظروا بعين الإنصاف، وفكّروا من أولى بهذه الأوصاف منا ومنكم؟ لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا، وسبيلكم أضل من سبيلنا. وهذا على نسق قوله تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . ويسمّون هذا الأسلوب فى المناظرة بإرخاء العنان للخصم، ليسهل إفحامه وإلزامه، روى الترمذي عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف. صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم، قيل يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» والمراد أن الملائكة عليهم السلام تسحيهم وتجرّهم على وجوههم إلى جهنم، أو يكون الحشر على الوجوه عباوة عن الذلة والخزي والهوان، أو هو من قول العرب مرّ فلان على وجهه إذا لم يدر أين يذهب. قصص بعض الأنبياء مع أممهم [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)

تفسير المفردات

تفسير المفردات قال الزجاج: الوزير من يرجع إليه للاستعانة برأيه، والتدمير: كسر الشيء على وجه لا يمكن معه إصلاحه، وأعتدنا. هيّأنا وأعددنا، الرس: البئر غير المطوية (غير المبنية) والجمع: رساس. قال أبو عبيدة: والمراد بهم كما قال قتادة أهل قرية من اليمامة يقال لها الرسّ والفلج فتلوا نبيهم فهلكوا، وهم بقية ثمود قوم صالح، والتتبير: التفتيت والتكسير قال الزجاج: كل شىء كسرته وفتّته فقد تبرّته ومنه التّبر لفتات الذهب والفضة، والقرية: هى سذوم أعظم قرى قوم لوط، لا يرجون: أي لا يتوقعون، والنشور: البعث للحساب والجزاء. المعنى الجملي بعد أن تكلم فى دلائل وحدانيته ونفى الأنداد، وفى النبوة وأجاب عن شبهات المنكرين لها، وفى أحوال يوم القيامة وأهوالها التي يلقاها الكافرون، وفى النعيم الذي يتفضل به على عباده المتقين، أردف ذلك بقصص بعض الأنبياء مع أممهم الذين كذّبوهم فحل بهم النكال والوبال، ليكون فى ذلك عبرة لقومه المشركين الذين كذبوا رسوله حتى لا يحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم إذا هم تمادوا فى تكذيبهم وأصرّوا على بغيهم وطغيانهم.

قصة موسى وهارون عليهما السلام

وقد ذكر من ذلك خمس قصص: قصة موسى مع فرعون وقومه. وقصة نوح وقومه. وقصة هود مع قومه عاد. وقصة صالح مع قومه ثمود. وقصة أصحاب الرس. قصة موسى وهارون عليهما السلام (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة كما أنزلنا عليك الفرقان، وجعلنا معه أخاه هرون معينا وظهيرا له، ولا تنافى بين هذه الآية وقوله: «وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» فإنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام وهو تابع له فيها، كما أن الوزير متبع لسطانه. ثم ذكر ما أمرا به من تبليغ الرسالة مع بيان أن النصر لهما آخرا على أعدائهما. (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أي فقلنا لهما اذهبا إلى فرعون وقومه الذين كذبوا بدلائل التوحيد المودعة فى الأنفس والآفاق، فلما ذهبا إليهم كذبوهما فأهلكناهم أشد إهلاك. ونحو الآية قوله: «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها» . وفى ذلك تسلية لرسوله وأنه ليس أول من كذّب من الرسل، فله أسوة بمن سلف منهم. قصة نوح عليه السلام (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي وكذلك فعلنا بقوم نوح حين كذبوا رسولنا نوحا عليه السلام، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ويحذّرهم نقمته «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» فأغرقناهم ولم نترك منهم أحدا إلا أصحاب السفينة وجعلناهم عبرة للناس كما قال: «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» أي أبقينا لكم

قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم

السفينة، لتذكروا نعمة الله عليكم بإنجائكم من الغرق وجعلكم من ذرية من آمن به وصدّق بأمره. وفى قوله: كذبوا الرسل وهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا وهو نوح- إيماء إلى أن من كذّب رسولا وأخذا فقد كذب جميع الرسل، إذ لا فرق بين رسول وآخر، إذ جميعهم يدعو إلى توحيد الله ونبذ الأصنام والأوثان قاله الزجاج. ثم ذكر مآل المكذبين فقال: (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي وأعددنا لكل من كفر بالله ولم يؤمن برسله عذابا أليما فى الآخرة. وفى ذلك رمز إلى أن قريشا سيحل بهم من العذاب فى الدنيا والآخرة مثل ماحل بأولئك المكذبين إذا لم يرعووا عن غيّهم. قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ) أي ودمّرنا عادا قوم هود عليه السلام بالريح الصرصر العاتية، وثمود قوم صالح بالصيحة، وأهلكنا أصحاب الرس الذين كانوا باليمامة وقتلوا نبيهم. واختار ابن جرير أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا فى سورة البروج وسيأتى ذكر قصصهم. (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي وأمما كثيرة أهلكناهم لما كذّبوا رسلنا. ثم ذكر أنه أنذر أولئك المكذبين وحذرهم قبل أن أوقع بهم فقال: (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي وكل هؤلاء أوضحنا لهم حججنا، وبينا لهم أذلتنا، وأزحنا عنهم الأعذار، فتمادوا فى كفرهم وطغيانهم، فأهلكناهم أفظع الإهلاك وأشده. ثم ذكّر مشركى مكة بما يرونه من العبر فى حلّهم وتر حالهم وما يشاهدونه مما حل بأولئك الأمم المكذبة من المثلات فقال:

[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 إلى 44]

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي وتالله لقد مرّ هؤلاء المكذبون فى رحلة الصيف على سذوم أعظم قرى قوم لوط وقد أهلكها الله بأن أمطر عليها حجارة من سجيل، لأن قومها كانوا يعملون الخبائث، وحذّرهم لوط، فما أغنت عنهم الآيات والنذر. ثم وبخهم على تركهم التذكر حين مشاهدة ما يوجبه فقال: (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها؟) أي أفلم يروا ما نزل بتلك القرية من عذاب الله بتكذيب أهلها رسول ربهم فيعتبروا ويتذكروا ويراجعلوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم لرسوله. ثم أبان أن عدم التذكر لم يكن سببه عدم الرؤية، بل منشؤه إنكار البعث والنشور فقال: (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) أي إنهم ما كذّبوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله، لأنهم لم يكونوا رأوا ما حل بالقرية التي وصفت، بل كذبوه من قبل أنهم قوم لا يخافون نشورا بعد الممات، ولا يوقنون بعقاب ولا ثواب فيردعهم ذلك عما يأتون من معاصى الله. [سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) المعنى الجملي بعد أن ذكر مطاعن المشركين فى النبي صلى الله عليه وسلم وأورد شبهاتهم فى ذلك- أردف هذا بيان أن ذلك ما كفاهم، وليتهم اقتصروا عليه، بل زادوا على

الإيضاح

ذلك الاستهزاء به والحطّ من قدره حتى لقد قال بعضهم لبعض: أهذا الذي بعث الله رسولا؟ بل لقد غالوا فى ذلك فسمّوا دعوته إضلالا، فرد الله عليهم مقالهم وأبان لهم أنه سيظهر لهم حين مشاهدة العذاب من الضالّ ومن المضلّ؟ ثم عجّب رسوله من شناعة أحوالهم بعد حكاية أقوالهم وأفعالهم القبيحة، وأرشد إلى أن مثل هؤلاء يبعد أن يزدجروا عما هم فيه من الغىّ بنصحك وإرشادك، فإن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون وما هم إلا كالأنعام أو أضل منها سبيلا. روى أن الآية الأولى نزلت فى أبى جهل ومن معه فإنه كان إذا مر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئا (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) . الإيضاح (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) أي وإذا رآك هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم- اتخذوك موضع هزؤ وسخرية وقالوا احتقارا لشأنك هذه المقالة. ثم ذكر ما زاد قبحه فى زعمهم فقال: (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) أي ويقولون إنه قد كاد يصدّنا عن عبادة آلهتنا لولا صبرنا على عبادتها وثباتنا على ديننا. وفى هذا إيماء إلى وجوه من الفائدة: (1) إنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاحتفال فى الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات، وإقامة الحجج والبينات، مبلغا شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط عنادهم وتناهى عتوهم ولجاجهم. (2) الدلالة على تناقضهم واضطرابهم، فإن فى استفهامهم السابق ما يدل على التحقير له، وفى آخر كلامهم ما يدل على قوة حجته، ورجاحة عقله، فذكره تحميق لهم وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه.

وبعد أن حكى مقالتهم سفّه آراءهم من وجوه ثلاثة: (1) (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي إنهم حين يشاهدون العذاب الذي استوجبوه بكفرهم وعنادهم سيعلمون من الضال ومن المضل؟ وفى هذا رد لقولهم إن كاد ليضلنا عن آلهتنا، كما أن فيه وعيدا شديدا على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر. (ب) (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟) أي انظر فى حال هذا الذي جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه، وأعرض عن استماع الحجة الباهرة، والبرهان الجلى الواضح، واعجب ولا تأبه به، فإنك لن تكون حفيظا على مثل هذا تزجره عما هو عليه من الضلال وترشده إلى الصراط السوىّ. وخلاصة ذلك- كأنه سبحانه يقول لرسوله: إن هذا الذي لا يرى معبودا له إلا هواه، لا تستطيع أن تدعوه إلى الهدى، وتمنعه من متابعة الهوى، إن عليك إلا البلاغ. ونحو الآية قوله: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» وقوله: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» . وفى هذا الأسلوب تعجيب لرسوله من سوء أحوالهم بعد أن حكى قبيح أقوالهم وأفعالهم، وتنبيه له إلى سوء عاقبتهم. قال ابن عباس: كان الرجل فى الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول فأنزل الله الآية. (ح) (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي بل أتظن أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات، أو يعقلون ما تتضمنه من المواعظ الداعية إلى الفضائل ومحاسن الأخلاق، حتى تجتهد فى دعوتهم، وتحتفل بإرشادهم وتذكيرهم، وتطمع فى إيمانهم فما حالهم إلا حال البهائم فى تركهم للتدبر فيما يشاهدون من البينات والحجج، بل هم أضل منها سبيلا،

[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 إلى 54]

هى قد تنقاد لصاحبها الذي يتعهّدها، وتعرف من يحسن إليها ومن يسىء، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وتهتدى لمراعيها ومشاربها، وتأوى إلى معاطنها ومرابضها، لكن هؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم وإساءة الشيطان لهم، وهو الذي قد زين لهم اتباع الشهوات- إلى أنهم لا يرجون ثوابا، ولا يخافون عقابا، إلى أن جهالة الأنعام مقصورة عليها، وجهالة هؤلاء تؤدى إلى وقوع الفتنة والفساد، وصدّ الناس عن سنن السّداد، ووقوع الهرج والمرج بين العباد، إلى أن البهائم إذ لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا البطلان عنادا ومكابرة وتعصبا وغمطا للحق، إلى أنها لم تعطّل قوة من القوى المودعة فيها، فلا تقصير من قبلها عن الكمال، أما هؤلاء فهم مبطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقد قالوا الملائكة روح وعقل، والبهائم نفس وهوى، والبشر مجمع الكل للابتلاء والاختبار، فإن غلبته النفس والهوى فضلته الأنعام، وإن غلبته الروح والعقل فضل الملائكة الكرام. وتخصيص الأكثر بالذكر، لأنه قد كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق وكابر، استكبارا وخوفا على الرياسة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 54] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ألم تر: أي ألم تنظر، إلى ربك: أي إلى صنعه، مد: بسط، الظل: ما يحدث من مقابلة جسم كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس من حين ابتداء طلوعها حتى غروبها، ساكنا: أي ثابتا على حاله فى الطول والامتداد بحيث لا يزول ولا تذهبه الشمس، دليلا: أي علامة، قبضناه: أي محوناه، يسيرا: أي على مهل قليلا قليلا بحسب سير الشمس فى فلكها، والسبات: الموت لما فى النوم من زوال الإحساس، والنشور: البعث، بشرا: (تخفيف بشر بضمتين) واحدها بشور كرسل ورسول: أي مبشرات، والرحمة: المطر، بين يديه: أي قدامه، طهورا: أي يتطهر به، والبلدة: الأرض، والميت: التي لا نبات فيها، والأنعام: الإبل والبقر والغنم، وخصها بالذكر لأنها ذخيرتنا. ومعاش أكثر أهل المدر منها، وأناسىّ: واحدهم إنسان (أصله أناسين أبدلت النون ياء وأدغمت فى الياء) وصرفناه: أي حولناه فى أوقات مختلفة إلى بلدان متعددة، ليذكروا: أي ليعتبروا، كفورا: أي كفرانا للنعمة وإنكارا لها، نذيرا: أي نبيا ينذر أهلها، والمرج: من قولهم مرج فلان دابته إذا تركها وشأنها، فرات: أي مفرط العذوبة، أجاج: أي شديد الملوحة، برزخا: أي حاجزا، حجرا محجورا: أي تنافرا شديدا فلا يبغى أحدهما على الآخر ولا يفسد الملح العذب، نسبا وصهرا: أي ذكورا ينسب إليهم، وإناثا يصاهر بهن.

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما بين سبحانه جهالة المعرضين عن دلائل التوحيد، وسخيف مذاهبهم وآرائهم أعاد الكرة مرة أخرى، فذكر خمسة أدلة عليه نراها عيانا، وتتوارد علينا ليلا ونهارا، وتكون دليلا على وجود الإله القادر الحكيم. الإيضاح (1) (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) أي انظر أيها الرسول إلى صنع ربك، كيف أنشأ الظل لكل مظلّ من طلوع الشمس حتى غروبها، فاستخدمه الإنسان للوقاية من لفح الشمس وشديد حرارتها. (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ولو شاء لجعله ثابتا على حال واحدة لا يتغير، لكنه جعله متغير فى ساعات النهار المختلفة، وفى الفصول المتعاقبة، ومن ثم اتّخذ مقياسا للزمن منذ القدم، فاتخذ المصريون (المسلات) وقاسوا بها أوقات النهار على أوضاع مختلفة، وطرق حكيمة منوّعة، واتخذ العرب المزاول لمعرفة أوقات الصلاة فقالوا: يجب الظهر عند الزوال: أي إذا تحول الظل إلى جانب المشرق، والعصر حين بلوغ ظل كل شىء مثله عند الأئمة عدا أبا حنيفة الذي قال: لا يجب إلا إذا بلغ ظل كل شىء مثليه. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) أي ثم جعلنا طلوع الشمس دليلا على ظهور الظل ومشاهدته للحس والعيان، والأشياء تستبين بأضدادها، فلولا الشمس لما عرف الظل، ولولا الظلمة ما عرف النور. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي ثم أزلناه بضوء الشمس يسيرا يسيرا، ومحوناه على مهل جزءا فجزءا بحسب سير الشمس. (2) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) أي ومن آثار قدرته، وروائع رحمته الفائضة على خلقه، أن جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه

كما يستركم اللباس، وجعل النوم كالموت لتعطيله الحواس ووظائفها المختلفة كما قال: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» وقال: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» وجعل النهار زمان بعث من ذلك الموت. وخلاصة ذلك- جعلنا موتكم بالنوم فى الليل، وجعلنا نشوركم: أي انبعاثكم من النوم الذي يشبه الموت بالنهار، إذ ينشر الخلق للمعاش كما ينشرون بعد الموت للحساب. قال لقمان لابنه كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر. ونحو الآية قوله: «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الآية. (3) (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي والله الذي أرسل الرياح مبشّرات بقدوم الأمطار. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) الطهور اسم لما يتطهر به كالوقود لما توقد به النار والوضوء لما يتوضأ به، أي وأنزلنا من السحاب ماء تتطهرون به فى غسل ملابسكم وأجسامكم، وتنتفعون به فى طبخ مطاعمكم، وتشربونه عذبا فراتا. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى البحر «هو الطّهور ماؤه، والحل ميتته» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي وأنزلناه لنحيى به أرضا طال انتظارها للغيث، فهى هامدة لا نبات فيها، وبذلك الماء تزدهر بالشجر والنبات والأزهار، وذلك أشبه بالحياة للإنسان والحيوان. ونحو الآية قوله: «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» وقوله: «فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي وليشرب منه الحيوان والإنسان،

وأخر ذكر الإنسان عن النبات والحيوان لحاجته إليهما فى حياته، ولأنهم إذا ظفروا بماء يسقى أرضهم ومواشيهم لم يعدموا ما يكون منه سقياهم. (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي ولقد صرفنا المطر بين الناس على أوضاع شتى، فلا تمر ساعة فى ليل ولا نهار إلا كان فيه دليل على آثار قدرتنا، فننزله على قوم ونحجبه عن آخرين، فنحن صرفناه بينهم كما صرفنا الليل والنهار، فالشمس تجرى من عند قوم وتذهب إلى آخرين: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» . إلى أن الماء يكون جامدا يشبه الحجر، وسائلا يشبه الزيت وسائر المائعات، وحينا بخاريا يشبه الهواء، وهو أيضا غاد ورائح فى الجوّ وفى الأنهار وفى الغدران وفى أجسام النبات والحيوان والإنسان. (لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي صرّفناه بينهم، ليعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيشكروا، ولكن أكثر الناس أبوا إلا جحودا للنعمة، وكفرانا بخالقها. ثم بين منته على رسوله وأنه كلفه الأحمال الثقال من أعباء النبوة ليزداد شرفا ويعظم قدرا فقال: (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي ولو أردنا أن نرسل رسولا إلى أهل كل قرية لفعلنا وخفّت عنك أعباء النبوة، ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحملناك ثقل النذارة، لتستوجب بصبرك ما أعددناه لك من الكرامة والمنزلة الرفيعة، فقابل ذلك بشكر النعمة، وبالثبات والاجتهاد فى الدعوة وإظهار الحق كما قال: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» وجاء فى الصحيحين «بعثت إلى الأحمر والأسود» أي إلى العجم والعرب. والخلاصة- إنّا عظّمناك بهذا الأمر، وجعلناك مستقلا بأعبائه، لتحوز ما ادّخر لك من عظيم جزائه، وكبير مثوبته فعليك بالمجاهدة والمثابرة، ولا عليك من تلقّيهم الدعوة بالإعراض والمشاكسة. (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) أي فلا تطع الكافرين فيما

يدعونك إليه من موافقتهم على مذاهبهم وآرائهم، وجاهدهم بالشدة والعنف، لا بالملاينة والمداراة لتكسب ودّهم ومحبتهم، وعظهم بما جاء به القرآن من المواعظ والزواجر، وذكّرهم بأحوال الأمم المكذبة لرسلها، وذلك منتهى الجهاد الذي لا يقادر قدره. ونحو الآية قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» . والخلاصة- إنك مبعوث إلى الناس كافة، لتنذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم، فاجتهد فى دعوتك، ولا تتوان فيها، ولا تحفل بوعيدهم، فإن الله ناصرك عليهم ومظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون. (4) (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي ومن آثار نعمته على خلقه أن خلى البحرين متجاورين متلاصقين وجعلهما لا يمتزجان، ومنع الملح من تغيير عذوبة العذب وإفساده إياه، وحجزه عنه بقدرته، فكأن بينهما حاجزا يمنع أحدهما من إفساد الآخر، وكأن بينهما ساترا يجعله لا يبغى عليه. والخلاصة- إنه تعالى جعل البحرين مختلطين فى مرأى العين، منفصلين فى التحقيق بقدرته تعالى بحيث لا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح، ولا يتغير طعم أحدهما بالآخر ولا يفسده. ونحو الآية قوله فى سورة الرحمن: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» . (5) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) أي وهو الذي جعل الماء جزءا من مادة الإنسان، ليقبل الأشكال المختلفة، والأوضاع المنوّعة وقسمه قسمين ذوى نسب ينسب إليهم وهم الذكور، وذوات صهر يصاهر بهن وهن

[سورة الفرقان (25) : الآيات 55 إلى 62]

الإناث كما قال: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» وكان الله قديرا، إذ خلق من مادة واحدة بشرا عجيب الصنع، بديع الخلق، كبير العقل، عظيم التفكير، سخّر ما على ظاهر الأرض وباطنها لنفعه وفائدته «وَسَخَّرَ لَكُمْ ... ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» . [سورة الفرقان (25) : الآيات 55 الى 62] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) تفسير المفردات الظهير والمظاهر: المعاون فهو يعاون الشيطان على ربه: أي على رسوله بالعداوة، وسبح بحمده: أي ونزّهه وصفه بصفات الكمال، ويقال كفى بالعلم جمالا: أي حسبك، فلا تحتاج معه إلى غيره، والخبير بالشيء: العليم بظاهره وباطنه وبكل ما يتصل به، والبروج: منازل السيارات الاثني عشر المعروفة التي جمعها بعضهم فى قوله:

المعنى الجملي

حمل الثور جوزة السرطان ... ورعى الليث سنبل الميزان ورمى عقرب بقوس لجدّى ... نزح الدلو بركة الحيتان فهى الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت، وهى منازل الكواكب السيارة السبعة وهى: المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة: ولها الثور والميزان، وعطارد: وله الجوزاء والسنبلة، والقمر: وله السرطان، والشمس: ولها الأسد، والمشترى: وله القوس والحوت، وزحل: وله الجدى والدلو. وهى فى الأصل القصور العالية. فأطلقت عليها على طريق التشبيه، والسراج: الشمس خلفة: أي يخلف أحدهما الآخر ويقوم مقامه فيما ينبغى أن يعمل فيه. المعنى الجملي بعد أن بسط سبحانه أدلة التوحيد، وأرشد إلى ما فى الكون من باهر الآيات، وعظيم المشاهدات، التي تدل على بديع قدرته، وجليل حكمته- أعاد الكرة مرة أخرى، وبين شناعة أقوالهم وقبيح أفعالهم، إذ هم مع كل ما يشاهدون لا يرعوون عن غيّهم، بل هم عن ذكر ربهم معرضون، فلا يعظّمون إلا الأحجار والأوثان وما لا نفع فيه إن عبد، وما لا ضرّ فيه إن ترك، إلى أنهم يظاهرون أولياء الشيطان، ويناوثون أولياء الرحمن وإن تعجب لشىء فاعجب لأمرهم، فقد بلغ من جهلهم أنهم يضارّون من جاء لنفعهم وهو الرسول الذي يبشّرهم بالخير العميم إذا هم أطاعوا ربهم، وينذرهم بالويل والثبور إذا هم عصوه، ثم هو على ذلك لا يبتغى أجرا. ثم أمر رسوله بألا يرهب وعيدهم، ولا يخشى بأسهم، بل يتوكل على ربه، ويسبح بحمده، وينزهه عما لا يليق به من صفات النقص كالشريك والولد، وهو الخبير بأفعال عباده، فيجازيهم بما يستحقون.

الإيضاح

الإيضاح (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) أي ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله آلهة لا تنفعهم إذا هم عبدوها، ولا تضرهم إن تركوا عبادتها، فهم عبدوها لمجرد التشهي والهوى، وتركوا عبادة من أنعم عليهم بهذه النعم التي لا كفاء لأدناها، ومن ذلك ما ذكره قبل بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» إلى آخر الآيات. ثم ذكر لهم جرما آخر فقال: (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي وكانوا مظاهرين الشيطان، على معصية الرحمن، وذلك دأبهم وديدنهم، فهم يعاونون المشركين، ويكونون أولياء لهم على رسوله وعلى المؤمنين، بمساعدتهم على الفجور وارتكاب الآثام، وخذلان المؤمنين إذا أرادوا منعها والتنفير منها كما قال: «وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ» . وقد يكون المعنى- وكان الكافر على ربه هيّنا ذليلا لا قدر له ولا وزن له عنده من قول العرب: ظهرت به، أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه، ومنه قوله تعالى: «وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» أي هينا، وقول الفرزدق: تميم بن قيس لا تكونن حاجتى ... بظهر فلا يعيا علىّ جوابها قال ابن عباس نزلت الآية فى أبى الحكم بن هشام الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام. ثم بين عظيم حمقهم ونفورهم ممن جاء لجلب الخير لهم ودفع الأذى عنهم فقال: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي كيف تطلبون العون على الله ورسوله والله قد أرسل رسوله لنفعكم، إذ قد بعثه ليبشركم على فعل الطاعات، وينذركم على فعل المعاصي، فتستحقوا الثواب وتبتعدوا عن العقاب.

وخلاصة ذلك- لا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده فى إيذاء من يرجو نفعه فى دينه ودنياه. وفى هذا تسلية لرسوله حتى لا يحزن على عدم إيمانهم. ثم أمر رسوله أن يبين لهم أنه مع كونه يريد نفعهم لا يبغى لنفسه نفعا فقال: (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي قل لمن أرسلت إليهم: لا أسألكم على ما جئت به من عند ربى أجرا، فتقولوا إنما يدعونا ليأخذ أموالنا، ومن ثم لا نتبعه حتى لا يكون له فى أموالنا مطمع. (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي لكن من شاء منكم أن يتقرب إلى الله بالإنفاق فى الجهاد وغيره، ويتخذ ذلك سبيلا إلى رحمته ونيل ثوابه فليفعل. وخلاصة ذلك- لا أسألكم عليه أجرا لنفسى، وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم لنيل مثوبته ومغفرته. وبعد أن بين له أن الكافرين متظاهرون على إيذائه- أمره بالتوكل عليه فى دفع المضارّ وجلب المنافع فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي وتوكل على ربك الدائم الباقي رب كل شىء ومليكه، واجعله ملجأك وذخرك، وفوّض إليه أمرك، واستسلم له، واصبر على ما نابك فيه، فإنه كافيك وناصرك ومبلغك ما تريد، ونزّهه عما يقوله هؤلاء المشركون من الصاحبة والولد، فهو الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، كما تنزهه عن الأنداد والشركاء من الأصنام والأوثان فهو لا كفء له ولا ند: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» . وقد علمت قبل أن التوكل اعتماد العبد على الله فى كل الأمور، والأسباب وسائط أمرنا باتباعها من غير اعتماد عليها. ونحو الآية قوله: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .

وفى قوله: (الْحَيِّ) إيماء إلى أنه لا ينبغى أن يتوكل على من لم يتصف بالحياة من صنم أو وثن، ولا على من لا بقاء له ممن يموت، لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه. وحكى عن بعض السلف أنه قرأ هذه الآية فقال: لا ينبغى لذى لب أن يثق بعدها بمخلوق. ثم أنذرهم وحذّرهم بأن ربهم محص أعمالهم عليهم، ومجازيهم عليها يوم القيامة فقال: (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي وحسبك بالحي الذي لا يموت خبيرا بذنوب خلقه ما ظهر منها وما بطن، فهو لا يخفى عليه شىء منها، وهو محصيها عليهم ومجازيهم عليها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلا عليك إن آمنوا أو كفروا. وفى هذا ساوة لرسوله، ووعيد لأولئك الكافرين على سوء أفعالهم، وإعراضهم عن اتباع رسوله ومناصبته العداء، وكأنه قيل: إذا أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه فى مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة. ثم وصف نفسه بذكر أفعاله التي تجعله حقيقا أن يتوكّل عليه فقال: (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم إيضاح هذا فى سور يونس وهود وطه، ولكن يلاحظ هنا أنه تعالى وصف نفسه بالأبدية والعلم الشامل، ثم بخلق السموات والأرض ليقرر وجوب التوكل عليه ويؤكده، فإن من أحدث هذه الأجرام العظيمة على ذلك النمط البديع وجعلها مرفوعة بغير عمد فى تلك الأيام، وقد كان قديرا على إبداعها دفعة واحدة بقدرته التي لا تقف على كنهها العقول- جدير بأن يتوّكل عليه ويفوّض أمره إليه. (الرَّحْمنُ) أي عظيم الرحمة بكم، والحدب عليكم، فلا تعبدوا إلا إياه ولا تتوكلوا إلا عليه. وخلاصة ذلك- توكلوا على من لا يموت وهو رب كل شىء وخالقه وخالق السموات السبع على ارتفاعها واتساعها وما فيها من عوالم لا يعلم كنهها إلا هو، وخالق

الأرضين السبع على ذلك الوضع البديع فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ويقضى بالحق. (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي فاسأل عن خلق ما ذكر خبيرا به يخبرك بحقيقته وهو الله سبحانه، لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، فالأيام التي ثم فيها الخلق إنما هى أطوار ستة سار عليها طورا بعد طور وحالا بعد أخرى كما يرشد إلى ذلك قوله: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» والاستواء على العرش لا يراد به الجلوس عليه بل تمام التصرف فيه. فمن كان محدود الفكر فليقف عند ظاهر اللفظ ويترك البحث فيه، ومن كان حصيف الرأى طليق الفكر فليجدّ فى البحث والدرس وسؤال أهل الذكر من العلماء ليعلم المراد من ذلك على قدر ما تصل إليه طاقة البشر. وبعد أن ذكر سبحانه إحسانه إليهم وإنعامه عليهم ذكر ما أبدوه من الكفر فى موضع الشكر فقال: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟) أي وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم: اجعلوا خضوعكم وتعظيمكم للرحمن خالصا دون الآلهة والأوثان، قالوا على طريق التجاهل: وما الرحمن؟ أي نحن لا نعرف الرحمن فنسجد له. ونحو هذا قول فرعون: «وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» حين قال له موسى عليه السلام: «إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» وهو قد كان عليما به كما يؤذن بذلك قول موسى له: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ» . ثم عجبوا أن يأمرهم بذلك وأنكروه عليه بقولهم: (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟) أي أنسجد للذى تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه. ثم بين أنه كلما أمرهم بعبادته ازدادوا عنادا واستكبارا فقال:

(وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وبعدا مما دعوا إليه، وقد كان من حقه أن يكون باعثا لهم على القبول ثم الفعل. وكان سفيان الثّورى يقول فى هذه الآية: إلهى زدنى لك خضوعا، ما زاد عداك نفورا. روى الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا فى ناحية المسجد مستهزئين. وبعد أن حكى عنهم مزيد النفرة من السجود له، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود لمن له تلك الخصائص فقال: (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) أي تقدس ربنا الذي جعل فى السماء نجوما كبارا عدها المتقدمون نحو ألف وعدها علماء العصر الحاضر بعد كشف آلات الرصد الحديثة (التلسكوبات) أكثر من مائتى ألف ألف ولا يزال البحث يكشف كل حين منها جديدا، وجعل فيها شمسا متوقدة وقمرا مضيئا. ثم ذكر آية أخرى من آيات قدرته وفيها الدليل على وحدانيته فقال: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي وهو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر، فيكون فى ذلك عظة لمن أراد أن يتعظ باختلافهما ويتذكر آلاء الله فيهما ويتفكر فى صنعه، أو أراد أن يشكر نعمة ربه ليجنى ثمار كل منهما، إذ لو جعل أحدهما دائما لفاتت فوائد الآخر، ولحصلت السآمة والملل، وفتر العزم الذي يثيره دخول وقت الآخر إلى نحو أولئك من الحكم التي أحكمها العلى الكبير. وفى الحديث الصحيح: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل» . وعن الحسن: من فاته عمل من التذكر والشكر بالنهار كان له فى الليل مستعتب،

[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 إلى 77]

ومن فاته بالليل كان له فى النهار مستعتب. وروى أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى فقيل له: صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه! فقال: إنه بقي علىّ من وردى شىء فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا هذه الآية: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» إلخ. [سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 77] وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الهون: الرفق واللين والمراد أنهم يمشون فى سكينة ووقار، ولا يضربون بأقدامهم أشرا وبطرا، الجاهلون: أي السفهاء، سلاما: أي سلام توديع ومتاركة لا سلام تحية كقول إبراهيم لأبيه: «سَلامٌ عَلَيْكَ» ويبيتون: أي يدركهم الليل ناموا أو لم يناموا كما يقال بات فلان قلقا، غراما: أي هلاكا لازما، قال الأعشى: إن يعاقب يكن غراما وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالى والإسراف: مجاوزة الحد فى النفقة بالنظر لنظرائه فى المال، والتقتير: التضييق والشح، قواما: أي وسطا وعدلا لا يدعون: أي لا يشركون، والآثام: الإثم والمراد جزاؤه، مهانا: أي ذليلا مستحقرا، لا يشهدون الزور: أي لا يقيمون الشهادة الكاذبة والمراد أنهم لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، واللغو ما ينبغى أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه، كراما: أي مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه، والخرور: السقوط على غير نظام وترتيب، وقرة العين: يراد بها الفرح والسرور، والإمام: يستعمل للمفرد والجمع والمراد الثاني أي أئمة يقتدى بهم فى إقامة مراسم الدين، والغرفة: كل بناء عال مرتفع ويراد بها الدرجات الرفيعة، ما يعبأ بكم: أي لا يعتدبكم، دعاؤكم: أي عبادتكم، لزاما: أي لازما يحيق بكم حتى يكبكم فى النار. المعنى الجملي بعد أن وصف الكافرين بالإعراض عن عبادته، والنفور من طاعته، والسجود له عز اسمه- ذكر هنا أوصاف خلص عباده المؤمنين، وبين ما لهم من فاضل الصفات، وكامل الأخلاق، التي لأجلها استحقوا جزيل الثواب من ربهم، وأكرم لأجلها مثواهم وقد عدّ من ذلك تسع صفات مما تشرئب إليها أعناق العاملين، وتتطلع إليها نفوس الصالحين، الذين يبتغون المثوبة ونيل النعيم كفاء ما اتصفوا من كريم الخلال، وأتوا به من جليل الأعمال.

الإيضاح

الإيضاح وصف الله سبحانه عباده المخلصين الذين استوجبوا المثوبة منه وجازاهم على ذلك الجزاء بصفات تسع: (1) (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي وعباد الله الذين حق لهم الجزاء والمثوبة من ربهم هم الذين يمشون فى سكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم كبرا، ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا. روى أن عمر رضى الله عنه رأى غلاما يتبختر فى مشيته فقال: إن البخترة مشية تكره إلا فى سبيل الله، وقد مدح الله أقواما فقال: (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فاقصد فى مشيتك. وقال ابن عباس: هم المؤمنون الذين يمشون علماء حلماء ذوى وقار وعفة. وفى الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البرّ ليس فى الإيضاع» (السير السريع) وفى صفته صلى الله عليه وسلم: إنه كان إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشى هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب (التقلع: رفع الرجل بقوة، والتكفؤ: الميل إلى سنن القصد، والهون: الرفق والوقار، والذريع: الواسع الخطا) أي إنه كان يرفع رجله بسرعة فى مشيه ويمد خطوه خلاف مشية المختال وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة ومن ثم قيل كأنما ينحط من صبب قاله القاضي عياض فى الشفاء. وخلاصة هذا- إنهم لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علوّا فى الأرض ولا فسادا. (2) (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) أي وإذا سفه عليهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما.

وعن الحسن البصري: هم حلماء لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا ولم يسفهوا، هذا نهارهم فكيف ليلهم؟ خير ليل، صفّوا أقدامهم، وأجروا دموعهم، يطلبون إلى الله جل ثناؤه فكاك رقابهم. قال ابن العربي: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أندية المشركين ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم. ولما ذكر تعالى ما بينهم وبين الخلق ذكر ما بينهم وبينه فقال: (3) (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) أي والذين يبيتون ساجدين قائمين لربهم أي يحيون الليل كله أو بعضه بالصلاة، وخص العبادة بالبيتوتة، لأن العبادة بالليل أحمص وأبعد عن الرياء، وقال ابن عباس: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا قائما: وقال الكلبي: من أقام ركعتين بعد المغرب وأربعا بعد العشاء فقد بات ساجدا قائما. ونحو الآية قوله: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» وقوله: «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وقوله: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» . (4) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) أي والذين يدعون ربهم أن يضرف عنهم عذاب جهنم وشديد آلامها. وفى هذا مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم للخلق واجتهادهم فى عبادة الخالق وحده لا شريك له، يخافون عذابه ويبتهلون إليه فى صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كما قال فى شأنهم: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» . ثم بين أن سبب سؤالهم ذلك لوجهين: (ا) (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي إن عذابها كان هلاكا دائما، وخسرانا ملازما.

(ب) (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي إنها بئس المنزل مستقرا وبئس المقيل مقاما: أي إنهم يقولون ذلك عن علم، وإذا فهم أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النّجح. قال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم، وقال محمد بن كعب: طالبهم الله تعالى بثمن النعيم فى الدنيا فلم يأتوا به، فأخذ ثمنه بإدخالهم النار. (5) (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي والذين هم ليسوا بالمبذّرين فى إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا ببخلاء على أنفسهم وأهليهم فيقصّرون فيما يجب نحوهم، بل ينفقون عدلا وسطا، وخير الأمور أوسطها، وقد قيل: ولا تغل فى شىء من الأمر واقتصد ... كلا طرفى قصد الأمور ذميم وقيل: إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل قال يزيد بن أبى حبيب: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثيابا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقوّيهم على عبادة ربهم، ومن اللباس ما يستر عوراتهم، ويكفهم من الحر والبرد، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ قال عمر: الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية، وقال لابنه عاصم: يا بنى كلّ فى نصف بطنك، ولا تطرح ثوبا حتى تستخلقه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله فى بطونهم وعلى ظهورهم. (6) (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر فيشركون فى عبادتهم إياه، بل يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة.

(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ولا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها، كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، وقتل النفس بغير حق. (وَلا يَزْنُونَ) فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج. روى البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أىّ الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت ثم أىّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أىّ؟ قال أن تزانى حليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) الآية. وقد نفى عنهم هذه القبائح مع أنه وصفهم بالصفات السالفة من حسن معاملتهم للناس ومزيد خوفهم من الله وإحياء الليل يقتضى نفيها عنهم، تعريضا بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم، وتنبيها إلى الفرق بين سيرة المؤمنين وسيرة المشركين، فكأنه قيل: وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلها آخر وأنتم تدعون، ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموءودة، ولا يزنون وأنتم تزنون. روى مسلم عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا، إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ونزل: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» الآية: وقد قال ابن عباس وسعيد بن جبير إن هذه نزلت فى وحشي قاتل حمزة. ثم توعد سبحانه من يفعل مثل هذه الأفعال بشديد العقاب فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) أي ومن يفعل خصلة من خصال الفجور السالفة، يلق فى الآخرة جزاء إثمه وذنبه

الذي ارتكبه، بل سيضاعف له ربه العذاب يوم القيامة ويجعله خالدا أبدا فى النار مع المهانة والاحتقار، فيجتمع له العذاب الجسمى والعذاب الروحي. وبعد أن أتم تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه بترغيب الأبرار فى التوبة والرجوع إلى حظيرة المتقين فيفوزون بجنات النعيم فقال: (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لكن من رجع عن هذه الآثام مع إيمانه وعمله الصالحات فألئك يمحو الله سوابق معاصيه بالتوبة ويثبت له لواحق طاعته. قال الحسن: قال قوم هذا التبديل فى الآخرة وليس كذلك. وقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن السيئات تبدل بحسنات» ، وروى معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» . والخلاصة- إنه يعفو عن عقابه، ويتفضل بثوابه، والله واسع المغفرة لعباده، فيثيب من أناب إليه بجزيل الثواب، ويبعد عنه شديد العقاب. (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً) أي ومن تاب عن المعاصي التي فعلها، وندم على ما فرط منه، وزكى نفسه بصالح الأعمال، فإنه يتوب إلى الله توبة نصوحا، مقبولة لديه، ماحية للعقاب، محصلة لجزيل الثواب، إلى أنه ينير قلبه بنور من عنده يهديه إلى سواء السبيل، ويوفقه للخير، ويبعده عن الضير. وفى هذا تعميم لقبول التوبة من جميع المعاصي بعد أن ذكر قبولها من أمهاتها. (7) (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي والذين لا يؤدون الشهادات الكاذبة، ولا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو وما لا خير فيه كاللغو فى القرآن وشتم الرسول والخوض فيما

لا ينبغى، وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، (يطليه بمادة سوداء) ويحلق رأسه ويطوف به السوق. ونحو الآية قوله: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» . (8) (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي والذين إذا ذكّروا بها أكبوا عليها سامعين بآذان واعية، مبصرين بعيون راعية. وفى هذا تعريض بما عليه الكفار والمنافقون الذين إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به ولم يتحولوا عما كانوا عليه، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم، وجهلهم وضلالهم، فكأنهم صمّ لا يسمعون، وعمى لا يبصرون. (9) (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي والذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له- وصادق الإيمان إذا رأى أهله قد شاركوه فى الطاعة قرت بهم عينه، وسر قلبه، وتوقّع نفعهم له فى الدنيا حيا وميتا، وكانوا من اللاحقين به فى الآخرة ويسألون أيضا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم فى إقامة مراسم الدين بما يفيض عليهم من واسع العلم، وبما يوفقهم إليه من صالح العمل. روى مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به من بعده، وصدقة جارية» . والخلاصة- إنهم طلبوا من ربهم أمرين- أن يكون لهم من أزواجهم وذرياتهم من يعبدونه فتقربهم أعينهم فى الدنيا والآخرة وأن يكونوا هداة مهتدين، دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر. ولما بين سبحانه صفات المتقين المخلصين ذكر إحسانه إليهم بقوله:

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي أولئك المتصفون بصفات الكمال، الموسومون بفضائل الأخلاق والآداب، يجزون المنازل الرفيعة، والدرجات العالية، بصبرهم على فعل الطاعات، واجتنابهم للمنكرات، ويبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويلقّون التوفير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام. ونحو الآية قوله: «والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار» . ثم بين أن هذا النعيم دائم لهم لا ينقطع فقال: (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي مقيمين فيها لا يظعنون ولا يموتون، حسنت منظرا، وطابت مقيلا ومنزلا. ونحو الآية قوله: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» . ولما شرح صفات المتقين وأثنى عليهم أمر رسوله أن يقول لهم: (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ) أي قل لهؤلاء الذين أرسلت إليهم: إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون، إنما نالوها بما ذكر من تلك المحاسن، ولولاها لم يعتد بهم ربهم، ومن ثم لا يعبأبكم إذا لم تعبدوه، فما خلق الإنسان إلا ليعبد ربه ويطيعه وحده لا شريك له كما قال: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» . (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي أما وقد خالفتم حكمى، وعصيتم أمرى، ولم تعملوا عمل أولئك الذين ذكروا من قبل وكذبتم رسولى، فسوف يلزمكم أثر تكذيبهم، وهو العقاب الذي لا مناص منه، فاستعدوا له، وتهيئوا لذلك اليوم، فكل آت قريب. وخلاصة ذلك- لا يعتد بكم ربى لولا عبادتكم إياه، أما وقد قصر الكافرون منكم فى العبادة، فسيكون تكذيبهم مفضيا لعذابهم وهلاكهم فى الدنيا والآخرة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصل ربنا على محمد وآله.

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الأحكام

خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الأحكام اشتملت هذه السورة على عدة مقاصد: (1) إثبات النبوة والوحدانية، والنعي على عبدة الأصنام والأوثان، وإثبات البعث والنشور وجزاء المكذبين بذلك مع ذكر شبهاتهم التي قالوها فى النبي صلى الله عليه وسلم وفى القرآن ثم تفنيدها. (2) قصص بعض الأنبياء السالفين وتكذيب أممهم لهم ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر. (3) العجائب الكونية من مدّ الظل وجعل الليل لباسا وجعل النهار معاشا وإرسال الرياح مبشرات بالأمطار ومروج البحرين: العذب الفرات، والملح الأجاج، وجعل البروج فى السماء، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا. (4) الأخلاق والآداب من قوله: وعباد الرحمن إلى آخر السورة.

سورة الشعراء

سورة الشعراء هى مكية نزلت بعد سورة الواقعة إلا آية 197 ومن 224 إلى آخر السورة فمدنية وآيها 227. وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطانى السبع الطوال مكان التوراة، وأعطانى المئين مكان الإنجيل، وأعطانى الطواسين مكان الزبور، وفضّلنى بالحواميم والمفصّل، ما قرأهن نبىّ قبلى» . ومناسبتها ما قبلها من وجوه: (ا) إن فيها بسطا وتفصيلا لبعض ما ذكر فى موضوعات سالفتها. (ب) إن كلتيهما قد بدئت بمدح الكتاب الكريم. (ح) إن كلتيهما ختمت بإبعاد المكذبين. [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لعل: هنا للاستفهام الذي يراد به الإنكار، وقال العسكري: إنها للنهى، وباخع نفسك: أي مهلكها من شدة الحزن، قال ذو الرمة: ألا أيها الباخع الوجد نفسه ... لشىء تحته عن يديه المقادر وأصل البخع: أن تبلغ بالذّبح البخاع (بكسر الباء) وهو عرق مستبطن فقار الرقبة، وذلك يكون من المبالغة فى الذبح، والأعناق: الجماعات، يقال جاءت عنق الناس: أي جماعة منهم، وذكر: أي موعظة، والمراد بالأنباء ما سيحل بهم من العذاب، وزوج: أي صنف، والكريم من كل شىء: المرضىّ المحمود منه. الإيضاح (طسم) تقدم أن بيّنا أن المراد بمثل هذه الحروف المقطعة فى أوائل السور التنبيه، فهى أشبه بألا ونحوها من حروف التنبيه، ويا التي للنداء، وتقرأ بأسمائها فيقال طا- سين- ميم. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات القرآن البين الواضح الذي يفصل بين الحق والباطل، والغىّ والرشاد. (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي أقاتل نفسك أسفا وحزنا على ما فاتك من إسلام قومك وخوفك ألا يؤمنوا؟ وقد يكون المعنى- لا تبخع نفسك ولا تهلكها أسى وحسرة على إيمانهم. ونحو الآية قوله: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» وقوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» . ثم بين سبب النهى عن البخع بقوله: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي لو شئنا

أن ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه كما نتقنا الجبل فوق قوم موسى حتى صار كالظّلّة فصار جماعاتهم خاضعين منقادين لها كرها- لفعلنا، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان اختياريا لا قسريا كما قال: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» . ومن ثم نفذ قدرنا، ومضت حكمتنا، وقامت حجتنا، على الخلق بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم. والخلاصة- إن القرآن وإن بلغ فى البيان الغاية غير موصّل لهم إلى الإيمان، فلا تبالغ فى الأسى والحزن، فإنك إن فعلت ذلك كنت كمن يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك، فكما أن الكتاب على وضوحه لم يفدهم شيئا، فحزنك عليهم لا يجدى نفعا، وقد كان فى مقدورنا أن نلجئهم إلى الإيمان إلجاء، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان طوعا لا كرها، ومن جراء هذا أرسلنا رسلنا بالعظات والزواجر، وأنزلنا الكتب لتهديهم إلى سواء السبيل، لكنهم ضلوا وأضلوا، وما ربك بظلام للعبيد. ثم بين شدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والضلال بغير الآيات الملجئة تأكيد الصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم فقال: (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أي وما يجىء هؤلاء المشركين الذين يكذبونك ويجحدون ما أتيتهم به- ذكر من عند ربك لتذكرهم به إلا أعرضوا عن استماعه وتركوا إعمال الفكر فيه ولم يوجهوا همهم إلى تدبره وفهم أسراره ومغازيه، وما كان أحراهم بذلك وهم أهل الذّكن والفطنة، ولكن طمس الله على قلوبهم فأكثرهم لا يعقلون. وخلاصة ذلك- إنه لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض ذلك من إعراض وتكذيب واستهزاء. ثم أكد إعراضهم بقوله:

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فقد كذب هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله، ثم انتقلوا من التكذيب إلى الاستهزاء، وسيحل بهم عاجل العذاب وآجله فى الدنيا والآخرة كما قال: «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» وقال: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» . ونحو الآية قوله: «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . وقصارى ذلك- إنهم كذبوا بما جئتهم به من الحق، وإنه سيأتيهم لا محالة صدق ما كانوا يستهزئون به من قبل بلا تدبر ولا تفكير فى العاقبة. وبعد أن بين أنهم أعرضوا عن الآيات المنزلة من عند ربهم- ذكر أنهم أعرضوا عن الآيات التي يشاهدونها فى الآفاق فقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ؟) أي أهم أصروا على ما هم عليه من الكفر بالله وتكذيب رسوله ولم يتأملوا فى عجائب قدرته ولم ينظروا فى الأرض وكثرة ما فيها من أصناف النبات المختلفة الأشكال والألوان مما يدل على باهر القدرة وعظيم سلطان ذلك العلى الكبير؟ والخلاصة- كيف اجترءوا على مخالفة الرسول وتكذيب كتابه، وإلهه هو الذي خلق الأرض وأنبت فيها الزرع والثمار والكروم على ضروب شتى وأشكال مختلفة تبهر الناظرين وتسترعى أنظار الغافلين. ثم بين أنهم قوم فقدوا وسائل الفكر، وعدموا التأمل والنظر فى الأكوان، ومن ثمّ فهم جاحدون فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن فى ذلك الإنبات على هذه الأوضاع البديعة لدلالات لأولى الألباب على قدرة خالقه على البعث والنشور، فإن من أنبت الأرض بعد جدبها وجعل فيها الحدائق الغناء والأشجار الفيحاء لن يعجزه أن ينشر فيها الخلائق من قبورهم، ويعيدهم سيرتهم الأولى، ولكن أكثر الناس غفلوا

[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 إلى 22]

عن هذا، فجحدوا بها وكذبوا بالله ورسله وكتبه، وخالفوا أوامره، واجترحوا معاصيه، ولله در القائل: تأمل فى رياض الورد ونظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات ... على أهدابها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك والخلاصة- إن فى هذا وأمثاله لآية عظيمة، وعبرة جليلة، دالة على ما يجب الإيمان به، ولكن ما آمن أكثرهم مع موجبات الإيمان، بل تمادوا فى الكفر والضلالة، وانهمكوا فى الغى والجهالة. وفى هذا ما لا يخفى من تقبيح حالهم، وبيان سوء مآلهم. ثم بشره بنصره وتأييده وغلبته لأعدائه وإظهاره عليهم فقال: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك أيها الرسول الكريم لهو الغالب على أمره والقادر على كل ما يريد، وسينتقم لك من هؤلاء المكذبين على تكذيبهم بك وإشراكهم بي وعبادتهم للأوثان والأصنام، وهو ذو الرحمة الواسعة بمن تاب من كفره ومعصيته، فلا يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته بل يغفر له حوبته. والخلاصة- إن ربك عزّ كل شىء وقهره، ورحم خلقه، فلا يعجل بعقاب من عصاه، بل يؤجله وينظره لعله يرعوى عن غيه، فإن تمادى أخذه أخذ عزيز مقتدر. قصص موسى عليه السلام [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه سوء حال المشركين وشدة عنادهم وقبيح لجاجهم- سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم وأنه ليس بالأوحد فى الأنبياء المكذبين، فقد كذّب موسى من قبلك على ما أتى به من باهر الآيات، وعظيم المعجزات، ولم تغن الآيات والنذر فحاق بالمكذبين ما كانوا به يستهزئون، وأخذهم الله بذنوبهم وأغرقهم فى اليم جزاء اجتراحهم للسيئات، وتكذيبهم بعد ظهور المعجزات، وما ربك بظلام للعبيد. الإيضاح (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام من جانب الطور الأيمن، وأمره له بالذهاب إلى أولئك القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي، والظالمين لبنى إسرائيل باستعبادهم

وذبح أبنائهم- قوم فرعون ذى الجبروت والطغيان، والعتوّ والبهتان، ليكون لهم فى ذلك عبرة لو تذكروا، فيرعووا عن غيهم، ويثوبوا إلى رشدهم، حتى لا يحيق بهم ما حاق بأولئك المكذبين من قبلهم، إذ ابتلعهم اليم وأغرقوا جميعا. ولا شك أن الأمر بذكر الوقت إنما هو ذكر لما جرى فيه كما أسلفنا من قبل. ثم أتبع ذكر إرساله عليه السلام إنذارهم وتسجيل الظلم عليهم وتعجيب موسى من حالهم التي بلغت غاية الشناعة ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله فقال: (أَلا يَتَّقُونَ؟) أي قال الله لموسى: ألا يتقى هؤلاء القوم ربهم ويحذرون عاقبة بغيهم وكفرهم به. فأجاب موسى عن أمر ربه الإتيان إليهم متضرعا إليه: (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أي قال موسى: رب إنى أخاف تكذيبهم إياى، فيضيق صدرى تأثرا منه ولا ينطلق لسانى بأداء الرسالة، بل يتلجلج بسبب ذلك، كما يرى أن كثيرا من ذوى اللسن والبلاغة إذا اشتد بهم الغم وضاق منهم الصدر تلجلجت ألسنتهم حتى لا تكاد تبين عن مقصدهم. وفى هذا تمهيد العذر فى استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه، فإن ما ذكر ربما أوجب الإخلال بالدعوة، وعدم إلزام الحجة ومن ثم قال: (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي فأرسل جبريل عليه السلام إلى هرون، واجعله نبيا، وآزرنى به واشدد به عضدى، فبإرساله تحصل أغراض الرسالة على أتم وجه. ثم ذكر سببا آخر فى الحاجة إلى طلب العون وهو خوفه أن يقتل قبل تبليغ الرسالة فقال: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي ولهم علىّ تبعة جرم بقتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكز بها، فأخاف إن أنا جئتهم وحدى أن يقتلونى من جرّاء ذلك- وهذا اختصار لما بسط من القصة فى موضع آخر.

ومقصده عليه السلام بهذا طلب دفع بلوى قتله، خوف فوت أداء الرسالة ونشرها بين الملأ كما هو دأب أولى العزم من الرسل، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع مثل هذا حتى نزل قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» . وفى هذا إيماء إلى أن الخوف قد يحصل من الأنبياء كما يحصل من غيرهم. والخلاصة- إن موسى طلب من ربه أمرين: دفع الشر عنه، وإرسال هرون معه، فأجابه إليهما. (قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي قال له: لا تخف من شىء من ذلك، فاذهب أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتكما به مؤيّدين بآياتنا الدالة على صدقكما، وإنى ناصركما ومعينكما عليه، وهذا كقوله: «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» . (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فأتياه وقولا له: إن الله أرسلنا إليك لتطلق سبيل بنى إسرائيل وتخلّيهم وشأنهم، ليذهبوا إلى الأرض المقدسة موطن الآباء والأجداد التي وعدنا الله بها على ألسنة رسله، وكانوا قد استعبدوا أربعمائة سنة. قال القرطبي: فانطلقا إلى فرعون فلم يأذن لهما سنة فى الدخول عليه اهـ. ووحّد الرسول هنا ولم يثنه كما جاء فى قوله: «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» لأن رسولا يستعمل للمفرد وغيره كما قال الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسرّ ولا أرسلتهم برسول كما يستعمل كذل عدوّ وصديق كما جاء فى قوله: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» . فأجابه فرعون على وجه التفريع والازدراء وذكر أمرين كما حكى سبحانه عنه: (1) (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك ستين؟) أي أبعد أن ربيناك فى بيوتنا ولم نقتلك فى جملة من قتلنا، وأنعمنا عليك بنعمنا ردحا من الزمن تقابل الإحسان بكفران النعمة، وتواجهنا بمثل تلك المقالة؟. روى أنه لبث فيهم ثمانى عشرة سنة، وقيل ثلاثين سنة.

(2) (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وقتلت ذلك القبطي الذي وكزته وهو من خواصى، فكنت من الجاحدين لنعمتى عليك من التربية والإحسان إليك. وخلاصة ما سلف- إنه عدد نعماءه عليه أولا من تربيته وإبلاغه مبلغ الرجال ثم بتوبيخه بما جرى على يديه من قتل خبازه وهو من خواصه، وهو بهذا أيضا يكون قد كفر نعمته وجحد فضله. فأجاب موسى عن الأمر الثاني، وترك أمر التربية، لأنها معلومة مشهورة، ولا دخل لها فى توجيه الرسالة، فإن الرسول إذا كان معه حجة ظاهرة على رسالته تقدم بها إلى المرسل إليهم، سواء أكانوا أنعموا عليه أم لم ينعموا. (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قال موسى مجيبا فرعون: فعلت هذه الفعلة التي ذكرت وهى قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الجاهلين بأن وكزني تأتى على نفسه، فإنى إنما تعمدت الوكز للتأديب، فأدى ذلك إلى القتل. (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي فخرجت هاربا منكم حين توقعت مكروها يصيبنى حين قيل لى: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» فوهب لى ربى علما بالأشياء على وجه الصواب، وجعلنى من المرسلين من قبله لهداية عباده وإرشادهم إلى النجاة من العذاب. وخلاصة ما قال- إن القتل الذي توبخنى به لم يكن مقصودا لى، بل كنت أريد بوكزه التأديب فحسب، فلا أستحق التخويف الذي أوجب فرارى، وإن أنتم أسأتم إلىّ فقد أحسن إلىّ ربى فوهب لى فهم الأمور على حقائقها وجعلنى من زمرة عباده المخلصين. ثم بين له أنه وإن أسدى النعمة إليه فقد أساء إلى شعبه عامة فقال: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يقال عبّدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا، وتمنّ من المنة بمعنى الإنعام: أي وما أحسنت إلىّ وربيتنى إلا وقد أسأت إلى بنى إسرائيل جملة، فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم فى أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 إلى 31]

وخلاصة ذلك- أفيفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسأت به إلى مجموعهم؟ فهو ليس بشىء إذا قيس بما فعلته بالشعب أجمع، وكأنه قال: إن هذا ليس بنعمة، لأن الواجب عليك ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومى، فكيف تذكر إحسانك إلىّ على الخصوص، وتنسى استعباد الشعب كله. [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 31] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) الإيضاح لما دخل موسى وهرون على فرعون وقالا له: إنا رسولا رب العالمين أرسلنا إليك لهدايتك إلى الحق وإرشادك إلى طريق الرشد، وغلباه بالحجة رجع إلى معارضة موسى فى قوله: َسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» . (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) أي قال لموسى: إنك تدّعى أنك رسول من رب العالمين فما هو؟ إذ كان قد قال لقومه: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» . فأجابه موسى عن سؤاله: (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي قال: رب العالمين هو خالق العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم

السفلى وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوان ونبات وما بين ذلك من هواء وطير، إن كانت لكم قلوب موفقة، وأبصار نافذة. حينئذ عجب فرعون من كلام موسى والتفت إلى الملأ حوله معجّبا لهم من ذلك المقال. (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ؟) أي التفت فرعون إلى الملأ والرؤساء من حوله وقال لهم على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تعجبون من مقالته وزعمه أن لكم إلها غيرى؟ ثم زاد موسى وصف إلههم إيضاحا وبيانا. (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي قال: إنه هو خالقكم وخالق من قبلكم من آبائكم وأجدادكم. وقد انتقل بهم موسى من النظر فى الآفاق وما فيها من باهر الأدلة إلى النظر فى الأنفس وما فيها من عجيب الصنع، فإن التناسل المستمر فى النبات والحيوان والإنسان وما فيها من العجائب لأوضح دلالة من النظر فى الآفاق. ولما لم يستطع ردا لما جاء به أورد ما يشككّ قومه فى حسن تقديره للأمور وفهمه لما يقول: (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أي قال فرعون لقومه: إن رسولكم لا عقل له، إذ يقول قولا لا نعرفه ولا نفهمه، فهو يدّعى أن ثمّة إلها غيرى. ثم وصف موسى الإله بأنه. خالق الأكوان، ورب الزمان والمكان. (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قال موسى: إن ربكم هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها مع انتظام مداراتها، وتغير المشارق والمغارب كل يوم، إن كان لكم عقول تفقهون بها ما يقال لكم، وتسمعون بها ما تسمعون، إذ فى كل

ذلك أدلة على أن هناك إلها مصوّرا صوّر هذه العوالم كلها وأبدعها وزيّنها ورتبها ونظّمها على أحسن النظم. وقد لاينهم أوّلا وعاملهم بالرفق حيث قال لهم: إن كنتم موقنين، ثم لما رأى شدة شكيمتهم خاشنهم وأغلظ لهم فى الرد وعارضهم بمثل مقالهم بقوله إن كنتم تعقلون، لأنه أوفق بما قبله من رد نسبة الجنون إليه. ولما قامت الحجة على فرعون عدل إلى القهر واستعمال القوة ولبس لموسى جلد التمر كما حكى سبحانه عنه. (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي قال له: لأجعلنّك فى زمرة الذين فى سجونى على ما تعلم من فظاعة أحوالها، وشديد أهوالها، وكانت سجونه أشد من القتل، لأنه إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت، وكان يطرحه فى هوّة عميقة تحت الأرض وحده، وفى توعده بالسجن ضعف منه، لما يروى أنه كان يفزع من موسى فزعا شديدا. وحينئذ اضطر موسى أن يترك الأدلة العقلية وراءه ظهريّا، ويلجأ إلى المعجزات، وخوارق العادات. (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟) أي أتفعل هذا ولو جئتك بحجة بينة على صدق دعواى، وهى المعجزة الدالة على وجود الإله القادر وحكمته، وعلى صدق دعوى من ظهرت على يديه. وحين سمع فرعون هذا الكلام من موسى. (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فى دعوى الرسالة، فإن من يدّعى النبوة لا بد له من حجة على صدق ما يدعى، وقد أمره بذلك ظنا منه أنه يقدر على معارضته.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 إلى 37]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 37] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) تفسير المفردات مبين: أي ظاهر أنه ثعبان بلا تمويه ولا تخييل كما يفعل السحرة، الملأ: أشراف القوم، عليم: أي خبير بفن السحر حاذق فى تلك الصنعة، فماذا تأمرون؟ أي فبم تشيرون، أرجه وأخاه: أي أخر أمرهما ولا تباغتهما بالقتل خيفة الفتنة، حاشرين: أي اجعل رجال الشرطة يحشرون السحرة. الإيضاح (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي فبعد أن قال له فرعون مقالته ألقى عصاه فإذا هى ثعبان واضح لا لبس فيه، ولا تخييل ولا تمويه، وقد روى أنها لما صارت حية ارتفعت فى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، فقال: بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت. وقد جاء فى آية أخرى «كَأَنَّها جَانٌّ» والجان الصغير من الحيات، تشبيها لها به من جراء الخفة والسرعة. ولما أتى موسى بهذه الآية قال له فرعون: هل هناك غيرها؟ قال نعم. (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي وأدخل يده فى جيبه ثم أخرجها فإذا هى تضىء الوادي من شدة نورها، وكأنها فلقة قمر، قال ابن عباس: أخرج موسى يده من جيبه فإذا هى بيضاء تلمع للناظرين، لها شعاع كشعاع الشمس يكاد يعشى الأبصار ويسدّ الأفق.

ولما رأى فرعون هذه الحجج بادر بالتكذيب والعناد وذكره لأشراف قومه أمورا ثلاثة: (1) (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي قال لرؤساء دولته وأشراف قومه الذين حوله ليروّج عليهم بطلان ما يدّعيه موسى: إن هذا الرجل لبارع فى السحر حاذق فى الشعوذة، ومراده من هذا أن ما ظهر على يديه إنما هو من قبيل السحر لا من وادي المعجزات. ثم هيّجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به والتنفير منه بقوله: (2) (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) أي يريد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا السحر، فيكثر أعوانه وأتباعه، ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم. (3) (فَماذا تَأْمُرُونَ) أي فأشيروا علىّ ماذا أصنع؟ وبم أدافعه عما يريد؟ ومثل هذا القول يوجب جذب القلوب والتضافر فى مكافحة العدو والتغلب عليه جهد المستطاع. قال المفتى أبو السعود: بهره سلطان المعجزة وحيره حتى حطه من ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده فى زعمه، والامتثال لأمرهم، أو إلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم بعد ما كان مستقلا بالرأى والتدبير، وأظهر استشعار الخوف من استيلائه على ملكه، ونسبه إلى إخراجهم من الأرض لتنفيرهم منه. (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) أي قالوا: أخّر البت فى أمرهما، ولا تعاجلهما بالعقوبة، حتى تجمع لهما من مدائن مملكتك، وأقاليم دولتك، كل سحار عليم، ثم تقابلهم به وجها لوجه ويأتون من ضروب السحر ما يستطيعون به التغلب عليه، فتكون قد قابلت الحجة بالحجة وقرعت الدليل بمثله، ويكون لك النصر والتأييد عليه، وتجتذب قلوب الشعب إليك.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 إلى 51]

وقد كان هذا من تسخير الله تعالى له، ليجتمع الناس فى صعيد واحد وتظهر آيات الله وحججه للناس فى وضح النهار جهرة. روى أن فرعون أراد قتله فقال له الملأ: لا تفعل. فإنك إن قتلته أدخلت على الناس شبهة فى أمره، وأشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون له كل سحار عليم، ظنا منهم أنهم إذا كثروا غلبوه على أمره، وتم لفرعون الغلب. فأخذ بمشورتهم وأجابهم إلى طلبتهم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 51] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) تفسير المفردات الميقات: ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام، واليوم المعلوم: هو يوم الزينة الذي حدده موسى فى قوله موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس

المعنى الجملي

ضحى، وعزة فرعون: أي قوته التي يمتنع بها من الضيم، تلقف: أي تبتلع بسرعة، يأفكون: أي يقلبونه عن وجهه وحقيقته بكيدهم وسحرهم، من خلاف: أي بقطع الأيادى اليمنى والأرجل اليسرى، لا ضير: أي لا ضرر علينا فيما ذكرت، منقلبون: أي راجعون. المعنى الجملي ذكر سبحانه هذه المناظرة بين موسى عليه السلام والقبط فى سورة الأعراف وسورة طه وفى هذه السورة. وخلاصتها- إن فرعون وقومه أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وذلك شأن الإيمان والكفر والحق والباطل ما تقابلا إلا غلب الإيمان الكفر: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» ومن ثم لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم مصر العليا وكانوا أبرع الناس فى فن السحر وأشدهم خداعا وتخيلا، وكانوا جمعا كثيرا وجما غفيرا أحضروا مجلس فرعون، فطلبوا منه الأجر إن هم غلبوا، فأجابهم إلى ما طلبوا، وزادهم عليه أن سيجعلهم من بطانته ومن المقربين إليه، ولكن المناظرة انتهت بغلبة موسى لهم وهزيمة من استنصر بهم، وإيمانهم بموسى، وحينئذ عاد إلى المكابرة والعناد، وشرع يتهدد السحرة ويتوعدهم ويقول: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ولكن ذلك لم يردّهم إلا إيمانا وتسليما، لعلمهم ما جهله قومهم من أن هذا لا يصدر عن بشر إلا إذا أيده الله وجعله حجة على صدق ما يدّعى، ومن ثمة قالوا له بعد أن توعدهم بقطع الأيدى والأرجل: إن ذلك لا يضيرنا، وإن المرجع إلى الله، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا، وإنا لنرجو أن يغفر لنا خطايانا، لأنا سبقنا قومنا من القبط إلى الإيمان، ويروى أنه قتلهم جميعا.

الإيضاح

الإيضاح (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي إن الملأ بعد أن أشاروا على فرعون بتأخير البت فى أمر موسى، وبان من الخير له أن يجمع السحرة، ليظهر عند حضورهم فساد قوله- رضى بما أشاروا به واستقر عليه الرأى وأحب أن تقع المناظرة فى يوم عيد لهم، لتكون بمحضر الجمّ الغفير من الناس، ويتم الله نوره ويظهر الحق على الباطل بلطفه وفضله. (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أي وقيل للناس حثا لهم على المبادرة إلى الاجتماع ومشاهدة ما يكون من الجانبين: هل أنتم مجتمعون فى ذلك الميقات لتروا ما سيكون فى ذلك اليوم المشهود، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور، وقد طلب أن يكون ذلك بمجمع من الناس لئلا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع من موسى الموقع الذي يريده، لأنه يعلم أن حجة الله هى الغالبة، وحجة الكافرين هى الداحضة، وفى ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة فى الاستظهار للمحقين، وقهر للمبطلين. (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي إنا نرجو أن يكون لهم الغلبة فنتبعهم ونستمر على دينهم ولا نتبع دين موسى. (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي فلما جاء السحرة مجلس فرعون طلبوا منه الإحسان ببذل المال والتقرب إليه إن هم غلبوا، فأجابهم إلى ما طلبوا وزاد على هذا أن وعدهم بأنهم سيكونون من جلسائه وخاصة بطانته. بعدئذ عادوا إلى مقام المناظرة وقالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين. (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أي قال لهم موسى ألقوا ما تريدون إلقاءه، مما يكون حجة لكم

على إبطال ما أدعيه من المعجزات فألقوا ما معهم من الحبال والعصى وقد كانت مطليّة بالزئبق، والعصىّ مجوّفة مملوءة به، وقالوا بقوة فرعون وجبروته: إنا لنحن الغالبون، فلما حميت حرارة الشمس اشتدت حركتها وصارت كأنها حيات تدبّ من كل جانب، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم. وجاء فى سورة طه: «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى» . وقد استفرغوا الوسع وقاموا بما ظنوا أن فيه الكفاية بل ما فوقها وأن النصر قد كتب لهم. (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي وحين ألقى موسى عصاه ابتلعت ما كانوا يقلبون صورته وحاله الأولى بتمويههم وتخييل الحبال والعصى أنها حيات تسعى. وجاء فى آية أخرى: «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . وقد قامت الحجة لموسى عليهم واستبان لهم أن هذا ليس من متناول أيديهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي فخروا سجد الله، لأنهم قد علموا أن هذا الذي فعلوه هو منتهى التخييل السحرى، فلما ابتلعت الحية ما زّوروه أيقنوا أن هذا من قدرة فوق ما عرفوا، وما هو إلا من قوة آتية من السماء لتأييد موسى، حينئذ خروا سجدا لله القوى القاهر فوق عباده. وفى التعبير بالإلقاء إشارة إلى أنهم لم يتمالكوا أنفسهم من الدهش حتى كأنهم أخذوا فطرحوا. ثم فاهوا بما يجيش فى صدورهم، وتنطوى عليه جوانحهم. (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قالوا: آمنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى أول ما تكلم مع فرعون.

وفى هذا إيماء إلى عزل فرعون عن الربوبية، وأن سبب إيمانهم ما أجراه الله على يدى موسى وهرون من المعجزات. وبعد أن حصحص الحق، وو صح الصبح لذى عينين، لجأ فرعون إلى العناد والمكابرة وشرع يهدّد ويتوعد، ولكن ذلك لم يجد فى السحرة شيئا، ولم يزدهم إلا إيمانا وتسليما، إذ كان حجاب الكفر قد انكشف، واستبان لهم نور الحق، وعلمهم ما جهل قومهم، وأن القوة التي تؤيد موسى قوة غيبية قد أيده الله بها، وجعلها دليلا على صدق ما يدّعى. (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟) أي قال لهم: أتؤمنون به قبل أن تستأذنو، وقد كان ينبغى أن تفعلوا ذلك، وألا تفتاتوا علىّ، فإنى أنا الحاكم المطاع؟ ثم التمس لإيمانهم عذرا آخر غير انبلاج الحق، ليعمّى على العامة، ويصرفهم عن وجه الحق فقال: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فأنتم فعلتم ذلك عن مواطأة بينكم وبينه. ولا شك أن هذا تضليل لقومه، ومكابرة ظاهرة البطلان، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون هو كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر. ثم توعدهم فقال: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم، وسوء عاقبة ما اجترحتم. ثم بين ذلك بقوله: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لأقطعنّ اليد اليمنى من كل منكم والرجل اليسرى، ثم لأصلبنكم أجمعين بعد ذلك. فأجابوه غير مكترثين بقوله، ولا عابثين بتهديده، بأمرين فى كل منهما دليل على اطمئنان النفس وبرد اليقين:

[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 إلى 68]

(1) (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي قالوا لا ضرر علينا فى تنفيذ وعيدك، ولا نبالى به، لأن كل حىّ لا محالة مائت. ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد ونحو ذلك قول على كرم الله وجهه: لا أبالى أوقعت على الموت أم وقع الموت علىّ؟ (2) (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ؟) أي ولأنا نؤمل أن يغفر لنا ربنا ما فعلنا من السحر، واعتقدناه من الكفر، من أجل أن كنا أول من آمن من الجماعة الذين شهدوا الموقف، انقياد للحق، وإعراضا عن زخرف الدنيا وزينتها. [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أسرى: سار ليلا، متبعون: أي يتبعكم فرعون وجنوده، والشرذمة: الطائفة القليلة من الناس، غائظون: أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا، حاذرون: أي من دأبنا الحذر واستعمال الحزم فى الأمور، كنوز: أي أموال كنزوها وخزنوها فى باطن الأرض، ومقام كريم: أي قصور عالية ودور فخمة، أورثناها: أي ملكناها لهم تمليك الميراث، مشرقين: أي داخلين فى وقت الشروق، تراءى الجمعان: أي تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر، لمدركون: أي سيدر كوننا ويلحقون بنا، كلا: أي لن يدركوكم، انفلق: انشق، الفرق: الجزء المنفرق منه، والطود: الجبل، وأزلفنا: أي قرّبنا. وثمّ: أي هناك، لآية: أي لعظة وعبرة توجب الإيمان بموسى. المعنى الجملي أقام موسى بين ظهرانى المصريين يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا واستكبارا، يرشد إلى ذلك قوله فى سورة الأعراف: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ» الآيات، ثم أمره الله أن يخرج بنى إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضى بهم حيث يؤمر، ففعل ما أمر به وخرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليّا كثيرة. فلما وصل علم ذلك إلى فرعون أرسل فى المدائن حاشرين يجمعون له الجند، ثم قوّى نفسه ونفس أصحابه، بأن وصف بنى إسرائيل بالقلة، وأن أفعالهم تضيق بها الصدور، وتوجب الغيظ، وهو مستعد أن يبيدهم بما لديه من قوة وجند، ثم تبعهم هو وجنوده وقت الشروق، فلما تقارب الجمعان خاف أصحاب موسى وقالوا إن فرعون وقومه لاحقون بنا لا محالة. فقال لهم موسى لن يدركوكم وإن ربى سيهدينى إلى طريق النجاة وحينئذ أوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق حتى صار شكل الماء المتراكم كالجبل العظيم، فسار هو وقومه فى اليبس حتى جاوزوا البحر

الإيضاح

من الجانب الآخر، ودخل فرعون وجنوده من الجانب الأول فانطبق البحر عليهم وأغرقوا أجمعون. وهذه آية كان من حقها أن توجب الاعتبار والعظة فيؤمن به من بقي من المصريين لكنهم لم يفعلوا. الإيضاح (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي وأوحينا إليه أن سر بعبادي ليلا حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم فلا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على إثركم حين تلجونه، فيدخلون مدخلكم فأطبقه عليهم فيغرقون. وقد جاء فى سفر الخروج من التوراة فى الإصحاح الحادي عشر: إن الرب أمر أن يطلب كل رجل من صاحبه، وكل امرأة من صاحبتها أمتعة ذهب وأمتعة فضة، وأن الله سيميت كل بكر فى أرض مصر من الإنسان والحيوان، وأمرهم أن يذبح أهل كل بيت شاة فى اليوم الرابع عشر من شهر الخروج، وأن يلطخوا القائمتين والعتبة العليا من الدار، وأن يأكلوا اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع فطير، وأمرهم أن يأكلوا بعجلة، ويأكلوا الرأس مع الأكارع والجوف، وهذا هو (فصح الرب) وهذا الدم علامة على بيوت بنى إسرائيل حتى يحفظ كل بكر منهم ويتخطاهم الموت إلى أبكار المصريين، ويكون أكل الفطير سبعة أيام، ويكون هذا فريضة أبدية تذكارا بالخروج من مصر من يوم 14 من شهر أبيب إلى 21 من هذا الشهر كل سنة. وهكذا أمر موسى قومه بذلك، ففعلوا كل هذا ونجا أولادهم، وصار ذلك سنة أبدية. ولما مات الأبكار من الإنسان والحيوان فى جميع بلاد مصر فى نصف الليل اشتغل الناس بالأموات، وأخذ بنو إسرائيل غنمهم وبقرهم وعجينهم قبل أن يختمر، ومعاجنهم

مصرورة فى ثيابهم على أكتافهم، وفعلوا ما أمرهم به الرب، فارتحلوا من رعمسيس إلى سكوت وكانوا ستمائة ألف ماش من الرجال ما عدا الأولاد، وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملّة (فطيرا) اهـ. وكانت إقامة بنى إسرائيل فى مصر 430 سنة، وليلة الخروج هى عيد الفصح عندهم إلى الأبد. (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي فلما أسرى بهم موسى وأخبر فرعون بما صنعوا، أرسل فى مدائن مصر رجالا من حرسه، ليجمعوا الجند فيتبعوهم ويردّوهم إلى مصر، ويعذبوهم أشد التعذيب على ما فعلوا. ثم قوّى فرعون جنده فى اقتفاء آثارهم بأمور: (ا) (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فيسهل اقتفاؤهم وإرجاعهم وكبح جماحهم فى الزمن الوجيز. (ب) (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي وإنهم بين آونة وأخرى يصدر منهم ما يخل بالأمن، فيحدثون الشغب والاضطراب فى البلاد- إلى أنهم ذهبوا بأموالنا التي استعاروها. (ج) (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي وإن لنا أن نحذر عاقبة أمرهم قبل أن يستفحل خطبهم ويصعب رأب صدعهم، ونحن قوم من دأبنا التيقظ والحذر، واستعمال الحزم فى الأمور. والخلاصة- إنه أشار أولا إلى عدم الموانع التي تمنع اتباعهم من قلة وجود الشّوكة لهم، ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم لهم، ووجوب التيقظ فى شأنهم حثا منه عليه. وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه. وخلاصة مقاله- إن هؤلاء عدد لا يعبأ به، وإن فى مقدورنا أن نبيدهم بأهون الوسائل، ولا خوف منهم إذا نحن اتبعنا آثارهم ورددناهم على أعقابهم

خاسئين، حتى لا يعودوا كرة أخرى إلى الإخلال بالأمن والهرج والمرج والاضطراب فى البلاد، وهذا ما يقتضيه الحزم واليقظة فى الأمور. والذي نجزم به أن بنى إسرائيل كانوا أقل من جند فرعون، لكنا لا نجزم بعدد معين، وما فى كتب التاريخ والتوراة مبالغات يصعب تصديقها ولا ينبغى التعويل عليها، فخير لنا ألا نشغل أنفسنا باستقصاء تفاصيلها، وقد فنّد ابن خلدون فى مقدمة تاريخه هذه الروايات وأبان ما فيها من مغالاة لا يقبلها العقل ولا تثبت أمام البحث العلمي الصحيح. وقد جازى الله فرعون وجنوده بما أرادوا أن يجازوا به بنى إسرائيل فأهلكوا جميعا كما قال: (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ) أي فأخرجناهم من النعيم إلى الجحيم، وتركوا المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والملك والجاه العظيم الذي لم يسمع بمثله، وقد كان الأمر حقا كما قلنا. ثم بين ما آل إليه أمر بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر: (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وملّكنا بنى إسرائيل جنات وعيونا مماثلة لها فى أرض الميعاد التي ساروا إليها، وفى هذا بيان لأن حالهم تحوّل من الاستعباد والرقّ إلى الترف والنعيم فى الجنات والعيون والمقام الكريم. ونحو الآية قوله: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» . (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي فخرجوا من مصر فى حفل عظيم وجمع كثير من أولى الحل والعقد من الأمراء والوزراء والرؤساء والجند، فوصلوا إليهم حين شروق الشمس. ثم ذكر ما عرا بنى إسرائيل من الخوف حين رؤيتهم فرعون وقومه. (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي فلما رأى كل من

الفريقين صاحبه قال بنو إسرائيل: إن فرعون وجنوده سيلحقوننا ويقتلوننا، وكانوا قد قالوا لموسى من قبل: إنا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، فقد كانوا يذبحون أبناءنا من قبل أن تأتينا، ومن بعد ما جئتنا يدركوننا ويقتلوننا. والخلاصة- إنا لمتابعون وسنهلك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد لأناقد انتهى بنا السير إلى سيف البحر (ساحله) وقد أدركنا فرعون وجنوده. فأجابهم موسى وطمأنهم وقوّى نفوسهم. (قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي قال لهم موسى: إنه لن يصلكم شىء مما تحذرون، فإن الله هو الذي أمرنى أن أسير بكم إلى هنا، وهو سبحانه لا يخلف وعده، فهو: (1) سيهدينى إلى طريق النجاح والخلاص. (2) سينصرنى عليهم ويتكفّل بمعونتي. ثم ذكر سبحانه كيف هداه ونجّاه وأهلك أعداءه فقال: (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي وأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فضرب فانفلق فكان كل قطعة من الماء كالجبل العالي وصار فيه اثنا عشر طريقا، لكل سبط منهم طريق وصار فيه طاقات ينظر منها بعضهم إلى بعض، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض كما قال فى آية أخرى: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى» . (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي وقربنا فرعون وجنوده من البحر وأدنيناهم منه. (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي وأنجينا موسى وبنى إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم أحد، وأغرقنا: فرعون وجنوده ولم نبق منهم أحدا.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 إلى 82]

والخلاصة- إنه لما خرج أصحاب موسى وتتامّ أصحاب فرعون، انطبق عليهم البحر فأغرقهم جميعا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى الذي حدث فى البحر لعبرة دالة على قدرته تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام، من حيث كان معجزة له، وتحذيرا من الإقدام على مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم بيّن أنهم لم تجدهم الآيات والنذر شيئا. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وإن أكثرهم لم يؤمنوا مع ما رأوا من الآيات العظام والمعجزات الباهرات. وفى ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات على يديه، فنبهه بهذا الذكر إلى أن له أسوة بموسى عليه السلام، فإن ما ظهر على يديه من المعجزات التي تبهر العقول لم يمنع من تكذيب أكثر القبط له وكفرهم به مع ما شاهدوه فى البحر وغيره، وتكذيب بنى إسرائيل، فإنهم بعد أن نجوا عبدوا العجل وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. ثم توعدهم وقال: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه. وفى هذا بشارة لنبيه بأن النصر سيكتب له، والفوز سيكون حليفه كما قال: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» . قصص إبراهيم عليه السلام [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما ذكر فى أول السورة شدة حزنه صلى الله عليه وسلم على كفر قومه وعدم استجابتهم دعوته، ثم ذكر قصص موسى عليه السلام ليكون فى ذلك تسلية له، وليعلم أنه ليس ببدع فى الرسل، وأن قومه ليسوا بأول الأمم عنادا واستكبارا، فقد أتى موسى بباهر المعجزات، وعظيم الآيات، ولم يؤمن به من قومه إلا القليل، ولم يؤمن به من المصريين إلا النذر اليسير- أردف ذلك بقصص إبراهيم أبى الأنبياء، وخليل الرحمن، وكليم الله، ليعلم أن حزنه لكفران قومه كان أشد، وآلامه كانت أمض، فهو كان يرى أن أباه وقومه صائرون إلى النار، وهو ليس بمستطيع إنقاذهم، وقد أكثر حجاجهم حتى حجّهم ولم يجد ذلك فيهم شيئا، بل ركنوا إلى التقليد بما ورثوه عن الآباء والأجداد، وقد أبان لهم أثناء حجاجه أن أصنامهم لا تغنى عنهم شيئا، فهى لا تسمع دعاءهم «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ» ولو سمعت لم تغن عنهم شيئا. ثم ذكر لهم صفات الرّب الذي ينبغى أن يعبد وفصلها أتم التفصيل. الإيضاح (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟) أي واتل على أمتك أخبار إبراهيم إمام الحنفاء، ليقتدوا به فى الإخلاص والتوكل على الله وعبادته وحده

لا شريك له والتبري من الشرك وأهله، وقد أوتى الرشد من صغره، فهو من حين نشأ وترعرع أنكر على قومه عبادة الأصنام فقال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ وهو مشاهد راء له، ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل. روى أنّ أصنامهم كانت من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب فأجابوه إجابة المفتخر بما يفعل، المزهوّ بجميل ما يصنع. (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي قالوا نعبد الأصنام ونقيم على عبادتها طوال ليلنا ونهارنا. وبعد أن أوضحوا له طريقتهم نبههم إلى فساد معتقدهم بسوق الدليل الذي يرشد إلى بطلانه. (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟) أي قال لهم: هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم فيستجيبوا لكم ببذل معونة أو دفع مصرة؟. ذاك أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه فى المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له ببذل المعونة من جلب نفع أو دفع ضر، فإذا كان ما تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم، ولو عرف ما استطاع مدّ يد المعونة، فكيف بكم تستسيغون لأنفسكم أن تعبدوا ما هذه صفته؟. وحينئذ فلجت حجة إبراهيم ولم يجدوا مقالا يقولونه وكأنما ألقمهم حجرا، فعدلوا عن الحجاج إلى اللجاج، وتقليد الآباء والأجداد، وتلك هى حجة العاجز المغلوب على أمره، الذي أظلم وجه الحق أمامه، ولم يهتد لحجة ولا دليل. فزاد فى تقريعهم وتوبيخهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ. قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير كما تدّعون، وتستطيع أن تضر وتنفع فلتخلص إلىّ بالمساءة فإنى عدوّ لها، لا أبالى بها ولا آبه بشأنها، ولكن رب العالمين هو ولى فى الدنيا والآخرة، ولا يزال متفضلا علىّ فيهما. ونحو هذا قول نوح عليه السلام «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» وقول هود:

«إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . ثم وصف رب العالمين سبحانه بأوصاف استحق لأجلها أن يعبد: (1) (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي هو الخالق الذي خلقنى وصورنى فأحسن صورتى، وهو الذي يهدينى إلى كل ما يهمنى من أمور المعاش والمعاد هداية تتجدد على جهة الدوام والاستمرار. (2) (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي وهو رازقى بما يسرّ من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء فأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه ما خلق من الأنعام والأناسى. (3) (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي وهو الذي ينعم علىّ بالشّفاء إذا حصل لى مرض، وأضاف المرض إلى نفسه وهو حادث بقدرة ربه أدبا منه مع ربه كما قالت الجن «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» . والخلاصة- إنى إذا مرضت لا يقدر على شفائى أحد غيره بما يقدّر من الأسباب الموصلة إلى ذلك. (4) (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أي وهو الذي يحيينى ويميتنى ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو، فهو الذي يبدئ ويعيد، وقد يكون المراد بالإحياء البعث بعد الموت، ويؤيده عطفه بثم لا تساع الوقت بين الإماتة والإحياء. (5) (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي وهو الذي لا يقدر على غفران الذنوب فى الآخرة إلا هو كما قال: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» وسمى إبراهيم ما صدر منه من عمل- هو خلاف الأولى- خطيئة، استعظاما له. وخلاصة مقاله- إن جميع النعم التي يتمتع بها المرء من النشأة الأولى إلى آخر الدهر هى من الله وحده، ولا قدرة لأصنامكم على شىء منها.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 83 إلى 89]

وفى صحيح مسلم عن عائشة «قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين» . [سورة الشعراء (26) : الآيات 83 الى 89] رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) تفسير المفردات الحكم: هو العلم بالخير والعمل به، واللحوق بالصالحين يراد به التوفيق للأعمال التي توصل إلى الانتظام فى زمرة الكاملين المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها، لسان صدق: أي ذكرا جميلا بين الناس بتوفيقى إلى الطريق الحسنة حتى يقتدى بي الناس من بعدي، وهذا هو الحياة الثانية كما قال: قد مات قوم وهم فى الناس أحياء، من ورثة جنة النعيم: أي من الذين يتمتعون بالجنة وسعادتها فيكون ذلك غنيمة لهم كما يتمتع الناس بالميراث فى الدنيا، والخزي: الهوان، والقلب السليم: هو البعيد عن الكفر والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة. المعنى الجملي بعد أن أثنى إبراهيم على ربه بما أثنى عليه- ذكر مسألته ودعاءه إياه بما ذكره كما هو دأب من يشتغل بدعائه تعالى، فإنه يجب عليه أن يتقدم بالثناء عليه وذكر عظمته وكبريائه، ليستغرق فى معرفة ربه ومحبته، ويصير أقرب شبها بالملائكة الذين

الإيضاح

يعبدون الله بالليل والنهار لا يفترون، وبذا يستنير قلبه إلى ما هو أرفق به فى دينه ودنياه، وتحصل له قوة إلهية تجعله يهتدى إلى ما يريد، ومن ثم جاء فى الأثر حكاية عن الله تعالى: «من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» . الإيضاح دعا إبراهيم ربه أن يؤتيه من فضله أجمل الأخلاق وأكمل الآداب، فطلب إليه أمورا هي: (1) (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي ائتني معرفة بك وبصفاتك، ومعرفة للحق لأعمل به. (2) (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي ووفقني للعمل فى طاعتك، لأنتظم فى سلك المقربين إليك، المطيعين لك، وقد أجاب الله دعاءه كما قال: «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» . روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى دعائه: «اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدّلين» . (3) (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي وخلّد ذكرى الجميل فى الدنيا بتوفيقى لصالح العمل، فأكون قدوة لمن بعدي إلى يوم القيامة، وقد أجاب الله دعاءه كما قال: «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» . ومن ثم لا نرى أمة إلا محبة لإبراهيم وتدّعى أنها على ملته، وقد جاء من ذريته كملة الأنبياء وأولو العزم منهم. وختم ذلك بمجدّد دينه، وداعية الناس إلى التوحيد وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وبعد أن طلب سعادة الدنيا طلب ثواب الآخرة فقال:

(4) (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي واجعلنى ممن يدخلون الجنة ويتمتعون بنعيمها كما يتمتع المالك بما يملكه ميراثا ويئول إليه أمره من شئون الدنيا. وبعد أن طلب السعادة الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأقرب الناس إليه وهو أبوه فقال: (5) (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي واغفر له ذنوبه، إنه كان ضالا عن طريق الهدى، وهذه الدعوة وفاء بما وعده من قبل كما جاء فى آية أخرى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» . ثم طلب من ربه عدم خزيه وهوانه يوم القيامة فقال: (6) (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي ولا تخزنى بمعاتبتي على ما فرطت، أو بنقص مرتبتى عن بعض الوارثين. ثم بين حال هذا اليوم وما فيه من شديد الأهوال فقال: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي يوم لا يقى المر، من عذاب الله المال ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، ولا البنون ولو افتدى بهم جميعا، ولكن ينفعه أن يجىء خالصا من الذنوب وأدرانها، وحب الدنيا وشهواتها، وخص الابن بالذكر لأنه أولى القرابة بالدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة أولى. قال النسفي: وما أحسن ما رتب عليه السلام من كلامه مع المشركين، حيث سألهم أوّلا عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة، ثم صور المسألة فى نفسه دونهم حتى تخلّص منها إلى ذكر الله تعالى، فعظم شأنه، وعدّد نعمه من حين إنشائه إلى وقت وفاته، مع ما يرجى فى الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأدب، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعذابه وما يفعل المشركون يومئذ من الند

[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 إلى 104]

والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا اهـ. أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ» الآية. وقال بعض أصحاب رسول الله لو علمنا أىّ المال خير اتخذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه» . [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) تفسير المفردات أزلفت: أي قرّبت، برزت: أي جعلت بارزة لهم بحيث يرون أهوالها، والغاوين: الضالين عن طريق الحق، فكبكبوا: أي ألقوا على وجوههم مرة بعد أخرى من قولهم كبّه على وجهه: أي ألقاه، يختصمون: أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين، نسويكم: أي نجعلكم مساوين له فى استحقاق العبادة، والصديق: هو الصادق فى وده، والحميم: هو الذي يهمه ما أهمك، والكرة: الرجعة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر أنه لا ينفع فى هذا اليوم مال ولا بنون، وإنما ينفع البعد من الكفر والنفاق- ذكر هنا من وصف هذا اليوم أمورا تبين شديد أهواله، وعظيم نكاله. الإيضاح ذكر ما يحدث فى هذا اليوم مما يبشر بثواب المتقين ونكال الكافرين، ثم قرّعهم على ما اجترحوا من السيئات فقال: (1) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي إن الجنة تكون قريبة من موقف السعداء، ينظرون إليها، ويفرحون بأنهم سيحشرون إليها كما جاء فى آية أخرى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» . وفى هذا تعجيل لمسرتهم كفاء ما عملوا لها، ورغبوا عن الدنيا وزخرفها. (2) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي وتكون النار بارزة مكشوفة للأشقياء، بحيث تكون بمرأى منهم، يسمعون زفراتها التي تبلغ منها القلوب الحناجر، ويوقنون بأنهم مواقعوها، لا يجدون عنها مصرفا. وفى هذا تعجيل للغم والحسرة، إذا نسوا فى دنياهم هذا اليوم كما جاء فى قوله: «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» . ثم ذكر أنه يسأل أهل النار تقريعا لهم. (3) (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟)

أي أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها؟ هل ينفعونكم بنصرتهم لكم، أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنفسهم؟ لا- إنهم وآلهتهم وقود النار. والخلاصة- ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من الأصنام والأوثان بمغنية عنكم اليوم شيئا، ولا هى بدافعة عن نفسها شيئا، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون. ثم ذكر مآلهم بعدئذ فقال: (4) (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) أي فألقى الآلهة والغاوون الذين عبدوها فى النار، والشياطين والداعون إلى عبادتها- على رءوسهم أو ألقى بعضهم على بعض. وتأخير الغاوين فى الكبكبة عن آلهتهم ليشاهدوا سوء حالهم، فينقطع رجاؤهم منهم قبل دخول الجحيم. ثم ذكر ما يحدث من المخاصمة والمحاجة بين الآلهة والغاوين عبدتها والشياطين الذين دعوهم إلى تلك العبادة. (5) (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي قال الغاوون وهم يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين: تالله إننا كنا فى ضلال واضح لا لبس فيه حين سويناكم برب العالمين فى استحقاق العبادة وعظمناكم تعظيم المعبود الحق، وما أضلّنا إلا المجرمون من الرؤساء والكبراء كما جاء فى آية: «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» . وخلاصة ذلك- إنهم حين رأوا صور تلك الآلهة اعترفوا بالخطأ العظيم الذي كان منهم وندموا على طاعتهم لأولئك الرؤساء والسادة الذين حملوهم على عبادتها وتعظيم شأنها. ثم أكّدوا ندمهم على ما فرط منهم وحسرتهم على ما صنعوا. (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي فليس لنا اليوم شفيع يشفع لنا مما

نحن فيه من ضيق أو ينقذنا من هلكة، ولا صديق شفيق بعنيه أمرنا ويودنا ونوده. ونحو الآية ما جاء فى آية أخرى حكاية عنهم: «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» . وقد أرادوا بهذا الإخبار إظهار اللهفة والحسرة على فقد الشفيع والصديق النافع، وقد نفوا أولا أن يكون لهم من ينفعهم فى تخليصهم من العذاب بشفاعته، ثم ترقّوا ونفوا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلصهم. والخلاصة- إن الأمر قد بلغ من الهول ما لا يستطيع أحد أن ينفع فيه أدنى نفع. ثم حكى الله عنهم تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله يعلم إنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون فقال: (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، حتى إذا متنا وبعثنا مرة أخرى لا ينالنا من العذاب مثل ما نحن فيه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) / 103 أي إن فى محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجة عليهم فى التوحيد- لآية واضحة جلية على أنه تعالى لا رب غيره، ولا معبود سواه، ومع كل هذا ما آمن به أكثرهم. وفى هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما يجده من تكذيب قومه له مع ظهور الآيات وعظيم المعجزات. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك المحسن إليهم بإرسالك لهدايتهم- لهو القادر على الانتقام منهم، الرحيم بهم إذ لم يهلكهم، بل أخّر ذلك وأرسل إليهم الرسل ونصب لهم الشرائع، ليؤمنوا بها هم أو ذريتهم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 إلى 122]

قصص نوح عليه السلام [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) تفسير المفردات القوم: اسم لا واحد له من لفظه كرهط ونفر يذكّر ويؤنث، أخوهم: أي أخوّة نسب، كما يقال يا أخا العرب ويا أخاتيم، يريدون يا من هو واحد منهم قال الحماسى: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا الأرذلون: واحدهم أرذل، والرذالة: الخسة والدناءة، وقد استرذلوهم لا تضاع نسبهم وقلة حظوظهم من الدنيا، من المرجومين: أي من المقتولين رميا بالحجارة،

المعنى الجملي

فافتح: أي احكم من الفتاحة بمعنى الحكومة، والفلك: يستعمل واحدا وجمعا، المشحون: أي المملوء المعنى الجملي بعد أن قص على رسوله صلى الله عليه وسلم قصص أبيه إبراهيم وما لقيه من تكذيب قومه له مع ما أرشدهم إليه من أدلة التوحيد وما حجهم به من الآيات- أردف هذا بقصص الأب الثاني وهو نوح عليه السلام، وفيه ما لا فاه من قومه من شديد التكذيب لدعوته وعكوفهم على عبادة الأصنام والأوثان وأنه مع طول الدعوة لهم لم يزدهم ذلك إلا عتوّا واستكبارا، وقد كان من عاقبة أمرهم ما كان لغيرهم ممن كذبوا رسل ربهم بعد أن أملى لهم بطول الأمد: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» فأغرقهم الطوفان ولم ينج منهم إلا من حملته السفينة. وهذا القصص مجمل تقدم تفصيله فى سورتى الأعراف وهود، وسيأتى بسطه أتم البسط فى سورة نوح. الإيضاح (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي كذبت قوم نوح رسل الله حين قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون الله فتحذروا عقابه على كفركم به وتكذيبكم رسله؟. وجعل تكذيب نوح تكذيبا للرسل جميعا، لأن تكذيبه يتضمن تكذيب غيره منهم إذ طريقتهم لا نختلف فهى فى كل مكان وزمان الدعوة إلى التوحيد وأصول الشرائع. وقد حكى سبحانه عن نوح أنه خوفهم أوّلا بقوله: ألا تتقون؟ لأن القوم إنما قبلوا تلك الأديان تقليدا، والمقلد إذا خوّف خاف، وما لم يستشعر بالخوف لا يشتغل بالاستدلال والنظر.

وقد وصف نوح نفسه بأمرين: (1) (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي إنى رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني به، أبلغكم رسالاته، لا أزيد فيها، ولا أنقص منها. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي خافوا عقاب الله وأطيعونى فيما آمركم به من التوحيد، وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن التقوى هى ملاك الأمر كله فى هذه الحياة وكرر الأمر بها لأنها العمدة فى جميع الأعمال، فيجب على العامل ملاحظتها إذا أراد الإحسان وتجويد العمل. (2) (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لا أطلب منكم جزاء على نصحى لكم، بل أطلب ثواب ذلك من عند الله. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) فقد وضح الأمر لكم، وبان نصحى وأمانتى فيما بعثني الله به وائتمنى عليه، وسبب التكرير ما علمته من قبل، ونظير هذا ما يقول الوالد لولده: ألا تتقى الله فى عقوقى وقدر بيتك صغيرا؟ ألا تتقى الله فى عقوقى وقد علمتك كبيرا؟. وبعد أن أقام الدليل على صدق رسالته وعظيم نصحه وأمانته لهم أرادوا أن يتنصلوا من اتباع دعوته بحجة هى أوهى من بيت العنكبوت. (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟) أي قالوا كيف نتبعك ونصدّقك ونؤمن بك ونأتسى بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك؟ ومرادهم أن هذا لن يكون أبدا وهذه شبهة لا ينبغى لعاقل أن يركن إليها، لأن نوحا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، لا بارق بين غنى وفقير، وصعلوك وأمير، ولا بين ذوى البيوتات والحسب، وذوى الوضاعة والخسة فى النسب، فليس له إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش والبحث عن البواطن، ومن ثم أجابهم: (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ؟) أي وأىّ شىء يعلمنى ما كان يعمل أتباعى؟ إنما لى منهم ظاهر أمرهم دون باطنه، فمن أظهر الحسن ظننت به حسنا، ومن أظهر

السوء ظنت به ذلك، ولم أكلّف العلم بأعمالهم، وإنما كلّفت أن أدعوهم إلى الإيمان والاعتبار به لا بالحرف والصناعات والفقر والغنى، وهم كأنهم يقولون إن إيمان هؤلاء لم يكن عن نظر صحيح. بل لتوقع مال ورفعة. ثم أبان أن أمر جزائهم وحسابهم على ربهم لا عليه، فلا يعنيه استقصاء أحوالهم فقال: (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) أي ما حسابهم على ما تحويه سرائرهم إلا على ربهم المطّلع عليها لو كنتم من ذوى الشعور والعقل. ولما جعلوا من موانع إيمانهم اتباع هؤلاء الأراذل كانوا كأنهم طلبوا طردهم فقال: (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعنى وصدق بما جئت به من عند الله. ثم بين وظيفة الرسول فقال: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما بعثت منذرا ومخوّفا بأس الله وشديد عذابه، فمن أطعنى كان منى وأنا منه، شريفا كان أو وضيعا، جليلا كان أو حقيرا. ولما أجابهم بهذا الجواب وأيسوا مما راموا لجئوا إلى التهديد. (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي قال قوم نوح له: لئن لم تنته عما تدعو إليه من الطعن فى آلهتنا لنرجمنك بالحجارة ولنقتلنك بها. ولما طال مقامه بين ظهرانيهم، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، سرا وإعلانا، وكلما كرر عليهم الدعوة صمّوا آذانهم وصمموا على تكذيبه وتمادوا فى عتوّهم واستكبارهم- استغاث بربه وطلب منه أن يحكم بينه وبينهم وأن يهلكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم لرسلهم وينجيه والمؤمنين به. (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن قومى كذبونى فيما أتيتهم به من الحق من عندك، فاحكم بينى وبينهم حكما تهلك به المبطل وتنتقم منه وتنصر به الحق وأهله.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 إلى 140]

وجاء فى آية أخرى «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» . وفى ذلك إيماء إلى طلب إنزال العذاب بهم كما يرشد إلى ذلك قوله: (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) . فأجاب الله دعاءه كما قال: (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) أي فأنجينا نوحا ومن اتبعه على الإيمان بالله وطاعة رسوله، وأغرقنا من كفر به وخالف أمره. وفى قوله- المشحون- إيماء إلى كثرتهم وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم، وقد روى أنهم كانوا ثمانين، أربعين رجلا وأربعين امرأة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى إنجاء المؤمنين وإنزال سطوتنا وبأسنا بالكافرين لعبرة وعظة لقومك المصدقين منهم والمكذبين، على أن سنتنا إنجاء رسلنا وأتباعهم إذا نزلت نقمتنا بالمكذبين من قومهم، وكذلك هى سنتى فيك وفى قومك. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ومع كل ما حذر به نوح وأنذر لم يؤمن به إلا القليل، وفى هذا إيماء إلى أنه لو كان أكثرهم مؤمنين لما عوجلوا بالعقاب. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز فى انتقامه ممن كفر به وخالف أمره، الرحيم بالتائب منهم أن يعاقبه بعد توبته. قصص هود عليه السلام [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)

تفسير المفردات

تفسير المفردات عاد: اسم أبى القبيلة الأكبر، ويعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة باسم الأب أو بينى فلان أو آل فلان، والريع (بالفتح والكسر) المكان المرتفع، ويقال كم ريع أرضك أي ارتفاعها، آية: أي قصرا مشيدا عاليا، تعبثون: أي تفعلون العبث، وما لا فائدة فيه، مصانع: أي قصورا مشيدة وحصونا منيعة، ولعل هنا معناها التشبيه أي كأنكم تخلدون، والبطش: الأخذ بالعنف، والجبار: المتسلط العاتي بلا رأفة ولا شفقة، أمدكم: أي سخر لكم، والوعظ: كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد، خلق الأولين: أي عادتهم التي كانوا بها يدينون، ونحن بهم مقتدون: نموت ونحيا بلا حساب ولا بعث. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص نوح وقومه وأن نوحا دعاهم وحذرهم عقاب الله وطال عليه المطال ولم يزدهم ذلك إلا عتوّا ونفورا، فدعا ربه فأخذهم الطوفان وهم ظالمون- أردف هذا قصص هود عليه السلام مع قومه عاد، وكانوا بعد قوم نوح كما قال فى سورة

الإيضاح

الأعراف «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» . يسكنون الأحقاف، وهى جبال الرمل القريبة من حضرموت ببلاد اليمن وكانت لهم أرزاق دارّة وأموال، وجنات وأنهار وزروع وثمار، وكانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فبعث الله فيهم نبيّا منهم يبشرهم وينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده ويحذّرهم نقمته وعذابه، فكذبوه فأهلكهم كما أهلك المكذبين لرسله. الإيضاح (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) جاءت هذه المقالة على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب للتنبيه إلى أن بعثة الأنبياء أسّها الدعاء إلى معرفة الله وطاعته فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب، وأن الأنبياء مجمعون على ذلك وإن اختلفوا فى تفصيل الأحكام تبعا لاختلاف الأزمنة والعصور، وأن الأنبياء منزّهون عن المطامع الدنيوية لا يأبهون بها، ولا يجعلونها قبلة أنظارهم، ومحط رحالهم. ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان أتبعه إنكار بعض ما هم عليه فقال: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟) أي أتبنون فى كل مرتفع عال قصرا مشيدا للتفاخر والدلالة على الغنى. (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي وتتخذون الحصون والقلاع كأنكم مخلّدون فى الدنيا. روى ابن أبى حاتم أن أبا الدرداء رضى الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون فى غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر، قام فى مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا تستجيبون، ألا تستجيبون، تجمعون

ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأكلون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثّقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمّان، خيلا وركابا، فمن يشترى منى ميراث عاد بدرهمين؟. (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) أي إنكم قوم قساة غلاظ الأكباد ذوو جبروت وعتوّ، فإذا عاقبتم عاقبتم دون شفقة ولا رأفة. وخلاصة ما قال- إن أفعالكم تدل على حب الدنيا وعلى الكبرياء والتسلط على الناس بجبروت وعسف. ولما نهامم عن حب الدنيا والاشتغال بالسّرف والجبروت، دعاهم إلى العمل للآخرة زجرا لهم عما هم فيه فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاحذروا عقاب الله، واتركوا هذه الأفعال الذميمة، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، فإن ذلك أجدى لكم وأنفع. ثم وصل العظة بما يوجب قبولها بالتنبيه إلى نعم الله التي غمرتهم، وفواضله التي عمّتهم، وذكرها أوّلا مجملة ثم فصلها ليكون ذلك أوقع فى نفوسهم فيحتفظوا بها ويعرفوا عظيم قدرها فقال: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي واتقوا عقاب الله بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فابتعدوا عن اللعب واللهو وظلم الناس والفساد فى الأرض، واحذروا سخط من أعطاكم من عنده ما تعلمون من الأنعام والبنين والبساتين والأنهار تتمتعون بها كما شئتم، حتى صرتم مضرب الأمثال فى الغنى والثروة والزخرف والزينة، فاجعلوا كفاء هذا عبادة من أنعم بها وتعظيمه وحده. ثم بين السبب فى أمرهم بالتقوى فقال: (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إنى أخاف عليكم إن أصررتم على كفركم

ولم تشكروا هذه النعم، عذاب يوم شديد الهول تذهل فيه المرضعة عما أرضعت، وترى الناس فيه سكارى حيارى وما هم بكارى، ولكن عذاب الله شديد. وبعد أن بلغ الغاية فى إنذارهم وتخويفهم، وترغيبهم وترهيبهم كانت خاتمة مطافه أن قابلوه بالاستخفاف وقلة الاكتراث والاستهانة بما سمعوا، كما أشار إلى ذلك بقوله: (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أي هوّن عليك وأرح نفسك، فكل هذا تعب ضائع، وجهاد فى غير عدوّ، وضرب فى حديد بارد، فإنا لن نرجع عما نحن عليه، وقد حكى سبحانه قولهم فى سورة هود: «وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» . ثم ذكروا السبب فى أن الوعظ وعدمه سواء بقولهم: (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، فنحن سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار. (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) أي فاستمروا فى تكذيبهم ومخلفة أمر رسوله، فأملكناهم بريح صرصر عاتية: (ريح عظيمة ذات برد شديد) كما جاء فى قوله: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» وقوله: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى» : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فى إهلاكنا عادا بتكذيبها رسولها- لعبرة لقومك المكذبين بك فيما أتيتهم به من عند ربك. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون فى سابق علمنا. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو الشديد فى انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأصلحوا.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 إلى 159]

قصص صالح عليه السلام [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) تفسير المفردات الطلع: أول ما يطلع من الثمر وبعده يسمى خلالا ثم بلحا ثم بسرا ثم رطبا ثم تمرا، والهضيم: هو النضيج الرّخص اللين اللطيف، والنحت: النجر والبرى،

المعنى الجملي

والنّحاتة: البراية، والمنحت: ما ينحت به، والفره: النشاط وشدة الفرح، من المسحّرين: أي الذين سحروا حتى ذهبت عقولهم، الشرب: (بالكسر) النصيب والحظ، فعقروها: أي رموها بسهم ثم قتلوها. المعنى الجملي بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص عاد وهود- قص قصص ثمود وصالح وقد كانوا عربا مثلهم يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى والشام، ومساكنهم معروفة تتردد عليها قريش فى رحلة الصيف وهم ذاهبون إلى بلاد الشام. دعاهم صالح إلى عبادة الله وحده وأن يطيعوه فيما بلغهم من رسالة ربهم فأبوا وكذبوا بعد أن أتى لهم، لآيات المصدّقة لرسالته، فأخذهم العذاب وزلزلت بهم الأرض ولم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار. الإيضاح (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي كذبت ثمود أخاهم صالحا حين قال لهم: ألا تتقون عقاب الله على معصيتكم إياه، وخلافكم أمره، بطاعتكم أمر المفسدين فى الأرض؟ إنى لكم رسول من عند الله أرسلنى إليكم بتحذيركم عقوبته، أمين على رسالته التي أرسلها معى إليكم، فاتقوه وأطيعونى، وما أسألكم على نصحى وإنذارى جزاء ولا ثوابا، ما جزائى إلا على رب السموات والأرض وما بينهما.

ثم خاطب قومه واعظا لهم ومحذرا نقم الله أن تحل بهم ومذكّرا بأنعمه عليهم فيما آتاهم من الأرزاق الدارّة والجنات والعيون والزروع والثمرات، والأمن من المحذورات فقال: (1) (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ؟) أي لا نظنوا أنكم تتركون فى دياركم آمنين متمتعين بالجنات والعيون والزروع والثمار اليانعة، وأن لا دار للجزاء على العمل. بل عليكم أن تتذكروا أن ما أنتم فيه من نعيم، وأمن من عدوّ، لن يدوم وأنكم عائدون إلى ربكم، مجازون على أعمالكم خيرها وشرها. (2) (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي وتتخذون تلك البيوت المنحوتة فى الجبال أشرا وبطرا من غير حاجة إلى سكناها مع الجدّ والاهتمام فى بنائها، فاتقوا الله وأقبلوا على ما يعود عليكم نفعه فى الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم، وتسبيحه بكرة وأصيلا. (3) (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي ولا تطيعوا أمر رؤسائكم الذين تمادوا فى معصية ربكم واجترءوا على سخطه، وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون فى الأرض ولا يصلحون وهم لنذكورون فى قوله: «وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» أي يسعون فى أرض الله بمعاصيه، ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعته. وخلاصة هذا- لا تطيعوا رؤساءكم وكبراءكم الدعاة إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق. ولما عجزوا عن الطعن فى شىء مما دعاهم إليه عدلوا إلى التخييل إلى عقول الضعفاء والعامة. (1) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي أنت ممن سحر كثيرا حتى غلب على عقله، فلا يقبل لك قول، ولا يسمع لك نصح.

(2) (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي إنك بشر مثلنا، فكيف أوحى إليك دوننا؟ كما حكى عنهم فى آية أخرى: «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ؟» فأجابهم إلى ما اقترحوا من الآيات الدالة على صدقه فيما جاء به من عند ربه. (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي قال صالح لثمود لما سألوه آية يعلمون بها صدقة: يا قوم هذه ناقة الله آية لكم، ترد ماءكم يوما وتردونه أنتم يوما، فلها حظ من الماء يوما ولكم مثله يوما آخر. قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولا تشرب فى يومهم ماء. روى أنهم اقترحوا عليه عشراء (الحامل فى عشرة أشهر) تخرج من صخرة عيّنوها، ثم تلد سقبا، فقعد عليه الصلاة والسلام يتذكر، فقال له جبريل عليه السلام: صلّ ركعتين وسل ربك، ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها فى العظم. وإن أمثال هذه الروايات لا يجب علينا التصديق بها إلا إذا ثبتت بصحيح الأخبار. (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي ولا تمسوها بسوء كضرب أو عقر فيحل بكم عذاب لا قبل لكم به. ثم حكى عنهم أنهم خالفوا أمر نبيهم فقال: (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) أي فعقروا الناقة بعد أن مكثت بين أظهرهم حينا من الدهر ترد الماء وتأكل المرعى، ثم ندموا على ما فعلوا حين علموا أن العذاب نازل بهم، إذ أنظرهم ثلاثة أيام وفى كل يوم منها تظهر مقدمات نزوله فندموا حيث لا ينفع الندم، فأخذهم العذاب وزلزلت أرضهم زلزالا شديدا وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت منها قلوبهم، ونزل بهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، فأصبحوا فى ديارهم جاثمين. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم تقسيرها

[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 إلى 175]

قصص لوط عليه السلام [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) تفسير المفردات أخوهم: أي فى البلد والسكنى، لا فى الدين ولا فى النسب، لأنه ابن أخى إبراهيم وهما من أرض بابل، والذكران: واحدهم ذكر ضد الأنثى من كل حيوان، عادون: أي متعدون الحدود التي رسمها العقل والشرع، من المخرجين: أي ممن نخرجهم من أرضنا وننفيهم من قريتنا، من القالين: أي المبغضين لفعلكم، والقلى: البغض

المعنى الجملي

الشديد كأنه يقلى الفؤاد، يقال قليته أقليه قلى وقلاء، الغابرين: أي الباقين فهى لم تخرج مع لوط ومن مضى معه. المعنى الجملي قص الله علينا فى هذه الآيات قصص لوط بن هارون بن آزر بن أخى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بعثه الله فى حياته إلى أمة عظيمة تسكن مذوم وما حولها من المدائن من بلاد الغور بالقرب من بيت المقدس، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وطاعة رسوله، ونهاهم عن معصيته وارتكاب ما كانوا ابتدعوا من الفواحش مما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين، فكذّبوه فأهلكهم الله، فأرسل عليهم كبريتا ونارا من السماء فاحترقت قريتهم وأحدث بها زلزالا جعل عاليها سافلها كما جاء فى قوله: «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» . الإيضاح (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم تفسير هذا فى سالف القصص. وبعد أن نصحهم بما سلف ذكره وبخهم على قبيح ما ابتدعوه بقوله: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي أأنتم دون الناس جميعا تفعلون هذه الفعلة الشنعاء، تعشون الذكور وتتركون النساء اللاتي جعلهن الله حلّا لكم تستمتعون بهن ويستمتعن بكم. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أي بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان وتجاوز الحدود التي تسيغها العقول وتبيحها الشرائع، بارتكابكم هذا الجرم الذي لم يخطر ببال أحد ممن قبلكم،

ولما اتضح لهم وجه الحق وانقطعت حجتهم لجئوا إلى التهديد واستعمال القوة: (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي لئن لم تنته عما أنت فيه من إنكارك ما تنكره من أمرنا لننفينّك من قريتنا، وليكونن شأننا معك شأن من أخرجناهم من قبلك بالعنف والعسف واحتباس الأموال: (كما هو شأن الظلمة إذا أجلوا بعض من يبغضونهم صادروا أملاكهم) . حينئذ أجابهم بأن إبعاده لا يقف به عن الإنكار عليهم. (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي إنى برىء مما تعملون، مبغض له، لا أحبه ولا أرضاه، ولا يضيرنى تهديدكم ولا وعيدكم، وإنى لراغب فى الخلاص من سوء حواركم. وقال (مِنَ الْقالِينَ) دون (قالَ) إيماء إلى أنه من القوم الذين لو سمعوا بما تفعلون لأبغضوه، كما يقال فلان من العلماء فإنه أشد مدحا من قولك فلان عالم، إذ الأولى تدل على أنه فى عداد زمرة العلماء المعروفين بمساهمته لهم فى العلم. ثم أعرض عنهم وتوجه إلى الله أن ينجيه من أعمال السوء هو وأهله قال: (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي رب نجّنى من شؤم أعمالهم وأبعدنى من عذابك الدنيوي والأخروى. فأجاب الله دعاءه وأغاثه بعد أن استغاثه قال: (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه وأهله جميعا مما حل بأهل القرية من العذاب، فأمرناه بالخروج منها قبل أن ينزل بهم ما نزل، إلا عجوزا قد بقيت ولم تخرج معه وهى امرأته كما جاء فى سورة هود: «إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» وكانت عجوز سوء لم نتبع لوطا فى الدين ولم تخرج معه. والخلاصة- فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلا عند حلول العذاب بهم إلا عجوزا قدر الله بقاءها لسوء أفعالها وقبح طويّتها، ولما لها من ضلع فى استحسان أفعالهم.

إيضاح لهذه القصة بما كتبه الباحثون

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي ثم أهلكنا المؤخرين عن لوط فأمطرنا عليهم حجارة من السماء. قال وهب بن منبه: أنزل الله عليهم الكبريت والنار. وبئس المطر هذا وما أشد وطأته، وما أقسى وقعه، فقد أحدث بأرضهم زلزالا جعل عاليها سافلها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) سبق تفسير ذلك. إيضاح لهذه القصة بما كتبه الباحثون كتبت مجلة السياسية الأسبوعية فصلا قالت فيه: روت الكتب المنزلة أن الله أهلك مدينتى سذوم وعمورة وثلاث مدن أخرى بجوارهما بأن أمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء، فلم ينج من سكانها سوى إبراهيم الخليل وأهل بيته ولوط وابنتيه ولم يكن إبراهيم من أهل تلك المدن، بل نزح إليها من الشمال طلبا للكلأ والمرعى بحسب عادة القبائل الرحّل فى ذلك الزمن. وكان كثير من المؤرخين يرى أن هذه قصة خرافية، وبعضهم يقول إنها قصة واقعية كما يشهد بذلك آثار البلاد المجاورة للبحر الميت (بحيرة لوط) . وقد قام الدكتور (أو لبرابط) بمباحث واسعة فى وادي نهر الأردن وعلى سواحل البحر الميت حيث يظن أن سذوم وعمورة والثلاثة المدن الأخرى كانت فيها، فاستبان له أن هذه القصة حقيقية بجميع تفاصيلها، وعلم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام انحدر حوالى القرن التاسع عشر قبل الميلاد من بلاد ما بين النهرين إلى فلسطين ومعه أهل بيته وابن أخيه لوط وأهله ومعهما أنعام كثيرة، فحدث نزاع وشجار بين الرعاة فرأى لوط حفظا للسلام أن يفترق عن إبراهيم واختار منطقة وادي الأردن التي كانت فيها

سذوم وعمورة وأقام بسذوم، واختار إبراهيم المرتفعات التي فى الشمال وضرب خيامه هنالك. وكشف الدكتور آثارا تدل على صدق هذه القصة، إذ وجد هناك آثار حصن قديم يعلو سطح البحر بنحو خمسمائة قدم وبجواره (المذبح) هو حجارة منصوبة على شكل أعمدة يرجح أن الوثنيين فى ذلك الزمن كانوا يقدّمون عليها قرابينهم، ويرجح أن البحر الميت طغا على المدن الخمس التي كانت فى منطقة الأردن اهـ. وبعض علماء الجيولجيا (طبقات الأرض) يؤكدون أن هذا البحر يغمر اليوم بلادا كانت آهلة بالسكان. وفى التوراة: إن إبراهيم كان ذات يوم جالسا بباب خيمته فى حرّ النهار إذ أقبل إليه ثلاثة ملائكة فاستقبلهم بترحاب عظيم وصنع لهم وليمة واحتفى بهم، وفى أثناء الطعام علم أنهم ذاهبون إلى سذوم، وكان أهل هذه المدينة مشهورين بشرورهم وانغماسهم فى شهواتهم البهيمية ولا سيما المحرمة منها، فلما وصلوا إلى سذوم ساروا توّا إلى منزل لوط ابن أخى إبراهيم ليبيتوا عنده، وعلم أهل سذوم بقدومهم فأرادوا أن يرتكبوا بهم موبقا، ولكن لوطا دافع عنهم وعرّض أن يضحى بشرف ابنتيه لينقذهم، فأبى أهل سذوم إلا أن يرتكبوا بهم الفحشاء، وقد تمكن الضيوف من الفرار، وأقنعوا لوطا وأهل بيته بالفرار، وحين أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط (صوعر) فأمطر الرب على سذوم وعمورة كبريتا ونارا من السماء وقلب تلك المدن وجميع سكانها ونظرت امرأة لوط إلى الوراء فصارت عمود ملح: (اختنقت بالغازات الكثيرة التي التهبت إما بحدوث زلزلة أو بسقوط صاعقة من الجو) . وفى التاريخ ما يدل على حدوث انقلابات هيو لوجية شبيهة بحادثة (سذوم وعمورية) فقد يثور بركان ويتدفق حممه على البلاد المجاورة فيغمرها ويهلك أهلها، وقد تغور بلاد واسعة فيطمو عليها البحر وتزول هى وما فوقها من نبات وحيوان وإنسان، وقد تنشقّ الأرض فتبتلع مدنا بأسرها:

[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 إلى 191]

والخلاصة- إن هذه المدن كانت قاعدة لملوك جبارين وكانت ذات رياض غناء وغياض غنيه بوفرة مائها وحيراتها وشمل أهلها الفساد ورتعوا فى شهواتهم البهيمية ولم يبق فيها برّ إلا لوط وأهله، فانتقم الله منهم فأمطر عليهم نارا وكبريتا من السماء، فألهب البراكين النارية التي فيها، فعجلت دمارهم، وخسفت الأرض بهم، وظهرت البحيرة على ما يراه الآن. قصص شعيب عليه السلام [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأيكة: غيضة كثيرة الشجر قرب مدين بعث الله إلى أهلها شعيبا كما بعثه إلى أهل مدين ولم يكن منهم نسبا، من المخسرين: أي المطففين الآخذين من الناس أكثر ممّا لكم، والقسطاس: الميزان، والمستقيم: أي العدل، ولا تعثوا: أي لا تفسدوا، والجبلة: بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وبضمهما وتشديد اللام: الخلقة والطبيعة، ويقال جبل فلان على كذا: أي خلق، والمراد أنهم كانوا على خلقة عظيمة، كسفا: واحدها كسفة كقطعة (وزنا ومعنى) والظلة: السحابة التي استظلوا بها. المعنى الجملي قص الله تعالى علينا فى هذه الآيات قصص شعيب مع قومه أهل مدين، وقد بعثه إليهم فنصحهم بإيفاء الكيل والميزان وألا يعثوا فى الأرض فسادا فكذبوه، فسلط الله عليهم الحر الشديد فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أحر من غيرها فيخرجون، ثم أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا. الإيضاح (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) سبق تفسير هذا. وبعد أن نصحهم بتلك النصائح وعظهم بعظة أخرى، فنهاهم عن نقيصة كانت شائعة بينهم وهى التطفيف فى الكيل والميزان فقال: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي إذا بعتم للناس فكيلوا لهم الكيل كاملا ولا تبخسوهم حقهم فتعطوه ناقصا، وإذا اشتريتم فخذوا كما لو كان البيع لكم.

وخلاصة ذلك- خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون. (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي وزنوا بالميزان السوي العدل، وقد جاء فى سورة المطففين مثل هذا مع التحذير منه فقال: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا، عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» . ثم عمم النهى عن البخس فى كل حق فقال: (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي ولا تنقصوا الناس حقهم فى كيل أو وزن أو غيرهما كالمذروعات والمعدودات كأخذ بيض كبير وإعطاء بيض صغير، وإعطاء رغيف صغير وأخذ رغيف كبير وهكذا. ثم نهاهم عن جرم أعظم شأنا وأشد خطرا، وهو الفساد فى الأرض بجميع ضروبه وأشكاله فقال: (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تكثروا فيها الفساد بالقتل والغارة وقطع الطريق والسلب والنهب ونحوها. وبعد أن نهاهم عن ذلك خوّفهم سطوة الجبار الذي خلقهم وخلق من قبلهم ممن كانوا أشد منهم بطشا وعتوّا فقال: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) أي وخافوا بأس الله الذي خلقكم من العدم للإصلاح فى الأرض، وخلق من قبلكم ممن كانوا أشد منكم قوة وأكثر مالا، كقوم هود الذين قالوا من أشد مناقوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وقد تمخض هذا النصح عن شيئين: القدح فى رسالته أولا، واستصغار الوعيد ثانيا. (1) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي ما أنت إلا ممن سحر عقله مرة بعد أخرى، فصار كلامه جزافا لا يعبّر عن حقيقة، ولا يصيب هدف الحق. (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فما وجه تفضيلك علينا وإرسالك رسولا إلينا.

ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنا لنعتقد أنك ممن يتعمد بالكذب فيما يقول، ولم يرسلك الله نبيّا إلينا. (2) (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فإن كنت صادقا فى دعواك الرسالة فأنزل علينا من السحاب قطعا يكون فيها العذاب لنا. وهذا شبيه بما قالته قريش لنبيهم فيما حكى الله عنهم بقوله: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً- إلى أن قالوا- أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» وقوله: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . فأجابهم شعيب: (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به، فإن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم، وما علىّ إلا البلاغ، وأنا مأمور به، فلم أنذركم من تلقاء نفسى، ولا ادّعى القدرة على عذابكم. (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي وهكذا دأبوا على التكذيب فجازاهم بجنس ما طلبوا من إسقاط الكسف من السماء، فجعل عقوبتهم أن أصابهم حرّ عظيم أخذ بأنفاسهم، لم ينفعهم فيه ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا أن يخرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا كلهم تحتها، فأمطرتهم شواظا من نار فاحترقوا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن فى ذلك الإنجاء لكل رسول ومن أطاعه، والعذاب لكل من عصاه فى كل العصور- لدلالة واضحة على صدق الرسل، وما كان أكثر قومك بمؤمنين، مع أنك قد أتيتهم بما لا يكون معه شك، لما يصحبه من الدليل والبرهان.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 إلى 212]

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك لهو العزيز فى انتقامه من الكافرين الرحيم بعباده المؤمنين التائبين. (تنبيه) جاءت هذه القصص السبع مختصرة هنا وفيها البرهان الساطع على أن القرآن جاء من عالم الغيب، فإن النتائج التي حصل عليها الأنبياء مع أقوامهم هى مثل النتائج التي حصل عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حين نزولها ذا شوكة ولا ذا قوة وأن ما أصيب به من التكذيب والأذى وكانت عاقبته الفتح والنصر المبين- نموذج لما حدث للأنبياء السالفين قبله [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 212] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الروح الأمين: هو جبريل عليه السلام، ووصف بالأمين، لأنه أمين وحيه تعالى وموصله إلى من شاء من عباده، على قلبك: أي على روحك، لأنه المدرك والمكلّف دون الجسد، والزبر: الكتب، واحدها زبرة كصحف وصفحة، والآية: الدليل والبرهان، والأعجمين: واحدهم أعجمى، وهو من لا يقدر على التكلم بالعربية، سلكناه: أي أدخلناه، والمجرمين: مشركى قريش، بغتة: فجأة، منظرون: أي مؤخرون، ذكرى: أي تذكرة وعبرة لغيرهم، وما ينبغى لهم: أي ما يتيسر ولا يتسنى لهم، وما يستطيعون: أي ما يقدرون على ذلك، لمعزولون: أي لممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكّنين. المعنى الجملي بعد أن اختتم سبحانه هذا القصص، وبين ما دار بين الأنبياء وأقوامهم من الحجاج والجدل، وذكر أنه قد أهلك المكذبين، وكان النصر فى العاقبة لرسله المتقين فإن سنته فى كل صراع بين الحق والباطل أن تدول دولة الباطل وينتصر الحق وإن طال الزمن: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ» . وفى ذلك سلوة لرسوله، وعدة له بأنه مهما أوذى من قومه ولقى منهم من الشدائد، فإن الفلج والفوز له: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» أردف هذا بيان أن هذا القرآن الذي جاء بذلك القصص وحي من الله أنزله على عبده ورسوله جبريل عليه السلام بلسان عربىّ مبين، لينذر به العصاة ويبشر به عباده المتقين، وأن ذكره فى الكتب المتقدمة المأثورة عن الأنبياء الذين بشّروا به حتى قام آخرهم خطيبا فى ملئه يبشر به كما قال: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي

الإيضاح

مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» وأن العلماء من بنى إسرائيل يجدون ذكره فى كتبهم كما قال: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» وكما أن الأعجمين إذا قرئ عليهم لم يدروا منه شيئا ولم يؤمنوا به، كذلك هؤلاء المجرمون من قريش لا يؤمنون به كفرا وعنادا حتى يأتيهم عذاب الله بغتة وهم لا يشعرون، فيتمنون إذ ذاك النّظرة ليطيعوا الله ويتبعوا أوامره، وأنّى لهم ذلك؟ وهل يجديهم التمني ساعتئذ؟ «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» . وقد جرت سنتنا ألا نهلك قوما إلا بعد أن نبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين. ثم رد على مشركى قريش الذين قالوا: إن لمحمد صلى الله عليه وسلم تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة- بأن الشياطين من سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وبأنهم ممنوعون عن سماع ما تتكلم به الملائكة فى السماء، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا مدة إنزال القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استراق السمع كما قال: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» . الإيضاح (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أي وإن هذا القرآن الذي تقدم ذكره فى قوله «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ» أنزله الله إليك، وجاء به جبريل عليه السلام فتلاه عليك حتى وعيته بقلبك، لتنذر به قومك بلسان عربىّ بيّن ليكون قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة، هاديا إلى الرشاد، مصلحا لأحوال العباد.

وفى قوله: على قلبك إيماء إلى أن ذلك المنزّل محفوظ، وأن الرسول متمكن منه، إلى أن القلب هو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز، والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» وقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب» أخرجاه فى الصحيحين ولأن القلب إذا غشّى عليه وقطع سائر الأعضاء لم يحصل له شعور، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات. وفى قوله: بلسان عربى مبين، تقريع لمشركى قريش بأن الذي حملهم على التكذيب هو الاستكبار والعناد، لا عدم الفهم، لأنه نزل بلغتهم، فلا عذر لهم فى الإعراض عنه. (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه بشأنه لفى كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به فى قديم الدهر وحديثه، وقد أخذ عليهم الميثاق بذلك وبه بشر عيسى بقوله: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» . (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟) أي أو ليس بكاف لهم شهادة على صدقه أن العلماء من بنى إسرائيل نصوا على أن مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته ونعته، وقد كان مشركو قريش يذهبون إليهم ويتعرفون منهم هذا الخبر. ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أوانه وذكروا نعته. وبعد أن أثبت بالدليلين السالفين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر أن هؤلاء المشركين لا تنفعهم الدلائل، ولا تجديهم البراهين فقال: (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إنا أنزلنا

هذا القرآن على رجل عربى بلسان عربى مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وبشرت به الكتب السالفة ومع هذا لم يؤمنوا به، بل جحدوه وسمّوه تارة شعرا وأخرى كهانة، فلو أنا نزّلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية فقرأه عليهم لكفروا به أيضا، ولتمحلوا لجحودهم عذرا وقالوا له: لا نفقه ما يقول كما قال فى آية أخرى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ» . وفى هذا تسلية من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على ما حصل من قومه لئلا يشتد حزنه بإدبارهم عنه وإعراضهم عن الاستماع له. والخلاصة- إنا لو نزلناه على بعض الأعجمين: «لا عليك فإنك رجل منهم ويقولون لك ما أنت إلا بشر مثلنا وهلا نزل به ملك» فقرأه ذلك الأعجم عليهم ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق وأنه منزل من عندنا ما كانوا به مصدقين، فخفض من حرصك على إيمانهم به، فإنهم لا يؤمنون به على كل حال. ثم وكّد هذا الإنكار أفضل توكيد فقال: (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي كما أدخلنا التكذيب به بقراءة الأعجم، أدخلنا التكذيب به فى قلوب المجرمين كفار قريش. وفى ذلك إيماء إلى أن ذلك التكذيب صار متمكنا فى قلوبهم أشد التمكن وصار كالشىء الجبلىّ الذي لا يمكن تغييره. ثم زاد ذلك توكيدا فقال: (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي إنهم لا يتأثرون بالأمور الداعية إلى الإيمان، بل يستمرون على ما هم عليه حتى يعاينوا العذاب، حين لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. وإجمال ما تقدم- هكذا مكنا التكذيب وقررناه فى قلوبهم، فكيفما فعل بهم، وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده

وإنكاره كما قال: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» . (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فيأتى هؤلاء المكذبين بهذا القرآن العذاب الأليم وهم لا يشعرون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم. ثم بين أنهم يتمنّون التأخير حينئذ ليتداركوا ما فات. (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي فيقولوا على وجه الحسرة والأسف والتمني للإمهال ليتداركوا ما فرّطوا فيه: هل تؤخر إلى حين؟ كما يستغيث المرء حين تعذر الخلاص، وهم يعلمون إذ ذاك أنه لا رجعة لهم، لكنهم يذكرون ذلك استرواحا. ولما أوعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا به، ومتى هذا كما قال: (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟) أي كيف يستعجلون عذابنا بنحو قولهم: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» وقولهم: «ائْتِنا بِما تَعِدُنا» . وقد تبين لهم كيف أخذنا للأمم الماضية، والقرون الخالية، والأقوام العاتية؟ ثم أبان أن طول العمر لا يغنى عنهم شيئا وأن العذاب آت لا محالة فقال: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي هل الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم فى النعيم، فأخبرنى إن متعناهم فى الدنيا برغد العيش وصافى الحياة، ثم جاءهم بعد تلك السنين المتطاولة ما كانوا يوعدون به من العذاب، فهل ما كانوا فيه من النعيم يدفع عنهم شيئا منه أو يخففه عنهم؟. والخلاصة- إن طول التمتع ليس بدافع شيئا من عذاب الله، وكأنهم لم يمتّعوا بنعيم قط كما قال: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» وقال: «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» وقال «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» .

وعن ميمون بن مهران أنه لقى الحسن البصري فى الطواف بالكعبة وكان يتمنى لقاءه فقال: عظنى فلم يزد أن تلا هذه الآية فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. ثم بين سبحانه أنه لا يهلك قرية إلا بعد الإنذار وإقامة الحجة عليها فقال: (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم، تذكرة لهم وتنبيها إلى ما فيه النجاة من عذابنا، وما كنا ظالمين فى إهلاكهم، لأنهم جحدوا نعمتنا، وعبدوا غيرنا، بعد الإعذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة الوعيد. ونحو الآية قوله: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وقوله: «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» . ولما كان المشركون يقولون: إن محمدا كاهن وما يتنزل عليه من نوع ما تتنزل به الشياطين أكذبهم سبحانه بقوله: (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي وما نزلت الشياطين بالقرآن ليكون كهانة أو شعرا أو سحرا، وما ينبغى لهم أن ينزلوا به، وما يستطيعون ذلك وإن عالجوه بكل وسيلة، وإنهم عن سمع الملائكة لمحجوبون بالشهب. والخلاصة- إن الشياطين لا تنزل به لوجوه ثلاثة: (1) إنه ليس من مبتغاهم، إذ من سجاياهم الإضلال والإفساد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان متين، فبينه وبين مقاصد الشياطين منافاة عظيمة. (2) إنه لو انبغى لهم ما استطاعوا حمله وتأديته كما قال: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 213 إلى 220]

(3) إنهم لو انبغى واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله. [سورة الشعراء (26) : الآيات 213 الى 220] فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) المعنى الجملي بعد أن بالغ سبحانه فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم وأقام الحجة على نبوته، ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه- أردف ذلك أمره بعبادته وحده وإنذار العشيرة الأقربين ومعاملة المؤمنين بالرفق، ثم ختم هذه الأوامر بالتوكل عليه تعالى وحده، فإنه هو العليم بكل شئونه وأحواله. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضى الله عنه قال: لما أنزل الله: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» أنى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجىء إليه ورجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بنى عبد المطلب، يا بنى فهر، يا بنى لؤى، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتمونى؟ قالوا نعم، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟» وأنزل الله تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» .

الإيضاح

الإيضاح أمر سبحانه نبيه بأربعة أوامر ونواه: (1) (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) أي أخلص العبادة لله وحده، ولا تشرك به سواه، فإن من أشرك به فقد عصاه، ومن عصاه فقد استحق عقابه. وفى هذا حث لرسوله على ازدياد الإخلاص، وبيان أن الإشراك قبيح بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه، فيكون الوعيد لغيره أزجر، وله أقبل. وبعد أن بدأ بالرسول وتوعده إن دعا مع الله إلها آخر أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، لأنه إذا تشدد على نفسه أولا، ثم ثنى بالأقرب فالأقرب كان قوله لسواهم أنفع، وتأثيره أنجع فقال: (2) (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي وخوّف الأقربين من عشيرتك بأس الله، وشديد عقابه لمن كفر به وأشرك به سواه. وهذه النذارة الخاصة جزء من النذارة العامة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم كما قال: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» وقال: «لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» . روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة قال: «لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وعم وخص، فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى قصىّ أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى عبد مناف، أنفذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار،

فإنى لا أملك لك ضرا ولا نفعا، ألا إن لكم رحما وسأبلّها ببلالها- يريد: أصلكم فى الدنيا ولا أغنى عنكم من الله شيئا» . وفى الحديث والآية دليل على أن القرب فى الأنساب، لا ينفع مع البعد فى الأسباب، وعلى جواز صلة المؤمن والكافر وإرشاده ونصحه بدليل قوله: إن لكم رحما سأبلها ببلالها. وروى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسى بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودىّ ولا نصرانى ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» . وبعد أن أمره بإنذار المشركين من قومه أمره بالرفق بالمؤمنين فقال: (3) (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ألن جانبك، وترفّق بمن اتبعك من المؤمنين، فإن ذلك أجدى لك، وأجلب لقلوبهم، وأكسب لمحبتهم، وأفضى إلى معونتك، والإخلاص لك. (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي فإن عصاك من أنذرتهم من العشيرة فلا ضير عليك، وقد أديت ما أمرت به، ولا عليك إثم مما يعملون، وقل لهم إنى برىء منكم ومن دعائكم مع الله إلها آخر، وإنكم ستجزون بجرمكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. (4) (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي وفوّض جميع أمورك إلى القادر على دفع الضرّ عنك، والانتقام من أعدائك الذين يريدون السوء بك، الرحيم بك إذ نصرك عليهم برحمته وهو الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس، ويرى تغيرك من حال كالجلوس إلى حال كالقيام فيما بين المصلين إذا كنت لهم إماما، وفى الخبر «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وعبر عن المصلين بالساجدين، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد. ثم أكد ما سلف بقوله: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه هو السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم

[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 إلى 227]

وسكناتهم، بسرهم ونجواهم كما قال: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ» . وقصارى ذلك- إنه هو القادر على نفعكم وضركم، فهو الذي يجب أن تتوكلوا عليه، وهو الذي يكفيكم ما أهمكم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) تفسير المفردات أنبئكم: أي أخبركم: والأفاك: كثير الإفك والكذب، والأثيم: كثير الذنوب والفجور، يلقون السمع: أي يصغون أشد الإصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون مما أكثره الكذب، والغاوون: الضالون المائلون عن السنن القويم. والوادي: الشّعب، يهيمون: أي يسيرون سير البهائم حائرين لا يهتدون إلى شىء، والمنقلب: المرجع. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه امتناع تنزل الشياطين بالقرآن، وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين- أعقب هذا ببيان استحالة تنزلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها

الإيضاح

لا تنزل إلا على كل كذاب فاجر، ورسول الله صادق أمين. ثم ذكر أن الكذابين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون وحيهم وهو تخيلات لا تطابق الحق والواقع. وبعدئذ ذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، لأن الشعراء يهيمون فى كل واد من أودية القول من مدح وهجو وتشبيب ومجون بحسب الهوى والمنفعة، فأقوالهم لا تترجم عن حقيقة، وليس بينها وبين الصدق نسب، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الصدق، فأنّى له أن يكون شاعرا؟. الإيضاح (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) أي هل أخبركم خبرا جليا نافعا فى الدين، عظيم الجدوى فى الدنيا، تعلمون به الفارق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن- على من تنزل الشياطين حين تسترق السمع؟. وهذا ردّ على من زعم من المشركين من ما جاء به الرسول ليس بحق، وأنه شىء أتاه به رئىّ من الجن، فنزّه الله رسوله عن قولهم وافترائهم، ونبّه إلى أن ما جاء به إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه، نزل به ملك كريم، وأنه ليس من قبل الشياطين. ثم أشار إلى الجواب عن هذا السؤال بوجهين: (1) (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي هى تنزل على كل كذاب فاجر من الكهنة نحو شقّ بن رهم، وسطيح بن ربيعة. (2) (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي يلقى الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، ويصغون إليهم أشد إصغاء، فيتلقون منهم ما يتلقون، وهؤلاء قلما يصدقون فى أقوالهم، بل هم فى أكثرها كاذبون. والخلاصة- إن هناك فارقا بين محمد صلى الله عليه وسلم والكهنة، فمحمد

لا يكذب فيما يخبر عن ربه، وما عرف عنه إلا الصدق، والكهنة كذابون فيما يقولون، وقلما عرف عنهم الصدق فى أخبارهم. وبعد أن ذكر الفارق بين محمد صلى الله عليه وسلم والكهنة- أردف ذلك ذكر الفارق بينه وبين الشعراء فقال: (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أي إن الشعراء يتبعهم الضالون الحائدون عن السنن القويم، المائلون إلى الفساد الذي يجر إلى الهلاك، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك، بل هم الساجدون الباكون الزاهدون. وقد سبق أن قلنا: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره أو يحرم روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: «ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شىء؟ قلت نعم، قال هيه فأنشدته بيتا، فقال هيه، ثم أنشدته بيتا، فقال هيه، حتى أنشدته مائة بيت» . وفى هذا دليل على العناية بحفظ الأشعار إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية لأنه كان حكيما، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام «كاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم» . ثم بين تلك الغواية بأمرين: (1) (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي ألم تعلم أن الشعراء يسلكون الطرق المختلفة من الكلام، فقد يمدحون الشيء حينا بعد أن ذموه، أو يعظّمونه بعد أن احتقروه، والعكس بالعكس، وذلك دليل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا تحرّى الصدق، لكنّ محمدا جبلّته الصدق، ولا يقول إلا الحق، وقد بقي على طريق واحد، وهو الدعوة إلى الله، والترغيب فى الآخرة، والإعراض عن الدنيا. (2) (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فهم يرغّبون فى الجود ويرغبون عنه، وينفّرون عن البخل ويضرون عليه، ويقدحون فى الأعراض لأدنى الأسباب،

ولا يأتون إلا الفواحش، ومحمد صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك. فقد بدأ بنفسه إذ قال له ربه: (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) ثم بالأقرب فالأقرب فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فليست حاله حال الشعراء. ولما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة استثنى منهم من اتصف بأمور أربعة (1) : الإيمان (2) والعمل الصالح (3) وكثرة قول الشعر فى توحيد الله والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق (4) وألا يهجو أحدا إلا انتصارا ممن يهجوه اتباعا لقوله: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» كما كان يفعل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير حين كانوا يهجون المشركين منافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك: «اهجهم، فو الذي نفسى بيده لهو أشد عليهم من رشق النّبل» وكان يقول لحسان بن ثابت: «قل وروح القدس معك» ، وفى رواية «اهجهم وجبريل معك» . وإلى هذا أشار بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) . وروى ابن جرير عن محمد بن إسحق «أنه لما نزلت هذه الآية جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، قالوا قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنّا شعراء فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال أنتم (وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً) قال: أنتم (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال: أنتم (أي بالرد على المشركين) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: انتصروا ولا تقولوا إلا حقا، ولا تذكروا الآباء والأمهات» ، فقال حسان لأبى سفيان: هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله فى ذاك الجزاء وإن أبى ووالده وعرضى لعرض محمد منكم وقاء

أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لسانى صارم لا عيب فيه وبحرى لا تكدّره الدّلاء وقال كعب: يا رسول الله. إن الله قد أنزل فى الشعر ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، «إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه، والذي نفسى بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» وقال كعب: جاءت سخينة كى تغالب ربها وليغلبنّ مغالب الغلّاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد مدحك الله يا كعب فى قولك هذا: وبعد أن ذكر سبحانه من الدلائل العقلية وأخبار الأنبياء المتقدمين ما يزيل الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بين الدلائل على صدق نبوته، ثم أرشد إلى الفارق بينه وبين الكهنة وبينه وبين الشعراء- ختم السورة بالتهديد العظيم، والوعيد الشديد للكافرين فقال: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم، وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات كفرا بها وعنادا- أىّ مرجع يرجعون إلى الله بعد الموت، وأىّ معاد يعودون إليه؟ إنهم ليصيرنّ إلى نار لا يطفأ سعيرها، ولا يسكن لهيبها. اللهم أبعدنا عن تلك النار وأدخلنا جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين.

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة (1) مقدمة فى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على إعراض قومه عن الدين، وبيان أنهم ليسوا ببدع فى الأمم، وأنه صلى الله عليه وسلم ليس بأول الرسل الذين كذّبوا، وأن الله قادر على إنزال القوارع التي تلجئهم إلى الإيمان، ولكن جرت سنته أن يجعل الإيمان فى القلوب اختيار يا لا اضطراريا. (2) الاستدلال بخلق النبات وأطواره المختلفة وأشكاله المنوّعة- على وجود الإله ووحدانيته. (3) قصص الأنبياء مع أممهم لما فيه من العبرة لأولئك المكذبين. (4) إثبات أن القرآن وحي من رب العالمين، لا كلام تتنزل به الشياطين. (5) بيان أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بكاهن ولا شاعر. (6) التهديد والوعيد لمن يعبد مع الله سواه من الأصنام والأوثان، ويكذب بالرسول والنور الذي أنزل معه.

سورة النمل

سورة النمل مكية نزلت بعد الشعراء، وآيها ثلاث وتسعون. ومناسبتها ما قبلها من وجوه: (1) إنها كالتتمة لها، إذ جاء فيها زيادة على ما تقدم من قصص الأنبياء قصص داود وسليمان. (2) إن فيها تفصيلا وبسطا لبعض القصص السالفة كقصص لوط وموسى عليهما السلام. (3) إن كلتيهما قد اشتمل على نعت القرآن وأنه منزل من عند الله. (4) تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من أذى قومه وعنتهم، وإصرارهم على الكفر به، والإعراض عنه. [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) الإيضاح (طس) تقدم القول فى المراد من فواتح السور، وأن الأصح أنها حروف مقطعة جاءت للتنبيه نحو ألا ويا التي للنداء، وينطق بأسمائها فيقال: (طا- سين) . (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي إن هذه الآيات التي أنزلتها إليك أيها الرسول لآيات القرآن، وآيات كتاب بيّن لمن تدبره وفكر فيه أنه من عند الله

[سورة النمل (27) : الآيات 4 إلى 5]

أنزله إليك، لم تتقوّله أنت ولا أحد من خلقه، إذ لا يستطيع ذلك مخلوق ولو تظاهر معه الجن والإنس. والمراد بالكتاب المبين: القرآن، وعطفه عليه كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما يقال هذا فعل السخي والجواد الكريم. (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هى تزيد المؤمنين هدى على هداهم كما قال: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» وهى تبشرهم برحمة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم. ولما كان وصف الإيمان خفيا ذكر ما يلزمه من الأمور الظاهرة فقال: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي إن المؤمنين حق الإيمان هم الذين يعملون الصالحات، فيقيمون الصلاة المفروضة على أكمل وجوهها، ويؤدون الزكاة التي تطهّر أموالهم وأنفسهم من الأرجاس، ويوقنون بالمعاد إلى ربهم، وأن هناك يوما يحاسبون فيه على أعمالهم خيرها وشرّها، فيذلّون أنفسهم فى طاعته، رجاء ثوابه وخوف عقابه. وليسوا كأولئك المكذبين به الذين لا يبالون. أحسنوا أم أساءوا، أطاعوا أم عصوا، لأنهم إن أحسنوا لا يرجون ثوابا، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا. [سورة النمل (27) : الآيات 4 الى 5] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) تفسير المفردات يعمهون: أي يتحيرون ويترددون فى أودية الضلال، الأخسرون: أي أشد الناس خسرانا، لحرمانهم الثواب، واستمرارهم فى العذاب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن المؤمنين يزيدهم القرآن هدى وبشرى، إذ هم به يستمسكون ويؤدون ما شرع من الأحكام على أتم الوجوه- أردف هذا ببيان أن من لا يؤمن بالآخرة يركب رأسه، ويتمادى فى غيه، ويعرض عن القرآن أشد الإعراض، ومن ثم تراه حائرا مترددا فى ضلاله، فهو فى عذاب شديد فى دنياه لتبلبله، وقلقه واضطراب نفسه، وفى الآخرة له أشد الخسران، لما يلحقه من النكال والوبال والحرمان من الثواب والنعيم الذي يتمتع به المؤمنون. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي إن الذين لا يصدقون بالآخرة وقيام الساعة والمعاد إلى الله بعد الموت، وبالثواب والعقاب- حبّبنا إليهم قبيح أعمالهم، ومددنا لهم فى غيهم، فهم فى ضلالهم حيارى تائهون، يحسبون أنهم يحسنون صنعا، لا يفكرون فى عقبى أمرهم، ولا ينظرون إلى ما يئول إليه سلوكهم. قال الزجاج: أي جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه بأن جعلناه مشتهى بالطبع، محبوبا إلى النفس. (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) فى الدنيا بقتلهم وأسرهم حين قتال المؤمنين كما حدث يوم بدر. (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي وهم فى الآخرة أعظم خسرانا مما هم فيه فى الدنيا، لأن عذابهم فيها مستمر لا ينقطع، وعذابهم فى الدنيا ليس بدائم بل هو زائل لا بقاء له.

[سورة النمل (27) : الآيات 6 إلى 14]

قصص موسى عليه السلام [سورة النمل (27) : الآيات 6 الى 14] وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) تفسير المفردات لتلقى: أي لتلقّن وتعطى، آنست: أي أبصرت إبصارا حصل لى به أنس، بخبر: أي عن الطريق وحاله، بشهاب: أي بشعلة نار، قبس: أي قطعة من النار مقبوسة ومأخوذة من أصلها، تصطلون: أي تستدفئون بها، قال الشاعر: النار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتيا فليصطل جان: أي حية صغيرة سريعة الحركة، ولّى مدبرا: أي التفت هاربا، ولم يعقب: أي لم يرجع على عقبه ولم يلتفت إلى ماوراءه من قولهم: عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرّ،

المعنى الجملي

من غير سوء: أي من غير برص ولا نحوه من الآفات، آيات: أي معجزات دالة على صدقك، مبصرة: أي بينة واضحة، جحدوا بها: أي كذبوا، واستيقنتها أنفسهم: أي علمت علما يقينيا أنها من عند الله، وعلوا: أي ترفعا واستكبارا. المعنى الجملي بعد أن وصف عز اسمه القرآن بأنه هدى وبشرى للمؤمنين، وأن من أعرض عنه كان له الخسران المبين- أردفه بذكر حال المنزل عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا له. الإيضاح (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي وإنك أيها الرسول لتحفظ القرآن وتعلّمه من عند حكيم بتدبير خلقه، عليم بأخبارهم وما فيه الخير لهم، فخبره هو الصدق، وحكمه هو العدل كما قال: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا» . ثم خوطب صلى الله عليه وسلم وأمر بتلاوة بعض ما تلقاه من لدنه عز اسمه تقريرا لما قبله وتحقيقا له بقوله: (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي واذكر أيها الرسول لقومك حين قول موسى لأهله وقد ساربهم فضلّ الطريق فى ليل دامس وظلام حالك، فرأى نارا تأجج وتضطرب، إنى أبصرت نارا سآتيكم منها إما بخبر عن الطريق أو آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها، وكان كما قال: فإنه رجع منها بخبر عظيم، واقتبس نورا جليلا. وقد كان هذا حين مسيره من مدين إلى مصر ولم يكن معه سوى امرأته، وكانا يسيران ليلا فاشتبه عليهما الطريق والبرد شديد.

وفى مثل هذه الحال يستبشر الناس بمشاهدة النار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة وأمن الطريق ومن الانتفاع بها للاصطلاء، ومن ثم قال لها هذه المقالة. (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فلما وصل إلى النار نودى بأن بورك من فى مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها هى البقعة المباركة المذكورة فى قوله: «نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» ومن حولها من فى ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات ومهبط الخيرات، لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا. وقوله سبحان الله تنزيه لنفسه عما لا يليق به فى ذاته وحكمته وإيذان بأن مدبر ذلك الأمر هو رب العالمين. أخرج عبد بن حميد وابن ماجه وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي عن أبى موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شىء أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة «أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين» . وفى التوراة: جاء الله من سيناء، وأشرف من ساعير، واستعلى من جبل فاران، فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم (وفاران مكة) . ولما تشوقت النفس إلى تحقيق ما يراد بالتصريح قال تعالى تمهيدا لما أراد إظهاره على يد موسى من المعجزات الباهرة: (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي يا موسى إن الذي يخاطبك ويناجيك هو ربك الذي عزّ كل شىء وقهره، وهو الحكيم فى أقواله وأفعاله.

ثم أرى موسى آية تدل على قدرته، ليعلم ذلك علم شهود فقال: (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي وألق عصاك، فلما ألقاها انقلبت حية سريعة الحركة، فلما رآها كذلك ولّى هاربا خوفا منها ولم يلتفت وراءه من شدة فرقه. وحينئذ تاقت النفس إلى معرفة ما قيل إذ ذاك فقال: (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي لا تخف مما ترى، فإنى لا يخاف عندى رسلى وأنبيائى الذين اختصهم وأصطفيهم بالنبوة. (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لكن من ظلم من سائر العباد، فإنه يخاف إلا إذا تاب، فبدل بتوبته حسنا بعد سوء، فإنى أغفر له وأمحو ذنوبه وجميع آثارها كما فعل السحرة الذين آمنوا بموسى، وفى هذا بشارة عظيمة لسائر البشر، فإن من عمل ذنبا ثم أقلع عنه وتاب وأناب، فإن الله يتوب عليه كما قال: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» وقال: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» . ثم أراه جلت قدرته آية أخرى ذكرها بقوله: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي وأدخل يدك فى جيب «مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر» فميصك تخرج بيضاء بياضا عظيما، ولها شعاع كشعاع الشمس بلا آفة بها من برص أو غيره. والآية الأولى كانت بتغيير ما فى يده وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية بتغيير يده نفسها وقلب أوصافها إلى أوصاف أخرى نورانية. (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أي هاتان آيتان من تسع آيات أؤيدك بهن، وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه كما قال: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ» . ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله:

[سورة النمل (27) : الآيات 15 إلى 19]

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي لأنهم قوم خرجوا عما تقتضيه الفطرة ويوجبه العقل بادعاء فرعون الألوهية وتصديقهم له فى ذلك. وبعدئذ ذكر ما حدث لهم حين أتاهم بالبراهين من ربه فقال: (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءت فرعون وقومه أدلتنا الواضحة المنيرة الدالة على صدق الداعي- أنكروها وقالوا هذا سحر بين لائح يدل على مهارة فاعله وحذق صانعه. ثم بين أن هذا التكذيب إنما كان باللسان فحسب لا بالقلب فقال: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) أي وكذبوا بها بألسنتهم وأنكروا دلالتها على صدقه وأنه رسول من ربه، لكنهم علموا فى قرارة نفوسهم أنها حق من عنده، فخالفت ألسنتهم قلوبهم، ظلما للآيات، إذ حطوها عن مرتبتها العالية وسمّوها سحرا، ترفعا عن الإيمان بها كما قال فى آية أخرى: «فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» . والخلاصة- إنهم تكبروا عن أن يؤمنوا بها وهم يعلمون أنها من عند الله. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فانظر أيها الرسول ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الذي فيه العبرة للظالمين، ومن إخراجهم من الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم. وفى هذا تحذير للمكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم الجاحدين لما جاء به من عند ربه، أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، لعلهم يقلعون عن عنادهم واستكبارهم حتى لا تنزل بهم القوارع ويأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون. قصص داود وسليمان عليهما السلام [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ورث سليمان داود: أي قام مقامه فى النبوة والملك، منطق الطير: أي فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، حشر: أي جمع، يوزعون: أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وادي النمل: واد بأرض الشام لا يحطمنكم: أي لا يكسرنكم ويهشمنكم، أوزعنى: أي يسر لى. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص موسى صلى الله عليه وسلم تقريرا لما قبله ببيان أنه تلقاه من لدن حكيم عليم- أردفه قصص داود وسليمان، وذكر أنه آتى كلا منهما طائفة من علوم الدين والدنيا، فعلّم داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلّم سليمان منطق الطير، ثم بين أن سليمان طلب من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح وأن يدخله جنات النعيم.

الإيضاح

الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أعطينا داود وسليمان ابنه عليهما السلام طائفة عظيمة من العلم، فعلمنا داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ونحو ذلك مما لم نؤته أحدا ممن قبلهما، فشكر الله على ما أولاهما من مننه، وقالا الحمد لله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن، على كثير من المؤمنين من عباده الذين لم يؤتهم مثل ما آتانا. وفى الآية إيماء إلى فضل العلم وشرف أهله من حيث شكرا عليه وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا شيئا دونه مما أوتياه من الملك العظيم: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» وفيها تحريض للعلماء على أن يحمدوا الله على ما آتاهم من فضله، وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن عباد الله من يفضلهم فيه. (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي قام مقامه فى النبوة والملك بعد موته، وسخّرت له الريح والشياطين. قال قتادة فى الآية: ورث نبوته وملكه وعلمه، وأعطى ما أعطى داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، وكان أعظم ملكا منه وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدا من سليمان، شاكرا لنعم الله تعالى اهـ. ثم ذكر بعض نعم الله عليه: (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي وقال متحدثا بنعمة ربه، ومنبها إلى ما شرّفه به، ليكون أجدر بالقول: يا أيها الناس إن ربى يسرّ لى فهم ما يريده الطائر إذا صوّت، فأعطانى قوة أستطيع بها أن أتبين مقاصده التي يومئ إليها فضلا منه ونعمة. وقد اجتهد كثير من الباحثين فى العصر الحاضر فعرفوا كثيرا من لغات الطيور

أي تنوع أصواتها لأداء أغراضها المختلفة من حزن وفرح وحاجة إلى طعام وشراب واستغاثة من عدوّ، إلى نحو ذلك من الأغراض القليلة التي جعلها الله للطير. وفى هذا معجزة لكتابه الكريم لقوله فى آخر السورة: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» . وإنك لتعجب إذ ترى اليوم أن كثيرا من الأمم تبحث فى لغات الطيور والحيوان والحشرات كالنمل والنحل، وتبحث فى تنوع أصواتها لتنوع أغراضها، فكأنه تعالى يقول: إنكم لا تعرفون لغات الطيور الآن وعلّمتها سليمان، وسيأتى يوم ينتشر فيه علم أحوال مخلوقاتى، ويطلع الناس على عجائب صنعى فيها. (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مما نحتاج إليه فى تدبير الملك، ويعيننا فى ديننا ودنيانا. وهذا أسلوب يراد به الكثرة من أي شىء، كما يقال فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شىء، وسيأتى فى مقال الهدهد عن بلقيس. «وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» . (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي أوتيناه من الخيرات لهو الفضل المبين الذي لا يخفى على أحد. ثم ذكر بعض ما أوتيه سليمان بقوله: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي وجمع له عساكره من مختلف النواحي ليحارب بهم من لم يدخل فى طاعته فهو يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، وقال ابن عباس لكل صنف وزعة ترد أولاها على أخراها، لئلا تتقدمها فى السير كما يصنع الملوك. وقال الحسن: لا بد للناس من وازع: أي سلطان يكفلهم. وقال عثمان بن عفان: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي حتى إذا أشرفوا على وادي النمل صاحت نملة بما فهم منه سليمان أنها تأمرهم بأن يدخلوا مساكنهم خوفا من تحطيم سليمن وجنوده لهم وهم لا يشعرون بذلك.

تذكرة وعبرة بالآية

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي فضحك متعجبا من حذرها وتحذيرها والهداية التي غرسها الله فيها، مسرورا بما خصه الله من فهم مقاصدها، وقال رب ألهمنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علىّ وعلى والدىّ، وأن أعمل عملا تحبه وترضاه، وتوفنى مسلما وألحقنى بالصالحين من عبادك. وخلاصة ذلك- كأنه قال: العلم غاية مطلبى وقد حصلت عليه، ولم يبق بعد ذلك إلا أن أطلب التوفيق للشكر عليه بالعمل الصالح الذي ترضاه، وأن أدخل فى عداد الصالحين من آبائي الأنبياء وغيرهم. تذكرة وعبرة بالآية قد دلّ بحث الباحثين فى معيشة النمل على مالها من عجائب فى معيشتها وتدبير شئونها، فإنها لتتخذ القرى فى باطن الأرض، وتبنى بيوتها أروقة ودهاليز وغرفات ذوات طبقات، وتملؤها حبوبا وقوتا للشتاء، وتخفى ذلك فى بيوت من مساكنها منعطفات إلى فوق، حذرا من ماء المطر. وفى هذه الآية تنبيه إلى هذا لإيقاظ العقول إلى ما أعطيته من الدقة وحسن النظم والسياسة، فإن نداءها لمن تحت أمرها وجمعها لهم ليشير إلى كيفية سياستها، وحكمتها وتذبيرها لأمورها، وأنها تفعل ما يفعل الملوك، وتدبّر وتسوس كما يسوس الحكام. ولم يذكره الكتاب الكريم إلا ليكون أمثالا تضرب للعقلاء، فيفهموا حال هذه الكائنات، وكيف أن النمل أجمعت أمرها على الفرار خوفا من الهلاك كما تجتمع على طلب المنافع، وإن أمة لا تصل فى تدبيرها إلى مثل ما يفعل هذا الحيوان الأعجم تكون أمة حمقاء تائهة فى أودية الضلال، وهى أدنى حالا من الحشرات والديدان: «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .

[سورة النمل (27) : الآيات 20 إلى 26]

[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 26] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) تفسير المفردات التفقد: طلب ما فقد، بسلطان مبين، أي بحجة واضحة، والإحاطة بالشيء علما علمه من جميع جهاته، وسبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو قبيلة باليمن، ونبأ: أي خبر عظيم، والعرش: سرير الملك، عن السبيل: عن سبيل الحق والصواب والخبء: هو المخبوء من كل شىء كالمطر وغيره من شئون الغيب. المعنى الجملي بعد أن ذكر فى سابق الآيات أنه سخر لسليمان الجن والإنس والطير وجعلهم جنودا له- ذكر هنا أنه احتاج إلى جندى من جنوده وهو الهدهد، فبحث عنه فلم يجده فتوعده بالعذاب أو القتل إلا إذا أبدى له عذرا يبرئه، فحضر بعد قليل وقص عليه خبر مملكة باليمن من أغنى الممالك وأقواها تحكمها امرأة هى بلقيس ملكة سبأ، ووصف له مالها من جلال الملك وأبّهته وأنها وقومها يعبدون الشمس لا خالق الشمس

الإيضاح

العليم بكل شىء فى السموات والأرض، والعليم بما نخفى وما نعلن، والعليم بالسر والنجوى، وهو رب العرش العظيم. الإيضاح (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي وطلب ما فقد من الطير بحسب ما تقتضيه العناية بأمر الملك من الاهتمام بالرعايا ولا سيما الجند فقال: الهدهد حاضر ومنع مانع من رؤيته كساتر ونحوه؟ ثم لاح له أنه غائب فقال أم كان قد غاب قبل ذلك ولم أشعر به؟. وخلاصة ذلك- أغاب عنى الهدهد الآن فلم أره حين تفقده، أم كان قد غاب من قبل ولم أشعر بغيبته. ثم توعده بالعذاب إذا لم يجد سببا يبرر به غيبته فقال: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي لأعذبنه بحبسه مع ضده فى قفص، ومن ثم قيل: أضيق السجون معاشرة الأضداد، أو بإبعاده من خدمتى، أو بإلزامه بخدمة أقرانه أو نحو ذلك، أو لأذبحنه ليعتبر به سواه أو ليأتينى بحجة تبين عذره. والخلاصة- إنه ليعذبنه بأحد الأمرين الأولين إن لم يكن الأمر الثالث. ثم ذكر أنه جاء بعد قليل وبين أن غيابه كان لأمر هامّ لدى سليمان. (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي فغاب مدة قصيرة بعد سؤال سليمان عنه ثم جاء فسأله: ما الذي أبطأ بك عنى؟ فقال: اطلعت على ما لم تطلع أنت ولا جنودك عليه، على سعة علمك واتساع أطراف مملكتك. وقد بدأ كلامه بهذا التمهيد، لترغيبه فى الإصغاء إلى العذر، واستمالة قلبه إلى قبوله، ولبيان خطر ما شغله، وأنه أمر جليل الشأن يجب أن يتدبر فيه، ليكون فيه

الخير له ولمملكته، فهو ما كان إلا لكشف مملكة سبأ، ومعرفة أحوالها، ومعرفة من يسوس أمورها، ويدبر شئونها. قال صاحب الكشاف: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاء له فى علمه، وتنبيها على أن فى أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له فى ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة اهـ. ثم فصل هذا النبأ وبينه بقوله: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) بين فى هذا الكلام شئونهم الدنيوية وذكر منها ثلاثة أمور: (1) إن ملكتهم امرأة وهى بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها من قبلها ملكا جليل القدر واسع الملك. (2) إنها أوتيت من الثراء وأبهة الملك وما يلزم ذلك من عتاد الحرب والسلاح وآلات القتال، الشيء الكثير الذي لا يوجد مثله إلا فى الممالك العظمى. (3) إن لها سريرا عظيما تجلس عليه، مرصّعا بالذهب وأنواع اللآلئ والجواهر فى قصر كبير رفيع الشأن، وفى هذا أكبر الأدلة على عظمة الملك وسعة رقعته ورفعة شأنه بين الممالك. وبعد أن بين شئونهم الدنيوية ذكر معتقداتهم الدينية فقال: (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) أي وجدتها وقومها فى ضلال مبين، فهم يعبدون الشمس لا ربّ الشمس وخالق الكون المحيط بكل شىء علما، وزين لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فظنوا حسنا ما ليس بالحسن، وصدهم عن الطريق القويم الذي بعث به الأنبياء والرسل وهو إخلاص السجود والعبادة لله وحده.

[سورة النمل (27) : الآيات 27 إلى 31]

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي فصدهم عن السبيل حتى لا يهتدوا ويسجدوا لله الذي يظهر المخبوء فى السموات والأرض كالمطر والنبات والمعادن المخبوءة فى الأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال كما قال: «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» . ولما بين أن كل العوالم مفتقرة إليه ومحتاجة إلى تدبيره، ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فأبان أن أعظمها قدرا، وهو العرش الذي هو مركز تدبير شئون العالم هو الخالق له وهو محتاج إليه فقال: (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي هو الله الذي لا تصلح العبادة إلا له وهو رب العرش العظيم، فكل عرش وإن عظم فهو دونه، فأفردوه بالطاعة ولا تشركوا به شيئا. [سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 31] قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) تفسير المفردات تولّ عنهم: أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه، ليكون ما يقولونه بمسمع منك، فانظر: أي تأمل وفكّر، يرجعون: أي يرجع بعضهم إلى بعض من القول ويدور بينهم بشأنه، والملأ: أشراف القوم وخاصة الملك، ألا تعلوا علىّ: أي ألا تتكبروا ولا تنقادوا للنفس والهوى، مسلمين: أي منقادين خاضعين.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر أن الهدهد أبدى المعاذير لتبرئة نفسه- أردف ذلك إجابة سليمن عن مقالة الهدهد، ثم أمره بتبليغ كتاب منه إلى ملكة سبأ، والتنحي جانبا ليستمع ما يدور من الحديث بينها وبين خاصتها بشأنه. الإيضاح (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ؟) أي قال سنختبر مقالك، ونتعرف حقيقته بالامتحان، أصادق أنت فيما تقول، أم كاذب فيه لتتخلص من الوعيد؟ وفى التعبير بقوله: كنت من الكاذبين، دون أن يقول أم كذبت، إيذان بأن تلفيق الأقوال المنمّقة، واختيار الأسلوب الذي يستهوى السامع إلى قبولها من غير أن يكون لها حقيقة تعبر عنها- لا يصدر إلا ممّن مرن على الكذب وصار سجيّة له حتى لا يجد وسيلة للبعد عنه، وهذا يفيد أنه كاذب على أتم وجه، ومن كان كذلك لا يوثق به. ثم شرع يفعل ما يختبره به فكتب له كتابا موجزا وأمره بتبليغه إلى ملكة سبأ فقال: (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ) أي اذهب بهذا الكتاب فألقه إليهم، ثم تنح عنهم وكن قريبا منهم، واستمع مراجعة الملكة أهل مملكتها، وما بعد ذلك من مراجعة بعضهم بعضا ونقاشهم فيه. ثم فصل ما دار بينهم بشأنه فقال: (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) أي وبعد أن ذهب الهدهد بالكتاب ألقاه إلى الملكة ففضّت خاتمه وقرأته، وجمعت أشراف قومها ومستشاريها

[سورة النمل (27) : الآيات 32 إلى 35]

وقالت تلك المقالة للمشورة، وطلبت أخذ الرأى فى ذلك الخطب الذي نزل بها كما هو دأب الدول الديمقراطية. وفى الآية إيماء إلى أمور: (1) سرعة الهدهد فى إيصال الكتاب إليهم. (2) إنه أوتى قوة المعرفة فاستطاع أن يفهم بالسمع كلامهم. (3) إنها ترجمت ذلك الكتاب فورا بواسطة تراجمتها. (4) إن من آداب رسل الملوك أن يتنحّوا قليلا عن المرسل إليهم بعد أداء الرسالة، ليتشاور المرسل إليهم فيها. ثم بينت مصدر الكتاب وما فيه لخاصتها وذوى الرأى فى مملكتها فقالت. (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ونص هذا الكتاب على وجازته يدل على أمور: (1) إنه مشتمل على إثبات الإله ووحدانيته وقدرته وكونه رحمانا رحيما. (2) نهيهم عن اتباع أهوائهم، ووجوب اتباعهم للحق. (3) أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين. وبهذا يكون الكتاب قد جمع كل ما لا بد منه فى الدين والدنيا. [سورة النمل (27) : الآيات 32 الى 35] قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أفتونى: أي أشيروا علىّ بما عندكم من الرأى والتدبير فيما حدث، قاطعة أمرا: أىّ باتّة فيه منفذته، تشهدون: أي تحضروني، والمراد بالقوة: القوة الحسية وكثرة الآلات، والمراد بالبأس: النجدة والثبات فى الحرب. المعنى الجملي ذكر فيما سلف أن الهدهد حيما ألقى الكتاب أحضرت بطانتها وأولى الرأى لديها وقرأت عليهم نصّ الكتاب، وهنا بين أنها طلبت إليهم إبداء آرائهم فيما عرض عليهم من هذا الخطب المدلهمّ والحادث الجلل حتى ينجلى لهم صواب الرأى فيما تعمل ويعملون، لأنها لا نريد أن تستبدّ بالأمر وحدها، فقلّبوا وجوه الرأى واشتد الحوار بينهم وكانت خاتمة المطاف أن قالوا: الرأى لدينا القتال، فإنا قوم أولو بأس ونجدة، والأمر مفوّض إليك فافعلى ما بدا لك، وإن قالت: إنى أرى أن عاقبة الحرب والدمار والخراب وصيرورة العزيز ذليلا، وإنى أرى أن نهادنه ونرسل إليه بهدية ثم ننظر ماذا يكون رده، علّه يقبل ذلك منا، ويكفّ عنا، أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه كل عام ونلتزم ذلك له، وبذا يترك قتالنا وحربنا: الإيضاح (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي قالت بلقيس لأشراف قومها: أيها الملأ أشيروا علىّ فى أمر هذا الكتاب الذي ألقى إلىّ فإنى لا أقضى فيه برأى حتى تشهدونى فأشاوركم فيه. وفى قولها هذا دلالة على إجلالهم وتكريمهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، ولتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضاءهم على الطاعة لها، علما منها أنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن

لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان فى استبدادها برأيها وهن فى طاعتها، وتعمية فى تقدير أمرهم، وكان فى مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريد من قوة شوكتهم وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم فى جوابهم: (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) على مالها من عقل راجح وأدب جمّ فى التخاطب. وعلى هذا النهج سار الإسلام، فقد قال سبحانه لنبيه «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» وقد مدح سبحانه صحابة رسوله بقوله: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» . فأجابوا عن مقالها: (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ) أي قال الملأ من قومها حين شاورتهم فى أمرها وأمر سليمان: نحن ذوو بأس ونجدة فى القتال، إلى ما لنا من وافر العدّة وعظيم العتاد وكثير الكراع والسلاح، وإن أمر القتال والسلم مفوّض إليك، فانظرى وقلّبى الرأى على وجوهه، ثم مرينا نأتمر بذلك. ولما أحست منهم الميل إلى القتال شرعت تبين لهم وجه الصواب، وأنهم فى غفلة عن قدرة سليمان وعظيم شأنه، إذ من سخر له الطير على الوجه الذي يريده ليس من السهل مجالدته والتغلب عليه. (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أي قالت لهم حين عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان: إن الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين أفسدوها بتخريب عمائرها وإتلاف أموالها، وأذلوا أهلها بالأسر والإجلاء عن موطنهم أو قتلوهم تقتيلا، ليتم هلم الملك والغلبة، وتتقرر لهم فى النفوس المهابة، وهكذا يفعلون معنا. وفى هذا تحذير شديد لقومها من مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم.

[سورة النمل (27) : الآيات 36 إلى 37]

وبعد أن أبانت ما فى الحرب والمجالدة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ؟) أي وإنى سأرسل إليه هدية من نفائس الأموال لأتعرف حاله وأختبر أمره، أنبى هو أم ملك؟ فإن كان نبيا لم يقبلها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن كان ملكا قبل الهدية وانصرف إلى حين، فإن الهدايا مما تورث المودة، وتذهب العداوة، وفى الحديث: «تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» ولقد أحسن من قال: هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولّد فى قلوبهم الوصالا وتزرع فى الضمير هوى وودّا ... وتكسبهم إذا حضروا جمالا [سورة النمل (27) : الآيات 36 الى 37] فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) تفسير المفردات لا قبل لهم بها: أي لا طاقة لهم بمقاومتها، صاغرون: أي مهانون محتقرون. الإيضاح لما وصلت الهدية مع الرسول إلى سليمان وكانت من ذهب وجواهر ولآلى وغيرها مما تقدمه الملوك العظام، قال سليمان للرسول: أتصانعونني بالمال لأترككم على شرككم وكفركم؟ لن يكون ذلك أبدا، إن الذي أعطانيه الله من النبوة والملك الواسع الأرجاء والمال الوفير- خير مما أنتم فيه، فلا حاجة لى بهديتكم، وليس رأيى فى المال كما ترون، فأنتم تفرحون به دونى، فارجع بما جئت به إلى من أرسلك،

[سورة النمل (27) : الآيات 38 إلى 40]

ولنأتينكم بجنود لا طاقة لكم بدفعها ولا الانتصار عليها، ولنخرجنكم من أرضكم أذلة مأمورين مستعبدين، إن لم تأتونى مستسلمين منقادين. [سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 40] قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) تفسير المفردات العرش: سرير الملك، مسلمين أي خاضعين منقادين، العفريت من البشر: الخبيث الماكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين: المارد، مقامك: أي مجلسك الذي تجلس فيه للحكم، قوى: أي قادر على حمله لا أعجز عنه، أمين: أي على ما فيه من لآلئ وجواهر وغيرها، والكتاب: هو علم الوحى والشرائع، والذي عنده علم هو سليمان عليه السلام كما اختاره الرازي وقال إنه أقرب الآراء، يرتد: أي يرجع، والطرف: تحريك الأجفان والمراد بذلك السرعة العظيمة، مستقرا: أي ساكنا قارا على حاله التي كان عليها، الفضل: التفضل والإحسان، ليبلونى: أي ليعاملنى معاملة المختبر، أم أكفر أي أقصر فى أداء واجب الشكر، كفر أي لم يشكر. المعنى الجملي استبان مما سلف أن سليمان رفض قبول الهدايا وتهدد الرسول بأن قومه وملكتهم إن لم يأتوا إليه طائعين خاضعين فسيوجه إليهم جيشا جرارا ينكل بهم أشد التنكيل،

الإيضاح

يقتل من يقتل ويأتى بالباقين أسارى وهم صاغرون، ويجليهم جميعا عن الديار والأوطان، ويأخذ أموالهم غنائم له- وهنا ذكر أنهم خافوا تهديده واستجابوا لدعوته، فتوجهت الملكة وأشراف قومها إليه، لكن سليمان رأى حين قربت من الوصول إليه أن يحضر سرير ملكها قبل مقدمها، ليكون فى ذلك دلالة على قدرة الله وإثبات نبوته وتتظاهر عليها الأدلة من كل أوب، فسأل أعوانه: أيكم يستطيع أن يحضره قبل وصولها إلينا، فأجابه عفريت من الجن بأن فى استطاعته أن يحضره قبل قيامه من مجلس الحكم والقضاء، فقال هو: بل أنا آتيكم به كلمح البصر، وقد كان كما قال: فرأى العرش حاضرا أمامه فشكر ربه على ما آتاه من النعم العظام الذي لا يستطيع إيفاء حقها من الشكر. وعلينا أن نؤمن بما جاء فى الكتاب الكريم على أنه معجزة لسليمان، إذ هو لا ينطبق على السنن العادية التي وضعها ربنا لخلقه، فعلم البشر إلى الآن لم يصل إلى تحقيق ذلك عمليا مع تقدم سبل الانتقال، فالطائرات على سرعتها التي أدهشت العقول لا تستطيع أن تسافر من جنوب اليمن إلى أطراف الشام فى مثل تلك اللحظات الوجيزة. الإيضاح لما رجعت الرسل إلى بلقيس وأخبرتها بما قال سليمان قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، وبعثت إليه إنى قادمة إليك بأشراف قومى، لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه، من دينك، ثم شخصت إليه، فجعل يبعث الجن يأتونه بأخبارها ويعلمونه غاية سيرها كل يوم حتى إذا دنت منه جمع جنده من الجن والإنس وتكلم فيهم. (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي قال أيها الأعوان من منكم فى مكنته أن يأتينى بسرير ملكها قبل قدومها علينا، لنطلعها

على بعض ما أنعم الله به علينا من العجائب النبوية، والآيات الإلهية، لتعرف صدق نبوتنا، ولتعلم أن ملكها فى جانب عجائب الله وبدائع قدرته يسير، وحينئذ تقدّم إليه بعض جنده بمقترحات. (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي قال شيطان قوى أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس قضائك وكان إلى منتصف النهار، ثم زاد الأمر توكيدا فقال: وإنى على الإتيان به لقادر لا أعجز عنه، وإنى لأمين لا أمسه بسوء، ولا أقتطع منه شيئا لنفسى- حينئذ. (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي قال سليمان للعفريت متحدثا بنعمة الله وعظيم فضله عليه: أنا أفعل ما لا تستطيع أنت، أنا أحضره فى أقصر ما يكون مدة، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك، وقد كان كما قال: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟) أي فلما رآه سليمان ساكنا ثابتا على حاله لم يتبدل منه شىء ولم يتغير وضعه الذي كان عليه قال هذا تفضل من الله ومنّة ليختبرنى: أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا قوة منى أم أجحد فلا أشكر بل أنسب العمل إلى نفسى؟ وإن النعم الجسمية والروحية والعقلية كلها مواهب يمتحن الله بها عباده، فمن ضل بها هوى، ومن شكرها ارتقى، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أي ومن شكر ففائدة الشكر إليه، لأنه يجلب دوام النعمة، ومن جحد ولم يشكر فإن الله غنى عن العباد وعبادتهم، كريم بالإنعام عليهم وإن لم يعبدوه، كما قال: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» وقال: «وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» وروى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه

[سورة النمل (27) : الآيات 41 إلى 44]

«يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد دلك فى ملكى شيئا، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا، يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» . [سورة النمل (27) : الآيات 41 الى 44] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) تفسير المفردات نكروا لها عرشها: أي غيروا هيئته وشكله بحيث لا يعرف بسهولة، مسلمين: أي خاضعين منقادين، صدها: أي منعها، والصرح: القصر وكل بناء عال، واللجة الماء الكثير، ممرد: أي ذو سطح أملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر فى وجهه، القوارير: الزجاج واحدها قارورة، أسلمت: أي خضعت. المعنى الجملي علمنا مما سلف أن بلقيس تجهزت للسفر مقبلة إلى سليمان، وأن الجن كانت تترسم خطاها من يوم إلى آخر حتى إذا دنت منه سأل سليمان جنده: من يستطيع

الإيضاح

إحضار عرشها؟ فقال عفريت من الجن: أنا أفعل ذلك قبل أن تقوم من مجلس القضاء، فقال سليمان: بل أستطيع أن أحضره فى لمح البصر وكان كما قال: فلما رآه أمامه شكر ربه على جزيل نعمه. وهنا ذكر ما فعل سليمان من تغيير معالم العرش وتبديل أوضاعه، ثم سؤالها عنه ليختبر مقدار عقلها، ولتعلم صدق سليمان فى دعواه النبوة، وتتظاهر لديها الأدلة على قدرة المولى سبحانه. وقد كان مما أعده لنزولها قصر عظيم مبنى من الزجاج الشفاف، فرشت أرضه بالزجاج أيضا، وفى أسفله ماء جار فيه صنوف السمك، فلما دخلت فى بهوه خالته لجة من الماء فكشفت عن ساقيها لتخوض فيه، فأنبأها سليمان بأن هذا زجاج يجرى تحته الماء، حينئذ أيقنت بأن دين سليمان هو الحق وأنها قد ظلمت نفسها بكفرها بالله ربها خالق السموات والأرض وصاحت تقول: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين الإيضاح (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي قال سليمان لجنده لما جاء عرش بلقيس: غيروا لها معالم السرير وبدّلوا أوضاعه، لنختبر حالها إذا نظرت إليه ونرى: أتهتدي إليه وتعلم أنه هو أم لا تستبين لها حقيقة حاله؟. ثم أشار إلى سرعة مجيها وخضوعها بقوله: (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي فحين قدمت واطلعت على عرشها سئلت عنه، أعرشك مثل هذا؟ أجابت بما دل على رجاحة عقلها إذ قالت كأنه هو، ولم تجزم بأنه هو، إذ ربما كان مثله. قال مجاهد: جعلت تعرّف وتنكر، وتعجب من حضوره عند سليمان فقالت:

كأنه هو: وقال مقاتل: عرفته ولكنها شبّهت عليهم كما شبهوا عليها، ولو قيل لها أهذا عرشك لقالت نعم. ولما ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار المعجزة لها قالت: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصدق نبوتك من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وبما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك، وكنا منقادين لك من ذلك الحين، فلا حاجة بي إلى إظهار معجزات أخرى. ثم ذكر سبحانه ما منعها عن إظهار ما ادعت من الإسلام إلى ذلك الحين فقال: (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي ومنعها ما كانت تعبده من دون الله وهو الشمس عن إظهار الإسلام والاعتراف بوحدانيته تعالى، من قبل أنها من قوم كانوا يعبدونها ونشأت بين أظهرهم ولم تكن قادرة على إظهار إسلامها إلى أن مثلت بين يدى سليمان فاستطاعت أن تنطق بما كانت تعتقده فى قرارة نفسها ويجول فى خاطرها. روى أن سليمان أمر قبل مقدمها ببناء قصر عظيم جعل صحنه من زجاج أبيض شفاف يجرى من تحته الماء وألقى فيه دواب البحر من سمك وغيره، فلما قدمت إليه استقبلها فيه وجلس فى صدره، فحين أرادت الوصول إليه حسبته ماء فكشفت عن ساقيها، لئلا تبتل أذيالها كما هى عادة من يخوض الماء، فقال لها سليمان: إن ما تظنينه ماء ليس بالماء، بل هو صرح قد صنع من الزجاج فسترت ساقيها وعجبت من ذلك، وعلمت أن هذا ملك أعزّ من ملكها، وسلطان أعز من سلطانها، ودعاها سليمان إلى عبادة الله وعليها على عبادة الشمس دون الله، فأجابته إلى ما طلب وقالت: رب إنى ظلمت نفسى بالثبات على ما كنت عليه من الكفر، وأسلمت مع سليمان لله رب كل شىء وأخلصت له العبادة وإلى ما تقدم أشار سبحانه بقوله:

[سورة النمل (27) : الآيات 45 إلى 53]

ِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ، قالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) . أخرج البخاري فى تاريخه والعقيلي عن أبى موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من صنعت له الحمامات سليمان» . قصص صالح [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) تفسير المفردات فريقان: أي طائفتان طائفة مؤمنة وأخرى كافرة، يختصمون: أي يجادل بعضهم بعضا ويحاجه، السيئة: العقوبة التي تسوء صاحبها، الحسنة: التوبة، لولا: أي هلّا، وهى كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها، اطيرنا: أي تطايرنا وتشاء منا بك،

الإيضاح

طائركم: أي ما يصيبكم من الخير والشر، وسمى طائرا لأنه لا شىء أسرع من نزول القضاء المحتوم، تفتنون: أي تختبرون بتعاقب السراء والضراء، والمراد بالمدينة: الحجر، والرهط والنفر: من الثلاثة إلى التسعة، تقاسموا: أي احلفوا، والبيات: مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا، وليه: أي من له حق القصاص من ذوى قرابته إذا قتل، والمهلك: الهلاك، والمكر: التدبير الخفي لعمل الشر، والتدمير: الإهلاك، خاوية: أي خالية، لآية: أي لعبرة وموعظة. الإيضاح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي ولقد بعثنا إلى ثمود أخاهم صالحا وقلنا لهم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، ولا تجعلوا معه إلها غيره. وحين دعاهم إلى ذلك افترقوا فرقتين: (1) فريق صدّق صالحا وآمن بما جاء به من عند ربه. (2) فريق كذّبه وكفر بما جاء به. وصارا يتجادلان ويتخاصمان، وكل منهما يقول أنا على الحق وخصمى على الباطل. ثم ذكر أن صالحا استعطف المكذّبين وكانوا أكثر عددا وأشد عتوّا وعنادا حتى قالوا: «يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» . (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟) أي لم تستعجلون بالعقوبة التي يسوءكم نزولها بكم قبل حصول الخيرات التي بشّرتكم بها فى الدنيا والآخرة إن أنتم آمنتم بي. ثم نصحهم وطلب إليهم أن يستغفروا ربهم لعلهم يرحمون فقال:

(لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي هلّا تتوبون إلى الله من كفركم، فيغفر لكم عظيم جرمكم ويصفح عن عقوبتكم على ما أتيتم به من الخطايا، لعلكم ترحمون بقبولها، إذ قد جرت سنته ألا تقبل التوبة بعد نزول العقوبة. ولما قال لهم صالح ما قال، وأبان لهم سبيل الرشاد أجابوه بفظاظة وغلظة. (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي قالوا: إنا تشاءمنا بك وبمن آمن معك، إذ زجرنا الطير فعلمنا أن سيصيبنا بك وبهم من المكاره ما لا قبل لنا به، ولم تزل فى اختلاف وافتراق منذ اخترعتم دينكم وأصابنا القحط والجدب بسببكم. وسمى التشاؤم تطيرا من قبل أنه كان من دأبهم أنهم إذا خرجوا مسافرين فمروا بطائر زجروه: أي رموه بحجر ونحوه، فإن مرّ سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسره تيمنوا به، وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إلى الميامن تشاءموا منه. فأجابهم صالح عليه السلام: (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي قال إن ما يصيبكم من خير أو شر مكتوب عند الله وهو بقضائه وقدره، وليس شىء منه بيد غيره، فهو إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم: وسمى ذلك القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان، فلا شى أسرع منه نزولا. ثم أبان لهم سبب نزول ما ينزل من الشر بقوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي بل أنتم قوم يختبركم ربكم حين أرسلنى إليكم أتطيعونه فتعملوا بما أمركم به فيجزيكم الجزيل من ثوابه، أم تعصونه فتعملوا بخلافه فيحل بكم عقابه؟ ثم ذكر أن قريته كانت كثيرة الفساد فقال: (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي وكان فى مدينة صالح وهى الحجر تسعة أنفس يعيثون فى الأرض فسادا لا يعملون فيها صالحا. ثم بين بعض ما عملوا من الفساد:

(قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي قال بعضهم لبعض فى أثناء المشاورة فى أمر صالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة وتوعّدهم بقوله: «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» احلفوا لنباغتّنه وأهله بالهلاك ليلا ثم لنقولن لأولياء الدم، ما حضرنا هلاكهم، ولا ندرى من قتله ولا قتل أهله. ونحلف إنا لصادقون فى قولنا. وإذا كانوا لم يشهدوا هلاكهم فهم لم يقتلوهم بالأولى، وأيضا فهم إذا لم يقتلوا الأتباع فأحربهم ألا يقتلوا صالحا. قال الزجاج: كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيّتوا صالحا وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه، وكان هذا مكرا منهم، ومن ثم قال سبحانه محذّرا لهم ولأمثالهم. (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون فى الأرض بصالح، إذ صاروا إليه ليلا ليقتلوه وأهله وهو لا يشعر بذلك، فأخذناهم بعقوبتنا، وعجلنا لهم العذاب من حيث لا يشعرون بمكر الله بهم. ثم بين ما ترتب على ما باشروه من المكر بقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) أي ففكر كيف آل أمرهم، وكيف كانت عاقبة مكرهم، فقد أهلكناهم وقومهم الذين لم يؤمنوا على وجه يقتضى النظر، ويسترعى الاعتبار، ويكون عظة لمن غدر كغدرهم فى جميع الأزمان. روى أنه كان لصالح فى الحجر مسجد فى شعب يصلى فيه، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه، فوقعت عليهم صخرة من جبالهم طبّقت عليهم الشعب فهلكهوا وهلك الباقون فى أماكنهم بالصيحة، ونجّى الله صالحا ومن آمن معه. ثم أكد ما تقدم وقرره بقوله:

[سورة النمل (27) : الآيات 54 إلى 55]

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أي فتلك مساكنهم أصبحت خالية منهم، إذ قد أهلكهم الله بظلمهم أنفسهم بشركهم به وتكذيبهم برسوله. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إن فى فعلنا بثمود ما قصصناه عليك لعظة لمن كان من أولى المعرفة والعلم، فيعلم ارتباط الأسباب بمسبباتها، والنتائج بمقدماتها، بحسب السنن التي وضعت فى الكون. وبعد أن ذكر من هلكوا أردفهم بمن أنجاهم فقال: (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي وأنجينا من نقمتنا وعذابنا الذي أحللناه بثمود- رسولنا صالحا ومن آمن به، لأنهم كانوا يتقون سخط الله ويخافون شديد عقابه، بتصديقهم رسوله الذي أرسله إليهم. وفى هذا إيماء إلى أن الله ينجى محمدا وأتباعه عند حلول العذاب بمشركى قريش حين يخرج من بين ظهرانيهم كما أحلّ بقوم صالح ما أحل حين خرج هو والمؤمنون إلى أطراف الشام ونزل رملة وفلسطين. قصص لوط [سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 55] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) الإيضاح (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟) أي واذكر لقومك حديث لوط لقومه إذ قال لهم منذرا ومحذّرا: إنكم لتفعلون فاحشة لم يسبقكم بها أحد من بنى آدم، مع علمكم بقبحها لدى العقول والشرائع (واقتراف القبيح ممن يعلم قبحه أشنع) .

ثم بين ما يأتون من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام ليكون أوقع فى النفس فقال: (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي أينبغى أن تأتوا الرجال وتقودكم الشهوة إلى ذلك وتذروا النساء اللاتي فيهن محاسن الجمال، وفيهن مباهج الرجال، إنكم لقوم جاهلون سفهاء حمقى ما جنون. ونحو الآية قوله: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» . وقد أشار سبحانه إلى قبيح فعلهم وعظيم شناعته من وجوه: (1) قوله: (الرِّجالَ) وفيه الإشارة إلى أن الحيوان الأعجم لا يرضى بمثل هذا. (2) قوله: (مِنْ دُونِ النِّساءِ) وفى ذلك إيماء إلى أن تركهن واستبدال الرجال بهن خطأ شنيع وفعل قبيح. (3) قوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وفى هذا إيماء إلى أنهم يفعلون فعل الجهلا الذين لا عقول لهم، ولا يدرون عظيم قبح ما يفعلون. هذا آخر ما سطرناه تفسيرا لهذا الجزء من كلام ربنا العليم القدير، فله الحمد والمنة. وكان ذلك بمدينة حلوان من أرباض القاهرة فى الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 3 ما شرطه المشركون للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم 5 ما تقوله الملائكة للمشركين يوم القيامة 8 ندمهم فى الآخرة على ما فعلوا فى الدنيا 9 مثل الجليس الصالح وجليس السوء 10 شكاية الرسول إلى ربه بأن قومه هجروا كتابه 10 كان لكل نبى أعداء من شياطين الإنس والجن 12 فوائد إنزال القرآن منجّما 13 وعد الله رسوله بتأييده بإزالة ما يقولون من الشبه 14 قصص بعض الأنبياء مع أممهم 17 قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم 19 استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم وقولهم «أهذا الذي بعث الله رسولا 19 احتفال النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة والإلحاف فى البلاغ 20 تسفيه آراء المشركين من وجوه ثلاثة: 23 الأدلة على التوحيد 25 بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة كما جاء فى الحديث: بعثت إلى الأحمر والأسود 27 النهى على المشركين فى عبادة الأصنام 27 المشركون يظاهرون أولياء الشيطان ويعادون أولياء الرحمن

27 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوكل على الله وحده ألا يرهب الوعيد ولا التهديد 31 خلق السموات والأرض فى ستة أيام 33 جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر 34 أوصاف خلّص عباده المؤمنين 36 صفة مشى النبي صلى الله عليه وسلم 37 سؤالهم صرف العذاب عنهم 38 كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم 39 سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أىّ الذنب أكبر؟ 40 ترغيب الأبرار فى التوبة 41 كان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة 41 «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» 42 إحسان الله إلى عباده المتقين 42 لولا عبادتكم ربكم لم يعبأ بكم 45 الحروف المقطعة فى أوائل السور 46 جرت سنة الله أن يكون الإيمان طوعا لا كرها 46 إعراض المشركين عن النظر فى الآيات 48 بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بتأييده ونصره 48 قصص موسى عليه السلام 49 تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم 50 الأسباب التي جعلت موسى يطلب معونة هارون 51 تقريع فرعون لموسى على حسن صنيعه له 52 قال موسى لفرعون إن أحسنت إلىّ فقد أسأت إلى شعبى

3 تعريف موسى لإلهه أمام فرعون 54 بعد أن عجز فرعون عن دحض حجج موسى وصفه بالجنون 55 تهديد فرعون لموسى بالسجن 56 الأدلة التي أدلى بها موسى على صحة نبوته 57 ما يرويه فرعون. موقفه من موسى أمام شعبه 58 المناظرة بين موسى والسحرة وفلج موسى عليهم 61 إيمان السحرة بموسى 62 تهديد فرعون للسحرة على إيمانهم 63 رد السحرة على تهديد فرعون 65 أمر الله لموسى بالهجرة مع قومه من مصر 65 ما جاء فى سفر الخروج من التوراة عن هذه الهجرة 66 ما قوّى به فرعون جنده فى تعقبهم 67 ما جازى الله به فرعون وقومه 68 ما طمأن به موسى قومه حين خافوا من تعقبهم 68 كيف نجى الله موسى وقومه 69 قصص إبراهيم عليه السلام مع قومه 71 محاجة إبراهيم لقومه 72 ما وصف به إبراهيم رب العالمين 74 ما طلبه إبراهيم من ربه 76 تقريب الجنة من المتقين والنار من الغاوين 77 سؤال أهل النار سؤال تقريع

78 ندم المشركين على ما كان قد فرط منهم 80 قصص نوح عليه السلام مع قومه 82 الحجة التي تذرعوا بها لعدم إجابتهم دعوته 83 تهديدهم لنوح عليه السلام 84 قصص هود عليه السلام مع قومه 86 ما أنكره هود على قومه 87 عظته لقومه على ما آتاهم من النعم 88 بعد أن أنذرهم ووبخهم قابلوه بالإنكار 89 قصص صالح عليه السلام مع قومه 91 ما خاطب به قومه محذرا لهم 92 إجابتهم له على ما اقترحوه من الآيات 93 قصص لوط عليه السلام مع قومه 94 توبيخ لوط لقومه على قبيح أفعالهم 95 إغاثة الله له بعد أن استغاثه 96 ما كتبه الباحثون حديثا عن قرى قوم لوط 97 رواية التوراة لقصة قوم لوط 98 قصص شعيب عليه السلام مع قومه 100 نهيهم عن بخس الحقوق 100 قدحهم فى نبوة الرسول لأمرين 101 ما نزل بهم من العذاب

102 إخبار القرآن عن الغيب 103 القرآن ذكر فى الكتب السالفة 104 الرد على المشركين بأن لمحمد تابعا من الجن 105 بعث المشركون إلى أهل يثرب يسألونهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم 106 تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمان قومه 107 طول العمر لا يدفع عنهم العذاب المنتظر 108 لا يهلك الله قرية إلا بعد إنذارها 109 إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لقريش 111 أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلين الجانب 112 تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم 114 الشعراء يتبعهم الغاوون وذكر سبب ذلك 115 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض على قول الشعر انتصار للدين 116 تحذير المشركين من سوء العاقبة 117 خلاصة ما حوته سورة الشعراء 118 أصح الأقوال فى فواتح السور 119 لوازم الإيمان الصحيح 120 يجب الله إلى من لا يؤمن بالآخرة سوء عمله 122 قصص موسى عليه السلام حين عودته من مدين 123 ما جاء فى التوراة عن ذلك 124 ما أراه ربه من الآيات الدالة على قدرته 125 قصص داود وسليمان عليهما السلام

128 كثير من العلماء الآن يهتمون بالبحث عن لغات الطيور والحشرات كالنمل والنحل 129 تذكرة وعبرة بالآية 130 تفقد سليمان للهدهد 132 وصف مملكة سبأ 132 كتاب سليمان لملكة سبأ وردها عليه 135 ما يدل عليه الكتاب على وجازته 136 طلبت بلقيس من أشراف قومها إبداء الرأى فى كتاب سليمان 137 تحذيرها قومها من حرب سليمان 138 لم يقبل سليمان عليه السلام هدية بلقيس 140 مجىء سليمان بعرش بلقيس 141 من الذي عنده علم من الكتاب؟ 143 ما فعلته بلقيس حين دخولها الصرح 144 ما أعده سليمان لنزول بلقيس 145 قصص ثمود مع صالح عليه السلام 148 توعدوا صالحا عليه السلام بعد أن توعدهم 149 ما قاله لوط لقومه ناصحا لهم 150 تأنيب قوم لوط على قبيح فعلهم

تتمة سورة النمل

الجزء العشرون [تتمة سورة النمل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) تفسير المفردات يتطهرون: أي ينزهون أنفسهم، ويتباعدون عما نفعله، ويزعمون أنه من القاذورات، قدّرنا: أي قضينا وحكمنا، الغابرين: أي الباقين فى العذاب. المعنى الجملي سبق أن بيّنا أن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين لاحظوا العدّ اللفظي للحروف والكلمات والآيات، ولم ينظروا إلى ارتباط المعاني بعضها ببعض، ومن ثم نرى هنا أن الجزء قد انتهى قبل تمام قصة لوط وبدئ الجزء العشرون بتمام هذه القصة، وقد بين فيها أن النصح لم يجدهم شيئا وعقدوا العزم على استعمال القوة فى إخراجه من

الإيضاح

بين ظهرانيّهم، ولم يكن لهم حجة على المعارضة إلا أن لوطا وقومه لا يريدون أن يشاركوهم فيما يفعلون تباعدا من الأرجاس، وتلك مقالة قالوها على سبيل الاستهزاء بهم، وقد نسوا أن هناك قوة أشد من قوتهم هى لهم بالمرصاد، وأنها تمهلهم ولا تهملهم، فلما حان حينهم جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون، وأهلك الله القوم الظالمين، ونصر الحق وأزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا. الإيضاح (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي فلم يكن جوابهم للوط إذ نهاهم عما أمره الله بنهيهم عنه من إتيان الذكور إلا قيل بعضهم لبعض: أخرجوا لوطا وأهله من قريتنا، وقد عدّوا سكناه بينهم منّة ومكرمة عليه إذ قالوا: من قريتكم. ثم عللوا هذا الإخراج بقولهم استهزاء بهم: (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي إنهم يتحرّجون من فعل ما تفعلون، ومن إقراركم على صنيعكم، فأخرجوهم من بين أظهركم، فإنهم لا يصلحون لجواركم فى بلدكم. ولما وصلوا إلى هذا الحد من قبح الأفعال والأقوال دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها، وإلى هذا أشار بقوله: (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي فأهلكناهم وأنجينا لوطا وأهله إلا امرأته جعلناها بتقديرنا وحكمتنا من الباقين فى العذاب، لأنها كانت على طريقتهم راضية بقبيح أفعالهم وكانت ترشد قومها إلى صيفان لوط ليأتوا إليهم، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبى الله صلى الله عليه وسلم، لا كرامة لها. ثم بين ما أهلكوا به فقال: (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي وأمطرنا عليهم مطرا غير ما عهد

[سورة النمل (27) : الآيات 59 إلى 64]

من نوعه، فقد كان حجارة من سجيل، فبئس ذلك المطر مطر الذين أنذرهم الله عقابا لهم على معصيتهم إياه، وخوّفهم بأسه بإرسال الرسول إليهم. [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) تفسير المفردات العباد المصطفون: هم الأنبياء عليهم السلام، الحدائق: البساتين واحدها حديقة، والبهجة: الحسن والرونق، يعدلون: من العدول وهو الانحراف، قرارا: أي مستقرا، الخلال: واحدها خلل وهو الوسط، رواسى: أي ثوابت أي جبالا ثوابت، الحاجز: الفاصل بين الشيئين، والمضطر: الذي أحوجته الشدة وألجأته الضراعة إلى الله،

المعنى الجملي

ويكشف: أي يرفع، خلفاء: من الخلافة وهى الملك والتسلط، يهديكم: أي يرشدكم، بين يدى رحمته: أي أمام المطر. المعنى الجملي بعد أن قص سبحانه على رسوله قصص أولئك الأنبياء السالفين، وذكر أخبارهم الدالة على كمال قدرته وعظيم شأنه، وعلى ما خصهم به من المعجزات الباهرة الناطقة بجلال أقدارهم، وصدق أخبارهم، وفيها بيان صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الشرك والكفر، وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى، ومن أعرض عنهم فقد تردّى فى مهاوى الردى، ثم شرح صدره عليه الصلاة والسلام بما فى تضاعيف تلك القصص من العلوم الإلهية، والمعارف الربانية، الفائضة من عالم القدس مقررا بذلك قوله: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» أردف هذا أمره عليه الصلاة والسلام بأن يحمده تعالى على تلك النعم، ويسلم على الأنبياء كافة عرفانا لفضلهم، وأداء الحق تقدمهم واجتهادهم فى الدين، وتبليغ رسالات ربهم على أكمل الوجوه وأمثل السبل، ثم ذكر الأدلة على تفرده بالخلق والتقدير ووجوب عبادته وحده، وأنه لا ينبغى عبادة شىء سواه من الأصنام والأوثان. الإيضاح (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أمر الله رسوله أن يحمده شكرا له على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، وأن يسلّم على عباده الذين اصطفاهم لرسالته، وهم أنبياؤه الكرام ورسله الأخيار. ومن تلك النعم النجاة والنصر والتأييد لأوليائه، وحلول الخزي والنكال بأعدائه. ونحو الآية قوله: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .

وفى هذا تعليم حسن، وأدب جميل، وبعث على التيمن بالذّكرين والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما، على قبول ما يلقى إلى السامعين، والإصغاء إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر: هذا الأدب، فحمدوا الله وصلّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة، وفى مفتتح كل خطبة، وتبعهم المتزسّلون فأجروا عليه أوائل كتبهم فى الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. ثم شرع يوبخ المشركين ويتهكم بهم وينبههم إلى ضلالهم وجهلهم، إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار فقال: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟) أي آلله الذي ذكرت لكم شئونه العظيمة خير أم الذي تشركون به من الأصنام؟ وفى ذلك ما لا يخفى من تسفيه آرائهم، وتفبيح معتقداتهم، وإلزامهم الحجة، إذ من البين أنه ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يوازن بينها وبين ما هو محض الخير، فهو من وادي ما حكاه سيبويه: تقول العرب: السعادة أحب إليك أم الشقاء؟ وكما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم: أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء وجاء فى بعض الآثار «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بل الله خير وأبقى، وأجل وأكرم» ثم انتقل من التوبيخ تعريضا إلى التبكيت تصريحا فقال: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي أعبادة ما تعبدون أيها المشركون من أوثانكم التي لا تضر ولا تنفع خير، أم عبادة من خلق السموات على ارتفاعها وصفائها وجعل فيها كواكب نيّرة ونجوما زاهرة، وأفلاكا دائرة وخلق الأرض وجعل فيها جبالا وأنهارا وسهولا وأوعارا، وفيافى وقفارا، وزروعا وأشجارا، وحيوانات مختلفة

الأصناف والأشكال والألوان، وأنزل لكم من السماء مطرا جعله رزقا للعباد، فأنبت به بساتين مونقة تسر الناظرين؟ ولو لاه ما نبت الشجر، ولا ظهر الثمر. ونحو الآية قوله: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» وقوله: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» . ثم زاد فى التوبيخ فنفى الألوهية عما يشركون بعد تبكيتهم على نفى الخيرية عنها فقال. (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) أي أإله غيره يقرّون به، ويجعلونه شريكا له فى العبادة، مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين؟ ونحو الآية قوله: «وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ» . ثم انتقل من تبكيتهم إلى بيان سوء حالهم فقال: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي بل هؤلاء المشركون قوم دأبهم العدول عن طريق الحق، والانحراف عن جادّة الاستقامة فى جميع شئونهم، ومن ثمّ يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح وهو التوحيد، ويعكفون على الضلال المبين وهو الإشراك. وفى معنى الآية قوله: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» وقوله: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» وقوله: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ» . ثم أعاد التوبيخ بوجه آخر فقال: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) أي أعبادة ما تشركون أيها الناس بربكم مع أنه لا يضر ولا ينفع خير، أم عبادة الذي جعل الأرض مستقرا للإنسان والدواب، وجعل فى أوسطها أنهارا تنتفعون بها فى شربكم وسقى أنعامكم ومزارعكم، وجعل فيها ثوابت الجبال حتى لا نميد بكم،

وحتى تنتفعوا بما فيها من المعادن المختلفة، وقد أنزل الماء على شواهقها وجعل بين المياه العذبة والملحة حاجزا يمنعهما من الاختلاط حتى لا يفسد هذا بذاك، والحكمة تقضى ببقاء كل منهما على حاله، فالعذبة: لسقى الناس والحيوان والنبات والثمار، والملحة: تكون مصادر للأمطار التي تجرى منها، وكذلك هى وسيلة لإصلاح الهواء. (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) فى إبداع هذه الكائنات وإيجاد هذه الموجودات. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قدر عظمة الله وما عليهم من ضرّ فى إشراكهم غيره به، وما لهم من نفع فى إفرادهم إياه بالألوهة، وإخلاصهم العبادة له، وبراءتهم من كل معبود سواه. ثم زادهم توبيخا من وجه ثالث فقال: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؟) أي أمن تشركون بالله خير أم من يجيب المكروب الذي يحوجه المرض أو الفقر أو النازلة من نوازل الدهر إلى اللّجأ والتضرع إليه إذا دعاه وقت اضطراره، ويرفع عن الإنسان ما يسوءه من فقر أو مرض، ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم فى الأرض فيورثكم إياها بالسكنى والتصرف فيها؟. وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أسألك بالله أن تدعو لى فأنا مضطر قال: إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وقال الشاعر: وإنى لأدعو الله والأمر ضيّق ... علىّ فما ينفك أن يتفرّجا ورب أخ سدّت عليه وجوهه ... أصاب لها لمّا دعا الله مخرجا وعن أبى بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دعاء المضطر: «اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، وأصلح لى شأنى كله، لا إله إلا أنت» . وجاء فى الخبر: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده» .

وفى صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: «واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب» . (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) الذي هذه شئونه، وتلك نعمه؟. ثم بين أن من طبيعة الإنسان ألا يتذكر نعم الله عليه إلا قليلا، وإلى ذلك أشار بقوله: (قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا ما تتذكرون نعم الله عليكم، وأياديه عندكم، ومن ثمّ أشركتم به غيره فى العبادة. ثم زادهم تأنيبا وتهكما من ناحية أخرى فقال: (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أمن تشركون بالله خير، أم من يرشدكم فى ظلمات البر والبحر إذا أظلمت عليكم السبل فضللتم الطريق- بما خلق من الدلائل السماوية كما قال: «وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» وقال: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ومن يرسل الرياح أمام الغيث الذي يحيى موات الأرض. ولما اتضحت الأدلة ولم يبق لأحد فى ذلك عذر ولا علة قال: (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) فعل هذا؟. ثم أكد هذا النفي وقرره بقوله: (تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه ربنا المنفرد بالألوهية، ومن له صفات الكمال والجلال، ومن تخضع له جميع المخلوقات، وتذلّ لقهره وجبروته- عن شرككم الذي تشركونه به وعبادتكم معه ما تعبدون. ثم أضاف إلى ذلك برهانا آخر لعلهم يرتدعون عن غيهم فقال: (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي أما تشركون به خير أم الذي ينشىء الخلق بادىء بدء ويبتدعه من غير أصل سلف، ثم يفنيه إذا

[سورة النمل (27) : الآيات 65 إلى 66]

شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه، وهو الذي يرزقكم من السماء والأرض فينزل من الأولى غيثا وينبت من الثانية نباتا لأقواتكم وأقوات أنعامكم. وهم وإن كانوا ينكرون الإعادة والبعث لم يلتفت إلى ذلك الإنكار لظهور أدلته فلم يبق لهم عذر فيه وبعد أن وضح الدليل على نفى الشريك بكّتهم وقال: (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟) يفعل هذا حتى يجعل شريكا له؟ وبعد أن ذكر البرهان تلو البرهان وأوضح الحق حتى صار كفلق الصبح زاد فى التهكم بهم والإنكار عليهم والتسفيه لعقولهم، فأمر رسوله أن يطلب منهم البرهان على صدق ما يدّعون. فقال: (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل لهم أيها الرسول: هاتوا الدليل على وجود ما تزعمون من الشركاء إن كان ما تقولونه حقا وصدقا [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 66] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) تفسير المفردات أيان: أي متى، يبعثون: أي يقومون من القبور للحساب والجزاء، ادّارك: أي تدارك وتتابع والمراد التتابع فى الاضمحلال والفناء، فى شك: أي فى حيرة عظيمة، عمون: واحدهم عم وهو أعمى القلب والبصيرة. المعنى الجملي بعد أن أثبت تفرده بالألوهية، لاختصاصه بالقدرة التامة، والرحمة العامة- أعقب هذا بذكر لوازمها وهو اختصاصه بعلم الغيب، تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) يقول سبحانه آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلم جميع خلقه أنه لا يعلم الغيب أحد من أهل السموات والأرض، بل الله وحده هو الذي يعلم ذلك كما قال: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» الآية. وقال: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» الآية. والمراد بالغيب الشئون التي تتعلق بأمور الآخرة وأحوالها، وشئون الدنيا التي لا تقع تحت حسّنا وليست فى مقدورنا. وعن مسروق عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يكون فى غد فقد أعظم الفرية على الله، لأن الله يقول: «قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ» ثم ذكر بعض ذلك الغيب فقال: (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يدرى من فى السموات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة كما قال: «ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض فلا يشعرون بها، بل تأتيهم فجأة. ثم أكد جهلهم بهذا اليوم بقوله: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي بل انتهى علمهم وعجزهم عن معرفة وقتها فلم يكن لهم علم بشىء مما سيكون فيها قطعا مع توافر أسباب العلم، وليس المراد أنه كان لهم علم بوقتها على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا، بل المراد أن أسباب العلم ومبادثه من الدلائل العقلية والنقلية ضعفت فى اعتبارهم شيئا فشيئا كلما تأملوا فيها حتى لم يعد لها قيمة وكأن لم تكن. ثم انتقل من وصفهم بالجهل بميقاتها إلى الحيرة فى الآخرة نفسها، أتكون أو لا تكون؟ فقال:

[سورة النمل (27) : الآيات 67 إلى 75]

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي بل هم فى حيرة عظيمة من تحققها ووجودها، أكائنة هى أم غير كائنة؟ كمن يحار فى الأمر لا يجد عليه دليلا، فضلا عن تصديق ما سيحدث فيها من شئون أخبرت عنها الكتب السماوية كالثواب والعقاب، والنعيم والعذاب والأهوال التي لا يدرك كنهها العقل. ثم ارتقى من وصفهم بالشك فى أمرها إلى وصفهم بالعمى واختلال البصيرة بحيث لا يدركون الدلائل التي تدل على أنها كائنة لا محالة فقال: (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي بل هم فى عماية وجهل عظيم من أمرها، وعن كل ما يوصلهم إلى الحق فى شأنها، والنظر فى دلائلها [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 75] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) المعنى الجملي بعد أن ذكر عزّ اسمه فيما سلف جهلهم بالآخرة وعما هم عنها- أردف ذلك بيان ذلك وإيضاحه بأنهم ينكرون الإخراج من القبور بعد أن صاروا ترابا، وأنهم قالوا

الإيضاح

تلك مقالة سمعناها من قبل، وما هى إلا أسطورة من أساطير الأولين وخرافاتهم، ثم أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى صدق هذا بالسير فى الأرض حتى يروا عاقبة المجرمين، بسبب تكذيبهم للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم صبّر سبحانه رسوله على ما يناله من أذى المشركين، ووعده بالنصر عليهم، ثم ذكر أنهم مكذبون بالساعة وغيرها من العذاب والجزاء الموعود، وأنهم يسألون عن ذلك سخرية واستهزاء، وأجابهم بأن العذاب سينزل بهم قريبا، ثم ذكر فضله على عباده بأنه لا يعجل لهم العذاب مع استحقاقهم له، إذ هم لا يشكرونه على ذلك، ثم بين أنه تعالى عليم بالسر والنجوى، وأنه مطلع على ما تكنّه القلوب، وأنه ما من شىء مهما خفى فالله عليم به وهو مثبت عنده فى كتاب مبين. الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي وقال الكافرون بالله المكذبون لرسله، أإنا لمخرجون من قبورنا أحياء كهيئتنا من بعد مماتنا وبعد أن بلينا وكنا فيها ترابا؟ وهذا منهم استبعاد لإعادة الأجسام بعد صيرورتها عظاما ورفاتا. ثم ذكروا شبهتهم على استبعاده فى زعمهم فقال: (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي إنا ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى تحقق ذلك ولا وقوعه. ثم أكدوا هذا الاستبعاد بقولهم: (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الوعد إلا أسطورة مما سطّره الأولون من الأكاذيب فى كتبهم من غير أن يكون لهم بينة على إمكان تحققه ووجوده. ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم إلى وجه الصواب مع التهديد والوعيد فقال:

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي قل لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الأنباء من عند ربك: سيروا فى الأرض فانظروا إلى ديار من كان قبلكم من المكذبين، كيف هى؟ ألم يخرّ بها الله ويهلك أهلها بتكذيبهم رسلهم، وردّهم عليهم نصائحهم، فخلت منهم الديار، وعفت منها الرسوم والآثار، وكان ذلك عاقبة إجرامهم، وتلك سنة الله فى كل من سلك سبيلهم فى تكذيب رسله، وسيفعل ذلك بكم إن أنتم لم تبادروا إلى الإنابة من كفركم وتكذيبكم رسوله. ثم صلّى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يناله من عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل فقال: (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي ولا تحزن على إدبار هؤلاء المشركين عنك وتكذيبهم لك، ولا يضق صدرك من مكرهم، فإن الله ناصرك عليهم، ومظهر دينك على من خالفه فى المشارق والمغارب. ثم أشار إلى أنهم لم يقصروا إنكارهم على الساعة، بل كان إنكارهم لغيرها من عذاب الله أشد بقوله: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول مشركو قريش المكذبون بما أتيتهم به من عند ربك: متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به؟ إن كنتم صادقين فيما تدّعون؟. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم فقال: (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي قل لهم: عسى أن يلحقكم ويصل إليكم بعض ما تستعجلون حلوله من العذاب، والمراد به ما حل بهم يوم بدر من النكال والوبال. قال صاحب الكشاف: عسى ولعل وسوف، فى وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجدّه، وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم،

[سورة النمل (27) : الآيات 76 إلى 81]

وأنهم لا يعجّلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم وتوقعهم أن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، وعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده اهـ. ثم بين سبحانه السبب فى ترك تعجيل العذاب فقال: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي وإن ربك لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا بتركه المعاجلة بالعقوبة على المعصية والكفر، ولكن أكثرهم لا يعرفون حق فضله عليهم. فلا يشكره إلا القليل منهم. ثم أبان سبحانه أنه مطّلع على ما فى قلوبهم فقال: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) يقال كننت الشيء وأكننته: إذا سترته وأخفيته، أي إن ربك يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر كما قال «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ» وقال «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» . وقصارى ذلك- إنه يعلم ما يخفون من عداوة الرسول ومكايدهم له وما يعلنون، وهو محصيها عليهم ومجازيهم بذلك. ثم ذكر أن كل ما يحصل فى الوجود فهو محفوظ فى اللوح المحفوظ فقال: (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما من أمر مكتوم وسر خفى يغيب عن الناظرين فى السماء أو فى الأرض إلا وهو فى أم الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من ابتداء الخلق إلى يوم القيامة، وهو بيّن لمن نظر إليه وقرأ ما فيه، مما أثبته ربنا جلت قدرته. ونحوه: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» . [سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما يتعلق بالنشأة الأولى وأنه خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وما يتصل بالبعث والنشور وأقام على ذلك الدليل يتلو الدليل بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد- أردف ذلك الكلام فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأقام الأدلة على صحتها وصدق دعواه فيما يدّعى، وكان من أعظم ذلك القرآن الكريم، لا جرم بين الله تعالى إعجازه من وجوه: (1) إن ما فيه من القصص موافق لما فى التوراة والإنجيل مع أنه صلى الله عليه وسلم كان أميا ولم يخالط أحدا من العلماء للاستفادة والتعلم، فلا يكون ذلك إذا إلا من وحي إلهى من لدن حكيم خبير. (2) إن ما فيه من دلائل عقلية على التوحيد والبعث والنبوة والتشريع العادل المطابق لحاجة البشر فى دنياهم وآخرتهم- لا يوجد له نظير فى كتاب آخر، فلا بد أن يكون ذلك من عند الله. (3) إنه قد بلغ الغاية فى الفصاحة والبلاغة حتى لم يستطع أحد أن يتصدى لمعارضته مع حرصهم عليها أشد الحرص، فدل ذلك على أنه خارج عن قوى الشر، وأنه من من الملإ الأعلى ومن لدن خالق القوى والقدر. ثم ذكر بعد ذلك أنه جاء حكما على بنى إسرائيل فيما اختلفوا فيه، فأبان لهم الحق فى هذا كاختلافهم فى أمر المسيح، فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله، ومن قائل

الإيضاح

إنه ثالث ثلاثة، وقوم يقولون إنه كاذب فى دعواه النبوة، كما نسبوا مريم إلى ما هى منزهة عنه، وقالوا إن النبي المبشّر به فى التوراة هو يوشع عليه السلام أو هو نبى آخر يأتى آخر الدهر. إلى نحو ذلك مما اختلفوا فيه، وأنه لا يحكم إلا بالعدل، فقوله الحق وقضاؤه الفصل. ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه فإنه حافظه وناصره، وأن يعرض عن أولئك الذين لا يستمعون لدعوته، لأنهم صم بكم لا يعقلون، والذكرى لا تنفع إلا من له قلب يعى، وآذان تسمع دعوة الداعي إلى الحق فتستجيب لها. الإيضاح (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك أيها الرسول يقص على بنى إسرائيل الحق فى كثير مما اختلفوا فيه، وكان عليهم لو أنصفوا أن يتبعوه، لكنهم لم يفعلوا وكابروا مع وضوح الحق وظهور دليله كما تفعلون أنتم أيها المشركون. ثم وصف القرآن بقوله: (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإنه لهاد للمؤمنين إلى سبيل الرشاد، ورحمة لمن صدّق به وعمل بما فيه. وبعد أن ذكر فضله وشرفه أتبعه دليل عدله فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك يقضى بين المختلفين من بنى إسرائيل بحكمه العادل، فينتقم من المبطل منهم، ويجازى المحسن بما يستحق من الجزاء، وهو العزيز الذي لا يردّ حكمه وقضاؤه، العليم بأفعال العباد وأقوالهم، فقضاؤه موافق لواسع علمه. وبعد أن أثبت لنفسه العلم والحكمة والجبروت والقدرة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه وحده فقال:

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي ففوض إلى الله جميع أمورك وثق به فيها، فإنه كافيك كل ما أهمك، وناصرك على أعدائك، حتى يبلغ الكتاب أجله. ثم علل هذا بقوله: (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي أنت على الحق المبين، وإن خالفك فيه من خالفك ممن كتب عليه الشقاء: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ» . ثم أيأسه من إيمان قومه وأنه لا أمل فى استجابتهم لدعوته فقال: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلوبهم فأماتها، ولا أن تسمعه من أصمهم عن سماعه، ولا سيما أنهم مع ذلك معرضون عن الداعي، مولّون على أدبارهم، وإنما شبههم بالموتى لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم، وشبههم بالصم البكم ليبين أنه لا أمل فى استجابتهم للدعوة، لأن الأصم الأبكم لا يسمع الداعي بحال. وظاهر نفى سماع الموتى العموم، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل. كما ثبت فى الصحيح «أنه صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى فى قليب (بئر) بدر فقيل له: يا رسول الله إنما تكلم أجسادا لا أرواح لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» . أخرجه مسلم. وكما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه. وقصارى ما سلف- إنه تعالى أمره بالتوكل عليه والإعراض عما سواه، لأنه على الحق المبين ومن سواه على الباطل، ولأنه تعالى مؤيده وناصره، ولأنه لا مطمع فى مشايعة المشركين ومعاضدتهم، لأنهم كالموتى وكالصم البكم، فلا أمل فى استجابتهم للدعوة، ولا فى قبولهم للحق. ثم أكد ما سلف وقطع أطماعه فى إيمانهم على أتم وجه فقال:

[سورة النمل (27) : الآيات 82 إلى 90]

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي أنت أيها الرسول لا تستطيع أن تصرف العمى عن ضلالتهم وتهديهم إلى الطريق السوىّ، والمراد أنك لا تهدى من أعماهم الله عن الهدى والرشاد، فجعل على أبصارهم غشاوة تمنعهم عن النظر فيما جئت به نظرا يوصلهم إلى معرفة الحق وسلوك سبيله. ثم زاد ذلك توكيدا فقال: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي إنما يستجيب لك من هو نافذ البصيرة، خاضع لربه، متبتل إليه، مجيب لدعوة رسله. الخلاصة- إنك لا تقدر أن تفهم الحق وتسمعه إلا من يصدقون بآياتنا وحججنا، فإنهم هم الذين يسمعون منك ما تقول، ويتدبرونه ويعملون به، إذ هم ينقادون للحق فى كل حين. [سورة النمل (27) : الآيات 82 الى 90] وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

تفسير المفردات

تفسير المفردات وقع: حدث وحصل، والمراد من القول: ما دل من الآيات على مجىء الساعة، تكلمهم: أي تنبئهم وتخبرهم، نحشر: أي نجمع، فوجا: أي جماعة من الرؤساء، يوزعون: أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا فى موقف التوبيخ والمناقشة، ولم تحيطوا بها علما: أي ولم تدركوا حقيقة كنهها، ألم يروا: أي ألم يعلموا، ليسكنوا فيه: أي ليستريحوا فيه ويهدءوا، مبصرا: أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب فى أمور معاشهم، الصور: البوق، داخرين: أي أذلاء صاغرين، جامدة: أي ثابتة فى أماكنها، أتقن: أي أحكم، يقال رجل تقن (بكسر التاء وسكون القاف) أي حاذق بالأشياء، الحسنة: الإيمان وعمل الصالحات، والسيئة: الإشراك بالله والمعاصي، كبت: أي ألقيت منكوسة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما يدل على كمال علمه وقدرته، وأبان بعدئذ إمكان البعث والحشر والنشر، ثم فصل القول فى إعجاز القرآن، ونبه بذلك إلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم- أردف ذلك ذكر مقدمات القيامة وما يحدث من الأهوال حين قيامها، فذكر خروج دابة من الأرض تكلم الناس أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات ربهم، وأنه حينئذ ينفخ فى الصور، فيفزع من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله، وأن الجبال تجرى وتمر مر السحاب ثم بين أحوال المكلفين بعد ذلك وجعلهم

الإيضاح

قسمين: مطيعين يعملون الحسنات فيثابون عليها بما هو خير منها ويأمنون الفزع والخوف ساعتئذ، وعاصين يكبّون فى النار على وجوههم ويقال لهم حينئذ هذا جزاء ما كنتم تعملون. الإيضاح (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) يخبر سبحانه بأنه حين فساد الناس وتركهم أوامره وتبديلهم الدين الحق قرب مجىء الساعة- تخرج دابة من الأرض تحدّث الناس بأنهم كانوا لا يوقنون بآياته الدالة على مجىء الساعة ومقدّماتها. والمقصود من هذا التحديث: التشنيع عليهم بهذه المقالة، وفى التعبير بكلمة (النَّاسَ) الإشارة إلى كثرتهم وأنهم جمّ غفير منهم. وما جاء فى وصف الدابة والمبالغة فى طولها وعرضها، وزمان خروجها ومكانه- مما لا يركن إليه، فإن أمور الغيب لا يجب التصديق بها إلا إذا ثبتت بالدليل القاطع عن الرسول المعصوم. ثم بين سبحانه حال المكذبين حين مجىء الساعة بعد بيان بعض مباديها وأشراطها فقال: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) أي ويوم نجمع من كل أهل قرن جماعة كثيرة ممن كذبوا بآياتنا ودلائلنا، ونحبس أولهم على آخرهم، ليجتمعوا فى موقف التوبيخ والإهانة، حتى إذا جاءوا ووقفوا بين يدى الله فى مقام السؤال والجواب، ومناقشة الحساب، قال لهم ربهم مؤنبا وموبخا لهم على تكذيبهم: أكذبتم بآياتى الناطقة بلقاء يومكم هذا بادى الرأى غير ناظرين فيها نظرا يوصلكم إلى العلم بحقيقتها، أم ماذا كنتم تعملون فيها من تصديق وتكذيب؟.

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي وحلّ بأولئك المكذبين بآيات الله- السخط والغضب بتكذيبهم بها. فهم لا ينطقون بحجة يدفعون بها عن أنفسهم عظيم ما حل بهم من العذاب الأليم. ونحو الآية قوله: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» . وبعد أن خوّفهم من أهوال يوم القيامة ذكر الدليل على التوحيد والحشر والنبوة فقال: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار ومخالفتنا بينهما يجعل ذاك سكنا لهم يسكنون فيه، ويهدءون راحة لأبدانهم من تعب التصرف والتقلب نهارا، وجعل هذا مضيئا يبصرون فيه الأشياء ويعاينونها، فيتقلبون فيه لمعايشهم- فيتفكرون فى ذلك ويتدبرون ويعلمون أن مصرّف ذلك كذلك، هو الإله الذي لا يعجزه شىء، ولا يتعذر عليه إماتة الأحياء، وإحياء الأموات بعد الممات. وفى ذلك أيضا دليل على النبوة، لأنه كما يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين ففى بعثة الأنبياء منافع عظيمة للناس فى دنياهم ودينهم، فما المانع إذا من بعثهم إليهم؟ بل الحاجة إلى ذلك ملحّة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فيما ذكر لدلالة على قدرته على البعث بعد الموت، وعلى توحيده لمن آمن به وصدّق برسله، فإن من تأمل فى تعاقبهما واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم تحار فى فهمها العقول، ولا يحيط بعلمها إلا الله وشاهد فى الآفاق تبدل ظلمة الليل الحالكة المشابهة للموت، بضياء النهار المضاهي للحياة، وعاين فى نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة- قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فى القبور، وجزم بأن الله جعل هذا دليلا على تحققه، وأن الآيات الناطقة به حق، وأنها من عند الله.

وبعد أن ذكر الحشر الخاصّ وأقام الدليل عليه- ذكر الحشر العام فقال: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) أي واذكر أيها الرسول لهم هول يوم النفخ فى الصور، إذ يفزع من فى السموات ومن في الأرض، لما يعتريهم من الرعب حين البعث والنشور، بمشاهدة الأهوال الخارقة لعادة فى الأنفس والآفاق، إلا من ثبّت الله قلبه. ويرى أكثر أهل العلم أن هناك نفختين، نفخة الفزع المذكورة فى هذه الآية وهى نفخة الصعق المذكورة فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» لأن كلا الأمرين الفزع والخوف، والصعق وهو الموت يحصلان بها، ونفخة البعث المذكورة فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» . (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي وكل هؤلاء الفزعين المبعوثين، حين النفخة يحضرون الموقف بين يدى رب العزة للسؤال والجواب، والمناقشة والحساب، أذلاء صاغرين، لا يتخلف أحد عن أمره كما قال: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» . وقال: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» وقال: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» . ولما ذكر دخورهم أتبعه بدخور ما هو أعظم منهم فقال: (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي وترى الجبال كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه وهى تزول عن أماكنها وتسير حثيثا كمر السحاب، لأن الأجرام الكبار إذا تحركت فى سمت واحد لا تكاد تبين حركتها. ونحو الآية قوله: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» وقوله: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» وقوله: «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» وهذا يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، فيبدل الله الأرض غير الأرض ويغيّر هيئتها ويسيّر الجبال عن مقارّها ليشاهدها أهل المحشر، وهى وإن

دكت عند النفخة الأولى، فتسييرها إنما يكون لدى النفخة الثانية كما نطق به قوله: «فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» وقوله: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» . ثم علل إمكان ذلك وسرعة حصوله بقوله: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي ذلك الصنع العظيم صنع الله الذي أحكم كل شىء وأودع فيه من الحكمة ما أودع. ثم علل ما تقدم من النفخ فى الصور والقيام للحساب ومجازاة العباد على أعمالهم بقوله: (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي إنه تعالى ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشر، وطاعة ومعصية، وهو مجازيهم على ذلك أتم الجزاء. ثم بين حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من آمن بالله وعمل صالحا فله على ذلك جزيل الثواب من عند ربه فى جنات النعيم، يأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة كما جاء فى الآية: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» وقال: «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟» وقال: «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» وقد صح تفسير الحسنة هنا بشهادة أن لا إله إلا الله، على ما رواه ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ومن أشركوا بالله وعملوا السيئات يكبّون على وجوههم فى جهنم ويطرحون فيها. ونحو الآية قوله: «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ» . ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ فقال: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟) أي ويقال لهم: هل هذا إلا جزاء ما كنتم تعملون فى الدنيا، مما يسخط ربكم ويغضبه منكم من شرك به ومعصية له.

[سورة النمل (27) : الآيات 91 إلى 93]

[سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) تفسير المفردات البلد: هى مكة، أتلو القرآن: أي أواظب على تلاوته، من المنذرين: أي المخوفين قومهم من عذاب الله. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أحوال المبدإ والمعاد، وفصّل أحوال القيامة- أمر رسوله أن يقول لهؤلاء المشركين هذه المقالة تنبيها لهم إلى أنه قد تمّ أمر الدعوة بما لا مزيد عليه، ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله والاستغراق فى مراقبته، غير مبال بهم ضلّوا أو رشدوا، صلحوا أو فسدوا، إثارة لهممهم بألطف وجه إلى تدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم، والتدبر فيما يقرع أسماعهم من باهر الآيات التي تكفى فى إرشادهم، وتشفى عللهم وأمراضهم. الإيضاح (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) أي قل لهم أيها الرسول إنما أمرت أن أعبد رب مكة التي حرم على خلقه أن يسفكوا فيها دما حراما أو يظلموا فيها أحدا. وخصها بالذكر لأنى أول بيت للعبادة كان فيها- دون الأوثان التي تعبدونها كما قال: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» .

وفى هذا تأنيب لهم على ما يفعلون من أنواع الفجور وفظيع المنكرات، فإنهم قد تركوا عبادة رب مكة، ونصبوا الأوثان فيها، وعكفوا على عبادتها. (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا وتصرفا دون أن يشركه فى ذلك أحد. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرنى ربى أن أسلم وجهى له، فأكون من الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المخبتين له فى الطاعة. ونحو الآية قوله: «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) آناء الليل وأطراف النهار، لتنكشف لى أسراره المخزونة فى تضاعيفه، وأستطلع أدلة الكون المتفرّقة فى آية، فأعرف حقائق الحياة، وسر الوجود، ويفاض علىّ من فيوضاته الإلهية، وأسراره القدسية ما شاء الله أن يفيض. وقد روى «أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة يصلى فقرأ قوله تعالى «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر، ويتجلّى له من مقاصدها ما تسمو به نفسه إلى الملإ الأعلى حتى طلع الفجر» . ونحو الآية: «ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ» . (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي فمن اتبعنى واهتدى بهداي وآمن بي وبما جئت به فقد سلك سبيل الرشاد، وأمن نقمة ربه فى الدنيا وعذابه فى الآخرة. (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي ومن جار عن قصد السبيل بتكذيبه بي وبما جئت به من عند الله، فقل إنما أنا من المنذرين فحسب، وقد خرجت من عهدة الإنذار، وليس علىّ من وبال ضلالكم من شىء، فإن قبلتم وانتهيتم عما يكرهه ربكم من الشرك، فحظوظ أنفسكم تصيبون، وإن كذبتم وأعرضتم عما أدعوكم إليه فعلى أنفسكم تجنون، وقد بلّغتكم ما أمرت بإبلاغه إياكم. ونحو الآية قوله: «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» وقوله: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» .

ثم أمره سبحانه بترغيب قومه وترهيبهم فقال: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي وقل الحمد لله على ما أفاض علىّ من نعمائه التي من أجلّها نعمة النبوة المستتبعة لضروب من النعم الدينية والدنيوية، ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها، بالآيات البينة، والبراهين الساطعة، ووفقني لاتباع الحق الذي أنتم عنه عمون (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) أي سيريكم ربكم آيات عذابه وسخطه فتعرفون بها حقيقة نصحى، ويستبين لكم صدق ما دعوتكم إليه من الرشاد حين لا تجدى المعرفة، ولا تفيد التبصرة شيئا. ونحو الآية قوله: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» . ثم ذيل هذا بتقرير ما قبله من الوعد والوعيد بقوله: (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي وما ربك بغافل عما يعمله هؤلاء المشركون ولكنه مؤخر عذابهم إلى أجل هم بالغوه، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فلا يحزنك تكذيبهم فإنى لهم بالمرصاد، وأيقن بأنى ناصرك وخاذل عدوك، ومذيقهم الذلّ والهوان. روى أن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفى الرياح من أثر قدمى ابن آدم وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علىّ رقيب ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب والحمد لله وصلاته على النبي الأمى وعلى آله وصحبه أجمعين.

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من حكم وأحكام وقصص

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من حكم وأحكام وقصص (1) وصف القرآن الكريم بأنه هدى ورحمة للمؤمنين. (2) قصص موسى عليه السلام. (3) قصص سليمان عليه السلام. (4) قصص ثمود وقصص قوم لوط. (5) النعي على المشركين فى عبادة الأصنام والأوثان، وإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى. (6) إنكار المشركين للبعث والنشور وقولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين. (7) علم الله بما فى الصدور. (8) حكم القرآن على ما اختلف فيه بنو إسرائيل. (9) قطع الأطماع فى إيمان المشركين وتشبيههم بالعمى الصم (10) أشراط الساعة كخروج الدابة من الأرض، وحشر فوج من كل أمة، وتسيير الجبال. (11) الجزاء على العمل خيرا كان أو شرا. (12) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: إنه إنما أمر بعبادة رب مكة، لا بعبادة الأصنام والأوثان. (13) أمره بحمد الله والثناء عليه وطلبه تلاوة القرآن. (14) إنه سبحانه سيرى المشركين آياته فيعرفونها حق المعرفة حين لا يفيدهم ذلك شيئا.

سورة القصص

سورة القصص هى مكية كلها على ما روى الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة، وقال مقاتل: إلا من آية 52 إلى 55 فمدنية، وإلا آية 85 فقد نزلت بالجحفة أثناء الهجرة إلى المدينة. وآيها ثمان وثمانون، نزلت بعد النمل. ووجه مناسبتها لما قبلها أمور: (1) إنه سبحانه بسط فى هذه السورة ما أوجز فى السورتين قبلها من قصص موسى عليه السلام وفصّل ما أجمله هناك، فشرح تربية فرعون لموسى وذبح أبناء بنى إسرائيل الذي أوجب إلقاء موسى حين ولادته فى اليمّ خوفا عليه من الذبح، ثم ذكر قتله القبطي، ثم فراره إلى مدين وما وقع له مع شعيب من زواجه ببنته، ثم مناجاته لربه. (2) إنه أحمل فى السورة السالفة توبيخ المشركين بالسؤال عن يوم القيامة وبسطه هنا أتم البسط. (3) إنه فصل هناك أحوال بعض المهلكين من قوم صالح وقوم لوط، وأجمله هنا فى قوله: «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ» الآيات. (4) بسط هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة، وأوجز ذلك هنا، وهكذا من المناسبات التي تظهر بالتأمل حين قراءة السورتين. [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)

تفسير المفردات

تفسير المفردات نتلو عليك: أي ننزل عليك، والنبأ: الخبر العجيب، علا: تجبر واستكبر، شيعا: أي فرقا يستخدم كل صنف فى عمل من بناء وحفر وحرث إلى نحو ذلك من الأعمال الشاقة، ويغرى بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتفقوا، يستضعف: أي يجعلهم ضعفاء مقهورين، والطائفة هنا هم بنو إسرائيل، ونمن: أي نتفضل، والأئمة: واحدهم إمام وهو من يقتدى به فى الدين أو فى الدنيا، ويقال مكّن له إذا جعل له مكانا موطّأ ممهدا يجلس عليه، والمراد به هنا التسلط على أرض مصر والتصرف فيها، وهامان وزير فرعون، يحذرون: أي يتوقعونه من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود من بنى إسرائيل. الإيضاح (طسم) تقدم أن قلنا إن أحق الآراء وأجدرها بالقبول فى معنى هذه الحروف المقطعة أنها حروف يراد بها التنبيه، كما يراد مثل ذلك من معنى (يا) فى النداء و (ألا) ونحوهما، وينطق بها بأسمائها هكذا (طاسين ميم) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات الكتاب الكريم، الذي أنزلته إليك أيها الرسول واضحا جليا كاشفا لأمور الدين وأخبار الأولين، لم تتقوله ولم تتخرّصه كما زعم المشركون المنكرون له ولرسالة من أوحى إليه. ثم ذكر ما هو كالدليل على أنه وحي يوحى وليس هو من وضع البشر فقال:

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي نتلو عليك بعض أخبار موسى ومحاجته لفرعون وغلبته إياه بالحجة، وإخبار فرعون وجبروته وطغيانه، وكيف قابل الحق بالباطل، ولم تجد معه البراهين الساطعة، والمعجزات الواضحة، فأخذناه أخذ عزيز مقتدر، فكانت عاقبته الدمار والوبال، وأغرق ومن معه من جنده أجمعون، نتلوها عليك تلاوة على وجه الحق كأنك شاهد حوادثها، مبصر وقائعها، تصف ما ترى وتبصر عيانا، لقوم يصدقون بك وبكتابك. لتطمئن به قلوبهم وتثلج به صدورهم، ويعلموا أنه الحق من ربهم، وأن سنته فيمن خالفك وعاداك من المشركين هى سنته فيمن عادى موسى ومن آمن معه من بنى إسرائيل، وأن النصر دائما للمتقين ويخزى الله المكذبين: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» . وإنما جعل التلاوة للمؤمنين وهو يتلى على الناس أجمعين، لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع وأذن سامعة تذكر وتتعظ بآياته، أما من أعرض عنه، وأبى واستكبر، وقال إن هذا إلا سحر يؤثر، فلا تفيده الآيات والنذر، ولا يلقى له بالا، ولا يعى ما فيه من حكمة، ولا ما يسوقه من عبرة، فهو على نحو ما حكى الله عنهم: «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» . ثم فصل هذا المجمل ووضحه بقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي إن فرعون تجبر فى مصر وقهر أهلها وجاوز الغاية فى الظلم والعدوان وساس البلاد سياسة غاشمة. ومما مكّن له فى ذلك ما بينه الله سبحانه بقوله: (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي وفرقهم فرقا مختلفة، وأحزابا متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء، كيلا يتفقوا على أمر ولا يجمعوا على رأى، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض، وبذا يلين له قيادهم، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم، وتلك هى سياسة الدول الكبرى فى العصر الحاضر، وذلك هو دستورها فى حكمها

لمستعمراتها، وقد نقش حكامها فى صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه «فرّق تسد» وطالما أجدى عليهم فى سياسة تلك البلاد، التي يعمّها الجهل ويطغى على أهلها حب الظهور. ويرضون بالنّفاية والقشور. رحماك، اللهم رحماك، بسطت لعبادك سنتك فى الأكوان، وأبنت لهم طبيعة الإنسان، وأنه محب للظلم والعدوان. والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) أي يجعل جماعة منهم أذلاء مقهورين، يسومهم الخسف، ويعاملهم بالعسف، وهم بنو إسرائيل. ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله: (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي يذبح أبناءهم حين الولادة، وقد وكل بذلك عيونا تتجسس، فكلما ولدت امرأة منهم ذكرا ذبحوه، ويستبقى إناثهم، لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات، وبأيديهم زمام المال، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة، وغلبوا المصريين عليها والغلب الاقتصادى فى بلد ما أشدّ وقعا وأعظم أثرا فى أهلها من الغلب الاستعمارى، ومن ثمّ لم يشأ أن يقتل النساء. روى السّدّى أن فرعون رأى فى منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتغلت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بنى إسرائيل، فسأل علماء قومه، فأخبره الكهنة أنه سيخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يديه، فأخذ يفعل ما قص علينا الكتاب الكريم. قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل، وإن كان كاذبا فلا داعى للقتل اهـ. ولا يعنينا من أمر هذه الرواية شىء فسواء صحت أو لم تصح، فإن السرّ المعقول ما قصصناه عليك أوّلا.

ثم علل اجتراحه لتلك الجرائم، وإزهاقه للأرواح البريئة بقوله: (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ومن ثم سولت له نفسه أن يفعل ما فعل من تلك الفظائع، وقتل سلائل الأنبياء بلا جريمة ارتكبوها، ولا ذنب جنوه، وقد كانت هناك وسائل عديدة ليصل بها إلى اتقاء شرور اليهود بحسب ما يزعم، وكان له فيها غنية عن سفك الدماء، ولكن قساة القلوب غلاظ الأكباد تتوق نفوسهم إلى الولوغ فى الدم، ويجعلونه الترياق الشافي لحزازات نفوسهم، وسخائم أفئدتهم. ثم ذكر سبحانه ما أكرم به هذه الأمة وما أتاح لها من السلطان الديني والدنيوي، فتأسست لهم دولة عظيمة فى بلاد الشام، وصاروا يتصرفون فى أرض مصر كما شاءوا فقال: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أي ونريد أن نتفضل بإحساننا على من استضعفهم فرعون وأذلهم، وننجيهم من بأسه، ونريهم فى أنفسهم وفى أعدائهم فوق ما يحبون، وأكثر مما يؤملون. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقتدى بهم فى الدين والدنيا. (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لملك الشام لا ينازعهم فيه منازع، وقد جاء فى آية أخرى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا» وفى ثالثة «كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» . (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ونسلطهم على أرض مصر يتصرفون فيها كيفما شاءوا بتأييدهم بكليم الله ثم بالأنبياء من بعده. ثم بين ما نال عدوهم من النكال والوبال فقال: (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي ونرى أولئك الأقوياء والأعداء والألداء على أيدى بنى إسرائيل من المذلة والهوان وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم، ولكن لا ينجى حذر من قدر، فنفذ حكم الله الذي جرى به القلم من القدم على يد هذا الغلام الذي احترز من وجوده وقتل بسببه ألوفا من الولدان، وكان منشؤه ومرباه على فراشه وفى داره، وغذاؤه

من طعامه، وكان يدلله ويتبناه، وحتفه وهلاكه وهلاك جنوده على يديه، ليعلم أن رب السموات والأرض هو الغالب على أمره، الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وخلاصة ما سلف: (1) إن فرعون علا فى الأرض. (2) استضعف حزبا من أحزاب مصر. (3) قتل الأبناء. (4) استحيا النساء. (5) إنه كان من المفسدين. وقد قابل سبحانه هذه الخمسة بخمسة مثلها تكرمة لبنى إسرائيل: (1) إنه منّ عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته. (2) إنه جعلهم أئمة مقدّمين فى الدارين. (3) إنه ورّثهم أرض الشام. (4) إنه مكن لهم فى أرض الشام ومصر. (5) إنه أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون من ذهاب ملكهم على أيديهم: هذان عظمة وضعف يعقب أحدهما الآخر كما يعقب الليل النهار، سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» . انظر إلى الدولتين الفارسية والرومية، وما كان لهما من مجد بازخ، وملك واسع، كيف دالت دولتهما، وذهب ريحهما بظلم أهلهما، وتقسّم ملكهما، ثم قامت بعدهما الدولة العربية وعاشت ما شاء الله أن تعيش، ثم قام بعدها بنو عثمان وملكوا أكثر مما كان بيد الأمة العربية، ثم هرمت دولتهم وشاخت واستولت عليها ممالك أوروبا. «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .

[سورة القصص (28) : الآيات 7 إلى 13]

[سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 13] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) تفسير المفردات الوحى: الإلهام كما جاء فى قوله: «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» والخوف: غم يحصل بسبب توقع مكروه يحدث فى المستقبل، والحزن: (بفتحتين وبضم فسكون كالرّشد والرّشد والسّقم والسّقم) غم يحدث بسبب مكروه قد حصل، واليمّ: البحر، والمراد هنا نهر النيل، والالتقاط: أخذ الشيء فجأة من غير طلب له، والمراد من الخطأ هنا: الخطأ فى الرأى وهو ضد الصواب والمراد به الشرك والعصيان لله، وقرت به العين: فرحت به وسرّت، فارغا: أي خاليا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه فى يد عدوه نحو ما جاء فى قوله: «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» أي خلاء

الإيضاح

لا عقول بها، والإبداء: إظهار الشيء، والربط على القلب: شده والمراد هنا تثبيته، وقصيه: أي اقتفى أثرة وتتبعى خبره، فبصرت به: أي أبصرته، عن جنب: أي عن بعد، لا يشعرون: أي لا يدرون أنها أخته، حرمنا: أي منعنا، يكفلون: أي يضمنون رضاعه والقيام بشئونه، والنصح: إخلاص العمل والمراد أنهم يعملون ما ينفعه فى غذائه وتربيته، ولا يقصرون فى خدمته. الإيضاح بعد أن ذكر سبحانه أنه سيمنّ على بنى إسرائيل الذين استضعفوا فى الأرض، أردف ذلك تفصيل بعض نعمه عليهم فقال: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي وألهمناها وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه عن عدوه وعدوك. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) أي فإذا خفت عليه من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون أولاد بنى إسرائيل اتباعا لأمره، أو من الجيران أن يتمّوا عليه إذا سمعوا صوته، فألقيه فى النيل ولا تخافي هلاكه، ولا تحزنى لفراقه، وقد تقدم فى سورة طه بيان الكيفية التي ألقته بها فى اليم. روى أن دارها كانت على الشاطئ فاتخذت تابوتا ومهدت فيه مهدا وألقته فى النيل، وليس هناك من دليل على الزمن الذي قصته بين الولادة والإلقاء فى اليم. ثم وعدها سبحانه بما يسليّها ويطمئن قلبها ويملؤه غبطة وسرورا، وهو رده إليها وجعله رسولا نبيا فقال: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي إنا رادو ولدك إليك للرضاع وتكونين أنت مرضعه، وباعثوه رسولا إلى هذا الطاغية وجاعلو هلاكه ونجاة بنى إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه. وهذه الآية اشتملت على أمرين: أرضعيه وألقيه، ونهيين: ولا تخافي ولا تحزنى،

وخبرين: إنا رادوه إليك وجاعلوه. وبشارتين فى ضمن الخبرين: وهما الرد والجعل من المرسلين، حكى عن الأصمعى قال: سمعت أعرابية تنشد: أستغفر الله لذنبى كله ... قبّلت إنسانا بغير حله مثل الغزال ناعما فى دلّه ... فانتصف الليل ولم أصله فقلت: قاتلك الله ما أفصحك! قالت أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) الآية؟ فجمع فى آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. ثم ذكر صدق وعده ومقدمات نجاته فقال: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي فأخذه أهل فرعون أخذ اللقطة التي يعنى بها وتصان عن الضياع صبيحة الليل الذي ألقى فيه التابوت. روى أن الموج أقبل به يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى أدخله بين الأشجار عند بيت فرعون، فخرج جوارى امرأته إلى الشط فوجدن التابوت فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالا، فلما فنحنه وجدن فيه غلاما فوقعت عليها رحمته فأحبته. ولما أخبرت فرعون به أراد أن يذبحه إذ قال إنى أخاف أن يكون هذا من بنى إسرائيل وأن يكون هلاكنا على يديه، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها. ثم ذكر سبحانه أن العاقبة كانت ضد ما قصدت فقال: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي لتكون عاقبة أمره كذلك إذ أراد الله هذا، وهذا كما تقول لآخر تؤنبه على فعل كان قد فعله وهو يظن نفسه محسنا فيه وأدى الأمر إلى مساءة وضرّ قد لحقه: فعلت هذا لضر نفسك، وهو قد كان حين الفعل راجيا نفعه غير أن العاقبة جاءت بخلاف ما كان يرجو، وهذا جار على سنن العرب فى كلامهم، فيذكرون الحال بالمئال، قال شاعرهم: وللمنايا تربّى كل مرضعة ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها وقال آخر: فللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن

فعاقبة البناء الخراب وإن كان فى الحال مفروحا به، وعاقبة تغذية السخال الذبح وإن كانت الآن تغذّى لتسمن. والخلاصة- إن الله قيّضهم لالتقاطه: ليجعله لهم عدوا وحزنا، ويستبين لهم بطلان حذرهم منه. وعداوته إياهم مخالفته لهم فى دينهم وحملهم على الحق، وحزنهم بزوال ملكهم على يديه بالغرق بعد أن يظهر فيهم الآيات ولا يستجيبوا لدعوته، فتحل بهم القوارع كما هى سنة الله فى خلقه المكذبين. ثم بين أن القتل الذي يفعله فرعون وهامان وجنوده لبنى إسرائيل حمق وطيش فقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي إن هؤلاء كان من دأبهم الخطأ وعدم التدبر فى العواقب، ومن ثم قتلوا لأجله ألوفا، ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون. ثم حكى سبحانه قول امرأة فرعون حين رآه فرعون وهمّ بقتله. (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) أي قالت تخاصم عنه وتحببه إلى فرعون: إنه مما تقرّ به العيون، وتفرح لرؤيته القلوب، فلا تقتلوه. ثم ذكرت العلة التي قالت لأجلها ما قالت. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي لعلنا نصيب منه خيرا، لأنى أرى فيه مخايل اليمن، ودلائل النجابة، كما قال الشاعر: فى المهد ينطق عن سعادة جدّه ... أثر النجابة ساطع البرهان أو نتخذه ولدا لما فيه من الوسامة وجمال المنظر التي تجعله أهلا لتبنى الملوك له، وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون فوهبه لها. ثم بين سبحانه أنهم لا يدرون خطأهم فيما صنعوا فقال: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وهم لا شعور لهم بما خبأه لهم القدر، وبما يئول إليه أمرهم

معه من عظائم الأمور التي تؤدى إلى هلاكهم، وإنما علم ذلك لدى علام الغيوب، فهو الذي يدرى ما أراد بالتقاطهم إياه من الحكم البالغة، والحجج القاطعة. وبعد أن أخبر سبحانه عن حال من لقيه موسى عليه السلام خبّر عن حال من فارقه بقوله: (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إنها حين سمعت بوقوعه فى يد فرعون طار عقلها شعاعا لما دهمها من الجزع والحزن وتوقع الهلاك الذي لا مندوحة منه جريا على عادته مع أنداده ولداته، ولولا أن عصمناها وثبتنا قلبها لأعلنت أمرها، وأظهرت أنه ابنها وقالت من شدة الوجد «وا ولداه» وقد فعلنا ذلك لتكون من المصدّقين بوعدنا: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» . ثم أخبر عن فعلها فى تعرف خبره بعد أن أخبر عن كتمها إياه بقوله: (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وقالت لابنتها وكانت كبيرة تعى ما يقال لها: تتبّعى أثره، وتسمّعى خبره، فأبصرته عن بعد، وهم لا يشعرون أنها تقصه، وتتعرف حاله، وأنها أخته. ثم شرع سبحانه يذكر أسباب رده إليها فقال: (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي ومنعنا موسى المراضع من أول أمره، فقالت أخته حين رأت اهتمامهم برضاعه: أتحبون أن أرشدكم إلى أهل بيت يأخذونه ويتولون تربيته ويقومون بجميع شئونه ولا يقصّرون فى خدمته والعناية بأمره؟ روى عن ابن عباس أنها لما قالت ذلك أخذوها وشكّوا فى أمرها وقالوا لها: ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت هم يفعلون ذلك رغبة منهم فى سرور الملك ورجاء عطائه، وبذا خلصت من أذاهم، وذهبوا معها إلى منزلهم ودخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك

[سورة القصص (28) : الآيات 14 إلى 19]

فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها العطاء الجزيل، ثم سألتها أن تقيم عندها وترضعه فأبت ذلك عليها وقالت إن لى بعلا وأولادا ولا أستطيع المقام عندك، ولكن إن أحببت أن أرضعه فى بيتي فعلت، فأجابتها إلى ما طلبت، وأجرت عليها النفقة والصلات والكسا وجزيل العطايا ورجعت بولدها إلى بيتها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا وهى موفورة العز والجاه والرزق الواسع، وقد جاء فى الأثر «مثل الذي يعمل الخير ويحتسب كمثل أم ترضع ولدها وتأخذ أجرها» . وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أي فرددناه إلى أمه بعد أن التقطه آل فرعون، لتقرّ عينها بابنها إذ رجع إليها سليما، ولا تحزن على فراقه إياها. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي ولتعلم أنّ وعد الله الذي وعدها حين قال لها: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) حق لامرية فيه ولا خلف، وقد شاهدت بعضه، وقاست الباقي عليه. وبرده إليها تحققت أنه سيكون رسولا، فربّته على ما ينبغى لمثله من كامل الأخلاق وفاضل الآداب. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حكم الله فى أفعاله وعواقبها المحمودة فى الدنيا والآخرة، إذ قد يكون الشيء بغيضا إلى النفوس ظاهرا، محمود العاقبة آخرا كما قال: «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» . وقد حدث هذا فى أمر موسى، فقد ألقى فى اليم ثم رد إلى أمه مكرّما ثم كان له من الوجاهة فى الدنيا والآخرة ما كان. [سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 19] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)

تفسير المفردات

تفسير المفردات واحدة الأشد: شدة كأنعم ونعمة، والشدة: القوة والجلادة، وبلوغ الأشد: استكمال القوة الجسمانية وانتهاء النمو المعتدّ به، والاستواء: اعتدال العقل وكماله، ويختلف ذلك باختلاف الأقاليم والأزمان والأحوال، والحكم: الحكمة، والمدينة: هى مصر، على حين غفلة: أي فى وقت لا يتوقعون دخولها فيه، من شيعته: أي ممن شايعه وتابعه فى الدين وهم بنو إسرائيل، من عدوه: أي من مخالفيه فى الدين وهم القبط، فاستغاثه أي طلب غوثه ونصره، فوكزه أي فضربه بجمع يده، أي بيده، مجموعة الأصابع، فقضى عليه: أي فقتله وأنهى حياته، من عمل الشيطان: أي من تزيينه، مبين: أي ظاهر العداوة والإضلال، فاغفر لى: أي فاستر ذنوبى، بما أنعمت علىّ: أي أقسم بنعمك علىّ، ظهيرا: أي معينا، يترقب: أي ينتظر ما يناله من أذى، استنصره: أي طلب نصره ومعونته، يستصرخه: أي يطلب الاستغاثة برفع الصوت، غوىّ:

المعنى الجملي

أي ضال، يبطش: أي يأخذ بصولة وسطوة، والجبار: هو الذي يفعل ما يفعل دون نظر فى العواقب، من المصلحين: أي ممن يبغون الإصلاح بين الناس، ويدفعون التخاصم بالحسنى المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما أفاض به على موسى من نعمه فى الصغر من إنجائه من الهلاك بعد وضعه فى التابوت وإلقائه فى النيل، وإنجائه من الذبح الذي عم أبناء بنى إسرائيل- أردفه ذكر ما أنعم به عليه فى كبره من إيتائه العلم والحكمة ثم إرساله رسولا ونبيا إلى بنى إسرائيل والمصريين، ثم ذكر ما حصل منه من قتل المصري الذي اختصم مع اليهودي بوكزه بجمع يده وكان ذلك سببا فى موته، ثم طلبه المغفرة من ربه على ما فعل، ثم تصميمه وعزمه ألا يناصر غويا مجرما، ثم أعقب ذلك بذكر خصام آخر بين ذلك اليهودي وقبطى آخر وقد هم موسى بإغاثته أيضا، فقال له المصري: أتريد الإصلاح فى الأرض أم تريد أن تكون من الجبارين المفسدين؟. الإيضاح (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ولما قوى جسمه واعتدل عقله آتيناه فقها فى الدين وعلما بالشريعة كما قال تعالى: «وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ» وكما جزينا موسى على طاعته إيانا وإحسانه بصيره على أمرنا- نجزى كل من أحسن من عبادنا، وأطاع أمرنا، وانتهى عما نهيناه عنه. وبعد أن أخبر بتهيئته للنبوة ذكر ما كان السبب فى هجرته إلى مدين وتوالى الأحداث الجسام عليه فقال: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي ودخل مصر آتيا من عين شمس فى وقت ليس من المعتاد الدخول فيه وهو وقت القائلة.

روى أنه دخلها مستخفيا من فرعون وقومه، لأنه كان قد خالفهم فى دينهم وعاب ما كانوا عليه. ثم أبان ما حدث منه حينئذ فقال: (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ، قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي فوجد فى مصر رجلين أحدهما من بنى إسرائيل وثانيهما من القبط وهو طباخ فرعون وكان قد طلب منه أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى، فطلب الإسرائيلى من موسى غوثه ونصره على عدوه القبطي، فضر به موسى بجمع يده فى صدره وحنكه فقتله فقال: إن هذا الذي حدث من القتل هو من تزيين الشيطان ووسوسته. ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه فقال: (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أي إنه عدو فينبغى الحذر منه، مضل، فلا يقود إلى خير بيّن العداوة والإضلال. ثم أخبر بندم موسى على قتله نفسا لم يؤمر بقتلها بقوله: (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) أي قال رب إنى ظلمت نفسى بقتل نفس لا يحل قتلها، فاغفر لى ذنبى واستره ولا تؤاخذني بما فعلت، قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر اهـ. ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر له، حتى إنه يوم القيامة يقول عند طلب الناس الشفاعة منه: إنى قتلت نفسا لم أومر بقتلها، وإنما عده ذنبا وقال: (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) من أجل أنه لا ينبغى لنبى أن يقتل حتى يؤمر بالقتل. روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق: ما أسألكم، وأركبكم للكبيرة. سمعت أبى عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الفتنة تجىء من هاهنا- وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من

آل فرعون خطأ فقال الله عزّ وجلّ: «وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» . ثم ذكر أنه أجاب دعاءه وغفر له فقال: (فَغَفَرَ لَهُ) أي فعفا عن ذنبه ولم يعاقبه عليه وبعدئذ ذكر ما هو كالعلة لما قبله فقال: (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى هو الستار لذنوب من أناب إليه، المتفضل عليه بالعفو عنها، الرحيم له أن يعاقبه بعد أن أخلص توبته، ورجع عن حوبته. ثم ذكر أنه شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه فقال: (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أي قال رب اعصمني بحق ما أنعمت علىّ بعفوك عن قتل هذه النفس لأمتنعنّ عن مثل هذا الفعل، ولن أكون معينا للمشركين فأصحبهم وأكثر سوادهم، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد، ومن ثم كانوا يسمونه ابن فرعون. وقد يكون المراد لأمتنعن عن مظاهرة من تئول مظاهرته إلى الجرم والإثم كمظاهرة الإسرائيلى التي أدت إلى القتل الذي لم يؤمر به. ونحو الآية قوله: «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» . ثم ذكر حاله بعد قتل القبطي فى المدينة فقال: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي فصار موسى فى تلك المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من جنايته التي جناها بقتله النفس التي قتلها، وصار يتحسس الأخبار ويسأل عما يتحدث به الناس من أمره وأمر القبطي وما هم بالغوه به، وداخلته الهواجس خيفة أن يقتلوه به، وإذا الإسرائيلى الذي استنصره بالأمس على المصري يطلب منه الغوث والعون على مصرى آخر، فقال له موسى: إنك لذو غواية وضلال لا شك فيه، وقد تبينت ذلك بقتالك أمس رجلا واليوم آخر، ثم دنا منهما.

[سورة القصص (28) : الآيات 20 إلى 28]

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) أي فلما أراد موسى أن يأخذ الفرعوني عدوهما بالشدة والعنف قال له منكرا: أتريد أن تفعل معى كما فعلت بالأمس وتقتلنى كما قتلت من قتلت؟ وكان قد عرف ذلك من حديث المصريين عنه. ثم زاد الإنكار توكيدا فقال: (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) أي ما تريد إلا أن تكون قاهرا عاليا فى الأرض تضرب وتقتل دون أن تنظر فى العواقب، ولا تريد أن تكون ممن يعمل فيها بما فيه صلاح أهلها ودفع تخاصمهم بالحسنى. [سورة القصص (28) : الآيات 20 الى 28] وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أقصى المدينة: أي أبعدها مكانا، يسعى: أي يسرع، الملأ: أشراف الدولة ووجوهها، يأتمرون بك: أي يتشاورون فى أمرك، قال الأزهرى ائتمر القوم وتآمروا إذا أمر بعضهم بعضا كما قال: «وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ» وقال النمر بن تولب: أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفى كل حادثة يؤتمر يترقب: أي يلتفت يمنة ويسرة، توجه إلى الشيء: صرف وجهه إليه، تلقاء مدين: أي جهتها، ورد: أي وصل، والمراد بماء مدين: البئر التي كانوا يستقون منها، أمة: أي جماعة، تذودان: أي تطردان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء، قال الشاعر: لقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدرى بأيّ عصا تذود؟ ما خطبكما: أي ما شأنكما ولم لا تردان مع هؤلاء؟ قال رؤبة يا عجبا ما خطبه وخطبى؟ يصدر الرعاء: أي يصرفون مواشيهم عن الماء، والرعاء: واحدهم راع، تولى: أي انصرف، والظل: ظل شجرة كانت هناك، والخير يكون بمعنى الطعام كما فى الآية وبمعنى المال كما قال: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» وبمعنى القوة كما قال: «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ» وبمعنى العبادة كقوله: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ» فقير: أي

المعنى الجملي

محتاج، والاستحياء: شدة الحياء، ليجزيك: أي ليثيبك، القصص: الحديث المقصوص أي المخبر به، أنكحك: أزوجك، ويقال أجرته: أي كنت له أجيرا كما تقول أبوته أي كنت له أبا، والحجج: واحدها حجة بكسر الحاء وهى السنة، قال زهير ابن أبى سلمى: لمن الديار بقنّة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر أشق عليك: أي أدخل عليك مشقة، الأجلين: أي الأطول أو الأقرب، فلا عدوان: أي فلا حرج، وكيل: أي شهيد. المعنى الجملي اعلم أنه بعد أن انتشر فى المدينة حديث موسى عليه السلام مع القبطي رفعه أعوان فرعون وبطانته إليه، فأتمر هو ومستشاروه وأجمعوا أمرهم على قتله، وكان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه، فأسرع إليه يخبره الخبر وينصحه بالهرب، فانتصح بنصحه وسافر إلى أرض مدين إلى الجانب الشرقي من البلاد المصرية وكان من أمره مع قوم شعيب ما قصه الله علينا فى هذه الآيات، إلى أن رجع إلى مصر وقد أوتى النبوة وهو قافل فى طريقه. الإيضاح (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون، يخفى إيمانه عن فرعون وآله، لأسباب هو بها عليم، يسرع للحاق بموسى إشفاقا وخوفا عليه أن يصيبه مكروه من فرعون وآله وقال: يا موسى: إن الملك وبطانته وأشراف دولته يدبرون لك المكايد، وينصبون لك الحبائل، يريدون أن يقتلوك، فالبدار البدار والهرب

الهرب قبل أن يقبضوا عليك وينفذوا ما دبّروه ويقتلوك، فاخرج من المدينة مسرعا وإنى لك لناصح أمين. فانتصح بنصحه وتقبل قوله. (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي فخرج من مدينة فرعون خائفا يترقب لحوق الطالبين، ويتلفت يمينا ويسارا وينظر أيتبعه أحد؟. ثم لجأ إلى الله تعالى علما منه أن لا ملجأ إلا إليه (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قال: رب نجنى من هؤلاء الذين من دأبهم الظلم والعسف ووضع الأمور فى غير مواضعها، فيقتلون من لا يستحق القتل ومن لا يجرم إلى أحد، فاستجاب الله دعاءه، ووفقه إلى سلوك الطريق الأعظم نحو مدين، روى أن فرعون لما بعث فى طلبه قال: (اركبوا بنيّات الطريق) فانبثوا فيما بين الطريق الأعظم يمينا وشمالا ففاتهم ونجا من بغيهم. ثم أخبر عما ناجى به موسى ربه وهو سائر إلى مدين فقال: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي ولما اتجه نحو مدين ماضيا إليها شاخصا عن مدينة فرعون، قال: رب اهدني إلى سواء السبيل، وأرشدنى إلى الطريق القويم، ونجنى من هؤلاء الظلمة وقد قال هذا توكلا على الله، وثقة بحسن توفيقه، وقد كان لا يعرف الطريق، فعنّ له ثلاث طرائق فسار فى الوسطى وأخذ طالبوه فى الآخرين، وقالوا: المريب لا يسلك أعظم الطرق، بل يأخذ بنيّاتها (أضيقها غير المشهور منها) وقد روى أنه بقي ثمانى ليال وهو حاف لا يطعم إلا ورق الشجر، إذ ليس معه زاد ولا دابة يركبها. ثم ذكر سبحانه ما جرى له حين وصوله إلى مدين من الأحداث فقال: (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما؟ قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي ولم وصل إلى مدين ورد ماءها وقد كان لها بئر يرده رعاء الشاء فوجد جماعة منهم

يسقون نعمهم ومواشيهم، ووجد فى مكان أسفل من مكانهم امرأتين تكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذوها، فلما رآهما موسى كذلك رقّ لهما ورحمهما، قال ما خبركما، لم لا تردان الماء مع هؤلاء القوم؟ فأجابتاه، قالتا: لا نسقى غنمنا إلا إذا فرغ هؤلاء من السقي، وأبونا شيخ كبير لا يستطيع السقي بنفسه، فنحن نلجأ إلى ما ترى، تشرب مواشينا فضل الماء. ثم ذكر ما فعله بعد أن سمع هذا القصص فقال: (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي فسقى لهما غنمهما، ثم انصرف إلى ظل شجرة ليقيل ويستريح، وناجى ربه قائلا: إنى لمحتاج إلى شىء تنزله إلىّ من خزائن جودك وكرمك. روى عن ابن عباس أنه قال: لقد قال موسى ذلك وهو أكرم خلق الله عليه، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة ولصق بطنه بظهره من شدة الجوع. فجاءه الفرج بعد الشدة وأجاب الله طلبه. (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي فجاءته إحدى المرأتين تمشى وهى حيية قد سترت وجهها بثوبها قائلة: إن أبى يدعوك ليكافئك على ما صنعت من الإحسان، وأسديت إلينا من المعروف بسقى غنمنا، قال عمرو بن ميمون: ولم تكن سلفعا من النساء (جريئة على الرجال) خرّاجه ولّاجة. وقد أسندت الدعوة إلى أبيها وعلّلتها بالجزاء حتى لا يتوهم من كلامها شىء من الريبة، كما أن فى كلامها دلالة على كمال العقل والحياء والعفة كما لا يخفى. وقد اختلف فى الأب من هو؟ فقيل هو شعيب عليه السلام وهو بعيد كل البعد، لأن شعيبا كان قبل موسى بزمن طويل بدليل قوله تعالى لقومه: «وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» وقد كان هلاك قوم لوط فى عصر الخليل عليه السلام كما نص على ذلك الكتاب الكريم، وكان بين إبراهيم وموسى ما يزيد على أربعمائة سنة، وفى كتب اليهود أن اسمه يثرو وفى التوراة فى الفصل الثاني من السفر الثاني ما نصه:

ولما سمع بهذا الخبر (خبر قتل القبطي) طلب أن يقتل موسى فهرب من بين يديه وذهب إلى مدين وجلس على بئر ماء، وكان لكاهن مدين سبع بنات فجاءت وأدلت الدلاء وملأت الأحواض لسقى غنم أبيهن، فلما جاء الرعاة طردوهن، فقام موسى فأغائهن وسقى غنمهن، فلما جئن إلى رعوائيل أبيهن قال: ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم؟ إلخ. وفى الفصل الثالث: وكان موسى يرعى غنم يثرو حميه كاهن مدين. ولما قدمت هذه المرأة إلى موسى أجابها تبركا بالشيخ لا طمعا فى الأجر (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فلما جاء موسى هذا الشيخ وحدثه حديثه مع فرعون وآله فى كفرهم وطغيانهم وإذلالهم للعباد وتآمرهم على قتله وهربه منهم بعد الذي علمه- قال له: لا تخف من حولهم وطولهم، إنك قد نجوت من سطوة هؤلاء الظلمة، إذ لا سلطان لهم علينا، ولسنا فى دائرة ملكهم. ولما أمنه وطمأنه على نفسه دار الحديث وكان ذا شجون. (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي قالت واحدة من بناته: استأجر موسى ليرعى عليك ما شيتك، فإن خير من تستأجره للرعى القوىّ على حفظ الماشية والقيام عليها فى إصلاحها وصلاحها، الأمين: الذي لا تخاف خيانته فيما تأتمنه عليه منها. ولا يخفى أن مقالها من جوامع الكلم والحكمة البالغة، لأنه متى اجتمعت هاتان الصفتان: الأمانة والكفاية فى القائم بأداء أمر من الأمور تكلّل عمله بالظفر وكفل له أسباب النجح. وعن ابن مسعود رضى الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب، وصاحب يوسف فى قوله «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» وأبو بكر فى عمر.

ولما أعلمت البنت الشيخ بذلك. (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي قال أبو المرأتين اللتين سقى لهما موسى: إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتىّ الحاضرتين أمامك، فانظر من يقع اختيارك عليها منهما، على أن تكون أجيرا لى ثمانى سنوات ترعى لى فيها غنمى، فإن أتممت الثماني السنين التي شرطتها عليك فجعلتها عشرا فإحسان من عندك، وما أحب أن أشاقك بمناقشة أو مراعاة أوقات ولا إتمام عشر ولا غير ذلك، وإنك ستجدنى إن شاء الله ممن تحسن صحبتهم ويوفون بما تريد من خير لك ولنا. وفى هذا دليل على مشروعية عرض ولىّ المرأة لها على الرجل، فقد عرض عمر ابن الخطاب ابنته حفصة على أبى بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر «لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر» الحديث أخرجه البخاري. فأجابه موسى: (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي قال ما شرطت علىّ فلك، وما شرطت من تزوج إحداهما فلى والأمر على ذلك لا يخرج كلانا عنه، لا أنا عما شرطت علىّ، ولا أنت عما شرطت على نفسك. ثم فسر هذا بقوله: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) أي أىّ المدتين قضيت، الثماني الحجج أو العشر وفرغت منها فوفيتكها برعى غنمك وما شيتك فليس لك أن تطالبنى بأكثر منها.

[سورة القصص (28) : الآيات 29 إلى 32]

روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبرهما» رواه الخطيب فى تاريخه. ثم جعل الله شهيدا على صدق ما يقول كل منهما فقال: (وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي والله شهيد على ما أوجب كل منهما على نفسه لصاحبه. [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) تفسير المفردات قضى الأجل: أي أتم المدة المضروبة بينهما، آنس: أي أبصر إبصارا بينا لا شبهة فيه، جذوة: أي عود غليظ فى رأسه نار، تصطلون: أي تستدفئون، والبقعة: القطعة من الأرض على غير هيئة التي بجانبها، والجانّ: الحية الصغيرة التي توجد فى كثير من الدور ولا تؤذى، ولم يعقب: أي ولم يرجع، اسلك يدك: أي أدخلها، والجيب: الفتحة فى القميص ونحوه من حيث يخرج الرأس، سوء: أي عيب، والرهب: المخافة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما عزم على الرحيل إلى مصر لزيارة ذوى قرابته، ومما جرأه على ذلك طول مدة الجناية وظنه أنه قد نسى أمره وكأنه أصبح فى خبر كان، فلما سار بأهله أبصر من جانب الطور نارا فطلب منهم المكث، ليحضر لهم جذوة من هذه النار، فناداه ربه، وآتاه من البرهانات على نبوته ما قصه علينا فى كتابه. الإيضاح (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي فلما وفّى موسى الأجل الذي اتفق عليه مع حميه تحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره وسلك بهم الطريق فى ليلة مطرة وظلمة باردة ونزل منزلا فجعل كلما أورى زنده لا يضىء شيئا، فعجب لذلك، وبينا هو كذلك رأى نارا تضىء عن بعد فقال لأهله انتظروا قليلا، إنى أبصرت نارا لعلى آتيكم منها بخبر الطريق وكانوا قد ضلوا عنه، أو آتيكم بقطعة من الحطب فيها نار لنستدفئوا بها من البرد وكان الوقت شتاء. (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي فلما جاء إلى النار التي أبصرها من جانب الطور ناداه ربّه من جانب الوادي الأيمن: أي عن يمين موسى فى البقعة المباركة من ناحية الشجرة: يا موسى إنى أنا الله ربك ورب العالمين جميعا. وقد خلق الله فيه علما يقينيا بأن المتكلم هو الله تعالى، وأن ذلك الكلام كلامه، وقد جعلت الشجرة مباركة، لأنه تعالى كلم موسى هناك وبعثه نبيا. ثم أمره الله أن يلقى عصاه لديه آية على نبوته فقال:

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي ونودى بأن ألق عصاك فألقاها فصارت حية تسعى فلما رآها تتحرك وتضطرب كأنها جان من الحيات، لسرعة عدوها وخفة حركتها- ولّى هاربا منها ولم يرجع. ثم نودى بما يهدئ زوعه: (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي يا موسى أقبل إلىّ ولا تخف مما تهرب منه، فإنك آمن من أن ينالك سوء، إنما هى عصاك أردنا أن نريك فيها آية كبرى، لتكون عونك لدى الطاغية الجبار فرعون ملك مصر. ثم أراه آية أخرى زيادة فى طمأنينته، وأمره بقوله: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي أدخل يدك فى جيب قميصك تخرج ولها شعاع يضىء من غير عيب ولا برص. ولما اعترى موسى الخوف من العصا تارة، ومن الدهشة بشعاع يده مرة أخرى، أمره ربه أن يضع يده على صدره ليزول ما به من الخوف فقال: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي وضع يدك على صدرك يذهب ما بك من خوف، كما يشاهد من حال الطائر، إذا خاف نشر جناحيه، وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان. قال ابن عباس: كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه. ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال: (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي فما تقدم من جعل العصا حية تسعى وخروج اليد بيضاء من غير سوء بعد وضع اليد فى الجيب- دليلان واضحان على قدرة ربك، وصحة نبوة من جريا على يديه، أرسلناهما إلى فرعون وقومه. ثم ذكر العلة له فى إظهار الآيات لهم بقوله: (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي إنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله، مخالفين

[سورة القصص (28) : الآيات 33 إلى 37]

لأمره، منكرين لكل دين جاء به الرسل، فكانوا جديرين بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين. [سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 37] قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) تفسير المفردات الردء: العون، يقال ردأته على عدوه: أي أعنته عليه، قال الشاعر: ألم تر أن أصرم كان ردئى ... وخير الناس فى قلّ ومال يصدقنى: أي يوضح ما قلته، ويقيم عليه الأدلة، ويجادل المشركين، والعضد: ما بين المرفق إلى الكتف، والمراد بشد العضد: التقوية والإعانة. قال طرفة: بنى لبينى لستم بيد ... إلا يدا ليست لها عضد والسلطان: التسلط والغلبة، مفترى: أي مختلق، عاقبة الدار: أي العاقبة المحمودة فى الدار الدنيا التي تفضى إلى الجنة. المعنى الجملي اعلم أنه لما قال سبحانه لموسى فذانك برهانان من ربك علم أنه سيذهب بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه- وحينئذ طلب منه أن يؤتيه ما يقوّى به قلبه ويزيل

الإيضاح

خوفه من فرعون، لأنه إنما خرج من ديار مصر- فرارا منه وهربا من سطوته، فيرسل معه أخاه هرون وزيرا فأجابه إلى ما طلب، وأرسله هو وهرون إلى فرعون وملئه ومعهما المعجزات الباهرة، والأدلة الساطعة، فلما عاينوا ذلك وأيقنوا صدقه لجئوا إلى العناد والمكابرة فقالوا ما هذا إلا سحر مفتعل، وما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، فقال لهم موسى: ربى أعلم بالمهتدي منا ومنكم، وسيفصل بينى وبينكم، ويجعل النصر والتأييد للصالحين من عباده. الإيضاح (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي قال يا رب إنى قتلت من قوم فرعون نفسا، فأخاف إن أتيتهم ولم أبن عن نفسى بحجة أن يقتلونى، لأن ما فى لسانى من عقدة يحول بينى وبين ما أريد من الكلام، وأخى هرون هو أفصح منى لسانا، وأحسن بيانا، فأرسله معى عونا يلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات، ويجادل هؤلاء الجاحدين المعاندين، وإنى أخاف أن يكذبونى ولسانى لا يطاوعنى حين المحاجة. فأجابه سبحانه إلى ما طلب. (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي سنقويك ونعينك بأخيك، ونجعل لكما تسلطا عظيما وغلبة على عدوكما، فلا يصلون إليكما بوسيلة من وسائل الغلب. (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) أي أنتما ومن تبعكما الغالبون بحججنا وسلطاننا الذي يجعله لكما. وفى هذا دليل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشىء مما هددهم به، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم فى سبيل الله.

ثم أبان ما صدر من فرعون عقب مجىء موسى إليه فقال: (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي فحين جاء موسى بالحجج البالغة الدالة على صدق رسالته- فرغون وملأه، قالوا ما هذا إلا سحر افتريته من عندك، وانتحلته كذبا وبهتانا، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه من عبادة إله واحد فى أسلافنا وآبائنا الذين مضوا من قبلنا. وهذا تحكيم لعادة التقليد التي أضلّت كثيرا من الناس، على أنهم قد كذبوا وافتروا، فإنهم سمعوا بذلك فى عهد يوسف عليه السلام (وما بالعهد من قدم) فقد قال لهم الذي آمن: «يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ- إلى أن قال- وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ» . ولما كذبوه كفرا وعنادا وهم الكاذبون رد عليهم بما أشار إليه بقوله: (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي وقال موسى مجيبا فرعون وملأه: ربى أعلم بالمحق منا يا فرعون من المبطل، ومن الذي جاء بالحق الذي يوصّل إلى سبيل الرشاد، ومن الذي له العقبى المحمودة فى الدار الآخرة؟. وفى هذا الأسلوب من أدب الخطاب فى الحجاج والمناظرة ما لا يخفى، فهو لم يؤكد أن خصمه فى ضلال كما لم ينسبه إلى نفسه بل ردده بينهما وهو يعلم أنه لأيهما، وعلى هذا النحو جاء الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بقوله: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . ثم علل هذا بأن سنة الله قد جرت بأن المخذول هو الكاذب فقال: (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه لا ينجح الكافرون ولا يدركون طلبتهم، وفى هذا إيماء إلى أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة، بل يحصلون على ضد ذلك، وهذا غاية الزجر والتهديد لكفهم عن العناد.

[سورة القصص (28) : الآيات 38 إلى 43]

[سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 43] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) تفسير المفردات هامان: وزير فرعون، صرحا: أي قصرا عاليا، أطلع: أي أصعد وأرتقى، فنبذناهم: أي طرحناهم، أئمة: واحدهم إمام وهو من يقتدى به فى الدين أو فى الدنيا، يدعون إلى النار: أي إلى ما يوجبها من الكفر والمعاصي، لعنة: أي طردا من الرحمة، من المقبوحين: أي المخزيين، يقال قبحه الله: أي نحاه من كل خير، وقبحت وجهه وقبّحت بمعنى، قال الشاعر: ألا قبح الله البراجم كلّها ... وقبّح يربوعا وقبّح دارما الكتاب: هو التوراة، القرون الأولى: هم قوم نوح وهود وصالح، بصائر: واحدها بصيرة، وهى نور القلب الذي يميز بين الحق والباطل.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن رغّب موسى فرعون وقومه فى التوحيد والنظر فى الكون تارة، ورهّبهم من عذاب الله وشديد نكاله تارة أخرى- أجابه فرعون بتلك المقالة التي تدل على الجهل المطبق، ونقصان العقل، وأنه بلغ غاية لا حدّ لها فى الإنكار وأنه لا مطمع فى إيمانه، لعتوّه وطغيانه واستكباره فى الأرض حتى قال ما قال، ومن ثم كانت عاقبته فى الدنيا الهلاك بالغرق هو وجنوده واللعن من الله والناس، وفى الآخرة الطرد من رحمة الله. ثم أخبر سبحانه أنه آتى موسى التوراة، وجعلها نورا للناس يهتدون بها، وتكون لهم تذكرة من عقاب الله، وشديد عذابه. الإيضاح (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي وقال فرعون يا أيها القوم ما علمت لكم فى أي زمن إلها غيرى كما يدّعى موسى، والأمر محتمل أن يكون، وسأحقق ذلك لكم، وهذا كلام ظاهره الإنصاف، ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقول لهم بعد ذلك فى شأن الإله وتسليمهم إياه، اعتمادا على ما رأوا من عظيم نصفته فى القول. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان قالهما فرعون (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وقوله: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» كان بينهما أربعون عاما، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى» . وخلاصة مقاله- لا علم لى برب غيرى فتعبدوه، وتصدقوا قول موسى فيما جاءكم به، من أن لكم وله ربا غيرى، ومعبودا سواى. ونحو الآية قوله: «فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» وقوله «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ»

قال الرازي: ليس مراده من ادعاء الألوهية أنه خالق السموات والأرض والبحار والجبال وخالق الناس، فإن العلم بامتناع ذلك واضح لكل ذى عقل، بل مراده بذلك وجوب عبادته، فهو ينفى وجود الإله ويقول: لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا مليكهم وينقادوا لأمره اهـ بتصرف. ثم خاطب وزيره آمرا له على سبيل التهكم أمام موسى، ليشكّك قومه فى صدق مقالته. (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي فاصنع لى آجرّا واجعل لى منه قصرا شامخا وبناء عالينا أصعد وأرتقى إلى إله موسى الذي يعبده فى السماء، ويدعى أنه يؤيده وينصره وهو الذي أرسله إلينا. وبمعنى الآية قوله: «وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» . ثم زاد قومه شكا فى صدقه بقوله: (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنى لأظنه كاذبا فيما يدّعى، من أن له معبودا فى السماء ينصره ويؤيده، وأنه هو الذي أرسله. ثم ذكر سبحانه ما هو كالسبب فى العناد والجحود فقال: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) أي ورأى هو وجنوده كل من سواهم فى أرض مصر حقيرا، عتوّا منهم على ربهم، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون، ولا يثابون ولا يعاقبون، ومن ثم ركبوا أهواءهم، ولم يعلموا أن الله لهم بالمرصاد، وأنه مجازيهم على خبيث أعمالهم، وسيىء أقوالهم. ثم أخبر بما نالهم من عقاب الدنيا بعد أن توعدهم بعقاب الآخرة فقال: (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) أي فجمعنا فرعون وجنوده من القبط فألقيناهم جميعا فى البحر.

وفى هذا ما لا يخفى من الدلالة على عظم شأن الخالق وكبريائه وسلطانه، وشديد احتقاره لفرعون وقومه، واستقلاله لهم وإن كانوا عددا كبيرا، وجما غفيرا، فما مثلهم إلا مثل حصيات صغار قذفها الرامي من يده فى البحر. ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وقومه بالنظر والاعتبار والتأمل فى العواقب، ليعلموا أن هذه سنة الله فى كل مكذب برسله فقال: (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر أيها المعتبر بالآيات، كيف كان أمر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وكفروا بربهم، وردوا على رسوله نصيحته- ألم نهلكهم ونوّرث ديارهم وأموالهم أولياءنا ونخوّلهم ما كان لهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كبير، بعد أن كانوا مستضعفين، تقتّل أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، وإنّا بك وبمن آمن بك فاعلون، فمخوّلوك وإياهم دبار من كذبك وردّ عليك ما أتيتهم به من الحق، وأموالهم بعد أن تستأصلوهم قتلا بالسيف- سنة الله فى الذين خلوا من قبل. ثم ذكر ما يوجب سوء عاقبتهم وعذابهم فى النار فقال: (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي وجعلنا فرعون وقومه أئمة يقتدى بهم أهل العتو والكفر بالله، فهم يحثون على فعل الشرور والمعاصي، وتدسية النفوس بالفسوق والآثام التي تلقى بفاعلها فى النار. وما كفاهم أن كانوا ضالين كافرين بالله ورسوله، بل دأبوا على إضلال سواهم وتحسين العصيان لهم، وبذا قد ارتكبوا جريمتين، فباءوا بجزاءين: جزاء الضلال وجزاء الإضلال، وقد جاء فى الحديث: «من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . ثم ذكر أنه لا نصير لهم ولا شفيع فى ذلك اليوم فقال: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي ويوم القيامة لا يجدون نصيرا يدفع عنهم عذاب

الله إذا حاق بهم، وقد كانوا فى الدنيا يتناصرون، فكان لهم مطمع فى النصرة يومئذ بحسب ما يعرفون. ثم ذكر ما هو كالفذلكة لما تقدم، وبين سوء حالهم فى الدارين فقال: (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي وألزمنا فرعون وقومه فى هذه الدنيا خزيا وغضبا منا عليهم ومن ثم قضينا عليهم بالهلاك والبوار وسوء الأحدوثة، ونحن متبعوهم لعنة أخرى يوم القيامة، فمخزوهم الخزي الدائم ومهينوهم الهوان اللازم الذي لا فكاك عنه. ثم بين سبحانه الحاجة التي دعت إلى إرسال موسى ليكون كالتوطئة لبيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولقد أنزلنا على موسى التوراة وفصلنا فيها الأحكام التي فيها سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم من بعد ما أهلكنا الأمم التي من قبلهم كقوم نوح وهود وصالح، ودرست معالم الشرائع وطمست آثارها واختلت نظم العالم، وفشا بينهم الشر، ورفع الخير. فاحتاج الناس إلى تشريع جديد يصلح ما فسد من عقائدهم وأفعالهم، بتقرير أصول فى ذلك التشريع تبقى على وجه الدهر، وترتيب فروع تتبدل بتبدل العصور واختلاف أحوال الناس، وفيها التذكير بأحوال الأمم الخالية، ليكون فى ذلك عبرة للناس، ونور لقلوبهم، تبصر به الحقائق، وتميز لحق من الباطل، بعد أن كانوا فى عماية عن الفهم والإدراك، وتهديهم إلى ما يوصلهم إلى القرب من ربهم، ونيل رضوانه ومغفرته ورحمته، ليتذكروا نعم الله عليهم فيشكروه عليها، ولا يكفروا بها. قال أبو سعيد الخدري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة

[سورة القصص (28) : الآيات 44 إلى 47]

على موسى غير القرية التي مسخت قردة، ألم تر إلى قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى» . [سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 47] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) تفسير المفردات الغربي: هو الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله فيه ألواح التوراة لموسى، قضينا: أي عهدنا إليه وكلفناه أمرنا ونهينا، الأمر: أي أمر الرسالة، الشاهدين: أي الحاضرين، فتطاول عليهم العمر: أي بعد الأمد، ونحوه «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ» ثاويا: أي مقيما. قال العجّاج: فبات حيث يدخل الثّوىّ ... أي الضيف المقيم، أهل مدين: أي قوم شعيب عليه السلام، مصيبة: أي عذاب الدنيا والآخرة، ولولا الثانية بمعنى هلا وتفيد تمنى حصول ما بعدها والحث عليه. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أنه أرسل موسى بعد أن أهلك القرون الأولى، ودرست الشرائع، واحتيج إلى نبى يرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم فى معاشهم ومعادهم

الإيضاح

أردف ذلك بيان الحاجة إلى إرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لمثل تلك الدواعي التي دعت إلى إرسال موسى عليه السلام، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأن رحمته اقتضت ألا يعذب أحدا إلا إذا أرسل رسولا، ويتضمن ذلك كون القرآن وحيا من عند الله، لأن ما فصل فيه من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها، وقد انتفى كلاهما فتبين أنه بوحي من علام الغيوب. الإيضاح (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله فيه ألواح التوراة لموسى حين عهدنا إليه أمر النبوة، وما كنت من جملة السبعين الذين اختيروا لسماع تفاصيل ذلك الأمر الذي أوحينا به إلى موسى حتى تخبر به كله على الوجه الذي أتيناك به فى هذه الأساليب المعجزة. وخلاصة ذلك- إن إخبارك بالغيوب الماضية التي لم تشهدها وقد قصصتها كأنك سامع راء لها وأنت أمي لا نقرأ ولا تكتب، وقد نشأت بين قوم أميين لا يعرفون شيئا من ذلك- لهو من أعظم البراهين على نبوتك، وإن إخبارك بذلك إنما هو بوحي من الله كما قال: «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى» . (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي ولكنا أنشأنا من عهد موسى إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول عليهم العمر إلى أن وجد القرن الذي أنت فيه فدرست العلوم فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء، وأحوال موسى، وأرسلناك بما فيه سعادة البشر. والخلاصة- إنك ما كنت شاهدا موسى وما جرى له ولكنا أوحيناه إليك، وفى هذا تنبيه إلى المعجزة كأنه قال: إن فى إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلّم من أهله- لدلالة ظاهرة على نبوتك.

ثم ذكر ما هو كالدليل على ذلك فقال: (1) (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي وما كنت مقيما بين أهل مدين تتلقف القصة ممن شاهدها، وتقرؤها عليهم بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم على معلمه، فتفهّم أخبار موسى بهذا الطريق ونحوه. (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك موحين إليك تلك الآيات ونظائرها، ولولا ذلك ما علمتها وما أخبرتهم بها. (2) (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي وما كنت بجانب الطور ليلة المناجاة وتكليم الله موسى حتى تحدّث أخبارها، وتفصل أحوالها، حديث الخبير العليم ببواطن أمورها وظواهرها. (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بتلك الأخبار وبغيرها مما فيه صلاح البشر وسعادتهم فى معاشهم ومعادهم، لتنذر قوما لم يأتهم قبلك نذير، وتحذّرهم بأس الله وشديد عقابه على إشراكهم به وعبادتهم الأوثان والأنداد، لعلهم يرجعون عن غيهم، ويتذكرون عظيم خطئهم، وكبير جرمهم، فينيبوا إلى ربهم، ويقروا بوحدانيته، ويفردوه بالعبادة دون سواه من الآلهة. ثم ذكر الحكمة فى إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، وأن فى ذلك قطعا لمعذرتهم، حتى إذا جاءهم بأسنا لم يجدوا حجة فقال: (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم حين يحلّ بهم بأسنا ويأتيهم عذابنا على كفرهم بربهم واجتراحهم للمعاصى قبل أن نرسلك إليهم: ربنا هلّا أرسلت إلينا رسولا قبل أن يحلّ بنا سخطك وينزل بنا عذابك، فنتبع أدلتك وآي كتابك التي تنزلها عليه، ونكون من المؤمنين بألوهيتك المصدقين برسولك- لعاجلناهم العقوبة على شركهم، لكنا بعثناك إليهم نذيرا ببأسنا

[سورة القصص (28) : الآيات 48 إلى 51]

كما هو سنتنا فى أمثالهم كما جاء فى الآية الكريمة: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» . والخلاصة- إنا أزحنا العذر، وأكملنا البيان، فبعثناك أيها الرسول إليهم، وقد حكمنا بأنا لا نعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل. [سورة القصص (28) : الآيات 48 الى 51] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) تفسير المفردات الحق: أي الأمر الحق وهو القرآن، سحران: أي ما أوتيه موسى وما أوتيه محمد، تظاهرا: أي تعاونا وتناصرا، فإن لم يستجيبوا لك: أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به، والتوصيل: ضم قطع الحبل بعضها إلى بعض قال شاعرهم: فقل لبنى مروان ما بال ذمّتى ... بحبل ضعيف ما يزال يوصّل والمراد به هنا إنزال القرآن منجّما مفرقا يتصل بعضه ببعض. المعنى الجملي بعد أن بين فيما سلف أنه إنما أرسل رسوله قطعا لمعذرتهم حتى لا يقولوا حين نزول بأسنا بهم: هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه- أردفه بيان أنه حين مجىء الرسول وإنزال

الإيضاح

القرآن عليه جحدوا به، وكذبوا رسالته، ولم يعتدوا بكتابه، وطلبوا مجىء معجزات كمعجزات موسى، من مجىء التوراة جملة، وقلب العصا، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء، وقد كفر المعاندون من قبلهم بما جاء به موسى من المعجزات وقالوا: ما هى إلا سحر مفترى وما هى إلا أساطير الأولين وإن موسى ومحمدا ساحران تعاونا على الخداع والتضليل، وإنا لكافرون بكل منهما. ثم أمر رسوله أن يقول لهم: إن استطعتم أن تأتوا بكتاب خير من كتابيهما موصل إلى الحق هاد إلى سبيل الرشد فافعلوا، فإن لم تستطيعوا ذلك فأنتم متبعون للهوى، سالكون سبيل الضلال، ولا أضل ممن يسلك هذه السبيل. ثم ذكر أنه ما أرسل الكتاب منجما على هذا النهج إلا ليكون فيه عبرة وذكرى لهم بين آن وآخر لعلهم يرتدعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم. الإيضاح (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله- بالكتاب الكريم قالوا تمردا وعنادا وتماديا فى الغى والضلال: هلا أوتى مثل ما أوتى موسى من المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وتظليل الغمام إلى نحو أولئك. ثم ذكر أن هذه شنشنة المعاندين فى كل زمان، لا يريدون بما يقولون إظهار الحق، بل يقصدون التمادي والإنكار، ألا ترى أن من أرسل إليهم موسى قالوا مثل هذه المقالة كما أشار إلى ذلك بقوله: (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟) أي إن المعاندين الذين مذهبهم كمذهبكم وهم الكفار الذين كانوا فى زمن موسى كفروا بما جاء به موسى، فأنتم متّبعون نهجهم، وسالكون سبيلهم. ثم بين طريق كفرهم به فقال: (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي قالوا إن موسى ومحمدا ساحران

تعاونا على الدّجل والتضليل، وخداع السّذج من الجماهير، ولم يرسلهما ربهما لهداية البشر كما زعما، وإنا لكافرون بكل منهما، ولا نؤمن بما جاءا به. ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدى قومه بأن يأتوا بكتاب أهدى للبشر، وأصلح لحالهم فى المعاش والمعاد من التوراة والقرآن فقال: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ائتوني بكتاب من عند الله أصلح لهداية البشر من التوراة والقرآن، فإن جئتم به فإنى لأتركهما وأتبع ما تجيئون به، إن كنتم صادقين فيما تقولون، جادّين فيما تدّعون. ثم توعدهم إذا هم نكصوا على أعقابهم، ولم يلبّوا طلبه، ولم يأتوا بالكتاب فقال: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به فاعلم أنهم سادرون فى غلوائهم، متبعون لأهوائهم، راكبون لرءوسهم، حائدون عما يقتضيه الدليل والبرهان. ثم بين عاقبة من يتبع الهوى فقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ؟) أي ومن أضل عن طريق الرشاد وسبيل السداد، ممن سار متبعا الهوى بغير بيان من الله وعهد منه بما ينزله على رسله بوحي منه. وفى هذا من التشنيع عليهم، وتقبيح فعلهم ما لا يخفى على كل ذى لب. ثم بين سنته تعالى فى خلقه فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يوفّق لإصابة الحق واتباع سبيل الرشد، من خالفوا أمره، وتركوا طاعته، وكذبوا رسله، وبدّلوا عهده، واتبعوا هوى أنفسهم، إيثارا منهم لطاعة الشيطان على طاعة الرحمن. ولما أثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بين الحكمة فى إنزال القرآن منجّما فقال: (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ولقد نزلنا عليهم القرآن متواصلا

[سورة القصص (28) : الآيات 52 إلى 55]

بعضه إثر بعض على ما تقتضيه الحكمة، وترشد إليه المصلحة، وهى أن يكون أقرب إلى التذكير والتنبيه، فهم فى كل يوم يطلعون فيه على حكمة جديدة وفائدة زائدة، فيكون ذلك أدعى إلى إيمانهم، ورسوخه فى نفوسهم، وامتلاء قلوبهم نورا به. [سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) تفسير المفردات مسلمين: أي منقادين خاضعين لله، يدرءون أي يدفعون، واللغو: ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وسخف القول، سلام عليكم: أي سلام لكم مما أنتم فيه، لا نبتغى الجاهلين: أي لا نريد أن نكون من أهل السفه والجهل، فنجازيكم على باطلكم بباطل مثله. المعنى الجملي بعد أن أثبت أن القرآن وحي من عند الله، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- أكد هذا بأن أثبت أن أهل الكتاب آمنوا به حين رأوا الأدلة تتظاهر على صدقه، وموافقته لما فى كتبهم من وصف، فأجدر بمن لا كتاب لهم من قبله أن يؤمنوا به. قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية فى سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي

الإيضاح

إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا عليه قرأ عليهم (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا. الإيضاح (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) أي الذين آمنوا بالتوراة والإنجيل من أهل الكتاب، ثم أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا بالقرآن، لأنهم قد وجدوا فى كتبهم البشرى به، وانطباق الأوصاف عليه. ونحو الآية قوله: «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ» ، وقوله: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» . (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أي وإذا تلى هذا القرآن عليهم قالوا صدّقنا بأنه نزل من عند ربنا حقا، وقد كنا مصدّقين به قبل نزوله، لأنا وجدنا فى كتبنا نعت محمد، ونعت كتابه. وفى هذا إيماء إلى أن إيمانهم به متقادم العهد، فآباؤهم الأولون قرءوا فى الكتب الأول ذكره، وأبناؤهم من بعدهم فعلوا كما فعلوا من قبل نزوله. ثم بين جزاءهم على إيمانهم به بعد إيمانهم بما سبقه من الكتب بقوله: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أي هم يؤتون ثواب عملهم مرتين: مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن، بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمانين فإنّ تجشم مثل هذه المشاقّ شديد على النفوس، فقد يصيبهم من جرّاء ذلك أذى من قومهم أو من المشركين فى اتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم. ونحو الآية قوله تعالى فى شأنهم «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» وفى الحديث الصحيح عن أبى موسى الأشعري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد

مملوك أدّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها» وروى أبو أمامة قال: إنى لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: «من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه ما علينا» . ثم ذكر من أوصافهم ما يؤهّلهم للزلفى والقرب من ربهم فقال: (1) (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي وهم يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم بالصفح والعفو عنه. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون مما أعطاهم الله من فضله من المال الحلال، النفقات الواجبة لأهلهم وذوى قرباهم، ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم، ويساعدون البائسين وذوى الخصاصة المعوزين. (3) (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي وإذا سمعوا ما لا ينفع فى دين ولا دنيا، من السب والشتائم وتكذيب الرسول أعرضوا عن قائليه ولم يخالطوهم، وإذا سفه عليهم سفيه، وكلّمهم بما لا ينبغى رده من القول لم يقابلوه بمثله، إذ لا يصدر منهم إلا طيب الكلام، وقالوا لنا أعمالنا لا تثابون على شىء منها ولا تعاقبون، ولكم أعمالكم لا نطالب بشىء منها، فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم، سلام عليكم سلام متاركة وتوديع، فإنا لا نريد طريق الجاهلين. ونحو الآية قوله تعالى: «وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» . روى محمد بن إسحق «أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو يزيدون من نصارى الحبشة حين بلغهم خبره، فوجدوه فى المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلته عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا الله وآمنوا به وصدّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره،

[سورة القصص (28) : الآيات 56 إلى 57]

فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام فى نفر من قريش فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال، ما رأينا ركبا أحمق منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خير. [سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 57] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) تفسير المفردات الهداية: تارة يراد بها الدعوة والإرشاد إلى طريق الخير وهى التي أثبتها الله لرسوله فى قوله «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» وتارة يراد بها هداية التوفيق وشرح الصدر بقذف نور يحيا به القلب كما جاء فى قوله: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً» وهى بهذا المعنى نفيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الآية، يجبى إليه: أي يجمع إليه، يقال جبى الماء فى الحوض: أي جمعه، والجابية: الحوض العظيم، والخطف: الانتزاع بسرعة ويراد به هنا الإخراج من البلاد. المعنى الجملي بعد أن أبان فيما سلف أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى آمنوا به، وجاءوا إليه زرافات ووحدانا من كل فج عميق، وجابوا الفيافي وقطعوا البحار للإيمان به،

الإيضاح

بعد أن سمعوا أخباره، وترامت لهم فضائله وشمائله، وقد كان فى هذا مقنع لقومه أن يؤمنوا به وأن تحدثه نفسه الشريفة بالطمع فى إيمانهم، ودخول الهدى فى قلوبهم والانتفاع بما آتاه الله من العرفان، فتكون لهم به السعادة فى الدنيا والآخرة- أردف ذلك الآية الأولى تسلية له صلى الله عليه وسلم إذ لم ينجع فى قومه الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص- إنذاره وإبلاغه، فيقبلوا ما جاء به، بل أصرّوا على ما هم عليه، وقالوا لولا أوتى مثل ما أوتى موسى، فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه آمنوا بما جاء به، وقالوا إنه الحق من ربنا. وقد استفاضت الأخبار بأن الآية نزلت فى أبى طالب، فقد أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي والبيهقي فى الدلائل عن أبى هريرة قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا عماه: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لولا أن تعيّرنى قريش، يقولون ما حمله على ذلك إلا جزعه من الموت لأقررت بها عينك، فأنزل الله (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) » الآية. ونزل فى الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب ونحن أكلة رأس (يريد: إنا قليلو العدد) أن يتخطفونا- قوله تعالى: (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى) الآية. الإيضاح (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي إنك لا تستطيع هدى من أحببت من قومك أو من غيرهم هدى موصلا إلى البغية، فتدخله فى دينك وإن بذلت كل مجهود، وإنما عليك البلاغ، والله يهدى من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة. وبمعنى الآية قوله: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» . وقوله: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» .

[سورة القصص (28) : الآيات 58 إلى 59]

(وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي وهو أعلم بالمستعدّين للهداية فيمنحونها، ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب، دون من هم من أهل الغواية كقومك وعشيرتك. ثم أخبر سبحانه عن اعتذار بعض الكفار فى عدم اتباعهم للهدى فقال: (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي وقالوا: نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى، ويحاربونا ويجلونا من ديارنا. فرد الله عليهم مقالتهم وأبان لهم ضعف شبهتهم فقال: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟) أي إن ما اعتذرتم به لا يصلح أن يكون عذرا، لأنا جعلناكم فى بلد أمين، وحرم معظّم منذ وجد، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لكم حال كفركم وشرككم ولا يكون أمنا لكم وقد أسلمتم واتبعتم الحق؟ قال يحيى بن سلام: يقول: كنتم آمنين فى حرمى، تأكلون رزقى، وتعبدون غيرى، أفتخافون إذ عبدتمونى وآمنتم بي؟ وقد تفضل عليكم ربكم وأطعمكم من كل الثمرات التي تجلب من فجاج الأرض والمتاجر والأمتعة من كل بلد، رزقا منه لكم. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثرهم جهلة لا يفطنون إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ومن ثم قالوا ما قالوا، وقد كان من حقهم أن يعلموا أن تلك الأرزاق إنما وصلت إليهم من ربهم، فهو الذي يخشى ويتّقى، لا سواه من المخلوقين. [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 59] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59)

تفسير المفردات

تفسير المفردات بطرت: أي بغت وتجبرت ولم تحفظ حق الله، وأمّها: أكبرها وأعظمها، وهى قصبتها (عاصمتها) . المعنى الجملي هذا هو الرد الثاني على شبهتهم، فإنه بعد أن بين ما خص به أهل مكة من النعم أتبعه بما أنزله على الأمم الماضية الذين كانوا فى رغد من العيش، فكذبوا الرسل، فأزال عنهم تلك النعم، وأحل بهم النقم. وإجمال هذا- إن قولكم لا نؤمن خوفا من زوال النعم ليس بحق، بل الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم. ثم بين أن من سنته تعالى ألا يهلك قوما إلا إذا أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين. الإيضاح (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) أي وكثير من القرى أثرى أهلها وسعوا فى الأرض فسادا وبطروا تلك النعم، فخرّب الله ديارهم، وأصبحت خاوية لم يعمر منها إلا أقلها، وصار أكثرها خرابا يبابا. ونحو الآية قوله: «وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ» . (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لهم، إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم فى ديارهم وسائر ما يتصرفون فيه. والشيء إذا لم يبق له مالك معين قيل إنه ميراث الله، لأنه هو الباقي بعد خلقه. ونحو الآية قوله: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» .

[سورة القصص (28) : الآيات 60 إلى 61]

ثم أخبر سبحانه عن عدله وأنه لا يهلك أحدا إلا بعد الإنذار وقيام الحجة بإرسال الرسل فقال: (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي وما كانت سنته فى عباده أن يهلك القرى حتى يبعث فى كبراها رسولا يتلو عليهم الآيات الناطقة بالحق، ويدعوهم إليه بالترغيب حينا، والترهيب حينا آخر، فيكون ذلك أدعى إلى إلزام الحجة وقطع المعذرة. وإنما كان البعث فى أم القرى، لأن فى أهلها فطنة وكياسة، فهم أقبل للدعوة، وأعرف بمواقع الحق إلى أن الرسول يبعث للأشراف كما يرسل إلى العامة، وهم يسكنون المدائن وهى أمّ ما حولها. ونحو الآية قوله: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» . ثم بين أنه لا يهلك القرى بعد إرسال الرسل إلا إذا ظلموا أنفسهم وكذبوا رسلهم فقال: (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي ولا نهلك القرى التي نبعث فيها الرسل الذين يدعونهم إلى الحق، ويرشدونهم إلى سبيل السّداد إلا إذا ظلموا بتكذيب الرسول وكفروا بالآيات، فلا نهلك قرية بإيمان، ولكن نهلكها بظلمها واجترامها المعاصي وارتكابها الآثام، وقوله: بظلم إشارة إلى أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه، تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا [سورة القصص (28) : الآيات 60 الى 61] وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

تفسير المفردات

تفسير المفردات من المحضرين: أي الذين يحضرون للعذاب، وقد اشتهر ذلك فى عرف القرآن كما قال: «لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» وقال: «إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ» لأن فى ذلك إشعارا بالتكليف والإلزام، ولا يليق ذلك بمجالس اللذات بل هو أشبه بمجالس المكاره والمضار. المعنى الجملي هذا هو الرد الثالث على تلك الشبهة، فإن خلاصة شبهتهم أنهم تركوا الدين لئلا تفوتهم منافع الدنيا، فرد الله عليهم بأن ذلك خرق رأى وخطل عظيم، فإن ما عند الله خير مما فيها، لكثرة منافعه وخلوصه من شوائب المضار، ومنافعها مشوبة، وهو أبقى مما فيها، لأنه دائم لا ينقطع، ومنافعها لا بقاء لها، فمن الجهل الفاضح إذا ترك منافع الآخرة لاستيفاء منافعها، ولا سيما إذا قرنت تلك المنافع بعقاب الآخرة. الإيضاح (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي وما أعطيتم أيها الناس من شىء من الأموال والأولاد، فإنما هو متاع تتمتعون به فى الحياة الدنيا، وتتزينون به فيها، وهو لا يغنى عنكم شيئا عند ربكم، ولا يجديكم شروى نقير لديه، وما عنده خير لأهل طاعته وولايته لدوامه وبقائه، بخلاف ما عندكم فإنه ينفد وينقطع بعد أمد قصير. ونحو الآية قوله «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» وقوله: «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» وقوله: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» ، وفى الحديث: «والله ما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه فى اليمّ، فلينظر ماذا يرجع إليه؟» .

(أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها، فتعرفون الخير من الشر، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين على شرهما، وتؤثرون الدائم الذي لا نفاد له على الفاني الذي ينقطع، ومن أجل هذا أثر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث للمشتغلين بطاعة الله تعالى- وكأنه رحمه الله أخذه من هذه الآية. ثم أكد ترجيح ما عند الله على ما فى الدنيا من زينة بقوله: (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ؟) أي أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا بالجنة وجزيل نعيمها، مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، فآمن بما وعدناه وأطاعنا فاستحق أن ننجز له وعدنا فهو لاقيه حتما وصائر إليه، كمن متعناه الحياة الدنيا ونسى العمل بما وعدنا به أهل الطاعة، وآثر لذة عاجلة على لذة آجلة لا تنفد، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله كان من المحضرين لعذابه وأليم عقابه؟. وهذه الآية تبين حال كل كافر متّع فى الدنيا بالعافية والغنى وله فى الآخرة النار، وحال كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله فى الآخرة الجنة. وخلاصة ذلك- أفمن سمع كتاب الله فصدّق به، وآمن بما وعده الله فيه، كمن متعناه متاع الحياة الدنيا وقد كفر بالله وآياته ثم هو يوم القيامة من المحضرين لعذابه- الجواب الذي لا ثانى له- إنهما لا يستويان فى نظر العقل الرجيح؟!. وتلخيص المعنى: إنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا قيل لهم: لو لم يحصل عقب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقضى بترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا، فكيف وبعد هذه اللذة فيها يحصل العقاب الدائم؟. وجاء الكلام بأسلوب الاستفهام ليكون أبلغ فى الاعتراف بالترجيح.

[سورة القصص (28) : الآيات 62 إلى 67]

[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) تفسير المفردات حق: أي وجب وثبت، والقول: أي مدلول القول ومقتضاه وهو قوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والغواية: الضلال، والفعل غوى يغوى كضرب يضرب، فلم يستجيبوا لهم: أي فلم يجيبوا، عميت: أي خفيت، والأنباء: الحجج التي تنجيهم، ولا يتساءلون، أي لا يسأل بعضهم بعضا. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن التمتع بزينة الدنيا وزخرفها دون طاعة الله وعظيم شكره على نعمه- يكون وبالأعلى الكافر يوم القيامة حين يحضر للعذاب- أردف ذلك بيان ما يحصل فى هذا اليوم من الإهانة والتقريع للمشركين حين يسألهم سؤالات يحارون فى الجواب عنها، ويشتد عليهم الخطب حين لا يجدون مخلصا ومعذرة تبرر لهم ما كانوا يقترفون، فيسألهم أوّلا عن الآلهة التي كانوا يعبدونها فى الدنيا من أصنام وأوثان، هل ينصرونهم أو ينتصرون؟ ثم يأمرهم بدعوتهم فلا يجدون منهم ردا، ثم يسألهم عما أجابوا به الرسل حين دعوهم إلى الإيمان بربهم، فتخفى عليهم الحجج التي

الإيضاح

تنجيهم من العذاب الذي لا مفر لهم منه، ولا يستطيع بعضهم أن يسأل بعضا عما يلقنه من حجة لهول الموقف واشتداد الخطب، ثم ذكر بعدئذ حال المؤمنين بربهم الذين عملوا صالح الأعمال، وبين أنهم يلقون الفوز والظفر بالمراد فضلا من ربهم ورحمة. الإيضاح (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادى رب العزة هؤلاء الذين يضلّون الناس ويصدون عن سبيل الله فيقول لهم: أين شركائى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم لى شركاء- ليخلّصوكم من هذا الذي نزل بكم من العذاب. وهذا السؤال للإهانة والتحقير، لأنهم عرفوا بطلان ما كانوا يفعلون. ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» . ثم ذكر جواب هؤلاء الرؤساء الدعاة إلى الضلال فقال: (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي قال رؤساء الضلال والدعاة إلى الكفر الذين حق عليهم غضب الله، ولزمهم الوعيد بقوله: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فدخلوا النار: ربنا إن هؤلاء الأتباع الذين أضللناهم، أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن كذلك، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل لا القسر والإلجاء- فهم كانوا مختارين حين أقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال.

وخلاصة ذلك- إن تبعة غيّهم واقعة عليهم لا علينا، إذ لم نلجئهم إلى ذلك، بل كان منا مجرد الوسوسة فحسب، فإن كان تسويلنا لهم داعيا إلى الكفر، فقد كان فى مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع من الأدلة العقلية، وبعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفا عن الكفر داعيا إلى الإيمان. ونحو ذلك قوله حكاية عن الشيطان «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» وقوله لإبليس: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» فقوله: إلا من اتبعك يدل على أن ذلك الاتباع من قبل أنفسهم، لا من إلجاء الشيطان إلى ذلك. ثم زاد الجملة الأولى توكيدا بقوله: (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي اتباعا لهوى أنفسهم، فلا لوم علينا فى الحقيقة بسببهم. ونحو الآية قوله: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ» . ثم ذكر ما هو كالعلة لنفى الشبهة عنهم فقال: (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي هم ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون الأوثان بما زيّنت لهم أهواؤهم. ثم طلب إليهم دعاء الشركاء توبيخا لهم وتهكما بهم فقال: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي وقيل للمشركين بالله الآلهة والأنداد فى الدنيا: ادعوا آلهتكم الذين زعمتم جهلا منكم شركتهم لله ليدفعوا العذاب عنكم، فدعوهم لفرط الحيرة وغلبة الدهشة، فلم يجيبوهم عجزا منهم عن الإجابة.

والمقصد من طلب ذلك منهم فضيحتهم على رءوس الأشهاد، بدعاء من لا نفع له، ولا فائدة منه. ثم بين حالهم حينئذ وتمنيهم أن لو كانوا وفّقوا فى الدنيا إلى سلوك طريق الهدى والرشاد فقال: (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي وأيقن الداعون والمدعوون أنهم صائرون إلى النار لا محالة، وودّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين المؤمنين فى الدنيا. ونحو الآية قوله: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» . وبعد أن سئلوا عن إشراكهم بالله توبيخا لهم، سئلوا عن تكذيبهم للأنبياء كما أشار إلى ذلك بقوله: (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟) أي ويوم ينادى المشركين ربهم وقد برز الناس فى صعيد واحد، منهم المطيع ومنهم العاصي، وقد أخذ بأنفاسهم الزحام، وتراكبت الأقدام على الأقدام، فيقول لهم: ماذا أجبتم المرسلين فيما أرسلناهم به إليكم من دعائكم إلى التوحيد والبراءة من الأوثان والأصنام؟. ثم بين أنهم لا يحارون جوابا، ولا يجدون من الحجج ما يدافعون به عن أنفسهم فقال: (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي فخفيت عليهم الحجج ولم يجدوا معذرة يجيبون بها، فلم يكن لهم إلا السكوت جوابا. ثم ذكر أنه تخفى عليهم كل طرق العلم التي كانت تجديهم فى الدنيا فقال: (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي فلا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس فى المشكلات لما اعتراهم من الدهشة وعظيم الهول، ولتساويهم جميعا فى عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب.

[سورة القصص (28) : الآيات 68 إلى 70]

وإذا كان الأنبياء لهول ذلك اليوم يتعتمون فى الجواب عن مثل ذلك السؤال ويفوضون الأمر إلى علم الله كما قال: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» فما ظنك بهؤلاء الضلّال؟. وبعد أن ذكر حال المعذبين من الكفار وما يجرى عليهم من التوبيخ والإهانة أتبعه بذكر من يتوب منهم فى الدنيا، ترغيبا فى التوبة وزجرا عن الثبات على الكفر فقال: (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي فأما من تاب من المشركين، وراجع الحق، وأخلص لله بالألوهة، وأفرد له العبادة، وصدّق نبيّه، وعمل بما أمر به فى كتابه على لسان نبيه، فهو من الفائزين، الذين أدركوا طلبتهم وفازوا بجنات النعيم خالدين فيها أبدا. وقد تقدم أن ذكرنا فى كثير من المواضع أن (عسى) يراد بها فى الكتاب الكريم الإعداد وتوقع حصول ما بعدها من الفوز والنجح لما طلبوا. [سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 70] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) تفسير المفردات الخيرة والتخير: الاختيار باصطفاء بعض الأشياء وترك بعض، سبحان الله: أي تنزيها لله أن ينازعه أحد فى الاختيار، تكنّ: أي تخفى، ويعلنون: أي يظهرون، الحكم: القضاء النافذ فى كل شىء دون مشاركة لغيره فيه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن وبخهم فيما سلف على اتخاذهم الشركاء، وذكر أنه يسألهم عنهم يوم القيامة تهكما بهم وتقريعا لهم- أردف ذلك بتجهيلهم على اختيار ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة، وأبان لهم أن تمييز بعض المخلوقات عن بعض، واصطفاءه على غيره من حق الله لا من حقكم أنتم، والله لم يصطف شركاءكم الذين اصطفيتموهم للعبادة والشفاعة، فما أنتم إلا جهال ضلال. الإيضاح (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) أي وربك يخلق ما يشاء خلقه، وهو وحده سبحانه دون غيره يصطفى ما يريد أن يصطفيه ويختاره، فيختار أقواما لأداء الرسالة وهداية الخلق وإصلاح ما فسد من نظم العالم، ويميز بعض مخلوقاته عن بعض ويفضّله بما شاء، ويجعله مقدما عنده، وليس لهم إلا اتباع ما اصطفاه، وهو لم يصطف شركاءهم الذين اختاروهم للعبادة والشفاعة، فما هم إلا فى ضلال مبين، صدوا عن عمل ما يجب عليهم فعله طاعة لله ورسوله، وتصدّوا لما ليس من حقهم أن يفعلوه بحال. ونحو الآية قوله: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» وقال الشاعر: العبد ذو ضجر، والرب ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفى اختيار سواه اللوم والشّوم وروت عائشة عن أبى بكر رضى الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال: اللهم خر لى واختر لى» وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى ما يسبق إليه قلبك، فإن الخير فيه» .

ويستحسن ألا يقدم أحد على أمر من الأمور حتى يسأل الله الخيرة فيه، وذلك بأن يصلى ركعتين صلاة الاستخارة، يقرأ فى الركعة الأولى بعد الفاتحة «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» وفى الركعة الثانية «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وعن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة فى الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إنى أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى فى دينى ومعاشى وعاقبة أمرى، فاقدره لى ويسّره لى، ثم بارك لى فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى فى دينى ودنياى ومعاشى وعاقبة أمرى، فاصرفه عنى واصرفني عنه، واقدر لى الخير حيث كان، ثم رضنى به، قال: ويسمى حاجته» . ثم أكد هذا وقرره بقوله: (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم أن يختاروا على الله شيئا، وله الخيرة عليهم، فله أن يرسل من يشاء رسولا بحسب ما يعلمه من الحكمة والمصلحة دون أن يكون ذلك منوطا بمال أو جاه كما خيّل إلى بعض المشركين فقالوا «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» . ثم نزه سبحانه نفسه أن ينازعه فى سلطانه أحد فقال: (سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها له وعلوا عن إشراك المشركين، فليس لأحد أن ينازع اختياره أو يزاحمه فيه، لعلمه باستعداد خلقه وصلاحيتهم للاصطفاء، فإذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدى أحدا ممن يحب، أو أراد أهل مكة أن يرسل الله رسولا من عظمائهم قال الله لهم: ليس لكم من الأمر شىء، فلا النبي صلى الله عليه وسلم بقادر على هدى عمه، ولا أهل مكة يصلون إلى أن تكون الرسالة فى عظمائهم.

[سورة القصص (28) : الآيات 71 إلى 73]

ثم بين أن اختياره تعالى مبنى على العلم الصحيح لا اختيارهم فقال: (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي إن اختياره من يختار منهم للإيمان به مبنى على علم منه بسرائر أمورهم وبواديها، فيختار للخير أهله فيوفقهم له، ويولّى الشر أهله ويخلّيهم وإياه. ونحو الآية قوله: «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» . ولما كان علمه بذلك جاء من كونه إلها واحدا فردا صمدا، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علّمه قال: (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي وهو المنفرد بالإلهية، فلا معبود سواه، ولا يحيط الواصفون بكنه عظمته، وهو العليم بكل شىء، القادر على كل شىء. ثم ذكر بعض صفات كماله فقال: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي هو المحمود فى جميع ما يفعل فى الدنيا والآخرة، لأنه المعطى لجميع النعم عاجلا وآجلا. (وَلَهُ الْحُكْمُ) النافذ فى كل شىء، فلا معقّب لحكمه، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيجزى كل عامل جزاء عمله إن خيرا وإن شرا، ولا يخفى عليه منهم خافية. [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 73] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أرأيتم: أي أخبرونى، والسرمد: الدائم المتصل قال طرفة: لعمرك ما أمرى علىّ بغمّة ... نهارى ولا ليلى علىّ بسرمد تسكنون فيه: أي تستقرون فيه من متاعب الأعمال. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه المستحق للحمد على ما أولاه من النعم، وتفضل به من المنن- أردف هذا تفصيل ما يجب أن يحمد عليه منها، ولا يقدر عليها سواه. الإيضاح (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله: أيها القوم أخبرونى إن جعل الله عليكم الليل دائما لا نهار له يتبعه إلى يوم القيامة، أىّ معبود غير الله يأتيكم بضياء النهار فتستضيئون به؟. وفى هذا الأسلوب من التبكيت والتقريع والإلزام ما لا يخفى. (أَفَلا تَسْمَعُونَ؟) ما يقال لكم سماع تدبر وتفكر فتتعظوا وتعلموا أن ربكم هو الذي يأتى بالليل ويزيل النهار إذا شاء، وإذا أراد أتى بالنهار وأذهب الليل، ولا يقدر على ذلك سواه. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟) أي أخبرونى إن جعل الله عليكم النهار دائما لاليل معه أبدا إلى يوم القيامة، أىّ المعبودات غير الله الذي له عبادة كل شىء يأتيكم بليل تستقرون فيه وتهدءون؟.

[سورة القصص (28) : الآيات 74 إلى 75]

(أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة، فتعلموا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا لمن أنعم عليكم بذلك دون غيره، ومن له القدرة التي خالف بها بين الليل والنهار. ثم بين أن المخالفة بينهما من فضله تعالى ورحمته فقال: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن رحمته بكم أيها الناس جعل لكم الليل والنهار، وخالف بينهما، فجعل الليل ظلاما لتستقروا فيه راحة لأبدانكم من تعب التصرف نهارا فى شئونكم المختلفة، وجعل النهار ضياء لتتصرفوا فيه بأبصاركم لمعايشكم وابتغاء رزقه الذي قسمه بينكم بفضله. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولتستعدوا لشكره على إنعامه عليكم، وتخلصوا له الحمد، لأنه لم يشركه فى إنعامه عليكم شريك، ومن ثم ينبغى ألا يكون له شريك يحمد. والخلاصة: إن الليل والنهار نعمتان تتعاقبان على مرّ الزمان، والمرء فى حاجة إليهما، إذ لا غنى له عن الكدح فى الحياة لتحصيل قوته، ولا يتسنى له ذلك على الوجه المرضى لولا ضوء النهار، كما لا يكمل له السعى على الرزق إلا بعد الراحة والسكون بالليل، ولا يقدر على شىء من ذلك إلا الله الواحد القهار. وجاء تذييل الآيتين بقوله (أَفَلا تَسْمَعُونَ؟) ، (أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) لبيان أنهم لما لم ينتفعوا بالسمع والبصر نزّلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر. [سورة القصص (28) : الآيات 74 الى 75] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ونزعنا: أي أحضرنا من قولهم: نزع فلان بحجة كذا إذا أحضرها وأخرجها، والشهيد: هو نبى الأمة يشهد عليها بما أجابته حين أرسل إليها، وضل: أي غاب. المعنى الجملي بعد أن وبخ المشركين أوّلا على فساد رأيهم فى اتخاذ الشركاء لله، ثم ذكر التوحيد ودلائله- عاد إلى تقريعهم وتبكيتهم ثانيا ببيان أن إشراكهم لم يكن عن دليل صحيح، بل كان عن محض الهوى كما يرشد إلى ذلك قوله (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) الإيضاح (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي ويوم ينادى ربك- أيها الرسول- هؤلاء المشركين، فيقول لهم: أين شركائى الذين كنتم تزعمون فى الدنيا أنهم شركائى، ليخلّصوكم مما أنتم فيه. وهذا النداء للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد على عبادة غير الله، للاشعار بأنه لا شىء أجلب لغضبه تعالى من الإشراك به، كما أنه لا شىء أدخل فى مرضاته من توحيده عز وجل. (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي وأحضرنا من كل أمة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما آتاهم به عن الله برسالته. ونحو الآية قوله «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» . وهذا فى موقف من مواقف القيامة، وفى موقف آخر يكون الشهداء هم الملائكة كما قال تعالى: «وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ» .

[سورة القصص (28) : الآيات 76 إلى 78]

ثم بين ما يطلب منهم بعد هذه الشهادة فقال: (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء مع إعذار الرسل إليكم، وإقامة الحجج عليكم، فلم يحيروا جوابا، وأيقنوا حينئذ بعذاب دائم، ونار تتلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى. وحينئذ يستبين لهم خطأ ما كانوا يفعلون كما قال: (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي فعلموا حينئذ أن الحجة البالغة عليهم، وأن خبره هو الصادق، وأنه لا يشركه فى الألوهية شىء سواء. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وغاب عنهم ما كانوا يتخرّصون به فى الدنيا ويكذبون به على ربهم من الأباطيل والأضاليل. [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 78] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) تفسير المفردات فبغى عليهم: أي تكبّر وتجبر، والكنز: المال المدفون فى باطن الأرض، والمراد

المعنى الجملي

به هنا المال المدّخر، ومفاتحه: أي خزائنه واحدها مفتح (بفتح الميم) وتنوء: من ناء به الحمل ينوء: إذا أثقله حتى أماله. قال ذو الرمة: تنوء بأخراها فلأيا قيامها ... وتمشى الهوينى عن قريب فتبهر والعصبة: الجماعة الكثيرة يتعصب بعضهم لبعض بلا تعيين عدد خاص، والقوة: الشدة، لا تفرح: أي لا تبطر وتتمسك بالدنيا ولذاتها حتى تتلهى عن الآخرة، قال بيهس العذرى: ولست بمفراح إذا الدهر سرّنى ... ولا جازع من صرفه المتقلّب والدار الآخرة: أي ثواب الله بإنفاق المال فيما يوصل إلى مرضاته، على علم عندى: أي على حسن تصرف فى المتاجر واكتساب الأموال. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حديث أهل الضلالة وما يلقونه من الإهانة والاحتقار يوم القيامة، ومناداتهم على رءوس الأشهاد بما يفضحهم ويبين لهم سوء مغبتهم. أعقبه بقصص قارون، ليبين عاقبة أهل البغي والجبروت فى الدنيا والآخرة، فقد أهلك قارون بالخسف، وزلزلت به الأرض، وهوت من تحته، ثم أصبح مثلا يضرب للناس فى ظلمه وعتوّه، ويستبين لهم به سوء عاقبة البغاة، وما يكون لهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة. فيندمون على ما فعلوا: ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم الإيضاح (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي إنه كان من بنى إسرائيل، لأنه ابن عم

موسى، فموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام، وقارون ابن يصهر بن قاهث إلخ. وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أحفظ بنى إسرائيل للتوراة، وأقرأهم لها، لكنه نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوة لموسى، والمذبح والقربان لهرون، فما لى إذا؟. (فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي تجاوز الحد فى احتقارهم. والقرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي. ثم ذكر سبب بغيه وعتوه بقوله: (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي وأعطيناه المال المذخور الذي يثقل حمل مفاتيح خزائنه على العدد الكثير من الأقوياء من الناس. روى عن ابن عباس أن مفاتيح خزائنه كان يحملها أربعون رجلا من الأقوياء، وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف، ولا شك أن مثل هذا التحديد يحتاج إلى سند قوى يعسر الوصول إليه، ومثل هذا الأسلوب يدل على إرادة الكثرة دون تحديد شىء معين. وبعد أن ذكر بغيه ذكر وقته فقال: (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) أي إنه أظهر التفاخر والفرح بما أوتى حين قال له قومه من بنى إسرائيل: لا تظهر الفرح والبطر بكثرة مالك، فإن ذلك يجعلك تتكالب على جمع حطام الدنيا، وتتلهى عن شئون الآخرة، وفعل ما يرضى ربك. ثم علل النهى عن الفرح بكونه مانعا محبة الله فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي إنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا يقرّبهم من جواره، بل يبغضهم ويبعدهم من حضرته.

وأثر عن بعضهم أنه قال: لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن إليها، أما من يعلم أنه سيفارقها عن قريب فلا يفرح بها، وما أحسن ما قال المتنبي: أشدّ الغم عندى فى سرور ... تيقّن عنه صاحبه انتقالا وأحسن منه وأوجز قوله سبحانه: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» . ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا: (1) (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي واستعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة فى طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب فى الدنيا والآخرة، وفى الحديث: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» . (2) (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي ولا تترك حظك من لذات الدنيا فى مآكلها، ومشاربها وملابسها فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، وروى عن ابن عمر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» وعن الحسن: «قدّم الفضل وأمسك ما يبلّغ» . (3) (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أي وأحسن إلى خلقه، كما أحسن هو إليك فيما أنعم به عليك، فأعن خلقه بمالك وجاهك، وطلاقة وجهك، وحسن لقائهم، والثناء عليهم فى غيبتهم. (4) (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي ولا تصرف همتك، بما أنت فيه إلى الفساد فى الأرض، والإساءة إلى خلق الله. ثم أتبعوا هذه المواعظ بعلتها فقالوا: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي إن الله لا يكرم المفسدين، بل يهينهم ويبعدهم من حظيرة قربه، ونيل مودته ورحمته.

ثم بين أنه مع كل هذه المواعظ أبى وزاد فى كفران النعمة فقال: (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي قال قارون لمن وعظوه: إنما أوتيت هذه الكنوز لفضل علم عندى، علمه الله منى، فرضى بذلك عنى، وفضّلنى بهذا المال عليكم. وتلخيص ذلك: إنى إنما أعطيته لعلم الله أنى له أهل. ونحو الآية قوله «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» . فرد الله عليه مقاله بقوله: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي أنسى ولم يعلم، حين زعم أنه أوتى الكنوز لفضل علم عنده، فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتى؟ أن الله قد أهلك من قبله من الأمم، من هم أشد منه بطشا، وأكثر جمعا للأموال؟ ولو كان الله يؤتى الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ورضاه عنه، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال، الذين كانوا أكثر منه مالا، لأن من يرضى الله عنه، فمحال أن يهلكه وهو عنه راض، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا، ألم يشاهد فرعون وهو فى أبّهة ملكه، وحقّق أمره يوم هلكه. وفى هذا الأسلوب تعجيب من حاله، وتوبيخ له على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك. وبعد أن هدده سبحانه بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا- أردف ذلك تهديد المجرمين كافة بما هو أشد من عذاب الآخرة وهو عدم سؤالهم عن ذنوبهم، إذ أنه يؤذن بشدة الغضب عليهم، والإيقاع بهم لا محالة، فقال: «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» أي إنه تعالى حين إرادة عقابهم لا يسألهم عن مقدار ذنوبهم

[سورة القصص (28) : الآيات 79 إلى 82]

ولا عن كنهها، لأنه عليم بها، ولا يعاتبهم عليها، كما قال تعالى: «فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» وقال: «وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» . ونحو الآية قوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» . وهذا لا يمنع أنهم يسألون سؤال تقريع وإهانة، كما جاء فى قوله: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» . [سورة القصص (28) : الآيات 79 الى 82] فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تفسير المفردات الحظ: البخت والنصيب، العلم: هو علم الدين وما ينبغى أن يكون عليه المتقون، ويل: أصلها الدعاء بالهلاك، ثم استعملت فى الزجر عن ترك ما لا يرتضى، وخسف المكان: أي غار فى الأرض، وخسف الله به الأرض خسفا: غاب به فيها كما قال: «فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ» وفئة: أي جماعة من المنتصرين.

المعنى الجملي

أي الممتنعين عن عذابه، يقال: نصره من عدوه فانتصر: أي منعه منه فامتنع، وى: كلمة يراد بها التندم والتعجب مما حصل، يقدر: أي يضيّق. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف بغى قارون وعتوه وجبروته، وكثرة ما أوتيه من المال الذي تنوء به العصبة أولو القوة- أردف ذلك تفصيل بعض مظاهر بغيه وكبريائه، فذكر أنه خرج على قومه، وهو فى أبهى حليّه وحلله، والعدد العديد من أعوانه وحشمه، قصدا للتعالى على العشيرة، وأبناء البلاد، وفى ذلك كسر للقلوب، وإذلال للنفوس، وتفريق للكلمة، فلا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، فيذلون فى الدنيا بانقضاض الأعداء عليهم، وتفريقهم شذر مذر، وقد غرّت هذه المظاهر بعض الجهال الذين لا همّ لهم إلا زخرف الحياة وزينتها، فتمنّوا أن يكون لهم مثلها، فرد عليهم من وفقهم الله لهدايته، بأن ما عنده من النعيم لمن اتقى خير مما أوتى قارون، ولا يناله إلا من صبر على الطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أعقب ذلك بذكر ما آل إليه أمره من خسف الأرض به وبداره، ولم يجد معينا ينصره ويدفع العذاب عنه، وقد انقلب حال المتمنين المعجبين بحاله إلى متعجبين مما حل به، قائلين: إن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده لا لفضل منزلته عنده وكرامته لديه كما بسط لقارون ويضيّق على من يشاء، لا لهوانه عليه ولا لسخط عمله، ولولا أن تفضل علينا فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس لخسف بنا الأرض. الإيضاح (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) أي فخرج ذات يوم على قومه فى زينة عظيمة، وتجمل باهر من مراكب وخدم وحشم، مريدا بذلك التعالي على الناس، وإظهار العظمة، وذلك من الصفات البغيضة، والافتخار الممقوت، والخيلاء المذمومة لدى

عقلاء الناس من جرّاء أنها تقوّض كيان المجتمع، وتفسد نظمه، وتفرق شمل الأمة، وتقسمها طبقات، وفى ذلك تخاذلها، وطمع العدو فى امتلاك ناصيتها. وفى هذا تحذير لنا أيما تحذير، فكثير ممن يظهرون النعم، إنما يريدون التعالي والتفاخر، وكم ممن يقيم الزينات، أو يصنع الولائم لعرس أو مأتم، لا يريد بذلك إلا إظهار ثرائه، وسعة ماله بين عشيرته وبنى جلدته، فيكون قارون زمانه، وتكون عاقبته الخسف لما أوتيه من مال، ويذهب الله ثراءه، ويجعله عبرة لمن اعتبر. فالكتاب الكريم ما قص علينا هذا القصص إلا ليرينا أن الكبرياء والتعالي ليس وبالهما فى الآخرة فحسب، بل يحصل شؤمهما فى الدنيا قبل الآخرة، كما حصل لكثير من المسلمين اليوم. وقد روى عن مفسرى السلف فى زينة قارون ما يجعلنا نقف أمامه موقف الحذر، ويجعلنا نعتقد أن الإسرائيليات سداه ولحمته، فمن ذلك ما روى عن قتادة قال: ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه، على أربعة آلاف دابة، عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء، وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيول، وعليهم الثياب الأرجوانية، ومعه ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحلىّ والثياب الحمر يركبن البغال الشّهب. وحين رآه قومه على هذه الشاكلة انقسموا فرقتين: (1) (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي قال من كان همه الدنيا وزينتها: يا ليت لنا من الأموال والمتاع مثل ما لقارون منها، حتى ننعم عيشا، ونتمتع بزخارف الحياة، كما يتمتع. وإن مثل هذا التمني ليشاهد كل يوم، وفى كل بلد، وفى كل قرية، فترى الرجل والشاب، والمرأة والفتاة، يتمنى كل منهم أن يكون له مثل ما أوتى فلان

وفلانة من ثوب جميل، أو دابة فارهة، أو مزرعة يحصد غلتها، أو قصر مشيد، أو نحو ذلك. ثم عللوا تمنيهم وأكدوه بقولهم: (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي إن الله قد تفضل عليه، وآتاه من بسطة الرزق حظا عظيما، ونصيبا كبيرا يغبط عليه. والقائلون هذه المقالة: إما جماعة من المؤمنين قالوا ذلك جريا على الجبلة البشرية من الرغبة فى السعة واليسار، وإما عصبة من الكفار والمنافقين تمنّوا مثل ماله، ولم يتمنوا زوال نعمته، ومثل هذا لا ضرر فيه. (2) (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي وقال الذين أوتوا العلم بما أعد الله لعباده فى الآخرة وصدّقوا به ردّا على أولئك المتمنين: تبّا لكم وخسرا، كيف تتغالون فى طلب الدنيا، ويسيل لعابكم عليها، وما عند الله من ثواب فى الآخرة لمن صدق به، وآمن برسله، وعمل صالح الأعمال، خير مما تتمنون، فإن هذا باق، وذاك فان، وهذا خالص مما يشوبه وينغصه من الأكدار، وذلك مشوب بالأحزان والمنغّصات. ثم بين من يعمل بهذه النصيحة فقال: (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي ولا يتّبع هذه النصيحة، ولا يعمل بها إلا من صبر على أداء الطاعات، واجتنب المحرمات، ورضى بقضاء الله فى كل ما قسم من المنافع والمضار، وأنفق ماله فى كل ما فيه سعادة لنفسه وللمجتمع، وكان قدوة صالحة فى حفظ مجد أمته، ورفع صيتها بين الأمم، ببذل كل ما فيه نفعها وقوتها، وإعلاء شأنها، وبذا ينال حسن الأحدوثة بين الناس، ويلقى المثوبة من ربه. ثم ذكر ما آل إليه بطره وأشره من وبال ونكال فقال: (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) أي فزلزلت به الأرض وابتلعته جزاء بطره وعتوّه

وفى هذا عبرة لمن اعتبر، فيترك التعالي والتغالى فى الزينة، لئلا يخسف الله به وبماله الأرض. وقد غفل كثير من الناس عن المقصد من المال فأنفقوه قاصدين به الرياء والمباهاة، فضاعت دورهم وأموالهم، وأصبحت ملكا لغيرهم، وهذا هو الخسف العظيم، وما خسف قارون بشىء إذا قيس بهذا، فإن الخسف الآن خسف الأمم، لا خسف الأفراد، فكل بلد من بلاد الإسلام يدخله الغاصب يصبح أهله عبيدا له وضحية مطامعه، وخسف أمة أدهى من خسف فرد، فليخسف الفرد، ولتبق الأمة، وهكذا دخلت البلاد تباعا فى ملك الغاصب، واحدة إثر أخرى، ولم يبق منها إلا ما رحم الله، وما ذاك إلا بجهلها لدينها، وعدم اتباعها أحكامه، وغفلتها عن مقاصده. ثم بين أنه لم يجد له شفيعا ولا نصيرا يدفع عنه العذاب حينئذ فقال: (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي ما أغنى عنه ماله، ولا خدمه ولا حشمه، ولا دفعوا عنه نقمة الله ولا نكاله، ولا استطاع أن ينتصر لنفسه. وقصارى ذلك. إنه لا ناصر له من غيره ولا من نفسه، فكيف يكون للأمة الغافلة عن أوامر دينها، الجاهلة بمقاصد شريعتها فى إنفاق الأموال أن تجد مناصا من خراب الديار، وإضاعة المجد الطارف والتالد، ولا بد أن تقع فريسة للغاصبين، الذين يسومونها الخسف دون شفقة ولا رحمة، وقد كان ذلك جزاءا وفاقا، لجهلها وسوء تصرفها وظلمها لأنفسها، ولا يظلم ربك أحدا، وهكذا حال من تصرّف فى ماله تصرف السفهاء، وركب رأسه، وصار يبعثره يمنة ويسرة، فإنه سيندم ولات ساعة مندم. وقد أبان الكتاب الكريم أن النصر للصابرين، فهو أثر لازم للصبر على حفظ المال، وحفظ الشهوات والعقول، وكل الفضائل التي حث عليها الدين، وسلك سبيلها السلف الصالح.

[سورة القصص (28) : الآيات 83 إلى 84]

وقد حكى المفسرون فى أسباب الخسف أمورا كثيرة هى غاية فى الغرابة يبعد أن نصدقها العقول، ومن ثم قال الرازي: إنها مضطربة متعارضة، فالأولى طرحها والاكتفاء بما دل عليه نص القرآن، وتفويض سائر التفاصيل إلى عالم الغيب اهـ. ولما شاهد قوم قارون ما نزل به من العذاب، صار ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى، وداعما إلى الرضا بقضاء الله وبما قسمه، وإلى إظهار الطاعة والانقياد لأنبيائه ورسله، كما أشار إلى ذلك بقوله: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي فلما خسف الله بقارون الأرض أصبح قومه يقولون: إن كثرة المال والتمتع بزخارف الدنيا، لا تدل على رضا الله عن صاحبه فالله يعطى ويمنع ويوسع ويضيّق، ويرفع ويخفض، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة، لا معقب لحكمه. وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطى المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطى الإيمان إلا من يحبّ» . ولما لاح لهم من واقعة أمره أن الرزق بيد الله يصرّفه كيف يشاء، أتبعوه بما يدل على أنهم اعتقدوا أن الله قادر على كل ما يريد من رزق وغيره فقالوا: (لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) أي لولا لطف الله بنا لخسف بنا كما خسف به، لأنا وددنا أن نكون مثله. ثم زادوا ما سبق توكيدا بقولهم: (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لنعمه المكذبون برسله وبما وعدوا به من ثواب لآخرة، كما كان شأن قارون. [سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 84] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه قول أهل العلم بالدين: ثواب الله خير- أعقب ذلك بذكر محل هذا الجزاء، وهو الدار الآخرة وجعله لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يترفعون على الناس، ولا يتجبرون عليهم، ولا يفسدون فيهم، بأخذ أموالهم بغير حق، ثم بين بعدئذ ما يحدث فى هذه الدار جزاء على الأعمال فى الدنيا، فذكر أن جزاء الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا علام الغيوب، فضلا من الله ورحمة وجزاء السيئة مثلها، لطفا منه بعباده، وشفقة عليهم. الإيضاح (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) أي تلك (الدار التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها- نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحق وإعراضا عنه، ولا ظلم الناس ومعصية الله. وثبت فى الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنه أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغى أحد على أحد» . وروى مسلم وأبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس» . وروى أبو هريرة: «أنه جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان جميلا، فقال: يا رسول الله إنى رجل حبّب إلىّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقنى أحد بشراك نعل أفمن ذلك؟ قال: لا ولكن المتكبر من بطر الحق وغمط الناس» . وعن عدى بن حاتم قال: «لما دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم ألقى إليه وسادة

[سورة القصص (28) : الآيات 85 إلى 88]

وجلس على الأرض فقال: أشهد إنك لا تبغى علوا فى الأرض ولا فسادا فأسلم» . أخرجه ابن مردويه. (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي والعاقبة المحمودة، وهى الجنة لمن اتقى عذاب الله يعمل الطاعات، وترك المحرمات، ولم يكن كفرعون فى الاستكبار على الله، بعد امتثال أوامره، والارتداع عن زواجره، ولا كقارون فى إرادة الفساد فى الأرض. ثم بين ما يكون فى تلك الدار من جزاء على الأعمال فقال: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي من جاء الله يوم القيامة بحسنة فله خير منها، فهو يضاعفها له أضعافا مضاعفة تفضلا منه ورحمة. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ومن أتى بسيئة فلا يجزى عليها إلا مثلها، وهذا منه سبحانه رحمة وعدل. ونحو الآية قوله: «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . [سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فرض عليك: أي أوجب عليك، ومعاد الرجل: بلده، لأنه يتصرف فى البلاد ثم يعود إليه، ظهيرا: أي معينا، هالك: أي معدوم، وجهه: أي ذاته، الحكم: أي القضاء النافذ. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص موسى وقومه مع قارون، وبين بغى قارون واستطالته عليهم ثم هلاكه، ونصرة أهل الحق عليه أردف هذا قصص محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه، وإيذائهم إياه، وإخراجهم له من مسقط رأسه، ثم إعزازه إياه بالإعادة إلى مكة، وفتحه إياها منصورا ظافرا. الإيضاح (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي إن الذي أوجب عليك العمل بأحكام القرآن وفرائضه- لرادّك إلى محل عظيم القدر اعتدته وألفته، وهو مكة، والمراد بذلك عوده إليها يوم الفتح، وقد كان للعود إليها شأن عظيم، لاستيلاء رسول الله عليها عنوة، وقهره أهلها، وإظهار عز الإسلام، وإذلال المشركين. وهذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فى أذى وغلبة من أهلها أنه يهاجر منها ويعيده إليها ظاهرا ظافرا. روى مقاتل «أنه عليه الصلاة والسلام خرج من الغار (حين الهجرة) وسار فى غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام وقال له: أنشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، فقال جبريل: فإن الله يقول: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) .

وهذه إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر. ولما قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لفى ضلال مبين) نزل قوله تعالى: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل لمن خالفك وكذّبك من قومك المشركين ومن تبعهم: ربى أعلم بالمهتدي منى ومنكم، وستعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن تكون له الغلبة والنصرة فى الدنيا والآخرة. ثم ذكّره سبحانه نعمه، ونهاه عن معاونة المشركين ومظاهرتهم فقال: (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي وما كنت أيها الرسول ترجو أن ينزل عليك القرآن، فتعلم أخبار الماضين من قبلك، وما سيحدث من بعدك وما فيه من تشريع، فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم وآداب هى منتهى ما تسمو إليه نفوسهم وتطمح إليها عقولهم ثم تتلو ذلك على قومك، ولكن ربك رحمك فأنزله عليك. ثم بين ما يجب أن يعمله كفاء هذه النعم المتظاهرة فقال: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي فاحمد ربك على ما أنعم به عليك بإنزاله الكتاب إليك ولا تكونن عونا لمن كفروا به ولكن فارقهم ونابذهم. ثم شدد عزمه وقواه بألا يأبه بمخالفتهم فقال: (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي ولا تبال بهم ولا تهتم بمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقتك، فإن الله معك ومؤيدك ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان. ثم أمره أن يصدع بالدعوة ولا يألو جهدا فى تبليغ الرسالة فقال: (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي وبلغ رسالة ربك إلى من أرسلك إليهم واعبده وحده لا شريك له.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ولا تتركن الدعاء إلى ربك وتبليغ المشركين رسالتك، فتكون ممن فعل فعل المشركين بمعصيته ومخالفة أمره. ثم فسر هذا وبينه بقوله: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي ولا تعبد أيها الرسول مع الله الذي له عبادة كل شىء- معبودا آخر سواه. ثم علل هذا بقوله: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لأنه لا معبود تصلح له العبادة إلا الله، ونحو الآية قوله: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» . ثم بين صفاته فقال: 1- (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي هو الدائم الباقي الحي القيوم الذي لا يموت إذا ماتت الخلائق، كما قال: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» وقد ثبت فى الصحيح عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها لبيد: «ألا كل شىء ما خلا الله باطل» . 2- (لَهُ الْحُكْمُ) أي له الملك والتصرف والقضاء النافذ فى الخلق. 3- (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وصل ربنا على محمد وآله.

خلاصة ما تحويه السورة الكريمة من الأغراض

خلاصة ما تحويه السورة الكريمة من الأغراض (1) استعلاء فرعون وإفساده فى الأرض. (2) استضعافه بنى إسرائيل وقتله أبناءهم واستبقاؤه نساءهم. (3) منته تعالى على بنى إسرائيل بإنقاذهم من بأس فرعون وجعلهم أئمة فى أمر الدين والدنيا ووراثتهم أرض الشام. (4) إغراق فرعون وجنوده. (5) إلقاء موسى فى اليمّ، والتقاط آل فرعون له، ثم رده إلى أمه. (6) قتل موسى للقبطى، ثم هربه إلى أرض مدين، وتزوجه ببنت كاهنها، وبقاؤه بها عشر سنين. (7) عودة موسى إلى مصر، ومناجاته ربه. (8) معجزات موسى من العصا واليد البيضاء. (9) طلبه من ربه أن يرسل معه أخاه هرون ليكون له وزيرا وإجابته إلى ذلك. (10) تبليغه رسالة ربه إلى فرعون، وتكذيب فرعون له، واستكباره فى الأرض بغير الحق. (11) إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره عن قصص الماضين، دون أن يكون حاضرا معهم، ولا أن يتعلم ذلك من معلم. (12) إنكار قريش لنبوته، بعد أن جاءهم بالحق من ربهم، وقولهم: إن ما جاء به سحر مفترى. (13) إيمان أهل الكتاب بالقرآن وإعطاؤهم أجرهم مرتين. (14) إثبات أن الهداية بيد الله، لا بيد رسوله، فلا يمكنه أن يهدى من يحب. (15) معاذير قريش فى عدم إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم دحضها. (16) بيان أن الله لا يعذب أمة إلا إذا أرسل إليهم رسولا، حتى لا يكون لهم حجة على الله.

(17) نداء المشركين على رءوس الأشهاد، وأمرهم بإحضار شركائهم ونداؤهم، ليسألهم عما أجابوا به الرسل، فلم يستطيعوا لذلك ردا. (18) بيان أن اختيار الرسل لله، لا للمشركين، فهو الذي يصطفى من يشاء لرسالته. (19) التذكير بنعمته على عباده باختلاف الليل والنهار. (20) شهادة الأنبياء على أممهم. (21) ذكر قارون وبغيه فى الأرض، ثم خسف الأرض به. (22) بيان أن ثواب الآخرة لا يكون إلا لمن لا يريد العلو فى الأرض ولا الفساد فيها. (23) مضاعفة الله للحسنات، وجزاء السيئة بمثلها. (24) الإنباء بالغيب عن نصر الله لرسوله، وفتحه لمكة. (25) بيان أن كل ما فى الوجود فهو هالك، إلا الله تبارك وتعالى.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت هى مكية إلا من أولها إلى قوله: «وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» فمدنية، نزلت بعد سورة الروم، آيها تسع وستون. ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه: (1) إنه ذكر فى السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعا، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون، وعذبوهم على الإيمان، دون ما عذب به فرعون بنى إسرائيل تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثا لهم على الصبر، كما قال: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» . (2) ذكر فى السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه. (3) نعى هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد- وهنا نعى عليهم أيضا وبيّن أنهم فى ضعفهم كضعف بيت العنكبوت. (4) هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضا، وبين عاقبة أعمالهما. (5) ذكر هناك فى الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» ، وفى خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 إلى 4]

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) تفسير المفردات الفتنة: الامتحان والاختبار، ليعلمن الله الذين صدقوا: أي ليظهرنّ صدقهم، السبق: الفوت والمراد به الفوت عن المجازاة، والسيئات: هى الشرك بالله والمعاصي التي يجترحونها، ساء ما يحكمون: أي قبح حكمهم أنهم يهربون منا. المعنى الجملي بعد أن قال فى أواخر السورة السالفة «وَادْعُ إِلى رَبِّكَ» وكان فى الدعاء إليه توقع الطعن والضرب فى الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون ويستجيبوا للدعاء، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين- أردف ذلك تنبيههم إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فتنوا. روى ابن جرير وابن المنذر أن ناسا ممن كانوا بمكة آمنوا فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فتبعهم المشركون فردّوهم فنزلت فيهم هذه الآيات فكتبوا إليهم، أنزلت فيكم آية كذا وكذا؟ فقالوا: تخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .

الإيضاح

قال مقاتل: نزلت فى مهجع مولى عمر بن الخطاب، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: «سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» وجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» الآية. الإيضاح (الم) تقدم أن قلنا إنه ينطق بالحروف المقطعة فى أوائل السور بأسمائها ساكنة فيقال: (ألف. لام. ميم) . والحكمة فى البداءة بها التنبيه وطلب إصغاء السامعين إلى ما يلقى بعدها، فإن الحكيم إذا خاطب من يكون مشغول البال قدّم على المقصود شيئا غيره ليلفت المخاطب بسببه إليه، فحينا يكون كلاما مفهوما كقول القائل اسمع أو ألق بالك إلىّ، وحينا يكون فى معنى الكلام المفهوم كقولك يا على، وحينا يكون صوتا غير مفهوم المعنى كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه. فالنبى صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظ الجنان فهو إنسان يشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم الخبير أن يقدّم على المقصود حروفا هى كالمنبّهات لا يفهم منها معنى، لتكون أتم فى إفادة التنبيه، لأنه إذا كان المقدم قولا مفهوما فربما ظن السامع أنه هو المقصود ولا كلام للمتكلم بعد ذلك ليصغى إليه، أما إذا سمع صوتا لا معنى له جزم بأن هناك كلاما آخر سيرد بعد، فيقبل إليه تمام الإقبال، ويرهف السمع إلى ما سيأتى. وقد ثبت بالاستقراء أن كل سورة فى أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن نحو «الم ذلِكَ الْكِتابُ، المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، يس وَالْقُرْآنِ، ص وَالْقُرْآنِ، ق وَالْقُرْآنِ، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ» إلا ثلاث سور «كهيعص، الم أَحَسِبَ النَّاسُ، الم غُلِبَتِ الرُّومُ» .

وقد حصل التنبيه فى القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كقوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ» ، وقوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ؟» ، من قبل أن تقوى الله أمر عظيم، ومثلها تحريم ما أحل الله. وقد بدئت هذه السورة بالحروف وليس فيها البدء بالقرآن أو الكتاب من قبل أن فيها ذكر جميع التكاليف، وهى شاقة على النفس، فحسن البدء بحروف التنبيه للإيقاظ إلى ما يلقى بعدها: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي أظن الذين نجوا من أصحابك من أذى المشركين أن نتركهم بغير اختبار ولا امتحان بمجرد قولهم: آمنا بك وصدقناك فيما جئنا به من عند الله، كلا لنمتحننّهم بشاقّ التكاليف كالهجرة، والجهاد فى سبيل الله، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وأفانين المصايب فى الأنفس والأموال والثمرات، ليمتاز المخلص من المنافق، والراسخ فى الدين من المتزلزل فيه، ونجازى كلا بحسب مراتب عمله. ونحو الآية قوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» . والخلاصة: أيظن الناس أنهم يتركون بمجرد قولهم آمنا دون أن يبتلوا بالفرائض البدنية والمالية كالهجرة من الأوطان والجهاد فى سبيل الله ودفع الزكاة للفقراء والمحتاجين وإغاثة البائسين والملهوفين. ثم ذكر ما هو كالتسلية لهم بما نال من قبلهم بالمشاقّ فقال: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ولقد اختبرنا أتباع الأنبياء من الأمم السالفة وأصبناهم بضروب من البأساء والضراء فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ، فابتلينا بنى إسرائيل بفرعون وقومه وأصابهم منه البلاء العظيم والجهد الشديد، وابتلينا من آمن بعيسى بمن كذبه وتولى عنه- لا جرم ليصيبنّ أتباعك أذى شديد وجهد عظيم ممن خالفهم وناصبهم العداء.

روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرت قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» . وعن أبى سعيد الخدري قال: «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدى عليه، فوجدت حره بين يدى فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك! قال إنا كذلك يضعّف لنا البلاء ويضعّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله: أىّ الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء، قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها (يمزقها) وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء» . ونحو الآية قوله: «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا» . (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي وليظهرنّ الله الصادقين منهم فى إيمانهم من الكاذبين بما يشبه الامتحان والاختبار، وليجازينّ كلا بما يستحق. وخلاصة ما سلف: أيها الناس لا تظنوا أنى خلقتكم سدى، بل خلقتكم لترقوا إلى عالم أعظم من عالمكم وأرقى منه فى كل شئونه، ولا يتم ذلك إلا بتكليفكم بعلم وعمل، واختباركم من آن إلى آخر بإنزال النوازل والمصايب، فى الأنفس والأموال والثمرات، والتخلي عن بعض الشهوات، وفعل التكاليف من الزكاة والصيام والحج ونحوها فحياتكم حياة جهاد وشقاء، شئتم أو أبيتم.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 5 إلى 7]

وبمقدار ما تصبرون على هذا الاختبار وتفوزون بالنجاح فيه يكون مقدار الجزاء والثواب، وتلك سنة الله فيكم وفى الأمم من قبلكم، وتاريخ الأديان ملىء بأخبار هذا البلاء وما لقيه المؤمنون من المكذبين بالرسل. (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟) أي بل أيظن هؤلاء الذين يجترحون الإثم والفواحش أن يفوتونا، فلا نقدر على مجازاتهم، ولا نستطيع أن نجرى العدل فيهم، وما قضت به سنتنا فى الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟. قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وعتبة والوليد بن عتبة وعتبة بن أبى معيط وحنظلة بن أبى سفيان والعاص بن وائل. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكما يحكمونه هذا الحكم، وكيف يدور ذلك بخلدهم وإنا لم نخلق الخلق سدى، بل رييناهم وهذبناهم بضروب من التهذيب والعلم، لعلهم يلمحون فى هذا العالم نور جمالى وجلالى. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 5 الى 7] مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) تفسير المفردات يرجو: أي يطمع، لقاء الله: أي نيل ثوابه وجزائه، أجل الله: الوقت المضروب للقائه، جاهد أي بذل جهده فى جهاد حرب أو نفس.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أن العبد لا يترك فى الدنيا سدى، وأن من ترك ما كلف به عذّب- أردف ذلك بيان أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيّع الله عمله ولا يخيّب أمله، ثم ذكر أن طلب ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إلى الله تعالى فهو غنىّ عن الناس جميعا، ثم أرشد إلى أن جزاء العمل الصالح تكفير السيئات، ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فضلا منه ورحمة. الإيضاح (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي من كان يطمع فى ثواب الله يوم لقائه فليبادر إلى فعل ما ينفعه، وعمل ما يوصله إلى مرضاته، ويجتنب ما يبعد من سخطه، فإن أجل الله الذي أجّله لبعث خلقه للجزاء لآت لا محالة، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بعقائدهم وأعمالهم، ويجازى كلا بما هو أهل له، وفى هذا تنبيه إلى تحقق حصول المرجوّ والمخوف وعدا ووعيدا. ثم بين سبحانه أن التكليف بجهاد النفس وجهاد الحرب ليس لنفع يعود إليه، بل لفائدة المكلف فقال: (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي ومن بذل جهده فى جهاد عدو أو حرب نفس فإنما يجاهد لنفع نفسه، لأنه إنما يفعل ذلك ابتغاء الثواب من الله على جهاده، وهربا من عقابه، وليس بالله إلى فعله حاجة، فهو غنى عن جميع خلقه، له الملك وله الأمر يفعل ما يشاء. ونحو الآية: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ» وقوله: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» . ثم بين بالتفصيل جزاء المطيع فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 إلى 9]

الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي والذين آمنوا بالله ورسوله وصح إيمانهم حين ابتلائهم، فلم يرتدوا عنه بأذى المشركين لهم، وعملوا صالح الأعمال، فأدّوا فرائضه وقاموا بها حق القيام، فواسوا البائس الملهوف، وأغاثوا المظلوم، وقدّموا لوطنهم ما هو شديد الحاجة إليه، فرأبوا صدعه، وسدّوا ثغره، وكانوا للمؤمنين سندا ومعينا، حتى يصيروا كالبنيان يشد بعضه بعضا- لنكفرنّ عنهم سيئاتهم التي فرطت منهم فى شركهم أو صدرت منهم لماما فى إيمانهم وندموا على ما اجترحوه منها، ولنثيبنهم على صالح أعمالهم حين إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون، فنقبل القليل من الحسنات، ونثيب على الواحدة منها عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وتجزى على السيئة بمثلها، أو نعفو عنها. ونحو الآية قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 9] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) المعنى الجملي بعد أن ذكر أن العمل الصالح يكفر السيئات ويضاعف الحسنات- أعقب ذلك بذكر البر بالوالدين والحدب عليهما، لأنهما سبب وجوده، فلهما عليه الإحسان والطاعة. فالإحسان إلى الوالد بالإنفاق، وإلى الوالدة بالإشفاق، إلا إذا حرّضاه على الشرك وأمراه بالمتابعة على دينهما إذا كانا مشركين، فإنه لا يطيعهما فى ذلك، ثم بين أن من يعمل الصالحات يدخله الله فى زمرة الأنبياء والأولياء، ويؤتيه من الكرامة والدرجة الرفيعة والزلفى عنده مثل ما أوتى هؤلاء.

الإيضاح

روى الترمذي «أن الآية نزلت فى سعد بن أبى وقّاص وأمه حمنة بنت أبى سفيان لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارّا بأمه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتتعيّر بذلك أبد الدهر يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى، فكلى إن شئت، وإن شئت فلا تأكلى، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما فى الشرك به» . الإيضاح (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي وأمرناه بتعهدهما والبر بهما، والإحسان إليهما، كما قال فى آية أخرى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» . (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن حرضاك على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فإياك أن تفعل ذلك، وجاء فى الحديث الصحيح «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق» . ومعنى قوله: (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أنه لا علم لك بإلهيته، وإذا كان لا يجوز له أن يتّبع فيما لا يعلم صحته فأحر به ألا يتبع فيما يعلم بطلانه. ثم توعد من يفعل ذلك بقوله: (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي مرجعكم جميعا إلىّ يوم القيامة،

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 إلى 11]

من آمن منكم ومن كفر، ومن بر والديه، ومن عقّ، ثم أجازيكم على أعمالكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بما هو أهل له. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي والذين آمنوا بالله وصدّقوا رسوله وعملوا ما يصلح نفوسهم، ويزكّى أرواحهم ويطهرها، لندخلنهم فى زمرة الصالحين، ونجعلهم فى عدادهم فندخلهم الجنة معهم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 10 الى 11] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) المعنى الجملي الناس فى الدين أقسام ثلاثة: مؤمن حسن الاعتقاد والعمل، وكافر مجاهر بالكفر والعناد، ومذبذب بينهما، يظهر الإيمان بلسانه، ويبطن الكفر فى فؤاده، وقد بين القسمين الأولين بقوله: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) وبين أحوالهما بقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلى قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ثم أردف ذلك ذكر القسم الثالث بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) إلخ. روى أن الآية نزلت فى عياش بن أبى ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذى وضرب فارتدّ وقد كان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخويه لأمه، ثم عاش بعد ذلك دهرا وحسن إسلامه.

الإيضاح

الإيضاح (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ) أي ومن الناس فريق يقول: آمنا بالله وأقررنا بوحدانيته، فإذا آذاه المشركون لأجل إيمانه، جعل فتنة الناس فى الدنيا كعذاب الله فى الآخرة، فارتد عن إيمانه، ورجع إلى كفره، وكان يمكنه أن يصبر على الأذى، ويجعل قلبه مطمئنا بالإيمان، ولكنه جعل فتنة الناس صارفة له عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، وعذاب الناس له دافع، وعذاب الله ليس له دافع، وعذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده العقاب الأليم، والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة تطيب النفس لها ولا تعدّها عذابا. قال الزجاج: ينبغى للمؤمن أن يصبر على الأذى فى الله. أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وأبو ليلى عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لقد أوذيت فى الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت فى الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت علىّ ثالثة، ومالى ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ماوارى إبط بلال» . وخلاصة ذلك: إن من الناس من يدّعون الإيمان بألسنتهم، فإذا جاءتهم محنة وفتنة فى الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى منهم، فارتدّوا عن الإسلام، ورجعوا إلى الكفر الذي كان متغلغلا فى حنايا ضلوعهم وشغاف قلوبهم. ونحو الآية قوله: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» . (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي ولئن جاء نصر قريب من لدى ربك بالفتح والمغانم ليقولنّ هؤلاء المنافقون: إنا كنا معكم إخوانا فى الدين ننصركم على أعدائكم، وهم كاذبون فيما يدّعون. ونحو الآية قوله: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 إلى 13]

أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟» . ثم توعدهم وذكر أنه عليم بما فى صدورهم، لا يخفى عليه شىء من أمرهم فقال: (أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ؟) أي أو ليس الله أعلم بما فى قلوب المنافقين وما تكنّه صدورهم، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان، فكيف يخادعون من لا تخفى عليه خافية، ولا يستتر عنه سر؟. ثم ذكر أن هذه الفتنة إنما هى ابتلاء واختبار من الله، ليستبين صادق الإيمان من المنافق، الذي لا يتجاوز الإيمان طرف لسانه، ولا يعدوه إلى قلبه فقال: (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) أي وليختبرن الله عباده بالسراء والضراء، ليميز صادق الإيمان من المنافق، من يطيع الله فى كل حال فيصبر على اللأواء إذا مسته، ويعدّها اختبارا له، وأنه سيثاب عليها إذا هو فوّض الأمر فيها إليه، ومن يعصيه إذا حزبه الأمر، واشتد به الخطب، ولا يجد الصبر إلى قلبه سبيلا. ونحو الآية قوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» وقوله: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 13] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المراد بالحمل هنا: تبعة الذنوب، والأثقال واحدها ثقل: وهو الحمل الذي يئود حامله، والمراد به الذنب والإثم. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف قسر الكفار للمؤمنين على الكفر، وإلزامهم إياه بالأذى والوعيد- أردف ذلك ذكر دعوتهم إياهم إليه بالرفق واللين حينا آخر بنحو قولهم لهم: لا عليكم بذلك من بأس، إننا نحتمل تبعات ذنوبكم، ثم ردّ مقالتهم ببيان كذبهم، فإن أحدا لا يحمل وزر أحد يوم القيامة، ثم ذكر أن المضلين يتحملون تبعات ضلالهم وإضلالهم، ويكون لهم العذاب على كلا الجرمين. روى عن مجاهد: أن الآية نزلت فى كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا. الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي وقال الكافرون من قريش لمن آمن منهم واتبعوا الهدى: ارجعوا إلى ديننا الذين كنتم عليه، واسلكوا طريقنا، وإن كانت عليكم آثام فعلينا تبعتها وهى فى رقابنا، كما يقول القائل: افعل هذا وخطيئتك فى رقبتى. فردّ الله عليهم كذبهم بقوله: (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وإنهم لا يحملون ذنوبهم يوم القيامة فإن أحدا لا يحمل وزر أحد كما قال تعالى: «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» وقال «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ» .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 إلى 15]

ثم أكد ما سبق وقرره بقوله: (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما قالوه إنهم يحملون عنهم الخطايا، قال صاحب الكشاف: وترى المتّسمين بالإسلام من يستنّ بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم: افعل هذا وإثمه فى عنقى، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم اهـ. وبعد أن بين عدم منفعة كلامهم لمخاطبيهم، بين ما يستتبعه ذلك القول من المضرّة لأنفسهم فقال: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وليحملن الدعاة إلى الكفر والضلال يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزارا أخرى، بما أضلّوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا كما جاء فى الآية الأخرى «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» وفى الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلال كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» . ثم ذكر أنهم يوم القيامة يسألون على افترائهم على ربهم فقال: (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وليسألن حينئذ سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبونه فى الدنيا بوعد من أضلوهم بالأباطيل، وقولهم لهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) . قصص نوح عليه السلام [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)

الإيضاح

الإيضاح بعد أن ذكر افتتان المؤمنين بأذى الكفار، وأرشد إلى أن من قبلهم من الأمم قد فتنوا، أعقبه بتفصيل من فتنوا من الأنبياء: كنوح وإبراهيم وهود ولوط وشعيب تسلية له صلى الله عليه وسلم، فقد ابتلوا بما أصابهم من المكاره، وصبروا عليها، فليكن ذلك قدوة للمؤمنين. وقد بدأ بذكر أبى الأنبياء نوح عليه السلام فذكر أنه مكث فى قومه ألف سنة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهرا، وما زادهم ذلك إلا فرارا من الحق، وإعراضا عنه، وتكذيبا له، وما آمن معه إلا قليل منهم، فأنزل الله عليهم الطوفان فأهلكهم وهم مستمرون فى الظلم، لم يتأثروا بما سمعوا من نوح من الآيات، ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة، فأنجى الله نوحا ومن معه ممن ركب السفينة من أتباعه، وكانت تلك السفينة عبرة وموعظة أمدا طويلا مدة بقائها على جبل الجودي، ينظر إليها الناس، وترشدهم إلى نعمته على خلقه بالنجاة من الطوفان، كما قال: «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» وقد تقدم تفصيل هذا فى سورة هود. وجاء النظم هكذا: إلا خمسين عاما، ولم يقل: تسعمائة سنة وخمسين سنة، لأن فى الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه، إلى أن ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض، وجىء بالمميّز أولا بالسنة، ثم بالعام دفعا للتكرار، ولأن العرب تعبر عن الخصب بالعام، وعن الجدب بالسنة، ونوح لما استراح بقي فى زمن حسن. العبرة من هذا القصص لا يحزننك أيها الرسول ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإنى وإن أمليت لهم وأطلت إملاءهم، فإن مصيرهم إلى البوار، ومصيرك ومصير

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 إلى 18]

أصحابك إلى العلو والنصر، كفعلنا بقوم نوح: إذ أغرقناهم بالطوفان، وأنجينا نوحا وأتباعه من راكبى السفينة وجعلناها عبرة للعالمين. وفى ذلك إيماء إلى أن نوحا قد لبث هذا الأمد الطويل يدعو قومه، ولم يؤمن إلا القليل، فصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر، لقلة مدة لبثك، وكثرة عدد أمتك. قصص إبراهيم عليه السلام [سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 18] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) الإيضاح (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ) أي واذكر لقومك قصص إبراهيم حين كمل عقله، وقدر على النظر والاستدلال، وترقى من مرتبة الكمال إلى مرتبة إرشاد الخلق، وتصدى للدعوة إلى طريق الحق، فدعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له فى السر والعلن، واتقاء سخطه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. ثم بين لهم فائدة ذلك فقال: (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي فذلك الذي آمركم به خير لكم مما أنتم عليه

إن كان لديكم ذرة من الإدراك والعلم، تميزون بها الخير من الشر، وتعلمون ما ينفعكم فى مستأنف حياتكم الدنيوية والأخروية. ثم أرشدهم إلى فضل ما يدعوهم إليه، وفساد ما هم عليه بقوله: (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي ما تعبدون من دون الله إلا تماثيل هى مصنوعة بأيديكم، وتكذبون حين تسمّونها آلهة، وتدّعون أنها تشفع لكم عند ربكم. ثم زاد فى النعي عليهم والتهكم بهم، وبيان أن ذلك لا يجديهم نفعا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي إن أوثانكم التي تعبدونها لا تقدر أن ترزقكم شيئا من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه، فكيف تعبدونها؟ ثم ذكر لهم من ينبغى أن يعبد فقال: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي فالتمسوا الرزق عند الله لا عند أوثانكم تدركوا ما تطلبون، واعبدوه وحده، واشكروا له نعمه عليكم مستجلبين بذلك المزيد من فضله. وبعد أن ذكر أنه هو الرازق فى الدنيا والمنعم على عباده، بين أن المرجع إليه فى الآخرة فهو الذي يطلب رضاه، والتقرب إليه، والزلفى عنده، فقال: (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي واستعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر له، فإنكم إليه ترجعون فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره، وأنتم عباده وخلقه وفى نعمه تتقلبون، ومن رزقه تأكلون. ولما فرغ من إرشادهم إلى الدين الحق حذّرهم من تركه، وهددهم بما حل بمن قبلهم من المكذبين للرسل فقال: (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وإن تصدقونى فقد فزتم بسعادة الدارين، وإن تكذبونى فيما أخبرتكم به فلا تضرونى بتكذيبكم، فقد كذب أمم

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 إلى 23]

قبلكم رسلهم: كقوم إدريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام، فجرى الأمر على ما سنه الله فى الخلق من نجاة المصدّقين للرسل، وهلاك العاصين لهم. (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وما ضر ذلك الرسل شيئا، بل هم قد ضروا أنفسهم، فما على الرسول إلا التبليغ الذي لا يبقى معه شك، وما عليه أن يصدقه قومه، وقد خرجت من عهدة التبليغ، ولا علىّ بعد ذلك أصدقتم، أم كذبتم؟. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 23] أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) تفسير المفردات النشأة: الخلق والإيجاد، تقلبون: أي تردّون بعد موتكم، بمعجزين: أي جاعلين الله عاجزا، من ولىّ: أي قريب، ولا نصير: أي معين. المعنى الجملي بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية، ثم الرسالة بقوله: (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) شرع يبين الأصل الثالث وهو البعث والنشور، وقد قلنا فيما سلف: إن هذه الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها من بعض فى الذكر الإلهى، فأينما تجد أصلين منها تجد الثالث.

الإيضاح

الإيضاح (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أرشد إبراهيم خليل الرحمن قومه إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه فى أنفسهم من خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم إعطائهم السمع والبصر والأفئدة، وتصرفهم فى الحياة إلى حين، ثم موتهم بعد ذلك، والذي بدأ هذا قادر على أن يعيده، بل هو أهون عليه كما قال فى آية أخرى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» . وخلاصة هذا: أنتم قد علمتم ذلك فكيف تنكرون الإعادة وهى أهون عليه؟ وبعد أن ساق هذا الدليل المشاهد فى الأنفس، أرشد إلى الاعتبار بما فى الآفاق من الآيات المشاهدة فقال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي سيروا فى الأرض وشاهدوا السموات وما فيها من الكواكب النيرة. ثوابتها وسياراتها، والأرض وما فيها من جبال ومهاد، وبراري وقفار، وأشجار وثمار، وأنهار وبحار، فكل ذلك شاهد على حدوثها فى أنفسها وعلى جود صانعها الذي يقول للشىء كن فيكون. أو ليس من فعل هذا بقادر على أن ينشئه نشأة أخرى، ويوجده مرة ثانية وهو القادر على كل شىء؟. وشبيه بالآية قوله فى الآية الأخرى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» . ولما أقام الدليل على الإعادة رتب عليها ما سيكون بعدها فقال: (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أي يعذب من يشاء منكم ومن غيركم فى الدنيا والآخرة بعدله فى حكمه بحسب سننه فى خلقه، ويرحم من يشاء بفضله ورحمته،

فهو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون. (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي وإليه تردّون بعد موتكم والمراد أنه إن تأخر ذلك عنكم فلا تظنوا أنه قد فات، فإن إليه إيابكم، وعليه حسابكم، وعنده يدّخر ثوابكم وعقابكم. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي إنه تعالى لا يعجزه أحد من أهل سمواته ولا أرضه، بل هو القاهر فوق عباده، فكل شىء فقير إليه، فلو صعد إلى السمّاكين، أو هبط إلى موضع السموك فى الماء ما خرج من قبضته وما استطاع الهرب منه. ولما بين أنه مقدور عليهم جميعا لا يفلتون منه، ذكر أنه لا يستطيع أحد نصرهم فقال: (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما كان لكم أيها الناس ولى بلى أموركم، ويحرسكم من أن يصيبكم بلاء أرضى أو سماوى، ولا نصير يدفع عذاب الله عنكم إن قدّر لكم. ولما قرر التوحيد والبعث هدد من خالفهما وتوعده فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين كفروا بالدلائل التي نصبها سبحانه فى الكون دالة على توحيده، والدلائل التي أنزلها على رسله مرشدة إلى ذلك، وجحدوا لقاءه والورود إليه يوم تقوم الساعة، أولئك لا أمل لهم فى رحمته، لأنهم لم يخافوا عقابه، ولم يرجوا ثوابه، ولهم عذاب مؤلم موجع فى الدنيا والآخرة. ونحو الآية قوله: «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 إلى 25]

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 25] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) المعنى الجملي بعد أن أقام لهم الحجج والبراهين على الوحدانية وإرسال الرسل والحشر والجزاء أردف هذا ببيان أنهم جحدوا وعاندوا ودفعوا الحق بالباطل بعد أن ألزمهم الحجة، ولم يجدوا للدفاع سبيلا، وحينئذ عدلوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، فقالوا لقومهم: «ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم» ، فأنجاه الله من كيدهم، وجعلها عليه بردا وسلاما، فعاد إلى لومهم بعد أن أخرج من النار، وقال: إن تمسككم بما أنتم عليه لم يكن عن دليل وبرهان، بل عن تقليد وحفظ للمودة بينكم، فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه فى السيرة والطريقة ولكنكم يوم القيامة تتحاجون حين يزول عمى القلوب، وتستبين الأمور للّبيب الأريب، ويكفّر بعضكم بعضا، فيقول العابد: ما هذا معبودى، ويقول المعبود: ما هؤلاء بعبدتي، ويلعن بعضكم بعضا، فيقول هذا لذاك: أنت الذي أوقعتنى فى العذاب حيث عبدتنى، ويقول ذاك لهذا: أنت الذي أوقعتنى فيه حيث أضللتنى بعبادته، ويود كل منكم أن يبعد عن صاحبه، وأنّى لهما ذلك، وهما مجتمعان فى النار؟ وما لهما ناصر يخلّصهما منها كما خلصنى ربى من النار التي ألقيتمونى فيها.

الإيضاح

الإيضاح (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) أي فلم يكن جوابهم إذ قال لهم: اعبدوا الله واتقوه. إلا أن قال بعضهم لبعض: اقتلوه أو أحرقوه بالنار، فأضرموا النار وألقوه فيها، فأنجاه الله منها، ولم يسلطها عليه، بل جعلها بردا وسلاما. ثم ذكر ما فى هذا من العبرة لمن اعتبر فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى إنجائنا لإبراهيم من النار، وقد ألقى فيها وهى تستعر وتصييرها بردا وسلاما عليه- لأدلة وحججا لقوم يؤمنون بالله إذا عاينوا ورأوا مثل هذه الحجة. ثم ذكر ما قاله إبراهيم لهم بعد إنجائه من النار: (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وقال لهم إبراهيم مؤنبا وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان: إنما اجتمعتم على عبادتها فى الدنيا للصداقة والألفة التي بين بعضكم وبعض، فأنتم تتحابون على عبادتها، وتتوادون على خدمتها، كما يتفق الناس على مذهب، فيكون ذلك سبب ألفتهم ومودتهم، لا لقيام الدليل عندكم على صحة عبادتها. وقصارى ذلك: إن مودة بعضكم بعضا هى التي دعتكم إلى عبادتها، إذ قد رأيتم بعض من تودون عبدوها، فعبدتموها موافقة لهم لمودتكم إياهم، كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا، فيفعله مودة له. ثم ذكر أن حالهم فى الآخرة ستكون على نقيض هذا فقال: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي ثم تنعكس الحال يوم القيامة، فتنقلب الصداقة والمودة بغضا

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 إلى 27]

وشنآنا وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن بعضكم بعضا، فيلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع كما قال: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» ثم مرجعكم إلى النار، وما لكم من ناصر ينصركم، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 27] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) تفسير المفردات لوط: هو ابن أخى إبراهيم على ما قاله النسابون- مهاجر إلى ربى: أي إلى الجهة التي أمرنى بالهجرة إليها، وإسحاق هو ابنه الأكبر، ويعقوب: حفيده وابن إسحاق، وأجر الدنيا: الرزق الواسع الهنى، والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الصالحة، والثناء الجميل، والذكر الحسن، والصالح لغة: هو الباقي على ما ينبغى، يقال: طعام بعد صالح أي هو باق على حال حسنة. المعنى الجملي بعد أن ذكر إنجاء إبراهيم من النار، وأن ذلك معجزة له لا يفقه قدرها إلا من كان ذكى الفؤاد، قوى الفطنة، يفهم الدلائل التي أودعها الله فى الكون- أردف هذا بيان أنه لم يصدّق بما رأى إلا لوط عليه السلام، فقد آمن به، واستقر الإيمان فى قلبه. ثم بين أن إبراهيم لما يئس من إيمان قومه هاجر إلى بلاد الشام- فرارا بدينه وقصدا إلى إرشاد الناس وهدايتهم، ثم عدّد نعمه العاجلة عليه فى الدنيا بأن آتاه بنين وحفدة، وجعل فيهم النبوة، وأنزل عليهم الكتب، وآتاه الذكر الحسن إلى يوم القيامة، ونعمه الآجلة أنه مكتوب فى عداد الكلمة فى الصلاح والتقوى.

الإيضاح

الإيضاح (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي فلما رأى لوط معجزة إبراهيم آمن به وقال إبراهيم: إنى جاعل بلاد الشام دار هجرتى إذ أمرنى ربى بالتوجه إليها، ويقال: إن مهجره كان من كوثى من سواد الكوفة إلى أرض الشام، فإنه لما بالغ فى الإرشاد ولم يهتد به أحد من قومه إلا لوط أصبح بقاؤه بينهم مفسدة، لأنه إما اشتغال بما لا فائدة فيه وهو عبث، وإما سكوت وهو دليل الرضا، فلم تبق إلا الهجرة. ذكر البيهقي عن قتادة قال: أول من هاجر من المسلمين إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضى الله عنه، قال أنس بن مالك: خرج عثمان بن عفان ومعه رقيّة بنت رسول الله إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد رأيت ختنك ومعه امرأته، قال على أىّ حال رأيتهما؟ قالت: رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة (التي تدب فى الأرض ولا تسرع) وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط» . ثم ذكر العلة فى الهجرة فقال: (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن ربى هو العزيز الذي لا يذلّ من نصره، بل يمنعه ممن أراده بسوء، الحكيم فى تدبير شئون خلقه، وتصريفه إياهم فيما صرّفهم فيه. ثم ذكر سبحانه ما منّ به عليه من النعم فى الدنيا والآخرة كفاء إخلاصه له فقال: (1) - (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي ورزقناه من لدنّا إسحاق ولدا ويعقوب من بعده حفيدا. ونحو الآية قوله: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا» وقوله: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً»

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 إلى 30]

وفى الصحيحين: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» . (2) - (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فلم يوجد نبى بعده إلا وهو من سلائله، فجميع أنبياء بنى إسرائيل من أولاد يعقوب، حتى كان آخرهم عيسى بن مريم. (3) - (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) فبدل الله أحواله فى الدنيا بأضدادها، فبدّل وحدته بكثرة الذرية، وبدل قومه الضالين بقوم مهتدين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان لا مال له ولا جاه وهما غاية اللذة فى الدنيا، فكثر ماله، وعظم جاهه، فصارت تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء، وصار معروفا بأنه شيخ الأنبياء بعد أن كان خامل الذكر، حتى قال قائلهم: «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» وهذا لا يقال إلا فى المجهول بين الناس، إلى أنه تعالى اتخذه خليلا، وجعله للناس إماما. (4) - (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي وإنه فى الآخرة لفى عداد الكلمة فى الصلاح والتقوى، المستحقين لتوفير الأجر، وكثرة العطاء، والفوز بالدرجات العلى من لدن رب العالمين. وقصارى أمره- إنه سبحانه جمع له بين سعادة الدارين، وآتاه الحسنى فى الحياتين. قصص لوط عليه السلام [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الفاحشة: الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة، السبيل: الطريق وكانوا يتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ الأموال. المعنى الجملي بعد أن قص علينا سبحانه قصص إبراهيم وما لاقاه من قومه من العتوّ والجبروت، ثم نصره له نصرا مؤزرا- أعقبه بقصص لوط، إذ كان معاصرا له وسبقه إلى الدعوة إلى الله، وقد افتنّ قومه فى فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سذوم العذاب جاءوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام. الإيضاح (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي واذكر قصص لوط حين أرسلناه إلى أهل سذوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه، فأنكر عليهم سوء صنيعهم وقبيح أفعالهم التي اختصّوا بها، ولم يسبقهم إليها أحد من قبلهم، لفظاعتها، ونفرة الطباع السليمة منها. ثم فصل هذه الفاحشة وكرر الإنكار عليها فقال:

(1) (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) إتيان الشهوة، وتستمتعون بهم الاستمتاع بالنساء. (2) (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي وتقفون فى الطرقات تتعرضون للمارّة تقتلونهم وتأخذون أموالهم. (3) (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي وتفعلون من الأفعال والأقوال فى أنديتكم ومجتمعاتكم ما لا يليق، ويخجل منه أرباب الفطر السليمة، والعقول الراجحة الحصيفة. أخرج أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) فقال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون (يرمون بالحصى) أبناء السبيل، ويسخرون منهم» وفى رواية عن ابن عباس «هو الخذف بالحصى والرمي بالبنادق والفرقعة ومضغ العلك (اللبان) والسواك بين الناس وحل الإزار والسّباب والفحش فى المزاح» . ثم ذكر جوابهم عن نصحه لهم فقال: (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فما كان جوابهم إذ نهاهم عما يكرهه الله من إتيان الفواحش التي حرمها عليهم إلا قولهم: ائتنا بعذاب الله الذي تعدنا به إن كنت صادقا فيما تقول، ومنجزا ما تعد، وكان قد أوعدهم بالعذاب على ذلك. وهذا الجواب صدر منهم فى أولى مواعظه، فلما ألحف عليهم فى الإنكار والنهى قالوا «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» كما جاء فى سورة الأعراف وفى هذا إيماء إلى شديد كفرهم، وعظيم عنادهم. ولما يئس من هدى قومه واتباعهم نصحه طلب من الله نصره فقال: (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) أي قال رب انصرني على هؤلاء الذين ابتدعوا الفواحش، وجعلوها سنة فيمن بعدهم، وأصروا عليها، وجعلوا وعيدنا لهم تهكما وسخرية، فأنزل عليهم رجزا من السماء بما كانوا يفسقون.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 إلى 35]

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 35] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) تفسير المفردات القرية: هى سذوم، الغابرين: الباقين، وهو لفظ مشترك فى الماضي والباقي يقال فيما غير من الزمان: أي فيما مضى، ويقال الفعل ماض، وغابر: أي باق، سىء بهم: أي جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء، ضاق بهم ذرعا: أي عجز عن تدبير شئونهم، يقال طال ذرعه وذراعه على الشيء إذا كان قادرا عليه، ومثله رحب ذرعه، وضده ضاق ذرعه، لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيره، والرجز: العذاب الذي يقلق المتعذب أي يزعجه من قولهم: ارتجز فلان وارتجس: أي اضطرب. المعنى الجملي لما استنصر لوط عليه السلام بربه بقوله: (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) استجاب دعاءه وبعث لنصرته ملائكة، وأمرهم بإهلاك قومه، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاءوه وبشروه بذرية طيبة ثم قالوا له: إنا مهلكو أهل هذه القرية لتمادى أهلها فى الشر وإصرارهم على الكفر والمعاصي، فأشفق إبراهيم على لوط وقال إن

الإيضاح

فى القرية لوطا فقالوا إنا منجوه وأهله إلا امرأته، ثم ننزل عليهم من السماء عذابا بما اجترحوا من السيئات واجترموا من الذنوب والآثام، ثم ندعهم عبرة للغابرين، وآية بينة لقوم يعقلون. الإيضاح (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي ولما جاءت رسل الله مبشرة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب- قالوا لإبراهيم إنا مهلكو قرية سذوم قرية قوم لوط. ثم ذكروا سبب ذلك فقالوا: (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم بتماديهم فى فنون الفساد، وأنواع المعاصي، وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما قالت له الملائكة ذلك: (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) أي قال إبراهيم إشفاقا على لوط ليعلم حاله: إن فى القرية لوطا وهو ليس من الظالمين لأنفسهم، بل هو من رسل الله وأهل الإيمان به والطاعة له، فقال الرسل نحن أعلم منك بمن فيها من الكافرين، وبأن لوطا ليس منهم. ثم زادوا ما سلف إيضاحا وطمأنوه بذكر ما يسره من نجاته بقولهم. (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي لننجينه وأتباعه من الهلاك الذي هو نازل بأهل القرية إلا امرأته فإنها من الباقين فى العذاب لممالأتها إياهم على الكفر والبغي وفعل الخبائث. ثم ذكر ما كان من أمر لوط حين مجىء الرسل ضيوفا لديه فقال: (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) أي ولما أن جاءت الملائكة من عند إبراهيم إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه

خاف عليهم من قومه، وحصلت له مساءة وغم بسببهم، مخافة أن يقصدهم أحد بسوء وهو عاجز عن مدافعة قومه، وتدبير الحيلة لحمايتهم ودفع الأذى عنهم، وحين رأوه على هذه الحال من القلق والاضطراب قالوا له: هوّن على نفسك ولا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك، فإنهم قد بلغوا فى الخبث مبلغا لا مطمع فى رجوعهم عنه مهما نصحت وألحفت فى الإرشاد. ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه وما يشيرون به إلى أنهم ملائكة فقالوا: (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي إنا منجوك من العذاب الذي سينزل بقومك، ومنجو أتباعك معك، فلن يصيبكم ما يصيبهم منه إلا امرأتك فإنها من الهالكين، لمظاهرتها إياهم والميل إلى شد أزرهم والدفاع عنهم، فقد كانت تدلهم على ضيوفه، فيقصدونهم بالسوء، فصارت شريكة لهم فى الجرم. وبعد أن بشروه بالنجاة قالوا له: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي منزلون عليها عذابا من لدنا يرتجزون له (يضطربون) وتنخلع له قلوبهم، لأن الفسق قد تغلغل فى أفئدتهم، وصار هجّيراهم وديدنهم. وأشهر الآراء أن زلزلة خسفت بهم الأرض، وابتلعتهم فى باطنها وصار مكان قريتهم بحيرة ملحة (البحر الميت) . وبعدئذ بين أن ما حل بهم عبرة لمن اعتبر وادّكر فقال: (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ولقد أبقينا مما فعلنا بهم عبرة بينة، وعظة زاجرة، لقوم يستعملون عقولهم فى الاستبصار، وجعلناها مثلا للآخرين. ونحو الآية قوله: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» . وتقدم أن قلنا آنفا عند ذكر هذه القصة ما أثبته الكشف الحديث فى هذا الموضع.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 إلى 37]

قصة شعيب عليه السلام [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 37] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) تفسير المفردات مدين: أبو القبيلة، وارجوا اليوم الآخر: أي توقعوه وتوقعوا ما يحدث فيه من الأهوال، ولا تعثوا: أي ولا تفسدوا، والرجفة: الزلزلة الشديدة، جاثمين: أي مقيمين، من جثم الطائر: إذا قعد ولصق بالأرض، والمراد أنهم ماتوا. الإيضاح (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده، وأخلصوا له العبادة، وارجوا بعبادتكم إياه جزاء اليوم الآخر وثوابه، ولا تفسدوا فى الأرض، ولا تبغوا على أهلها، فتنقصوا المكيال والميزان، وتقطعوا الطريق على الناس، بل توبوا إلى ربكم وأنيبوا إليه. ثم ذكر ما أعقب هذا النصح فقال: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فكذبوه فيما جاءهم به من عند ربهم، فأهلكهم بزلزلة عظيمة ارتجفت لها القلوب، واضطربت الأفئدة، فأصبحوا فى دارهم ميتين لا حراك بهم. وقد تقدمت هذه القصة مبسوطة فى السور: الأعراف، وهود، والشعراء.

[سورة العنكبوت (29) : آية 38]

قصص هود وصالح عليهما السلام [سورة العنكبوت (29) : آية 38] وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) الإيضاح أي وأهلكنا أيضا عادا قوم هود عليه السلام وكانوا يسكنون الأحقاف، وهى قريبة من بلاد اليمن. وثمود قوم صالح، وكانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى مع ما كانوا عليه من العتوّ والتكبر، وكانت العرب تعرف مساكنهم معرفة تامة وتمر عليهم كثيرا وترى ما حل بهم. وما سبب ما جرى عليهم إلا أن زين لهم الشيطان أعمالهم من عبادة غير الله، وصدهم عن الطريق السوي الذي يوصلهم إلى النجاة، وقد كانوا متمكنين من النظر والاستبصار، فلم يكن لهم عذر فى الغفلة وعدم التدبر فى العواقب. قصص موسى عليه السلام [سورة العنكبوت (29) : آية 39] وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) تفسير المفردات يقال سبق فلان طالبه: أي فاته ولم يدركه، ولقد أدركهم أمره تعالى أىّ إدراك، فتداركوا نحو الدمار والهلاك. الإيضاح أي وأهلكنا أيضا قارون صاحب الأموال الطائلة والكنوز الكثيرة، وفرعون ملك الملوك فى عصره ومصره ووزيره هامان، ولقد جاءهم موسى بآيات بينات تدل

[سورة العنكبوت (29) : آية 40]

على صدق رسالته، فاستكبروا فى الأرض وأبوا أن يصدقوه وأن يؤمنوا به، وما كانوا فائتين الله ولا هاربين من عقابه، بل هو قادر عليهم وآخذهم أخذ عزيز مقتدر. عاقبة الأمم المكذبة لرسلها [سورة العنكبوت (29) : آية 40] فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) تفسير المفردات الحاصب: الريح العاصفة فيها حصباء: أي حجارة صغيرة. الإيضاح (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي أهلك الله الأمم المكذبة بأربعة ألوان من العذاب: (1) (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) كقوم عاد إذ قالوا من أشد منا قوة؟ فجاءتهم ريح صرصر عاتية باردة شديدة الهبوب تحمل الحصباء فألقتها عليهم. (2) (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كقوم ثمود حين قامت عليهم الحجة ولم يؤمنوا، بل استمروا فى طغيانهم وكفرهم وتهددوا نبى الله صالحا ومن آمن معه، فجاءتهم صيحة أخمدت منهم الأصوات والحركات. (3) (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون الذي طغى وبغى، وعصى الرب الأعلى، ومشى فى الأرض مرحا، وتاه بنفسه عجبا. فخسف الله به وبداره الأرض. (4) (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح أغرقوا بالطوفان، وفرعون وهامان وجنودهما أغرقوا فى صبيحة يوم واحد. ثم بين أن هذه العقوبة جزاء ما اجترحوا من الآثام والذنوب ولم تكن ظلما لهم فقال:

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 إلى 45]

(وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ولم يكن الله ليهلكهم بغير جرم اجترموه، لأن ذلك ليس من سننه تعالى، وهو لا يوافق منهج الحكمة، فلا يصدر عن الحكيم، ولكنه أهلكهم بذنوبهم، وكفرهم بربهم، وجحودهم نعمه عليهم، وتقلبهم فى آلائه، وعبادتهم غيره، ومعصيتهم من أنعم عليهم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) المعنى الجملي بعد أن أسلف- سبحانه- أنه أهلك من أشرك به بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، ولا ينفعه فى الدارين معبوده، ولا يجديه ركوعه وسجوده- أردف هذا تمثيل حال من اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتا لا يريحها إذا هى أوت، ولا يجيرها من حر أو برد إذا هى ثوت، ثم زاد الإنكار توكيدا فذكر أن ما يدعونه ليس بشىء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم، ويشتغل بعبادة من ليس بشىء؟ ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يدرك مغزاها إلا ذوو الألباب، الذين يفهمون خبىء الكلام وظاهره، وسره

الإيضاح

وعلانيته، ثم ذكر أنه لم يخلق السموات والأرض إلا لحكمة يعلمها المؤمنون، ويدركها المستبصرون وهى ما أرشد إليها بقوله: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» . وبعد أن أمر سبحانه عباده بما تقدم بيانه وأظهر الحق ببرهانه، ولم يهتد بذلك المشركون، سلّى رسوله بأمره بتلاوة كتابه وعبادته تعالى طرفى النهار وزلفا من الليل، وإرشاده إلى أن الله عليم بما يصنع عباده، وسيجازيهم كفاء ما يعملون من خير أو شر. الإيضاح (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) أي مثل الذين اتخذوا الأصنام والأوثان من دون الله أولياء يرجون نصرهم ونفعهم لدى الشدائد فى قبيح احتيالهم وسوء اختيارهم لأنفسهم، كمثل العنكبوت فى ضعفها وقلة حيلتها، اتخذت لنفسها بيتا يكنّها من حر وبرد ودفع أذى، فلم يغن عنها شيئا حين حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا، ولم يدفعوا عنهم ما أحله الله بهم من سوء العذاب بكفرهم به وعبادتهم سواه. وخلاصة ذلك- إن بيت العنكبوت لا يكنّ ولا يمنع أذى الحر والبرد كما هو شأنها فيما ترون، فكذلك المعبود ينبغى أن يكون منه الخلق والرزق، وجر المنافع، ودفع المضار، وما عبده الكافرون لم يفدهم شيئا من ذلك، فكيف يصرّون على عبادتهم؟. ثم ذكر جهلهم وسوء تقديرهم لما صنعوا فقال: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء- يعلمون أن أولياءهم لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا، كما لا يجدى بيت العنكبوت عنها شيئا- ما فعلوا ذلك لكنهم قد بلغ بهم الجهل وسوء

التقدير حدّا لا يستطيعون معه العلم بعواقب ما يفعلون، ومن ثم فهم يحسبون أنهم ينفعونهم ويقربونهم إلى الله زلفى. وإجمال ما تقدم: مثل المشرك الذي يعبد الوثن إذا قيس بالموحّد الذي يعبد الله، كمثل العنكبوت اتخذت بيتا بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجرّ وجصّ، أو نحته من صخرة، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت، فأضعف الأديان إذا سبرتها دينا فدينا عبادة الأوثان. ثم زاد الإنكار توكيدا وتثبيتا فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي إن الله يعلم حال ما تعبدون من دونه من الأوثان والأصنام والجن والإنس، وأنها لا تنفعكم ولا تضركم إن أراد الله بكم سوءا، وإن مثلها فى قلة غنائها لكم، كمثل بيت العنكبوت فى قلة غنائه لها. وقد يكون المعنى: ليس الذين يدعون من دونه شيئا، إذ هو لحقارته وقلة الاعتداد به لا يسمى شيئا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي والله هو العزيز فى انتقامه ممن كفر به، وأشرك فى عبادته معه غيره، فاتقوا- أيها المشركون به- عقابه بالإيمان به قبل نزوله بكم، كما نزل بالأمم الذين قص الله قصصهم فى هذه السورة، فإنه إن نزل بكم لم تغن عنكم أولياؤكم الذين اتخذتموهم من دونه شيئا، وهو الحكيم فى تدبير خلقه فمهلك من استوجب عمله الهلاك، ومؤخر من رأى فيه الرجاء للصلاح والاستقامة. ثم بين فائدة ضرب الأمثال فقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي وهذا المثل ونظائره من الأمثال التي اشتمل عليها الكتاب العزيز فضربها للناس تقريبا لما بعد من أفهامهم، وإيضاحا لما أشكل عليهم أمره، واستعصى عليهم حكمه، وما يفهم مغزاها ومعرفة تأثيرها، واستتباعها لكثير من الفوائد إلا الراسخون فى العلم، المتدبرون فى عواقب الأمور.

روى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال «العالم من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته واجتنب سخطه» . ولما قدم سبحانه أن لا معجز له سبحانه، ولا ناصر لمن خذله، أقام الدليل على ذلك بقوله: (خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي خلق السموات والأرض لحكم وفوائد دينية ودنيوية ولم يخلقها عبثا ولهوا، فبخلقها أمكن إيجاد كل ممكن تعلق به العلم، واقتضت الإرادة إيجاده، وأمكن معرفة الخالق الذي أوجدها وعبادته كفاء نعمه، كما جاء فى الحديث القدسي حكاية عن الله عز وجل: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى» . ولا يفهم هذه الأسرار إلا من آمنوا بالله وصدقوا رسوله، لأنهم هم الذين يستدلون بالآثار على مؤثّرها كما أثر عن بعض العرب: «البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على السير» . ثم خاطب رسوله مسليا له بقوله: (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي أدم تلاوة الكتاب تقربا إلى الله بتلاوته، وتذكرا لما فى تضاعيفه من الأسرار والفوائد وتذكيرا للناس، وحملا لهم على العمل بما فيه من أحكام وآداب ومكارم أخلاق. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي وأدّ الصلاة على الوجه القيّم مريدا بذلك وجه الله والإنابة إليه مع الخشوع والخضوع له فإنها إن كانت كذلك نهتك عن الفحشاء والمنكر لما تحويه من صنوف العبادات من التكبير والتسبيح، والوقوف بين يدى الله عز وجل، والركوع والسجود بغاية الخضوع والتعظيم، ففى أقوالها وأفعالها ما يومئ إلى ترك الفحشاء والمنكر، فكأنها تقول: كيف تعصى ربا هو أهل لما أتيت به؟ وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه؟ وأنت وقد أتيت بما أتيت به من أقوال وأفعال تدل على عظمة المعبود وكبريائه، وإخباتك له، وإنابتك

إليه، وخضوعك لجبروته وقهره إذا عصيته وفعلت الفحشاء والمنكر تكون كالمناقض نفسه بين قوله وفعله. (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) أي ولذكر الله تعالى إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من خير أو شر وهو يجازيكم كفاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر كما جرت بذلك سنته فى خلقه، وهو الحكيم الخبير. ولا يخفى ما فى ذلك من وعد ووعيد وحث على مراقبة الله فى السر والعلن «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» . ثم تفسير هذا الجزء من كلام ربنا القديم بمدينة حلوان من أرياض القاهرة حاضرة الديار المصرية فى اليوم الثامن والعشرين من شهر ربيع الثاني من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 3 ما أجاب به قوم لوط لوطا بعد سماع نصائحه 5 أمره عليه السلام بأن يحمد الله على نعمه 7 توبيخ المشركين على عبادتهم للأصنام والأوثان 10 طلب الدليل على صحة عبادة الأصنام 11 لا يعلم الغيب إلا الله 12 قالت عائشة: من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يكون فى غد فقد أعظم الفرية على الله 14 مقالة المشركين بأن البعث ما هو إلا من أساطير الأولين 16 كل ما يحصل فى الوجود فهو فى اللوح المحفوظ 17 إعجاز القرآن من وجوه 18 صفة القرآن 19 تيئيس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمان قومه 20 إنك لا تستطيع أن تهدى العمى عن ضلالتهم 21 ذكر مقدمات يوم القيامة 22 حال المكذبين عند مجىء الساعة 23 ذكر الدليل على التوحيد والحشر 26 أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: إنما أمرت أن أعبد الله وحده 28 أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بترغيب قومه وترهيبهم

32 كان من سياسة فرعون إزكاء العداوة والبغضاء بين أفراد الشعب (فرّق تسد) 34 ما خص به الشعب الإسرائيلى من الكرامة 35 للدول هرم كما تهرم الأفراد 36 ما أوحى به إلى أمّ موسى 39 قتل فرعون وجنوده لأولاد بنى إسرائيل خطأ عظيم 40 ما قالته أمّ موسى لأخته 43 ما أنعم الله به على موسى حين كبره 44 ما حدث من موسى حين دخول مصر 48 نصيحة المؤمن الذي يكتم إيمانه لموسى 49 ما حصل لموسى حين وصوله إلى مدين من الأحداث 50 ما قالته ابنة الكاهن لموسى بعد مشورة أبيها 52 ما قاله الكاهن لموسى 53 عودة موسى إلى مصر بعد إتمام الأجل 54 خبر النار التي رآها موسى من جانب الطور 55 ما أراد الله لموسى من الآيات 56 طلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هرون وزيرا وإجابة طلبه 58 ادعاء فرعون أن موسى ساحر 59 تهكم فرعون بإله موسى وطلبه من وزيره بناء صرح ليطلع عليه 60 ما نال فرعون من عقاب فى الدنيا قبل الآخرة 63 ما أوتى موسى من الآيات البينات 64 الحاجة إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم 65 ذكر قصص موسى فى القرآن على هذا الوجه دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم

66 إرسال الأنبياء قطع للحجة على الناس 68 طلب المشركين من الرسول أن يأتى بمعجزات كمعجزات موسى وقد كفر المعاندون من قبل بها 69 الحكمة فى إنزال القرآن منجما 70 من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين 71 فى الحديث: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين 72 أوصاف المؤمنين من أهل الكتاب 74 «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» نزلت فى أبى طالب 75 احتجاج المشركين على عدم إيمانهم 76 عدم الإيمان موجب لهلاك القرى 77 لا يهلك الله قرية إلا إذا ظلم أهلها 78 زينة الدنيا ظل زائل، وما عند الله خير وأبقى 80 يسأل المشركون يوم القيامة عن الأوثان الذين عبدوهم من دون الله 81 جواب الرؤساء الدعاة إلى الضلال 83 يسأل المشركون عن تكذيبهم للأنبياء 84 حال من تاب من الكفار يوم القيامة 85 اصطفاء بعض المخلوقات بالرسالة من حق الله، لا من حق البشر 86 الاستخارة الشرعية 87 بعض صفات كماله سبحانه 88 تفصيل ما يجب أن يحمد عليه من النعم 89 المخالفة بين الليل والنهار فضل من الله 90 اتخاذ الشركاء لله لم يكن عن دليل، بل كان عن محض الهوى 92 قصص قارون فيه بيان عاقبة أهل البغي والجبروت

93 أسباب بغيه 94 النصائح التي أسداها قومه له 95 مقالة قارون لقومه ردّا عليهم 97 مظاهر بغى قارون بتباهيه بماله وخدمه وحشمه وأعوانه 98 حين رآه قومه على هذه الشاكلة انقسموا فرقتين 99 ما آل إليه بطره من وبال ونكال 100 العبرة من ذكر قصص قارون للناس 102 الدار الآخرة وما فيها من ثواب أعده الله للمؤمنين المتواضعين الذين لا يترفعون على الناس 104 قصص محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه وإيفاؤهم لهم 105 أمره صلى الله عليه وسلم أن يصدع بالدعوة ويبلّغ الرسالة 107 خلاصة ما حوته سورة القصص من أغراض 109 وجه الاتصال بين القصص والعنكبوت 110 لا يتبين الإيمان الحق إلا بالامتحان 111 الحكمة فى بدء السور بالحروف المقطعة 112 أتباع الأنبياء السابقين فتنوا كما فتن محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه 113 إن الخلق لم يخلقوا سدى 114 من يعمل للآخرة لا يضيع عمله سدى 116 البرّ بالوالدين والإحسان إليهما 117 لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق 118 الناس فى الدين أقسام ثلاثة 119 من الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى فى الله ارتد عن دينه

121 كان الكافرون يقولون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم 122 قصص نوح عليه السلام 123 العبرة من قصص نوح عليه السلام 124 قصص إبراهيم عليه السلام 126 ما على الرسول إلا البلاغ المبين 126 إقامة الدليل على البعث والنشور 127 تهديد من ينكر البعث 129 بعد أن حاج إبراهيم قومه استعملوا معه القوة وقالوا: اقتلوه أو حرقوه 130 يوم القيامة يكفر بعض المشركين ببعض 131 حين يئس إبراهيم من إيمان قومه هاجر إلى الشام 132 منة الله على إبراهيم فى الدنيا والآخرة 134 قصص لوط عليه السلام مع قومه 136 مجىء الملائكة لإبراهيم بالبشرى 137 ما كان من لوط حين مجىء الرسل 139 قصص شعيب عليه السلام مع قومه 140 قصص هود وصالح عليهما السلام 140 قصص موسى عليه السلام مع فرعون 141 عاقبة الأمم المكذبة لرسلها 142 تمثيل حال من عبد غير الله بحال العنكبوت اتخذت بيتا 144 فوائد ضرب الأمثال 145 الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

تتمة سورة العنكبوت

الجزء الحادي والعشرون [تتمة سورة العنكبوت] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) تفسير المفردات الجدل: الحجاج والمناظرة، مسلمون: أي خاضعون مطيعون، والجحد: نفى ما فى القلب ثبوته أو إثبات ما فى القلب نفيه والمراد به هنا الإنكار عن علم، والارتياب: الشك، الظالمون: أي الذين ظلموا أنفسهم وجحدوا وجه الحق.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة فى تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» وقوله: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» إلى أشباه ذلك- أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى، ولا يسفّه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم. ذاك أن المشركين جاءوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى الله ما لا ينبغى من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغى إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة فى القول، والأسلوب الجافّ فى الحديث، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين. ثم أمر رسوله أن يقول لهم: آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم من التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له. ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل فى الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب فى صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانا مدى حياته، يأتى بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب، ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل فى محيط نشأ به، ولا فى بلد كان يأويه- لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.

الإيضاح

الإيضاح (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي ولا تجادلوا من أراد الاستبصار فى الدين من اليهود والنصارى إلا باللين والرفق، وقابلوا الغضب بكظم الغيظ، والشّغب بالنصح، والسّورة بالأناة. ونحو الآية قوله: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» وقوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» وقوله لموسى وهرون حين بعثهما إلى فرعون «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» . إلا من ظلموا منهم وحادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح الحجة، وعاندوا وكابروا، ولم يجد فيهم الرفق، فمثل هؤلاء لا ينفع فيهم إلا الغلظة: ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى قال سعيد بن جبير ومجاهد: المراد بالذين ظلموا منهم- الذين نصبوا القتال للمسلمين وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي إذا حدّثكم أهل الكتاب عن كتبهم، وأخبروكم عنها بما يمكن أن يكونوا صادقين فيه وأن يكونوا كاذبين، ولم تعلموا حالهم فى ذلك- فقولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا والتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم، ومعبودنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له، منقادون لأمره ونهيه والطاعة له. روى البخاري والنسائي عن أبى هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم،

وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذّبوا بحق، وإما أن تصدّقوا بباطل» وفى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدّث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدّثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب. ثم بين أنه لا عجب فى إنزال القرآن على الرسول فهو على مثال ما أنزل من الكتب من قبل فقال: (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك أيها الرسول- أنزلنا إليك هذا الكتاب، فالذين آتيناهم الكتب ممن تقدم عهدك من اليهود والنصارى يؤمنون به، إذ كانوا مصدقين بنزوله بحسب ما علموا عندهم من الكتاب، ومن كفار قريش وغيرهم من يؤمن به. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي وما يكذّب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل، ويغطّى ضوء الشمس بالوصائل، ويغمط حق النعمة عليه، وينكر التوحيد عنادا واستكبارا. ثم ذكر ما يؤيد إنزاله ويزيل الشبهة فى افترائه فقال: (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي وما كنت من قبل إنزال الكتاب إليك تقدر أن تتلو كتابا ولا تخطه بيمينك: أي ليس من دأبك وعادتك ذلك، إذ لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتاب المشركون وقالوا لعله التقط ذلك من كتب الأوائل، ولما لم يكن أمرك هكذا لم يكن لارتيابهم وجه.

قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون فى كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية. وخلاصة ما سلف- إنك قد لبثت فى قومك عمرا طويلا قبل أن تأتى بهذا القرآن، لا تقرأ ولا تكتب، وكل واحد من قومك يعرف أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهذه صفتك فى الكتب المتقدمة كما قال: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» . فلا وجه إذا للشك فى أن هذا القرآن منزّل من عند الله وليس مفتعلا من صنع يدك تعلمته من الكتب المأثورة عمن قبلك كما حكى سبحانه عنهم من نحو قولهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» . ثم أكد ما سلف وبين أنه منزل من عند الله حقا فقال: (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بل هذا القرآن آيات واضحات الدلالة على الحق، يسّر الله حفظها وتفسيرها للعلماء كما قال: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟» . روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبى إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» . (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي وما يكذب آياتنا ويبخس حقها ويردها إلا المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه. ونحو الآية قوله: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 إلى 52]

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 52] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) المعنى الجملي بعد أن ذكر الدليل على أن القرآن من عند الله وليس بمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم- أردف هذا شبهة أخرى لهم، وهى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتى لهم بمعجزة محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى الله لا إليه، فلو علم أنكم تهتدون بها لأجابكم إلى ما طلبتم، ثم بين سخف عقولهم وطلبهم الآيات الدالة على صدقه بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر وهى القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر من قبلهم ونبأ من بعدهم وحكم ما بينهم، وفيه بيان الحق ودحض الباطل، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين ثم أبان أن الله شهيد على صدقه وهو العليم بما فى السموات والأرض، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل الله بعد قيام الأدلة على صدقهم، ويؤمن بالجبت والطاغوت فقد خسرت صفقته، وسينال العقاب من ربه جزاء وفاقا على جحوده وإنكاره. أخرج الدارمي وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم»

الإيضاح

فنزلت «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ» الآية. وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى الله عليه وسلم «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» أي يستغن به عن غيره. وعن عبد الله ابن الحرث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فسرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتمونى لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظى من الأمم» أخرجه عبد الرزاق. الإيضاح (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي وقال كفار قريش تعنتا وعنادا: هلا أنزل على محمد آية من الآيات التي أنزل مثلها على رسل الله الماضين كناقة صالح وعصا موسى وأشباههما من المعجزات المحسوسة التي ترى رأى العين، فيكون ذلك أقبل لدى النفوس وأدهش للعقول، فتلجئ إلى التصديق بمن تظهر على يده المعجزة. فأمره الله أن يجيبهم بقوله: (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قل لهم: إنما أمر الآيات ونزول المعجزات إلى لله، ولو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى ما سألتم، لأن ذلك سهل يسير عليه، ولكنه يعلم أنكم إنما قصدتم بذلك التعنت والامتحان، فهو لا يجيبكم إلى ما طلبتم كما قال سبحانه «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها» . (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وليس من شأنى إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات، لا الإتيان بما اقترحتموه منها، فعلىّ أن أبلغكم رسالة ربى وليس علىّ هداكم كما قال:

«مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» وقال. «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» . ثم بين سبحانه سخفهم وجهلهم، إذ كيف يطلبون الآيات مع نزول القرآن عليهم فقال: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أما كفاهم دليلا على صدقك أنزلنا الكتاب عليك، يتلونه ويتدارسونه ليل نهار، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب، وقد جئتهم بأخبار ما فى الصحف الأولى، وبينت الصواب فيما اختلفوا فيه كما قال: «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى» . ثم بين فضائل هذا الكتاب ومزاياه فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى هذا الكتاب الباقي على وجه الدهر- لرحمة لمن آمن به، ببيان الحق وإزالة الباطل، وتذكرة بعقاب الله الذي حل بالمكذبين قبلكم، وبما سيحل بهم من النكال والوبال، وبما سيكون لمن اتبع سنتهم وكذب بالآيات بعد وضوحها. وبعد أن أقام الأدلة على صدق رسالته، وبين أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين لم يؤمنوا به- أمره أن يكل علم ذلك إلى الله وهو العليم بصدقه وكذبه فقال: (قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي كفى الله عالما بما صدر منى من التبليغ والإنذار، وبما صدر منكم من مقابلة ذلك بالتكذيب والإنكار، وهو المجازى كلّا بما يستحق، وإنى لو كنت كاذبا عليه لا نتقم منى كما قال: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» بل إنى صادق فيما أخبرتكم به، ومن ثمّ أيدنى بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 إلى 55]

ثم علل كفايته وأكدها بقوله: (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو العليم بكل ما فيهما، ومن جملته شأنى وشأنكم، فيعلم ما تنسبونه إلىّ من التقوّل عليه، وبما أنسبه إليه من القرآن الذي يشهد لى به عجزكم عن الإتيان بمثله، فهو حجتى الفالجة عليكم، التي لم تستطيعوا لها ردا ولا دفعا. ولما بين طريق الجدل مع كلّ من أهل الكتاب والمشركين- عاد إلى تهديد المشركين وبين مآل أمرهم، فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين يعبدون الأوثان والأصنام ويكفرون بالله، مع تظاهر الأدلة التي فى الآفاق والأنفس على الإيمان به، ويكفرون برسوله مع تعاضد البراهين على صدقه، أولئك هم الأخسرون أعمالا، المغبونون فى صفقتهم، من حيث اشتروا الكفر بالإيمان، فاستوجبوا العقاب حين الوقوف بين يدى الملك الديّان. وخلاصة ذلك: إن الله سيجزيهم على ما صنعوا من تكذيبهم بالحق، واتباعهم للباطل، وتكذيبهم برسول الله، مع قيام الأدلة على صدقه «ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 53 الى 55] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أنذر المشركين بالعذاب، وهدّدهم أعظم تهديد قالوا له تهكما واستهزاء: إن كان هذا حقا فأتنا به، وهم يقطعون بعدم حصوله، فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجّل باستعجالكم، لأن الله أجّله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمى، الذي قتضته حكمته، وارتضته رحمته، لعجّله لكم ولأوقعه بكم، وإنه ليأتينّكم فجأة وأنتم لا تشعرون به، ثم تعجب منهم فى طلبهم الاستعجال، وهو سيحيط بهم فى جميع نواحيهم، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون: الإيضاح (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي ويستعجلك كفار قريش بنزول العذاب، بنحو قولهم «مَتى هذَا الْوَعْدُ» وقولهم: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ولولا أجل مسمى ضربه الله لعذابهم، لجاءهم حين استعجالهم إياه. (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وليأتينهم العذاب فجأة، وهم لا يشعرون بمجيئه، بل يكونون فى غفله عنه، واشتغال بما ينسيهموه. ثم زاد فى التعجيب من جهلهم بقوله: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي يطلبون منك إيقاع العذاب ناجزا فى غير ميقاته، ويلحقون فى ذلك، ولو علموا ما هم صائرون إليه، لتمنّوا أنهم لم يخلقوا، فضلا عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم فى الخلاص منه. ثم بين السبب فى جهلهم وحمقهم، فقال: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي وإن جهنم ستحيط بالكافرين المستعجلين للعذاب يوم القيامة.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 إلى 60]

ثم ذكر كيف تحيط بهم، فقال: (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يوم يجلّلهم العذاب، ويكون من الأهوال والأحوال، ما لا يفى به المقال، ويقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ونحو الآية قوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» وقوله «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» وقوله: «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ» الآية، وقوله: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» وقوله: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60] يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار- اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة فى ديارهم.

الإيضاح

ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى بكم أن يكون ذلك فى سبيل الله لتنالوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجرى من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم. روى أن الآية نزلت فى قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا: نخشى إن نحن هاجرنا عن الجوع وضيق المعيشة. الإيضاح (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي يا عبادى الذين وحّدونى وآمنوا بي وبرسولى محمد صلى الله عليه وسلم، إنّ أرضى لم تضق عليكم فتقيموا منها بموضع لا يحل لكم المقام فيه، فإذا انتشرت فى موضع ما معاصى الله، ولم تقدروا على تغييرها، فاهربوا منه إلى موضع آخر تتمكنون من القيام فيه بشعائر دينكم. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرا فأقم» ومن ثم لما ضاق على المستضعفين مقامهم بمكة خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين لدى أصحمة النجاشي ملك الحبشة، فآواهم وأيدهم بنصره، وأنزلهم ضيوفا مكرمين ببلاده، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة. والخلاصة: إن الله أمر المؤمنين بالهجرة إن لم يتسنّ لهم إقامة شعائر دينهم، إلى أرض يستطيعون ذلك فيها.

ثم حث على إخلاص العبادة له والهجرة من الوطن، فبين أن الدنيا ليست دار بقاء، وأن وراءها دار الجزاء، التي يؤتى فيها كل عامل جزاء عمله فقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي أينما تكونوا يدرككم الموت، فكونوا فى طاعة الله وافعلوا ما أمركم به، فذلك خير لكم، فإن الموت لا محالة آت، ولله در القائل: الموت فى كل حين ينشد الكفنا ... ونحن فى غفلة عما يراد بنا لا تركننّ إلى الدنيا وزهرتها ... وإن توشحت من أثوابها الحسنا أين الأحبة والجيران ما فعلوا ... أين الذين هم كانوا لها سكنا؟ سقاهم الموت كأسا غير صافية ... صيّرتهم تحت أطباق الثرى رهنا ثم إلى الله مرجعكم، فمن كان مطيعا له جازاه خير الجزاء وآتاه أتم الثواب. والخلاصة: لا يصعبنّ عليكم ترك الأوطان، مرضاة للرحمن، بل هاجروا إلى أوفق. البلاد وإن بعدت، فإن مدى الدنيا قريب، والموت لا محيص منه، ثم إلى ربكم ترجعون، فيوفيكم جزاء ما تعملون، فقدموا له خير العمل تفوزوا بنعيم مقيم، وجنة عرضها السموات والأرض. ثم بيّن جزاء المؤمن بربه، المهاجر بدينه، فرارا من شرك المشركين، فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي والذين صدّقوا الله ورسوله فيما جاء به من عنده، عملوا بما أمرهم به، فأطاعوه وانتهوا عما نهاهم عنه لنزلنهم من الجنة علالىّ وقصورا، تجرى من تحت أشجارها الأنهار، ما كثين فيها إلى غير نهاية، جزاء لهم على ما عملوا ونعم الجزاء. ثم بين صفات هؤلاء العاملين الذين استحقوا تلك الجنات بقوله: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي هؤلاء العاملون هم الذين صبروا على

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 إلى 63]

أذى المشركين، وشدائد الهجرة وغيرهما من الجهود والمشاقّ، وتوكلوا على ربهم فيما يأتون وما يذرون، كأرزاقهم وجهاد أعدائهم، فلا ينكلون عنهم، ولا يتراجعون ثقة منهم بأن الله معل كلمتهم، وموهن كيد الكافرين، وأنّ ما قسم لهم من الرزق من يفوتهم. ثم ذكر سبحانه أن مما يعين على التوكل عليه معرفة أنه الكافي أمر الرزق فى الوطن والغربة فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هاجرو أيها المؤمنون بالله ورسوله، وجاهدوا أعداءه، ولا تخافوا عيلة ولا إقتارا، فكم من دابة ذات حاجة إلى الغذاء والمطعم لا تطيق جمع قوتها ولا حمله، فترفعه من يومها لغدها عجزا منها عن ذلك، الله يرزقها وإياكم يوما بيوم وساعة فساعة، وهو السميع لقولكم نخشى من فراق أوطاننا العيلة، العليم بما فى أنفسكم، وإليه يصير أمركم وأمر عدوكم من إذلال الله إياه ونصرتكم عليه ولا تخفى عليه خافية من أمور خلقه. روى ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 63] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما بين الأمر للمشركين وذكر لهم سوء مغبة أعمالهم- خاطب المؤمنين بما فيه مدّكر لهم، وإرشاد للمشرك لو تأمله وفكر فيه، ومثل هذا مثل الوالد له ولدان: أحدهما رشيد والآخر مفسد، فهو ينصح المفسد أوّلا، فإن لم يسمع يعرض عنه، ويلفت إلى الرشيد قائلا: إن هذا لا يستحق أن يخاطب، فاسمع أنت ولا تكن كهذا المفسد، فيكون فى هذا نصيحة للمصلح، وزجر للمفسد، ودعوة له إلى سبيل الرشاد. الإيضاح (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله: من خلق السموات والأرض فسواهن، وسخر الشمس والقمر يجريان دائبين لمصالح خلقه؟ ليقولنّ: الذي خلق ذلك وفعله هو الله. (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي فيكف يصرفون عن توحيده، وإخلاص العبادة له، بعد إقرارهم بأنه خالق كل ذلك. والخلاصة- إنهم يعترفون بأنه هو الخالق للسموات والأرض، والمسخر للشمس والقمر، ثم هم مع ذلك يعبدون سواه، ويتوكلون على غيره، فكما أنه الواحد فى ملكه، فليكن الواحد فى عبادته، وكثيرا ما يقرر القرآن توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية التي كانوا يدينون بها بنحو قولهم: لبّيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. ولما ذكر اعترافهم بالخلق ذكر حال الرزق، من قبل أن كمال الخلق ببقائه، ولا بقاء له إلا بالرزق فقال: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي إن الله يوسع رزقه على من يشاء من خلقه، ويقتّر على من يشاء، فالأرزاق وقسمتها بيده تعالى لا بيد أحد سواه،

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 إلى 66]

فلا يؤخّرنكم عن الهجرة وجهاد عدوكم خوف العيلة والفقر، فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن أرزاقها. ونحو الآية قوله: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» . ثم علل التفاوت فى الرزق بين عباده بعلمه بالمصلحة فى ذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه هو العليم بمصالحكم، فيعلم من يصلحهم البسط ومن يفسدهم، ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء. ثم ذكر اعترافهم بهذا بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألتهم من ينزل من السحاب ماء فيحيى به الأرض القفر فتصير خضراء تهتز بعد أن لم تكن كذلك- لم يجدوا إلا سبيلا واحدة، هى الاعتراف الذي لا محيص عنه بأنه الله، فهو الموجد لسائر المخلوقات، ومن عجب أنهم بعد ذلك يشركون به بعض مخلوقاته التي لا تقدر على شىء من ذلك. ولما أثبت أنه الخالق بدءا وإعادة- نبّه إلى عظمة صفاته التي يلزم من إثباتها صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي قل متعجبا من حالهم: الحمد لله على إظهار الحجة، واعترافهم بأن النعم كلها منه تعالى، ولكن أكثر المشركين لا يعقلون ما لهم فيه من النفع فى دينهم وما فيه الضر لهم، فهم لجهلهم يحسبون أنهم لعبادتهم الآلهة دون الله ينالون بها الزلفى والقرب عنده. والخلاصة- إن أقوالهم تخالف أفعالهم، فهم يقرون بوحدانية الله وعظيم قدرته وجلاله، ثم هم يعبدون معه سواه مما هم معترفون بأنه خلقه. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 64 الى 66] وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

تفسير المفردات

تفسير المفردات اللهو: الاستمتاع باللذات، واللعب: هو العبث وما لا فائدة فيه، الحيوان: أي الحياة التامة التي لا فناء بعدها. المعنى الجملي لما ذكر فيما سلف أنهم يعترفون بأن الله هو الخالق وأنه هو الرزاق، وهم بعد ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه الشركاء اغترارا بزخرف الدنيا وزينتها- أردف ذلك أن هذه الدنيا باطل وعبث زائل، وإنما الحياة الحقة هى الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها فلو أوتوا شيئا من العلم ما آثروا تلك على هذه. ثم أرشد إلى أنهم مع إشراكهم بربهم سواه فى الدعاء والعبادة، إذا هم ابتلوا بالشدائد، كما إذا ركبوا البحر وعلتهم الأمواج من كل جانب، وخافوا الغرق نادوا الله، معترفين بوحدانيته، وأنه لا منجّى سواه، وليتهم استمروا على ذلك، ولكن سرعان ما يرجعون القهقرى، ويعودون سيرتهم الأولى، كما هو دأب من يعمل للخوف لا للعقيدة. الإيضاح (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي وما هذه الحياة الدنيا التي يتمتع بها هؤلاء المشركون إلا شىء يتعلّل به، ثم هو منقض عما قريب، لا بقاء له ولا دوام، ومن ثم قيل: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها، وأنشدوا: تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت ... وتحدث من بعد الأمور أمور وتجرى الليالى باجتماع وفرقة ... وتطلع فيها أنجم وتغور

فمن ظن أن الدهر باق سروره ... فذاك محال لا يدوم سرور عفا الله عمن صيّر الهمّ واحدا ... وأيقن أن الدائرات تدور (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي وإن الدار الآخرة لهى دار الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون أن ذلك كذلك لما آثروا عليها الحياة الدنيا السريعة الزوال، الوشيكة الاضمحلال. ثم أخبر بأن تلك حال المشركين فى الرخاء، فإذا ابتلوا بالشدائد دعوا الله وحده ليخلصهم منها كما قال: (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي فإذا ركب هؤلاء المشركون فى السفينة وخافوا الغرق، دعوا الله وحده، وأفردوا له الطاعة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ليخلصوهم من تلك الشدة، فهلا يكون هذا منهم دائما؟ ثم بين سرعة رجوعهم وعودتهم إلى ما كانوا عليه وشيكا فقال: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي فلما خلّصهم مما كانوا فيه من الضيق، ونجاهم من الهلاك، ووصلوا إلى البر، رجعوا القهقرى، وعادوا سيرتهم الأولى، وجعلوا مع الله الشركاء، ودعوا الآلهة والأنداد. ونحو الآية قوله «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» . روى محمد بن إسحاق فى السيرة عن عكرمة بن أبى جهل قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهبت فارّا منها، فلما ركبت البحر إلى الحبشة اضطربت بنا السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا منجّى هاهنا إلا هو، فقال عكرمة: لئن كان لا ينجى فى البحر غيره فإنه لا ينجى فى البر أيضا غيره، اللهم لك علىّ عهد، لئن خرجت لأذهبنّ فلأضعن يدى فى يد محمد فلأجدنّه رءوفا رحيما فكان كذلك» .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 إلى 69]

وقال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا فى البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتد عليهم الريح ألقوها فيه وقالوا يا رب يا رب. قال الرازي فى اللوامع: وهذا دليل على أن معرفة الرب فى فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا فى السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه فى حال الضراء اهـ. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفران بما آتيناهم من نعمة النجاة، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها. ثم تهددهم وتوعدهم فقال: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك حين يعاقبون يوم القيامة. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 67 الى 69] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) المعنى الجملي بعد أن ذكر أن المشركين حين يشتد بهم الخوف إذا ركبوا فى الفلك ونحوه لجئوا إلى الله وحده مخلصين له العبادة- ذكر هنا أنهم حين الأمن كما إذا كانوا فى حصنهم الحصين وهو مكة التي يأمن من دخلها من الشرور والأذى يكفرون به ويعبدون معه سواه، وتلك حال من التناقض لا يرضاها لنفسه عاقل، فإن دعاءهم إياه حال الخوف مع الإخلاص ما كان إلا ليقينهم بأن نعمة النجاة منه لا من سواه، فكيف يكفرون به حين الأمن، وهم يوقنون بأن الأصنام حين الخوف لا تجديهم فتيلا ولا قطميرا؟

الإيضاح

الإيضاح (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟) أي أو لم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من النعمة دون سائر عبادنا، فأسكناهم بلدا حرّمنا على الناس أن يدخلوه لغارة أو حرب، وآمنا من سكنه من القتل والسبي والناس من حولهم يقتلون ويسبون فى كل حين، فيشكرونا على ذلك، ويزدجروا عن كفرهم بنا وإشراكهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم. والخلاصة: إنه تعالى يمتنّ على قريش بما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، ومن دخله كان آمنا، فهم فى أمن عظيم، والأعراب حولهم نهب مقسّم، يقتل بعضهم بغضا، ويسبى بعضهم بعضا، ثم هم مع ذلك يكفرون به، ويعبدون معه سواه. ونحو الآية قوله: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ. وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» . ثم بين أن العقل كان يقضى بشكرهم على هذه النعمة، لكنهم كفروا بها، وما جنحوا إلى مرضاة ربهم، فقال: (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟) أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله. والخلاصة: إنه كان من حق شكرهم له على هذه النعم إخلاص العبادة له، وألا يشركوا به، وأن يصدّقوا برسوله، ويعظموه ويوقروه، لكنهم كذبوه فقاتلوه وأخرجوه من بين أظهرهم، ومن ثم سلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، بقتل من قتل منهم ببدر، وأسر من أسر، حتى قطع دابرهم يوم الفتح، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم

ولما استنارت الحجة، وظهر الدليل، ولم يكن لهم فيه مقنع، بين أنهم قوم ظلمة مفترون، وضعوا الأمور فى غير مواضعها بكذبهم على الله، فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) أي ومن أظلم ممن كذبوا على الله، بأن زعموا أن له شريكا، وأنهم إذا فعلوا فاحشة قالوا: إن الله أمرنا بها، والله لا يأمر بالفحشاء، وكذبوا بالكتاب حين مجيئه، دون أن يتأملوا فيه أو يتوقفوا، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. وفى هذا من تسفيه آرائهم، وتقبيح طرائقهم ما لا يخفى ثم بين سوء مغبة أعمالهم بطريق الاستفهام التقريرى، وهو أبلغ فى إثبات المطلوب، فقال: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟) أي ألا يستوجب هؤلاء الكافرون من أهل مكة الثّواء فى جهنم، فقد افتروا على الله الكذب، فكذبوا بالكتاب لما جاءهم بلا تريّث ولا تلبث؟. والخلاصة: إن مثوى هؤلاء وأشباههم جهنم وبئس المصير. وبعد أن بين عاقبة أولئك الكافرين ذكر عاقبة المؤمنين الذين اهتدوا يهدى الله وجاهدوا فى سبيله، فقال: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله الكذب، المكذبين لما جاءهم به رسوله، مبتغين بقتالهم علوّ كلمتنا، ونصرة ديننا، لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير، وتوفيقا لسلوكها كما قال: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» وجاء فى الحديث: «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» ، وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا فى العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لاورثنا علما لا تقوم به أبداننا. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد فى الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع

الظالمين، وعظمه الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس فى طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر. ثم ذكر أن الله يعينهم بالنصرة والتوفيق. (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي وإن الله ذا الرحمة لمع من أحسن من خلقه، فجاهد أهل الشرك مصدقا رسوله فيما جاء به من عند ربه بالمعونة والنصرة على من جاهد من أعدائه، وبالمغفرة والثواب فى العقبى. روى ابن أبى حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك. وقد انتهى بهذا تفسير السورة الكريمة، ولله الحمد أولا وآخرا.

مشتملات هذه السورة الكريمة

مشتملات هذه السورة الكريمة (1) اختبار المؤمنين ليعلم صدقهم فى إيمانهم. (2) فى الجهاد فائدة للمجاهد، والله غنىّ عن ذلك. (3) الحسنات يكفّرن السيئات. (4) الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما مع عدم طاعتهما فى الإشراك بالله. (5) حال المنافق الذي يظهر الإيمان ولا يحتمل الأذى فى سبيل الله. (6) حال الكافرين الذين يضلون غيرهم، ويقولون للمؤمنين: نحن نحمل خطاياكم إن كنتم ضالين. (7) قصص الأنبياء: كنوح وإبراهيم ولوط وشعيب وصالح وموسى وهرون، وبيان ما آل إليه أمر الأنبياء من النصر، وأمر أممهم من الهلاك بضروب مختلفة من العقاب. (8) حجاج المشركين بضرب الأمثال لهم مما فيه تقريعهم وتأنيهم. (9) حجاج أهل الكتاب، والنهى عن جدلهم بالفظاظة والغلظة. (10) إثبات النبوة ببيان صدق معجزته صلى الله عليه وسلم. (11) ذكر بعض شبههم فى نبوته، والرد على ذلك. (12) استعجالهم بالعذاب تهكما. (13) أمر المؤمنين بالفرار بدينهم من أرض يخافون فيها الفتنة. (14) العاقبة الحسنى للذين يعملون الصالحات. (15) اعترافهم بأن الخالق الرازق هو الله. (16) بيان أن الدار الآخرة هى دار الحياة الحقة. (17) امتنانه على قريش بسكناهم البيت الحرام، ثم كفرانهم بهذه النعمة بإشراكهم به سواه.

سورة الروم

سورة الروم هى مكية إلا قوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» فمدنية وآيها ستون، نزلت بعد سورة الانشقاق. ومناسبتها ما قبلها من وجوه: (1) إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به، فافتتحت بأن الناس لم يخلقوا فى الأرض ليناموا على مهاد الراحة، بل خلقوا ليجاهدوا حتى يلاقوا ربهم، وأنهم يلاقون شتى المصاعب من الأهل والأمم التي يكونون فيها، وهذه السورة قد بدئت بما يتضمن نصرة المؤمنين ودفع شماتة أعدائهم المشركين، وهم يجاهدون فى الله ولوجهه فكأن هذه متممة لما قبلها من هذه الجهة. (2) إنّ ما فى هذه السورة من الحجج على التوحيد والنظر فى الآفاق والأنفس مفصل لما جاء منه مجملا فى السورة السالفة، إذ قال فى السالفة: «فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» إلخ، وهنا بيّن ذلك، فقال: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» إلخ، وقال: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» . [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الروم: أمة عظيمة من ولد روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم، كذا قال النسابون من العرب، أدنى الأرض: أي أقربها من الروم، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة الذين يساق إليهم الحديث، والبضع: ما بين الثلاث إلى العشر، وقال: المبرد ما بين العقدين فى جميع الأعداد، ظاهر الحياة الدنيا: هو ما يشاهدونه من زخارفها ولذاتها الموافقة لشهواتهم التي تستدعى انهما كهم فيها وعكوفهم عليها. المعنى الجملي روى أن فارس غزوا الروم، فوافوهم بأذرعات وبصرى من أرض الشام فغلبوا عليهم، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو بمكة، فشق ذلك عليهم، من قبل أن الفرس مجوس، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون بمكة وشمتوا، ولقوا أصحاب النبي وهم فرحون، وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات، فخرج أبو بكر رضى الله عنه إلى المشركين فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا ولا يقرّن الله أعينكم (لا يسرّنكم) فو الله لتظهرنّ الروم على فارس كما أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبىّ ابن خلف فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه (أراهنك) على عشر قلائص منى، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال عليه السلام: زايده فى الخطر وماده فى الأجل، فخرج أبو بكر، فلقى أبيا، فقال: لعلك ندمت، فقال: لا، تعال أزايدك فى الخطر، وأمادك فى الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبى كفيلا بالخطر إن غلب، فكفل به ابنه

الإيضاح

عبد الرحمن، فلما أراد أبىّ الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا، ومات أبىّ من جرح جرحه إياه النبي صلى الله عليه وسلم فى الموقعة وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبىّ وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق به (وقد كان هذا قبل تحريم القمار كما أخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي، لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر بالمدينة) . الإيضاح (الم) تقدم فى السورة قبلها ما فيه الكفاية من الكلام فى أمثال هذه الحروف فى أوائل السور، وقد بينا هناك أنه ينطق بأسمائها فيقال (ألف. لام. ميم) . (غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) أي غلبت فارس الروم فى أقرب أرض الروم بالنسبة إلى بلاد العرب، إذ الوقعة كانت بين الأردن وفلسطين، والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون فارس فى بضع سنين، وقد تحقق ذلك فغلبوهم بعد سبع من الوقعة الأولى. ولا شك أن وقوعه على نحو ما قال الكتاب الكريم بعد من أكبر الدلائل على إعجازه، وأنه كلام الله العليم بكل شىء لا كلام البشر. (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي لله الأمر من قبل غلب دولة الروم على فارس ومن بعدها، فمن غلب فهو بأمر الله وقضائه وقدره كما قال: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» فهو يقضى فى خلقه بما يشاء ويحكم بما يريد، ويظهر من شاء منهم على من أحب إظهاره عليه. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) أي ويوم تغلب الروم فارس يفرح المؤمنون بنصر الله وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له، وغيظ من شمتوا من كفار مكة، وأنه سيكون فألا حسنا لغلبة المؤمنين على الكافرين.

ثم أكد قوله «لِلَّهِ الْأَمْرُ» بقوله: (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي ينصر من يشاء أن ينصره على عدوه ويغلّبه عليه على مقتضى السنن التي وضعها فى الخليقة، وهو المنتقم ممن يستحقون الانتقام بالنصر عليهم، الرحيم بعباده، فلا يعاجلهم بالانتقام على ذنوبهم كما قال: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» . (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس، والله لا يخلف ما وعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك لجهلهم بشئونه تعالى وعدم تفكرهم فى النواميس والسنن التي وضعها فى الكون، فإنه قد جعل من تلك السنن أن وعده لا يخلف إذ هو مبنى على مقدمات ووسائل هو يعلمها، وقد رتب عليها تلك العدة التي وعدها، وجعل قانون الغلب فى الأمم والأفراد مبنيا على الاستعداد النفسي والاستعداد الحربي، فلا تغلب أمة أخرى إلا بما أعدت لها من وسائل الظفر بها، وما كان لها من صفات تكفل لها هذا الظفر من أناة وصبر وتضحية بما تملك من عزيز لديها من مال ونفس. وهكذا حكم الفرد فهو لا ينجح فى الحياة إلا إذا كان معه أسلحة يغالب بها عوامل الأيام حتى يغلبها بجدّه وكدّه، فهذه الأمور وأمثالها تحتاج إلى دقة نظر لا يدركها إلا ذوو البصائر. (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) كتدبير معايشهم، وإحسان مساكنهم، وتنمية متاجرهم، وتصرفهم فى مزارعهم، على النحو الذي يجعلها تزدهر وتفى بحاجة المجتمع (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي وهم غافلون عن أن النفوس لها بقاء بعد الموت وأنها ستلبس ثوبا آخر فى حياة أخرى، وستنال إذ ذاك جزاء ما قدمت من خير أو شر، ولو لم تكن النفوس تتوقع هذه الحياة لكانت آلام الدنيا ومتاعبها لا تطاق ولا تجد النفوس

[سورة الروم (30) : الآيات 8 إلى 10]

لاحتمالها سبيلا، وهى ما قبلت تلك الآلام واحتملتها إلا لأنها توقن بسعادة أخرى وراء ما تقاسى من المناعب فى هذه الحياة، ولله در القائل: ومن البلية أن ترى لك صاحبا ... فى صورة الرجل السميع المبصر فطن بكل مصيبة فى ماله ... وإذا يصاب بدينه لم يشعر [سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) المعنى الجملي لما أنكر المشركون الإله بإنكار وعده، وأنكروا البعث كما قال وهم عن الآخرة هم غافلون- أردف هذا أن الأدلة متظاهرة فى الأنفس والآفات على وجوده وتفرده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، وأنها لم تخلق سدى ولا باطلا، بل خلقت بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة، ثم أمرهم بالسير فى أقطار الأرض ليعلموا حال المكذبين من الأمم قبلهم، وقد كانوا أشد منهم بأسا وقوة، فكذبوا رسلهم فأهلكهم الله وصاروا كأمس الدابر والمثل الغابر، وما كان ذلك إلا بظلمهم وفساد أنفسهم لا بظلم الله لهم.

الإيضاح

الإيضاح أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى؟) أي أو لم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث من قومك فى خلق الله لهم ولم يكونوا شيئا، ثم تصريفهم أحوالا وتارات حتى صاروا كاملى الخلق كاملى العقل فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا، ثم يجازى المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، لا يظلم أحدا منهم فيعاقبه بدون حرم صدر منه، ولا يحرم أحدا منهم جزاء عمله، لأنه العدل الذي لا يجور، فهو ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل، وإقامة الحق إلى أجل مؤقت مسمى، فإذا حل الأجل أفنى ذلك كله، وبدل الأرض غير الأرض، وبرزوا للحساب جميعا. ثم ذكر أن كثيرا من الناس غفلوا عن الآخرة وما فيها من حساب وجزاء فقال: (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) لأنهم لم يتفكروا فى أنفسهم، ولو تفكروا فيها ودرسوا عجائبها لأيقنوا بلقاء ربهم، وأن معادهم إليه بعد فنائهم. ثم نبههم لى صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم به من المعجزات والدلائل الواضحة، من إهلاك من جحد نبوتهم، ونجاة من صدقهم فقال: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي أو لم يسر هؤلاء المكذبون بالله، الغافلون عن الآخرة، فى البلاد التي يسلكونها تجرا، فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذبة، كيف كان عاقبة أمرهم فى تكذيبهم رسلهم، وقد كانوا أشد منهم قوة، وحرثوا الأرض وعمروها أكثر مما عمر هؤلاء ثم أهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم رسله، وما كان الله بظالم لهم، بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله وجحودهم آياته، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمعصيتهم ربهم.

[سورة الروم (30) : الآيات 11 إلى 16]

والخلاصة- إنه قد كان لكم فيمن قبلكم من الأمم معتبر ومزدجر، فقد كانوا أكثر منكم أموالا وأولادا، ومكّنوا فى الدنيا تمكينا لم تبلغوا معشاره، وعمّروا فيها أعمارا طوالا واستغلوها أكثر من استغلالكم، ولما جاءتهم الرسل بالبينات كذبوهم وفرحوا بما أوتوا فأخذوا بذنوبهم ولم تغن عنهم أموالهم شيئا، ولم تحل بينهم وبين بأس الله ثم أكد ما سلف بقوله: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ثم كان العذاب عاقبتهم، أما فى الدنيا فلهم البوار والهلاك، وأما فى الآخرة فالنار لا يخرجون منها ولا هم يستعتمون، وما ذاك إلا لأن كذبوا بحجج الله وآياته، وهم أنبياؤه ورسله، وسخروا منهم عنتا وكبرا. [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) تفسير المفردات يبلس المجرمون: أي يسكتون وتنقطع حجتهم، الروضة: الأرض ذات النبات والماء ويقال أراض الوادي واستراض إذا كثر ماؤه، وأرض القوم: أرواهم بعض الرّىّ، يحبرون: يسرون، يقال حبره يحبره (بالضم) حبرا وحبورا: إذا سره سرور لتهلل له

المعنى الجملي

وجهه، وظهر فيه أثره، وفى المثل: امتلأت بيوتهم حبرة، فهم ينتظرون العبرة، محضرون: أي مدخلون فيه لا يغيبون عنه. المعنى الجملي بعد أن بين أن عاقبة المجرمين النار، وكان ذلك يستلزم الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة، بل أقام عليه الدليل بأن أبان أن من خلق الخلق بقدرته وإرادته لا يعجز عن رجعته، ثم بين ما يكون حين الرجوع من إفلاس المجرمين وتحقق بأسهم وحيرتهم، إذ لا تنفعهم شركاؤهم، بل هم يكفرون بهم، ثم ذكر أن الناس حينئذ فريقان: فريق فى الجنة وفريق فى السعير، فالأولون يمتعون بسرور وحبور، والآخرون يصلون النار دأبا لا يغيبون عنها أبدا. الإيضاح (اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي الله ينشىء جميع الخلق بقدرته، وهو منفرد بإنشائه من غير شريك ولا ظهير، ثم يعيده خلقا جديدا بعد إفنائه وإعدامه كما بدأه خلقا سويا ولم يك شيئا، ثم إليه يردّون فيحشرون لفصل القضاء بينهم، فيجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. ثم بين ما سيحدث فى هذا اليوم من الأهوال للأشقياء، والنعيم والحبور للسعداء، فقال: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي فيها يفصل الله بين خلقه بعد نشرهم من قبورهم وحشرهم إلى موقف الحساب- يسكت الذين أشركوا بالله واجترحوا فى الدنيا مساوى الأعمال، إذ لا يجدون حجة يدفعون بها عن أنفسهم ما يحل بهم من النكال والوبال. ولما كان الساكت قد يغنيه غيره عن الكلام نفى ذلك بقوله:

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي ولم يكن لهؤلاء المجرمين من شركائهم الذين كانوا يتبعونهم على ما دعوهم إليه من الضلالة- شفعاء يستنقذونهم من عذاب الله، وإذ ذاك يستبين لهم جهلهم وخطؤهم إذ قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. ولما ذكر سبحانه حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله: (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أي وجحدوا ولاية الشركاء وتبرءوا منهم كما جاء فى آية أخرى: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» . ثم بين بعدئذ أن الله يميز الخبيثين من الطيبين فقال: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي ويوم تجىء الساعة التي يحشر فيها الخلق إلى الله يتفرق أهل الإيمان بالله وأهل الكفر به فأما أهل الإيمان به فيؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأما أهل الكفر فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها. ثم بين كيف يكون كل من الفريقين فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي فأما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا بما أمرهم الله به وانتهوا عما نهاهم عنه، فهم فى رياض الجنات يمرحون، وبألوان الزّهر والسندس الأخضر يتمتعون، ويتلذذون بالسماع والعيش الطيب الهنى. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي وأما الذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسله وأنكروا البعث بعد الممات والنشور للدار الآخرة، فأولئك فى عذاب الله محضرون لا يغيبون عنه أبدا.

[سورة الروم (30) : الآيات 17 إلى 19]

[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه حالى الفريقين المؤمنين الذين يعملون الصالحات، والكافرين المكذبين بالآيات، وما أعدّ لكل منهما من الثواب والعقاب- أرشد إلى ما يفضى إلى الحال الأولى وينجى من الثانية، وهو تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به، وحمده، والثناء عليه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال. ولما كان الإنسان حين الإصباح يخرج من حال النوم التي هى أشبه بالموت منها إلى اليقظة، وكأنها حياة بعد موت- أتبع ذلك بذكر الموت والحياة حقيقة. الإيضاح (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أي نزّهوا الله سبحانه فى وقت المساء حين إقبال الليل وظلامه، وحين الصباح حين إسفار النهار بضيائه. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي والله هو المحمود من جميع خلقه فى السموات من سكانها من الملائكة، وفى الأرض من أهلها من أصناف خلقه فيها. (وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي ونزهوه وقت العشى حين اشتداد الظلام، ووقت الظهيرة حين اشتداد الضياء كما قال: «وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» ، وقال: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى. وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» . وتخصيص هذه الأوقات من بين سائرها لما فيها من التبدل الظاهر فى أجزاء الزمن، والانتقال من حال إلى أخرى على صورة واضحة، كالانتقال من الضياء إلى الظلام

[سورة الروم (30) : الآيات 20 إلى 21]

فى المساء، ومن الظلام إلى النور فى الإصباح، ومن ضياء تام وقت الظهيرة إلى اضمحلال لذلك الضياء وقت العشى، وهكذا. ثم بين صفات ذلك الإله المستحق للثناء والتقديس، فقال: (1) (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) فهو القادر على خلق الأشياء المتقابلة بعضها من بعض، فيخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة، كما يفعل ضد هذا، فيخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر، وفى هذا دلالة على كمال قدرته، وبديع صنعه، وكون البيضة والنطفة كائن حى لا تعرفه العرب ولا تعترف به. (2) (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ويحيى الأرض بالمطر، فتخرج النبات الغض بعد أن كانت صعيدا جرزا. ونحو الآية قوله: «وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» وقوله: «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» . (3) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وكما سهل حركة النائم الساكن بالانتباه، وإنماء الأرض بإنباتها بعد موتها- يسهل عليه إحياء الميت وإخراجه من قبره لفصل القضاء. [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 21] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بتنزيهه عن الأسواء والنقائص التي لا تليق بجلاله وكماله، ذكر أن الحمد له على خلقه جميع الموجودات، وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله: (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ، ذكر هنا أدلة باهرة، وحججا ظاهرة على البعث والإعادة، ومنها: خلقكم من التراب الذي لم يشمّ رائحة الحياة، ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه فى ذاتكم وصفاتكم، ثم إبقاء نوعكم بالتوالد، فإذا مات الأب فام ابنه مقامه، لتبقى سلسلة الحياة متصلة بهذا النوع وبسائر الأنواع الأخرى بالازدواج والتوالد إلى الأجل الذي قدره الله لأمد هذه الحياة. الإيضاح (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي ومن حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء من إنشاء وإفناء، وإيجاد وإعدام: أن خلقكم من تراب بتغذيتكم إما بلحوم الحيوان وألبانها وأسمانها، وإما من النّبات والحيوان غذاؤه النبات، والنبات من التراب، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية تجعلها صالحا للتغذية، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون فى الأرض. تتصرفون فيها فى أغراضكم المختلفة، وأسفاركم البعيدة، تكدحون وتجدّون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم، وواسع نعمه عليكم. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي ومن آياته الدالة على البعث والإعادة: أن خلق لكم أزواجا من جنسكم لتأنسوا بها، وجعل بينكم المودة والرحمة لتدوم الحياة المنزلية على أتم نظام. ونحو الآية قوله: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها» .

[سورة الروم (30) : الآيات 22 إلى 23]

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما سلف من خلقكم من تراب، وخلق أزواجكم من أنفسكم، وإبقاء المودة والرحمة- لعبرة لمن تأمل فى تضاعيف تلك الأفعال المبنية على الحكم والمصالح، فهى لم تخلق عبثا، بل خلقت لأغراض شتى، تحتاج إلى الفكر حتى يصل إلى معرفتها ذوو الذّكن والعقل الراجح. [سورة الروم (30) : الآيات 22 الى 23] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) المعنى الجملي بعد أن ذكر دلائل وجوده بما ذكره فى خلق الإنسان- أعقبه بذكر الدلائل فى الأكوان المشاهدة، والعوالم المختلفة، وفى اختلاف ألوان البشر ولغاتهم التي لا حصر لها، مع كونهم من أب واحد وأصل واحد، وفيما يشاهد من سباتهم العميق ليلا، وحركتهم السريعة نهارا، فى السعى على الأرزاق، والجدّ والكد فيها. الإيضاح (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ومن دلائل وجوده وآيات قدرته: خلقه السموات المزدانة بالكواكب، والنجوم الثوابت والسيارة المرتفعة السموك الواسعة الأرجاء، وخلق الأرض ذات الجبال والوديان، والبحار والقفار، والحيوان والأشجار. (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) أي واختلاف لغاتكم اختلافا لا حدّ له، فمن عربية إلى فرنسية، إلى إنجليزية، إلى هندية، إلى صينية، إلى نحو ذلك مما لا يعلم حصره إلا خالق اللغات، واختلاف أنواعكم وأشكالكم اختلافا به أمكن التمييز بين الأشخاص فى الأصوات والألوان، وهذا مما لا غنى عنه فى منازع الحياة ومختلف

[سورة الروم (30) : الآيات 24 إلى 25]

أغراضها، فكثيرا ما تميز الأشخاص بالأصوات، وبذا نعرف الصديق من العدو، فنتخذ ما يلزم من العدّة لكل منهما، كما نميزها بلغاتها، فنعرف من أي الأجناس هى. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) أي إن فيما ذكر لدلائل لائحة لأولى العلم الذين يفكرون فيما خلق الله، فيعلمون أنه لم يخلق الخلق عبثا، بل خلقه لحكمة بالغة فيها عبرة لمن تذكر. (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن علامات قدرته نومكم بالليل واستقراركم فيه، حتى لا تكون حركة ولا حس، وسعيكم للأرزاق نهارا بمزاولة أسباب المعاش ووسائله. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي إن فى فعل الله ذلك لعبرا وأدلة لمن يسمعون مواعظه فيتعظون بها، ويفهمون حججه عليهم، على أن صانع ذلك لا يعجزه بعث العالم وإعادته. [سورة الروم (30) : الآيات 24 الى 25] وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) المعنى الجملي بعد أن ذكر ما يعرض للأنفس من الأوصاف- ذكر ما يعرض للأكوان والآفاق ونشاهده رأى العين الفينة بعد الفينة، مما فيه العبرة لمن ادّكر، ونظر فى العوالم نظرة متأمل معتبر فى بدائع الأكوان، ليتوصّل إلى معرفة مدبرها وخالقها الذي أحسن كل شىء خلقه ثم هدى.

الإيضاح

الإيضاح (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته أنه يريكم البرق، فتخافون مما فيه من الصواعق، وتطمعون فيما يجلبه من المطر الذي ينزل من السماء، فيحيى الأرض الميتة التي لا زرع فيها ولا شجر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي إن فى ذلك الذي سلف ذكره لبرهانا قاطعا، ودليلا ساطعا، على البعث والنشور، وقيام الساعة، فإن أرضا هامدة لا نبات فيها ولا شجر يجيئها الماء فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج: لهى المثال الواضح، والدليل اللائح، على قدرة من أحياها على إحياء العالم بعد موته، حين يقوم الناس لرب العالمين. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي ومن الحجج الدالة على قدرته على ما يشاء قيام السماء والأرض بلا عمد، بل بإقامته وتدبيره فالأرض تجرى، والسحاب يجرى حولها، والهواء تبع لها، وهى والقمر والسيارات يجرين حول الشمس، والشمس ولواحقها يجرين حول كواكب أخرى، لا نعلم عنها إلا هذه الآثار العلمية الضئيلة. وقصارى ذلك: إلى إمساك هذه العوالم، وإقامتها وتدبيرها وإحكامها من الآيات التي ترشد إلى إله مدبر لها. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أي ولا يزال الأمر هكذا حتى ينتهى أجل الدنيا، ويختل نظام العالم، فتبدل الأرض غير الأرض، وتدك الجبال دكا، وحينئذ تخرجون من قبوركم سراعا حينما يدعوكم الداعي. ونحو الآية قوله: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» وقوله: «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله: «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً. فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» .

[سورة الروم (30) : الآيات 26 إلى 27]

[سورة الروم (30) : الآيات 26 الى 27] وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) المعنى الجملي بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية وهى الأصل الأول، وعلى القدرة على الحشر، وهى الأصل الثاني- أعقب ذلك بهاتين الآيتين وجعلهما كالنتيجة لما سلف. الإيضاح (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي إن من فى السموات والأرض من خلق الله مطيع له فيما أراد به، من حياة أو موت، من سعادة أو شقاء، من حركة أو سكون، إلى أشباه ذلك، وإن عصاه بقوله أو فعله فيما يكسبه باختياره، ويؤثره على غيره. ثم كرر ذكر البعث والإعادة مرة أخرى لشدة إنكارهم له فقال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي وهو الذي يبدأ الخلق من غير أصل له، فينشئه بعد أن لم يكن شيئا، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده كما بدأه، وذلك أسهل عليه على حسب ما يدور فى عقول المخاطبين، من أن من فعل شيئا مرة كانت الإعادة أسهل عليه. والخلاصة: إن الإعادة أسهل على الله من البدء بالنظر لما يفعله البشر مما يقدرون عليه، فإن إعادة شىء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء والمراد بذلك التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث، وإلا فكل الممكنات بالنظر إلى قدرته سواء.

[سورة الروم (30) : الآيات 28 إلى 29]

وقصارى ذلك: إنه أهون عليه بالإضافة إلى أعمالكم، وبالقياس إلى أقداركم. روى عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى «كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمنى ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياى. فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علىّ من إعادته، وإما شتمه إياى، فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» . (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الوصف البديع فى السموات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو، ليس كمثله شىء، تعالى عن الشبيه والنظير. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يغلب، الحكيم فى تدبير خلقه، وتصريف شئونه فيما أراد، وفق الحكمة والسّداد. [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) تفسير المفردات من أنفسكم: أي منتزعا من أحوال أنفسكم، التي هى أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم، ملكت أيمانكم: أي مماليككم وعبيدكم، فيما رزقناكم: أي من العقار والمنقول، فأنتم فيه سواء: أي تتصرفون فيه كتصرفكم، تخافونهم: أي تخافون أن يستبدوا بالتصرف فيه، كخيفتكم أنفسكم: أي كما يخاف الأحرار بعضهم من

المعنى الجملي

بعض، نفصل الآيات: أي نبيتها بالتمثيل الكاشف للمعانى، فمن يهدى من أضل الله؟: أي لا أحد يهديهم، وما لهم من ناصرين: أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير. المعنى الجملي بعد أن بين القدرة على الإعادة بإقامة الأدلة عليها، ثم ضرب لذلك مثلا أعقب ذلك بذكر المثل على الوحدانية بعد إقامة الدليل عليها. الإيضاح (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟) أي بين الله تعالى إثبات وحدانيته بما يكشفها من ذلك المثل المنتزع من أحوال أنفسكم وأطوارها التي هى أقرب الأمور إليكم، وبه يستبين مقدار ما أنتم فيه من الضلال بعبادة الأوثان والأصنام، فتسرعون إلى الإقلاع عن عبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. هل أنتم أيها الأحرار تشركون معكم عبيدكم فى أموالكم، فيساوونكم فى التصرف فيها؟ لا، لا يتصرفون فيها إلا بإذنكم خوفا من لأئمة تلحقهم منكم، كما يخاف بعضكم بعضا، وإذا كنتم لا ترضون بذلك لأنفسكم وأنتم وهم عبيد الله، فكيف ترضون لرب الأرباب أن تجعلوا عبيده شركاء له؟ وهذا مثل ضربه الله للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم معترفون بأن شركاءه من الأصنام والأوثان عبيده وملكه، إذ كانوا يقولون فى التلبية والدعاء، حين أداء مناسك الحج: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وخلاصة المثل: إن أحدكم يأنف أن يساويه عبيده فى التصرف فى أمواله، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟.

[سورة الروم (30) : الآيات 30 إلى 32]

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي ومثل هذا التفصيل البديع بضرب الأمثال الكاشفة للمعانى، المقربة لها إلى العقول، إذ تنقل المعقول إلى المحسوس التي هى به ألصق، ولإداركه أقرب- نفصل حججنا وآياتنا لقوم يستعملون عقولهم فى تدبر الأمثال، واستخراج مغازيها ومراميها للوصول إلى الأغراض التي لأجلها ضربت، ولمثلها استعملت، فيستبين الرشد من الغى، والحق من الباطل، ولأمرمّا كثرت الأمثال فى جلاء الحقائق، وإيضاح ما أشكل منها على الناظرين. ثم بين أن المشركين إنما عبدوا غيره، سفها من أنفسهم وجهلا، لا ببرهان قد لاح لهم فقال: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولكن الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله، اتبعوا أهواءهم جهلا منهم لحق الله عليهم، فأشركوا الآلهة والأوثان فى عبادته، ولو قلّبوا وجوه الرأى، واستعملوا الفكر والتدبر لربما ردّهم ذلك إلى معرفة الحق، ووصلوا إلى سبيل الرشد، ولكن أنّى لهم ذلك؟ (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟) أي فمن يهدى من خلق الله فيه الضلال، وجعله كاسباله باختياره، لسوء استعداده وميله بالفطرة إليه، وعلم الله فيه ذلك؟ (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لهم ناصر ينقذهم من بأس الله وشديد انتقامه إذا حل بهم، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. [سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أقم: من أقام العود وقوّمه إذا عدّله والمراد الإقبال على دين الإسلام والثبات عليه، حنيفا: من الحنف وهو الميل، فهو مائل من الضلالة إلى الاستقامة، والفطرة: هى الحال التي خلق الله الناس عليها من القابلية للحق، والتهيؤ لإدراكه، وخلق الله: هو فطرته المذكورة أوّلا، القيم: أي المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف، منبين إليه: أي راجعين إليه بالتوبة وإخلاص العمل، من قولهم: ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى، واتقوه: أي خافوه، فرقوا دينهم: أي اختلفوا فيما يعبدونه على حسب اختلاف أهوائهم، شيعا: أي فرقا تشايع كل فرقة إمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله. المعنى الجملي بعد أن عدد سبحانه البينات. والأدلة على وحدانيته، وأثبت الحشر وضرب لذلك المثل، وسلى رسوله ووطن عزيمته على اليأس من إيمانهم، لأن الله قد ختم على قلوبهم، فلا مخلص لهم مما هم فيه ولا ينقذهم من ذلك لا هو ولا غيره فلا تذهب نفسك عليهم حسرات- أعقب ذلك بأمره بالاهتمام بنفسه، وعدم المبالاة بأمرهم، وإقامة وجهه لهذا الدين غير ملتفت عنه يمنة ولا يسرة، فهو فطرة الله التي خلق العقول معترفة بها. الإيضاح (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي فسدّد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك إليه ربك لطاعته، وهو الدين القيم، دين الفطرة، ومل عن الضلال إلى الهدى. (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) أي الزموا خلقة الله التي خلق الناس عليها، فقد جعلهم بفطرتهم جانحين للتوحيد وموقنين به، لكونه موافقا لما يهدى إليه

العقل، ويرشد إليه صحيح النظر، كما ورد فى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء» (مستوية لم يذهب من بدنها شىء) «هل تحسون فيها من جدعاء» (مقطوعة الأذن أو الأنف) . ثم علل وجوب الامتثال بقوله: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي لا ينبغى أن تبدّل فطرة الله أو تغير، وهذا خبر فى معنى النهى كأنه قيل: لا تبدّلوا دين الله بالشرك. بيان هذا أن العقل الإنسانى كصحيفة بيضاء، قابلة لنقش ما يراد أن يكتب فيها، كالأرض تقبل كل ما يغرس فيها، فهى تنبت حنظلا وفاكهة، ودواء وسمّا، والنفس يرد عليها الديانات والمعارف فتقبلها، والخير أغلب عليها من الشر، كما أن أغلب نبات الأرض يصلح للرعى، والقليل منه سمّ لا ينتفع به، ولا تغير بالآراء الفاسدة إلا بمعلم يعلمها ذلك كالأبوين اليهوديين أو النصرانيين، ولو ترك الطفل وشأنه لعرف أن الإله واحد ولم يسقه عقله إلى غير ذلك، فإن البهيمة لا تجدع إلا بمن يجدعها من الخارج، هكذا صحيفة العقل لا تغيّر إلا بمؤثّر خارجى يضلّها بعد علم. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الذي أمرتكم به من التوحيد هو الدين الحق الذي لا عوج فيه ولا انحراف. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك لعدم تدبرهم فى البراهين الواضحة الدالة عليه، ولو علموا ذلك حق العلم لا تبعوه، وما صدوا الناس عن الاقتباس من نوره، وما سدلوا الحجب التي تحجب عنهم ضياءه. (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) أي فأقم وجهك أيها الرسول أنت ومن اتبعك، حنفاء لله منيبين إليه، وخافوه، وراقبوا أن تفرطوا فى طاعته، وترتكبوا معصيته. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي وداوموا على إقامتها، فهى عمود الدين، وهى التي تذكّر المؤمن ربه، وتجعله يناجيه فى اليوم خمس مرات، وتحول بينه وبين الفحشاء

[سورة الروم (30) : الآيات 33 إلى 37]

والمنكر، لأنها تعوّد النفس الخضوع والإخبات له، ومراقبته فى السر والعلن، كما جاء فى الحديث: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) به غيره، بل أخلصوا له العبادة ولا تريدوا بها سواه، وحافظوا على امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. ثم بين صفات هؤلاء المشركين بقوله: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) أي من المشركين الذين بدلوا دين الفطرة وغيّروه، وكانوا فى ذلك فرقا مختلفة كلها جانبت الحق، وركنت إلى الباطل، كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان، وسائر الأديان الباطلة. والخلاصة: إن أهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على مذاهب ونحل باطلة، كل منها تزعم أنها على شىء. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كل طائفة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم الحق، وأحدثوا من البدع ما أحدثوا- فرحون بما هم به مستمسكون، ويحسبون أن الصواب لا يعدوهم إلى غيرهم من النحل والمذاهب الأخرى. [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما أرشد سبحانه إلى التوحيد، وأقام الأدلة عليه، وضرب له المثل أعقبه بذكر حال للمشركين يعرفون بها، وسيماء لا ينكرونها، وهى أنهم حين الشدّة يتضرعون إلى ربهم، وينيبون إليه، فإذا خلصوا منها رجعوا إلى شنشنتهم الأولى، وأشركوا به الأوثان والأصنام، فليضلوا ما شاءوا، فإن لهم يوما يرجعون فيه إلى ربهم، فيحاسبهم على ما اجترحوا من السيئات، وليتهم اتبعوا ذلك عن دليل، حتى يكون لهم شبه العذر فيما يفعلون، بل هو الهوى المطاع، والرأى المتّبع، ثم ذكر حال طائفة من المشركين دون سابقيهم، وهم من تكون عبادتهم لله رهن إصابتهم من الدنيا، فإن آتاهم ربهم منها رضوا، وإذا منعوا منها سخطوا وقنطوا، وقد كان عليهم أن يعلموا أن بسط النعمة وإقتارها بيده وحده، وقد جعل لذلك أسبابا متى سلكها فاعلها وصل إلى ما يريد، وليس علينا إلا أن تطمئن نفوسنا إلى ما يكون، فكله بقدر الله وقضائه، وعلينا أن نستسلم له، ونعمل ما طلب إلينا عمله من الأخذ من الأسباب والجد فى العمل جهد الطاقة. الإيضاح (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي وإذا مس هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر- ضرّ فأصابهم جدب وقحط أخلصوا لربهم التوحيد، وأفردوه بالتضرع إليه واستغاثوا به منيبين إليه، تائبين إليه من شركهم وكفرهم. (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي ثم إذا كشف ربهم عنهم ذلك الضر وفرجه عنهم، وأصابهم برخاء وخصب وسعة، إذا جماعة منهم يشركون به فيعبدون معه الآلهة والأوثان. والخلاصة: إنهم حين الضرر يدعون الله وحده لا شريك له، وإذا أسبغ عليهم

نعمه إذا فريق منهم يشركون به سواه، ويعبدون معه غيره. ثم أمرهم أمر تهديد كما يقول السيد لعبده متوعدا إذا رآه قد خالف أمره: اعصنى ما شئت، قال: (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي فليجحدوا نعمى عليهم وإحسانى إليهم كيف شاءوا، فإن لهم يوما نحاسبهم فيه، يوم يؤخذون بالنواصي، ويجرّون بالسلاسل والأغلال، ويقال لهم: ذوقوا ما كنتم تعملون. ومثله الأمر بعده وهو: (فَتَمَتَّعُوا) أي فتمتعوا بما آتيناكم من الرخاء، وسعة النعمة فى الدنيا، فما هى إلا أو يقات قصيرة تمضى كلمح البصر. ثم هددهم أشد التهديد بقوله: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) إذا وردتم علىّ ما يصيبكم من شديد عذابى، وعظيم عقابى، على كفركم بي فى الدنيا. روى عن بعض السلف أنه قال: والله لو توعدنى حارس درب لخفت فيه، فكيف والمتوعّد هو الله الذي يقول للشىء كن فيكون؟. ثم أنكر على المشركين ما اختلقوه من عبادة غيره بلا دليل، فقال: (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي أأنزلنا على هؤلاء الذين يشركون فى عبادتنا الآلهة والأوثان كتابا فيه تصديق لما يقولون، وإرشاد إلى حقيقة ما يدّعون. وإجمال القصد: إنه لم ينزّل بما يقولون كتابا ولا أرسل به رسولا، وإنما هو شىء افتعلوه اتباعا لأهوائهم. ثم ذكر طبيعة الإنسان وجبلّته إلا من عصمه الله فقال: (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ

[سورة الروم (30) : الآيات 38 إلى 40]

يَقْنَطُونَ) أي إن الإنسان قد ركّب فى طبيعته الفرح والبطر حين تصيبه النعمة، كما حكى الله عنه: «لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ» وإذا أصابته شدة بجهله بسنن الحياة، وعصيانه أوامر الدين، قنط من رحمة الله وأيس منها، فهو كما قيل: كحمار السوء إن أعلفته ... رمح الناس وإن جاع نهق «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم راضون بما قسمه لهم ربهم من خير أو شر، علما منهم أن الله حكيم، لا يفعل إلا ما فيه خير للعبد، وفى الحديث الصحيح: «عجبا للمؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» . ثم أنكر عليهم ما يلحقهم من اليأس والقنوط لدى الضراء، فقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) أي ألم يشاهدوا ويعلموا أن الأمرين من الله، فما بالهم لم يشكروا فى السراء، ويحتسبوا فى الضراء، كما يفعل المؤمنون، فإن من فطر هذا العالم لا ينزل الشدة بعباده إلا لما لهم فيها من الخير كالتأديب والتذكير والامتحان، فهو كما يربى عباده بالرحمة يربيهم بالتعذيب فلو أنهم شكروه حين السراء، وتضرعوا إليه فى الضراء، لكان خيرا لهم. والخلاصة: إنه يجب عليهم أن ينيبوا إليه فى الرخاء والشدة، ولا يعوقهم عن الإنابة إليه نعمة تبطرهم، ولا شدة تحدث فى قلوبهم اليأس، بل يكونون فى السراء والضراء منيبين إليه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن فى ذلك البسط على من بسط له والقدر على من قدر عليه- لدلالة واضحة لمن صدّق بحجج الله إذا عاينها. [سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 40] فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

تفسير المفردات

تفسير المفردات حقه: هو صلة الرحم والبرّ به، والمسكين: هو المعدم الذي لا مال له، وابن السبيل: هو المسافر الذي احتاج إلى مال وعزّ عليه إحضاره من بلده، ووسائل المواصلات الحديثة الآن تدفع مثل هذه الحاجة، ربا: أي زيادة، والمراد بها الهدية التي يتوقع بها مزيد مكافأة، فلا يربو عند الله: أي فلا يبارك فيه، والمراد بالزكاة الصدقة، المضعفون: أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر- أردف ذلك ببيان أنه يحبّ الإحسان على ذوى القربى وذوى الحاجات من المساكين وأبناء السبيل، فإنه إذا بسط الرزق لم ينقصه الإنفاق، وإذا قدر لم يزده الإمساك: إذا جادت الدنيا عليك فجدبها ... على الناس طرّا إنها تتقلّب فلا الجود يفنيها إذا هى أقبلت ... ولا البخل يبقيها إذا هى تذهب الإيضاح (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي أعط أيها الرسول ومن تبعك من المؤمنين: الأقارب الفقراء جزءا من مالك صلة للرحم، وبرا بهم لأنهم أحق الناس بالشفقة ومن ثم حكى عن أبى حنيفة أنه استدل بهذه الآية على وجوب النفقة على كل ذى رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا عاجزا عن الكسب

وكذا المسكين الذي لا مال له إذا وقع فى ورطة الحاجة، فيجب على من عنده مقدرة دفع حاجته، وسدّ عوزه. ومثله المسافر البعيد عن ماله، الذي لا يستطيع إحضار شىء منه لانقطاع السبل به فيجب مساعدته بما يدفع خصاصته، حتى يصل إلى مأمنه، وسرعة طرق المواصلات الآن تدفع هذه الضرورة. (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ذلك الإعطاء لمن تقدم ذكرهم، من فعل الخير الذي يتقبّله الله، ويرضى عن فاعليه، ويعطيهم جزيل الثواب، وأولئك قد ربحوا فى صفقتهم، فأعطوا ما يفنى، وحصلوا على ما يبقى، من النعيم المقيم، والخير العميم. وإنما كان هذا العمل خيرا، لما فيه من تكافل الأسرة الخاصة، وتعاونها فى السراء والضراء، وتعاون الأسرة العامة، وهى الأمة الإسلامية جمعاء، كما جاء فى الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» . ولا يخفى ما لذلك من أثر فى تولد المحبة والمودة، وفى التكاتف لدفع عوادى الأيام، ومحن الزمان. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) أي ومن أهدى هدية يريد أن تردّ بأكثر منها، فلا ثواب له عند الله، وقد حرم الله ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم على الخصوص، كما قال تعالى: «وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» أي ولا تعط العطاء تريد أكثر منه. روى عن ابن عباس أنه قال: الربا ربوان: ربا لا يصح وهو ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وإضعافها، ثم تلا هذه الآية. وقال عكرمة: الربا ربوان: ربا حلال، وربا حرام فأما الربا الحلال: فهو الذي يهدى، يلتمس ما هو أفضل منه وعن الضحاك فى هذه الآية: هو الربا الحلال

الذي يهدى، ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له أجر وليس عليه فيه إثم. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ومن أعطوا صدقة يبتغون بها وجه الله تعالى خالصا، فأولئك من الذين يضاعف لهم الثواب والجزاء، كما قال تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً؟» ، وجاء فى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وما تصدّق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربّى أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد (جبل) » . ولما بين أنه لا زيادة إلا فيما يزيده، ولا خير إلا فيما يختاره أكد ذلك بقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي الله الذي لا تصح العبادة إلا له، ولا ينبغى أن تكون لغيره، هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا، ثم رزقكم ما به تقوم شئونكم فى هذه الحياة، ثم يقبض أرواحكم فى الدنيا، ثم يحييكم يوم القيامة للبعث. ثم وبخ هؤلاء المشركين الذين يعبدون الآلهة والأصنام التي لا تخلق ولا ترزق ولا تحيى ولا تميت بقوله: (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟) أي هل من آلهتكم وأوثانكم الذين جعلتموهم شركاء لى فى العبادة من يخلق أو يرزق أو ينشر الميت يوم القيامة؟. وإجمال المعنى: إن شركاءكم لا يفعلون شيئا من ذلك، فكيف يعبدون من دون الله؟. ثم برأ سبحانه نفسه من هذه الفرية التي افتروها، فقال: (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه عن الشريك، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.

[سورة الروم (30) : الآيات 41 إلى 42]

[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 42] ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) تفسير المفردات البر: الفيافي والقفار، ومواضع القبائل، والبحر: المدن، والعرب تسمى الأمصار بحارا لسعتها كما قال سعد بن عبادة فى عبد الله بن أبى بن سلول: ولقد أجمع أهل هذه البحيرة (المدينة) ليتوّجوه. وقال ابن عباس: البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن المشركين عبدوا مع الله سواه، وأشركوا به غيره، والشرك سبب الفساد، كما يرشد إلى ذلك قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» - أعقب ذلك ببيان أن الناس قد انتهكوا حرمات الله، واجترحوا المعاصي، وفشا بينهم الظلم والطمع، وأكل القوى مال الضعيف، فصب عليهم ربهم سوط عذابه، فكثرت الحروب، وافتنّ الناس فى أدوات التدمير والإهلاك، فمن غائصات البحار تهلك السفن الماخرة فيها، إلى طائرات قاذفات للحمم والموادّ المحرقة، إلى مدافع تحصد الناس حصدا، إلى دبابات سميكة الدروع تهدّ المدن هدا وما الحرب القائمة

الإيضاح

الآن إلا مثال الوحشية الإنسانية، والمجازر البشرية التي سلط الله فيها العالم بعضه على بعض، فارتكب المظالم، واجترح المآثم، والإنسان فى كل عصر هو الإنسان. وكما أهلك الله الكافرين قبلهم بكفرهم وظلمهم، يهلك الناس بشؤم معاصيهم وفسادهم، فليجعلوا من سبقهم مثلا لهم، ليتذكروا عقاب الله وشديد عذابه للمكذبين. الإيضاح (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ظهر الفساد فى العالم بالحروب والغارات، والجيوش والطائرات، والسفن الحربية والغواصات، بما كسبت أيدى الناس من الظلم وكثره المطامع، وانتهاك الحرمات، وعدم مراقبة الخلاق، وطرح الأديان وراء ظهورهم، ونسيان يوم الحساب، وأطلقت النفوس من عقالها، وعاثت فى الأرض فسادا، إذ لا رقيب من وازع نفسى، ولا حسيب من دين يدفع عاديتها، ويمنع أذاها، فأذاقهم الله جزاء بعض ما عملوا من المعاصي والآثام، لعلهم يرجعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويتذكرون أن هناك يوما يحاسب الناس فيه على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فيخيّم العدل على المجتمع البشرى، ويشفق القوىّ على الضعيف، ويكون الناس سواسية فى المرافق العامة، وحاج المجتمع بقدر الطاقة البشرية. وبعد أن بين أن ظهور الفساد كان نتيجة أفعالهم أرشدهم إلى أن من كان قبلهم وكانت أفعالهم كأفعالهم، أصابهم بعذاب من عنده، وصاروا مثلا لمن بعدهم وعبرة لمن خلفهم، قال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك: سيروا فى البلاد فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم وكذبوا رسله، كيف أهلكناهم بعذاب منا، وجعلناهم عبرة لمن بعدهم؟.

[سورة الروم (30) : الآيات 43 إلى 45]

ثم بين سبب ما حاق بهم من العذاب، فقال: (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فما حل بهم من العذاب كان جزاء وفاقا لكفرهم بآيات ربهم، وتكذيبهم رسله. [سورة الروم (30) : الآيات 43 الى 45] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) تفسير المفردات لا مرد له: أي لا يقدر أحد أن يردّه، يصّدّعون: أي يتصدعون ويتفرقون، كما قال متمّم بن نويرة من قصيدة يرثى بها أخاه مالكا: وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا «1» فأصبحنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا يمهدون: من مهد فراشه إذا وطّأه حتى لا يصيبه ما ينغّص عليه مرقده من بعض ما يؤذيه، وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها، وتمهيد العذر بسطه وقبوله، لا يحب الكافرين: أي إنه يبغضهم، وسيعاقبهم على ما فعلوا.

_ (1) وجذيمة: هو جذيمة الأبرش، وكان ملكا فى الحيرة، ونديماه مالك وعقيل، وبهما يضرب المثل فى طول المنادمة، فقد نادماه أربعين سنة ما أعادا عليه حديثا كان قالاه من قبل.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن نهى الكافر عن بقائه على حاله التي هو عليها خيفة أن يحل به سوء العذاب- أردف ذلك أمر رسوله ومن تبعه بالثبات على ما هم عليه، بعبادتهم الواحد الأحد، قبل أن يأتى يوم الحساب، الذي يتفرق فيه العباد، فريق فى الجنة، وفريق فى السعير، فمن كفر فعليه وبال كفره، ومن عمل صالحا فقد أعد لنفسه مهادا يستريح عليه بما قدم من صالح العمل، وسينال من فضل ربه وثوابه ورضاه عنه ما لا يخطر له ببال، ولا يدور له فى حسبان. والكافر سيلقى فى هذا اليوم العذاب والنكال، لأن ربه يبغضه ويمقته جزاء ما دسّى به نفسه من سيئ العمل. الإيضاح (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) أي فاسلك أيها الرسول الكريم الطريق الذي رسمه لك ربك بطاعته، واتباع نهجه القويم، الذي لا عوج فيه ولا أمت، من قبل أن يجىء ذلك اليوم الذي لا راد له، وهو يوم الحساب الذي كتب الله مجيئه وقدّره، وما قدّر لا بد أن يكون. ثم ذكر حال الناس يومئذ، فقال: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يومئذ يتفرق الناس بحسب أعمالهم، فريق فى الجنة يؤتى ثمرة عمله، وفريق يزجى إلى النار بما اجترح من الآثام، وبما ران على قلبه مما كسبت يداه. ثم بين أن ما ناله كل منهما من الجزاء كان نتيجة حتمية لعمله فقال: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي من كفر بالله، ودسّى نفسه بما عمل من السيئات، واجترح من الآثام، فعليه وحده أوزار جحوده

[سورة الروم (30) : آية 46]

وكفره بنعم ربه، ومن عمل الصالحات، وأطاع الله فيما به أمر، وعنه نهى، فقد أعدّ لنفسه العدّة، ووطأ لنفسه الفراش حتى لا يقضّ عليه مضجعه، ويقع فى عذاب السعير. ثم بين العلة فى تفرقهم، فقال: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي إنهم يتفرقون ليجازى المؤمنين بالحسنى من فضله، فيكافئ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله من المنح والعطايا. وذكر جزاء الكافرين بما يدل عليه قوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي إنه يبغضهم، وذلك يستدعى عقابهم، ولا يخفى ما فى ذلك من تهديد ووعيد. [سورة الروم (30) : آية 46] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) المعنى الجملي لما ذكر سبحانه أن الفساد ظهر فى البر والبحر بسبب الشرك والمعاصي، نبههم إلى دلائل وحدانيته بما يشاهدونه أمامهم من إرسال الرياح وبالأمطار، فتحيا بها الأرض بعد موتها وجرى الفلك حاملة لما هم فى حاجة إليه، مما فيه غذاؤهم، وعليه مدار حياتهم. الإيضاح (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن الأدلة على وحدانيته تعالى، والحجج القائمة على أنه رب كل شىء، أنه يرسل الرياح من حين إلى آخر مبشرات بالغيث الذي به تحيا

[سورة الروم (30) : آية 47]

الأرض وينبت الثمر والزرع، فتأكلون منه مالذ وطاب، وتعيشون أنتم ودوابكم وأنعامكم فضلا من ربكم، وتجرى السفن ما خرة للبحار، حاملة للأقوات وأنواع الثمار، متنقلة من قطر إلى قطر، فتأتى بما فى أقصى المعمور من الشرق إلى أقصاه فى الغرب، والعكس بالعكس، فلا تحتجن الثمرات والأقوات فى أماكنها، وتكون وقفا على قوم بأعيانهم. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدّكم لشكره كفاء ما أسدى إليكم من نعمه الوفيرة، وخيراته العميمة التي لا تحصى، كما قال: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» . [سورة الروم (30) : آية 47] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) المعنى الجملي لما ذكر سبحانه البراهين الساطعة الدالة على الوحدانية والبعث والنشور، ولم يرعو بها المشركون، بل لجّوا فى طغيانهم يعمهون، سلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فذكر له أنك لست أول من كذّب، فكثير ممن قبلك جاءوا أقوامهم بالبينات، فلم تغنهم الآيات والنذر، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر، ونصرنا رسلنا ومن آمن بهم، فلا تبتئس بما كانوا يعملون، ولنجرينّ عليك وعلى قومك سنننا، ولننتقمنّ منهم، ولننصرنّك عليهم، فالعاقبة للمتقين الإيضاح َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أرسلنا أيها الرسول رسلا من قبلك إلى أقوامهم

[سورة الروم (30) : الآيات 48 إلى 51]

الكافرين، كما أرسلناك إلى قومك عابدى الأوثان من دون الله، فجاءوهم بالحجج الواضحة على أنهم من عند الله، فكذبوهم كما كذبك قومك، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عنده، كما ردوا عليك ما جئتهم به، فانتقمنا من الذين اجترحوا الآثام، واكتسبوا السيئات من أقوامهم، ونجينا الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، ونحن فاعلوا ذلك بمجرمى قومك، وبمن آمن بك، سنة الله التي شرعها لعباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وهذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو لا يخلف الميعاد. أخرج الطبراني وابن أبى حاتم وابن مردويه والترمذي عن أبى الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» : ولا يخفى ما فى هذا من الوعد والبشارة بالظفر على أعدائه، والوعيد والنكال، والخسران فى المآل، لمن كذب به من قومه. [سورة الروم (30) : الآيات 48 الى 51] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

تفسير المفردات

تفسير المفردات تثير: أي تحرك، يبسط: أي ينشر، فى السماء: أي فى سمتها وجهتها، كسفا: أي قطعا، والودق: المطر، خلاله: واحدها خلل، وهو الفرجة بين الشيئين، لمبلسين: أي لآيسين. المعنى الجملي عود على بدء، بعد أن سلى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذى قومه ببيان أنه ليس ببدع فى الرسل، فكائن من رسول قبله قد كذّب، ثم دالت الدّولة على المكذبين، ونصر الله رسوله والمؤمنين، أعاد الكرة مرة أخرى، فأتبع البرهان بالبرهان لإثبات الوحدانية، وإمكان البعث والنشور بما يشاهد من الأدلة فى الآفاق، مرشدة إلى قدرته، وعظيم رحمته، ثم بما يرى فى الأرض الموات من إحيائها بالمطر، وهو دليل لائح يشاهدونه، ولا يغيب عنهم الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة، أفليس فيه حجة لمن اعتبر ومقنع لمن ادّكر؟. الإيضاح (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي الله الذي يرسل الرياح فتنشئ سحابا فينشره ويجمعه جهة السماء، تارة سائرا، وأخرى واقفا، وحينا قطعا، فترى المطر يخرج من وسطه، فإذا أصاب به بعض عباده فرحوا به لحاجتهم إليه. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) أي وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم قانطين يائسين من نزوله، فلما جاءهم على فاقة وحاجة وقع منهم موقعا عظيما.

والخلاصة: إنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبل ذلك أيضا، إذ هم ترقّبوه فى إبّانه فتأخر، ثم مضت فترة فترقبوه فيها فتأخر، ثم جاء بغتة بعد اليأس والقنوط، وبعد أن كانت أرضهم هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي فانظر أيها الرسول أثر الغيث الذي أنبت به ما أنبت من الزرع والأشجار والثمار، وفيه الدليل الكافي على عظيم القدرة وواسع الرحمة. وإذ قد ثبتت قدرته على إحياء الميت من الأرض بالغيث ثبتت قدرته على إحياء الأجسام بعد موتها وتفرقها وتمزقها إربا إربا، ومن ثم قال: (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي إن ذلك الذي قدر على إحياء الأرض قادر على إحياء الأجسام حين البعث. ثم أكد هذا بقوله: (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شىء، فإحياؤكم من قبوركم هيّن عليه، ونحو الآية قوله: «قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها. أَوَّلَ مَرَّةٍ» . ثم ذمهم على تزلزلهم وسوء اضطرابهم، فإذا أصابهم الخير فرحوا به، وإن أصابهم السوء يئسوا وأبلسوا، وانقطع رجاؤهم من الخير، فقال: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي ولئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة على الزرع الذي زرعوه وبما واستوى على سوقه، فرأوه قد اصفر بعد خضرته ونضرته- لظلّوا من بعد ذلك الاستبشار والرجاء يجحدون نعم الله السابقة عليهم. ولا يخفى ما فى ذلك من المبالغة فى احتقارهم لتزلزلهم فى عقيدتهم، إذ كان الواجب

[سورة الروم (30) : الآيات 52 إلى 53]

عليهم أن يتوكلوا على الله فى كل حال، ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر، ولا يبأسوا من روح الله، ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جل وعلا برحمته، وأن يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه، لكنهم قد عكسوا الأمر، وأبوا ما يجديهم، وأتوا بما يؤذيهم. [سورة الروم (30) : الآيات 52 الى 53] فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه صنوف الأدلة، ثم ضرب المثل على توحيده ووجوب إرسال الرسل مبشرين ومنذرين، وصحة بعث الأجسام يوم القيامة، ووعد وأوعد بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد، ثم ما زادهم دعاء الرسول إلا إعراضا، ولا تكرار النصح إلا إصرارا وعنادا- أردف هذا تسليته على ما يراه من التمادي فى الإعراض، وكثرة العناد واللجاج، فأبان أن هؤلاء كأنهم موتى، فأنّى لك أن تسمعهم، وكأنهم صمّ، فكيف يسمعون دعاءك حتى يستجيبوا لك؟ إنما الذي يستجيب من يؤمن بآيات الله، فهو إذا سمع كتابه تدبره وفهمه، فيخضع لك بطاعته، ويتذلل لمواعظ كتابه. الإيضاح (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم، فسلبهم فهم ما يتلى عليهم من مواعظ تنزيله كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين سلبوا أسماعهم بأن تجعل لهم

[سورة الروم (30) : آية 54]

أسماعا، ولا تقدر أن تهدى من تصامّوا عن فهم آيات كتابه فتجعلهم يسمعونها ويفهمونها كما لا تقدر أن تسمع الصم- الدعاء إذا ولّوا عنك مدبرين. ثم بين أن الهداية والضلالة بيده لا بيد الرسول، فقال: (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي ليس فى طوقك أن تهدى من أضله الله، فتردّه عن ضلالته، بل ذلك إليه وحده، فإنه يهدى من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه. والخلاصة: إن هذا ليس من عملك، ولا بعثت لأجله. ثم أكد ما سلف بقوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه فيتّبعه، إلا من يؤمن بآياتنا، لأنه هو الذي إذا سمع كتاب الله تدبره وفهمه، وعمل بما فيه، وانتهى إلى حدوده التي حدها، فهو مستسلم خاضع له، مطيع لأوامره، تارك لنواهيه. [سورة الروم (30) : آية 54] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) المعنى الجملي بعد أن ذكر دلائل الآفاق على وحدانيته أردفها دلائل الأنفس، فذكر خلق الأنفس، فى أطوارها المختلفة من ضعف إلى قوة، ثم انتكاسها وتغيير حالها من قوة إلى ضعف، ثم إلى شيخوخة وهرم. وبين أنه العليم بها فى مختلف أحوالها، القدير على تغييرها واختلاف أشكالها.

الإيضاح

الإيضاح (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) يقول سبحانه محتجا على المشركين المنكرين للبعث: إن الذي خلقكم من نطفة وماء مهين، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، ثم جعل لكم قوة على التصرف من بعد ضعف الصغر والطفولة، ثم أحدث لكم الضعف بالهرم والكبر، بعد أن كنتم أقوياء فى شبابكم- قادر أن يعيدكم مرة أخرى بعد البلى، وبعد أن تكونوا عظاما نخرة. والخلاصة: إن تنقل الإنسان فى أطوار الخلق حالا بعد حال من ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف- دليل على قدرة الخالق الفعّال لما يشاء، الذي لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء، ولا يعجزه أن يعيدكم كرّة أخرى. (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) أي يخلق ما يشاء من ضعف وقوة، وشباب وشيب وهو العليم بتدبير خلقه، القدير على ما يشاء، لا يمتنع عليه شىء أراده، وهو كما يفعل هذا قادر على أن يميت خلقه ويحييهم إذا شاء: [سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 57] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) تفسير المفردات الساعة الأولى: يوم القيامة سميت بذلك لأنها تقوم فى آخر ساعة من ساعات لدنيا، ما لبثوا: أي ما أقاموا بعد الموت، غير ساعة: أي غير قطعة قليلة من الزمان

المعنى الجملي

يؤفكون: أي يصرفون عن الحق، المعذرة: العذر، يستعتبون: أي يطلب منهم إزالة عتب الله وغضبه عليهم بالتوبة والطاعة، فقد حق عليهم العذاب، يقال: استعتبني فلان فأعتبته: أي استرضانى فأرضيته. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف بدء النشأة الأولى، وذكر الإعادة والبعث، وأقام عليه الأدلة فى شتى السور وضرب له الأمثال- أردف ذلك ذكر أحوال البعث وما يجرى فيه من الأفعال والأقوال من الأشقياء والسعداء ليكون فى ذلك عبرة لمن يدّكر. الإيضاح (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي ويوم تجئ ساعة البعث، فيبعث الله الخلق من قبورهم، يقسم المجرمون الذين كانوا يكفرون بالله فى الدنيا، ويكتسبون فيها الآثام، إنهم ما أقاموا فى قبورهم إلا قليلا من الزمان، وهذا استقلال منهم لمدة لبثهم فى البرزخ على طولها، وهم قد صرفوا فى الآخرة عن معرفة مدة مكثهم فى ذلك الحين. (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي كذبوا فى قولهم ما لبثنا غير ساعة، كما كانوا فى الدنيا يحلفون على الكذب وهم يعلمون. والكلام مسوق للتعجب من اغترارهم بزينة الدنيا وزخرفها، وتحقير ما يتمتعون به من مباهجها ولذاتها، كى يقلعوا عن العناد، ويرجعوا إلى سبل الرشاد، وكأنه قيل: مثل ذلك الكذب العجيب كانوا يكذبون فى الدنيا اغترارا بما هو قصير الأمد من اللذات وزخارف الحياة. ثم ذكر توبيخ المؤمنين لهم وتهكمهم بهم: (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) أي وقال

[سورة الروم (30) : الآيات 58 إلى 60]

الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله لأولئك المنكرين: لقد لبثتم من يوم مماتكم إلى يوم البعث فى قبوركم. وفى هذا رد عليهم وعلى ما حلفوا عليه، وإطلاع لهم على الحقيقة. ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على؟؟؟ البعث بقولهم: (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فهذا هو اليوم الذي أنكرتموه فى الدنيا، وزعمتم أنه لن يكون لتفريطكم فى النظر وغفلتكم عن الأدلة المتظاهرة عليه. ولما كانت الأدلة تترى على أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، ذكر أن المعاذير لا تجدى فى هذا اليوم، فلا يجابون إلى ما طلبوا من الرجوع إلى الدنيا، لإصلاح ما فسد من أعمالهم، فقال: (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ففى هذا اليوم لا تنفع هؤلاء المجرمين معاذيرهم عما فعلوا، كقولهم: ما علمنا أن هذا اليوم كائن، ولا أنا نبعث فيه، ولا هم يرجعون إلى الدنيا ليتوبوا، لأن التوبة لا تقبل حينئذ فالوقت وقت جزاء لا وقت عمل، وقد حقت عليهم كلمة ربهم «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» والخلاصة: إنهم لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون عليها. ونحو الآية قوله: «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» . [سورة الروم (30) : الآيات 58 الى 60] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر من الأدلة على الوحدانية والبعث ما ذكر، وأعاد وكرر، بشتى البراهين، وبديع الأمثال- أردف ذلك أنه لم يبق بعد هذا زيادة لمستزيد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أدى واجبه، وأن من طلب شيئا بعد ذلك فهو معاند مكابر، فإن من كذّب الدليل الواضح اللائح، لا يصعب عليه تكذيب غيره من الدلائل. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفمّ طعم الماء من سقم الإيضاح (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ولقد أوضحنا لهم الحق، وضربنا لهم الأمثال الدالة على وحدانية الخالق الرازق، وعلى البعث وصدق الرسول، ليستبينوا الحق ويتبعوه، لكنهم أعرضوا عن ذلك استكبارا وعنادا كما أشار إلى ذلك بقوله: (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي والله لئن جئتهم بالآيات لا يؤمنون بها، بل يعتقدون أنها سحر مفترى، وما هى إلا أساطير الأولين. ونحو هذا قوله: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» . (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به من العبرة والعظات، والآيات البينات، فلا يفقهون الأدلة ولا يفهمون ما يتلى عليهم من آي الكتاب لسوء استعدادهم، ولما دسوابه أنفسهم من سوء القول والفعل، فهم فى طغيانهم يعمهون. ثم ختم السورة بأمر الرسول بالصبر على أذاهم، وعدم الالتفات إلى عنادهم، فقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما ينالك من أذى

المشركين، وبلغهم رسالة ربك، فإن وعده الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم، وتمكينك وتمكين أصحابك وأتباعك فى الأرض- حق لا شك فيه، وليكونن لا محالة. (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي ولا يحملنك الذين لا يوقنون بالميعاد ولا يصدقون بالبعث بعد الممات- على الخفة والقلق، فيثبطوك عن أمر الله والقيام بما كلفك به من تبليغ رسالته. وفى هذا إرشاد لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتعليم له، بأن يتلقى المكاره بصدر رحب، وسعة حلم. أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي أن رجلا من الخوارج نادى عليا وهو فى صلاة الفجر فقال: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» فأجابه وهو فى الصلاة: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» . ولا عجب من صدور مثل هذا الجواب على البديهة من على كرم الله وجهه، وهو مدينة العلم. وصل ربنا على محمد وآله الكرام، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات

خلاصة ما احتوت عليه السورة الكريمة من الموضوعات (1) إثبات النبوة بالإخبار بالغيب. (2) البراهين الدالة على الوحدانية. (3) الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم. (4) الأدلة التي فى الآفاق شاهدة على وحدانية الله وعظيم قدرته. (5) الأدلة على صحة البعث. (6) ضرب الأمثال على أن الشركاء لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا يوم القيامة. (7) الأمر بعبادة الله وحده وهى الفطرة التي فطر الناس عليها. (8) النهى عن اتباع المشركين الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم. (9) من طبيعة المشرك الإنابة إلى الله إذا مسه الضر، والإشراك به حين الرخاء. (10) من دأب الناس الفرح بالنعمة والقنوط حين الشدة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. (11) الأمر بالتصدق على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل. (12) الدلائل التي وضعها سبحانه فى الأنفس شاهدة على وحدانيته. (13) للخير والشر فائدة تعود إلى المرء يوم تجزى كل نفس بما كسبت. (14) فى النظر فى آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر. (15) تسلية الرسول على عدم إيمان قومه بأنهم صم عمى لا يسمعون ولا يبصرون. (16) بيان أن الكافرين يكذبون فى الآخرة كما كانوا يكذبون فى الدنيا. (17) الإرشاد إلى أن الرسول قد بلغ الغاية فى الإعذار والإنذار، وأن قومه قد بلغوا الغاية فى التكذيب والإنكار. (18) أمره صلى الله عليه وسلم بإدامة التبليغ مهما لاقى من الأذى، فإن العاقبة والنصر له، والخذلان لمن كذب به.

سورة لقمان

سورة لقمان هى مكية إلا الآيات 28، 29، 30 فمدنية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة قال له أحبار اليهود: بلغنا أنك تقول: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» أعنيتنا أم قومك؟ قال: كلّا عنيت، فقالوا: إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شىء، فقال عليه الصلاة والسلام ذلك فى علم الله قليل، فأنزل الله هؤلاء الآيات. وآيها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات. وسبب نزولها أن قريشا سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة لقمان مع ابنه وعن برّه والديه، فنزلت. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) إنه تعالى قال فى السورة السالفة: «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» وأشار إلى ذلك فى مفتتح هذه السورة. (2) إنه قال فى آخر ما قبلها: «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» وقال فى هذه: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً» . (3) إنه قال فى السورة السابقة: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقال هنا: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» ، ففى كلتيهما إفادة سهولة البعث. (4) إنه ذكر هناك قوله: «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» ، وقال هنا: «وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» فذكر فى كل من الآيتين قسما لم يذكره فى الآخر.

[سورة لقمان (31) : الآيات 1 إلى 5]

(5) إنه ذكر فى السورة التي قبلها محاربة ملكين عظيمين لأجل الدنيا، وذكر هنا قصة عبد مملوك زهد فيها، وأوصى ابنه بالصبر والمسألة، وذلك يقتضى ترك المحاربة، وبين الأمرين التقابل وشاسع البون كما لا يخفى [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) الإيضاح (الم) تقدم تفسير هذا مرارا بإسهاب. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلا. (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي هذه آيات الكتاب الهادي من الزيغ، الشافي من الضلال، لمن أحسنوا العمل، وانبعوا الشريعة، فأقاموا الصلاة على الوجه الأكمل، الذي رسمه الدين فى أوقاتها، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وأيقنوا بالجزاء فى الدار الآخرة، ورغبو إلى الله فى ثواب ذلك لم يراءوا به، ولا أرادوا به جزاء ولا شكورا. ولما كان المتصفون بهذه الخلال هم الغاية فى الهداية والفلاح قال: (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي إن هؤلاء الذين ذكرت أوصافهم على نور من ربهم، وأولئك الذين رجوا ما أمّلوا من ثوابه يوم القيامة، وقد تقدم مزيد إيضاح لهذا أول سورة البقرة. [سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 7] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المراد بلهو الحديث: الجواري المغنيات، وكتب الأعاجم، وقد اشتريت حقيقة. وقال ابن مسعود: لهو الحديث: الرجل يشترى جارية تغنيه ليلا ونهارا، وعن ابن عمر «أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى لهو الحديث: إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل» ، وسبيل الله: هو دينه، والهزو: السخرية، مهين: أي تلحقهم به الإهانة، وقرا: أي صمما يمنعهم من السماع. المعنى الجملي بعد أن بين حال السعداء الذين يهتدون بكتاب الله، وينتفعون بسماعه وهم الذين قال الله فيهم: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» - أردف ذلك ذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب. روى عن ابن عباس أن الآية نزلت فى النضر بن الحارث اشترى قينة (مغنية) وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق بها إليه، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه. وروى عن مقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس، فيشترى كتب الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا، ويقول لهم: إن محمدا يحدثكم. حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم

الإيضاح

حديث رستم وإسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون سماع القرآن. الإيضاح (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) أي ومن الناس فريق يتخذ ما يتلهّى به عن الحديث النافع للإنسان فى دينه، فيأتى بالخرافات والأساطير والمضاحيك وفضول الكلام، كالنضر بن الحارث الذي كان يشترى الكتب، ويحدّث بها الناس، وربما اشترى الفتيات، وأمرهن بمعاشرة من أسلم، ليحملهم على ترك الإسلام، وما مقصده من ذلك إلا الإضلال، والصد عن دين الله وقراءة كتابه، واتخاذه هزوا ولعبا. وعن نافع قال «كنت أسير مع عبد الله بن عمر فى الطريق، فسمع مزمارا، فوضع أصبعيه فى أذنيه، وعدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع» . وعن ابن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان. وصوت عند مصيبة خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان» . والخلاصة: إن سماع الغناء الذي يحرك النفوس، ويبعثها على اللهو والمجون بكلام يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا خلاف فى تحريمه، أما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه فى أوقات الفرح: كالعرس والعيد، وحين التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان فى حفر الخندق وحدو أنجشه (عبد أسود كان يقود راحلة نساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع) فأما ما ابتدعه الصوفية من الإدمان على سماع المغانى بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام، وأما طبل الحرب فلا حرج فيه، لأنه يقيم النفوس، ويرهب العدو،

فقد ضرب بين يدى النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة، فهمّ أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح» فكنّ يضربن ويقلن: نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار. ولا بأس من استعمال الطبل والدف فى النكاح. وكذا الآلات المشهرة به والغناء بما يحسن من الكلام مما لا رفث فيه. وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز. ثم بين عاقبة أمرهم، فقال: (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي إنه كتب لهم العذاب والخزي يوم القيامة، لأنهم لما أهانوا الحق باختيارهم الباطل- جوزوا بإهانتهم يوم الجزاء بعذاب يفضحهم ويخزيهم أمام الخلائق: ثم أشار سبحانه إلى أن هذا داء قد استشرى فى نفسه، فكلما تليت عليه آية ازداد إباء ونفورا، فقال: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي وإذا تتلى آيات الكتاب الكريم على هذا الذي اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله- يعرض عن سماعها ويولّى مستكبرا، كأن لم يسمعها، كأن فى أذنيه ثقلا، فلا يصيخ لها، ولا يأبه لتلقّفها وتأملها. ونحو الآية قوله: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» . ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما بزيل كبره وعظمته قال: (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فبشر هذا المعرض وأوعده بالعذاب الذي يؤلمه ويقض مضجعه يوم القيامة.

[سورة لقمان (31) : الآيات 8 إلى 9]

[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 9] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) المعنى الجملي بعد أن ذكر حال من أعرض عن الآيات وبيّن مآله- عطف على ذلك ذكر مآل من قبل تلك الآيات وأقبل على تلاوتها والانتفاع بها. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. خالِدِينَ فِيها) أي إن الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة، فأتوا بما أمرهم به ربهم فى كتابه على لسان رسله، وانتهوا عما نهاهم عنه- لهم جنات ينعمون فيها بأنواع اللذات والمسارّ من المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، مما لم يخطر لأحدهم ببال، وهم فيها مقيمون دائما لا يظعنون، ولا يبغون عنها حولا. (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) أي ما أخبرنا به كائن لا محالة، لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده وهو الكريم المنّان على عباده. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو الشديد فى انتقامه من أهل الشرك به، الصادّين عن سبيله، الحكيم فى تدبير خلقه، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة لهم. [سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11] خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)

تفسير المفردات

تفسير المفردات العمد: واحدها عماد، وهو ما يعمد به أي يسند به، تقول: عمدت الحائط إذا دعمته، رواسى: أي جبالا ثوابت، تميد: أي تضطرب، والبثّ: الإثارة والتفريق كما قال: «كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» والمراد الإيجاد والإظهار: وزوج: أي صنف، كريم: أي شريف كثير المنفعة. المعنى الجملي بعد أن أبان فيما سلف كمال قدرته وعلمه وإتقان عمله- أردف ذلك الاستشهاد لما سلف بخلق السموات والأرض وما بعده، مع تقرير وحدانيته، وإبطال أمر الشرك، وتبكيت أهله. الإيضاح (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي ومن الأدلة على قدرته البالغة، وحكمته الظاهرة أن خلق السموات السبع بغير عمد تستند إليه، بل هى قائمة بقدرة الحكيم الفعال لما يشاء، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الرعد. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي وجعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال، لئلا تضطرب بكم، وتميد بالمياه المحيطة بها، الغامرة لأكثرها. (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي وذرأ فيها من أصناف الحيوان ما لا يعلم عددها ومقادير أشكالها وألوانها إلا الذي فطرها. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي وأنزلنا من السماء مطرا فكان ذلك سببا لإنبات كلّ صنف كريم من النبات ذى المنافع الكثيرة. ثم بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه، فأرونى ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة فقال: (هذا خَلْقُ اللَّهِ) أي هذا الذي تشاهدونه من السموات والأرض وما فيهما من الخلق- خلق الله وحده دون أن يكون له شريك فى ذلك.

[سورة لقمان (31) : آية 12]

(فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟) أي فأخبرونى أيها المشركون الذين تعبدون هذه الأصنام والأوثان: أىّ شىء خلق الذين من دونه مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه فى العبادة، حتى استحقوا به العبودية، كما استحق ذلك عليكم خالفكم وخالق هذه لأشياء التي عددتها لكم؟. ثم انتقل من توبيخهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال عليهم، المستدعى للإعراض عنهم، وعدم مخاطبتهم بالمعقول من القول لاستحالة أن يفهموا منه شيئا فيهتدوا إلى بطلان ما هم عليه، فقال: (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بل المشركون بالله، العابدون معه غيره فى جهل وعمى واضح لا اشتباه فيه لمن تأمله ونظر فيه، فأنّى لهم أن يرعووا عن غىّ أو يهتدوا إلى رشد وحق؟. [سورة لقمان (31) : آية 12] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) تفسير المفردات لقمان كان نجارا أسود من سودان مصر ذا مشافر آتاه الله الحكمة، ومنحه النبوة. والحكمة: العقل والفطنة، وقد نسب إليه من المقالات الحكيمة شىء كثير، كقوله لابنه: أي بنىّ إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها ناس كثيرون، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو، ولا أراك ناجيا. وقوله: من كان له من نفسه واعظ، كان له من الله حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه، زاده الله بذلك عزا، والذل فى طاعة الله، أقرب من التعزز بالمعصية. وقوله: يا بنىّ لا تكن حلوا فتبتلع، ولا مرّا فتلفظ.

المعنى الجملي

وقوله: يا بنى إذا أردت أن تواخى رجلا فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه فآخه، وإلا فاحذره. والشكر: الثناء على الله تعالى، وإصابة الحق، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء وجميع النعم لما خلقت له. المعنى الجملي بعد أن بين فساد اعتقاد المشركين بإشراك من لا يخلق شيئا بمن خلق كل شىء، ثم بين أن المشرك ظالم ضالّ- أعقب ذلك ببيان أن نعمه الظاهرة فى السموات والأرض، والباطنة: من العلم والحكمة ترشد إلى وحدانيته، وقد آتاها لبعض عباده كلقمان الذي فطر عليها دون نبىّ أرشده، ولا رسول بعث إليه. الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي ولقد أعطى سبحانه لقمان الحكمة، وهى شكره وحمده على ما آتاه من فضله بالثناء عليه بما هو أهل له، وحب الخير للناس، وتوجيه الأعضاء إلى ما خلقت له. (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن الله يجزل له على شكره الثواب، وينقذه من العذاب كما قال: «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» . (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي ومن كفر نعم الله عليه، فإلى نفسه أساء، لأن الله معاقبه على كفرانه إياها، والله غنى عن شكره، لأن شكره لا يزيد فى سلطانه، وكفرانه لا ينقص من ملكه، وهو المحمود على كل حال، كفر العبد أو شكر. [سورة لقمان (31) : الآيات 13 الى 19] وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

تفسير المفردات

تفسير المفردات العظة: تذكير بالخير يرقّ له القلب، والوهن: الضعف، والفصال: الفطام، جاهداك: أي حرصا على متابعتك لهما فى الكفر، أناب: أي رجع، المثقال: ما يوزن به غيره، ومثقال حبة الخردل مثل فى الصغر، لطيف: أي يصل علمه إلى كل خفىّ، خبير: أي عليم بكنه الأشياء وحقائقها، من عزم الأمور: أي من الأمور المعزومة التي قطعها الله قطع إيجاب، تصعير الخد: ميله وإبداء صفحة الوجه، وهو من فعل المتكبرين، قال أعرابى: وقد أقام الدهر صعرى بعد أن أقمت صعره، وقال عمرو بن حنىّ التغلبي: وكنا إذا الجبار صعّر خدّه ... أقمنا له من ميله فتقوّما

المعنى الجملي

وفى الحديث: «يأتى على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر» والأصعر: المعرض بوجهه كبرا، وفى الحديث «كل صعّار ملعون» أي كل ذى أبهة وكبر هو كذلك. مرحا: أي فرحا وبطرا، والمختال: هو الذي يفعل الخيلاء وهى التبختر فى المشي كبرا، والفخور: من الفخر وهو المباهاة بالمال والجاه ونحو ذلك، اقصد: أي توسط، اغضض: أي انقص منه وأقصر، من قولهم: فلان يغضّ من فلان إذا قصّر به ووضع منه وحط من قدره، أنكر الأصوات: أي أقبحها وأصعبها على السمع من نكر (بالضم) نكارة، أي صعب. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن لقمان أوتى الحكمة، فشكر ربه على نعمه المتظاهرة عليه وهو يرى آثارها فى الآفاق والأنفس آناء الليل وأطراف النهار- أردف ذلك ببيان أنه وعظ ابنه بذلك أيضا، ثم استطرد فى أثناء هذه المواعظ إلى ذكر وصايا عامة وصّى بها سبحانه الأولاد فى معاملة الوالدين رعاية لحقوقهم، وردّا لما أسدوه من جميل النعم إليهم، وهم لا يستطيعون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، على ألا يتعدى ذلك إلى حقوقه تعالى، ثم رجع إلى ذكر بقية المواعظ التي يتعلق بعضها بحقوقه، وبعضها يرجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض. الإيضاح (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أي واذكر أيها الرسول الكريم موعظة لقمان لابنه، وهو أشفق الناس عليه، وأحبهم لديه حين أمره أن يعبد الله وحده، ونهاه عن الشرك، وبين له أنه ظلم عظيم أما كونه ظلما، فلما فيه من وضع الشيء فى غير موضعه، وأما أنه عظيم، فلما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه، وهو سبحانه وتعالى، ومن لا نعمة لها، وهى الأصنام والأوثان.

روى البخاري عن ابن مسعود قال: لما نزل قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بذلك. ألا تسمعون لقول لقمان: «يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» . وبعد أن ذكر سبحانه ما أوصى به لقمان ابنه من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه فى إيجاده أحد، وذكر ما فى الشرك من الشناعة أتبعه بوصيته الولد بالوالدين لكونهما السبب فى وجوده، فقال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي وأمرناه ببرهما وطاعتهما، والقيام بحقوقهما، وكثيرا ما يقرن القرآن بين طاعة الله وبر الوالدين كقوله: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» . ثم ذكر منّة الوالدة خاصة لما فيها من كبير المشقة، فقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي حملته وهى فى ضعف يتزايد بازدياد ثقل الحمل إلى حين الطلق، ثم مدة النفاس. ثم أردفها ذكر منه أخرى، وهى الشفقة عليه وحسن كفالته حين لا يملك لنفسه شيئا، فقال: (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي وفطامه من الرضاع بعد وضعه فى عامين تقاسى فيهما الأم فى رضاعه وشئونه فى تلك الحقبة جمّ المصاعب والآلام التي لا يقدر قدرها إلا العليم بها، ومن لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء. وقد وصى بالوالدين لكنه ذكر السبب فى جانب الأم فحسب، لأن المشقة التي تلحقها أعظم، فقد حملته فى بطنها ثقيلا، ثم وضعته وربته ليلا ونهارا، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله من أبرّ؟: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم قال بعد ذلك: ثم أباك.

ثم فسر هذه الوصية بقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) أي وعهدنا إليه أن اشكر لى على نعمى عليك، ولوالديك، لأنهما كانا السبب فى وجودك، وإحسان تربيتك، وملاقاتهما ما لا قيا من المشقة حتى استحكمت قواك. ثم علل الأمر بشكره محذّرا إياه بقوله: (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي إلىّ الرجوع، لا إلى غيرى، فأجازيك على ما صدر منك مما يخالف أمرى، وسائلك عما كان من شكرك لى على نعمى عليك، وعلى ما كان من شكرك لوالديك وبرّك بهما. وبعد أن ذكر سبحانه وصيته بالوالدين وأكد حقهما، ووجوب طاعتهما استثنى من ذلك حقوقه تعالى، فإنه لا يجب طاعتهما فيما يغضبه، فقال: (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن ألحف عليك والداك فى الطلب، وشدّ النكير عليك، بأن تشرك بي فى عبادتى غيرى مما لا تعلم أنه شريك لى، فلا تطعهما فيما أمراك به، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به. روى أن هذه الآية نزلت فى سعد بن أبى وقاص قال: «لما أسلمت حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا، فناشدتها أول يوم فأبت وصبرت، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله لو كانت لك مائة نفس لخرجت قبل أن أودع دينى هذا، فلما رأت ذلك وعرفت أنى لست فاعلا أكلت» . (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي وصاحبهما فى أمور الدنيا صحبة يرتضيها الدين، ويقتضيها الكرم والمروءة، بإطعامهما وكسوتهما، وعدم جفائهما وعيادتهما إذا مرضا، ومواراتهما فى القبر إذا ماتا.

وقوله: (فِي الدُّنْيا) إشارة إلى تهوين أمر الصحبة، لأنها فى أيام قلائل وشيكة الانقضاء، فلا يصعب تحمل مشقتها. ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن فى الدين ببعض محاباة فيه نفى ذلك بقوله: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) أي واسلك سبيل من تاب من شركه ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم. والخلاصة: واتبع سبيلى بالتوحيد، والإخلاص والطاعة، لا سبيلهما. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم إلىّ بعد مماتكم، فأخبركم بما كنتم تعملون فى الدنيا من خير وشر، ثم أجازيكم عليه، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته. ثم عاد إلى ذكر بقية وصايا لقمان لابنه بعد أن نهى فى مطلعها عن الشرك وأكده بالاعتراض الذي ذكره بقوله: (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) أي يا بنى إن الفعلة من الإساءة والإحسان إن تك وزن حبة من خردل فتكن فى أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو فى أعلى مكان كالسموات أو فى أسفله كباطن الأرض- يحضرها الله يوم القيامة، حين يضع الموازين القسط، ويجازى عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كما قال تعالى: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» . (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي إن الله لطيف يصل علمه إلى كل خفى، خبير: يعلم ظواهر الأمور وخوافيها. (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدها كاملة على النحو المرضى، لما فيها من رضا الرب بالإقبال عليه والإخبات له، ولما فيها من النهى عن الفحشاء والمنكر، وإذا تم ذلك صفت النفس وأنابت إلى بارئها فى السراء والضراء كما جاء فى الحديث: «اعبد الله كأنك كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» .

وبعد أن أمره بتكميل نفسه توفية لحق الله عليه عطف على ذلك تكميله لغيره، فقال: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي وأمر غيرك بتهذيب نفسه قدر استطاعتك، تزكية لها، وسعيا إلى الفلاح، كما قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» . (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي وانه الناس عن معاصى الله ومحارمه التي توبق من اكتسبها، وتلقى به فى عذاب السعير، فى جهنم وبئس المصير. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من أذى الناس فى ذات الله إذا أنت أمرتهم بالمعروف أو نهيتهم عن المنكر. وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة، وختمها بالصبر، لأنهما عمادا لاستعانة إلى رضوان الله كما قال: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» . ثم ذكر علة ذلك، فقال: (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن ذلك الذي أوصيك به من الأمور التي جعلها الله محتومة على عباده لا محيص منها، لما لها من جزيل الفوائد، وعظيم المنافع، فى الدنيا والآخرة، كما دلت على ذلك تجارب الحياة، وأرشدت إليه نصوص الدين. وبعد أن أمره بأشياء حذره من أخرى، فقال: (1) (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرا واحتقارا له، بل أقبل عليه بوجهك كله متهللا مستبشرا من غير كبر ولا عتوّ. ومن هذا ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» . (2) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي ولا تمش فى الأرض مختالا متبخترا، لأن تلك مشية الجبارين المتكبرين الذين يبغون فى الأرض، ويظلمون الناس، بل امش هونا، فإن ذلك يفضى إلى التواضع، وبذا تصل إلى كل خير.

روى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال: «جلست إلى عبد الله ابن عمرو بن العاصي، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه، فيقول: يا بن آدم ما غرّك بي؟ ألم تعلم أنى بيت الوحدة؟ ألم تعلم أنى بيت الظلمة؟ ألم تعلم أنى بيت الحق؟ يا بن آدم ما غرك بي؟ لقد كنت تمشى حولى فدّادا (ذا خيلاء وكبر) » . وفى الحديث: «من جرّ ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة» . ثم ذكر علة هذا النهى بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن الله لا يحب المختال المعجب بنفسه، الفخور على غيره، ونحو الآية ما مر من قوله: «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» . (3) (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي وامش مشيا مقتصدا ليس بالبطىء المتثبّط، ولا بالسريع المفرط، بل امش هونا بلا تصنع ولا مراءاة للخلق، بإظهار التواضع أو التكبر. روى عن عائشة أنها نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا، فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القرّاء (الفقهاء العالمين بكتاب الله) قالت: كان عمر سيّد القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع. ورأى عمر رجلا متماوتا، فقال له: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله. ورأى رجلا مطأطئا رأسه، فقال له: «ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض» . (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي وانقص منه وأقصر، ولا ترفع صوتك حيث لا يكون إلى ذلك حاجة، لأنه أوقر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه. ثم علل النهى وبيّنه بقوله: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي إن أبشع الأصوات وأقبحها برفعها فوق

[سورة لقمان (31) : الآيات 20 إلى 21]

الحاجة بلا داع هو صوت الحمير، وغاية من يرفع صوته أنه يجعله شبيها بصوت الحمار فى علوه ورفعه، وهو البغيض إلى الله. وفى ذلك ما لا يخفى من الذم، وتهجين رفع الصوت، والترغيب عنه، ومن جعل الرافع صوته كأنه حمار مبالغة فى التنفير من عمله، وهذا أدب من الله لعباده بترك الصياح وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة. وقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت، فمن كان منهم أشد صوتا كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، قال شاعرهم: جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرواء جهير النّعم ويعدو على الأين عدو الظّليم ... ويعلو الرجال بخلق عمم «1» [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) المعنى الجملي بعد أن أقام الأدلة على التوحيد، وذكر أن لقمان فهمه بالحكمة دون أن يرسل إليه نبىّ- عاد إلى خطاب المشركين وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه من الشرك مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد لائحة للعيان، يشاهدونها فى كل آن، فى السموات والأرض، وتسخيرهم لما فيها مما فيه مصالحهم فى المعاش والمعاد، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة، المعروفة لهم وغير المعروفة ثم أبان أن كثيرا من الناس يجادلون

_ (1) الرواء بالضم: المنظر الحسن، والنعم: الإبل، والأين: الإعياء. والخلق العمم: التام.

الإيضاح

فى توحيد الله وصفاته بدون دليل عقلى على ما يدّعون، ولا رسول أرسل إليهم بما عنه يناضلون، ولا كتاب أنزل إليهم يؤيد ما يعتقدون، وإذا هم أفحموا بالحجة والسلطان المبين، لم يجدوا جوابا إلا تقليد الآباء والأجداد بنحو قولهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وما ذاك إلا من نزغات الشيطان، والشيطان لا يدعو إلا إلى الضلال الموصّل إلى النار، وبئس القرار. الإيضاح (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي ألم تروا أيها الناس أن الله الذي سخر لكم ما فى السموات من شمس وقمر، ونجوم، تستضيئون بها ليلا ونهارا، وتهتدون بها فى ظلمات البر والبحر، وسحاب ينزل لكم الأمطار لسقى الناس والحيوان والمزارع المختلفة، وما فى الأرض من الدوابّ والأشجار، والمياه والبحار، والسفن والمعادن التي فى باطنها، إلى نحو ذلك من المنافع التي جعلها لغذائكم وأقواتكم، فتتمتعون ببعض ذلك، وتنتفعون بجميع ذلك، وأتمّ عليكم نعمه محسوسة وغير محسوسة. والخلاصة: إنه تعالى نبّه خلقه إلى ما أنعم به عليهم فى الدنيا والآخرة بأن سخر لهم ما فى السموات وما فى الأرض وأسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، فأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح الشبه والعلل. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية: «الظاهرة: الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة: ما ستر عليك من سيئ عملك» وقيل: الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة: المعرفة والعقل وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال، وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء فى نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات.

ثم ذكر أنه مع كل هذه الأدلة الظاهرة قد مارى بعض الناس دون برهان من عقل ولا مستند من نقل، فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي وهناك فريق من الناس يجادل فى توحيد الله وصفاته كالنضر بن الحارث وأبىّ بن خلف اللذين كانا يجادلان النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك بلا علم من عقل، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور يؤيد صحة ما يدّعون. ثم بين أنه لا مطمع فى إيمان مثل هؤلاء، لأنهم قد بلغوا الغاية فى الغباوة، واستسلموا للتقليد، وتركوا الدليل وإن كان لائحا ظاهرا، فقال: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين الجاحدين لوحدانية الله: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع- لم يجدوا ردا لذلك إلا قولهم: إنا نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من دين، فإنهم كانوا أهل حق ودين صحيح. فوبخهم سبحانه على تلك المقالة التي هى من حبائل الشيطان ووساوسه فقال: (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟) أي أيتبعونهم على كل حال دون نظر إلى دليل؟ فربما كان اعتقادهم مبنيا على الهوى وترّهات الأباطيل، سداه ولحمته ما زينه لهم الشيطان من وساوس، لا تستند إلى حجة ولا برهان. والخلاصة- أما كان لهم أن يفكروا ويتدبروا حتى يعلموا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، فإن الرجال بالحق وليس الحق بالرجال؟ وفى هذا ما لا يخفى من تسفيه عقولهم وتسخيف آرائهم، وأنهم بلغوا الدّرك الأسفل فى هدم العقل، وعدم الركون إلى الدليل مهما استبانت غايته، واستقامت محجته

[سورة لقمان (31) : الآيات 22 إلى 24]

[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) تفسير المفردات يسلم وجهه: أي يفوّض أمره، محسن: أي مطيع لله فى أمره ونهيه، والمراد بالعروة الوثقى، أوثق العرى وأمتنها، وهو مثل: وأصله أن من يرقى فى جبل شاهق أو يتدلى منه يستمسك بحبل متين مأمون الانقطاع، نضطرهم: أي نلزمهم، وغليظ: أي ثقيل ثقل الأجرام الغلاظ. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حال المشرك المجادل فى الله بغير علم- أردف ذلك ذكر حال المستسلم المفوّض أموره إلى الله، وبيان عاقبته ومآله، ثم سلى رسوله على ما يلقاه من المشركين من العناد والكفران، وبين له أنه قد بلّغ رسالات ربه وتلك وظيفة الرسل، وعلى الله الحساب والجزاء، فهو يجازيهم بما يستحقون من العذاب الغليظ فى جهنم وبئس المصير. الإيضاح (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي ومن يعبد الله وهو متذلل خاضع مع الإحسان فى العمل بفعل الطاعات، وترك المعاصي والمنكرات، فقد تعلق بأوثق الأسباب التي توصل إلى رضوان ربه ومحبته، وحسن جزائه على ما قدم من عمل صالح.

ثم بين العلة فى أنه يلقى الجزاء الأوفى فقال: (وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي إن المصير إلى الله لا إلى غيره، فلا يكوننّ لأحد إذ ذاك أمر ولا نهى، ولا عقاب ولا ثواب، فيجازى المتوكل عليه أحسن الجزاء، ويعاقب المسيء أنكل العذاب. ثم سلى رسوله على ما يلقاه من أذى المشركين وعنادهم فقال: (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي لا تحزن على كفرهم بالله وبما جئت به، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن قدر الله نافذ فيهم. ثم بين لرسوله أنه لا يهملهم على أعمالهم بل هو مجازيهم عليها فقال: (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي إن مصيرهم يوم القيامة إلينا فنخبرهم بما عملوا فى الدنيا من خبيث الأعمال حتى لا يكون هناك سبيل إلى الإنكار ثم نجازيهم على ذلك أشد الجزاء. ثم بين أنه عادل فى الجزاء لسعة علمه وعظيم إحاطته بكل شىء فقال: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى يجازيهم بكل ما عملوا، إذ لا تخفى عليه خافية. ثم بين أن ما يمتعون به فى الدنيا عرض قليل وظل زائل لا ينبغى لعاقل أن يقيم له وزنا بجانب العذاب الدائم فقال: (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي نمهلهم فى الدنيا زمنا قليلا يتمتعون فيه بزخارفها ثم نلجئهم على كره منهم إلى عذاب شاقّ على نفوسهم. ونحو الآية قوله: «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ»

[سورة لقمان (31) : الآيات 25 إلى 26]

[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 26] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) المعنى الجملي بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى بخلق السموات بلا عمد وبإسباغ نعمه الظاهرة والباطنة عليهم- أردف ذلك ببيان أن المشركين معترفون بذلك غير جاحدين له، وهذا يستدعى أن يكون الحمد كله له وحده، ومن يستحق الحمد هو الذي يستحق العبادة فأمرهم عجب يعلمون المقدمات ثم ينكرون النتيجة التي تستتبعها، فيعبدون من لا يستحق عبادة، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا من الأصنام والأوثان. الإيضاح (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله من قومك: من خلق السموات والأرض؟ ليقولن الله. وفى هذا إيماء إلى أنه قد بلغ من الوضوح مبلغا لا يستطيعون معه الإنكار والجحود ولما استبان بذلك صدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم قال آمرا رسوله. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به فى العبادة التي لا يستخقها سوى الخالق المنعم على عباده. ثم بين أنهم بلغوا الغاية فى الجهل فهم يعترفون بالشيء ويعملون نقيضه فقال: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر المشركين لا يعلمون من له الحمد، وأين موضع الشكر، فهم مع تكذيبك يعترفون بما يوجب تصديقك. ولما أثبت لنفسه الإحاطة بأوصاف الكمال استدل على ذلك بقوله:

[سورة لقمان (31) : الآيات 27 إلى 28]

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي له سبحانه كل ما فى السموات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وليس ذلك لأحد سواه، فلا يستحق العبادة فيهما غيره، وهو الغنى عن عبادة جميع خلقه، لأنهم ملكه وهم المحتاجون إليه المحمود على نعمه التي أنعمها عليهم. [سورة لقمان (31) : الآيات 27 الى 28] وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه أجرى الحكمة على لسان لقمان، ثم قفى على ذلك ببيان أنه أسبغ نعمه على عباده ظاهرة وباطنة، وأن له ما فى السموات وما فى الأرض- أردف ذلك ببيان أن تلك النعم وهذه المخلوقات لا حصر لها، ولا يعلمها إلا خالقها كما قال: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» . ولما كانت تلك النعم لا نهاية لها، وربما ظن أنها مبعثرة لا قانون لها، أو أنها لكثرتها يصعب عليه تدبيرها وتصريف شئونها كما يريد- دفع هذا بقوله: (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) . روى أنه لما نزل بمكة قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الآية وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود وقالوا بلغنا أنك تقول: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» أتعنينا أم تعنى قومك؟ قال: كلّا عنيت: قالوا ألست تتلو فيما جاءك أنا أوتينا التوراة فيها علم كل شىء، فقال صلى الله عليه وسلم هى فى علم الله قليل، وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم، قالوا كيف تزعم هذا وأنت

الإيضاح

تقول: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير، فنزلت الآية: (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) إلخ. الإيضاح (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ) أي ولو أن أفنان الأشجار وأغصانها بريت أقلاما وجعل البحر مدادا وأمدته سبعة أبحر والخلائق جميعا يكتبون بها كلمات الله الدالة على عظمته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولم تنفد كلمات الله: ونحو الآية قوله «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» وإنما ذكرت السبعة الأبحر للدلالة على الكثرة، لا لقصد هذا العدد بعينه، فقد تقدم أن قلنا آنفا إن العرب تذكر السبعة والسبعين، والسبعمائة، وتريد بذلك الكثرة كما جاء فى الحديث «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله» وفى الآية: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ» . وقصارى ذلك: إنه سبحانه أخبر أن عظمته وكبرياءه وجلاله وأسماءه الحسنى لا يحيط بها أحد، ولا يصل البشر إلى معرفة كنهها وعدها كما ورد فى الحديث: «سبحانك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» . (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إن الله قد عز كل شىء وقهره، فلا مانع لما أراد، ولا معقّب لحكمه، وهو الحكيم فى خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شئونه. ثم أبان أن هذا الخلق الذي لا حصر له محيط به علما، ولا يعجزه شىء فيه متى أراد، فقال: (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي ما خلق جميع الناس ولا بعثهم

[سورة لقمان (31) : الآيات 29 إلى 32]

يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كخلق نفس واحدة، فالكل هين عليه كما قال: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» وقال «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» ، وقال «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» . (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي إن الله سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم. [سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 32] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) تفسير المفردات يولج: أي يدخل، والمراد أنه يضيف الليل إلى النهار، والعكس بالعكس، فيتفاوت بذلك حال أحدهما زيادة ونقصانا، تجرى أي تسير سيرا سريعا، بنعمة الله أي بما تحمله من الطعام والمتاع ونحوهما، غشيهم: أي غطاهم، والظلل: واحدها ظلة، وهى كما قال الراغب: السحابة تظلّ، مقتصد: أي سالك للقصد أي للطريق المستقيم وهو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره، وما يجحد: أي ما ينكر، وختار: من الختر، وهو أشد الغدر، قال عمرو بن معد يكرب: فإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر

المعنى الجملي

وقال الأعشى: بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير ختّار المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه سخر للانسان ما فى السموات وما فى الأرض- ذكر هنا بعض ما فيهما بقوله يولج الليل فى النهار إلخ، وبعض ما فى السموات بقوله وسخر الشمس والقمر، وبعض ما فى الأرض بقوله ألم تر أن الفلك تجرى فى البحر بنعمة الله، ثم ذكر أن كل المشركين معترفون بتلك الآيات، إلا أن البصير يدركها على الفور، ومن فى بصيرته ضعف لا يدركها إلا إذا وقع فى شدة، وأحدق به الخطر، فهو إذ ذاك يعترف بأن كل شىء بإرادة الله. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ألم تشاهد أيها الناظر بعينيك أن الله يزيد ما نقص من ساعات الليل فى ساعات النهار، ويزيد ما نقص من ساعات النهار فى ساعات الليل. والخلاصة: إنه يأخذ من الليل فى النهار، فيقصر ذاك ويطول هذا، وذاك فى مدة الصيف، إذ يطول النهار إلى الغاية، ثم يبتدئ النهار فى النقصان، ويطول الليل إلى الغاية فى مدة الشتاء. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمصالح خلقه ومنافعهم. (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل منهما يجرى بأمره إلى وقت معلوم، وأجل محدد، إذا بلغه كوّرت الشمس والقمر. (وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وأن الله بأعمالكم من خير وشر خبير بها لا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو مجازيكم بها.

ثم بين الحكمة فى إظهار آياته للناس، فقال: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) أي إنما يظهر آياته للناس ليستدلوا بها على أنه هو المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه هو الباطل الذي يضمحلّ ويفنى، فهو الغنى عما سواه، وكل شىء فقير إليه. (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وأنه تعالى المرتفع على كل شىء، والمتسلط على كل شىء، فكل شىء خاضع له، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير. وبعد أن ذكر الآيات السماوية الدالة على وحدانيته أشار إلى آية أرضية، فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي ألم تشاهد أيها الرسول السفن وهى تسير فى البحر حاملة للأقوات والمتاع، من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر هو فى حاجة إليها لينتفع الناس بما على ظاهر الأرض مما ليس فى أيديهم. وفى هذا دليل على عجبب قدرته التي ترشدكم إلى أنه الحق الذي أوجد ما ترون من الأحمال الثقيلة على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها. ثم ذكر من يستفيد من النظر فى الآيات، فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فيما ذكر لدلائل واضحات لكل صبار فى الضراء، شكور فى الرخاء. قال الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ألم تر إلى قوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» . وقوله: «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ» . وقال عليه الصلاة والسلام: «الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر» . ثم بين أن المشركين ينسون الله فى السراء ويلجئون إليه حين الضراء، فقال: (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وإذا أحاطت بالمشركين الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان- الأمواج العالية كالجبال، وأحدق بهم الخطر من كل جانب حين يركبون السفن- فزعوا بالدعاء إلى الله مخلصين له الطاعة لا يشركون به شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره.

[سورة لقمان (31) : الآيات 33 إلى 34]

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) أي فلما نجوا من الأهوال التي كانوا فيها، وخلصوا إلى البر، فمنهم متوسط فى أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء، موفّ بما عاهد عليه الله فى البحر، ومنهم من غدر ونقض عهد الفطرة، وكفر بأنعم الله عليه. [سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) تفسير المفردات اتقوا ربكم: أي خافوا عقابه، لا يجزى: أي لا يغنى، والغرور: ما غرّ الإنسان من مال وجاه، وشهوة وشيطان، والساعة: يوم القيامة، ما فى الأرحام: أي ما فى أرحام النساء من صفاته وأحواله كالذكورة والأنوثة، والحياة والموت، وغيرها من الأعراض. المعنى الجملي بعد أن ذكر دلائل التوحيد على ضروب مختلفة، وأشكال منوّعة- أمر بتقوى الله على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم، يوم يحكم الله بين عباده، يوم لا تنفع فيه قرابة، ولا تجدى فيه صلة رحم، فلو أراد والد أن يفدى ابنه بنفسه لما قبل منه ذلك وهكذا الابن مع أبيه، فلا تلهينكم الدنيا عن الدار الآخرة، ولا يغرنكم الشيطان

الإيضاح

فيزيننّ لكم بوساوسه المعاصي والآثام ثم ختم السورة بذكر ما استأثر الله بعلمه، مما فى الكائنات، وهى الخمس التي اشتملت عليها الآية الكريمة، مما لم يؤت علمها ملك مقرّب، ولا نبى مرسل. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) أي يا أيها المشركون من قريش وغيرهم، اتقوا الله وخافوا أن يحل بكم سخطه فى يوم لا يغنى والد عن ولده، ولا مولود هو مغن عن والده شيئا، لأن الأمور كلها بيد من لا يغالب، ومن لا تنفع عنده الشفاعة والوسائل التي تنفع فى الدنيا، بل لا تجدى عنده إلا وسيلة واحدة، هى العمل الصالح الذي قدمه المرء فى حياته الأولى. ثم أكد ما سلف بقوله: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي اعلموا أن مجىء هذا اليوم حق، لأن الله قد وعد به، ولا خلف لوعده. ثم حذرهم من شيئين، فقال: (1) (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي فلا تخدعنّكم زينة هذه الحياة ولذاتها، فتميلوا إليها وتدّعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عقاب الله فى ذلك اليوم. (2) (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي ولا يغرنكم الشيطان، فيحملنّكم على المعاصي بتزيينها لكم، ثم إرجاء التوبة إلى ما بعد ذلك، ثم هو ينسينكم ذلك اليوم، فلا تتخذنّ له زادا، ولا تعدّنّه معادا. ثم ذكر سبحانه خمسة أشياء لا يعلمها إلا هو، فقال: (1) (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلا يعلمها أحد سواه لا ملك مقرّب، ولا نبى مرسل، كما قال: «لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» . (2) (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فى وقته المقدر له، ومكانه المعين فى علمه تعالى، والفلكيون وإن علموا الخسوف والكسوف، ونزول الأمطار بالأدلة الحسابية،

فليس ذلك غيبا، بل بأمارات وأدلة تدخل فى مقدور الإنسان، ولا سيما أن بعضها قد يكون أحيانا فى مرتبة الظن، لا فى مرتبة اليقين. (3) (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر هو أم أنثى، أتامّ الخلق أم ناقصه، أو نحو ذلك من الأحوال العارضة له. (4) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر. (5) (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي لا يدرى أحد أين مضجعه من الأرض؟ أفي بحر أم فى برّ، أم فى سهل، أم فى جبل. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن الله عليم بجميع الأشياء، خبير ببواطنها كما هو خبير بظواهرها. أخرج ابن المنذر عن عكرمة «أن رجلا يقال له: الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد متى قيام الساعة، وقد أجدبت بلادنا، فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتى حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأى أرض ولدت، فبأى أرض أموت، فنزلت الآية: إن الله عنده علم الساعة إلخ» . وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتيح الغيب خمس: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما فى الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا، وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير» . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

مجمل ما حوته السورة الكريمة من الموضوعات

مجمل ما حوته السورة الكريمة من الموضوعات (1) القرآن هداية ورحمة للمؤمنين. (2) قصص من ضل عن سبيل الله بغير علم، واتخذ آيات الله هزوا. (3) وصف العالم العلوي، والعالم السفلى، وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية الله. (4) قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة، وشكره لربه على ذلك، ثم نصائحه لابنه. (5) الأمر بطاعة الوالدين إلا فيما لا يرضى الخالق. (6) النعي على المشركين فى ركونهم إلى التقليد إذا دعوا إلى النظر فى الكون وعبادة الخالق له. (7) لا نجاة للإنسان إلا بالإخبات لله وعمل الصالحات. (8) تسلية الرسول على عدم إيمان المشركين. (9) تعجيب رسوله من المشركين بأنهم يقرون بأن الله هو الخالق لكل شىء ثم هم يعبدون معه غيره ممن هو مخلوق مثلهم. (10) نعم الله ومخلوقاته لا حصر لها. (11) الأمر بالنظر إلى الكون وعجائبه لنسترشد بذلك إلى وحدانية الصانع لها. (12) تحميق المشركين بأنهم فى الشدائد يدعون الله وحده، وفى الرخاء يشركون معه سواه. (13) الأمر بالخوف من عقاب الله يوم لا يجزى والد عن ولده. (14) مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها. (15) إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات ظاهرها وباطنها.

سورة السجدة

سورة السجدة هى مكية إلا من آية 16 إلى آية عشرين فمدنية وآيها ثلاثون، نزلت بعد سورة (المؤمنين) . ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه: (1) اشتمال كل منهما على دلائل الألوهية. (2) إنه ذكر فى السورة السالفة دلائل التوحيد، وهو الأصل الأول، ثم ذكر المعاد، وهو الأصل الثاني، وهنا ذكر الأصل الثالث، وهو النبوة. (3) إن هذه السورة شرحت مفاتح الغيب التي ذكرت فى خاتمة ما قبلها، فقوله: «ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ» شرح لقوله: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقوله: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ» شرح لقوله: «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» وقوله: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» تفصيل لقوله: «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» وقوله: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» إيضاح لقوله: «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً» وقوله: «أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ» إلخ شرح لقوله: «وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» . [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

الإيضاح

الإيضاح (الم) تقدم الكلام فى مثل هذا من قبل، فى معناه، وكيفية النطق به. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزل على محمد لا شك أنه من عند الله، وليس بشعر، ولا سجع كاهن، ولا هو مما تخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم. وفى هذا تكذيب لقولهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» . ثم فنّد تكذيبهم له، وأكد أنه من لدن رب العالمين، فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي بل هو الحق والصدق من عند ربك أنزله إليك، لتنذر قومك بأس الله وسطوته أن تحل بهم على كفرهم به، وإنه لم يأتهم نذير من قبلك، ليبين لهم سبيل الرشاد، وأن محمدا لم يختلقه كما يزعمون. وفى هذا ردّ لقولهم: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» . [سورة السجده (32) : الآيات 4 الى 9] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أثبت سبحانه صحة الرسالة- بيّن ما يجب على الرسول من الدعاء إلى توحيد لله، وإقامة الأدلة على ذلك. الإيضاح (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي الله سبحانه هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما فى ستة أطوار فى نظر الناظرين إليها، وليس المراد اليوم المعروف، لأنه قبل خلق السموات لم يكن ليل ولا نهار، وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة الفرقان. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم بيان هذا فى سورة يونس وهود وطه. (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي ليس لكم أيها الناس من يلى أموركم، وينصركم منه إن أراد بكم ضرا، ولا يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه. والخلاصة: فإياه فاتخذوه وليّا، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم، فإنه يمنعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يقدر أحد على دفع السوء عنكم، إذا هو أراد وقوعه بكم، لأنه لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب. ثم أمرهم بالتذكر والتدبر فى الأدلة، فقال: (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟) أي أفلا تعتبرون وتتفكرون أيها العابدون غيره، المتوكلون على من عداه، تعالى الله وتقدس أن يكون له نظير أو شريك، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) تدبير الأمر: النظر فى دابره وعاقبته ليجىء محمود المغبّة، وتدبير الأمر من السماء إلى الأرض، ثم عروجه إليه، تمثيل لإظهار عظمته، كما يصدر الملك أوامره، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها. (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يصير الأمر كله إليه، ليحكم فيه فى يوم مقداره ألف سنة مما كنا نعده فى هذه الحياة. والمراد بالألف الزمن المتطاول، وليس المقصد منه حقيقة العدد، إذ هو عند العرب منتهى المراتب العددية، وأقصى غاياتها، وليس هناك مرتبة فوقه إلا ما يتفرع منه من عداد مراتبها. قال القرطبي: المعنى إن الله تعالى جعله فى صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول، وأيام السرور بالقصر، قال شاعرهم: ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله ... دم الزقّ عنا واصطفاق المزاهر اهـ (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي لك المدبر لهذه الأمور، هو العالم بما يغيب عن أبصاركم، مما تكنّه الصدور وتخفيه نفوس، وما لم يكن بعد مما هو كائن، وبما شاهدته الأبصار وعاينته، وهو الشديد انتقامه ممن كفر به، وأشرك معه غيره، وكذب رسله، وهو الرحيم بمن تاب من ضلالته، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله، وعمل صالحا، وهو الذي أحسن خلق الأشياء وأحكمها. ولما ذكر خلق السموات والأرض شرع يذكر خلق الإنسان، فقال: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي وبدأ خلق آدم أبى البشر من الطين، وقد يكون

[سورة السجده (32) : الآيات 10 إلى 11]

المعنى إن الطين ماء وتراب مجتمعان، والآدمي أصله منىّ، والمنىّ من الغذاء والأغذية إما حيوانية، وإما نباتية. والحيوانية ترجع إلى النباتية، والنبات وجوده بالماء والتراب وهو الطين. (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين الصلب والترائب فى كل من الرجل والمرأة كما دل على ذلك علم الأجنة، وسيأتى إيضاح هذا عند قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي ثم عدّله بتكميل أعضائه فى الرحم، وتصويره على أحسن صورة، ونفخ فيه من روحه، وجعلها تتعلق ببدنه، فيبدأ يتحرك، وتظهر فيه آثار الحياة، ثم ينطق ويتكلم. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي وأنعم عليكم، فأعطاكم السمع تسمعون به الأصوات، والأبصار تبصرون بها المرئيات، والأفئدة تميزون بها بين الخير والشر، وبين الحق والباطل. وجاء الترتيب هكذا: لما ثبت من أن الطفل بعد الولادة يسمع ولا يبصر مدى ثلاث أيام، ثم يبتدئ يبصر، ثم يبتدئ يدرك ويميز كما هو مشاهد. ثم بين أن الإنسان قابل هذه النعم بالكفران إلا من رحم الله، فقال: (قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي وأنتم تشكرون ربكم قليلا من الشكر على هذه النعم التي أنعم بها عليكم باستعمالها فى طاعته وعمل ما يرضيه. [سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 11] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) المعنى الجملي بعد أن ذكر الرسالة بقوله: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» ، والوحدانية بقوله: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» إلخ. أردف ذلك ذكر البعث، واستبعاد المشركين له، ثم الرد عليهم.

الإيضاح

الإيضاح (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وقال المشركون بالله المكذبون بالبعث: أئذا صارت لحومنا وعظامنا ترابا فى الأرض؟ أنبعث خلقا جديدا؟. وخلاصة مقالهم: عظيم الاستبعاد للإعادة، بأنها كيف تعقل وقد تمزقت الجسوم، وتفرقت فى أجزاء الأرض؟. وهم قد قاسوا قدرة الخالق الذي بدأهم أول مرة، وأنشأهم من العدم بقدرة المخلوق العاجز- شتان بينهما- إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. ثم زاد فى النعي عليهم، والإنكار لآرائهم بقوله: (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله على ما يشاء فحسب، بل هم تعدّوا ذلك إلى الجحود بلقاء ربهم حذر عقابه، وخوف مجازاته إياهم على معاصيهم. ثم رد عليهم مقالتهم، وشديد استنكارهم بقوله (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أصل التوفى أخذ الشيء وافيا كاملا، أي قل لهؤلاء المشركين: إن ملك الموت الذي وكّل بقبض أرواحكم يستوفى العدد الذي كتب عليه الموت منكم حين انتهاء أجله، ثم تردون إلى ربكم يوم القيامة أحياء كهيئتكم قبل وفاتكم، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، وفى هذا إثبات للبعث مع تهديدهم وتخويفهم، وإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء. [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 14] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أثبت البعث والرجوع- بين حال المشركين حين معاينة العذاب، ووقوفهم بين يدى الله أذلاء ناكسى رءوسهم من الحياء والخجل طالبى الرجوع إلى الدنيا لتحسين أعمالهم، ثم بين أنه لا سبيل إلى العودة، لأنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه، وأنه قد ثبت فى قضائه، وسبق فى وعيده أن جهنم تمتلئ من الجنة والناس ممن ساءت أعمالهم، وقبحت أفعالهم، فلا يصلحون لدخول الجنة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب النار جزاء ما عملتم فى الدنيا، وقد نسيتم لقاء ربكم، فجازاكم، بفعالكم، وجعلكم كالمنسيين من رحمته. الإيضاح (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) أي ولو ترى أيها الرسول هؤلاء القائلين: أئذا ضللنا فى الأرض أإنا لفى خلق جديد- ناكسى رءوسهم عند ربهم حياء وخجلا منه، لما سلف منهم من معاصيهم له فى الدنيا، قائلين: ربنا أبصرنا الحشر، وسمعنا قول الرسول وصدّقنا به، فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالح الأعمال، وهذا منهم عود على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار، كما حكى عنهم سبحانه قولهم: «لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» . ثم ادّعوا اطمئنان قلوبهم حينئذ، وقدرتهم على فهم معانى الآيات، والعمل بموجبها، كما حكى الله عنهم بقوله:

(إِنَّا مُوقِنُونَ) أي إنا قد أيقنا الآن ما كنا به فى الدنيا جهالا من وحدانيتك، وأنه لا يصلح للعبادة سواك، وأنك تحيى وتميت، وتبعث من فى القبور بعد الممات والفناء، وتفعل ما تشاء. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» الآية. (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما تهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح لفعلنا، ولكن تدبيرنا للخلق على نظم كاملة، كفيلة بمصالحه، قضى أن نضع كل نفس فى المرتبة التي هى أهل لها بحسب استعدادها، كما توضع فى الإنسان العين فى موضع لا يصلح له الظفر والإصبع، والمعدة فى موضع لا يصلح له القلب، وهذا هو المراد من قوله: (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي ولكن سبق وعيدي بملء جهنم من الجنة والناس الذين هم أهل لها، بحسب استعدادهم، ولا يصلحون لدخول الجنة كما لا يعيش البعوض والذباب، إلا فى الأماكن القذرة، ليخلّص الجو من العفونات، ولو جعلا فى القصور النظيفة النقية ما عاشا فيها، إذ لا يجدن فيها غذاء ولا منفعة لهما: وهكذا هؤلاء إذا رأوا العالم المضيء المشرق، والأنوار المتلألئة، والحياة الطيبة فى الجنة لم يستطيعوا دخولها، وعجزوا عن ذلك، فما مثلهم إلا مثل السمك الذي لا يعيش فى البر، ومثل ذوات الأربع التي لا تعيش فى البحر. ولما بين لهم أنه لا رجوع إلى الدنيا أنّبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي، وترك الطاعة له، فقال: (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي فذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم بهذا اليوم، واستبعادكم وقوعه، وعملكم عمل من لا يظن أنه راجع إلى ربه فملاقيه.

[سورة السجده (32) : الآيات 15 إلى 17]

ثم ذكر لهم جزاءهم على فعل المعاصي، فقال: (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي إنا سنعاملكم معاملة الناسي، لأنه تعالى لا ينسى شيئا، ولا يضل عنه شىء، وهذا أسلوب فى الكلام يسمى أسلوب المشاكلة، ونحوه: «الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» وقوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» وقوله: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» . (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وذوقوا عذابا تخلدون فيه إلى غير نهاية، بسبب كفركم وتكذيبكم بآيات ربكم، واجتراحكم للشرور والآثام. [سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 17] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) تفسير المفردات ذكروا بها: أي وعظوا، خروا: أي سقطوا، سبحوا بحمد ربهم: أي نزهوه عما لا يليق به، تتجافى: أي ترتفع وتبتعد، قال عبد الله بن رواحة: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشقّ معروف من الصبح ساطع يبيت يجافى جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع والجنوب: واحدها جنب، وهو الشق، والمضاجع: واحدها مضجع، وهو مكان النوم، أخفى لهم: أي خبّئ لهم، من قرة أعين: أي من شىء نفيس تقرّ به أعينهم وتسرّ.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه علامة أهل الكفر من طأطأة الرءوس خجلا وحياء مما صنعوا فى الدنيا، وذكر ما يلاقونه من العذاب المهين يوم القيامة- عطف على ذلك ذكر علامة أهل الإيمان من تذللهم لربهم، وتسبيحهم بحمده، ومحافاة جنوبهم للمضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا، ثم أردفه ذكر ما يلاقونه من نعيم مقيم، وقرة أعين جزاء لهم على جميل أعمالهم، ومحاسن أقوالهم. الإيضاح (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي ما يصدّق بحججنا وآيات كتابنا إلا الذين إذا وعظوا بها خروا لله سجدا، تذللا واستكانة لعظمته، وإقرارا بعبوديته، ونزهوه فى سجودهم عما لا يليق به، مما يصفه به أهل الكفر من الصاحبة والولد والشريك، يفعلون ذلك وهم لا يستكبرون عن طاعته، كما يفعل أهل الفسق والفجور حين يسمعونها، فإنهم يولون مستكبرين، كأن لم يسمعوها. ثم ذكر بقية محاسن أعمالهم بقوله: (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يتنحون عن مضاجعهم التي يضطجعون فيها لمنامهم، فلا ينامون، داعين ربهم خوفا من سخطه وعذابه، وطمعا فى عفوه عنهم، وتفضله عليهم برحمته ومغفرته، ومما رزقناهم من المال ينفقون فى وجوه البر، ويؤدون حقوقه التي أوجبها عليهم فيه، قال أنس بن مالك: «نزلت فينا معاشر الأنصار، كنا نصلى المغرب، فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلى العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم» . وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ» قال: هى قيام العبد أول الليل.

وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى ضلاته رغبة فيما عندى، وشفقة مما عندى ورجل غزا فى سبيل الله تعالى فانهزم، فعلم ما عليه من الفرار، وما له فى الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندى، وشفقة مما عندى، فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدى رجع رغبة فيما عندى، ورهبة مما عندى حتى أهريق دمه» . وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فى سفر، فأصبحت يوما قريبا منه، ونحن نسير فقلت: يا نبى الله أخبرنى عما يدخلنى الجنة، ويباعدنى عن النار. قال: لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسّره الله تعالى عليه- تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل فى جوف الليل، ثم قرأ: تتجافى جنوبهم عن المضاجع- حتى بلغ- جزاء بما كانوا يعملون، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك مملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبى الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كفّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس فى النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال فى الآية: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ لذكر الله، كلما استيقظوا ذكروا الله عز وجل، إما فى الصلاة، وإما فى قيام أو قعود، أو على جنوبهم، لا يزالون يذكرون الله تعالى» وقال الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعى وغيرهم إن المراد بالتجافي القيام لصلاة النوافل بالليل.

[سورة السجده (32) : الآيات 18 إلى 22]

وبعد أن ذكر حال المؤمنين المتواضعين ذكر جزاءهم بقوله: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يعلم أحد عظيم ما أخفى لهم من النعيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد جزاء وفاقا بما كانوا يعملون من صالح الأعمال، أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم. روى الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتكم عليه، اقرءوا إن شئتم: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» . وأخرج الفريابي وابن أبى شيبة وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: «إنه لمكتوب فى التوراة، لقد أعدّ الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرّب، ولا نبى مرسل، وإنه لفى القرآن: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) » . [سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أصل الفسق: الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها، ثم استعمل فى الخروج من الطاعة وأحكام الشرع مطلقا، فهو أعم من الكفر، وقد يخص به كما فى قوله: «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» والمأوى: المسكن وأصل النزل: ما يعدّ للنازل من الطعام والشراب والصلة، ثم أطلق على كل عطاء، والمراد به هنا الثواب والجزاء، الأدنى: أي الأقرب، والمراد به عذاب الدنيا، فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه، وقد ابتلاهم الله بسنى جدب وقحط أهلكت الزرع والضرع، والعذاب الأكبر: عذاب يوم القيامة. المعنى الجملي لما بيّن حالى المجرمين والمؤمنين- عطف على ذلك سؤال العقلاء: هل يستوى الفريقان؟ وبين أنهما لا يستويان، ثم فصّل ذلك ببيان مآل كل منهما يوم القيامة. الإيضاح (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ) أي أفهذا الكافر المكذّب وعد الله ووعيده، المخالف أمره ونهيه، كهذا المؤمن بالله المصدّق وعده ووعيده، المطيع لأمره ونهيه- كلا- لا يستوون عند الله ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون. وخلاصة ذلك: أبعد ظهور ما بينهما من تفاوت بيّن يظن أن المؤمن الذي حكيت أوصافه كالكافر الذي ذكرت قبائح أعماله؟ كلا- إن الفضل بينهما لا يخفى على ذى عينين. ونحو الآية قوله: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ» وقوله: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» وقوله: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ» الآية.

وبعد أن نفى استواءهما أتبعه بذكر حال كل منهما على سبيل التفصيل: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أما الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا صالح الأعمال- فلهم مساكن فيها البساتين والدور، والغرف العالية، جزاء لهم على جليل أعمالهم، وطيب أفعالهم التي كانوا يعملونها فى الدنيا. (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي وأما الذين كفروا بالله، واجترموا الشرور والآثام، فمساكنهم التي يأوون إليها فى الآخرة، ويستريحون فيها هى النار، وبئس القرار. وفى هذا ضرب من التهكم بهم، إذ جعلت النار ملجأ ومستراحا لهم يستريحون إليها، فهو كقوله: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . ثم بين حالهم فيها ونفورهم منها، فقال: (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) أي كلما شارفوا الخروج منها، وظنوا أنه قد تيسر لهم ذلك، وهم بعد فى غمراتها أعيدوا فيها، ودفعوا إلى قعرها. روى أن لهب النار يضربهم فيرتفعون إلى أعلاها، حتى إذا قربوا من أبوابها، وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها- وهكذا يفعل بهم أبدا. قال الفضيل بن عياض: والله إنّ الأيدى لموثقة، وإن اللهب ليرفعهم، والملائكة تقمعهم. ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي ذوقوا عذابها الذي كنتم تكذبون فى الدنيا أن الله قد أعده لأهل الشرك به. ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات فى الدنيا لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلا وآجلا، فقال:

[سورة السجده (32) : الآيات 23 إلى 25]

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ولنبتلينهم بمصايب الدنيا وأسقامها وآفاتها من المجاعات والقتل، ونحو ذلك، عظة لهم ليقلعوا عن ذنوبهم قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب يوم القيامة. ثم ذكر حال من قابل آيات الله بالإعراض، بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد، فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها؟) أي لا أظلم ممن ذكّره الله بحججه، وآي كتابه ورسله، ثم أعرض عن ذلك كله، ولم يتعظ به، بل تناساه، كأنه لا يعرفه. ثم بين جزاءه على ذلك، فقال: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي إنا سننتقم أشد الانتقام من الذين اجترحوا السيئات، واكتسبوا الآثام والمعاصي. روى ابن جرير بسنده عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء فى غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم ينصره، يقول الله: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) » . [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 25] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

المعنى الجملي

المعنى الجملي لما ذكر سبحانه فى أول السورة الرسالة والتوحيد والبعث- عاد فى آخرها إلى ذكرها مرة أخرى، فقال: الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) المرية: الشك، أي إنا آتينا موسى التوراة مثل ما آتيناك القرآن، وأنزلنا عليك الوحى مثل ما أنزلناه عليه، فلا تكن فى شك من لقائك الكتاب، فأنت لست ببدع من الرسل كما قال تعالى: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ» . وذكر موسى من بين سائر الرسل لقرب عهده من النبي صلى الله عليه وسلم ووجود من كان على دينه بينهم إلزاما لهم، ولم يذكر عيسى، لأن اليهود ما كانوا يعترفون بنبوته، والنصارى كانوا يقرون بنبوة موسى، فذكر المجمع عليه. وقد يكون ذكره لأن الآية جاءت تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما أتى بكل آية وذكّرهم بها، وأعرض قومه عنها حزن حزنا شديدا، فقيل له: تذكّر حال موسى ولا تحزن، فإنه قد لقى مثل ما لقيت، وأوذى كما أوذيت، فإنّ من لم يؤمن به آذاه، كفرعون وقومه، ومن آمنوا به من بنى إسرائيل آذوه أيضا بالمخالفة له كقولهم: «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» وقولهم: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا» ، وغيره من الأنبياء لم يؤذه إلا من لم يؤمن به. (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي وجعلنا الكتاب الذي آتيناه مرشدا لبنى إسرائيل إلى طريق الهدى كما جعلناك مرشدا لأمتك. ونحو الآية قوله: «وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» .

[سورة السجده (32) : الآيات 26 إلى 27]

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي وجعلنا من بنى إسرائيل رؤساء فى الخير، يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم، بإذننا لهم وتقويتنا إياهم، لأنهم صبروا على طاعتنا، وعزفت أنفسهم عن لذات الدنيا وشهواتها، وكانوا من أهل اليقين بحججنا وبما تبين لهم من الحق. وفى ذلك إيماء إلى أن الكتاب الذي آتيناكه سيكون هداية للناس، وسيكون من أتباعه أئمة يهدون مثل تلك الهداية. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك يقضى بين خلقه يوم القيامة فيما كانوا فيه فى الدنيا يختلفون من أمور الدين والثواب والعقاب، فيدخل الجنة أهل الحق، ويدخل النار أهل الباطل. [سورة السجده (32) : الآيات 26 الى 27] أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) المعنى الجملي بعد أن أعاد ذكر الرسالة فى قوله: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» أعاد هنا ذكر التوحيد مع ذكر البرهان عليه بما يرونه من المشاهدات التي يبصرونها. الإيضاح (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ؟) أي أو لم يبين لهم طريق الحق كثرة من أهلكنا من القرون الماضية الذين يمشون فى أرضهم، ويشاهدون آثار هلاكهم كعاد وثمود وقوم لوط.

والخلاصة: أو لم يرشد هؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم لرسلهم، ومخالفتهم إياهم فيما جاءوهم به من سبل الحق، فلم يبق منهم باقية. ونحو الآية قوله: «هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» وقوله: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا» وقوله: «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ» . (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن فى خلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من أهلها لما كذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا، وعبدوا غيرنا- لآيات لهم وعظات يتعظون بها لو كانوا من أولى الحجا. (أَفَلا يَسْمَعُونَ؟) عظاتنا وتذكيرنا إياهم، وتعريفهم مواضع حججنا سماع تدبر وتفكر ليعتبروا بها. وبعد أن بين قدرته على الإهلاك- أرشد إلى قدرته على الإحياء ليبين أن النفع والضر بيده تعالى، فقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) الأرض الجرز: هى التي جرز نباتها وقطع، إما لعدم الماء، وإما لأنه رعى وأكل، يقال: ناقة جروز إذا كانت تأكل كل شىء، ورجل جروز أي أكول: أي ألم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت، والنشر بعد الفساد- أنا بقدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه ما شيتهم وتتغذى به أجسامهم، فيعيشون به؟. (أَفَلا يُبْصِرُونَ؟) أي أفلا يرون ذلك بأعينهم، فيعلموا أن القدرة التي بها فعلنا ذلك لا يتعذر عليها أن تحيى الأموات وتنشرهم من قبورهم، وتعيدهم بهيئاتهم التي كانوا عليها قبل موتهم؟.

[سورة السجده (32) : الآيات 28 إلى 30]

[سورة السجده (32) : الآيات 28 الى 30] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) تفسير المفردات الفتح: أي الفصل فى الخصومة بيننا وبينكم، وينظرون: أي يمهلون ويؤخرون. المعنى الجملي بعد أن أثبت الرسالة والتوحيد- عطف على ذلك ذكر الحشر، وبذلك صار ترتيب آخر السورة متناسقا مع ترتيب أولها، فقد ذكر الرسالة فى أولها بقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً) وفى آخرها بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وذكر التوحيد فى أولها بقوله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وفى آخرها بقوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) وذكر الحشر فى أولها بقوله (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) وفى آخرها بقوله: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ؟) . الإيضاح (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي ويقول المشركون على طريق الاستهزاء والاستبعاد: متى تنصر علينا أيها الرسول كما تزعم، ومتى ينتقم الله منا؟ وما نراك وأصحابك إلا مختفين خائفين أذلة- إن كنتم صادقين فى الذي تقولون من أنا معاقبون على تكذيبنا الرسول، وعبادة الآلهة والأوثان، وهم ولا شك لا يستعجلونه إلا لاستبعادهم حصوله وإنكارهم إياه، وتكذيبهم له. وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن استبعادهم موبخا لهم بقوله:

(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي قل لهم: إذا حل بكم بأس الله وسخطه فى الدنيا وفى الآخرة لا ينفعكم إيمانكم الذي تحدثونه فى هذا اليوم، ولا تؤخّرون للتوبة والمراجعة. والخلاصة: لا تستعجلوه ولا تستهزئوا، فكأنى بكم وقد حل ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم حلول العذاب، فلم تنظروا. ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم، وانتظار الفتح بينه وبينهم، فقال: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بهم، وبلّغ ما أنزل إليك من ربك، وانتظر ما الله صانع بهم، فإنه سينجزك ما وعد، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد، وهم منتظرون يتربصون بكم الدوائر كما قال «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» . وسترى عاقبة صبرك عليهم، وعلى أداء رسالة ربك، بنصرك وتأييدك، وسيجدون نحب ما ينتظرون فيك، وفى أصحابك من وبيل عقاب الله لهم، وحلول عذابه بهم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات

مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات (1) إثبات رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان أن مشركى العرب لم يأتهم رسول من قبله. (2) إثبات وحدانية الله، وأنه المتصرف فى الكون، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه. (3) إثبات البعث والنشور، وبيان أنه يكون فى يوم كألف سنة مما تعدون. (4) تفصيل خلق الإنسان فى النشأة الأولى، وبيان الأطوار التي مرت به، حتى صار بشرا سويا. (5) وصف الذلة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم، ورفض ما طلبوا لعدم استعدادهم للخير والفلاح. (6) تفصيل أحوال المؤمنين فى الدنيا، وذكر ما أعده الله لهم من النعيم، والثواب العظيم فى الآخرة. (7) استعجال الكفار لمجئ يوم القيامة استبعادا منهم لحصوله.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب هى مدنية نزلت بعد آل عمران. وآيها ثلاث وسبعون. ووجه اتصالها بما قبلها تشابه مطلع هذه وخاتمة السالفة، فإن تلك ختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، وهذه بدئت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه من ربه مع التوكل عليه. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) تفسير المفردات قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله، وتوكل على الله: أي فوّض أمورك إليه، الوكيل: الحافظ للأمور. المعنى الجملي أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: إن أهل مكة، ومنهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن

الإيضاح

يرجع عن قوله: على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه، فنزلت الآيات. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) أي يا أيها النبي خف الله بطاعته، وأداء فرائضه، وواجب حقوقه عليك، وترك محارمه، وانتهاك حدوده. والخلاصة: يا أيها المخبر عنا، المأمون على وحينا، اثبت على تقوى الله، ودم عليها. ولما وجّه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر بتقوى الولىّ الودود- أتبعه بالنهى عن الالتفات نحو العدو الحسود، فقال: (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي ولا تطع الكافرين الذين يقولون لك: اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المؤمنين، حتى نجالسك، والمنافقين الذين يظهرون لك الإيمان والنصيحة، وهم لا يألونك وأصحابك إلا خبالا، فلا تقبل لهم رأيا، ولا تستشرهم مستنصحا بهم، فإنهم أعداؤك، ويودون هلاكك، وإطفاء نور دينك. روى أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تابعه ناس من اليهود نفاقا وكان يلين لهم جانبه، ويظهرون له النصح خداعا فحذره الله منهم، ونبهه الى عداوتهم. ثم علل ما تقدم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إن الله عليم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدونه من إظهار النصيحة، وبالذي تنطوى عليه جوانحهم، حكيم فى تدبير أمرك، وأمر أصحابك، وسائر شئون خلقه، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطاع. والخلاصة: إنه تعالى هو العليم بعواقب الأمور، الحكيم فى أقواله وأفعاله، وتدبير شئون خلقه.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 إلى 5]

ثم أكد وجوب الامتثال بأن الآمر لك هو مرّ بيك فى نعمه، الغامر لك بإحسانه، فهو الجدير أن يتّبع أمره، ويجتنب نهيه، فقال: (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي واعمل بما ينزله عليك ربك من وحيه، وآي كتابه. ثم علل ذلك بما يرغّبه فى اتباع الوحى، وبما ينأى به عن طاعة الكافرين والمنافقين، فقال: (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي إن الله خبير بما تعمل أنت وأصحابك، لا يخفى عليه شىء منه، ثم يجازيكم على ذلك بما وعدكم به من الجزاء. ثم أمر رسوله بتفويض أموره إليه وحده، فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي وفوض أمورك إليه وحده، واعتمد عليه فى شئونك. (وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي وكفى به حافظا، يوكل إليه جميع الشئون، فلا تلتفت فى شىء من أمرك إلى غيره. والخلاصة: حسبك الله، فإنه إن أراد لك نفعا لم يدفعه عنك أحد، وإن أراد ضرا لم يمنعه منك أحد. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 4 الى 5] ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)

تفسير المفردات

تفسير المفردات جعل: أي خلق، ويقال: ظاهر الرجل من زوجته إذا قال لها: أنت علىّ كظهر أمي، يريدون أنت محرمة علىّ كما تحرم الأم، وكانوا فى الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم، والأدعياء: واحدهم دعىّ، وهو الذي تدّعى بنوته، وقد كانت تجرى عليه أحكام الابن فى الجاهلية وصدر الإسلام، السبيل: أي طريق الحق، أقسط: أي أعدل، ومواليكم: أي أولياؤكم فيه. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه نبيه بتقواه، والخوف منه، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين، والخوف منهم- ضرب لنا الأمثال ليبين أنه لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه، فذكر أنه ليس للإنسان قلبان حتى يطيع بأحدهما ويعصى بالآخر، وإذا لم يكن للمرء إلا قلب واحد، فمتى اتجه لأحد الشيئين صدّ عن الآخر، فطاعة الله تصدّ عن طاعة سواه، وأنه لا تجتمع الزوجية والأمومة فى امرأة، والبنوة الحقيقية والتبني فى إنسان. روى الشيخان والترمذي والنسائي فى جماعة آخرين عن ابن عمر رضى الله عنهما «أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد ابن حارثة بن شراحيل. وكان من خبره أنه سبى من قبيلته كلب وهو صغير، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، ثم طلبه أبوه وعمه فخيّر بين أن يبقى مع رسول الله، وأن يذهب مع أبيه، فاختار البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقه وتبناه، وكانوا يقولون زيد بن محمد فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وكانت زوجا لزيد وطلقها قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه،

الإيضاح

وهو بنهي عن ذلك، فنزلت الآية لنفى أن يكون للمتبنّى حكم الابن حقيقة فى جميع الأحكام التي تعطى للابن. الإيضاح (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) كان أهل مكة يقولون: إن معمرا الفهرىّ له قلبان لقوة حفظه، وروى أنه كان يقول: إن لى قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، وكانت العرب تزعم أن كل أريب له قلبان، فأكذب الله فى هذه الآية قوله وقولهم: (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي ولم يجعل الله لكم أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهن: أنتنّ علينا كظهور أمهاتنا- أمهاتكم، بل جعل ذلك من قبلكم كذبا وألزمكم عقوبة. وقد كان الرجل فى الجاهلية متى قال هذه المقالة لامرأته صارت حراما عليه حرمة مؤيدة، فجاء الإسلام ومنع هذا التأييد، وجعل الحرمة مؤقتة، حتى يؤدى كفّارة (غرامة) لانتهاكه حرمة الدين، إذ حرم ما أحل الله. (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) أي ولم يجعل الله من ادعى أحدكم أنه ابنه، وهو ابن غيره- ابنا له بدعواه فحسب. وفى هذا إبطال لما كان فى الجاهلية وصدر الإسلام من أنه: إذا تبنى الرجل ابن غيره أجريت عليه أحكام الابن النسبي، وقد تبنىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطّاب عامر بن ربيعة وأبو حذيفة سالما. ثم أكد ما سبق بقوله: (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي هذا الذي تقدم من قول الرجل لامرأته: أنت علىّ كظهر أمي، ودعاء من ليس بابنه أنه ابنه إنما هو قولكم بأفواهكم، لا حقيقة له، فلا تصير الزوجة أمّا، ولا يثبت بهذا الدعاء دعوى النسب.

(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي والله هو الصادق، الذي يقول الحق وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه، وبه تكون المرأة أمّا إذا حكم بذلك، وهو يبين لعباده سبيل الحق، ويهديهم إلى طريق الرشاد، فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عز اسمه. وخلاصة ما سلف: (1) إنه لم ير فى حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لأنه إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر، فأحدهما يكون نافلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، وهذا يؤدى إلى التناقض فى أعمال الإنسان، فيكون مريدا للشىء كارها له، وظانا له موقنا به فى حال واحدة، وهذا لن يكون. (2) إنه لم ير أن تكون المرأة أما لرجل وزوجا له، لأن الأم مخدومة، مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة فى المصالح الزوجية على وجوه شتى. (3) لم يشأ فى حكمته أن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل وابنا له، لأن البنوة نسب أصيل عريق، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع فى الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل. ولما ذكر أنه يقول الحق فصل هذا الحق بقوله: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) أي انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم- لآبائهم، فقولوا: زيد بن حارثة، ولا تقولوا زيد بن محمد، فذلك أعدل فى حكم الله وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي فإن أنتم أيها الناس لم تعرفوا آباء أدعيائكم من هم؟ حتى تنسبوهم إليهم، وتلحقوهم بهم فهم إخوانكم فى الدين إن كانوا قد دخلوا فى دينكم ومواليكم إن كانوا محرّرين أي قولوا: هو مولى فلان، ولهذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة، وكان قد تبناه من قبل.

[سورة الأحزاب (33) : آية 6]

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهى أو بعده نسيانا أو سبق لسان. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) ولكن الجناح والإثم عليكم فيما فعلتموه عامدين. وخلاصة ما سلف: إنه لا إثم عليكم إذا نسبتم الولد لغير أبيه خطأ غير مقصود، كأن سهوتم أو سبق لسانكم بما تقولون، ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال فى الآية: «لو دعوت رجلا لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه» . (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله ستارا لذنب من ظاهر من زوجته، وقال الزور والباطل من القول، وذنب من ادعى ولد غيره ابنا له إذا تابا ورجعا إلى أمر الله وأنتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما رحيما بهما فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما. [سورة الأحزاب (33) : آية 6] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فيما سلف: أن الدعىّ ليس ابنا لمن تبناه، فمحمد صلى الله عليه وسلم ليس أبا لزيد بن حارثة، ثم أعقب ذلك بالإرشاد إلى أن المؤمن أخو المؤمن فى الدين، فلا مانع أن يقول إنسان لآخر: أنت أخى فى الدين- أردف ذلك بيان أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس أبا لواحد من أمته، بل أبوته عامة، وأزواجه أمهاتهم وأبوته أشرف من أبوة النسب لأن بها الحياة الحقيقية، وهذه بها الحياة الفانية، بل

الإيضاح

هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا حضهم على الجهاد ونحوه، فذلك لارتقائهم الروحي، فإذا كيف يستأذن الناس آباءهم وأمهاتهم حين أمرهم صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك، وهو أشفق عليهم من الآباء، بل من أنفسهم. روى البخاري عن أبى هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيّما مؤمن ترك مالا، فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا (عيالا) فليأتنى، فأنا مولاه» . وفى الصحيح أن عمر رضى الله عنه قال: «يا رسول الله، والله لأنت أحب إلىّ من كل شىء إلا من نفسى، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلىّ من كل شىء، حتى من نفسى، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر» . الإيضاح (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي النبي أشد ولاية ونصرة لهم من أنفسهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم فى دنياهم وآخرتهم، أما النفس فإنّها أمارة بالسوء، وقد تجهل بعض المصالح، وتخفى عليها بعض المنافع. ومما يلزم هذا أن يكون حكمه نافذا فيهم، مقدّما على ما يختارونه لأنفسهم، كما قال: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . وخلاصة ذلك: إنه تعالى علم شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي هن منزلات منزلة الأمهات فى الحرمة والاحترام،

والتوقير والإكرام، وفيما عدا ذلك هن كالأجنبيات، فلا يحل النظر إليهن، ولا إرثهن ولا نحو ذلك. وكان التوارث فى بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوى رحمه للأخوّة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين الهجرة، فقد آخى بين أبى بكر رضى الله عنه، وخارجة بن زيد، وآخى بين عمر وشخص آخر، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك، فغيّر الله الحكم بقوله: (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين، وحق المهاجرين بحق الهجرة فيما كتبه الله وفرضه على عباده. والخلاصة: إن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها، وأبطلت حكما شرع لضرورة عارضة فى بدء الإسلام، وهو الإرث بالتآخى فى الدين، والتآخى حين الهجرة بين المهاجرين والأنصار حين كان المهاجرىّ يرث الأنصارىّ دون قرابته وذوى رحمه. ثم استثنى من ذلك الوصية، فقال: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) الأولياء هنا المؤمنون والمهاجرون والمعروف الوصية أي إلا أن توصوا لهؤلاء بوصية، فهم أحق بها من القريب الوارث. ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل فى الإرث، وهو الحكم الثابت فى كتابه الذي لا يغيّر ولا يبدل، فقال: (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي إن هذا الحكم، وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض- حكم من الله مقدر مكتوب فى الكتاب الذي لا يبدل ولا يغير، وإن كان قد شرع غيره فى وقت ما لمصلحة عارضة، وحكمة بالغة، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار فى قدره الأزلى، وقضائه التشريعي.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 إلى 8]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 7 الى 8] وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه فيما سلف أحكاما شرعها لعباده، وكان فيها أشياء مما كان فى الجاهلية، وأشياء مما كان فى الإسلام، ثم أبطلت ونسخت- أتبع ذلك بذكر ما فيه حث على التبليغ، فذكر أخذ العهد على النبيين أن يبلّغوا رسالات ربهم، ولا سيما أولو العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون فى الآية، كما ذكر فى آية أخرى سؤال الله أنبياءه عن تصديق أقوامهم له، ليكون فى ذلك تبكيت للمكذبين من الكفار، فقال: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ» . الإيضاح (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي واذكر أيها الرسول العهد والميثاق الذي أخذه الله على أولى العزم الخمسة بقية الأنبياء ليقيمنّ دينه، ويبلغنّ رسالته، ويتناصرنّ كما قال فى آية أخرى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» . (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) بسؤالهم عما فعلوا حين الإرسال كما قال: «وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» . وقد جرت العادة أن الملك إذا أرسل رسولا، وأمره بشىء وقبله كان ذلك ميثاقا

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 إلى 27]

عليه، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عما يقول ويفعل كان ذلك تغليظا للميثاق، حتى لا يزيد ولا ينقص فى الرسالة. ثم بين علة أخذ الميثاق على النبيين، فقال: (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي وأخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم كيما أسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، وما فعل أقوامهم فيما أبلغوهم عن ربهم من الرسالة. (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي ليسأل الصادقين عن صدقهم، وأعدّ لهم ثوابا عظيما، ويسأل الكاذبين عن كذبهم، وأعدّ لهم عذابا أليما. غزوة الأحزاب- وقعة الخندق [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 27] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المراد بالجنود هنا: الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطّفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السّلمى، وبنو النّضير من اليهود، ورؤساؤهم حيىّ ابن أخطب، وأبناء أبى الحقيق، وبنو قريظة من اليهود أيضا سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنبذه كعب بسعى حيىّ، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف أو نحو ذلك، والجنود التي لم تروها: هى الملائكة من فوقكم: أي من أعلى الوادي من جهة المشرق، وكانوا بنى غطفان، ومن أسفل منكم: أي من أسفل الوادي من قبل المغرب، وكانوا قريشا ومن شايعهم، وبنى كنانة وأهل تهامة، زاغت الأبصار: أي انحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة، وبلغت القلوب الحناجر: يراد به فزعت فزعا شديدا، ابتلى المؤمنون: أي اختبروا وامتحنوا، وزلزلوا زلزالا شديدا: أي اضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدوّ، والذين فى قلوبهم مرض: قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشّبه عليهم لقرب عهدهم بالإسلام، إلا غرورا: أي إلا وعد غرور لا حقيقة له يثرب: من أسماء المدينة، لا مقام لكم: أي لا ينبغى لكم الإنامة هاهنا، عورة: أي ذات عورة لأنها خالية من الرجال فيخاف عليها سرق السّرّاق، والأقطار: واحدها قطر وهو الناحية والجانب، والفتنة:

المعنى الجملي

الردة ومقاتلة المؤمنين، آتوها: أي أعطوها، وما تلبثوا بها: أي وما أقاموا بالمدينة، يعصمكم: أي يمنعكم، المعوّقين: أي المثبطين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هلم إلينا: أي أقبلوا إلينا، والبأس: الشدة، والمراد به هنا الحرب والقتال، أشحة: واحدهم شحيح أي بخيل بالنّصرة والمنفعة، تدور أعينهم: أي تدير أعينهم أحداقهم من شدة الخوف، سلقوكم: أي آذوكم بالكلام، بألسنة حداد: أي ألسنة دربة سلطة تفعل فعل الحديد، أشحة على الخير: أي بخلاء حريصين على مال الغنائم، أحبط الله أعمالهم: أي أبطلها لإضمارهم الكفر، لو أنهم بادون فى الأعراب: أي خارجون إلى العدو مقيمون بين أهله، أسوة: أي قدوة، والمراد به المقتدى به، قضى نحبه: أي فرغ من نذره ووفى بعهده، وصبر على الجهاد حتى استشهد كحمزة، ومصعب بن عمير، والغيظ: أشد الغضب، وكفى الله المؤمنين القتال: أي وقاهم شره، عزيزا: أي غالبا مستوليا على كل شىء، ظاهروهم: أي عاونوهم، من أهل الكتاب: أي من بنى قريظة، من صياصيهم: أي من حصونهم واحدها صيصية وهى كل ما يمتنع به قال الشاعر: فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت ... نساء تميم يبتدرن الصياصيا وقذف: أي ألقى، والرعب: الخوف الشديد. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه عباده بتقواه، وعدم الخوف من سواه- ذكر هنا تحقيق ما سلف فأبان أنه أنعم على عباده المؤمنين، إذ صرف عنهم أعداءهم وهزمهم حين تألّبوا عليهم عام الخندق. وتفصيل هذا على ما قاله أرباب السير: أن نفرا من اليهود قدموا على قريش فى شوال سنة خمس من الهجرة بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاءوا غطفان وقيسا وعيلان، وحالفوا جميع هؤلاء أن يكونوا معهم عليه، فخرجت هذه القبائل ومعها قادتها وزعماؤها.

ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر خندق حول المدينة بإشارة سلمان الفارسي، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وأحكموه وكان رسول الله يرتجز بكلمات ابن رواحة، ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا وفى أثناء العمل برزت لهم صخرة بيضاء فى بطن الخندق فكسرت حديدهم وشقّت عليهم، فلما علم بها صلى الله عليه وسلم أخذ المعول من سلمان وضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها (جانبى المدينة) حتى كأنه مصباح فى جوف بيت مظلم فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وهكذا مرة ثانية وثالثة فكانت تضىء وكان التكبير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضربت ضربتى الأولى فبرق البرق الذي رأيتم فأضاء لى منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتى الثانية، فبرق البرق الذي رأيتم أضاء لى منها قصور قيصر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، فأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ثم ضربت الثالثة فبرق البرق الذي قد رأيتم أضاء لى منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، فأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها، فأبشروا فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلخ، ونزل: (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية. ولما اجتمع هؤلاء الأحزاب الذين حزّبهم اليهود، وأتوا إلى المدينة رأوا الخندق حائلا بينهم وبينها، فقالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ووقعت

مصادمات بين القوم كرّا وفرّا، فمن المشركين من كان يقتحم الخندق فيرمى بالحجارة، ومنهم من كان يقتحمه بفرسه فيهلك. ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه أنه أسلم وأن قومه لم يعلموا بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة، فأتى قريظة وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان إلا إذا أخذتم منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم تقيّة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا، لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، وذهب إلى قريش وإلى غطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنا يدفعونها لمحمد، فيضرب أعناقهم، ويتحدون معه على قتالكم، لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد وتابوا، وهذا هو المخرج الذي اتفقوا عليه. وحينئذ تخاذل اليهود والعرب، ودبّ بينهم دبيب الفشل. ومما زاد فى فشلهم أن بعث الله عليهم ريحا فى ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم، وتطرح آنيتهم. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يصلى على التّل الذي عليه مسجد الفتح، ثم يلتفت ويقول: هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ فعل ذلك ثلاث مرات، فلم يقم رجل واحد، من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فدعا حذيفة بن اليمان وقال: ألم تسمع كلامى منذ الليلة؟ قال حذيفة: فقلت يا رسول الله منعنى أن أجيبك الضّر والقرّ، قال: انطلق حتى تدخل فى القوم، فتسمع كلامهم وتأتينى بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، حتى تردّه إلىّ، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتينى، فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همّى وغمى وكربى، فقد ترى حالى وحال أصحابى فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك، وكفاك هول عدوك، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم على

الإيضاح

ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: شكرا شكرا كما رحمتنى ورحمت أصحابى، وذهب حذيفة إلى القوم، فسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإنى مرتحل، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت أنيابه فى سواد الليل. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي تذكروا أيها المؤمنون نعم الله التي أسبغها عليكم حين حوصرتم أيام الخندق، وحين جاءتكم جنود الأحزاب من قريش وغطفان، ويهود بنى النضير الذين كانوا أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، فأرسلنا عليهم ريحا باردة فى ليلة باردة أحصرنهم، وسفت التراب فى وجوههم، وأمر ملائكته، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها فى بعض، وقذف الرعب فى قلوب الأعداء، حتى قال طليحة بن خويلد الأسدى: إن محمدا قد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال. قال حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتى بخبر القوم: خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت فى ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم (أبو سفيان) يقول: الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الرجل فى عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا، فو الله إنى لأسمع صوت الحجارة فى رحالهم وفرشهم، والريح تضربهم ثم رجعت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما صرت فى منتصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمّين قالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاك القوم.

والخلاصة: إنه تعالى يمتنّ على عباده المؤمنين بذكر النعم التي أنعم بها عليهم، إذ صرف عنهم أعداءهم حين تألبوا عليهم وتحزبوا عام الخندق. (وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي وكان الله عليما بجميع أعمالكم من حفركم للخندق، وترتيب وسائل الحرب لإعلاء كلمته، ومقاساتكم من الجهد والشدائد ما لا حصر له، بصيرا بها لا يخفى عليه شىء منها، وهو يجازيكم عليها «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . ثم زاد الأمر تفصيلا وبيانا، فقال: (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي حين جاءتكم الأحزاب من أعلى الوادي من جهة المشرق، وكانوا من غطفان، ومن تابعهم من أهل نجد، ومن بنى قريظة والنضير من اليهود، ومن أسفله من قبل المغرب، وكانوا من قريش، ومن شايعهم من الأحابيش، وبنى كنانة وأهل تهامة. (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) أي وحين مالت الأبصار عن سننها، وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة، وخاف الناس خوفا شديدا، وفزعوا فزعا عظيما، وظنوا مختلف الظنون، فمنهم مؤمن مخلص يستنجز الله وعده فى إعلاء دينه ونصرة نبيه، ويقول: هذا ما وعدنا الله ورسوله، ومنهم منافق وفى قلبه مرض يظن أن محمدا وأصحابه سيستأصلون، ويستولى المشركون على المدينة، وتعود الجاهلية سيرتها الأولى، إلى نحو ذلك من ظنون لا حصر لها تجول فى قلوب المؤمنين والمنافقين، على قدر ما يكون القلب عامرا بالإخلاص مكتوبا له السعادة أو متشككا فى اعتقاده ليست له عزيمة صادقة. ثم ذكر أن هذه الشدائد محّصت المؤمنين، وأظهرت المنافقين. (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً) أي حين ذاك اختبر الله المؤمنين ومحصنهم أشد التمحيص، فظهر المخلص من المنافق، والراسخ الإيمان من المتزلزل، واضطربوا اضطرابا شديدا من الفزع وكثرة العدو.

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) أي وحين قال المنافقون كمعتّب بن قشير، والذين فى قلوبهم ضعف فى الإيمان لقرب عهدهم بالإسلام: ما وعدنا الله ورسوله من الظفر والنصر على العدو إلا وعدا باطلا بغرّنا به ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، ويسلخنا عن دين آبائنا، ويقول: إن هذا الدين سيظهر على الدين كله، وإنه سيفتح لنا فارس والروم، وها نحن أولاء قد حصرنا هاهنا حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته. (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) أي وحين قالت جماعة من المنافقين كعبد الله بن أبىّ وأصحابه: يا أهل المدينة ليس هذا المقام بمقام لكم فارجعوا إلى منازلكم ليكون ذلك أسلم لكم من القتل. وقد يكون المعنى: لا مقام لكم فى دين محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك وأسلموا محمدا إلى أعدائه. (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي ويطلب جماعة منهم من النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى بيوتهم وتركهم للقتال، وهم بنو حارثة، معتذرين بمختلف المعاذير كقولهم: إن بيوتنا مما يلى العدو ذليلة الحيطان يخاف عليها من السرّاق، والحقيقة أنهم كاذبون فيما يقولون، وهم مضمرون غير ذلك. ثمّ بين السبب الحقيقي لهذه المقالة، فقال: (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي وما يريدون بالاستئذان إلا الفرار من القتال والهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم مساعدة المؤمنين. ثم بين وهن الدين وضعفه فى قلوبهم إذا ذاك، وأنه معلق بخيط دقيق ينقطع بأدنى هزة، فقال: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي ولو دخل عليهم الأحزاب من جوانب بيوتهم، ثم طلبوا إليهم أن يرتدوا عن دينهم ويرجعوا إلى شركهم بربهم- لفعلوا ذلك مسرعين من شدة الهلع والجزع.

وفى هذا إيماء إلى أن الإيمان لا قرار له فى نفوسهم، ولا أثر له فى قلوبهم، فهو لا يستطيع مقابلة الصعاب، ولا مقاومة الشدائد، فلا تعجب لاستئذانهم وطلبهم الهرب من ميدان القتال. والخلاصة: إن شدة الخوف والهلع الذي تمكن فى قلوبهم مع خبث طويتّهم، وإضمارهم النفاق- تحملهم على الإشراك بالله والرجوع إلى دينهم عند أدنى صدمة تحصل لهم من العدو، فإيمانهم طلاء ظاهرى لا أثر له فى نفوسهم بحال، فلا عجب إذا هم تسللوا لواذا، وبلغ الخوف من نفوسهم كل مبلغ. ثم بين أن لهم سابقة عهد بالفرار وخوف اللقاء من الكماة، فقال: (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي ولقد كان هؤلاء المستأذنون وهم بنو حارثة قد هربوا يوم أحد وفرّوا من لقاء عدوهم، ثم تابوا وعاهدوا الله ألا يعودوا إلى مثلها وألا ينكثوا على أعقابهم حين قتالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بين ما للعهد من حرمة فقال: (وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) أي وعهد الله يسأل عن الوفاء به يوم القيامة ويجازى عليه. ثم أمر الله رسوله أن يقول لهم: إن فراركم لا يؤخر آجالكم، ولا يطيل أعماركم، فقال: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي قل لهؤلاء المستأذنين الفارّين من قتال العدو ومنازلته فى الميدان: لن ينفعكم الهرب ولا يدفع عنكم ما أبرم فى الأزل من موت أحدكم حتف أنفه، أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدّر كائن لا محالة والأجل إن حضر لم يتأخر بالفرار، وكان علىّ يقول عند اللقاء: دهم الأمر، وتوقّد الجمر.

أىّ يومى من الموت أفرّ ... يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجى الحذر (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم الموت فمتّعتم لم يكن ذلك التمتع إلا قليلا، فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، فعمر تأكله الدقائق قليل وإن كثر، ولله درّ أحمد شوقى إذ يقول: دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثوانى ولما كانوا ربما يقولون: بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم- أمره الله بالجواب عن هذا، فقال: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي قل لهم: لا أحد يستطيع أن يمنع عنكم شرا من قتل أو بلاء قدره الله عليكم، أو يؤتيكم خيرا إن لم يكن أراده لكم. والخلاصة: هل احترزتم فى جميع أعمالكم عن سوء فنفعكم الاحتراز، أو اجتهد غيركم فى منع الخير عنكم فتمّ له ما أراد؟. وإجمال القول: إن النفع والضر بيده سبحانه، وليس لغيره فى ذلك تصريف ولا تبديل. ثم أكد هذا بقوله: (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ولا يجد هؤلاء المنافقون وليا ينفعهم غير الله، ولا نصيرا يدفع السوء عنهم. وبعد أن أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بمقالة المنافقين لأهل المدينة، وأمره بوعظهم- حذّرهم بدوام علمه بمن يخون الله ورسوله بقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي إن ربك أيها الرسول ليعلم حق العلم من يثبّطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصدونهم

عنه، وعن شهود الحرب معه نفاقا منهم وتخذيلا عن الإسلام، ويعلم الذين يقولون لأصحابهم وخلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الظلال والثمار، ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه مشهدا، فإنا نخاف عليكم الهلاك. قال قتادة: كان المنافقون يقولون لإخوانهم من ساكنى المدينة من الأنصار: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس (يريدون أنهم قليلو العدد) ولو كانوا لحما لا لتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فدعوه فإنه هالك. (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولا يأتون الحرب إلا زمنا قليلا، فقد كانوا لا يأتون المعسكر إلا ليراهم المخلصون، فإذا غفلوا عنهم تسللوا لواذا وعادوا إلى بيوتهم ثم ذكر بعض معايبهم من البخل والخوف والفخر الكاذب، فقال: (1) (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة، فهم لا يودون مساعدتكم لا بنفس ولا بمال. (2) (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي فإذا بدأ الخوف بكرّ الشجعان وفرّهم فى ميدان القتال- رأيتهم ينظرون إليك وقد دارت أعينهم فى رءوسهم فرقا وخوفا كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه، فإنه إذ ذاك يذهب لبّه، ويشخص بصره، فلا يتحرك طرفه. (3) (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي فإذا كان الأمن تكلموا فصيح الكلام، وفخروا بما لهم من المقامات المشهودة فى النجدة والشجاعة، وهم فى ذلك كاذبون. قال قتادة: أمّا عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة، يقولون: أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذ له للحق اهـ. ثم بين ما دعاهم إلى بسط ألسنتهم فيهم، فقال:

(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي هم بخلاء حريصون على الغنائم إذا ظفر بها المؤمنون، لا يريدون أن يفوتهم شىء مما وصل إلى أيديهم. والخلاصة: إنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء. أفي السلم أعيار جفاء وغلظة ... وفى الحرب أمثال النساء العواتك وبعد أن وصفهم بما وصفهم به من دنىء الصفات- بيّن ما دعاهم إليها، وهو قلة ثقتهم بالله لعدم تمكن الوازع النفسي فى قلوبهم، فقال: (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ) أي هؤلاء الذين بسطت أوصافهم لم يصدّقوا الله ورسوله، ولم يخلصوا له العمل، لأنهم أهل نفاق، فأبطل الله أعمالهم، وأذهب أجورها، وجعلها هباء منثورا. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي وكان ذلك الإحباط هيّنا على الله لا يبالى به إذ هم قوم فعلوا ما يستوجبه ويستدعيه، فاقتضت حكمته أن يعاملهم بما يقتضيه عدله وتدل عليه حكمته. ثم أبان مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم، فقال: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي هم من شدة الهلع والخوف، وعظيم الدهشة والحيرة، لا يزالون يظنون أن الأحزاب من غطفان وقريش لم يرحلوا، وقد هزمهم الله ورحلوا، وتفرقوا فى كل واد. وإجمال القول: إنهم لما لم يقاتلوا لجبنهم، وضعف إيمانهم، فكأنهم غائبون، فظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد كانوا راحلين منهزمين لا يلوون على شىء. (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي وإن يأت الأحزاب ويعودوا مرة أخرى تمنّوا أن لو كانوا مقيمين فى البادية بعيدين عن المدينة، حتى لا ينالهم أذى ولا مكروه، ويكتفون بأن يسألوا عن أخباركم كل قادم من جانب المدينة، وفى هذا كفاية لديهم لجبنهم، وخور عزائمهم. (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) أي ولو كان هؤلاء المنافقون فيكم فى الكرة

السابقة، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان القتال قتال جلاد وكرّ وفرّ، وطعن وضرب، ومحاربة بالسيوف، ومبارزة فى الصفوف- ما قاتلوا إلا قتالا يسيرا رياء وخوفا من العار، لا قتالا يحتسبون فيه الثواب من الله وحسن الأجر. وبعد أن فصّل أحوالهم، وشرح نذالتهم، وعظيم جبنهم- عاتبهم أشد العتب، وأبان لهم أنه قد كان لهم برسول الله معتبر لو اعتبروا، وأسوة حسنة لو أرادوا التأسى، فقال: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) أي إن المثل العالية، والقدوة الحسنة ماثلة أمامكم لو شئتم، فتحتذون الرسول فى أعماله، وتسيرون على نهجه لو كنتم تبتغون ثواب الله، وتخافون عقابه إذا أزفت الآزفة، وعدم النصير والمعين، إلا العمل الصالح، وكنتم تذكرون الله ذكرا كثيرا، فإن ذكره يؤدى إلى طاعته، ويحقق الائتساء برسوله. وخلاصة ذلك: هلا اقتديتم بالرسول، وتأسيتم بشمائله؟. ولما ذكر سبحانه حال المنافقين- ذكر حال المؤمنين حين لقاء الأحزاب، فقال: (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) أي ولما أبصر المؤمنون الصادقون المخلصون لله فى القول والعمل- الأحزاب الذين أدهشت رؤيتهم العقول، وتبلبلت لها الأفكار، واضطربت الأفئدة- قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار الذي يعقبه النصر فى نحو قوله: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» وقوله: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم» وقوله: «إنهم سائرون إليكم تسعا أو عشرا» أي فى آخر تسع ليال أو عشر من حين الإخبار.

وصدق الله ورسوله فى النصرة والثواب، كما صدق الله ورسوله فى البلاء والاختبار، ومازادهم ذلك إلا صبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، وتصديقا بتحقيق ما كان الله ورسوله قد وعدهم. ثم وصف سبحانه بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء، واحتملوا البأساء والضراء، فقال: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) أي ومن المؤمنين بالله، المصدقين برسوله، رجال أوفوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر فى اللأواء وحين البأساء، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض فى غير هذه المواطن، ومنهم من ينتظر قضاءه والفراغ منه كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده، وما غيّروه وما بدلوه. أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي فى جماعة آخرين عن أنس قال: «غاب عمى أنس بن النضر عن بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أرانى الله تعالى مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرينّ الله تعالى ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ رضى الله عنه، فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد فى جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إلخ. وروى صاحب الكشاف أن رجالا من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، وحمزة ومصعب بن عمير، وجمع غيرهم. ثم بيّن العلة فى هذا الابتلاء والتمحيص، فقال: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)

أي إنه سبحانه إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر كل منهما جليا واضحا كما قال: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» وقال: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» ثم يثيب أهل الصدق منهم بصدقهم بما عاهدوا الله عليه، ووفائهم له به، ويعذب المنافقين الناقضين لعهده، المخالفين لأوامره، إذا استمروا على نفاقهم حتى يلقوه، فإن تابوا ونزعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال غفر لهم ما أسلفوا من السيئات، واجترحوا من الآثام والذنوب. ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هى الغالبة قال: (إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنه تعالى من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفى هذا حثّ عليها فى كل حين، وبيان نفعها للتائبين. ثم رجع يحكى بقية القصص وفصّل ذلك تتميما للنعمة التي أشار إليها إجمالا بقوله: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها» ووسط بينهما بإيضاح ما نزل بهم من الطامة التي تحير العقول والأفهام، والداهية التي نزلت فيها الأقدام، وما صدر من من الفريقين المؤمنين وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال، لإظهار عظمة النعمة، وإبانة جليل خطرها، ومجيئها حين اشتداد الحاجة إليها فقال: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي فأرسلنا ريحا وجنودا لم تروها، ورددنا الذين كفروا بالله ورسوله من قريش وغطفان بغمّهم، بفوت ما أمّلوا من الظفر، وخيبتهم فيما كانوا طمعوا فيه من الغلبة والنصر على محمد وصحبه، إذ لم يصيبوا مالا ولا إسارا، ولم يحتج المؤمنون إلى منازلتهم ومبارزتهم لإجلائهم عن بلادهم، بل كفى الله المؤمنين القتال، ونصر عبده، وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فلا شىء بعده.

روى الشيخان من حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شىء بعده» . ورويا أيضا عن عبد الله بن أوفى قال: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: اللهم منزّل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» . وروى محمد بن إسحاق أنه لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» وقد تحقق هذا فلم تغزهم قريش بعد ذلك، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم حتى فتح الله تعالى مكة. (وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) أي وكان الله عزيزا بحوله وقوته، فردّهم خائبين لم ينالوا خيرا. ولما قص أمر الأحزاب وذكر ما انتهى إليه أمرهم ذكر حال من عاونوهم من اليهود فقال: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) أي وأنزل الله يهود بنى قريظة الذين عاونوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم بعد أن نقضوا العهد بسفارة حيىّ بن أخطب النضيري، إذ لم يزل بزعيمهم كعب بن أسد حتى نقض العهد وكان مما قاله له: جئتك بعزّ الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه، فقال له كعب: بل والله جئتنى بذلّ الدهر، ويحك يا حيىّ إنك مشئوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل له فى الذورة والغارب (يخادعه) حتى أجابه، واشترط له حيىّ إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شىء أن يدخل معهم فى الحصن فيكون أسوتهم. ولما أيد الله المؤمنين وكبت أعداءهم وردهم خائبين ورجعوا إلى المدينة ووضع الناس

السلاح- أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن انهض إلى بنى قريظة من فورك، فأمر الناس بالسير إليهم، وكانوا على أميال من المدينة بعد صلاة الظهر وقال صلى الله عليه وسلم «لا يصلينّ أحد منكم العصر إلا فى بنى قريظة» فسار الناس فأدركتهم الصلاة، فصلى بعض فى الطريق، وقال آخرون: لا نصليها إلا فى بنى قريظة فلم يعنّف واحدا من الفريقين. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) أي وألقى الرعب فى قلوبهم حين نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس لأنهم كانوا حلفاءهم، فأحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هؤلاء نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت، فقال رضى الله عنه: وحكمى نافذ فيهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» فقال إنى أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله» ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدّت فى الأرض وجيء بهم مكتوفى الأيدى فضربت أعناقهم وكانوا ما بين سبعمائة وثمانمائة وسبى من لم ينبت منهم مع النساء، وسبى أموالهم. والخلاصة- إنه قذف الرعب فى قلوبهم، حتى أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر. (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي وأورثكم مزارعهم ونخيلهم، ومنازلهم وأموالهم التي ادّخروها، وما شبتهم من كل ثاغية وراغية، وأرضا لم تطئوها وهى الأرضون التي سيفتحها المسلمون حتى يوم القيامة، قاله عكرمة واختاره أبو حيان. (وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي وكان الله قديرا على أن يورّثكم ذلك، وعلى أن ينصركم عليهم، إذ لا يتعذر عليه شىء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شىء شاءه.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 إلى 30]

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) تفسير المفردات زينة الدنيا: زخرفها ونعيمها، فتعالين: أي أقبلن باختياركن واخترن أحد الأمرين، أمتعكن: أي أعطكن المتعة، وهى قميص وغطاء للرأس وملحفة- ملاءة- بحسب السعة والإقتار، وأسرحكن: أي أطلقكن، سراحا جميلا: أي طلافا من غير ضرار ولا مخاصمة ولا مشاجرة، بفاحشة: أي فعلة قبيحة كنشوز وسوء خلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله، مبينة: أي ظاهرة القبح من قولهم: بيّن كذا بمعنى ظهر وتبين، ضعفين: أي ضعفى عذاب غيرهن أي مثليه، يسيرا: أي هيّنا لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي، بل هذا سبب له. المعنى الجملي بعد أن نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فردّ عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه رضى الله عنهن أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن يا رسول الله: بنات كسرى وقيصر فى الحلي والحلل، والإماء والخول- الخدم والحشم- ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف بمطالبهن من توسعة الحال ومعاملتهن معاملة نساء الملوك وأبناء الدنيا من التمتع بزخرفها من المأكل والمشرب ونحو ذلك فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل فى شأنهن:

روى أحمد عن جابر رضى الله عنه قال: «أقبل أبو بكر رضى الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضى الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبى بكر وعمر رضى الله عنهما فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر لأكلمنّ النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، قال: يا رسول الله! لو رأيت ابنة زيد- امرأة عمر- سألتنى النفقة آنفا فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال «هنّ حولى يسألننى النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضى الله عنها فقال لها إنى أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلى فيه حتى تستأمرى أبويك، قالت وما هو؟ فتلا عليها: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ» الآية. قالت عائشة رضى الله عنها: أفيك أستأمر أبوىّ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى لم يبعثنى معنّفا ولكن بعثني معلّما ميسرا، لا تسألنى امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» رواه مسلم والنسائي. ثم وعظهن بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وخصهن بأحكام يجدر بمثلهن أن يستمسكن بها لما لهنّ من مركز ممتاز بين نساء المسلمين، لأنهن أمهات المؤمنين، وموضع التجلّة والكرامة، إلى أنهن فى بيت صاحب الدعوة الإسلامية، ومنه انبعث نور الهدى والطهر والعفاف، فأجدر بهن أن يكنّ المثل العليا فى ذلك، ويكنّ قدوة يأتسى بهن نساء المؤمنين جميعا، ويا لها منقبة أوتيت لهن دون سعى ولا إيجاف منهن، بل هى منحة أكرمهن الله بها، فله الحمد فى الآخرة والأولى.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا) أي يا أيها الرسول قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن إحدى خلتين: أولاهما أن تكنّ ممن يحببن لذّات الدنيا ونعيمها والتمتع بزخرفها فليس لكنّ عندى مقام، إذ ليس عندى شىء منها، فأقبلن علىّ أعطكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق، تطييبا لخاطرهن وتعويضا لهن عما لحقهن من ضرر بالطلاق، وهى كسوة تختلف بحسب الغنى والفقر واليسار والإقتار كما قال تعالى: «وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ» ثم أسرحكن وأطلقن على ما أذن الله به وأدّب به عباده بقوله: «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة: خمس من قريش: عائشة وحفصة وأمّ حبيبة وسودة وأم سلمة رضى الله عنهن وأربع من غير القرشيات: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وصفيّة بنت حيىّ بن أخطب النضيرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. وحين نزلت هذه الآية عرض عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبدأ بعائشة وكانت أحبّ أهله إليه فخيّرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تابعها بقية نسائه. ثم ذكر ثانية الخلتين فقال: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) أي وإن كنتن تردن رضا الله ورضا رسوله وثواب الدار الآخرة فأطعنهما فإن الله أعد للمحسنات منكن فى أعمالهن القولية والفعلية ثوابا عظيما تستحقر الدنيا وزينتها دونه، كفاء إحسانهن.

والخلاصة- أنتنّ بين أحد أمرين: أن تقمن مع الرسول وترضين بما قسم لكن وتطعن الله، وأن يمتعكن ويفارقكن إن لم ترضين بذلك. وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله- أتبع ذلك بعظتهن وتهديدهن إذا هن فعلن ما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم وأوعدهن بمضاعفة العذاب فقال: (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أي من يعص منكن الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلب ما يشق عليه ويضق به ذرعا ويغتم لأجله- يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين، أي تعذب ضعفى عذاب غيرها، لأن قبح المعصية منهن أشد، ومن ثم كان ذم العقلاء للعالم العاصي أشد منه للجاهل العاصي، وكان ذلك سهلا يسيرا على الله الذي لا يحابى أحدا لأجل أحد، إذ كونهن نساء رسوله ليس بمغن عنهن شيئا، بل هو سبب لمضاعفة العذاب. روى أن رجلا قال لزين العابدين رضى الله عنه: إنكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب وقال: نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله فى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أن نكون كما قلت، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي بعدها. وإلى هنا تم ما أردنا من تفسير هذا الجزء من كلام ربنا القديم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وكان الفراغ من مسودّته صبيحة يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 5 جدال المشركين بالغلظة، وجدال أهل الكتاب بالحسنى 5 فى الحديث «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم 6 الحكمة فى كون الرسول أميا. 6 لا يكذب بالقرآن إلا من يستر الحق بالباطل. 7 فى الحديث «ما من نبى إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر» . 8 طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم 10 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين كفى 12 استعجال المشركين لنزول العذاب. 12 بيان جهلهم فى هذا الاستعجال. 13 الأمر بالهجرة عند خوف الفتنة فى الدين. 15 الموت فى كل حين ينشد الكفنا. 15 جزاء المؤمنين الصالحين الصابرين المتوكلين. 17 المشركون لا ينكرون أن الله خالق السموات والأرض. 17 سعة الرزق وضيقه بحسب السنن التي وضعت فى الكون 19 الدنيا لعب ولهو، والحياة الحقة هى دار الآخرة. 21 كان المشركون إذا اشتدّ بهم الخوف دعوا الله، وإذا أمنوا 21 معرفة الله فى فطرة كل إنسان. 22 الامتنان على قريش بسكنى حرم الله. 23 مثوى الكافرين جهنم وبئس القرار. 23 الذين اهتدوا يزيدهم الله هدى. 24 الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. 25 خلاصة ما تضمنته سورة العنكبوت. 26 الصلة بين سورتى العنكبوت والروم. 27 فرح المشركين بغلبة فارس للروم. 27 الخطر الذي قدّمه أبو بكر لمن ناحبه. 28 الحروف المقطعة فى أوائل السور. 28 غلبة الروم لفارس كما وعد الله، وفرح المؤمنين بذلك. 29 الكافرون غافلون عن الآخرة. 30 الأدلة متظاهرة فى الأنفس والآفاق على وحدانية الله. 32 يوم تقوم الساعة يتفرق الناس، ففريق فى الجنة وفريق 34 ما يوصل إلى الجنة ويبعد عن النار. 36 صفات الإله المستحق للثناء والتقديس. 37 الأدلة على البعث والإعادة فى خلق الإنسان. 39 الأدلة فى الأكوان المشاهدة والعوالم المختلفة. 42 فى الحديث «كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك» إلخ 43 ضرب الأمثال على الوحدانية 45 أمره صلى الله عليه وسلم بعدم المبالاة بأمر المشركين 46 العقل الإنسانى كصحيفة بيضاء قابلة لكل نقش 47 فى الحديث «اعبد الله كأنك تراه» إلخ. 47 اختلف أهل الأديان فرقا وشيعا. 51 أمره صلى الله عليه وسلم بالإنفاق على ذوى القربى 54 تهديد المشركين بالنظر إلى أن من كان قبلهم كانت عاقبتهم 58 الأدلة على وجود الخالق ووحدانيته. 60 البرهان على البعث والنشور. 64 من الأدلة على وجود الخالق تنقل الإنسان فى أطوار مختلفة 66 يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة. 67 يوم القيامة لا ينفع الظالمين معاذيرهم عما فعلوا 68 الرسول أدى واجبه ومن خالفه فهو معاند. 69 أمره صلى الله عليه وسلم بتلقى المكاره بصدر رحب وسعة 70 خلاصة ما احتوت عليه سورة الروم من الموضوعات 71 المناسبة بين سورتى الروم ولقمان. 72 القرآن هدى ورحمة للمحسنين. 73 ما كان يفعله النضر بن الحارث عند سماع القرآن. 74 آراء العلماء فى سماع الغناء.

75 جواز استعمال الطبل والدفّ فى إعلان النكاح. 77 الاستدلال على وحدانية الله. 78 حكمة لقمان. 79 عظة لقمان لابنه. 82 وصيته سبحانه بحسن معاملة الوالدين. 82 تأكيد الوصية بالأم خاصة. 83 حديث سعد بن أبى وقاص مع أمه. 84 وصية لقمان لابنه بإقامة الصلاة. 85 تحذيره لابنه من تصعير الخد مرحا. 86 الأمر بغضّ الصوت. 89 تقليد المشركين للآباء والأجداد. 90 حال المستسلم المفوض أمره إلى الله. 92 المشركون يقرون بأن خالق السموات والأرض هو الله. 94 عظمة الله لا يحيط بها أحد. 97 الدلائل الأرضية على وحدانية الله سبحانه. 98 الأمر بتقوى الله وخشيته خوفا من ذلك اليوم الذي لا ينفع. 99 التحذير من غرور الدنيا والشيطان. 100 خمس لا يعلمهن إلا الله. 101 مجمل سورة لقمان. 102 وجه اتصال السجدة بلقمان. 104 الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم. 105 ماذا يراد باليوم الذي هو كألف سنة؟. 105 أطوار خلق الإنسان. 106 استبعاد المشركين للبعث وأسباب ذلك. 108 حال المشركين حين معاينة العذاب. 110 علامات أهل الإيمان. 115 مآل المؤمن والكافر. 116 انتقام الله من المجرمين. 118 أدلة التوحيد. 120 استبعاد المشركين حصول النصر للنبى صلى الله عليه وسلم 122 مجمل ما اشتملت عليه سورة السجدة. 123 سورة الأحزاب. 124 أمر النبي بتقوى الله ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين. 125 أمر النبي بالتوكل عليه وتفويض الأمور إليه وحده. 126 لا يجتمع خوف من الله وخوف من سواه. 127 لا تجتمع الزوجية والأمومة فى امرأة. 129 أبوة محمد صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أشرف لهم من أبوّة 130 قال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلىّ من كل شىء إلخ 131 كان التوارث فى بدء الإسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين 132 أخذ الميثاق على الرسل. 133 غزوة الأحزاب- وقعة الخندق. 137 سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن تدبيره فى هذه الموقعة 140 الشدائد تمحص المؤمن وتظهر نفاق المنافق. 141 تحريض المنافقين للجند بالفرار من الموقعة. 142 لا ينفع حذر من قدر. 143 النفع والضر بيد الله. 144 ذكر معايب المنافقين. 145 وصف المنافقين. 146 حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب. 147 بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء. 148 كفى الله المؤمنين القتال. 149 ذكر ما حل باليهود بعد الموقعة. 150 اليهود أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر. 151 تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه. 152 وعظ نساء النبي وتخصيصهن بأحكام يجدر بمثلهن أن

تتمة سورة الأحزاب

الجزء الثاني والعشرون [تتمة سورة الأحزاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحزاب (33) : آية 31] وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) شرح المفردات يقنت: أي يخشع ويخضع، وأعتدنا: هيأنا وأعددنا، كريما: أي سالما من الآفات والعيوب. المعنى الجملي بعد أن ذكر زيادة عقابهن إذا أتين بفاحشة مبينة، أتبعه بذكر ثوابهن إذا هن عملن صالح الأعمال- مع ما هيأه لهن من الرزق الكريم فى الدنيا والآخرة، ففى الدنيا يوفّقن إلى إنفاق ما يرزقن على وجه يكون لهن فيه عظيم الأجر والثواب، ولا يخشين من أجله العقاب، وفى الآخرة يرزقن ما لا يحدّ ولا يوصف من غير نكد ولا كدر.

الإيضاح

الإيضاح (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي ومن تطع منكنّ الله ورسوله وتعمل صالح الأعمال نضاعف لها الأجر والمثوبة، لكرامتها علينا بوجودها فى بيت النبوة ومنزل الوحى ونور الحكمة وعين الهداية. (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) أي وزيادة على هذا أعددنا لها الكرامة فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فلأنها تكون مرموقة بعين الغبطة لدى نساء العالمين، منظورا إليها نظرة المهابة والإجلال، وأما فى الآخرة فلها رفيع الدرجات، وعظيم المنازل عنده تعالى فى جنات النعيم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 32 الى 34] يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) تفسير المفردات أصل أحد وحد بمعنى الواحد وهو فى النفي عام للمذكر والمؤنث، والواحد والكثير: أي لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء، فإذا استقرئت أمّة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والمسابقة، والاتقاء بمعنى الاستقبال، وهو بهذا المعنى معروف فى اللغة قال النابغة: سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد

المعنى الجملي

أي استقبلتنا باليد قاله أبو حيان فى البحر، ومنه قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ» : فلا تخضعن بالقول: أي فلا تجبن بقول خاضع ليّن، أي إذا استقبلتن أحدا فلا تلنّ الكلام ولا ترققنه، مرض: أي ريبة وفجور، قولا معروفا: أي حسنا بعيدا من الريبة غير مطمع لأحد، قرن: من قرّ يقرّ من باب علم وأصله اقررن دخله الحذف، والتبرج: إبداء المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، والجاهلية الأولى: هى الجاهلية القديمة جاهلية الكفر قبل الإسلام، وهناك جاهلية أخرى هى جاهلية الفسوق فى الإسلام، والرجس: فى الأصل الشيء القذر والمراد به هنا الإثم المدنّس للعرض، واذكرن ما يتلى فى بيوتكن: أي وعظن الناس بما يتلى فى بيوتكنّ، وآيات الله: هى القرآن، والحكمة: هى السنة وحديث الرسول. المعنى الجملي بعد أن أذكر ما اختص به أمهات المؤمنين من مضاعفة العذاب والثواب، أردف ذلك بيان أن لهن مكانة على بقية النساء، تم نهاهن عن رخامة الصوت ولين الكلام إذا هن استقبلن أحدا حتى لا يطمع فيهن من فى قلبه نفاق، ثم أمرهن بالقرار فى بيوتهن ونها هن عن إظهار محاسنهن كما يفعل ذلك أهل الجاهلية الأولى، ثم أمرهنّ بأهمّ أركان الدين، وهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما يأمر وينهى، لأنه تعالى أذهب الآثام عن أهل البيت وطهرهم تطهيرا، ثم أمرهن بتعليم غيرهن القرآن وما يسمعنه من النبي صلى الله عليه وسلم من السنة. الإيضاح (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أي يا نساء النبي إذا استقصيت النساء جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والكرامة. والخلاصة- إنه لا يشبهكن أحد من النساء ولا يلحقكنّ فى الفضيلة والمنزلة.

(إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً) أي إذا استقبلتن أحدا من الرجال فلا ترقّقن الكلام فيطمع فى الخيانة من فى قلبه فساد وريبة من فسق ونفاق، وقلن قولا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد. وتفسير الاتقاء بهذا المعنى أبلغ فى مدحهن، إذ لم يعلق فضلهن على التقوى، ولا نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله فى أنفسهن، والتعليق يقتضى بظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى قاله فى البحر، وقال فى الكشاف: إن المعنى إن أردتن التقوى، أو إن كنتن متقيات اهـ، يريد إن اتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم. وإجمال هذا- خاطبن الأجانب بكلام لا ترخيم فيه للصوت ولا تخاطبنهم كما تخاطبن الأزواج. ولما أمرهن بالقول المعروف أتبعه بذكر الفعل فقال: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أي الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، وهو أمر لهن ولسائر النساء، أخرج الترمذي والبزّار عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهى فى قعر بيتها» . (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي ولا تبدين زينتكن ومحاسنكن للرجال كما كان النساء يفعلن ذلك فى الجاهلية قبل الإسلام. وبعد أن نهاهن عن الشر أمرهن بالخير فقال: (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وأدّين الصلاة على الوجه القيّم المعتبر شرعا، وأعطين زكاة أموالكن كما أمركن الله. وخص هاتين العبادتين بالذكر لما لهما من كبير الآثار فى طهارة النفس وطهارة المال.

وأطعن الله ورسوله فيما تأتين وما تذرن، واجعلن نصب أعينكن اتباع الأوامر وترك النواهي. ثم ذكر السبب فى هذه الأوامر والنواهي على وجه عام فقال: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت الرسول ويطهركم من دنس الفسق والفجور الذي يعلق بأرباب الذنوب والمعاصي. وأهل بيته صلى الله عليه وسلم من كان ملازما له من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان المرء منهم أقرب وبالنبي أخصّ وألزم كان بالارادة أحق وأجدر. وعن ابن عباس قال: «شهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر يأتى كل يوم باب على بن أبى طالب عند وقت كل صلاة فيقول: «السلام عليكم ورحمة الله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، الصلاة يرحمكم الله، كل يوم خمس مرات» . ثم بين ما أنعم به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحى بقوله: (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) أي واذكرن نعمة الله عليكن، بأن جعلكن فى بيوت تتلى فيها آيات الله وما ينزل على الرسول من أحكام الدين ولم ينزل به قرآن، فاحمدن الله على ذلك واشكرنه على جزيل فضله عليكن. ولا يخفى ما فى هذا من الحث على الانتهاء والائتمار فيما كلّفنه، كما لا يخفى ما فى تسمية ما نزل عليه من الشرائع بالحكمة، إذ فيه الحكمة فى صلاح المجتمع فى معاشه ومعاده، فمن استمسك به رشد، ومن تركه ضلّ عن طريق الهدى، وسلك سبيل الردى. (إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) أي إن الله كان ذا لطف بكنّ إذ جعلكن فى البيوت التي تتلى فيها آياته وشرائعه، خبيرا بكنّ إذ اختار كن لرسوله أزواجا.

[سورة الأحزاب (33) : آية 35]

[سورة الأحزاب (33) : آية 35] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) تفسير المفردات الإسلام: الانقياد والخضوع لأمر الله، والإيمان: التصديق بما جاء عن الله من أمر ونهى، والقنوت: هو الطاعة فى سكون، والصبر: تحمل المشاق على المكاره والعبادات والبعد عن المعاصي، والخشوع: السكون والطمأنينة، أعد الله لهم مغفرة: أي هيأ لهم مغفرة تمحو ذنوبهم، وأجرا عظيما: أي نعيما عند ربهم يوم القيامة. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه نساء نبيه صلى الله عليه وسلم بأشياء ونهاهن عن أخرى، ذكر هنا ما أعد للمسلمين والمسلمات من الأجر والكرامة عنده فى الدار الآخرة. روى أحمد عن عبد الرحمن بن شيبة قال: «سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قلت للنبى صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نذكر فى القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت فلم يرعنى منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر، وأنا أسرّح رأسى فلففت شعرى ثم خرجت إلى حجرة من حجرهن فجعلت سمعى عند الجريد فإذا هو يقول على المنبر يا أيها الناس إنّ الله يقول فى كتابه: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) - إلى قوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) » .

الإيضاح

الإيضاح ذكر الله سبحانه الأوصاف التي يستحق بها عباده أن يمحو عنهم زلاتهم ويثيبهم بالنعيم المقيم عنده وهى: (1) إسلام الظاهر بالانقياد لأحكام الدين فى القول والعمل. (2) إسلام الباطن بالتصديق التام والإذعان لما فرض الدين من الأحكام وهذا هو الإيمان. (3) القنوت وهو دوام العمل فى هدوء وطمأنينة كما قال: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ؟» وقال: «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» . فالإسلام والانقياد مرتبة تعقبها مرتبة الإذعان والتصديق وينشأ عن مجموعهما القنوت والخشوع. (4) الصدق فى الأقوال والأعمال، وهو علامة الإيمان كما أن الكذب أمارة النفاق، فمن صدق نجا، وفى الحديث «عليكم بالصدق فإنه يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار» (5) الصبر على المكاره وتحمل المشاقّ فى أداء العبادات وترك الشهوات. (6) الخشوع والتواضع لله تعالى بالقلب والجوارح ابتغاء ثوابه وخوفا من عقابه كما جاء فى الحديث «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (7) التصدق بالمال والإحسان إلى المحاويج الذين لا كسب لهم ولا كاسب، وقد ثبت فى الصحيح «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وفى حديث آخر «والصدقة تطفئ الخطية كما يطفىء الماء النار»

(8) الصوم فإنه نعم العون على كسر الشهوة كما روى ابن ماجه من قوله صلى الله عليه وسلم «والصوم زكاة البدن» أي إنه يزكّيه ويطهره من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» . (9) حفظ الفروج عن المحارم والآثام كما جاء فى الآية الأخرى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» . (10) ذكر الله ذكرا كثيرا بالألسنة والقلوب، روى عن مجاهد أنه قال: لا يكتب الرجل من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا. وأخرج النسائي وابن ماجه وأبو داود وغيرهم عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصلّيا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» : روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبق المفردون، قالوا وما المفردون؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» . وروى أحمد عن سهل بن معاذا الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلا سأله فقال: أىّ المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله تعالى ذكرا، قال فأىّ الصائمين أكثر أجرا؟ قال صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله عز وجل ذكرا، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله ذكرا، فقال أبو بكر لعمر رضى الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل» . هؤلاء الذين جمعوا هذه الأوصاف يمحو عنهم ذنوبهم ويؤتيهم الأجر العظيم فى جنات النعيم.

قصة زينب بنت جحش

قصة زينب بنت جحش زواجها لزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلاقها منه، زواجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لإبطال عادة جاهلية، وهى إعطاء المتبنّى حكم الابن فى حرمة زواج امرأته بعد طلاقها. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) تفسير المفردات تقول ما كان لفلان أن يفعل كذا: أي لا ينبغى له، والخيرة: الاختيار، مبينا: أي ظاهر الانحراف عن سنن الصواب، أنعم الله عليه: أي بالإسلام، وأنعمت عليه:

المعنى الجملي

أي بالعتق ونيل الحرية، واتق الله: أي فى أمرها ولا تطلقها ضرارا، وتخشى الناس: أي تخاف من اعتراضهم وقولهم إن محمدا تزوج امرأة ابنه، والوطر: الحاجة والمراد أنه لم يبق له بها حاجة الزوجية فطلقها، زوجنا كها: أي جعلناها زوجة لك، والحرج: المشقة، فرض له: أي قدّر من قولهم فرض للجند كذا أي قدر لهم، سنة الله: أي سن الله ذلك سنة، خلوا: أي مضوا، قدرا مقدورا: أي مقضيا وكائنا لا بد منه المعنى الجملي بعد أن أمر الله نبيه أن يخير زوجاته بين البقاء معه والتسريح سراحا جميلا وفهم من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد ضررا لغيره، فمن كان ميله إلى شىء مكّنه منه وترك حظ نفسه لحظ غيره- ذكر هنا أن زمام الاختيار ليس بيد الإنسان فى كل شىء كما أعطى ذلك للزوجات، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمن ولا مؤمنة فيها وهى ما حكم الله فيه، فما أمر به فهو المتّبع، وما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحق، ومن خالفهما فقد ضل ضلالا مبينا. وقد نزلت هذه الآيات فى زينب بنت جحش بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وقد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزل: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إلخ فلما نزلت قالا رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام وثلاثين صاعا من تمر. والحكمة فى هذا الزواج الذي لم يبال فيه النبي بإباء زينب ورغبتها عن زيد، أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها كان أمرا تدين به العرب وتعده أصلا ترجع إليه فى الحسب والشرف، وكانوا يعطون، الدعىّ جميع حقوق الأبن وجرون عليه الأحكام التي يعطونها للابن حتى الميراث وحرمة النسب- فأراد الله

الإيضاح

محو ذلك بالإسلام حتى لا يعرف إلا النسب الصريح ومن ثم قال فى أول السورة «وما جعل أدعياء كم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحقّ وهو يهدى السّبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله» وبهذا حرم على المسلمين أن ينسبوا الدعىّ إلى من تبناه، وأن يكون للمتبنّى إلا حق المولى والأخ فى الدين وحظر عليهم أن يقتطعوا له من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا. وما رسخ فى النفوس بحكم العادة لا يمكن التخلص منه إلا بإرادة قوية تسخر بسلطانها، ولا تجعل لها حكما فى الأعمال إذا كانت المصلحة فى خلاف ذلك، ومن ثم ألهم الله رسوله أن يلغى هذا الحكم بالعمل كما ألغى بالقول فى أحد عتقاه. ومن ثمّ أرغم بنت عمته لتتزوج بزيد وهو متبناه ليكون هذا الزواج مقدمة لتشريع إلهى جديد. ذلك أنه بعد أن تزوجها زيد شمخت بأنفها عليه وجعلت تفخر عليه بنسبها، فاشتكى منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة وهو عليه السلام يغلبه الحياء فى تنفيذ حكم الله ويقول لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله، إلى أن غلب حكم الله وسمح لزيد بطلاقها، ثم تزوجها بعد ذلك ليمزّق حجاب تلك العادة كما قال: «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ثم أكد هذا بقوله: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» الإيضاح (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ويخالفوا أمر الله ورسوله وقضاءهما ويعصياهما

والخلاصة- لا ينبغى لمؤمن ولا مؤمنة أن يختارا أمرا قضى الرسول بغيره ثم أكد ما سلف بقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً) أي ومن يعص الله ورسوله فيما امرا ونهيا فقد جار عن قصد السبيل وسلك غير طريق الهدى والرشاد، وقد علمت فيما سلف سبب نزول هذه الآية. ونحو الآية قوله: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . ثمّ ذكّر الله نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتا على الحق، وليدفع عنه ما حاك فى صدور ضعاف العقول ومرضى القلوب فقال: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) أي واذكر أيها الرسول حين قولك لمولاك الذي أنعم الله عليه فوفّقه للاسلام، وأنعمت عليه بحسن تربيته وعتقه وتقريبه منك: أمسك عليك زوجك زينب، واتق الله فى أمرها، ولا تطلقها ضرارا، وتعللا بتكبرها وشموخا بأنفها، فإن الطلاق يشينها، وربما لا يجد بعدها خيرا منها. وفى التعبير بأنعمت عليه إيماء إلى وجه العتب بذكر الحال التي تنافى ما صدر منه عليه السلام من إظهار خلاف ما فى نفسه، إذ هذا إنما يكون حين الاستحياء والاحتشام، وكلاهما مما لا ينبغى أن يكون مع زيد مولاه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) أي وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، بما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتى بعدك، وإنما غلبك فى فى ذلك الحياء وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلّقة متبناه، فأنت تخفى فى نفسك ما الله به من الحكم الذي ألهمك (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي وتخاف من اعتراض الناس والله

الذي أمرك بهذا كله أحق وحده بأن تخشاه، فكان عليك أن تمضى فى الأمر قدما، تعجيلا لتنفيذ كلمته وتقرير شرعه. ثم زاد الأمر بيانا بقوله: (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) أي فلما قضى زيد منها حاجته وملّها ثم طلقها جعلناها زوجا لك، لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا فى أنفسهم حرجا من أن يتزوجوا نساء كنّ من قبل أزواجا لأدعيائهم. (وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أي وكان ما قضى الله من قضاء كائنا لا محالة أي إن قضاء الله فى زينب أن يتزوجها رسول الله كائن ماض لا بد منه. روى البخاري والترمذي «أن زينب رضى الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهلوكنّ وزوّجنى الله تعالى من فوق سبع سموات» وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: «كانت تقول للنبى صلى الله عليه وسلم إنى لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ بهن: إن جدى وجدك واحد، وإنى أنكحك الله إياى من السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام» . ثم أكد ما سلف بقوله: (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) أي ليس على النبي حرج فيما أحل الله له من نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه إياها. ثم بين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بدعا فى الرسل فيما أباح له من الزوجات والسراري فقال: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي إن الله سن بك أيها الرسول سنة أسلافك من الأنبياء الذين مضوا من قبل فيما أباح لهم من الزوجات والسراري، فقد كان لسليمان وداود وغيرهما عدد كثير منهن. وفى هذا ردّ على اليهود الذين عابوه صلى الله عليه وسلم (وحاشاه) بكثرة الأزواج.

(وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي وكان أمر الله الذي يقدره كائنا لا محالة وواقعا لا محيد عنه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ثم وصف الذين خلوا بصفات الكمال والتقوى وإخلاص العبادة له وتبليغ رسالته فقال: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) أي هؤلاء الذين جعل محمد متبعا سنتهم وسالكا سبيلهم هم الذين يبلغون رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليهم، ويخافون الله فى تركهم تبليغ ذلك، ولا يخافون سواه. والخلاصة- كن من أولئك الرسل الكرام، ولا تخش أحدا غير ربك، فإنه يحميك ممن يريدك بسوء أو يمسك بأذى. (وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) أي وكفى الله ناصرا ومعينا وحافظا لأعمال عباده ومحاسبا لهم عليها. ولما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب قالوا تزوج حليلة ابنه فأنزل الله: (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي ما كان لك أن تخشى أحدا من الناس بزواج امرأة متبناك لا ابنك، فإنك لست أبا لأحد من الناس، ولكنك رسول الله فى تبليغ رسالته إلى الخلق، فأنت أب لكل فرد فى الأمة فيما يرجع إلى التوقير والتعظيم ووجوب الشفقة عليهم كما هو دأب كل رسول مع أمته. وخلاصة ذلك- ليس محمد بأب لأحد منكم أبوة شرعية يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها، ولكنه أب للمؤمنين جميعا فيما يجب عليهم من توقيره وإجلاله وتعظيمه كما أن عليه أن يشفق عليهم ويحرص على ما فيه خيرهم وفائدتهم فى المعاش والمعاد وما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة.

أولاد النبي صلى الله عليه وسلم

أولاد النبي صلى الله عليه وسلم ولد للنبى صلى الله عليه وسلم من خديجة ثلاثة ذكور: القاسم والطيب والطاهر، وماتوا صغارا لم يبلغ أحد منهم الحلم، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ومات رضيعا، وولد له من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، والثلاث الأول متن فى حياته صلى الله عليه وسلم. وماتت فاطمة بعد أن قبض صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بستة شهور. (وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم من الأجدر بالبدء به من الأنبياء، ومن الأحق بأن يكون خاتمهم، وبعلم المصالح فى ذلك. ونحو الآية قوله: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) المعنى الجملي بعد أن ذكر ما ينبغى أن يكون عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه من تقواه وإخلاصه له فى السر والعلن، وما ينبغى أن يكون عليه مع أهله وأقار به من راحتهم وإيثارهم على نفسه فيما يطلبون كما يومئ إلى ذلك قوله: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلخ، أرشد عباده إلى تعظيمه تعالى وإجلاله بذكره والتسبيح له بكرة وأصيلا، فهو الذي يرحمهم، وملائكته يستغفرون لهم، كى يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وكان بعباده المؤمنين رحيما.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله، اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرا كثيرا فى جميع أحوالكم جهد الطاقة، لأنه المنعم عليكم بأنواع النعم، وصنوف المنن. (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي ونزهوه عما لا يليق به طرفى النهار، لأن وقت البكرة وقت القيام من النوم وهو يعدّ كأنه حياة جديدة بعد موت، ووقت الأصيل وقت الانتهاء من العمل اليومي، فيكون الذكر شكرا له على توفيقه لأداء الأعمال، والقيام بالسعي على الأرزاق فلم يبق إلا السعى إلى ما يقربه من ربه بالعمل للآخرة. ثم ذكر السبب فى هذا الذكر والتسبيح فقال: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) أي إن ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثير وتسبحونه بكرة وأصيلا- هو الذي يرحمكم ويثنى عليكم فى الملإ من عباده، وتستغفر لكم ملائكته. وفى هذا من التحريض على ذكره والتسبيح له مالا يخفى. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم- أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان. (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فانه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر، وأما فى الآخرة فإنه آمنهم من الفزع الأكبر وأمر الملائكة أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وهذا ما أشار إليه بقوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة بذلك إذا دخلوا الجنة، كما قال تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 إلى 48]

(وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) أي وهيأ لهم ثوابا حسنا فى الآخرة يأتيهم بلا طلب بما يتمتعون به من لذات المآكل والمشارب والملابس والمساكن فى فسيح الجنات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 48] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه تأديبه لنبيه فى ابتداء السورة، وذكر ما ينبغى أن يكون عليه مع أهله- ذكر ما ينبغى أن يكون عليه مع الخلق كافة. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي يا أيها الرسول إنا بعثناك شاهدا على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم، وترى أعمالهم، وتتحمل الشهادة بما صدر منهم من تصديق وتكذيب، وسائر ما يفعلون من الهدى والضلال، وتؤدّى ذلك يوم القيامة، وأرسلناك مبشرا لهم بالجنة إن صدّقوك، وعملوا بما جئتهم به من عند ربك، ومنذرا لهم بالنار يدخلونها فيعذبون فيها إن هم كذبوك وخالفوا ما أمرتهم به ونهيتهم عنه. (وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) أي وداعيا الخلق إلى الإقرار بوحدانيته تعالى، سائر ما يجب له من صفات الكمال، وإلى عبادته، ومراقبته فى السر والعلن-

[سورة الأحزاب (33) : آية 49]

وسراجا منيرا يستضىء بك الضالون فى ظلمات الجهل والغواية، ويقتبس من نورك المهتدون، فيسلكون مناهج الرشد والسعادة. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) أي وراقب أحوال أمتك، وبشر المؤمنين بأن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم، فإنهم سيغيّرون نظم المجتمع من ظلم وجور إلى عدل وصلاح، ويدخلون الأمم المتعثّرة فى أثواب الضلال، فى زمرة الأمم التي عليها صلاح البشر فى مستأنف الزمان. أخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن أنه قال: لما نزل قوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» قالوا: يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً» . ولما أمره الله بما يسرّ نهاه عما يضر، فقال: (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي ولا تطع قول كافر ولا منافق فى أمر الدعوة، وألن الجانب فى التبليغ، وارفق فى الإنذار، واصفح عن أذاهم، واصبر على ما ينالك منهم، وفوّض أمورك إلى الله، وثق به فإنه كافيك جميع من دونك، حتى يأتيك أمره وقضاؤه، وهو حسبك فى جميع أمورك، وكالئك وراعيك. [سورة الأحزاب (33) : آية 49] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) تفسير المفردات النكاح هنا: العقد، والمس معروف والمراد به قربان المرأة، ومن أدب القرآن الكريم التعبير عنه بالملامسة والمماسة، والقربان والتغشى والإتيان، والعدة: الشيء

المعنى الجملي

المعدود، وعدّة المرأة: الأيام التي بانقضائها يحل بها التزوج، فمتعوهن: أي أعطوهن المتعة، وهى قميص وخمار (ما تغطى به المرأة رأسها) وملحفة (ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها- ملاية) سرحوهن: أي أخرجوهن من منازلكم، سراحا جميلا: أي إخراجا مشتملا على ليّن الكلام خاليا من الأذى. المعنى الجملي أدب الله نبيه بمكارم الأخلاق بقوله: يا أيها النبي اتق الله، وثنى بتذكيره بحسن معاملة أزواجه بقوله: يا أيها النبي قل لأزواجك، وثلث بذكر معاملته لأمته بقوله: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا، وكان كلما ذكر للنبى مكرمة، وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فأرشد المؤمنين فيما يتعلق بجانبه تعالى بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وفيما يتعلق بما تحت أيديهم من الزوجات بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ، وفيما يتعلق بمعاملتهم لنبيهم بقوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلخ، وقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) . الإيضاح أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل المسيس، فلا عدّة لكم عليهن بأيام يتربصن بها تستوفون عددها، ولكن اكسوهن كسوة تليق بحالهن إذا خرجن وانتقلن من بيت إلى آخر، ويختلف ذلك باختلاف البيئة والبلد الذي تعيش فيه المرأة، وأخرجوهن إخراجا جميلا، فهيئوا لهن من المركب والزاد وجميل المعاملة ما تقرّ به أعينهن ويسرّ به أهلوهن، ليكون فى ذلك بعض السلوة مما لحقهن من أذى بقطع العشرة التي كنّ ينتظرن دوامها، ومن الخروج من بيوت كن يرجون أن تكون هى المقام إلى أن يلاقين ربهن أو تموت عنهن بعولتهن. روى البخاري عن سهل بن سعد وأبى أسيد رضى الله عنهما قالا: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أن دخلت عليه بسط يده إليها،

[سورة الأحزاب (33) : آية 50]

فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزّها ويكسوها ثوبين رازقيين (ضرب من الثياب مشهور فى ذلك الحين) . [سورة الأحزاب (33) : آية 50] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تفسير المفردات الأجور هنا: المهور، وما ملكت يمينك: أي ما أخذته من المغانم، خالصة لك: أي هى خاصة بك، حرج: أي ضيق ومشقة الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) أي يا أيها النبي إنا أحللنا لك الأزواج اللاتي أعطيتهن مهورهن، وقد كان مهره عليه الصلاة والسلام لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصفا أي خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبى سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله أربعمائة دينار. (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) أي وأحللنا لك الإماء اللواتى سبيتهن فملكتهن بالسباء، وصرن لك من الفيء بفتح الله عليك، وقد ملك صفية بنت حيى ابن أخطب فى سبى خيبر، ثم أعتقها، وجعل صداقها عتقها، وجويرية بنت الحارث

من بنى المصطلق أعتقها، ثم تزوجها، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية أم إبراهيم، وكانتا من السراري. (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) أي وأحللنا لك بنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك المهاجرات معك دون من لم يهاجرن. روى السّدّى عن أبى صالح عن أم هانئ قالت: «خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه، فعذرنى ثم أنزل الله تعالى: (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ- إلى قوله- اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قالت: فلم أكن أحل له، ولم أكن ممن هاجر معه، كنت من الطلقاء» . (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وأحللنا لك التمتع بالمرأة المؤمنة التي تهب نفسها لك بلا مهر إن أردت ذلك. وهذه الإباحة خاصة لك من دون المؤمنين، فلو وهبت امرأة نفسها لرجل وجب عليه لها مهر مثلها، كما حكم بذلك رسول الله فى بروع بنت واشق لما فوضت نفسها ومات عنها زوجها فحكم لها بصداق مثلها. والموت والدخول سواء فى تقرير مهر المثل، وثبوت مهر المثل فى المفوّضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، فأما هو فلا يجب عليه للمفوّضة شىء لو دخل بها، لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولىّ ولا شهود، كما فى قصة زينب بنت جحش رضى الله عنها. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي قد علم الله ما ينبغى فرضه على المؤمنين فى أزواجهم من شروط العقد، وأنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة، وبدون شهود، وفى الإماء بشراء أو غيره أن تكون ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف الوثنية والمجوسية- وهذه الجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتى:

[سورة الأحزاب (33) : آية 51]

ثم ذكر العلة فى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما تقدم من الأحكام بقوله: (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي أحللنا لك ذلك حتى لا يكون عليك حرج وضيق فى نكاح من نكحت من الأصناف السالفة (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان ربك غفورا لك، ولأهل الإيمان بك، رحيما بك وبهم أن يعاقبهم على سالف ذنب صدر منهم بعد توبتهم. [سورة الأحزاب (33) : آية 51] تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) تفسير المفردات ترجى: أي تؤخر من الإرجاء وهو التأخير، وقرىء، ترجىء وتؤرى: أي تضم وتضاجع، ابتغيت: أي طلبت، عزلت: أي تجنبت، أدنى: أي أقرب، تقرّ. أي تسرّ. الإيضاح (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تؤخر مضاجعة من تشاء من نسائك، وتضاجع من تشاء، ولا يجب عليك قسم بينهن، بل الأمر فى ذلك إليك، على أنه كان يقسم بينهن. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي ومن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالطلاق، فلا ضيق عليك فى ذلك. والخلاصة: إنه لا ضير عليه إذا أراد إرجاع من طلقها من قبل.

روى ابن جرير عن أبى رزين قال: «لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن، فقلن: يا رسول الله اجعل لنا من مالك، ومن نفسك ما شئت، ودعنا كما نحن فنزلت هذه الآية، فأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن، وآوى إليه بعضهن وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، وكان يقسم بينهن سواء، وأرجأ منهن خمسا: أم حبيبة، وميمونة، وسودة، وصفية، وجويرية، فكان لا يقسم بينهن ما شاء» . ثم بين السبب فى الإيواء والإرجاء، وأنه كان ذلك فى مصلحتهن، فقال: (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أي إنهن إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج فى القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم لا جناح عليك فى أىّ ذلك فعلت، وأنت مع هذا تقسم لهن اختيارا منك لا وجوبا عليك- فرحن بذلك، واستبشرن به، واعترفن بمنتك عليهن فى قسمك لهن، وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن، وعدلك بينهن. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه، ومن الرضا بما دبر له فى حقهن من تفويض الأمر إليه صلى الله عليه وسلم. روى أحمد عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت: كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: «اللهم هذا فعلى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك» يعنى القلب، وزيادة الحب لبعض دون بعض. وفى هذا حث على تحسين ما فى القلوب، ووعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله له من ذلك، وفوضه إلى مشيئته، وبعث على تواطؤ قلوبهن، والتصافي بينهن، والتوافق على رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً) أي وكان الله عليما بالسرائر، حليما فلا يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة، ليتوب منهم من شاء له أن يتوب، وينيب من ذنوبه من ينيب.

[سورة الأحزاب (33) : آية 52]

[سورة الأحزاب (33) : آية 52] لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) المعنى الجملي بعد أن ذكر أنه لم يوجب على نبيه القسم لنسائه، وأمره بتخييرهن فاخترن الله ورسوله- أردف ذلك ذكر ما جازاهم به من تحريم غيرهن عليه ومنعه من طلاقهن بقوله: (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) . الإيضاح تتضمن الآية الكريمة حكمين: ألا يتزوج عليه السلام غيرهن، ولا أن يستبدل بهن غيرهن، وإلى ذلك أشار بقوله: (1) (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي فى عصمتك اليوم كفاء اختيارهن الله ورسوله وحسن صنيعهن فى ذلك. أخرج أبو داود فى ناسخه وابن مردويه والبيهقي فى سننه عن أنس قال: «لما خيّرهن فاخترن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قصره سبحانه عليهن» . وروى عن ابن عباس أنه قال فى الآية: (حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهنّ عليه) . (2) (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي ولا يحل لك أن تستبدل بهن أزواجا غيرهن، بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى مهما كانت بارعة فى الحسب والجمال إلا ما ملكت يمينك منهن، وقد ملك بعدهن مارية القبطية أهداها له المقوقس فتسرّاها وأولدها إبراهيم ومات رضيعا وفى الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد زواجها، وقد روى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» وعن المغيرة بن شعبة قال: «خطبت امرأة فقال لى النبي

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 إلى 54]

صلّى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ قلت لا. قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» . (وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي وكان الله حافظا ومطلعا على كل شىء، عليما بالسر والنجوى، فاحذروا تجاوز حدوده، وتخطى حلاله إلى حرامه. آية الحجاب، وما فيها من أحكام وآداب [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 54] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) تفسير المفردات إناه: أي نضجه: يقال أنى الطعام يأنى أنى أي أدرك وحان نضجه، وفيه لغات: إنى بكسر الهمزة وأنى بفتحها مقصورا وممدودا قال الحطيئة: وأخّرت العشاء إلى سهيل ... أو الشّعرى فطال بي الأناء فانتشروا: أي فتفرقوا ولا تلبثوا، مستأنسين لحديث، أي مستمعين له، متاعا:

المعنى الجملي

أي شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره، أطهر لقلوبكم: أي أكثر تطهرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال فى أمر النساء وللنساء فى شأن الرجال. المعنى الجملي بعد أن ذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته بقوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» أردف ذلك بيان حال المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلم إرشادا لما يجب عليهم نحوه من الاحترام والتعظيم فى خلوته وفى الملإ، فأبان أنه يجب عدم إزعاجه إذا كان فى الخلوة بقوله: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ» إلخ. وأنه يجب إجلاله إذا كان فى الملإ بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . روى أن هذه الآية نزلت يوم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن مردويه والبيهقي عن أنس قال: «لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بينى وبينه فأنزل الله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) الآية. الإيضاح أدب الله عباده بآداب ينبغى أن يتخلقوا بها، لما فيها من الحكم الاجتماعية والمزايا العمرانية فقال: (1) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ

ناظِرِينَ إِناهُ) أي أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت نبيه إلا أن تدعوا إلى طعام تطعمونه غير منتظرين إدراكه ونضجه. وخلاصة ذلك- إنكم إذا دعيتم إلى وليمة فى بيت النبي صلى الله عليه وسلم فلا تدخلوا البيت إلا إذا علمتم أن الطعام قد تم نضجه، وانتهى إعداده، إذ قبل ذلك يكون أهل البيت فى شغل عنكم، وقد يلبسن ثياب البذلة والعمل فلا يحسن أن تروهنّ وهنّ على هذه الحال، إلى أنه ربما بدا من إحداهن ما لا يحل النظر إليه. (2) (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولكن إذا دعاكم الرسول صلى الله عليه وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله، فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم إلى أكله فتفرقوا واخرجوا ولا تمكثوا فيه لتتبادلوا ألوان الحديث وفنونه المختلفة. أخرج عبد بن حميد عن الربيع عن أنس قال: كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. وأخرج ابن أبى حاتم عن سليمان بن أرقم قال: نزلت هذه فى الثقلاء ومن ثم قيل هى آية الثقلاء ثم علل ذلك بقوله: (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي إن ذلك اللّبث والاستئناس والدخول على هذا الوجه كان يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يمنعه من قضاء بعض حاجه، إلى ما فيه من تضييق المنزل على أهله، لكنه كان يستحيى من إخراجكم ومنعكم مما يؤذيه، والله لم يترك الحق وأمركم بالخروج. وفى هذا إيماء إلى أن اللبث يحرم على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان فى ذلك أذى لرب البيت، ولو كان البيت غير بيت النبي صلى الله عليه وسلم فالتثقيل مذموم فى كل مكان، محتقر لدى كل إنسان.

وعن عائشة وابن عباس رضى الله عنهما «حسبك فى الثقلاء أن الله عز وجل لم يحتملهم» . وعلى الجملة فللدعوة إلى المآدب نظم وآداب خاصة أفردت بالتأليف ولا سيما فى العصر الحديث. وجعلوا التحلل منها وترك اتباعها مما لا تسامح فيه. (3) (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتى لسن لكم بأزواج، شيئا تتمتعون به من ماعون وغيره فاطلبوا منهن ذلك من وراء ستر بينكم وبينهن. أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضى الله عنه قال: قال عمر ابن الخطاب رضى الله عنه: يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب فى صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش فى ذى القعدة سنة خمس من الهجرة، وهى مما وافق تنزيلها قول عمر كما فى الصحيحين عنه قال: وافقت ربى عز وجل فى ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه فى الغيرة «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» فنزلت كذلك. ثم بين سبب ما تقدم بقوله: (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي ذلك الدخول بالإذن وعدم الاستئناس للأحاديث أطهر لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان والريب، لأن العين رسول القلب، فإذا لم تر العين لم يشته القلب، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة

حينئذ أظهر، وجاء في الأثر «النظر سهم مسموم من سهام إبليس» وقال الشاعر: والمرء مادام ذاعين يقلّبها ... فى أعين العين موقوف على الخطر يسرّ مقلته ما ساء مهجته ... لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر ولما ذكر ما ينبغى من الآداب حين دخول بيت الرسول أكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله: (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) أي وما كان ينبغى لكم أن تفعلوا فى حياته صلّى الله عليه وسلم فعلا يتأذى به ويكرهه كاللبث والاستئناس للحديث الذي كنتم تفعلونه، فإن الرسول يسعى لخيركم ومنفعتكم في دنياكم وآخرتكم، فعليكم أن تقابلوا بالحسنى كفاء جليل أعماله. ولما كان صلّى الله عليه وسلم قد قصر عليهن قصرهن الله عليه بقوله: (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) أي ولا تنكحوا أزواجه أبدا من بعد مفارقتهن بموت أو طلاق، زيادة في شرفه، وإظهارا لعظمته وجلاله، ولأنهن أمهات المؤمنين، والمرء لا يتزوج أمه. ثم بين السبب فيما تقدم بقوله: (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) أي إن ذلك الإيذاء وزواج نسائه من بعده أمر عظيم، وخطب جلل، لا يقدر قدره غير الله تعالى. ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد على هذا العمل- إلى ما فيه من تعظيم شأن الرسول وإيجاب حرمته حيا وميتا. ثم بالغ في الوعيد وزاد في التهديد بقوله: (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي إن ما تكنّه ضمائركم، وتنطوى عليه سرائركم، فالله يعلمه، إذ لا تخفى عليه خافية «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» ثم يجازيكم بما صدر منكم من المعاصي البادية والخافية. والكلام وإن كان عاما بظاهره فالمقصود ما يتعلق بزوجاته عليه الصلاة والسلام.

[سورة الأحزاب (33) : آية 55]

وسبب نزول الآية أنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل: أنهى أن نكلّم بنات أعمامنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لنتزوجنّ نساءه. وأخرج جويبر عن ابن عباس «أن رجلا أنى بعض أزواج النبي فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا، فقال يا رسول الله إنها ابنة عمى، والله ما قلت منكرا ولا قالت لى، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك: إنه ليس أحد أغير من الله تعالى، وإنه ليس أحد أغير منى، فمضى ثم قال: ما يمنعنى من كلام ابنة عمى؟ لأتزوجنّها من بعده، فأنزل الله الآية، فأعتق الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشيا لأجل كلمته» . وروى أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبى سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمد يتزوج نساءنا؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت. [سورة الأحزاب (33) : آية 55] لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) المعنى الجملي بعد أن ذكر أن نساء النبي لا يكلّمن إلا من وراء حجاب- أردف ذلك استثناء بعض الأقارب ونساء المؤمنين والأرقاء، لما في الاحتجاب عن هؤلاء من عظيم المشقة، للحاجة إلى الاختلاط بهؤلاء كثيرا. روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: أو نحن يا رسول الله نكلمهنّ من وراء حجاب؟ فنزلت.

الإيضاح

الإيضاح لا إثم على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم في ترك الحجاب حين دخول آبائهن، سواء أكان الأب أبا من النسب أم من الرضاع، أو أبنائهن نسبا أو رضاعا، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن، أو النساء المسلمات القربى منهن والبعدى، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد، لما في الاحتجاب عنهن من المشقة، لأنهم يقومون بالخدمة عليهن. واخشين الله في السر والعلن فإنه شهيد على كل شىء، لا تخفى عليه خافية، وهو يجازى على العمل خيرا أو شرا. والخلاصة- إن الله شاهد عليكم عند اختلاء بعضكم ببعض، فخلوتكم مثل ملئكم، فاتقوه فيما تأتون وما تذرون. [سورة الأحزاب (33) : آية 56] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) المعنى الجملي بعد أن ذكر وجوب احترام النبي حال خلوته بقوله: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ» أردف ذلك بيان ماله من احترام في الملإ الأعلى بقوله: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» وفي الملإ الأدنى بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، فالمعنى كما قال ابن عباس: إن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له ويطلبون له المغفرة.

[سورة الأحزاب (33) : آية 57]

وقد أخبر الله سبحانه عباده بمنزلة عبده ونبيه في الملإ الأعلى، بأنه يثنى عليه لدى ملائكته المقربين، وأن ملائكته يصلون عليه طالبين له المغفرة من ربه. وقد أمرنا بأن نصلى عليه بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي يا أيها الذين آمنوا ادعوا له بالرحمة، وأظهروا شرفه بكل ما تصل إليه قدرتكم، من حسن متابعته، والانقياد لأمره، فى كل ما يأمر به، والصلاة والسلام عليه بألسنتكم. روى البخاري بسنده عن كعب بن عجرة قال: «قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفنا، فكيف الصلاة؟ قال: قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» . روى عبد الله بن أبى طلحة عن أبيه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه، فقلنا إنا لنرى البشرى في وجهك، فقال: جاءنى جبريل فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: أما يرضيك أن لا يصلى عليك أحد من أمتك إلا صلّيت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلّمت عليه عشرا» [سورة الأحزاب (33) : آية 57] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه باحترام نبيّه في بيته وفي الملإ- نهى عن إيذاء الله، بمخالفة أوامره، وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله بإلصاق عيب أو نقص به.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ) فيرتكبون ما حرمه من الكفر وسائر أنواع المعاصي، ومنهم اليهود الذين قالوا «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» والنصارى الذين قالوا «الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» والمشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. (وَرَسُولَهُ) كالذين قالوا هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون إلى نحو ذلك من مقالاتهم، فمن آذاه فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله. (لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي طردهم من رحمته، وأبعدهم من فضله في الدنيا، فجعلهم يتمادون في غيهم، ويدسّون أنفسهم، ويستمرئون سبل الغواية والضلالة التي ترديهم في النار، وبئس القرار، وفي الآخرة حيث يصلون نارا تشوى الوجوه. (وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) أي وهيأ لهم عذابا يؤلمهم، ويجعلهم في مقام الزراية والاحتقار، والخزي والهوان. ولما كان من أعظم أذى رسوله أذى من تابعه، بين ذلك بقوله: [سورة الأحزاب (33) : آية 58] وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) تفسير المفردات بغير ما اكتسبوا: أي بغير جناية يستحقون بها الأذى، والبهتان: الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته، وإثما مبينا: أي ذنبا واضحا بينا. الإيضاح أي إن الذين ينسبون إلى المؤمنين والمؤمنات ما لم يعملوه، وما هم منه براء- قد اجترحوا كذبا فظيعا، وأتوا أمرا إدّا، وذنبا ظاهرا ليس له ما يسوّغه أو يقوم مقام العذر له.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 إلى 62]

روى الضحاك عن ابن عباس قال: أنزلت في عبد الله بن أبىّ وناس معه قذفوا عائشة رضى الله عنها فخطب النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع في بيته من يؤذينى؟» . وروى أبو هريرة «أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال ذكرك أخاك بما يكره، قيل أرأيت إن كان في أخى ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» . وروى عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه: «أىّ الربا أربى عند الله؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم قرأ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) » . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 59 الى 62] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) تفسير المفردات الجلابيب: واحدها جلباب وهى الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، يدنين: أي يرخين ويسدلن يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدنى ثوبك على وجهك، أدنى: أي أقرب، أن يعرفن: أي يميزن عن الإساءة، مرض: أي ضعف إيمان

المعنى الجملي

بانتها كهم حرمات الدين، والمرجفون: هم اليهود الذين كانوا يلفقون أخبار السوء وينشرونها عن سرايا المسلمين وجندهم، وهو من الإرجاف وهو الزلزلة وصفت بها الأخبار الكاذبة لكونها مزلزلة غير ثابتة، لنغرينك بهم: أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنّك بهم، ملعونين: أي مبعدين من رحمة الله، ثقفوا: أي وجدوا، خلوا: أي مضوا. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن من يؤذى مؤمنا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا، زجرا لهم عن الإيذاء- أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذين بفعل ما يدفع الإيذاء عنهم في الجملة من التستر والتميز بالزي واللباس حتى يبتعدوا عن الأذى بقدر المستطاع. روى أنه لما كانت الحرائر والإماء في المدينة يخرجن ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل بلا فارق بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر، فإذا كلّموا في ذلك قالوا حسبناهن إماء- فطلب من رسوله أن يأمر الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي والتستر، ليتما يزن ويهبن، فلا يطمع فيهن طامع. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) طلب سبحانه من نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات، وبخاصة أزواجه وبناته، بأن يسدلن عليهن الجلابيب إذا خرجن من بيوتهن ليتميزن عن الإماء. روى على بن طلحة عن ابن عباس قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رءوسهنّ بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. وعن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء الأنصار كأن رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها.

وإجمال ذلك- إن على المسلمة إذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها بحيث تغطى الجسم والرأس ولا تبدى شيئا من مواضع الفتنة كالرأس والصدر والذراعين ونحوها. ثم علل ذلك بقوله: (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي ذلك التستر أقرب لمعرفتهن بالعفة فلا يتعرّض لهن، ولا يلقين مكروها من أهل الريبة، احتراما لهن منهم، فإن المتبرجة مطموع فيها، منظور إليها نظرة سخرية واستهزاء، كما هو مشاهد في كل عصر ومصر، ولا سيما في هذا العصر الذي انتشرت فيه الخلاعة، وكثر الفسق والفجور. (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وربك غفار لما عسى أن يكون قد صدر من الإخلال بالستر، كثير الرحمة لمن امتثل أمره معهن، فيثيبه عظيم الثواب، ويجزيه الجزاء الأوفى. ولما كان الأذى إنما يحصل من أهل النفاق ومن على شاكلتهم حذّرهم بقوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا) أي لئن لم يكفّ أهل النفاق الذين يستسرّون الكفر ويظهرون الإيمان، وأهل الرّيب الذين غلبتهم شهواتهم، وركنوا إلى الخلاعة والفجور وأهل الإرجاف في المدينة الذين ينشرون الأخبار الملفّقة الكاذبة التي فيها إظهار عورات المؤمنين وإبراز ما استكنّ من خفاياهم كضعف جنودهم وقلة سلاحهم وكراعهم ونحو ذلك مما في إظهاره مصلحة للعدو وخضد لشوكة المسلمين- لنسلطنك عليهم، وندعونّك إلى قتالهم وإجلائهم عن البلاد، فلا يسكنون معك فيها إلا قليلا وتخلو المدينة منهم بالموت أو الإخراج. والخلاصة- إن الله سبحانه قد توعد أصنافا ثلاثة من الناس بالقتال والقتل أو النفي من البلاد وهم:

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 إلى 68]

(1) المنافقون الذين يؤذون الله سرّا. (2) من في قلوبهم مرض فيؤذون المؤمنين باتباع نسائهم. (3) المرجفون الذين يؤذون النبي صلّى الله عليه وسلم بنحو قولهم: غلب محمد، وسيخرج محمد من المدينة، وسيؤخذ أسيرا إلى نحو ذلك مما يراد به إظهار ضعف المؤمنين، وسخط الناس منهم. ثم بين مآل أمرهم من خزى الدنيا وعذاب الآخرة فقال: (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) أي في ذلك الوقت القليل الذي يجاورونك فيه يكونون مطرودين من باب الله وبابك، وإذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة، ولا يجدون ملجأ، بل أينما يكونوا يطلبوا ويؤخذوا ويقتّلوا تقتيلا. ثم بين أن هذا الحكم عليهم وعلى أمثالهم بنحو هذا هو شرعة الله في أشباههم من قبل، فهو ليس ببدع فيهم كما قال: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) أي إن سنته تعالى فى المنافقين في كل زمان إذا استمروا في كفرهم وعنادهم ولم يرجعوا عما هم عليه أن يسلط عليهم أهل الإيمان فيذلوهم ويقهروهم، وهذه السنة لا تغير ولا تبدل، لابتنائها على الحكمة والمصلحة، ولا يقدر غيره على تغييرها. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68] يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الساعة: يوم القيامة، وما يدريك: أي وأىّ شىء يعلمك وقت قيامها، سعيرا: أي نارا مستعرة متقدة، سادتنا: أي ملوكنا، وكبراءنا: أي علماءنا، ضعفين من العذاب: أي مثلى عذابنا لأنهم ضلوا وأضلوا. المعنى الجملي بعد أن ذكر حال هذه المئات الثلاث في الدنيا وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون، عطف على ذلك ذكر حالهم في الآخرة، فذكّرهم بيوم القيامة، وبيّن ما يكون لهم فى هذا اليوم. الإيضاح (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أي يكثر الناس هذا السؤال، متى تقوم الساعة؟ فالمشركون يسألون عن ذلك استعجالا لها على طريق التهكم والاستهزاء والمنافقون يسألون سؤال المتعنت العالم بما يجيب به الرسول، واليهود يسألون سؤال امتحان واختبار، ليعلموا أيجيب بمثل ما في التوراة من ردّ أمرها إلى الله أم يجيب بشىء آخر؟ فلقنه الله الجواب عن هذا بجعل ردّ ذلك إليه فقال: (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) الذي أحاط علمه بكل شىء، ولم يطلع عليها ملكا مقرّبا ولا نبيا مرسلا. ثم أكد نفى علمها عن أحد غيره بقوله: (وَما يُدْرِيكَ) أي وأىّ شىء يعلمك وقت قيامها؟ أي لا يعلمك به أحد أبدا. ثم أخبر عن قرب وقوعها بقوله: (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي لعلها توجد وتحقق بعد وقت قريب.

ونحو الآية قوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» وقوله: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» وقوله: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» . وفي هذا تهديد للمستعجلين المستهزئين، وتبكيت للمتعنتين والممتحنين. ثم بين حال السائلين عنها، المنكرين لها، بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إن الله أبعد الكافرين به من كل خير، وأقصاهم من كل رحمة، وأعد لهم في الآخرة نارا تتقد وتتسعر ليصليهموها، ماكثين فيها أبدا إلى غير نهاية. ثم أيأسهم من وجود ما يدفع عنهم العذاب من الولىّ والنصير بقوله: (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا يجدون حينئذ من يستنقذهم من السعير، وينجيهم من عذاب الله، بشفاعة أو نصرة كما هى الحال في الدنيا لدى الظلمة، إذ ربما وجد النصير والشفيع الذي يخلّص فيها من الورطات، ويدفع المصايب والنكبات. (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أي لا يجدون وليا ولا نصيرا حين تصرّف وجوههم فيها من جهة إلى أخرى كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر، فيدور به الغليان من جهة إلى أخرى، ويقولون إذ ذاك على طريق التمني: ليتنا أطعنا الله في الدنيا، وأطعنا رسوله فيما جاءنا به من أمر ونهى، فما كنا نبتلى بهذا العذاب، بل كنا مع أهل الجنة في الجنة- فيالها من حسرة وندامة، ما أعظمها وأجلها. ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم ونحو الآية قوله: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» وقوله: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» . ثم ذكر بعض معاذيرهم بإلقائهم التبعة على من أضلّوهم من كبرائهم وسادتهم بقوله:

[سورة الأحزاب (33) : آية 69]

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي وقال الكافرون يومئذ وهم في جهنم: ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في الشرك فأضلونا السبيل، وأزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى من الإيمان بك والإقرار بوحدانيتك والإخلاص لطاعتك في الدنيا. وفي هذا إحالة الذنب على غيرهم كما هى عادة المذنب يفعل ذلك وهو يعلم أنه لا يجديه نفعا. ثم ذكر أنهم يدعون ربهم على طريق التشفي ممن أوردهم هذا المورد الوخيم، أن يضاعف لهم العذاب، إذ كانوا سبب ضلالهم، ووقوعهم في بلواهم، وإن كانوا يعلمون أن ذلك لا يخلّصهم مما هم فيه، فقالوا: (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي ربنا عذّبهم مثلى عذابنا الذي تعذبنا به: مثلا على ضلالهم، ومثلا على إضلالهم إيانا، واخزهم خزيا عظيما واطردهم من رحمتك. روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال: يا رسول الله علّمنى دعاء أدعو به في صلاتى، قال: «قل اللهم إنى ظلمت نفسى ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرّحيم» . [سورة الأحزاب (33) : آية 69] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) تفسير المفردات الوجيه: هو ذو الجاه والمنزلة، ومن يكون له من خصال الخير ما به يعرف ولا ينكر.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أن من يؤذى الله ورسوله يلعنه الله في الدنيا والآخرة، ولا شك أن هذا في الإيذاء الذي يؤدى إلى الكفر، وقد حصره الله في النفاق ومرض القلب والإرجاف على المسلمين- أعقب ذلك بإيذاء دون ذلك لا يورث الكفر كعدم الرضا بقسمة النبي صلّى الله عليه وسلم للفىء، ونهى الناس عنه أيضا، وذكر أن بنى إسرائيل قد آذوا موسى ونسبوا إليه ما ليس فيه، فبرأه الله منه، لأنه ذو كرامة ومنزلة لديه، فلا يلصق به ما هو نقص فيه الإيضاح يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تؤذوا الرسول بقول يكرهه، ولا بفعل لا يحبه، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبى الله فرموه بالعيب كذبا وباطلا، فبرأه الله مما قالوه من الكذب والزور، بما أظهر من الأدلة على كذبهم، وقد كان موسى ذا وجاهة وكرامة عند ربه، لا يسأله شيئا إلا أعطاه إياه. ولم يعين لنا الكتاب الكريم ما قالوا في موسى، ومن الخير ألا نعيّنه حتى لا يكون ذلك رجما بالغيب دون أن يقوم عليه دليل، وقد اختلفوا فيه أهو عيب في بدنه كبرص ونحوه، أم هو عيب في خلقه؟ فقد رووا أن قارون حرّض بغيّا على قذفه بنفسها، فعصمه الله من كذبها، وقيل إنهم اتهموه بقتل هارون لما خرج معه إلى الطور ومات هناك، ثم استبان لهم بعد أنه مات حتف أنفه. روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: «قسم رسول الله ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فاحمرّ وجهه ثم قال: رحمة الله على موسى فقد أوذى بأكثر من هذا فصبر» . وروى أحمد عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه «لا يبلّغنّى أحد عن أحد من أصحابى شيئا، فإنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 إلى 71]

وعنه أيضا أنه قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مال فقسمه، قال فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة. قال فثبت حتى سمعت ما قالا، ثم أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنك قلت لنا: لا يبلغنى أحد عن أصحابى شيئا وإنى مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا، فاحمرّ وجه رسول الله وشق عليه ثم قال: دعنا منك لقد أوذى موسى بأكثر من هذا فصبر» . ومن هذا يتبين أن إيذاء موسى كان بالقدح في أعماله وتصرفاته، لا بالعيب فى بدنه كما روى. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 70 الى 71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) تفسير المفردات القول السديد: القول الصدق الذي يراد به الوصول إلى الحق، من قولهم: سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمىّ ولم يعدل به عن سمته. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه عن إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقول أو فعل، أرشدهم إلى ما ينبغى أن يصدر منهم من الأقوال والأفعال التي تكون سببا في الفوز النجاة في الدار الآخرة، والقرب من الله سبحانه والحظوة إليه.

الإيضاح

الإيضاح يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أن تعصوه فتستحقوا بذلك عقوبته، وقولوا في رسوله والمؤمنين قولا قاصدا غير جائر، حقا غير باطل، يوفقكم لصالح الأعمال، ويغفر لكم ذنوبكم فلا يعاقبكم عليها. ومن يطع الله ورسوله فيعمل بما أمره به وينته عما نهاه عنه ويقل السديد من القول فقد ظفر بالمثوبة العظمى والكرامة يوم العرض الأكبر. والخلاصة- إنه سبحانه أمر المؤمنين بشيئين: الصدق في الأقوال، والخير فى الأفعال، وبذلك يكونون قد اتقوا الله وخافوا عقابه، ثم وعدهم على ذلك بأمرين: (1) إصلاح الأعمال إذ بتقواه يصلح العمل، والعمل يرفع صاحبه إلى أعلى عليين ويجعله يتمتع بالنعيم المقيم في الجنة خالدا فيها أبدا. (2) مغفرة الذنوب وستر العيوب والنجاة من العذاب العظيم. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) تفسير المفردات العرض هنا: النظر إلى استعداد السموات والأرض، والأمانة كل ما يؤتمن عليه المرء من أمر ونهى في شئون الدين والدنيا، والمراد بها هنا التكاليف الدينية، وسميت أمانة من قبل أنها حقوق أوجبها الله على المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بالطاعة والانقياد وأمرهم بالمحافظة عليها وأدائها دون الإخلال بشىء منها،

المعنى الجملي

فأبيّن: أي كنّ غير مستعدات لها، وحملها الإنسان: أي كان مستعدا لها، إنه كان ظلوما: أي كثير الظلم لما غلب عليه من القوة الغضبية، جهولا: أي كثير الجهل لعواقب الأمور، لما غلب عليه من القوة الشهوية. المعنى الجملي بعد أن بين عز اسمه عظم شأن طاعة الله ورسوله، وأن من يراعيها فله الفوز العظيم، وأن من يتركها يستحق العذاب- أردف ذلك عظم شأن ما تنال به تلك الطاعة من فعل التكاليف الشرعية وأن حصولها عزيز شاقّ على النفوس، ثم بيان أن ما يصدر منهم من الطاعة أو يكون منهم من إباء بعدم القبول والالتزام إنما يكون بلا جبر ولا إلزام. الإيضاح (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) أي إنا لم نخلق السموات والأرض على عظم أجرامها وقوة أسرها مستعدة لحمل التكاليف بتلقى الأوامر والنواهي والتبصر فى شئون الدين والدنيا، ولكن خلقنا الإنسان على ضعف منّته وصغر جرمه مستعدا لتلقيها والقيام بأعبائها، وهو مع ذلك قد غلبت عليه الانفعالات النفسية الداعية إلى الغضب فكان ظلوما لغيره، وركّب فيه حب الشهوات والميل إلى عدم التدبر فى عواقب الأمور، ومن ثم كلفناه بتلك التكاليف لتكسر سورة تلك القوى وتخفف من سلطانها عليه وتكبت من جماحها حتى لا توقعه في مواقع الردى. ثم بين عاقبة تلك التكاليف فقال: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذب من خانها وأبى الطاعة

تنبيه

والانقياد لها من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات إذا رجعوا إليه وأنابوا، لتلافيهم ما فرط منهم من الجهل وعدم التبصر فى العواقب وتداركهم ذلك بالتوبة. ثم علل قبوله لتوبتهم بقوله: (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله ستارا لذنوب عباده كثير الرحمة بهم، ومن ثم قبل توبة من أناب إليه، ورجع إلى حظيرة قدسه، وأخلص له العمل، وتلافى ما فرط منه من الزلات، وأثابه على طاعته بالفوز العظيم. نسألك اللهم أن تتوب علينا، وتغفر لنا ما فرط منا من الزلات، وتثيبنا بالفوز العظيم في الجنات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات. تنبيه ذكر سبحانه في هذه السورة الكثير من الشئون الزوجية وكيف تعامل الزوجات، وقد رأينا أن نذكر هنا مسألتين كثر الخوض فيهما من أرباب الأديان الأخرى ومن نابتة المسلمين الذين تعلموا في مدارسهم وسمعوا كلام المبشرين، ظنا منهم أنهم وجدوا مغمزا في الإسلام وأصابوا هدفا يصمى الدين، ويجعل معتنقيه مضغة في أفواه السامعين وأنى لهم ذلك، وليتهم فكروا وتأملوا، قبل أن يتكلموا. أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا (1) تعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلم وكثرتهن بينما لم يبح مثل ذلك لأمته. (2) إباحة تعدد الزوجات لعامة المسلمين. ومن ثم وجب علينا أن نميط اللثام عن الأسباب التي دعت إلى كل منهما. أسباب تعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلم قبل أن ندخل في تفاصيل البحث نذكر لك أن النبي صلّى الله عليه وسلم عاش مع خديجة خمسا وعشرين سنة لم يتزوج سواها، وكانت سنه إذ ذاك ناهزت الخمسين،

الأسباب العامة

وكان قد تزوجها في شرخ شبابه، إذ كانت سنه وقتئذ خمسا وعشرين سنة وكانت سنها أربعين وعاشا معا عيشا هنيا شعاره الإخلاص والوفاء، وكانت من أكبر أنصاره على الكفار الذين سخروا منه وألحقوا به ضروبا شتى من الأذى، ولم يشأ أن يتزوج غيرها مع ما كان يبيحه له عرف قومه، بل ظل وفيّا لها حتى توفّيت، فحزن عليها حزنا شديدا وسمى عام وفاتها عام الحزن، ولم ينقطع عن ذكراها طوال حياته. والآن حق علينا أن نذكر لك الأسباب التي حدت النبي صلّى الله عليه وسلم إلى التعدد، وهى قسمان: أسباب عامة وأسباب خاصة: الأسباب العامة (1) إن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم عامة للرجال والنساء، ومن التشريع ما هو مشترك بين الرجل والمرأة وما هو خاص بأحدهما، وكلّ يحتاج في تلقينه إلى عدد ليس بالقليل لتفرق المرسل إليهم وكثرهم وقصر زمن حياة الرسول، وكثرة الأحكام، وإلا لم يحصل التبليغ على الوجه الأتم. ومن الأحكام المتعلقة بالنساء ما تستحيى المرأة أن تعرفه من الرجل، ويستحيى الرجل من تبليغه للمرأة، ألا ترى إلى ما روى عن عائشة رضى الله عنها أن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت للنبى صلّى الله عليه وسلم: كيف أغتسل من الحيض؟ قال: خذى فرصة ممسّكة (قطعة قطن) فتوضئ- قالها ثلاثا وهو في كل ذلك يقول: سبحان الله عند إعادتها السؤال، ثم أعرض عنها بوجهه استحياء، فأخذتها عائشة وأخبرتها بما يريد النبي صلّى الله عليه وسلم. ومن ثم وجب أن يتلقى الأحكام الخاصة بالنساء من الرسول صلّى الله عليه وسلم عدد كثير منهن، وهن يبلغن ذلك إلى النساء، ولا يصلح للتلقى عنه إلا أزواجه، لأنهن لهن خصائص تمكنهن من معرفة أغراض النبي دون تأفف ولا استحياء،

الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين

يرشد إلى ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» يريد عائشة رضى الله عنها، والعرب تقول امرأة حمراء أي بيضاء. (2) إن المصاهرة من أقوى عوامل التآلف والتناصر كما هو مشاهد معروف، والدعوة في أول أمرها كانت في حاجة ماسة إلى الإكثار من ذلك، لا جتذاب القبائل إليه ومؤازرتهم له، لذود عوادى الضالين، وكف أذاهم عنه، ومن ثم كان أكثر زوجاته من قريش سيدة العرب. (3) إن المؤمنين كانوا يرون أن أعظم شرف وأمتن قربة إلى الله تعالى مصاهرتهم لنبيه وقربهم منه، فمن ظفر بالمصاهرة فقد أدرك ما يرجو. ألا ترى أن عمر رضى الله عنه أسف جد الأسف حين فارق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابنته وقال: لا يعبأ بعدها بعمر، ولم ينكشف عنه الهم حتى روجعت، وأن عليا كرم الله وجهه على اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق النسب وشرف اقترانه بالزهراء رغب في أن يزوجه أخته أم هانىء بنت أبى طالب ليتضاعف شرفه ولم يمنعها من ذلك إلا خوفها أن تقصّر فى القيام بحقوق الرسول مع خدمة أبنائها. الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين (1) تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم بعد خديجة سودة بنت زمعة أرملة السكران ابن عمرو الذي أسلم واضطرّ إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة هربا من اضطهاد المشركين ومات هناك وأصبحت امرأته بلا معين، وهى أرمل رجل مات في سبيل الدفاع عن الحق، فتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم وفاء لرجل غادر الأهل والأوطان احتفاظا بعقيدته، وقد شاركته هذه الزوجة في أهوال التغريب والنفي، وحماية لها من أهلها أن يفتنوها، لأنها هاجرت مع زوجها على غير رغبتهم. (2) تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية وعمرها زهاء خمسين عاما، وكان زواجه منها سببا في دخول خالد بن الوليد في دين الله، وهو المجاهد الكبير والبطل العظيم،

وهو الذي غلب الروم على أمرهم فيما بعد، وله في الإسلام أيام غرّ محجلة- إلى أن زواجها بالنبي صلّى الله عليه وسلم يسّر لذوى قرباها وسيلة للعيش فطعموا من جوع وأمنوا من مخوف وأثروا بعد فاقة. (3) تزوج جويرية وكان أبوها الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق بن خزاعة جمع قبل إسلامه جموعا كثيرة لمحاربة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولما التقى الجمعان عرض عليهم الرسول صلّى الله عليه وسلم الإسلام فأبوه فحاربهم حتى هزموا ووقعت جويرية فى سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على سبع أواق من الذهب فلم تر معينا لها غير النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت إليه وأدلت بنسبها وطلبت حريتها فتذكر النبي صلّى الله عليه وسلم ما كان لأهلها من العز والسؤدد وما صاروا إليه بسوء التدبير والعناد، فأحسن إليها وإلى قومها بأداء ما عليها من نجوم، ثم تزوجها فقال المسلمون بعد أن اقتسموا بنى المصطلق: إن أصهار رسول الله لا يسترقّون، وأعتقوا من بأيديهم من سبيهم، وعلى إثر ذلك أسلم بنو المصطلق شكرا لله على الحرية بعد ذل الكفر والأسر. (4) تزوج السيدة عائشة مكافأة لأبى بكر الصديق، إذ كان شديد التمسك برسول الله صلّى الله عليه وسلم مولعا بالتقرب منه، فكان ذلك قرة عين لها ولأبويها وفخرا لذوى قرباها، وكان عبد الله بن الزبير (ابن أختها) يفاخر بنى هاشم بذلك. (5) تزوج أم المؤمنين حفصة بنت عمر مكافأة لزوجها الذي توفى مجروحا في موقعة بدر وفي تلك الحقبة كانت السيدة رقية بنت الرسول وزوج عثمان قد توفيت، فعرض عمر ابنته على عثمان فأعرض عنها رغبة في أم كلثوم بضعة الرسول ليستديم له بذلك الشرف، فعزّ هذا على عمر وأنفت نفسه فشكاه إلى أبى بكر فقال له لعلها تتزوج من هو خير منه ويتزوج من هى خير منها له (يريد زواج عثمان بأم كلثوم وزواج حفصة بالنبي صلّى الله عليه وسلم) . (6) تزوج صفية بنت حيىّ بن أخطب سيد بنى النّضير، وكانت قد وقعت

فى السبي مع عشيرتها، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجها رأفة بها إذ ذلت بعد عزة، واسترقّت وهى السيدة الشريفة عند أهلها، وتأليفا لقومها حتى يدخلوا في كنف الإسلام، وينضووا تحت لوائه. (7) تزوج زينب بنت جحش الأسدية، لإبطال عادة جاهلية كانت متأصلة عند العرب وهى التبني بتنزيل الدّعى منزلة الابن الحقيقي، وإذا أراد الله إبطال هذه العادة جعل رسوله صلّى الله عليه وسلم أسوة حسنة في هذا، فسعى في تزويج زيد مولاه بعد أن أعتقه بزينب ذات الحسب والمجد فأنفت هى وأخوها عبد الله، وأبت أن تكون زوجا لدعىّ غير كفء، فأنزل الله «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» فرضيا بقضاء الله ورسوله غير أنها كانت نافرة من هذا القرآن، مترفعة عن زيد، ضائقة به ذرعا، فآثر فراقها، فسأل الرسول الإذن في ذلك، فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله، وأخفى في نفسه ما الله مبديه من تزوجه منها بعد زيد، وخشى أن يقول الناس: تزوج محمد من زيد ابنه. ولما لم يبق لزيد فيها شىء من الرغبة طلقها، فتزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم، إبطالا لتلك العادة، وهى إعطاء المتبنّى حكم لابن، وقد تقدم تفصيل هذا في أثناء تفسير السورة بشىء من البسط والإيضاح. ومما سلف يستبين لك أن ما يتقوله غير المنصفين من الغربيين من أن النبي صلّى الله عليه وسلم خوّل لنفسه ميزة لم يعطها لأحد من أتباعه- لا وجه له من الصحة فإن زواجه بأمهات المؤمنين كان لأغراض اجتماعية اقتضتها الدعوة، ودعا إليها حب النصرة، ولا سيما إذا علم أنه لم يتزوج بكرا قط إلا عائشة، وأن من أمهات المؤمنين من كن في سن الكهولة أو جاوزنها.

أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام

أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام يجدر بذوي الحصافة في الرأى أن ينظروا إلى الأسباب التي دعت أن يبيح الإسلام تعدد الزوجات دون أن ينقموا عليه ذلك، ويرموه بالقسوة، فإن في بعضها ما هو موجب للتعدد لا مجيز له فحسب. وهاك أهم الأسباب: (1) قد تصاب المرأة أحيانا بمرض مزمن أو مرض معد يجعلها غير قادرة على القيام بالواجبات الزوجية، فيضطر الرجل إلى أن يقترف ما ينافي الشرف والمروءة ويغضب الله ورسوله إن لم يبح له أن يتزوج بأخرى. (2) دل الاستقراء على أن عدد النساء يربو على عدد الرجال، لما يعانيه هؤلاء من الأعمال الشاقة التي تنهك القوى وتضوى الأجسام، ولا سيما الحروب الطاحنة، فإذا منع التعدد لا يجد بعض النساء أزواجا يحصنونهن ويقومون بشئونهن، فيكثر الفساد، ويلحق الأسر العار وتعضهن الحياة بأنيابها. (3) حضت الشريعة الإسلامية على كثرة النسل، لتقوى شوكة الإسلام، وتعلو سطوته، وتنفذ كلمته، حتى ترهبه الأعداء، وتتقيه الأمم المناوئة له، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإباحة تعدد الزوجات، لأن المنع مفض إلى تناقص النسل، ولا أدل على ذلك من أن عقلاء الأمم في الغرب أشفقوا على أممهم لما اعتراها من نقص في النسل بسبب منع التعدد من ناحية، وإحجام كثير من شبانهم عن الزواج، والاجتزاء بالسفاح، فرارا من الحقوق الزوجية، وأعباء الأولاد من ناحية أخرى، ومن ثم لجأ كثير من الدول الغربية إلى ارتباط بعضهم ببعض بالحلف والعهود والمواثيق، طلبا لنيل فائدة التكاثر، وبذلك تبقى لهم السيادة الدولية.

ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد

(4) دل الإحصاء في كثير من البلاد الغربية على أن حظر تعدد الزوجات أدى إلى كثرة الأولاد غير الشرعيين مما حدا بعض المفكرين إلى النظر في توريثهم. (5) كان من نتائج منع التعدد انتشار كثير من الأمراض الفتاكة التي أصابت الرجال والنساء والأطفال حتى عجز الطب عن مكافحتها وتغلغل الداء وعز الدواء، مما جعل بعض البلاد تسن القوانين التي تمنع عقد الزواج إلا بعد إحضار صكّ رسمى بخلو الزوجين من الأمراض المعدية والأمراض التي تجعل النسل ضعيفا ضاويا لا يستطيع الكفاح في الحياة. ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد (1) الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين. (2) وجوب اتباع ما ينزل به الوحى مع ضرب المثل لذلك. (3) إبطال العادة الجاهلية وهى إعطاء المتبنّى حكم الابن، وبيان أن الدين منه براء. (4) إبطال التوريث بالحلف والتوريث بالهجرة، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة. (5) ذكر النعمة التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتد بهم الخطب. (6) تخيير النبي نساءه بين شيئين: الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا والبقاء معه إذا أحببن الله ورسوله والدار الآخرة. (7) التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش، ونهيهن عن الخضوع فى القول وأمرهن بالقرار في البيوت، وتعليمهن كتاب الله وسنة رسوله، ونهيهن عن التبرج. (8) قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسوله صلّى الله عليه وسلم.

(9) ما أحل لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك. (10) النهى عن إيذاء المؤمنين للنبى صلّى الله عليه وسلم إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه (11) الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شىء إلا الآباء والأبناء والأرقاء. (12) أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة. (13) تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة. (14) سؤال المشركين عن الساعة متى هى؟ (15) النهى عن إيذاء النبي حتى لا يكونوا كبنى إسرائيل الذين آذوا موسى.

سورة سبأ

سورة سبأ هى مكية إلا الآية السادسة مثها فمدنية، وآيها أربع وخمسون نزلت بعد لقمان. ووجه اتصالها بما قبلها: (1) إن الصفات التي أجريت على الله في مفتتحها تشاكل الصفات التي نسبت إليه في مختتم السورة السالفة. (2) إنه في السورة السابقة ذكر سؤال الكفار عن الساعة استهزاء، وهنا حكى عنهم إنكارها صريحا، وطعنهم على من يقول بالبعث، وقال هنا ما لم يقله هناك. [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) تفسير المفردات الحمد: هو الثناء على الله بما هو أهله، والحكيم: الذي أحكم أمر الدارين ودبره بحسب ما تقتضيه الحكمة، والخيبر: هو الذي يعلم بواطن الأمور وخوافيها، يلج فى الأرض: أي يدخل فيها، ويعرج: أي يصعد. الإيضاح (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الحمد الكامل للمعبود المالك لجميع ما في السموات وما في الأرض دون كل ما يعبدونه ودون كل شىء سواه، إذ لا مالك لشىء من ذلك غيره.

والخلاصة- إن له عز وجل جميع ما في السموات وما في الأرض، خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة. ولما بين اختصاصه بالحمد في الدنيا أعقبه ببيان أن له وحده الحمد في الآخرة فقال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي وله الحمد في الآخرة خالصا دون سواه على ما أنعم به فيها كما حكى عن أهلها من قولهم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» وقولهم: «الحمد لله الّذى أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور. الّذى أحلّنا دار المقامة من فضله» . (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي وهو المدبّر لشئون خلقه على ما تقتضيه الحكمة، الخبير ببواطن الأمور ومكنوناتها. ثم فصل بعض ما يحيط به علمه من الأمور التي نيطت بها مصالح عباده الدنيوية والأخروية فقال: (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل في الأرض كالغيث ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات، وما يخرج منها كالحيوان والنبات والغازات وماء العيون والمعادن التي مضى عليها آلاف السنين، ومخلّفات الأمم ومصنوعاتهم كمخلفات المصريين القدماء ونقوش آشور وبابل وعجائب أهل سبأ وصناعاتهم، مما استخرجه علماء العاديات من الأوربيين في القرن الماضي والعصر الحاضر، ولا يزالون كل يوم يكشفون جديدا يدل على أن الشرق كان ذا مدنية وحضارة لا يدانيها أعظم ما يوجد في الغرب الآن في أرقى ممالكه. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالملائكة والكتب والأرزاق والمطر والصواعق. (وَما يَعْرُجُ فِيها) كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والدخان والطائرات والمطاود الجوية. (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي وهو مع كثرة نعمه وسبوغ فضله، رحيم بعباده فلا يعاجل بعقوبة، غفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.

[سورة سبإ (34) : الآيات 3 إلى 6]

[سورة سبإ (34) : الآيات 3 الى 6] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) تفسير المفردات لا يعزب عنه: أي لا يفوته علمه، مثقال ذرة: أي مقدار أصغر نملة، والكتاب المبين: اللوح المحفوظ، رزق كريم: أي حسن لا تعب فيه ولا منّ عليه، معاجزين: أي مسابقين يظنون أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم، رجز: أي عذاب شديد، العزيز: أي الذي يغلب ولا يغلب، الحميد: أي المحمود في جميع شئونه، وصراطه: هو التوحيد والتقوى. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أن له الحمد في الآخرة على ما أسدى إلى عباده من النعم، أردف ذلك بيان أن كثيرا منهم ينكرها أشد الإنكار، ويستهزئ بمن يثبتها ويعتقد أنها ستكون، وقد بلغ من تهكمهم أنهم يستعجلون مجيئها ظنا منهم أن هذه خيالات بل أضغاث أحلام، وقد ذكر أن مجيئها ضربة لازب، لتجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ثم أعقب هذا ببيان أن الناس فريقان: مؤمن بآيات ربه يرى أنها الحق

الإيضاح

وأنها تهدى إلى الصراط المستقيم، ومعاند جاحد بها يسعى في إبطالها، ومآل أمره العذاب الأليم على ما دسّى به نفسه من قبيح الخلال. الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي وقال الذين ستروا ما أرشدتهم إليه عقولهم من البراهين الدالة على قيام الساعة: إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا ولا بعث ولا حساب، إن هى إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما نحن بمبعوثين. وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم مؤكدا لهم بطلان ما يدّعون. (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي قل لهم إنها وربى لآتية لا ريب فيها. وهذه الآية إحدى آيات ثلاث أمر الله فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد حين أنكره من أنكره من أهل الشرك والعناد، فإحداهن في سورة يونس «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» وثانيتها فى سورة التغابن «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» وثالثتها ما هنا. ثم وصف المولى نفسه بكامل العلم وعظيم الإحاطة بالموجودات مما يؤكد إمكان البعث فقال: (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إن وقت مجيئها لا يعلمه سوى علام الغيوب الذي لا يغيب عن علمه شىء في السموات ولا في الأرض من ذرة فما دونها ولا ما فوقها، أين كانت وأين ذهبت، فكل ذلك محفوظ في كتاب مبين، فالعظام وإن تلاشت، واللحوم وإن تفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، فيعيدها كما بدأها أول مرة وهو بكل شىء عليم. ثم بين الحكمة في إعادة الأجسام وقيام الساعة بقوله:

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي ببعثهم من قبورهم يوم القيامة، ليثيب الذين آمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه وأولئك لهم مغفرة لذنوبهم من لدنه، وعيش هنىء في الجنة لا تعب فيه ولا منّ عليه، والخلاصة- إن الحكمة تقتضى وجودها، وليس هناك مانع منها، فالعلم المحيط بالغيب موجود، فقد وجد المقتضى لوجودها، وارتفع المانع من إتيانها. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي وليجزى الذين سعوا في إبطال أدلتنا وحججنا عنادا منهم وكفرا، وظنوا أنهم يسبقوننا بأنفسهم فلا نقدر عليهم بشديد العذاب في جهنم وبئس المهاد، لما اجترحوا من السيئات ودسّوا به أنفسهم من قبيح الأعمال. وإجمال ذلك- إن الساعة آتية لا محالة، لينعم السعداء المؤمنون، ويعذّب الأشقياء الكافرون. ونحو الآية قوله: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» وقوله: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» . ثم استشهد باعتراف أولى العلم ممن آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما بصحة ما أنزل إليك، ليردّ به على أولئك الجهلة الساعين في الآيات الذين أنكروا الساعة فقال: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي وقال الجهلة المنكرون للبعث والحشر والحساب- إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا وقال العالمون من أهل الكتاب ومن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن يأتى من بعدهم من أمته: إن الذي أنزل إليك من ربك مثبتا لقيام الساعة ومجازاة كل عامل بما عمل من خير أو شر- هو الحق الذي لا شك فيه، وأنه هو الذي

[سورة سبإ (34) : الآيات 7 إلى 9]

يرشد من اتبعه وعمل به إلى سبيل الله الذي لا يغالب ولا يمانع، وهو القاهر لكل شىء والغالب له، وهو المحمود على جميع أقواله وأفعاله وما أنزله من شرع ودين. [سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) تفسير المفردات تمزيق الشيء: تقطيع أوصاله وجعله قطعا قطعا، يقال ثوب مزيق وممزوق ومتمزّق وممزّق، ومنه قوله: إذا كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركنى ولما أمزّق والافتراء: اختلاق الكذب، والجنة: الجنون وزوال العقل، كسفا: قطعا واحدها كسفة، منيب: أي راجع إلى ربه مطيع له. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم ما قالوا وأكده كل التأكيد، ثم ذكر ما يكون إذ ذاك من جزاء المؤمن بالثواب العظيم على ما عمل من صالح الأعمال، وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب في الجحيم على ما دسّى

الإيضاح

به نفسه من اجتراح المعاصي وفاسد المعتقدات- أردف ذلك ذكر مقال للكافرين ذكروه تهكما واستهزاء، ثم ذكر الدليل على صحة البعث بخلق السموات والأرض، ثم توعدهم على تكذيبهم بأشد الوعيد، لعلهم يرجعون عن عنادهم، ويثوبون إلى رشادهم. الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وقال قريش بعضهم لبعض، تعجبا واستهزاء، وتهكما وإنكارا: هل سمعتم برجل يقول: إنا إذا تقطعت أوصالنا، وتفرقت أبداننا، وبليت عظامنا، نرجع كرة أخرى أحياء كما كنا، ونحاسب على أعمالنا، ثم نثاب على الإحسان إحسانا، ويجزى على اجتراح الآثام آلاما، بنار تلظى تشوى الوجوه والأجسام. وخلاصة ذلك- إنه يقول: إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتا وعظاما، وقطعتكم السباع والطير، ستحيون وتبعثون، ثم تحاسبون على ما فرط منكم من صالح العمل وسيئه ثم قال إن مقالا كهذا لا يصدر إلا من أحد رجلين. (أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟) أي إن قوله هذا دائر بين أمرين: إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله أنه أوحى إليه ذلك، أو أنه لبّس عليه كما يلبّس على المعتوه والمجنون. وإجمال ذلك- إنه إما أن يكون مفتريا على الله وإما أن يكون مجنونا. فرد الله عليهم مقالهم وأثبت لهم ما هو أشد وأنكى فقال: (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه، بل إن محمدا هو البرّ الرشيد الذي جاء بالحق، وإنهم هم الكذبة الجهلة الأغبياء الذين بلغوا الغاية في اختلال العقل وأوغلوا في الضلال، وبعدوا

عن الإدراك والفهم، وليس هذا إلا الجنون بعينه، وسيؤدى ذلك بهم إلى العذاب، إذ هم قد أنكروا حكمة الله في خلق العالم وكذبوه في وعده ووعيده، وتعرضوا لسخطه. ثم ذكّرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته، وفيه تنبيه لهم إلى ما يحتمل أن يقع لهم من القوارع التي تهلكهم، وتهديد على ما اجترحوا من السيئات فقال: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالمعاد، الجاحدون للبعث بعد الممات فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضى وسمائى محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فيرتدعوا عن جهلهم، ويزدجروا عن تكذيبهم، حذر أن نأمر الأرض فتخسف بهم أو نأمر السماء فتسقط عليهم كسفا، فإنا إن نشأ أن نفعل ذلك بهم فعلنا، لكنا نؤخره لحلمنا وعفونا. وإجمال ذلك- إنه تعالى ذكّرهم بأظهر شىء لديهم يعاينونه حيثما وجدوا، ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا، وفيه الدليل على قدرته على البعث والإحياء، فإن من قدر على خلق تلك الأجرام العظام لا تعجزه إعادة الأجسام، فهى إذا قيست بها كانت كأنها لا شىء كما قال: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» . وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه إلى مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد. ثم ذكر ما هو كالعلة في الحث على الاستدلال بذلك، ليزيح إنكارهم بالبعث فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض، لدلالة لكل عبد فطن منيب إلى ربه على كمال قدرتنا على بعث الأجساد ووقوع المعاد، لأن من قدر على خلق هذه السموات على ارتفاعها واتساعها، وعلى هذه الأرض على انخفاضها وطولها وعرضها- قادر على إعادة الأجسام، ونشر الرميم

[سورة سبإ (34) : الآيات 10 إلى 11]

من العظام، كما قال «لخلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون» . [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) تفسير المفردات فضلا: أي نعمة وإحسانا، أوّبى معه: أي رجّعى معه التسبيح وردّديه، وألنا له الحديد: أي جعلناه في يده كالشمع والعجين يصرّفه كما يشاء من غير نار ولا طرق، وسابغات من السبوغ وهو التمام والكمال: أي دروعا كاملات، قدّر: أي اقتصد، والسرد: النسج: أي اجعل النسج على قدر الحاجة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن في خلق السموات والأرض آية لكل من أناب إلى الله ورجع إليه- أردف ذلك ذكر بعض من أنابوا إلى ربهم فأنعم عليهم بما آتاهم من الفضل المبين، ومن جملتهم داود عليه السلام فقد جمع الله له النبوة والملك والجنود ذوى العدد والعدد ومنحه الصوت الرخيم، فكان إذا سبح تسبح معه الجبال الراسيات، وتقف له الطيور السارحات، وعلمه سرد الدروع لتكون عدّة للمقاتلين وردءا للمجاهدين.

الإيضاح

الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) أي ولقد أعطينا داود منا نعما ومننا فقلنا للجبال وللطير رجّعى معه التسبيح وردّ ديه إذا سبّح، وذلك بأن تحمله عليه إذا تأمل عجائبها فهى له مذكّرات كما يذكّر المسبّح مسبحا آخر (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي وجعلنا الحديد في يده لينا يسهل تصويره وتصريفه كما يشاء، فيعمل منه الدروع وآلات الحرب على أتم النظم وأحكم الأوضاع، فيجعل حلقاتها على قدر الحاجة فلا هى بالضيقة فتضعف ولا تؤدى وظيفتها لدى الكر والفر والشد والجذب، ولا هى بالواسعة التي ربما ينال صاحبها من خلالها الأذى، وهذا تعليم من الله له في إجادة نسج الدروع. قال قتادة: إن داود أول من عملها حلقا وكانت قبل ذلك صفائح فكانت ثقالا (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي واعمل يا داود أنت وآلك بطاعة الله فأجازيكم كفاء ما عملتم. ثم علل هذا الأمر بقوله: (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنى مراقب لكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى على شىء منها. وفي هذا ما لا يخفى من التنبيه والإغراء بإصلاح العمل والإخلاص فيه. [سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 13] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)

تفسير المفردات

تفسير المفردات غدوّها شهر: أي جريانها بالغداة مسيرة شهر، ورواحها شهر: أي وجريانها بالعشي مسيرة شهر، وأسلنا: أي أذبنا، والقطر: النحاس المذاب، ومن يزغ منهم عن أمرنا: ى ومن يعدل عن طاعة سليمان، عذاب السعير: أي العذاب الشديد في الدنيا، والمحاريب واحدها محراب: وهو كل موضع مرتفع قال الشاعر: وماذا عليه أن ذكرت أو أنسا ... كغزلان رمل في محاريب أقيال والتماثيل: الصور، والجفان واحدها جفنة: وهى القصعة، والجوابى واحدها جابية وهى الحوض الكبير، وقدور: واحدها قدر، وراسيات: أي ثابتات على أثافيها لا تتحرك ولا تنزل عن أماكنها لعظمها، الشكور: الباذل وسعه في الشكر قد شغل قلبه ولسانه وجوارحه به اعترافا واعتقادا وعملا. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما منّ به على داود من النبوة والملك- أردف ذلك ذكر ما تفضل به على ابنه سليمان من تسخير الريح، فتجرى من الغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، ومن منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر، وإذابة النحاس على نحو ما كان لداود من إلانة الحديد وتسخير الجن عملة بين يديه يعملون له شتى المصنوعات من قصور شامخات وصور من نحاس وجفان كبيرة كالأحواض وقدور لا تتحرك لعظمها. إذ كل منهما أناب إلى ربه، وجال بفكره في ملكوت السموات والأرض، وكان من المؤمنين المخبتين الذين هم على ربهم يتوكلون.

الإيضاح

الإيضاح عدّد سبحانه ما أنعم به على سليمان عليه السلام وهو أمور: (1) (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي وسخرنا لسليمان الريح تجرى بالغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، وتجرى بالرواح من منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر قال قتادة تفسيرا للآية: كانت الريح تقطع به عليه السلام من الغدو إلى الزوال مسيرة شهر ومن الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. وقال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغذى بها، ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كذلك. (2) (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي وأذبنا له النحاس كما ألنا الحديد لداود، فكان يعمل منه أعماله وهو بارد دون حاجة إلى نار، وقد سال من معدنه فنبع نبوع الماء من الينبوع فلذلك سماه عينا. (3) (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي وسخرنا له من الجن من يبنى له الأبنية وغيرها بقدرة ربه وتسخيره، ومن يخرج منهم عن طاعته يذقه عذابا أليما في الدنيا. وإنا لنوقن بصدق ما جاء به القرآن من استخدام سليمان للجن ولا نعلم كيف كان يستخدمهم في أعماله، ولكن نشاهد آثار استخدامه لهم من المبانى الشاهقة، والقصور العظيمة، والتماثيل البديعة التي فصلها سبحانه بقوله: (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي يعملون له ما يشاء من القصور الشامخة، والصور المختلفة، من النحاس والزجاج والرخام ونحوها، والجفان الكبيرة التي تكفى لعشرات الناس، قال الأعشى يمدح آل جفنة من الغساسنة بالشام.

[سورة سبإ (34) : آية 14]

نفى الذمّ عن آل المحلّق جفنة ... كجابية الشيخ العراقىّ تفهق والقدور الثوابت في أماكنها التي لا تتحرك ولا تتحول لكبرها وعظمها. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي وقلنا لهم: اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرا له على نعمه التي أنعمها عليكم في الدين والدنيا روى أن النبي صلّى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال «ثلاث من أوتيهن فقد أوتى مثل ما أوتى آل داود، فقلنا ما هن؟ فقال العدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله فى السرّ والعلانية» أخرجه الترمذي. والشكر كما يكون بالفعل يكون بالقول ويكون بالنية كما قال: أفادتكم النعماء منى ثلاثة ... يدى ولسانى والضمير المحجبا ثم ذكر السبب في طلب الشكر منهم فقال: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي وقليل من عبادى من يطيعنى شكرا لنعمتى، فيصرف ما أنعمت به عليه فيما يرضينى، وقد قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر. ونحو الآية قوله: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» . وعن عائشة رضى الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطّر قدماه، فقلت له: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أفلا أكون عبدا شكورا» أخرجه مسلم في صحيحه. [سورة سبإ (34) : آية 14] فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)

تفسير المفردات

تفسير المفردات قضينا عليه: أي حكمنا عليه، دابة الأرض: هى الأرضة (بفتحات) التي تأكل الخشب ونحوها، والمنسأة: العصا من نسأت البعير إذا طردته، قال الشاعر: ضربنا بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا لأنها يطرد بها، وخر: سقط، وما لبثوا: أي ما أقاموا، فى العذاب المهين: أي الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه عظمة سليمان وتسخيره الريح والجن- أردف ذلك بيان أنه لم ينج أحد من الموت بل قضى عليه به، تنبيها للخلق إلى أن الموت لا بد منه ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة. الإيضاح المعنى- إنا لما قضينا على سليمان بالموت لم يدل الجن على موته إلا الأرضة التي وقعت في عصاه من داخلها إذ بينما هو متكىء عليها وقد وافاه القضاء المحتوم انكسرت فسقط على الأرض واستبان للجن أنهم لا يعلمون الغيب كما كانوا يزعمون، ولو علموه ما قاموا في الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها ظانين أنه حى. والكتاب الكريم لم يحدد المدة التي قضاها سليمان وهو متوكىء على عصاه حتى علم الجن بموته، وقد روى القصاصون أنها كانت سنة، ومثل هذا لا ينبغى الركون إليه، فليس من الجائز أن خدم سليمان لا يتنبهون إلى القيام بواجباته المعيشية من مأكل ومشرب وملبس ونحوها يوما كاملا دون أن يحادثوه في ذلك ويطلبوا إليه القيام بخدمته، فالمعقول أن الأرضة بدأت العصا وسليمان لم يتنبه لذلك، وبينما

[سورة سبإ (34) : الآيات 15 إلى 17]

هو متوكىء عليها حانت منيته، وكانت الأرضة قد فعلت فعلها في العصا فانكسرت فجرّ على الأرض فعلمت الجن كذبها، إذ كانت تدعى أنها تعلم الغيب، إذ لو علمته ما لبثت هق نفسها في شاقّ الأعمال التي كلّفت بها. [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 17] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) تفسير المفردات سبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: والمراد به هنا القبيلة، والمسكن موضع السكنى وهو مأرب (كمنزل) من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، آية: أي علامة دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته على إيجاد الغرائب والعجائب، جنتان: أي بستانان، فأعرضوا: أي انصرفوا عن شكر هذه النعم، والعرم: واحدها عرمة وهى الحجارة المركومة كخزان أسوان في وادي النيل لحجز المياه جنوبى النيل، وكانت له ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، والمطر يجتمع أمام ذلك السد، فيسقون من الباب الأعلى ثم الذي يليه ثم من الأسفل، والأكل: الثمر، والخمط: كل شجرة مرة ذات شوك، والأثل. الطرفاء، وهو المعروف في مصر (بالأثل) والسدر: شجر النبق.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر جل وعلا حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه- أعقب ذلك بذكر ما حل بالكافرين بنعمه، المعرضين عن ذكره وشكره من عظيم العقاب، موعظة لقريش وتحذ المن يكفر بالنعم، ويعرض عن المنعم. الإيضاح (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي لقد كان أهل هذا الحي من ملوك اليمن فى نعمة عظيمة وسعة في الرزق، وكانت لهم حدائق غناء، وبساتين فيحاء، عن يمين الوادي وشماله، وقد أرسل الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزق ربهم ويشكروه بتوحيده وعبادته كفاء ما أنعم عليهم بهذه المنن، وأحسن إليهم بتلك النعم، فكانوا كذلك إلى حين، ثم أعرضوا عما أمروا به فعوقبوا بإرسال السيل عليهم فتفرقوا في البلاد شذر مذر، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) أي فأعرضوا عن طاعة ربهم، وصدوا عن اتباع مادعتهم إليه الرسل، فأرسل الله عليهم سيلا كثيرا ملأ الوادي وكسر السد وخرّبه وذهب بالجنان والبساتين، وأهلك الحرث والنسل، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد، وبدّلوا بتلك الجنان والبساتين التي سبق وصفها بساتين ليس فيها إلا بعض أشجار لا يؤبه بها كالخمط والأثل وقليل من النبق. ثم بين سبب ذلك العقاب بقوله: (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي وجازيناهم ذلك الجزاء الفظيع من جراء كفرهم بربهم وجحودهم بنعمه، وتكذيبهم بالحق، وعدو لهم

سد مأرب - سد العرم

عنه إلى الباطل، وما نجازى مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا عظيم الكفران للنعم، الجحود للفصل والمنن. سد مأرب- سد العرم وصف هذا السد مؤرخو العرب في عصور مختلفة. وأصدق من أجاد وصفه الهمداني في كتابه (وصف جزيرة العرب) قال: فى الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هى شعاب من جبل السراة الشهير، تمتد مئات الأميال نحو الشرق الشمالي، وبين هذه الجبال أودية تصب في واد كبير يعبّر عنه العرب بالميزاب الشرقي وهو أعظم أودية الشرق، وشعاب هذه المواضع وأوديتها إذا أمطرت السماء تجمعت فيها السيول وانحدرت حتى تنتهى أخيرا إلى وادي آذنة، وهو يعلو سطح البحر بنحو 1100 متر، وتسير فيه المياه نحو الشرق الشمالي حتى تنتهى إلى مكان قبل مأرب بثلاث ساعات، هو مضيق بين جبلين يقال لكل منهما بلن، أحدهما بلن الأيمن وثانيهما بلن الأيسر والمسافة بينهما ستمائة ذراع يجرى السيل الأكبر بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرق الشمالي في وادي أذنة. وقد اختار السبئيون المضيق بين جبلى بلن وبنوا في عرضه سورا عظيما عرف بسد مأرب أو بسد العرم، لأنه لا أنهار عندهم، وإنما يستقى أهلها من السيول التي تتجمع من المطر، وقد كان يذهب أكثرها في الرمال، فإذا انقضى فصل المطر ظمئوا وجفّت أغراسهم، وربما فاض المطر فسطا على المدن والقرى فنالهم منه أذى كثير. وبين المضيق ومدينة مأرب متسع من الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من الأرض من سفوح وجبال نحو 3000 ميل مربع كانت صحراء جرداء قاحلة فأصبحت بعد تدبير المياه بالسد غياضا وبساتين على سفحى الجبلين وهى المعبر عنها بالجنتين الجنة اليمنى والجنة اليسرى اهـ بتصرف. وقد ظل الباحثون والمنقبون في العصر الحديث في شك من أمر هذا السد حتى

[سورة سبإ (34) : الآيات 18 إلى 19]

تمكن المستعرب الفرنسى أرنو من الوصول إلى مأرب سنة 1843 وشاهد آثاره ورسم له مصورا نشر في المجلة الفرنسية سنة 1874 وزار مأرب بعده هاليفى وغلا زر ووافقاه فيما قال وصادقاه فيما وصف وهو يطابق من وجوه كثيرة ما قاله الهمداني فى كتابه ثم عثروا فيما بعد على نقوش كتابية في خرائب السد وغيرها تحققوا بها صدق خبره. قال الأصفهانى: إن السد تهدم قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة، وقال ياقوت: إنه هدم في نحو القرن السادس للميلاد، وقال ابن خلدون: إنه تهدم في القرن الخامس للميلاد. [سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19] وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) تفسير المفردات القرى التي بارك فيها: هى قرى الشام، قرى ظاهرة: أي مرتفعة على الآكام وهى أصح القرى، وقدرنا فيها السير: أي كانت القرى على مقادير للراحل، فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى حين الظهيرة، ومن سار من بعد الظهر وصل إلى أخرى حين الغروب، فلا يحتاج إلى حمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ولا سبع، آمنين: أي من كل ما تكرهون، وظلموا أنفسهم لأنهم بطروا النعمة، والأحاديث: واحدها أحدوثة وهى ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب، ومزقناهم كل ممزق: أي وفرقناهم كل تفريق، الصبّار: كثير الصبر

المعنى الجملي

عن الشهوات ودواعى الهوى وعلى مشاق الطاعات. والشكور: أي كثير الشكران على النعم. المعنى الجملي بعد أن حكى سبحانه ما أوتوا من النعم في مساكنهم، ثم كفرانهم بها، وما جوزوا به من الخراب والدمار- قص علينا ما أعطوه من النعم في مسايرهم ومتاجرهم، ثم جحودهم بها، ثم ماحاق بهم بسبب ذلك. الإيضاح (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) أي وجعلنا بين قراهم وقرى الشام التي باركنا فيها بالتوسعة على أهلها قرى متواصلة يظهر بعضها لبعض، لأنها مبنية على آكام عالية. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي وجعلنا بين بعضها وبعض مقادير متناسبة بحيث يقيل الغادي في قرية، ويبيت الرائح في أخرى إلى أن يصل إلى الشام وهو لا يحمل معه زادا ولا ماء. (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي وقلنا لهم سيروا في هذه القرى التي بين قراكم وقرى الشام التي باركنا فيها ليالى وأياما وأنتم آمنون لا تخشون جوعا ولا عطشا ولا عدوا يبطش بكم، بل تغدون فتقيلون، وتروحون فتبيتون في قرية ذات جنان ونهر. وخلاصة هذا- إنهم كانوا في نعمة وغبطة وعيش هنّى رغد في بلاد مرضية وأماكن آمنة وقرى متواصلة، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، فالمسافر لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، فهو يقيل في قرية ويبيت فى أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في مسيرهم.

ثم ذكر أنهم بطروا وملّوا تلك النعم وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنوا إسرائيل فطلبوا أن يفصل بين القرى بمفاوز وقفار، ليظهر القادرون منهم الأزواد والرواحل تكبرا وفخرا على العاجزين كما حكى سبحانه عنهم بقوله: (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز، لنركب فيها الرواحل، ونتزود معنا فيها الأزواد، فأجاب الله طلبهم وعاقبهم على بطرهم بالنعمة كما قال: (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إذ قد عرّضوها للسخط والعذاب، بغمط النعمة وعدم الوفاء بشكرها. ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال: (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فجعلناهم أحاديث للناس يسمرون بها ويعتبرون بأمرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنىّ وصاروا مضرب الأمثال فقيل للقوم يتفرقون تفرقوا أيدى سبأ، فنزل آل جفنة ابن عمرو الشام ونزل الأوس والخزرج يثرب، ونزلت أزد السّراة السّراة، ونزلت أزد عمان عمانا ثم أرسل الله على السد السيل فهدمه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في ذلك الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، بعد النعمة والعافية، عقوبة لهم على ما اجترحوه من الآثام- لعبرة لكل عبد صبار على المصايب، شكور على النعم. روى سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شىء حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته» وكان مطرّف بن الشّخّير يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر.

[سورة سبإ (34) : الآيات 20 إلى 21]

[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21] وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) تفسير المفردات صدق عليهم إبليس ظنه: أي وجد ظنه فيهم صادقا، لانهما كهم في الشهوات واستفراغ الجهد في اللذات، سلطان: أي تسلط واستغواء بالوسوسة، حفيظ: أي وكيل قائم على شئون خلقه. المعنى الجملي بعد أن ذكر جلت قدرته قصص سبأ، وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان- أردف ذلك الإخبار بأنهم صدّقوا ظنّ إبليس فيهم وفي أمثالهم ممن ركنوا إلى الغواية والضلال، إذ تسلط عليهم وانقادوا إلى وسوسته، وبذا امتازوا من فريق المؤمنين الذين لا سلطان للشيطان عليهم كما قال سبحانه «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» . الإيضاح (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد ظن إبليس بهؤلاء الذين بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط عقوبة منالهم- ظنا غير يقين أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله، وحين أغواهم وأطاعوه وعصوا ربهم تحقق صدق ظنه فيهم، إلا فريقا من المؤمنين ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس. ثم ذكر أنه ابتلاهم ليظهر حال المؤمنين من حال الشاكين في الآخرة فقال:

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) أي وما كان لإبليس على هؤلاء القوم من حجة يضلهم بها، ولكنا أردنا ابتلاءهم واختبارهم ليظهر حال من يؤمن بالآخرة ويصدق بالثواب والعقاب ممن هو منها فى شك، فلا يوقن بمعاد، ولا يصدق بثواب ولا عقاب. قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شىء، وما كان إلا غرورا وأمانىّ دعاهم إليها فأجابوه. وخلاصة ذلك: لا سلطان لإبليس على قلوب الناس، ولكنى أسلطه عليهم كما أسلط الذباب على العيون القذرة، والأوبئة على البلاد التي لم يراع أهلها شروط النظافة في مساكنهم وملابسهم ومآكلهم، ولا أفعل ذلك إلا لحكمة، فإذا حل الوباء بأرض مات من لا قدرة له على مقاومة جراثيم الأمراض وبقي من هو قادر على المقاومة ولديه قوة المناعة، وهكذا وسوسة الشيطان يفرق الله بها بين الثابت العقيدة والمتزلزلها، ومن انقاد لها فلا يلومنّ إلا نفسه وهو المذنب وحده، وهكذا جميع حوادث الدنيا من مصايب وآلام يثبت لها ذوو العزيمة الصادقة، ولا يضطرب حين حلولها إلا الضعيف الذي ليس له جلد ولا صبر. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي وربك أيها الرسول حفيظ على أعمال هؤلاء الكفار وغيرهم، لا يعزب عن علمه شىء، وهو يجازيهم جميعا يوم القيامة بما كسبوا فى الدنيا من خير أو شر، فمن أخبت لله وأناب إليه لاقى من الثواب مالا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن دسّى نفسه الأمارة بالسوء وانهمك فى شهواته لاقى من سوء الجزاء كفاء أعماله نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.

[سورة سبإ (34) : الآيات 22 إلى 23]

[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) تفسير المفردات ادعوا: أي نادوا، زعمتم: أي زعمتموهم آلهة، من شرك: أي شركة، والظهير: المعين، والتفزيع: إزالة الفزع، وهو انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف. المعنى الجملي بعد أن ذكر عزت قدرته ما آتاه الشاكرين من أوليائه كداود وسليمان من النعم التي لا حصر لها، وما فعله بسبأ حين بطروا النعمة وكذبوا الرسل- أعقب ذلك بأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين من قومه تهكما بهم وتعجبا من حالهم: ادعوا آلهتكم الذين زعمتموهم شركاء لله، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا بمن وصفنا أمرهم من إنعام أو انتقام، فإن لم يستطيعوا ذلك فاعلموا أنهم مبطلون. ثم ذكر أن شأن المعبود أن يكون نافعا للعابد يخشى بطشه وسطوته، وهؤلاء ليس لهم شىء من ذلك، إذ لا تصرف لهم في شىء في السموات والأرض لا استقلالا ولا شركة، ولا هم معينون للخالق فيهما، ولا تنفع شفاعتهم لديه، فكيف تتقربون إليهم وتعبدونهم رجاء نفعهم بعد الذي علمتم من أمرهم. الإيضاح (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك موبخا لهم ومبينا لهم سوء ما يصنعون: ادعوا هؤلاء الأصنام في مهامّ أموركم ليدفعوا الضر عنكم أو يجلبوا النفع لكم، لعلهم يستجيبون لكم إن كان ذلك فى مكنتهم، وبيدهم مقاليد أموركم.

ثم أبان لهم عظيم خطئهم وكبير جرمهم فقال: (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي هؤلاء الآلهة لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض من خير أو شر، فكيف يكونون آلهة يرجى منهم نفع أو يخشى منهم ضر. ونحو الآية قوله: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» . (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي لا هم يملكون مثقال ذرة فيهما على سبيل الشركة والمراد أنهم لا يملكون شيئا لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الشركة للخالق لهما. (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) أي وما لله من الآلهة التي يدعون من دونه معين على خلق شىء من ذلك، ولا على حفظه. (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أي ولا تنفعهم شفاعتهم عنده تعالى إذ لا شفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع، وهو لا يأذن أحدا أن يشفع لهؤلاء الكافرين كما قال تعالى: «لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» . والشفاعة لمثل هؤلاء لا تكون أبدا. ثم ذكر ما يحدث بعد انتظار الإذن بالشفاعة فقال: (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا؟ قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) أي يقف الناس منتظرين الإذن بالشفاعة وجلين حتى إذا أذن للشافعين وأزيل الفزع عن قلوب المنتظرين قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم في الإذن بالشفاعة؟ قالوا قال ربنا القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. والآيات تدل على أن المشفوع لهم هم المؤمنون، والكافرون بمعزل عن موقف الاستشفاع. والخلاصة- إن الشفاعة لا تنفع في حال إلا لشافع أذن له فيها من النبيين

[سورة سبإ (34) : الآيات 24 إلى 27]

والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة ويكون المشفوع له يستحق الشفاعة. ثم ذكر اعتراف الشفعاء بعظمة خالق الكون وقصور كل ما سواه فقال: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وهو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه فى ذلك أحد من خلقه، وليس لأحد منهم أن يتكلم إلا من بعد إذنه. وفي هذا تواضع منهم بعد أن رفع سبحانه أقدارهم بالإذن لهم بالشفاعة، وفيه أيضا ثناء على الله كما لا يخفى. [سورة سبإ (34) : الآيات 24 الى 27] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) تفسير المفردات أجرمنا: أي وقعنا في الجرم، وهو الذنب، ويفتح: أي يحكم، والفتاح: الحاكم أرونى الذين ألحقتم به شركاء: أي أعلمونى بالدليل وجه الشركة، كلا: كلمة للزجر عن كلام أو فعل صدر من المخاطب. المعنى الجملي بعد أن سلب سبحانه عن شركائهم ملك شىء من الأكوان، وأثبت أن ذلك له وحده- أمر نبيه أن يجعلهم يقرون بتفرده بالخلق والرزق وانفراده بالإلهية، وأن يخبر بأن أحد الفريقين الموحدين للرازق والمشركين به الجماد- مبطل والآخر

الإيضاح

محق، وقد قام الدليل على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك، وأن يقول لهم: لا تؤاخذون بما نعمل ولا نؤاخذ بما تعملون، وأن يقول لهم: إن ربنا هو الذي يحكم بيننا يوم القيامة وهو الحكيم العليم بجلائل الأمور ودقائقها، وأن يقول لهم: أعلمونى عما ألحقتم به من الشركاء، هل يخلقون وهل يرزقون؟ كلا بل الله هو الخالق الرازق الغالب على أمره، الحكيم في كل ما يفعل. الإيضاح (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام: من يرزقكم من السموات بإنزال الغيث عليكم، حياة لحروثكم وصلاحا لمعايشكم، وتسخير الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم- ومن الأرض بإخراج أقواتكم وأقوات أنعامكم؟ فإن هم قالوا لا ندرى فأجبهم: (قُلِ اللَّهُ) هو الذي يرزقكم، إذ لا جواب عندهم سواه في قرارة أنفسهم، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به عنادا مع علمهم بصحته، ولأنهم لو تفوّهوا به لقيل لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟ كما قال سبحانه تبكيتا لهم: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟» . ثم أمر رسوله أن يقول لهم بعد الإلزام الذي ليس بأقل من الاعتراف بأنفسهم. (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإن أحد الفريقين منا معشر الذين يوحدون الرزاق لمن في السموات والأرض، ويفردونه بالعبادة، والذين يشركون به الجماد العاجز عن دفع الضر وجلب النفع- لعلى الهدى أو في الضلال البين الذي لا شك فيه.

وهذا أسلوب من الكلام المنصف تستعمله العرب في محاورتها لإرخاء العنان للمخاطب حتى إذا سمعه الموافق أو المخالف قال لمن خوطب به لقد أنصفك صاحبك. ألا ترى الرجل يقول لصاحبه: قد علم الله الصادق منى ومنك، وإن أحدنا لكاذب، وعليه قول حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب وكان قد هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلّم: أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء وفي ذكر هذا بعد ما تقدمه من الحجج الظاهرة على التوحيد، دلاله واضحة على تمييز المهتدى من الضالّ، والإيماء أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينى. ثم زاد في إنصافهم في المخاصمة، فأسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل للمخاطبين فقال: (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي قل لهؤلاء المشركين: أنتم لا تسألون عما اكتسبنا من الآثام وارتكبنا من الذنوب، ونحن لا نسأل عما تعملون من عمل- خيرا كان أو شرا. ونحو الآية قوله: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» . ثم حذرهم وأنذرهم عاقبة أمرهم إذ أمر رسوله أن يقول لهم: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أي قل لهم: إن ربنا يوم القيامة يجمع بيننا حين الحشر والحساب ثم يقضى بيننا بالعدل بعد ظهور حال كل منا ومنكم، وهو الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور، وهنالك يجزى كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية كما قال: «ويوم تقوم السّاعة يومئذ يتفرّقون.

[سورة سبإ (34) : الآيات 28 إلى 30]

فأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فهم في روضة يحبرون. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» . ثم استفسر عن شبهتهم بعد إلزامهم الحجة تبكيتا لهم فقال: (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي قل لهم: ما الذي عراكم ودخل فى أذهانكم من الشبه حتى جعلتم هؤلاء أندادا لله وشركاء، وبأى صفة ألحقتموهم به فى استحقاق العبادة؟ ثم نبه إلى فاحش غلطهم، وعظيم خطئهم بقوله: (كَلَّا، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي ليس الأمر كما وصفتم، فلا نظير له تعالى ولا ندّ، بل هو الله الواحد الأحد ذو العزة التي بها قهر كل شىء، وهو الحكيم فى أفعاله وأقواله، وفيما شرع لهم من الدين الحق الذي يسعد من اعتنقه في حياتيه الأولى والآخرة. [سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 30] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) المعنى الجملي بعد أن أقام الأدلة على التوحيد، وضرب لذلك الأمثال، حتى لم يبق بعدها زيادة لمستزيد- شرع يذكر الرسالة ويبين أنها عامة للناس جميعا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فيحملهم ذلك على مخالفتك، ثم ذكر سؤال منكرى البعث عن الساعة استهزاء بها، ثم أعقب ذلك بالتهديد والوعيد لما يكون لهم فيها من شديد الأهوال.

الإيضاح

الإيضاح (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي وما أرسلناك إلى قومك خاصة بل أرسلناك إلى الخلق جميعا عربهم وعجمهم، أسودهم وأحمرهم، مبشرا من أطاعنى بالثواب العظيم، ومنذرا من عصانى بالعذاب الأليم. ونحو الآية قوله: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» وقوله: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» . (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم فيه من الغى والضلال. ونحو الآية قوله: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» وقوله: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء لفرط تعنتهم وجهلهم: متى هذا الذي توعدوننا به مبشرين ومنذرين إن كنتم أيها الرسول والمؤمنين صادقين فيما تقولون. ونحو الآية قوله: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» . ثم أمر رسوله أن يجيبهم عن سؤالهم فقال: (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: إن لكم ميعاد يوم هو آتيكم لا محالة، لا تستأخرون عنه ساعة إذا جاء فتنظروا للتوبة والإنابة، ولا تستقدمون قبله للعذاب، لأن الله جعل لكم أجلا لا تعدونه. والخلاصة- دعوا السؤال عن وقت مجىء الساعة، فإنه كائن لا محالة، وسلوا عن أحوال أنفسكم حين تكونون مبهوتين متحيرين من هول ما تشاهدون فهذا أليق بكم.

[سورة سبإ (34) : الآيات 31 إلى 33]

[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) المعنى الجملي لما ذكر الأصول الثلاثة وهى التوحيد والرسالة والحشر وكانوا كافرين بها جميعا- ذكر شأن جماعة من المشركين جاهروا بإنكار القرآن وبكل كتاب سبقه من الكتب السماوية السالفة، ويستتبع ذلك أنهم لا يؤمنون بما جاء فيها من البعث والحشر والحساب والجزاء، ثم ذكر ما سيكون من الحوار بين الضالين ومضليهم من الكفار وما يسرّونه من الحسرة والندامة حين يرون العذاب، ثم أعقبه بذكر ما سيحيق بهم من الإهانة بوضع الأغلال في الأعناق، وأن هذا جزاء لهم على ما عملوا من سيىء الأعمال، وما دسوا به أنفسهم من قبيح الخلال. الإيضاح (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وقال قوم من مشركى العرب: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب التي سبقته، ولا بما اشتملت

عليه من أمور الغيب التي تتصل بالآخرة من بعث وحساب وجزاء. روى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن وصف الرسول صلّى الله عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون صفته في كتبهم فأغضبهم ذلك وقالوا ما قالوا: ثم ذكر ما يكون من حوار بين ضاليهم ومضليهم حين الوقوف بين يدى الملك الديان للحساب والجزاء فقال: (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي ولو ترى أيها الرسول حال أولئك الكافرين وما هم فيه من مهانة وذلّة، يحاور بعضهم بعضا، ويتلاومون على ما كان بينهم من سوء الأعمال، والسبب فيمن أوقعهم في هذا النكال والوبال- لرأيت العجب العاجب، والمنظر المخزى الذي يستكين منه المرء خجلا ثم فصل ذلك الحوار فقال: (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي يقول الأتباع للذين استكبروا في الدنيا واستتبعوهم في الغى والضلال، لولا أنتم أيها السادة صدد نمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بما جاء به الرسول. ثم حكى سبحانه رد الرؤساء عليهم بقوله: (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي قال الذين استكبروا في الدنيا وصاروا رؤساء في الكفر والضلالة للذين استضعفوا فكانوا أتباعا لأهل الضلال منهم: أنحن منعناكم من اتباع الحق بعد أن جاءكم من عند الله؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان. والخلاصة- إننا لم نحل بينكم وبين الإيمان لو صممتم على الدخول فيه، بل كنتم مجرمين، فمنعكم إيثاركم الكفر على الإيمان من اتباع الهدى. ثم حكى رد المستضعفين على قول المستكبرين بقوله:

[سورة سبإ (34) : الآيات 34 إلى 39]

(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي وقال الأتباع للرؤساء في الضلال: صدنا مكركم بنا وخداعكم فى الليل والنهار حين كنتم تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أمثالا وأشباها في العبادة وإجمال ذلك- ما صدنا إلا مكركم أيها الرؤساء بالليل والنهار حتى أزلتمونا عن عبادة الله، فأنتم كنتم تغروننا وتمنوننا وتخبروننا أننا على الهدى وأنّا على شىء، وكل ذلك باطل وكذب. ثم ذكر مآل أمرهم وسوء عاقبتهم فقال: (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي وأضمر كل من الفريقين المستكبرين والمستضعفين- الندم على ما فرط منهم في الدنيا حين رأوا العذاب، إذ هم بهتوا مما عاينوا، فلم يستطيعوا أن ينطقوا ببنت شفة. والخلاصة- إنهم ندموا على ما فرّطوا من طاعة الله في الدنيا حين شاهدوا عذابه الذي أعده لهم. (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وجعلنا أغلال الحديد في أعناق هؤلاء في النار. ثم ذكر أنه لا جزاء لأمثالهم إلا هذا فقال: (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي وما يفعل ذلك بهم إلا جزاء لما اجترحوا من الكفر والآثام «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» وقد قالوا في أمثالهم: إنك لا تجنى من الشوك العنب: [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر قول المشركين لرسوله لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه بعد أن طال به الأمد في دعوتهم حتى لحقه من ذلك الغم الكثير كما قال: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» - سلاه على ما ابتلى به من مخالفة مترفى قومه له وعداوتهم إياه بالتأسى بمن قبله من الرسل، فهو ليس بدعا من بينهم، فما من نبى بعث في قرية إلا كذّبه مترفوها واتبعه ضعفاؤها كما قال: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها» ثم ذكر حجتهم بأنهم لا حاجة لهم إلى الإيمان به، فما هم فيه من مال وولد برهان ماطع على محبة الله إياهم، فرد عليهم بأن بسط الرزق وتقنيره كما يكون للبر يكون للفاجر، لأن ذلك مرتبط بسنن طبيعية وأسباب قدرها سبحانه في هذه الحياة، فمن أحسن استعمالها استفاد منها، ثم ذكر أن المتقين يمتّعون إذ ذاك بغرف الجنان وهم في أمن ودعة، وأن الذين يصدون عن سبيل الله في نار جهنم يصلونها أبدا، ثم وعد المنفقين فى سبيل الله بالإخلاف، وأوعد الممسكين بالإتلاف. الإيضاح (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي وما بعثنا إلى أهل قرية نذيرا ينذرهم بأسنا أن ينزل بهم على معصيتهم إيانا إلا قال

كبراؤها وأولو النعمة والثروة فيها: إنا لا نؤمن بما بعثتم به من التوحيد والبراءة من الآلهة والأنداد. وليس في ذلك من عجب، فإن المنغمسين في الشهوات يحملهم التكبر والتفاخر بزينة الحياة الدنيا على النفور من الكمال الروحي، ومن تثقيف النفوس بالإيمان والحكمة، فالضدان لا يجتمعان: انغماس في الشهوة وعلم وحكمة، ثروة مادية وثروة روحية. ثم ذكر تفاخرهم بما هم فيه من بسطة العيش، وكثرة الولد وأن ذلك سيكون سبب نجاتهم من العذاب في الآخرة بقوله: (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي وقال المستكبرون فى كل قرية أرسلنا فيها نذيرا: إنا ذوو عدد عديد من الأولاد وكثرة في الأموال، فنحن لا نعذب، لأن ذلك دليل على محبة الله لنا، وعنايته بنا، وأنه ما كان ليعطينا ما أعطانا ثم يعذبنا في الآخرة. هيهات هيهات، إنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا، وأخطأوا القياس «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» . وخلاصة آرائهم- نحن في نعمة لا تشوبها نقمة، وذلك دليل على كرامتنا عند الله ورضاه عنا، إذ لو كان ما نحن فيه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لما يرضيه- لما كنا فيما نحن فيه من نعمة وبسطة في العيش وكثرة الأولاد. فرد الله عليهم مقالتهم آمرا رسوله أن يبين لهم خطأهم بقوله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي قل لهم أيها الرسول: إن ربى يبسط الرزق من معاش ورياش في الدنيا لمن يشاء من خلقه ويضيّق على من يشاء، لا لمحبة فيمن بسط له ذلك، ولا لخير فيه ولا زلفى استحق بها ذلك، ولا لبغض منه لمن قدر عليه ولا لمقت منه له، ولكنه يفعل ذلك لسنن وضعها

لكسب المال في هذه الحياة، فمن سلك سبيلها وصل إلى ما يبغى. ومن أخطأها وضل لم ينل شيئا من حظوظها، ولا رابطة بين الثراء ومحبة الله، ألا ترى أنه ربما وسع سبحانه على العاصي وضيق على المطيع، وربما عكس الأمر، وقد يوسع على المطيع والعاصي تارة ويضيق عليهما أخرى- يفعل كل ذلك بحسب ما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي قد نعلمها وربما خفى علينا أمرها، ولو كان البسط دليل الإكرام والرضا لا ختصّ به المطيع، ولو كان التضييق دليل الإهانة لا ختص به العاصي، ومن ثم جاء قوله صلّى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما أعطى الكافر منها شيئا» . (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن الله يفعل ذلك بحسب السنن التي وضعها فى الكون، بل يظنون أن ذلك لمحبة منه لمن بسط له، ومقت منه لمن قدر عليه، حتى تحير بعضهم واعترض على الله في البسط لأناس والتضييق منه على آخرين، ومن ثمّ قال ابن الراوندي: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصيّر العالم التحرير زنديقا ثم بين سبحانه لعباده أن الزلفى عنده ليست بكثرة المال والولد، بل بالتقوى وصالح العمل، فقال: (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي وما أموالكم التي تفتخرون بها على الناس، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقربكم منا لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانهم وعملهم يقربانهم منى، وأولئك أضاعف لهم ثواب أعمالهم، فأجازيهم بالحسنة عشر أمثالها أو أكثر إلى سبعمائة ضعف، وهم في غرفات الجنات آمنون من كل خوف وأذى ومن كل شر يحذر منه. روى عن على كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:

«إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابى لمن هى؟ قال لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى بالليل والناس نيام» . ثم بين حال المسيء الذي يبعده ماله وولده من الله فقال: (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي والذين يصدّون عن آيات كتابنا بالطعن فيها يبتغون إبطالها، ويريدون إطفاء أنوارها ظانين أنهم يفوتوننا وأننا لن نقدر عليهم، فأولئك في عذاب جهنم يوم القيامة تحضرهم الزبانية إليها ولا يجدون عنها محيصا، ولا يجديهم نفعا ما عوّلوا عليه من شفاعة الأصنام والأوثان. ثم زهّد عباده في الدنيا وحضهم على التقرب إليه بالإنفاق فقال: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي قل لهم أيها الرسول: إن ربى يوسع الرزق على من يشاء من عباده حينا، ويضيّقه عليه حينا آخر، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيله وتقرّبوا إليه بأموالكم لتنالكم نفحة من رحمته. (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي وما أنفقتم من شىء فيما أمركم به ربكم وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم ويعوضكم بدلا منه في الدنيا مالا وفي الآخرة ثوابا، كلّ خلف دونه، وفي الحديث: «أنفق بلالا، ولا تخش من ذى العرش إقلالا» وعن مجاهد أنه خصه بالآخرة إذ قال: إذا كان لأحدكم شىء فليقتصد، ولا يتأول هذه الآية: «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ» فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له منه قليل، وهو ينفق نفقة الموسّع عليه. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فترزقون من حيث لا تحتسبون ولا رازق غيره روى الشيخان عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا» .

[سورة سبإ (34) : الآيات 40 إلى 42]

[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) المعنى الجملي بعد أن ذكر أن حال النبي صلّى الله عليه وسلم مع قومه ليس بدعا بين الرسل، فحاله معهم كحال من تقدمه منهم مع أقوامهم، فكلّهم كذّبوا وكلهم أوذوا في سبيل الله ثم أعقب ذلك بأن رد عليهم بأن كثرة الأموال والأولاد لا صلة لها بمحبة الله، ولا سخطه- أردف ذلك ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتأنيب بسؤال الملائكة لمعبوداتهم أمامهم: هل هؤلاء كانوا يعبدونكم؟ فيجيبون بأنهم كانوا يعبدون الشياطين بوسوستهم لهم، ثم بين أنهم في ذلك اليوم لا يقع لهم نفع ممن كانوا يرجون من الأوثان والأصنام، ويقال لهم على طريق التوبيخ والتهكم: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون. الإيضاح (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟) أي واذكر أيها الرسول لقومك: يوم يحشر ربك العابدين المستكبرين منهم والمستضعفين مع المعبودين من الملائكة وغيرهم ثم تسأل الملائكة أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ وهذا سؤال وجه إلى الملائكة ظاهرا، والمراد منه تقريع المشركين وتيئيسهم مما علّقوا عليه أطماعهم من شفاعتهم لهم فهو وارد على نهج قولهم: إياك أعنى واسمعي يا جاره،

وعلى نهج قوله تعالى لعيسى «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ؟» وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى برآء مما وجّه إليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، ولكن جاء ليقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون توبيخهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم. (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي قالت الملائكة: تعاليت ربنا وتقدست عن أن يكون معك إله، نحن عبيدك نبرأ إليك من هؤلاء وأنت الذي نواليه دونهم، فلا موالاة بيننا وبينهم. والخلاصة- إننا برآء من عبادتهم والرضا بهم. ثم بين أنهم ما عبدوهم على الحقيقة بقوله: (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي بل هم كانوا يعبدون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم، وأكثر المشركين مؤمنون بالجن مصدقون لهم فيما يقولون، إذ كانوا يعبدون غير الله بوسوستهم ويستغيثون بهم في قضاء حاجتهم كما هو مشهور لدى أرباب العزائم والسحرة. ونحو الآية قوله: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً: لَعَنَهُ اللَّهُ» . ولما أبطل تمسكهم بهم بعد تقريعهم وتأنيبهم زادهم أسى وحسرة فقال: (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي فاليوم لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان والأنداد الذين ادخرتم عبادتهم لشدائدكم وكروبكم، لأن الأمر في ذلك اليوم لله الواحد القهار، لا يملك أحد فيه منفعة لأحد ولا مضرة له. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي ونقول المشركين زجرا لهم وتأنيبا: ذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها في دنياكم،

[سورة سبإ (34) : الآيات 43 إلى 50]

فهأنتم أولاء قد وردتموها وسمعتم شهيقها وزفيرها، وليس الخبر كالخبر، ولا السماع كالمعاينة، فعضّوا بنان الندم أسى وحسرة على ما قدمتم في دنياكم، فجنيتم صابه وعلقمه فى أخراكم. [سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 50] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) المعنى الجملي بعد أن ذكر أن المشركين هم أهل النار يوم القيامة وأنه يقال لهم يومئذ: ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذبون- أعقب ذلك بذكر ما لأجله استحقوا هذا العذاب

الإيضاح

وهو صدهم عن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم بقولهم في القرآن: إنه إفك مفترى، وإنه سحر واضح لا شك فيه، وقد كان فيما حلّ بالأمم قبلهم مزدجر لهم لو أرادوا، فقد بلغوا من القوة ما بلغوا، وحين أرسل إليهم الرسل كذبوهم فأخذوا أخذ عزيز مقتدر، ثم أنذرهم سوء عاقبة ما هم فيه وأوصاهم بأن يشمّروا عن ساعد الجدّ طلبا للحق متفرقين اثنين وواحدا واحدا ثم يتفكروا ليعلموا أن صاحبهم ليس بالمجنون، بل هو نذير لهم يخوّفهم بأس الله وعذابه الشديد يوم القيامة، وقد كان لهم من حاله ما يرغبهم فى دعوته، فهو لا يطلب منهم أجرا ولا يريد منهم جزاء، وإنما مثوبته عند ربه المطّلع على كل شىء ثم أبان لهم أن الحق قد وضح، وجاءت أعلام الشريعة كفلق الصبح نورا وضياء، ولا بقاء للباطل ولا قرار له إذا ظهر نور الحق «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» . الإيضاح (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) أي وإذا تتلى على المشركين آيات الكتاب الكريم دالة على التوحيد وبطلان الشرك، قالوا إن هذا الرجل يريد أن يلفتكم عن الدين الحق دين الآباء والأجداد، ليجعلكم من أتباعه دون أن يكون له حجة على ما يدّعى، وبرهان يدل على صحة ما يسلك من سبيل. ثم زادوا إنكارهم توكيدا وأيأسوا الرسول من الطمع في إيمانهم. (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي وقالوا إن القرآن الذي يدّعى محمد أنه وحي من عند ربه- كذب مختلق من عنده، وقد نسبه إلى ربه ترويجا للدعوة، واجتلابا لقلوب الكافة. ثم شددوا في الإنكار فجعلوه سحرا بيّنا لا شك فيه عندهم كما حكى عنهم بقوله: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقال المشركون

لما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم من عند ربه مشتملا على الهدى والشرائع التي وجهتهم في حياتهم الاجتماعية ونظم المعيشة وجهة جديدة تكون بها سعادتهم في معاشهم ومعادهم وغيّرت الطريق التي ورثوها عن الآباء والأجداد- ما هذا إلا سحر بيّن لا خفاء فيه عندنا، وقد أعمى أبصارنا وأضل أحلامنا فلم نستطع أن ندفعه بكل سبيل، ولا يزال يلج القلوب ويقتحمها ويداخل النفوس ويستحوذ عليها، ونحن في حيرة من أمره لا نجد طريقا للتغلب عليه بالوسائل التي نعرفها وهى بين أيدينا. والخلاصة- إنهم نفوا أن يكون وحيا من عند ربه وجعلوه إما كلاما مفترى جاء به لترويج دعوته، وإما سحرا فعله ليخلب به العقول ويصد الناس عن الدين الحق الذي ورثوه عن الآباء والأجداد. فرد الله سبحانه عليهم منكرا دعواهم أن دينهم هو الدين الحق بقوله: (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي إن الدين الصحيح إنما يأتى بوحي من عند الله وبكتاب ينزل على الرسول ليبلغه للناس ويبين لهم فيه ما جاء به من الشرائع والآداب والفضائل التي تكون بها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، وهم أمة أميّة لم يأتهم كتاب قبل القرآن، ولم يبعث إليهم رسول قبل محمد، فمن أين أتاهم أن الدين الحق هو الذي يرشد إلى صحة الإشراك بالله، وينفى توحيد الخالق حتى يكون لهم معذرة فيما يدّعون، وحجة على صحة ما يعتقدون؟. ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم والتجهيل لهم: ونحو الآية قوله: «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» وقوله: «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» . وبعد أن بشر وأنذر وأبان بالحجة والبرهان ما كان فيه المقنع لهم لو كانوا يعقلون، سلك بهم سبيل التهديد والوعيد وضرب لهم المثل بالأمم التي كانت قبلهم وسلكت سبيلهم ولم تجدها الآيات والنذر، فحل بها بأس الله وأتاها العذاب من حيث لا تحتسب فقال:

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كان لهم فيمن قبلهم من الأمم البائدة والقرون الخالية كقوم نوخ وعاد وثمود، وقد بلغوا من القوة والبأس ما لم يبلغوا معشاره، فكذبوا رسلى حين أرسلوا إليهم فخل بهم النكال والوبال ودمّروا تدميرا، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وإنهم ليشاهدون آثارهم في حلهم وترحالهم، فى غدوّهم ورواحهم كما قال في آية أخرى: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك. والخلاصة- إن فيما حل بمن قبلهم من المثلاث نكالا لهم على تكذيبهم رسلهم- لعبرة لهم لو كانوا يعقلون. ثم أطال لهم الحبل ومدّ لهم الباع وأنصفهم في الخصومة فقال: (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي قل لهم: إنى أرشدكم أيها القوم وأنصح لكم ألا تبادروا بالتكذيب عنادا واستكبارا، بل اتئدوا وتفكروا مليا فيما دعوتكم إليه وجدّوا واجتهدوا في طلب الحق خالصا، إما واحدا فواحدا، وإما اثنين اثنين لعلكم تصلون إلى الحق وتهتدون إلى قصد السبيل، وتكونون قد أنصفتم الحقيقة، وأمطتم الحجب التي غشّت أبصاركم، ورانت على قلوبكم، فلم تجعل للحق منفذا. وإنما طلب إليهم التفكر وهم متفرقون اثنين اثنين أو واحدا فواحدا، لأن فى الازدحام تهويش الخاطر والمنع من إطالة التفكير وتخليط الكلام وقلة الإنصاف، وفيما يشاهد كل يوم من الاضطراب وتبلبل الأفكار في الجماعات الكثيرة حين الجدل والخصومة ما يؤيد صدق هذا. ثم أبان لهم أن نتيجة الفكر ستؤدى بهم إلى أن يعترفوا بما يرشد إليه النظر الصحيح

(ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) إذا ما جاء به من ذلك الأمر العظيم الذي فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم لا يتصدى لادّعائه إلا أحد رجلين: إما مجنون لا يبالى بافتضاحه حين مطالبته بالبرهان وظهور عجزه، وإما نبى مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه. وإنكم قد علمتم أن محمدا أرجح الناس عقلا، وأصدق الناس قولا، وأزكاهم نفسا، وأجمعهم للكمال النفسي والعقلي فوجب عليكم أن تصدقوه في دعوته، وقد قرنها بالمعجزات الدالة على ذلك. وفي التعبير بصاحبكم إيماء إلى أنه معروف لهم مشهور لديهم، فهو قد نشأ بين ظهرانيهم وعلموا ماله من صفات الفضل والنّبل وكرم الخلال مما لم يتهيأ لأحد من أترابه ولداته. وإذ قد استبان بالدليل أنه ليس بالمجنون في كل ما يقول ويدعى، اتضح أنه صادق كما قال: (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي ما هذا الرسول بالكاذب، بل هو نذير لكم بعقاب الله حين تقدمون عليه، لكفركم به وعصيانكم أمره. وإنما جعل إنذاره بين يدى العذاب، لأن محمدا مبعوث قرب الساعة كما جاء فى الحديث «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقنى» . وروى البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «صعد النبي صلّى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسّيكم أما كنتم تصدقونى؟ قالوا بلى، قال صلّى الله عليه وسلم: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبّا لك. ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» . ولما نفى عن رسوله الجنون وأثبت له النبوة- ذكر وجها آخر يؤكد ذلك فقال:

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي قل لهم: إنى لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة ربى إليكم، ونصحى لكم وأمرى بعبادته، إنما أطلب ثواب ذلك من الله، وهو العليم بجميع الأشياء، فيعلم صدقى وخلوص نيّتى. وإذا علم أن الذي حمله على ركوب الصعاب واقتحام الأخطار ليس أمرا دنيويا، ثبت أن الذي حفزه عليها هو أمر الله تعالى له وقد صدع به «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» وبهذا ثبت أنه نبىّ. ولما استبان أنه ليس بالمجنون ولا هو بطالب الدنيا- علم أن الذي جاء به هبط إليه من السماء وقذف به الوحى إليه، وأمره أن يبلغه إليهم كما أشار إلى ذلك بقوله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) القذف الرمي بدفع شديد: أي قل لمن أنكر التوحيد ورسالة الأنبياء والبعث: إن ربى يلقى الوحى وينزله على قلب من يجتبيه من عباده، وهو العليم بمن يصطفيهم كما قال سبحانه: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» وقال: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» . وقد يكون المعنى كما روى عن ابن عباس: إن ربى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله ويزيل آثاره ويشيع الحق في الآفاق. ولا يخفى ما في هذا من عدة بإظهار الإسلام ونشره بين الناس وتبلج نوره فى الكون، ونحوه «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ» . ثم أكد ما سلف بأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يخبر قومه بأن الإسلام سيعلو على سائر الأديان، وأن غيره سيضمحل ويزول فقال: (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي قل جاء الإسلام، ورفعت رايته، وعلا ذكره، وذهب الباطل، فلم تبق منه بقية تبدى شيئا أو تعيده.

[سورة سبإ (34) : الآيات 51 إلى 54]

وأصله في هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر ابتداء، ولا إعادة أي فعله ثانيا، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص: أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدى ولا يعيد روى البخاري ومسلم «أنه لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ووجد الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً- قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» . ولما سد عليهم مسالك القول، لم يبق إلا أن يقولوا عنادا: إنه قد عرض له ما أضله عن محجة الصواب، فأمر رسوله أن يقول لهم: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي قل أيها الرسول لقومك: إن ضللت عن الهدى وسلكت غير طريق الحق فإنما ضرّ ذلك على نفسى، وإن استقمت على الحق فبوحى الله إلىّ وتوفيقه للاستقامة على محجة الحق وطريق الهدى، إنه سميع لما أقول وتقولون، ويجازى كلا بما يستحق، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه. روى الشيخان عن أبى موسى الأشعري قال: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا» . والخلاصة- إن الخير كله من الله وفيما أنزله علىّ من الوحى والحق المبين. [سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الفزع: انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف، التناوش: التناول السهل لشىء قريب يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته، ناشه ينوشه نوشا، وأنشدوا لغيلان بن حريث في وصف الإبل: فهى تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا يريد أنها عالية الأجسام طويلة الأعناق، يقذفون بالغيب: أي يرجمون بالظنون التي لا علم لهم بها، والعرب تقول لكل من تكلم بما لا يستيقنه: هو يقذف بالغيب. بأشياعهم: أي أشباههم ونظرائهم في الكفر جمع شيع، وشيع جمع شيعة وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأى بعض فهم شيع، مريب: أي موقع في الريبة والظّنة، يقال أراب الرجل: أي صار ذا ريبة فهو مريب. المعنى الجملي بعد أن أبطل سبحانه شبههم وردّ عليهم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد- هددهم بشديد العقاب إن هم أصروا على عنادهم واستكبارهم، ثم ذكر أنهم حين معاينة العذاب يقولون آمنا بالرسول، وأنّى لهم ذلك وقد فات الأوان؟ وقد كان ذلك فى مكنتهم في دار الدنيا لو أرادوا، أما الآن فإن ذلك لا يجديهم فتيلا ولا قطميرا من جراء ما كانوا فيه من شك مريب في الحياة الأولى، وتلك سنة الله في أشباههم من قبل. الإيضاح (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) أي ولو رأيت أيها الرسول هؤلاء المكذبين حين يفزعون مما رأوا من العذاب الشديد- لرأيت من الأمر ما يعجز القول عن وصفه، فهم لا يمكّنون من الهرب، ولا يفوتهم ذلك العذاب ولا يجدون ملجأ ولا مأوى يبتعدون فيه.

(وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي وأخذوا حين الفزع من الموقف إلى النار ولم يمكّنوا أن يمعنوا في الهرب. (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وقالوا حينئذ: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأنّى لهم ذلك وقد صاروا بعيدين عن قبول الإيمان؟ إذ هذه الدار ليست أهلا لقبول التكاليف من الإيمان بالله والعمل الصالح. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» . (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي وكيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل؟. (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وهم قد كانوا يرجمون بظنون لا مستند لهم فيها، فيتكلمون في الرسول بمطاعن ليس لها ما يؤيدها، فتارة يقولون إنه شاعر، وأخرى إنه كاهن، وثالثة إنه ساحر، إلى نحو ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالبعث والنشور والحساب والجزاء. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي وحيل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ليعلموا صالحا كما قال: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» . ثم بين أن هذه سنة الله في أمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلهم فقال: (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي فعلنا بهم كما فعلنا بالأمم الماضية التي كذبت رسلها فتمنّوا حين رأوا بأس الله أن لو آمنوا ولكن لم يقبل منهم. ثم علل عدم قبول إيمانهم ووصولهم إلى بغيتهم حينئذ بقوله: (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) أي لأنهم كانوا في الدار الأولى شاكين فيما أخبرت به الرسل من البعث والجزاء، وقد تغلغل الشك في قلوبهم حتى صاروا لا يطمئنون إلى شىء مما جاءوا به.

ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام

ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام (1) حمد الله والثناء عليه بما هو أهله. (2) مقال المشركين في إنكار البعث والرد عليهم بأنه آت لا شك فيه. (3) الاستهزاء بالرسول وحكمهم عليه بأنه إما مفتر وإما مجنون. (4) النعم التي آتاها سبحانه داود وسليمان عليهما السلام. (5) ما كان لسبأ من النعم ثم زوالها لكفرانهم بها واتباعهم وسوسة الشيطان. (6) النعي على المشركين لعبادتهم الأوثان والأصنام مع بيان أنها لا تفيدهم يوم القيامة شيئا (7) الحجاج والجدل بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين يوم القيامة وإلقاء كل منهما التبعة على الآخر. (8) بيان أن المترفين في كل أمة هم أعداء الرسل، لا عتزازهم بأموالهم وأولادهم، واعتقادهم أنهم ما آتاهم ربهم ذلك إلا لرضاه عنهم ثم رده سبحانه عليهم. (9) سؤال الملائكة أمام المشركين بأنهم هل طلبوا منهم عبادتهم؟ ليكون فى ردهم ما يكفى في تبكيتهم. (10) مقال المشركين عند سماع القرآن وادعاؤهم أنه ليس بوحي من عند الله بل الداعي مفتر ليصدّ الناس عن دين الآباء والأجداد. (11) عظتهم بما حل بمن قبلهم من الأمم. (12) أمرهم بالتأمل والتدبر في الأدلة التي أمامهم لعلهم يرعوون عن غيهم. (13) إثبات أن الرسول نذير مبين، لا مفتر ولا مجنون. (14) الرسول لا يطلب أجرا على دعوته، بل أجره على الله. (15) طلب المشركين يوم القيامة أن يرجعوا إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسول ويعملوا صالح الأعمال، ثم الرد عليهم بأن ذلك قد فات أوانه وأن لا سبيل إلى تحقيقه.

سورة فاطر - سورة الملائكة

سورة فاطر- سورة الملائكة هى مكية نزلت بعد سورة الفرقان وآيها خمس وأربعون. ومناسبتها لما قبلها: إنه لما ذكر سبحانه في آخر سابقتها هلاك المشركين وإنزالهم منازل العذاب- لزم المؤمنين حمده تعالى وشكره كما جاء في قوله: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . [سورة فاطر (35) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) تفسير المفردات فطر الشيء: أوجده على غير مثال سابق، رسلا: أي وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون عنه رسالاته، مثنى وثلاث ورباع: أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. الإيضاح (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له سبحانه الشكر، فقد أبدع خلق السموات والأرض وما بينهما على غير مثال سابق وأحكم تدبيرهما على أتم نظام، كما قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان. (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون إليهم رسالاته- ذوى أجنحة إما اثنين اثنين، وإما ثلاثة ثلاثة، وإما أربعة أربعة.

[سورة فاطر (35) : آية 2]

والأجنحة في العالم المادي تساعد على الطيران، وكثرتها تومئ إلى السرعة، وهى فى عالم الأرواح ترشد إلى القدرة على السرعة في تنفيذ أوامر الله وتبليغ رسالات ربهم إلى أنبيائه. وفي هذا إيماء إلى أن الملائكة تتفاوت أقدارهم وقواهم عند الله تعالى بحسب استعدادهم الروحي. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» وفي هذا رمز إلى قوة استعداده الروحي وقربه من الملأ الأعلى وسرعة تنفيذه ما يؤمر به. (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء، كما يزيد في أرجل الحيوان ما يشاء حتى لقد تبلغ فوق العشرين أحيانا، وهكذا يزيد في تفاوت العقول والنفوس والقوى المادية والمعنوية كما قيل: والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا ثم ذكر ما هو كالدليل لما سبق بقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيزيد كل ما هو أهل للزيادة وما هو مستعد لها، حسية كانت أو معنوية، فلا يمتنع عليه فعل شىء أراده، لما له من القدرة والسلطان على كل شىء. [سورة فاطر (35) : آية 2] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) تفسير المفردات يفتح: يعطى، ورحمة: أي نعمة حسية كانت أو معنوية، كرزق وصحة وأمن وعلم وحكمة، إلى نحو ذلك مما لا يحاط به.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن وصف سبحانه نفسه بالقدرة الكاملة والإرادة النافذة- أيد ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من الضيق حينا والسعة حينا آخر، مع العجز عن دفع البؤس إن وجد، وجلب النعمة لو أراد. الإيضاح مفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده سبحانه، فما يعط من خير فلا يستطيع أحد منه ولا إمساكه، وأي خير يمسكه فلا يبسطه ولا يفتحه لهم فاتح، لأن الأمور كلها بيده، ومنه البذل والعطاء، والمنع والإمساك. وهو الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي منها الفتح والإمساك، وهو الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. وفي الآية عظة للناس بالإقبال إلى ربهم والتوجه إليه في قضاء حاجهم، والتوكل عليه في جميع مآربهم، والإعراض عما سواه من جميع خلقه. ونحو الآية قوله: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ» . روى أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . وروى مسلم عن أبى سعيد الخدرىّ رضى الله عنه قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء والأرض، وملء ما شئت من شىء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد،

[سورة فاطر (35) : آية 3]

أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . وأخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس قال: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن فما أبالى ما أصبح عليه وأمسى: (1) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده. (2) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله. (3) سيجعل الله بعد عسر يسرا. (4) وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها. [سورة فاطر (35) : آية 3] يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) تفسير المفردات أنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عن توحيد الخالق، مع الاعتراف بأنه وحده هو الرازق. وتشركون المنحوت: بمن له الملك والملكوت. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أنه وحده هو المنعم بما يشاهده كل أحد في نفسه- أمر بذكر نعمه بالاعتراف بها والشكر عليها. الإيضاح أيها الناس راعوا نعم الله، واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها، وخصوا خالقها بالعبادة والطاعة فهو الذي بيده أرزاقكم وأقواتكم، فإلى أىّ وجه تصرفون عنه بعد أن استبان الحق، ووضح السبيل.

[سورة فاطر (35) : الآيات 4 إلى 6]

والخلاصة- احفظوا نعم الله وأدوا حقها، ولا تشركوا به سواه من الأصنام والأوثان، بعد وضوح الدليل وسطوع البرهان. [سورة فاطر (35) : الآيات 4 الى 6] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) المعنى الجملي بعد أن ذكر الأصل الأول وهو التوحيد- ثنى بذكر الأصل الثاني وهو الرسالة وسلى رسوله على تكذيب قومه له بأنه ليس ببدع بين الرسل فقد كذّب كثير منهم قبله، فعليه أن يتأسى بهم ويصبر على أذاهم، ثم ذكر الأصل الثالث وهو البعث والنشور مع بيان أنه حق لا شك فيه، وأنه لا ينبغى أن يقبلوا فيه وساوس الشيطان، فإنه عدو لبنى آدم ولا يرشدهم إلا إلى الذنوب والآثام التي توصلهم إلى عذاب النار، وبئس القرار. الإيضاح (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإن استمر قومك على تكذيبك فيما بلّغته إليهم من الحق المبين، بعد أن أقمت لهم الحجج وضربت الأمثال، فتأسّ بمن سبقك من الرسل فقد صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلماتنا. وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب. ثم ذكر أن البعث آت لا ريب فيه فقال:

[سورة فاطر (35) : الآيات 7 إلى 8]

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي إن وعد الله بالحشر والجزاء حق لا شك فيه، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فيذهلنّكم التمتع بمتاعها، ولا يلهينّكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد اتباعا لوساوس الشيطان. والخلاصة- إنكم لا تغتروا بالحياة الدنيا، وتتركوا فعل ما أمرتم به، وتفعلوا ما نهيتم عنه. ثم ذكر العلة في عدم الاغترار بالشيطان فقال: (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي إن الشيطان معلن عداوته لكم بوسوسته، فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به. ثم ذكر أعماله ودعوته أتباعه إلى الغواية والضلالة فقال: (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي ما غرضه من دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى لذات الدنيا إلا إضلالهم وإلقاؤهم في العذاب الدائم من حيث لا يشعرون. [سورة فاطر (35) : الآيات 7 الى 8] الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) تفسير المفردات الحسرات: واحدها حسرة، وهى الغم على مافات والندم عليه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أبان أن الشيطان يضل أتباعه ويدعوهم إلى النار- ذكر هنا أن حزب الشيطان له العذاب الشديد، وأن حزب الله له المغفرة والأجر الكبير، ثم بين أن الضلال والهداية بيد الله بحسب ما يعلم من الاستعداد وصفاء النفوس وقبول الهداية، أو تدسيتها وارتكابها الإجرام والمعاصي، فلا تحزن على ما ترى من ضلال قومك وإتباعهم لوساوس الشيطان، والله عليم بحالهم وسيجازيهم بما يستحقون. أخرج جويبر عن الضحاك أن الآية نزلت في عمر رضى الله عنه وأبى جهل حيث هدى الله عمر وأضل أبا جهل. الإيضاح (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي الذين كفروا بالله ورسوله لهم عذاب شديد في النار، من جراء كفرهم وإجابتهم دعوة الشيطان واتباعهم خطواته. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي والذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه- لهم مغفرة من الله لذنوبهم وأجر كبير كفاء ما ملئوا به قلوبهم من عامر الإيمان، وأخبتوا لربهم بصالح الأعمال. ثم بيّن البعد ما بين الفريقين، واختلاف حال الفئتين فقال: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) أي أفمن حسّن له الشيطان سيىء الأعمال من معاصى الله والكفر به وعبادة مادونه من الآلهة والأوثان، فحسب سيىء ذلك حسنا، وظن قبيحه جميلا، ألك فيه حيلة؟ ثم ذكر السبب في اتجاه كل من الفريقين إلى ما اتجه إليه فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي فإن ذلك الإضلال بمشيئة الله تعالى التابعة لعلمه باستعداد النفوس للخير وللشر، وقد تقدم ذلك غير مرة، فلا حاجة إلى الإطناب فيه.

[سورة فاطر (35) : الآيات 9 إلى 11]

ثم أتى بما هو كالنتيجة لما سلف فقال: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي فلا تأسف على عدم إيمانهم وعدم إجابتهم دعوتك، فإن الله حكيم في قدره، فهو يضل من يضل من عباده ويهدى من يشاء لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام باستعداد النفوس، إما بإخباتها لربها، وإنابتها إليه، وميلها إلى صالح العمل، وإما بتدسيتها وحبها لاجتراح السيئات، وارتكاب الموبقات. ونحو الآية قوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» . ثم هدد الكافرين على قبيح أعمالهم فقال: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي إن الله عليم بما يصنعون من القبائح، فيجازيهم عليه بما يستحقون، وفي هذا وعيد تهد منه الجبال وتدك منه الأرض دكا. [سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 11] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) تفسير المفردات أرسل: أي أطلق وأوجد من العدم، تثير أي تحرك، ميت وميّت بمعنى قاله محمد بن يزيد وأنشد:

المعنى الجملي

ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميّت الأحياء إنما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرجاء ويرى بعضهم أن الميت بالتخفيف هو الذي مات، والميت بالتشديد، والمائت هو الذي لم يمت بعد وأنشد: ومن يك ذا روح فذلك ميّت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل والمراد أنه لا نبات فيه، والنشور: إحياء الأموات يقال نشر الله الميت وأنشره، أي أحياه، العزة: أي الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز: أي صلبة، والكلم الطيب: هو التوحيد أو الذكر أو قراءة القرآن، وصعوده إلى الله: قبوله، والعمل الصالح: هو ما كان بإخلاص، يرفعه: أي يقبله، يمكرون: أي يعملون على وجه المكر والخديعة، والسيئات: المكرات السيئات كأن يراءوا المؤمنين في أعمالهم يوهمونهم أنهم في طاعة الله، يبور: أي يفسد من البوار وهو الهلاك، أزواجا: أي أصنافا ذكرانا وإناثا، يعمر من معمر: أي يمدّ في عمر أحد، فى كتاب: أي في صحيفة المرء. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه أن الكافرين لهم عذاب شديد يوم القيامة، وأن الذين يعملون الصالحات لهم أجر كبير عند ربهم في ذلك اليوم- أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا ريب فيه، وضرب المثل الذي يدل على تحققه لا محالة، ثم ذكر أن من يريد العزة فليطع الله ورسوله، ولا يتعزز بعبادة الأصنام والأوثان كما أخبر الله عنهم «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» وأن العمل الطيب يرفع إلى الله ويحفظ لديه ويجازى. عليه، ثم أعقب ذلك بأن من يمكر بالمؤمنين ويريد خداعهم فالله يفسد عليه تدبيره ويجازيه بما عمل شر الجزاء، وبعد أن ذكر دليل البعث بما يشاهد فى الآفاق من دلائل القدرة، ذكر دليلا عليه بما يرى في الأنفس من اختلاف

الإيضاح

أطوارها، فقد كانت ترابا ثم نطفة ثم وضعت في الأرحام إلى أن صارت بشرا سويا، ومنها ما يمد في عمرها، ومنها ما يخترم قبل ذلك، كما تدل عليه المشاهدة، وكل ذلك يسير على الله. الإيضاح (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) أي أفلا تتدبرون وتعقلون فتعلموا أن من أوجد الرياح بعد أن لم تكن، ثم جعلها تسيّر السحاب الثقال، فتنزل منها الغيث إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها، فتحيا بعد أن كانت ميتة وتهتز وتربو وتنبت كل زوج بهيج- أفليس ذلك القادر الحكيم الذي أحيا ميت الأرض بقادر على أن يحيى الموتى بعد بلاها، وبعد أن كانت عظاما نخرة؟ إنه على كل شىء قدير. وعن أبى رزين قال: «قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك فى خلقه؟ قال صلّى الله عليه وسلم يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلا، ثم مررت به يهتز خضرا؟ قلت بلى، قال صلّى الله عليه وسلم فكذلك يحيى الله الموتى» . (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي من كان يود أن يكون عزيزا فى الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى، فإن بها تنال العزة إذ لله العزة فيهما جميعا. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي إنه سبحانه يقبل طيب الكلام كالتوحيد والذكر وقراءة القرآن، ومن الذكر: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) صلاح العمل بالإخلاص فيه، وما كان كذلك قبله الله وأثاب عليه، وما لا إخلاص فيه، وما كان كذلك قبله الله وأثاب عليه، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه بل عليه العقاب، فالصلاة والزكاة وأعمال البر إذا فعلت مراءاة للناس لا يتقبلها الله كما قال سبحانه «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» . وروى عن ابن عباس أنه قال: الكلام الطيب ذكر الله، والعمل الصالح: أداء

فرائضه. وعن الحسن وقتادة: لا يقبل الله قولا إلا بعمل، من قال وأحسن قبل الله منه. والخلاصة- إن القول إذا لم يصحبه عمل لا يقبل، وأنشدوا: لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يزيّن ما يقول فعال وإذا وزنت فعاله بمقاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال وقال ابن المقفّع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وبعد أن ذكر أن العمل الصالح يصعد إلى الله، ذكر أن المرائين لا يتقبل منهم عمل، ولهم عذاب شديد عند ربهم قال: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يمكرون المكر السيّء بالمسلمين، بأن يعملوا كل ما يكون سببا في ضعف الإسلام والحطّ من قدره حتى يمّحى أثره من الوجود، كما فعلت قريش في دار الندوة، إذ تدارست الرأى في شأن النبي صلى الله عليه وسلم يحبسه أو قتله أو إجلائه من مكة- لهم العذاب الشديد يوم القيامة. (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي ومكر هؤلاء المفسدين يظهر زيفه عن قريب لأولى البصائر، فإنه ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فالمرائى لا يروج أمره ولا يتفق إلا على غبىّ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل ينكشف عن قريب، ويجازون عليه أشد الخزي والهوان. ثم ذكر دليلا على صحة البعث بما يرى في الأنفس فقال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي والله خلق الناس من النطفة، والنطفة من الغذاء، والغذاء ينتهى آخرا إلى الماء والتراب، فهم من تراب صار نطفة، ثم جعلهم أصنافا ذكرانا وإناثا بقدر معلوم بحيث يكاد الفريقان يستويان عددا، ولو لم يكن كذلك لفنى الإنسان والحيوان، إذ حفظ النوع لا يتم

[سورة فاطر (35) : الآيات 12 إلى 14]

إلا بتلك المساواة على وجه التقريب، ولا تكون المساواة إلا بتدبير وعلم، وإلى ذلك أشار بقوله: (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي ولا تحمل الأنثى ولا تضع إلا وهو عليم بذلك لا يخفى عليه، ولو لم يكن كذلك وكانت المصادفة العمياء هى صاحبة السلطان فى هذا العالم، لم يتم التوازن في العدد بين الزوجين فيفنى الإنسان والحيوان. ونحو الآية قوله: «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» . (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أي لا أحد يقضى له بطول العمر إلا وهو بالغ ما قدّر له، لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه، ولا أحد مقدّر له قصر العمر بزائد على ما قدّر له في الكتاب الذي كتب له، وذلك لحفظ الموازين فى الأرض حتى ينتظم العمران، ولو لم يكن على هذا النحو لاختلط الحابل بالنابل، وساء حال الكون، إذ يكثر الناس وتزدحم الأرض ويشتد الكرب، ومن ثم تفاوتت الأعمار في جميع الأمصار وكانت بمقدار، واعتدل النظام بالمرض والموت، والوباء والحرب. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي إن ذلك النظام البديع للعالم- هيّن على الله لعلمه الشامل، وعدم خفاء شىء عليه. [سورة فاطر (35) : الآيات 12 الى 14] وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

تفسير المفردات

تفسير المفردات عذب: أي حلو لذيذ طعمه، فرات: أي كاسر للعطش مزيل له، سائغ: أي سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس، أجاج: أي شديد الملوحة والحرارة، حلية: أي لؤلؤا ومرجانا، مواخر: أي شاقات للماء حين جريانها، يولج: أي يدخل، والقطمير: لفافة النبواة، وهى القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة، يكفرون بشرككم: أي يجحدون بإشراككم إياهم وعبادتكم لهم، ولا ينبئك مثل خبير: أي ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل الخبير به. المعنى الجملي بعد أن ذكر الأدلة على إثبات البعث وضرب المثل لذلك بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الغيث عليها- أردف هذا ذكر البراهين المختلفة على وحدانيته وعظيم قدرته بخلقه الأشياء المتحدة في الجنس المختلفة في المنافع، فهذا ماء عذب ذلال يجرى فى الأقاليم والأمصار، والبراري والقفار، يسقى منه الإنسان والحيوان وينبت النبات الذي فيه غذاء لهما، وهذا ماء ملح أجاج تسير فيه السفن الكبار ويستخرج منه اللؤلؤ والمرجان، ومن كل منهما نأكل لحما طريّا فيه لذة للآكلين، وهذان ليل ونهار، ضياء وظلام، يدخل أحدهما في الآخر فيأخذ هذا من طول ذاك، ويزيد هذا في قصر ذاك فيعتدلان، ثم يتقارضان صيفا وشتاء، وسخر الشمس والقمر والنجوم

الإيضاح

الثوابت والسيارات، كل يجرى بمقدار معين وعلى نهج ثابت لا يتغير، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم. أما ما تدعون من دونه من الأصنام والأوثان فلا يملكون شروى نقير، ولا يسمعون لكم دعاء، ولا يستجيبون لدعوة، ويوم القيامة يتبرءون منكم إذا دعوتموهم واستشفعتم بهم، ولا ينبئك بهذا إلا الخبير وهو ربك العليم بما كان وما سيكون. الإيضاح (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي وما يعتدل البحران فيستويان: أحدهما عذب سائغ شرابه يجرى في الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار. وثانيهما ملح ساكن تسير فيه السفن الكبار (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) أي ومن كل البحار تأكلون السمك الغض الطرىّ فضلا من الله ومنة. (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وتستخرجون الدر والمرجان من الملح الأجاج ومن العذب الفرات، وتجرى السفن في كل منهما تشقه شقا بحيازيمها حين جريها، مقبلة مدبرة حاملة أقواتكم من بلد إلى آخر، فتدفع عنكم المخمصة وتسدّ العوز. لعلكم تشكرونه سبحانه على تسخيرها لكم، تتصرفون فيها كيف شئتم، وتذهبون فيها إن أردتم. ولما كان بين الفلك في البحر والشمس والقمر في مدارهما مناسبة، فإن كلا منهما سارح في تلك العوالم الشاسعة- أردفه ذكر الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر فقال: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل الليل في النهار فيكون

النهار أطول من الليل ساعة فأكثر، ويدخل النهار في الليل فيكون الليل أطول من النهار كذلك. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وأجرى لكم الشمس والقمر، نعمة منه عليكم ورحمة بكم، لتعلموا عدد السنين والحساب، ولتسكنوا في الليل، وتبتغوا فضلا منه في النهار، ولا يزالان يجريان هكذا لأجل معلوم، لا يقصران دونه، ولا يتعديانه، وهو يوم القيامة. (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي ذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو معبودكم الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو ربكم الذي له الملك التام والسلطان المطلق والقهر والجبروت، وكل من في السموات والأرض فهو عبد له وتحت قبضته وبطشه. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي والذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان لا يملكون شيئا ولو كان حقيرا، بل هم ملك لخالق القوى والقدر. ثم أكد ما سلف مبينا حقارة شأنهم وعظيم ضعفهم بقوله: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي وإن تدعوا هذه الآلهة من دون الله لا تسمع لكم دعاء، لأنهم جماد لا أرواح لهم، ولو سمعوا ما قدروا أن ينفعوكم ويستجيبوا لشىء مما تطلبون. والخلاصة- كيف تعبدون من لا ينفع ولا يضر، وتدعون من بيده النفع والضر، وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون. وبعد أن نفى المقتضى للعبادة، وهو مجىء النفع والضر من قبلهم، ذكر المانع من عبادتهم وهو كفرهم بهم يوم القيامة فقال: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي وهم يوم القيامة يتبرءون منكم ويقولون: ما كنتم إيانا تعبدون، بل كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وما زينته لكم شياطينكم ونحو الآية قوله: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» .

[سورة فاطر (35) : الآيات 15 إلى 18]

ثم أكد صدق ما حكاه عنهم من أحوالهم بقوله: (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وعن أمر عبدتها يوم القيامة إلا ذو خبرة بأمرها وأمرهم، وهو الله الذي لا يخفى عليه شىء كان، أو سيكون في مستأنف الأزمان. [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 18] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) تفسير المفردات ولا تزر: أي ولا تحمل، وازرة: أي نفس آثمة، وزر أخرى: أي إثم نفس أخرى، والمثقلة: النفس التي أثقلتها الذنوب والأوزار، ذا قربى: أي ذا قرابة من الداعي، بالغيب: أي غائبا عنهم، وتزكى: أي تطهر من دنس الأوزار والذنوب، والمصير: المرجع والعاقبة المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن ملك السموات والأرض له، وأن ما يدعون من دونه من الأصنام والأوثان لا يملك شيئا ولا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا- أعقب هذا بما هو فذلكة لما تقدم وكالنتيجة له، بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه، فهو الذي تجب عبادته وحده، لأن النفع والضر بيده لا شريك له ثم بين أنه يوم القيامة

الإيضاح

لا تجزى نفس عن نفس شيئا، ولا تستطيع دفع ضر عنها ولو كانت ذات قرابة منها، ثم أرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تجدى نفعا لدى من يخشى الله ويخاف عقابه، وأن من يتزكى فنفع ذلك عائد إليه، وإلى الله عاقبة الأمور كلها ومردّها إليه. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي أنتم أيها العباد أولو الحاجة والفقر إلى خالقكم ورازقكم، فإياه فاعبدوا، وإلى رضاه فسارعوا، وهو الغنى عن عبادتكم وعن غيرها، وهو المحمود على نعمه، فكل نعمة بكم وبسواكم فهى منه، فله الحمد والشكر على كل حال. والخلاصة- أنتم في حاجة إليه وهو ذو الغنى وحده لا شريك له، والمحمود فى جميع ما يقول ويفعل ويشرع لكم ولغيركم من الأحكام. ثم أرشد إلى غناه وإلى قدرته الكاملة بقوله: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي إن يشأ ربكم أن يهلككم أهلككم، لأنه هو الذي أنشأكم من غير حاجة به إليكم، ويأت بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون بأمره وينتهون عما نهاهم عنه، وما ذلك بصعب على الله الخالق لجميع عباده، بل هو يسير هيّن عليه. وليس بخاف ما في هذا من تهديد ووعيد، وزجر وتأنيب. ثم أخبر عن أحوال يوم القيامة وأهوالها وشدائدها بقوله: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى، بل تحمل كل نفس وزرها فحسّب، ولا تنافى بين هذا وما جاء في سورة العنكبوت من قوله سبحانه: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» فإن هذا في الضالين المضلين وهم يحملون إثم إضلالهم مع إثم ضلالهم، وكل ذلك آثامهم لا آثام غيرهم.

(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي وإن تسأل نفس ذات ثقل من الذنوب، من يحمل عنها ذنوبها؟ لم تجد من يجيبها إلى ما تطلب ولو كان المدعو ذا قرابة لها كأب أو ابن، إذ كلّ مشغول بنفسه، ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ونحو الآية قوله: «لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» وقوله: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» قال عكرمة: إن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بنىّ: أىّ والد كنت لك؟ فيثنى خيرا فيقول له يا بني إنى قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى، فيقول له ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت، ولكنى أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا، ثم يتعلق بزوجته فيقول يا فلانة: أىّ زوج كنت لك؟ فنثنى خيرا فيقول لها إنى أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لى لعلى أنجو بها مما ترين، فتقول ما أيسر ما طلبت. ولكنى لا أطيق أن أعطيك شيئا، إنى أتخوف مثل الذي تتخوف ثم سلى رسوله صلّى الله عليه وسلم على عدم قبولهم دعوته وإصرارهم على عنادهم فقال: (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي إنما يجدى النصح والإنذار لدى من يخشون الله ويخافون شديد عقابه يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك، بل لإيمانهم بما أتيت به وتصديقهم لك فيما أنبأت به عن ربك، فهؤلاء هم الذين ينفعهم إنذارك ويتعظون بمواعظك، لا من طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون- إلى أنهم يؤدون الصلاة المفروضة عليهم ويقيمونها على ما رسمه الدين،

[سورة فاطر (35) : الآيات 19 إلى 26]

فهى التي تطهر قلوبهم وتقربهم من ربهم حين مناجاتهم له كما جاء في الحديث «اعبد الله كأنك تزاه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والخلاصة- إنه إنما ينفع إنذارك وتخويفك من يخشى بأس الله وشديد عقابه، دون من عداهم من أهل التمرد والعناد. ثم حث على الأعمال الصالحة وأبان أن فائدتها عائدة إليهم فقال: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي ومن يتطهر من أدناس الشرك وأوضار الذنوب والمعاصي فنفع ذلك عائد إليه كما أن من يتدسى بالذنوب والآثام فضرّ ذلك راجع إليه، وإلى الله مصير كل عامل وهو مجازيه بما قدم من خير أو شر على ما جنى وأثّل لنفسه. [سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 26] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) تفسير المفردات الحرور: السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار، خلا: أي سلف ومضى، ونذير: أي منذر مخوف وهو النبي، والبينات: أي المعجزات

المعنى الجملي

الدالة على صدقهم فيما يدعون، والزبر: واحدها زبور وهو الكتاب، النكير: الإنكار بالعقوبة.. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه طريق الهدى وطريق الضلالة وذكر أن المستعد للإيمان قد اهتدى بهدى النذير، والجاحد المعاند قسا قلبه ولم يستفد من هديه- ضرب مثلا به تنجلى حاليهما، ثم ذكر أن الهداية بيد الله يمنحها من يشاء، وأن هؤلاء المشركين كالموتى لا يسمعون نصيحة ولا يهتدون بعظة، وأن الله لم يترك أمة سدى، بل أرسل الرسل فمنهم من أجاب دعوة الداعي ونجا، ومنهم من استكبر وعصى، وكانت عاقبته الوبال والنكال في الدنيا والنار في العقبى. الإيضاح (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) أي وما يستوى الأعمى عن دين الله الذي ابتعث به نبيه صلّى الله عليه وسلم، والبصير الذي قد أبصر فيه رشده فاتبع محمدا صلّى الله عليه وسلم وصدّقه وقبل عن الله ما ابتعثه به، وما تستوى ظلمات الكفر ونور الإيمان ولا الثواب والعقاب. ثم ضرب مثلا آخر لهما فقال: (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي وما يستوى أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ومعرفة كتابه وتنزيله، وأموات القلوب بغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ولا تفرق بين الهدى والضلال، وكل هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان والكافر والكفر. ونحو الآية قوله: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟» وقوله: «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟» .

والخلاصة- إن المؤمن بصير سميع نيّر القلب يمشى على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى وأصم يمشى في ظلمات لا خروج له منها، فهو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة حتى يفضى به ذلك إلى حرور وسموم، وحميم وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم. ثم بين أن الهداية والتوفيق بيده سبحانه وحده فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي إن الله يهدى من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها بخلق الاستعداد فيه للهداية. ثم ضرب مثلا لهؤلاء المشركين وجعلهم كالأموات لا يسمعون فقال: (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي فكما لا تقدر أن تسمع من في القبور كتاب الله، فتهديهم به إلى سبيل الرشاد، لا تقدر أن تنفع بمواعظ الله وحججه من كان ميت القلب لا يستطيع فهم كتابه ومعرفة مغازى الدين وأسراره. والخلاصة- كما لا ينتفع الأموات بعد أن صاروا إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها- كذلك هؤلاء المشركون لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم. ثم بين عمل الرسول فقال: (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا منذر عقاب الله لهؤلاء المشركين الذين طبع على قلوبهم، ولم تكلّف هدايتهم وقبولهم ما جئتهم به، فإن ذلك بيده تعالى لا بيدك ولا بيد غيرك، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك. ثم بين سبحانه أنه ليس نذيرا من تلقاء نفسه، بل بإذن ربه وإرادته وأنه ما جاء إلا بالحق فقال: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي إنا أرسلناك أيها الرسول بالإيمان بي وحدي، وبالشرائع التي فرضتها على عبادى، مبشرا بالجنة من صدقك وقبل منك ما جئت به من عندى، ومنذرا بعقاب من كذبك وردّ عليك ما أوحى به إليك.

ثم بين فضله سبحانه على عباده ورحمته بهم وأنه لم يتركهم دون أن يبين لهم طريق الهدى والضلال فقال: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) أي وما من أمة خلت من بنى آدم إلا وقد بعث الله إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» وقال: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وقال: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» . ثم سلّى رسوله على ما يلاقيه من قومه من الإصرار على العناد والتكذيب وأبان له أنه ليس ببدع من بين الرسل فقال: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي وإن يكذبك أيها الرسول مشركو قومك فلا تبتئس بما يفعلون، فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات الباهرة، والأدلة القاطعة، وبالكتب الواضحة كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وزبور داود، وبعد أن سلاه هدد من خالفوه وعصوه بمثل ما فعل بمن قبلهم من الماضين فقال. (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي وبعد أن أتاهم الرسل بما أتوهم كذبوهم فيما جاءوهم به فأخذتهم بالعقاب والنكال، فانظر كيف كان شديد عقابى بهم وإنكارى عليهم، فإن تمادى قومك وأصروا على إنكارهم واستمروا فى عمايتهم حل بهم مثل ما حل بأولئك: فتلك سنة الله لا تبديل لها ولا تغيير. «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» . ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.

[سورة فاطر (35) : الآيات 27 إلى 28]

[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) تفسير المفردات ألوانها: أي من أحمر إلى أصفر إلى أخضر إلى نحو ذلك، الجدد: واحدها جدة (بالضم) وهى الطريق المختلفة الألوان في الجبل ونحوه، والغرابيب: واحدها غربيب وهو شديد السواد يقال أسود غربيب، وأبيض يقق، وأصفر فاقع، وأحمر قان، وفي الحديث «إن الله يبغض الشيخ الغربيب» يعنى الذي يخضب بالسواد، وقال امرؤ القيس في وصف فرسه: العين طامحة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه دلائل وحدانيته وعظيم قدرته التي أعرض عنها المشركون عنادا واستكبارا- أردف ذلك ذكر ما يرونه من المشاهدات الكونية المختلفة الأشكال والألوان، لعل ذلك يعيد إليهم أحلامهم وينبه عقولهم إلى الاعتبار بما يرون ويشاهدون. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) يقول سبحانه منبها إلى كمال قدرته: ألم تشاهد أيها الرائي أنا خلقنا الأشياء المختلفة من الشيء

الواحد، فأنزلنا الماء من السماء وأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها وطعومها وروائحها كما هو مشاهد من ألوان الثمار من أصفر إلى أحمر إلى أخضر إلى نحو ذلك ونحو الآية قوله: «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» . (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) أي وخلقنا الجبال كذلك مختلفة الألوان من بيض إلى حمر إلى سود غرابيب كما هو مشاهد، وفي بعضها طرائق مختلفة الألوان أيضا. (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي وكذلك الناس والدواب والأنعام مختلفة الألوان في الجنس الواحد، بل الحيوان الواحد قد يكون فيه ألوان مختلفة، فتبارك الله أحسن الخالقين. ونحو الآية قوله: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ» . ولما عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعه بين أنه لا يعرف ذلك حق المعرفة إلا العلماء بأسرار الكون، العالمون بدقائق صنعه تعالى، فهم الذين يفهمون ذلك حق الفهم، ويعلمون شديد بطشه وعظيم قهره فقال: (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي إنما يخاف الله فيتقى عقابه بطاعته- العالمون بعظيم قدرته على ما يشاء من الأشياء وأنه يفعل ما يريد، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته فخافه ورهبه خشية أن يعاقبه. وقد أثر عن ابن عباس أنه قال: العالم بالرحمن من عباده، من لم يشرك به شيئا، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسبه بعمله.

[سورة فاطر (35) : الآيات 29 إلى 30]

وقال الحسن البصري: العالم من خشى الرّحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه ثم تلا الآية. وعن عائشة قالت: «صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا فرخّص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم، فخطب فحمد الله ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فو الله إنى لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» ، أخرجه البخاري ومسلم ثم بين سبب خشيتهم منه فقال: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) أي إن الله عزيز في انتقامه ممن كفر به، غفور لذنوب من آمن به وأطاعه، فهو قادر على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، ومن حق المعاقب والمثيب أن يخشى. [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 30] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) تفسير المفردات يتلون: أي يتّبعون من قولهم تلاه إذا تبعه، لأن التلاوة بلا عمل لا نفع فيها، وقد ورد: «ربّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه» والمراد من التجارة المعاملة مع الله لنيل الثواب، وتبور: أي تكسد. المعنى الجملي لما بين سبحانه أن العلماء هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه- أردف ذلك ذكر حال العالمين بكتاب الله العالمين بما فرض فيه من أحكام كإقامة الصلاة

الإيضاح

وإيتاء الزكاة في السر والعلن، وأبان أن هؤلاء يرجون ثوابا من ربهم كفاء أعمالهم، بل أضعاف ذلك فضلا من ربهم ورحمة، ويطمعون في غفران زلاتهم لأنه الغفور الشكور لهم على ما أحسنوا من عمل. الإيضاح إن الذين يتبعون كتاب الله ويعملون بما فرض فيه من فرائض فيؤدون الصلاة المفروضة لمواقيتها على ما رسمه الدين بإخلاص وخشية من ربهم، ويتصدقون مما أعطاهم من الأموال سرا وعلانية بلا بسط ولا إسراف- هؤلاء قد عاملوا ربهم راجين ربخ تجارتهم بنيلهم عظيم ثوابه كفاء ما قدموا من عمل مع الإخبات والإنابة إليه، ويبتغون فضلا منه ورحمة فوق ذلك، وغفرانا لما فرط من زلاتهم، وما اجترحوا من سيئاتهم، فالله هو الغفور لما فرّط من المطيعين من الزلات، الشكور لطاعاتهم، فمجازيهم عليها الجزاء الأوفى. ونحو الآية قوله: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» . [سورة فاطر (35) : الآيات 31 الى 35] وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الكتاب: هو القرآن، مصدقا لما بين يديه: أي لما تقدمه من الكتب السماوية، خبير بصير: أي محيط ببواطن أمورهم وظواهرها، مقتصد: أي عامل به تارة، ومخالف له أخرى، سابق: أي متقدم إلى ثواب الله راج دخول جنته، بالخيرات: أي بسبب ما يعمل من الخيرات والأعمال الصالحة، بإذن الله: أي بتوفيقه وتيسيره، والحزن: هو الخوف من محذور يقع في المستقبل، دار المقامة: أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا وهى الجنة، نصب: أي تعب، ولغوب: أي كلال وفتور. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم أجرهم- أكد هذا وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق، وهو مصدق لما بين يديه من الكتب، فتاليه مستحق لهذا الأجر والثواب، ثم قسم هؤلاء الذين أورثوا الكتاب أقساما ثلاثة: ظالم لنفسه ومقتصد، وسابق بالخيرات، ثم ذكر جزاء هؤلاء السابقين، وأنهم يدخلون جنات تجرى من تحتها الأنهار وأنهم يحلّون فيها أساور الذهب واللؤلؤ، ويلبسون الحرير، ويقولون حينئذ: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور، ويقولون: إنه أحلنا دارا لا نصب فيها ولا تعب. الإيضاح (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي إن القرآن الذي أنزلناه إليك هو الحق من ربك، وعليك وعلى أمتك أن تعمل به وتتبع ما فيه، دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك، وهو مصدق لما مضى بين يديه مما أنزل إلى الرسل من قبله فصار إماما لها (إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي إن الله خبير بأحوال عباده، بصير بما يصلح

لهم، فيشرع لهم من الأحكام ما يناسب أحوال الناس في كل زمان ومكان، ويرسل من الرسل من هو حقيق بتبليغ ذلك للناس «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» . (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة التي هى خير الأمم بشهادة الكتاب «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» وجعلناهم أقساما ثلاثة: (1) ظالم لنفسه، مفرّط فعل بعض الواجبات، مرتكب لبعض المحرمات. (2) مقتصد مؤدّ للواجبات، تارك للمحرمات، تقع منه تارة بعض الهفوات، وحينا يترك بعض المستحسنات. (3) سابق بالخيرات بإذن الله، يقوم بأداء الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات. والخلاصة- إن الأمة في العمل أقسام ثلاثة: مقصّر في العمل بالكتاب مسرف على نفسه. ومتردد بين العمل به ومخالفته. ومتقدم إلى ثواب الله بعمل الخيرات وصالح الأعمال بتيسير الله وتوفيقه. وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت حسناته على سيئاته. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الميراث والاصطفاء فضل عظيم من الله لا يقدر قدره. وبعد أن ذكر سبحانه أحوال السابقين بيّن جزاءهم ومآلهم بقوله: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي بساتين إقامة يدخلها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب واصطفيناهم من عبادنا يوم القيامة، ويحلون فيها أسورة من ذهب ولآلئ ويكون لباسهم حريرا

[سورة فاطر (35) : الآيات 36 إلى 37]

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أي ويقولون حينئذ: الحمد لله الذي أذهب عنا الخوف من كل ما نحذر، وأراحنا مما كنا نتخوف من هموم الدنيا والآخرة. ثم ذكر السبب في ذهاب الحزن عنهم فقال: (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أي إن ربنا لغفور لذنوب المذنبين، شكور للمطيعين، روى عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأنى بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور» . والخلاصة- إنه أذهب عنهم الحزن من خوف العاقبة ومن أجل المعاش والوساوس الشيطانية. ولما ذكر سرورهم وكرامتهم بتحليتهم بالحلى وإدخالهم الجنات- ذكر سرورهم ببقائهم فيها وأعلمهم بدوامها فقال: (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي إن ربنا لغفور شكور، لأنه أنزلنا الجنة التي لا تحول عنها ولا نقلة، ولا يصيبنا فيها تعب ولا وجع ولا إعياء ولا فتور. والخلاصة- إنهم أتعبوا أنفسهم في العبادة في دار الدنيا فاستراحوا راحة دائمة في الآخرة كما قال: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» . وقيل للربيع بن خيثمة وقد كان يقوم ليله ويصوم نهاره (أتعب نفسك) فقال: راحتها أطلب. [سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لا يقضى عليهم: أي لا يحكم عليهم بموت ثان، يصطرخون: أي يصيحون أشد الصياح للاستغاثة، نعمركم: أي نمهلكم، للظالمين: أي للكافرين، نصير: أي معين يدفع عنهم العذاب. المعنى الجملي بعد أن بين ما لعباده الذين أورثوا الكتاب من النعمة في دار السرور التي قال فى مثلها القائل: علياء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سرّاء أردف ذلك ذكر ما لأضدادهم من النقمة، زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بما أوتوا من نعيم زائل وحبور لا يدوم. الإيضاح (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي والذين ستروا ما تدل عليه العقول من شموس الآيات وأنوار الدلالات، لهم نار جهنم لا يحكم عليهم فيها بموت ثان فيستريحوا من الآلام، ولا يخفف عنهم العذاب فيها، بل كلما خبت زيد سعيرها. ونحو الآية قوله: «وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» وقوله: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» وقوله: «كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» وقوله: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» . ثم بين أن هذا جزاء كل كافر بنعمة ربه، جاحد بوحدانيته فقال:

(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي وهكذا نكافى كل جاحد لآلاء الله منكر لرسله، فندخله نار جهنم بما قدم من سيئات في الدنيا. (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي وهم يستغيثون ويضجّون في النار يقولون ربنا أخرجنا منها، وأعدنا إلى دار الدنيا، نطعك ونعمل غير الذي كنا نعمل من معصيتك، وقد علم منهم أنه لو ردهم إلى هذه الدار لعادوا إلى ما نهوا عنه. وحينئذ يقال لهم تقريعا وتوبيخا. (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ؟) أي ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفعون بالحق لا نتفعتم به مدة عمركم؟ ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم «هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟» . والخلاصة- إنه تعالى لا يجيبكم إلى ما طلبتم، لأنكم كنتم عصاة، ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه. روى أحمد عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين، لقد أعذر الله تعالى إليه، لقد أعذر الله تعالى إليه» . (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي وجاءكم الرسول ومعه كتاب الله، ينذركم بالعقاب إن خالفتم أمره، وتركتم طاعته. والخلاصة- إنه احتج عليهم بأمرين: طول الأمل، وإرسال الرسل ونحو الآية قوله: «وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» وقوله: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» .

[سورة فاطر (35) : الآيات 38 إلى 39]

وقد استبان مما تقدم أنهم لا يخرجون منها، ومن ثم قال: (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي فذوقوا عذاب النار جزاء مخالفتكم للأنبياء فى حياتكم الدنيا، ولن تجدوا لكم ناصرا ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والسلاسل والأغلال. [سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 39] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) تفسير المفردات ذات الصدور: هى المعتقدات والظنون التي في النفوس، والخلائف: واحدهم خليفة، وهو الذي يقوم بما كان قائما به سلفه، مقتا: أي بغضا واحتقارا، خسارا: أي خسارة، فالعمر كرأس مال إذا اشترى به صاحبه رضا الله ربح، وإذا اشترى به سخطه خسر. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أنه ليس للظالمين من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم- أردف ذلك بيان أنه محيط بالأشياء علما، فلو كان لهم نصير في وقت ما لعلمه. إلى أنه تعالى لما نفى النصير على سبيل الاستمرار، وكان ذلك مظنة أن يقال كيف يخلّدون في العذاب وقد ظلموا في أيام معدودات- أعقب ذلك بذكر أنه عليم بما انطوت عليه ضمائرهم، وأنهم صمّموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد، فمهما طالت أعمارهم فلن تتغير حالهم.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن الله عالم ما تخفون أيها المشركون فى أنفسكم وما تضمرون، وما ستنوون أن تفعلوه، وما هو غائب عن أبصاركم في السموات والأرض، فاتقوه أن يطلع عليكم وأنتم تضمرون الكيد لرسوله، وتريدون إطفاء دينه، وتنصرون آلهتكم التي لا تنفعكم شيئا يوم القيامة. ثم علل هذا بقوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي لأنه عليم بما تكنه السرائر، وما تنطوى عليه الضمائر، وسيجازى كل عامل بما عمل. وفي هذا إيماء إلى أنه لو مد أعمارهم لم يرجعوا عن الكفر أبدا، فلا مطمع فى صلاحهم. ثم ذكر ما هو سبب آخر لعلمه بالغيب فقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي هو الذي ألقى إليكم مقاليد التصرف والانتفاع بما في الأرض لتشكروه بالتوحيد والطاعة. (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي فمن غمط مثل هذه النعمة العظيمة فإنما يعود وبال ذلك إلى نفسه دون غيره، لأنه هو المعاقب لا سواه. ثم فصل ذلك وبيّنه بقوله: (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي وكلما استمروا في كفرهم أبغضهم ربهم وغضب عليهم. (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي وكلما اطمأنوا إلى كفرهم خسروا أنفسهم يوم القيامة وحق عليهم سوء العذاب. والتكرير للتنبيه إلى اقتضاء الكفر لكل من الأمرين القبيحين البغض والخسران على سبيل الاستقلال.

[سورة فاطر (35) : الآيات 40 إلى 41]

[سورة فاطر (35) : الآيات 40 الى 41] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) تفسير المفردات أرأيتم: أي أخبرونى، شرك: أي شركة، يمسك: أي يحفظ، وتزول: أي تضطرب وتنتقل من أماكنها المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أنه هو الذي استخلفهم في الأرض- أكد هذا بأمره صلّى الله عليه وسلم أن يقول لهم ما يضطرهم إلى الاعتراف بوحدانيته وعدم إشراك غيره منه. الإيضاح (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي أخبرونى أيها المشركون عن شركائكم الذين تدعونهم من دون الله من الأصنام والأوثان- أرونى أىّ جزء من الأرض أو من الأناسى والحيوان خلقوا حتى يستحقوا الإلهية والشركة. والخلاصة- أعلمتم هذه الآلهة ما هى؟ وعلى أي حال هى؟ فإن كنتم تعلمون أنها عاجزة، فكيف تعبدونها، وإن كنتم توهمتم فيها القدرة فأرونى أثرها؟. (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي أم لهم شركة مع الله في خلق السموات حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟) أي أم هناك كتاب أوتوه ينطق بأنا اتخذناهم شركاء، فهم على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة معنا. وخلاصة ما تقدم- أخبرونى عمن تعبدونهم من دون الله، هل استبدوا بخلق شىء من الأرض حتى يعبدوا كعبادة الله، أولهم شركة معه في خلق السموات، وآتيناهم برهانا بهذه الشركة؟ والخلاصة: إن عبادة هؤلاء إما بدليل من العقل، ولا عقل يحكم بعبادة من لا يخلق شيئا، وإما بدليل من النقل، وإنا لم نؤت المشركين كتابا فيه الأمر بعبادة هؤلاء. وبعد أن نفى ما نفى من الحجج أضرب عن ذلك وبين أن الذي حملهم على الشرك هو تقرير السلف للخلف، وإضلال الرؤساء للأتباع، وقولهم لهم: إن هؤلاء شفعاء يشفعون لكم عند الله إذا أنتم عبدتموهم، وإلى هذا أشار بقوله: (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي بل إنما اتبعوا في ذلك آراء أسلافهم وضلّالهم، وما هى إلا غرور وأباطيل. ولما أبان حقارة الأصنام أرشد إلى عظمته تعالى فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي إن الله يمنع السموات أن تضطرب من أماكنها، فترتفع أو تنخفض ويمنع الأرض من مثل ذلك، ويحفظهما برباط خاص، وهو ما يسميه العلماء نظام الجاذبية، فجميع العوالم من الأرض والقمر والشمس والسيارات الأخرى تجرى في مدارات خاصة بهذا النظام الذي وضع لها، ولولا ذلك لتحطمت هذه الكرات المشاهدة، وزالت عن أماكنها، لكنها به ثبتت فى مواضعها، واستقرت في مداراتها. (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي وإن أشرفتا على الزوال ما استطاع أحد أن يمسكهما من بعد الله. والخلاصة- إنه لا يقدر على دوامهما وبقائهما على هذا الوضع إلا اللطيف الخبير

[سورة فاطر (35) : الآيات 42 إلى 43]

ونحو الآية قوله: «وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» وقوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ» . (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ومن ثم حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم على عظيم جرمهم المقتضى تعجيل العقوبة لهم. والخلاصة- إنه يحلم وينظر، ويؤجل ولا يعجّل، ويستر ويغفر. [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) تفسير المفردات وأقسموا: أي حلف المشركون، جهد أيمانهم: أي غاية اجتهادهم فيها، نذير: أي رسول منذر أهدى من إحدى الأمم: المراد بها اليهود أو النصارى، نفورا: أي تباعدا عن الحق، مكر السيّء: أي المكر السيّء الذي فيه خداع وكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحيق: أي ولا يصيب ولا ينزل، سنة الأولين: أي سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم، تبديلا: بوضع الرحمة موضع العذاب، تحويلا: بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه تكذيبهم للتوحيد بإشراكهم الأوثان والأصنام، وبكّتهم على هذا أشد التبكيت، وضرب لهم الأمثال، ليبين لهم سخف عقولهم، وقبح معتقداتهم،

الإيضاح

أردف ذلك ذكر إنكارهم للرسالة بعد أن كانوا مترقبين لها، ناعين على أهل الكتاب تكذيب بعضهم بعضا، فقالت اليهود: ليست النصارى على شىء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شىء، ثم هددهم بأن عاقبتهم ستكون الهلاك الذي لا محيص عنه، وتلك سنة الله في الأولين من قبلهم، وسنته لا تبديل فيها ولا تحويل. الإيضاح (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي وأقسم المشركون بالله أغلظ الأيمان، وبالغوا فيها أشد المبالغة: لئن جاءهم من الله رسول ينذرهم بأسه، ليكونن أسلك لطريق الحق وأشد قبولا له من أىّ أمة من الأمم التي خلت من قبلهم. (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي ولكن حين جاءهم الرسول انعكست الآية، فما زادهم مجيئه إلا بعدا من الإيمان بالله، وانصرافا عن الحق، واستكبارا عن اتباع آياته، ومكروا بالناس مكرا سيئا فصدوهم عن سبيله. والخلاصة- إنه تبين أن لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أو في الناس، ولا صدق لهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق، وصار مثلهم مثل الإبل التي نفرت من ربها، فضلت عن الطريق، فدعاها فازدادت بدعائه نفرة، وصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها. ثم بين أن عاقبة مكرهم عادت عليهم بالوبال بقوله: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي ولا يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم. روى الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ما كرا فإن الله يقول: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا

[سورة فاطر (35) : الآيات 44 إلى 45]

فإن الله سبحانه يقول «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثا فإن الله يقول: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» . وقد وقع مثل هذا في كلام العرب فقد قالوا: من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبّا والعبرة في الأمور بالعواقب، والله يمهل ولا يهمل، ووراء الدنيا الآخرة، فإن لم يجاز الماكر في هذه الدار فسيلقى الجزاء في الآخرة «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» . ثم هددهم بأن يحل بهم مثل ما أحل بمن قبلهم من العذاب فقال. (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك إلا أن أحل بهم من نقمتى على شركهم بي وتكذيبهم رسولى- مثل ما أحللت بمن قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا رسلهم. ثم علل انتظارهم للعذاب وتهديدهم به بقوله: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) أي وهذه سنة الله في كل مكذب، فلا تغير ولا تبدل، ولن يجعل الرحمة موضع العذاب، ولن يحوّل العذاب من نفس إلى أخرى كما قال: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» . [سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن هدد المشركين بجريان سنته فيهم، بإهلاكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم- نبههم إلى ذلك بما يشاهدونه من آثارهم في رحلاتهم للتجارة في الشام والعراق واليمن، فقد خلت منهم منازلهم وسلبوا ما كانوا فيه من النعيم بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد، وكثرة المال والولد، وما أغنى ذلك عنهم شيئا ولا دفع عنهم من عذابه لما جاء أمره، لأنه لا يعجزه شىء إذا أراده. ثم ذكر حلمه بعباده وأنه لو آخذهم بما اجترحوا من السيئات ما ترك على ظهر الأرض إنسانا يدبّ على وجهها، لكنه أخّر عقابهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم ويوفى كل عامل جزاء عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو البصير بحال عباده الإيضاح (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي أولم يسر هؤلاء المشركون بالله في الأرض التي أهلكنا فيها أهلها، بكفرهم بنا وتكذيبهم، رسلنا أثناء رحلاتهم التي يسلكونها إلى طريق الشام فى تجاراتهم، فينظروا كيف كانت عاقبتهم- ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم ونجعلهم مثلا لمن بعدهم، فيتعظوا بهم ويزدجروا عما هم عليه من الشرك بعبادتهم الآلهة من الأوثان والأصنام؟ ثم بين أنهم إذا ساروا على تمردهم وعنادهم فهم لا يفلتون من عقابه فقال: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي ولن يعجز الله هؤلاء المشركون به المكذبون لرسوله، فيسبقوه هربا وينجوا من الهلاك إذا هو أراد ذلك بهم، لأنه لا يعجزه شىء يريده في السموات ولا في الأرض.

وغير خاف ما في هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد لهم. ثم علل عدم عجزه عن شىء فيهما بقوله: (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) أي إنه تعالى عليم بمن يستحق أن تعجّل له العقوبة ومن قد تاب وأناب إلى ربه ورجع عن ضلالته، قدير على الانتقام ممن شاء منهم، وعلى توفيق من أراد الإيمان. ولما كان المشركون يستعجلون بالوعيد استهزاء فيقولون «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» بيّن أنه لا يعاجلهم بالعقوبة على ما كسبوا، لعلهم ينيبون أو ينيب بعضهم إلى ربه، ويثوب إلى رشده فقال: (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي ولو يعاقب الله الناس ويكافئهم بما عملوا من الذنوب واجترحوا من الآثام ما ترك على ظهر الأرض نسمد تدب لشؤم المعاصي التي يفتنّون فيها (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ولكن يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل حدده عنده لا يقصرون دونه ولا يتجاوزونه إذا بلغوه. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي فإذا حل ذلك الأجل فإن الله يجازى المكلفين بما عملوا من خير أو شر، لا يخفى عليه شىء من أمرهم، دقّ أو جلّ، ظهر أو بطن. اللهم أحسن أعمالنا ظواهرها وبواطنها، وتقبل منا ما نعمل مما يرضيك إنك أنت الخبير البصير.

مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام

مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام (1) الأدلة على قدرة الله بإبداعه للكون وأنه المنعم المتفضل. (2) تذكير الناس بالنعم ليشكروها. (3) تثبيت فؤاد رسوله بذكر قصص المكذبين للأنبياء والمرسلين. (4) نداء الناس عامة بأن يتحلّوا بالفضائل، ويتخلّوا عن الرذائل، ولا يتبعوا خطوات الشيطان، وينظروا فيما أبدع الرّحمن، من الآيات في الأرض والسموات. (5) ضرب الأمثال لما سلف من القسمين، وإيضاح الطائفتين المؤمنة والكافرة. (6) تقسيم المؤمنين إلى علماء محققين، وصالحين متقين، ثم تقسيمهم من حيث العمل أقساما ثلاثة. (7) وصف عاقبة الكافرين والمؤمنين وما يلقاه كل منهما يوم القيامة.

سورة يس

سورة يس هى مكية إلا قوله: «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» فمدنية. وآيها ثلاث وثمانون، نزلت بعد سورة الجن. ووجه اتصالها بما قبلها: (1) إنه لما جاء في السورة السالفة قوله: «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» وقوله: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ» وقد أعرضوا عنه وكذبوه- افتتح هذه السورة بالقسم بصحة رسالته وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم. (2) إنه قال فيما قبلها «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» وقال في هذه: «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» وقال: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» . [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)

تفسير المفردات

تفسير المفردات (يس) : تقدم الكلام في نظائره من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن الرأى الرجيح فيها أنها حروف تنبيه نحو ألا ويا، وينطق بأسمائها فيقال (ياسين) . روى عن ابن عباس أنه قال يس: أي يا إنسان بلغة طيىء. والحكيم: أي ذى الحكمة، على صراط مستقيم: أي طريق قويم، من عقائد صحيحة، وشرائع حقة، حق: أي ثبت ووجب، الأغلال: واحدها غلّ، وهو ما تشدّ به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، والقمح: الذي يرفع رأسه ويغضّ بصره. قال أبو عبيدة: يقال قمح البعير: إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. من بين أيديهم: أي من أمامهم، فأغشيناهم: أي فغطّينا أبصارهم، والذكر: القرآن، وخشى الرّحمن: أي خشى عقابه، بالغيب: أي قبل حلوله ومعاينة أهواله، ما قدّموا: أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة، وآثارهم: أي ما أبقوه بعدهم من الحسنات كعلم علّموه، أو كتاب ألّفوه، أو بناء في سبيل الله بنوه، أو من السيئات كغرس بذور الضلالات بين الناس، فى إمام مبين: أي في أصل يؤتم به. الإيضاح (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي أقسم بالقرآن المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إنك أيها الرسول لمن المرسلين لذين هم على دين قويم، وشرع مستقيم.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي هذا الصراط المستقيم، والدين القويم، تنزيل من ذى العزة والرحمة بعباده. ونحو الآية قوله: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» . (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) أي إنا أرسلناك لتنذر العرب الذين لم يأتهم نذير من قبلك، فهم في غفلة عن معرفة الشرائع التي فيها سعادة البشر، وإصلاح المجتمع. وذكرهم وحدهم هنا لأن الخطاب كان معهم، وهذا لا يمنع أنه مرسل إلى الناس كافة كما قال: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» . (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لقد وجب العقاب على أكثرهم، لأنه سبحانه سجل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون به، ولا يصدّقون برسوله، لما علم من خبث نفوسهم وسوء استعدادهم، فلا تعمر قلوبهم بالإيمان، ولا تخبت لله في أي زمان. ثم ضرب لهم مثلا فقال: (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا فهى واصلة إلى الأذقان ملصقة بها، فهم من جراء ذلك مقمحون أي مرفوعو الرءوس، إذ أن طوق الغلّ الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجا من الحلقة إلى الذقن، فلا يمكّنه من أن يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحا. والمراد منعناهم بموانع عن الإيمان تشبه ما ذكر، فهم غاضو أبصارهم، لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رءوسهم له. ثم أكد ما سبق وزاده بيانا وتفصيلا فقال:

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي إنه زيّن لهم سوء أعمالهم، وأعجبوا بأنفسهم، واستكبروا عن اتباع الرسول، وشمخوا بأنوفهم، ولم يخضعوا لما جاءهم به، وصدّوا أبواب النظر عما ينفعهم، ولم يقبلوا شيئا سوى ما هم عليه فما مثلهم إلا مثل من أحاط به سدّان من الأمام والخلف فحجباه عن النظر فهو لا يبصر شيئا. والخلاصة- إنهم محبوسون في سجن الجهالة، ممنوعون عن النظر في دلائل الأنفس ودلائل الكون، محرومون عن التأمل فيما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية، والتفكر في العواقب المستقبلة. ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال: (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي وسواء على هؤلاء الذين حق عليهم القول، إنذارك إياهم وتركه، فإنه قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون، إذ قد خبثت نفوسهم، وساء استعدادهم، وغشّيت أبصارهم فلا تقدر على النظر في الدلائل المشاهدة، ولا تستطيع التأمل في جمال الكون. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفمّ طعم الماء من سقم ثم أعقب ذلك بيان من يتأثر بالإنذار فقال: (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي إنما ينفع إنذارك من آمن بالقرآن، واتبع ما فيه من الأحكام، وخشى عقاب الله قبل حلوله ومعاينة أهواله، فإنه سبحانه عظيم الرحمة، أليم العذاب كما قال: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» . فبشّر هذا الذي اتبع أحكام الدين، وخاف العقاب بمغفرة ما فرط منه من الزلات، وأجر كريم، ونعيم مقيم، لا يستطاع وصفه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

[سورة يس (36) : الآيات 13 إلى 27]

ونحو الآية قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» . ثم ذكر ما يؤكد الخشية من الله وخوف عقابه بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) أي إنا نحيى الموتى جميعا من قبورهم يوم القيامة، ونكتب ما أسلفوا من عمل، وتركوا من أثر حسن بعدهم، كعلم علّموه، أو حبيس في سبيل الله وقفوه، أو مستشفى لنفع الأمة أنشئوه، أو أثر سيىء كغرس الأحقاد والأضغان، وترتيب مبادئ الشر والعدوان بين الأنام. روى ابن أبى حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من سنّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئا، ثم تلا: ونكتب ما قدّموا وآثارهم» والمراد من كتابة ذلك مجازاتهم عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ثم ذكر أن الضبط والإحصاء لا يخص أعمال بنى آدم، بل يتناول جميع الأشياء فقال: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي وبيّنا كل شىء وحفظناه، فى أصل عظيم يؤتم به، ويتبع ولا يخالف، وهو علمنا الأزلى القديم الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ونحو الآية قوله: «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» وقوله: «وكلّ شىء فعلوه في الزّبر. وكلّ صغير وكبير مستطر» . [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

تفسير المفردات

تفسير المفردات ضرب المثل: يستعمل تارة في تشبيه حال غريبة بأخرى مثلها كما في قوله: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ» الآية، ويستعمل أخرى في ذكر حال غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تشبيهها بحال أخرى نحو قوله: «وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» أي وبيّنا لكم أحوالا غاية في الغرابة كالأمثال، والقرية: هى أنطاكية كما روى عن قتادة وعكرمة، والمرسلون: هم رسل عيسى من الحواريين، فعززنا: أي فقوّينا وشددنا، البلاغ المبين: أي التبليغ الواضح الظاهر للرسالة،

المعنى الجملي

تطيّرنا: أي تشاء منا، لنرجمنكم: أي لنرمينكم بالحجارة، طائركم: أي سبب شؤمكم، مسرفون: أي مجاوزون الحد في العصيان، أقصى المدينة: أي أبعد مواضعها، يسعى: أي يعدو ويسرع، لا تغن: أي لا تنفع، ولا ينقذون: أي لا يخلصونى. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن هؤلاء المشركين قد ختم الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون- أردف ذلك ذكر مثل لقوم حالهم كحالهم في الغلوّ في الكفر والإصرار على التكذيب، والاستكبار على الرسل، وصم الآذان عن سماع الوعظ والإرشاد، وهم أهل قرية أنطاكية ببلاد الشام، فقد كان قصصهم مع رسل الله كقصص قومك معك، فى العناد والاستكبار والعتوّ والطغيان. الإيضاح (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) أي واجعل أصحاب قرية أنطاكية مثلا لهؤلاء القوم، إذ أصروا على تكذيب الرسل الذين أرسلوا إليهم كما أصر قومك على تكذيبك عنادا واستكبارا. والمشهور لدى المفسرين ومنهم قتادة وغيره أن الرسل هم رسل عيسى عليه السلام من الحواريين بعثهم إلى أهل أنطاكية، وكان منهم ما قصه الله علينا في كتابه. ويرى ابن عباس واختاره كثير من جلّة العلماء أن الرسل هم رسل الله أرسلهم ردءا لعيسى عليه السلام مقررين لشريعته كهرون لموسى عليه السلام، ويؤيد ذلك. (1) قولهمَ بُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) . (2) إنهم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) . (3) إن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، فقد كانوا أول أهل مدينة آمنت بالمسيح ومن ثم كانت إحدى المدن الأربع اللاتي فيهن بطارقة، وهن القدس

وأنطاكية والإسكندرية ورومية، لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم ووطده، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرين من رومية إليها. ثم فصل ما تقدم وزاده بيانا فقال: (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أي حين أرسلنا إليهم رسولين من عندنا فأسرعوا في تكذيبهما فقويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث فقالوا لأهل القرية: إنا إليكم مرسلون من ربكم الذي خلقكم، بأن تخلصوا له العبادة، وتتبرءوا مما تعبدون من الآلهة والأصنام. والمشهور أن الرسولين الأولين كانا يوحنا وبولس والرسول الثالث شمعون. ثم ذكر شبهة، كثيرا ما تمسك بها المكذبون للرسل من الأمم الماضية. (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي قال أصحاب القرية للثلاثة الذين أرسلوا إليهم: ما أنتم إلا بشر مثلنا من غير مزية دعية لاختصاصكم بما تدّعون، وما أنزل الرّحمن إليكم رسالة ولا كتابا ولا أمركم فينا بشىء، ما أنتم إلا كاذبون في قيلكم إنا مرسلون إليكم. وفي قولهم «ما أنزل الرّحمن» إيماء إلى أنهم يعترفون بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام. وحينئذ رد عليهم الرسل مؤكدين رسالتهم. (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) أي فأجابهم الرسل قائلين: الله يعلم إنا رسله إليكم ولو كنا كذبة عليه لا نتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عقبى الدار؟ ونحو الآية قوله: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» . ثم ذكر الرسل ما أمروا به فقالوا:

(وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإن أطعتم ربحتم وكانت لكم سعادة الدارين، وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة تكذيبكم حين يحيق بكم الوبال والنكال. والتبليغ المبين إنما يكون إذا صحبته الآيات الباهرة، والمعجزات الدالة على أنهم رسل من عند الله. والخلاصة- ما علينا من جهة ربنا إلا التبليغ المعزّز بالآيات البينات وقد فعلنا فأىّ شىء تطلبون منا حتى تصدقوا دعوانا؟. ولما ضاقت بهؤلاء المكذبين الحيل، وأعيتهم الحجج لجئوا إلى التهديد والوعيد. (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قالوا إنا تشاء منا من تبليغكم ودعوتكم، فقد افتتن بعض القوم بكم، وتفرقت كلمتنا وانفرط عقد وحدتنا، ولئن لم تنتهوا عن بثّ هذه الدعوة بيننا لنرجمنكم بالحجارة رجما، ولنمثلن بكم شر التمثيل أو لنعذبنكم عذابا شديدا وأنتم أحياء. والخلاصة- إنا إما أن نقتلكم أو نلقيكم في غيابات السجون وننكل بكم تنكيلا عظيما. حينئذ أجابهم الرسل: (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي قالوا لهم سبب شؤمكم من أفعالكم لا من قبلنا كما تزعمون، فأنتم أشركتم بالله سواه، وأو لعتم بالمعاصي واجترحتم السيئات، أما نحن فلا شؤم من قبلنا، فإنا لا ندعو إلا إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له والإنابة إليه، وفي ذلك منتهى اليمن والبركة. (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي أمن جرّاء أنا ذكرناكم وأمرناكم بعبادة الله مخلصين له الدين تقابلوننا بمثل هذا الوعيد؟ بل أنتم قوم ديدنكم الإسراف ومجاوزة الحد في الطغيان، ومن ثم جاءكم الشؤم ولا دخل لرسل الله في ذلك.

والخلاصة- أنتم قوم مسرفون في ضلالكم، متمادون في غيكم، تتشاءمون بمن يجب التبرك بهم من هداة الدين، فقد جعلتم أسباب السعادة أسبابا للشقاء ولا يخفى ما في ذلك من شديد التوبيخ وعظيم التهديد والتنبيه إلى سوء صنيعهم بحرمانهم من الخيرات. ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ» . ثم أبان أنّ الحق لا يعدم نصيرا، وأن الله يقيّض له من يدافع عنه فقال: (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وجاء من أطراف المدينة رجل يعدو مسرعا، لينصح قومه حين بلغه أنهم عقدوا النية على قتل الرسل، فتقدم للذبّ عنهم ابتغاء وجه الله ونيل ثوابه، قال يا قوم اتبعوا رسل الله الذين لا يطلبون منكم أجرا على تبليغهم ولا يطلبون علوا في الأرض ولا فسادا، وهم سالكون طريق الهداية التي توصل إلى سعادة الدارين. روى أن هذا الرجل يسمى حبيبا، وكان نجارا، قال ابن أبى ليلى: سباقو الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين: على بن أبى طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون. ورواه الزمخشري حديثا، وقال ابن كثير إنه حديث منكر. ثم أبان لهم أنه ما اختار لهم إلا ما اختاره لنفسه فقال: (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟) أي وما يمنعنى من إخلاص العبادة للذى خلقنى، وإليه المرجع للجزاء يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وفي هذا تقريع لهم بتركهم عبادة الخالق وعبادة غيره، وتهديد بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب.

ثم أعاد التوبيخ مرة أخرى مبينا عظيم حمقهم فقال: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟) أي أأعبد من دون الله آلهة لا تملك من الأمر شيئا، وهو لو أرادنى بسوء فلا كاشف له إلا هو، ولا تملك الآلهة دفعه عنى ولا منعه. (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنى إذا فعلت ذلك واتخذت من دونه آلهة لفى ضلال بيّن لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل، فإن إشراك من لا يخلق وليس من شأنه النفع والضر، بمن يخلق وهو القادر على كل شىء- خطأ ظاهر، وغلط واضح لدى أرباب الأحلام وذوى الحجا. ثم التفت إلى الرسل وخاطبهم منيبا إلى ربه فقال: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي إنى آمنت بربكم الذي أرسلكم فاشهدوا لى بذلك عنده. روى أنه لما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه ولم يجد من يدافع عنه. قال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به كذلك حتى فارق الحياة. ثم ذكر مآل أمره وما قاله حين وجد النعيم والكرامة، فقال: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) أي قال الله له: ادخل الجنة كفاء ما قدمت من عمل وأسلفت من إحسان، فلما دخلها وعاين ما أكرمه الله به لإيمانه وصبره قال: ليت قومى يعلمون بما أنا فيه من نعيم، وخير عميم، لإيمانى بربي وتصديقى برسله وصبرى على أذى قومى، وإنما تمنى علم قومه بحاله، ليحملهم ذلك على اكتساب المثوبة مثله بالتوبة عن الكفر والدخول فى حظيرة الإيمان والطاعة اتباعا لسنن أولياء الله الذين يكظمون الغيظ ويترحمون على الأعداء.

قال ابن عباس: نصح قومه حيا بقوله: (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وبعد مماته بقوله: (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) . وإلى هنا وقف القلم في تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم. وكان الفراغ منه بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية في اليوم الثامن عشر من شعبان سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية. والحمد لله على إحسانه وإنعامه، وصلّ ربنا على محمد وآله الطيبين الأخيار وصحبه الأبرار.

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء الصفحة المبحث 3 مضاعفة ثواب أمهات المؤمنين رضى الله عنهن. 5 مكانتهن بين النساء وأمرهن بالقرار في البيوت. 7 من هم أهل البيت؟ 8 ما أعده الله للمسلمين والمسلمات من لأجر والكرامة في الدار الآخرة 9 الأوصاف التي يستحق بها عباده الثواب العظيم. 10 أىّ المجاهدين أعظم لله أجرا؟. 11 قصة زينب بنت جحش 12 الحكمة في زواجه صلّى الله عليه وسلم بها. 15 ما كانت تفخر به زينب على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم. 16 أبوّة محمد صلّى الله عليه وسلم للمؤمنين أبوة تعظيم وإجلال. 17 أولاد النبي عليه الصلاة والسلام. 19 أمره عليه الصلاة والسلام باحتمال أذى المشركين وبالتوكل عليه. 20 لا عدّة للمطلقة قبل الدخول. 23 بعض خصائص النبي صلّى الله عليه وسلم في الزواج. 25 تخييره صلّى الله عليه وسلم في مضاجعة من شاء من نسائه. 26 نهيه صلّى الله عليه وسلم عن زواج غير الموجودات معه، وعن استبدال غيرهن بهنّ 27 آية الحجاب وما فيها من أحكام وآداب. 28 النهى عن إزعاج النبي صلّى الله عليه وسلم إذا كان في الخلوة. 29 يحرم اللبث على المدعوّ إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت.

30 قال عمر: وافقت ربى في ثلاث. 31 منع المؤمن عن نكاح أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم. 33 احترام النبي صلّى الله عليه وسلم في الملا الأعلى والملإ الأدنى. 35 من نسب إلى مؤمن أو مؤمنة ما لم يعملا فقد اجترح إثما عظيما. 37 أمر النساء بالتستر وإرخاء الجلابيب صيانة لهن عن الأذى. 38 توعد الله أصنافا ثلاثة: بالقتال، والقتل، أو النفي من الديار. 41 ندم المشركين يوم القيامة وتمنيهم أن لو كانوا أطاعوا الله. 44 الأقوال والأفعال التي تكون سبب الفوز العظيم. 46 فعل التكاليف الشرعية وسيلة الظفر والفلاح. 47 أسباب تعدد زوجاته صلّى الله عليه وسلم. 48 الأسباب العامة لذلك. 49 الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين. 52 أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام. 53 ما حوته سورة الأحزاب من أغراض ومقاصد. 55 وجه اتصال سورة سبأ بما قبلها. 56 شمول علمه تعالى لكل ما في السموات والأرض. 57 إثبات البعث والجزاء. 58 الحكمة في البعث والجزاء. 59 أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم يعتقدون قيامها ومجيئها. 60 ما قاله المشركون على سبيل التهكم ممن قال بالبعث. 61 ادعاؤهم أن هذه المقالة لا يقولها إلا مفتر أو مجنون. 62 تنبيههم إلى ما يرون من آثار قدرته تعالى. 63 ما آتى الله داود من فضل ونعمة. 64 تسخير الريح لسليمان. 66 تسخير الجن. 67 الأرضة دلت على موت سليمان عليه السلام.

70 عقاب المعرضين عن شكر النعم. 71 سدّ مأرب- سدّ العرم 72 الكشف الحديث دل على صدق ما جاء في القرآن. 73 النعم التي أوتيها السبئيون. 74 عقاب أهل سبأ باتباعهم لوساوس الشيطان. 75 طغيانهم في الأرض وإفسادهم إلا قليلا منهم. 76 تأنيب قريش على عبادتها الأوثان والأصنام. 78 الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن الله له بها. 79 أمر الرسول بأن يقول للمشركين: علىّ إجرامى وعليكم إجرامكم، والحاكم بيننا هو الله. 82 رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم عامة للأسود والأحمر. 83 استعجال المشركين للعذاب تهكما وازدراء. 84 إنكار المشركين للقرآن والكتب التي قبله. 85 الحوار الذي بين المشركين ومعبوديهم يوم القيامة. 86 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم على إنكار مترفى قومه له، وبيان أنهم ليسوا ببدع في ذلك. 88 سعة الرزق لا تدل على رضا الله عن المرء ولا غضبه عليه. 89 العمل الصالح مع الإيمان هو الزلفى عند الله. 90 في الحديث: «اللهم أعط منفقا خلفا، وممسكا تلفا» . 91 أكثر المشركين مؤمنون بالجن مصدقون لهم فيما يقولون. 94 قال المشركون: القرآن إفك مفترى وإنه سحر بين. 95 ما ردّ به سبحانه على هذه المقالة. 96 طالب الله الكفار بالتريث في هذا الحكم ليعلموا الحق. 97 سبب نزول الآية (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) .

98 العدة بنشر الإسلام وتبلج نوره. 99 «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا» الحديث. 101 أن لهم الإيمان يوم القيامة وقد كفروا من قبل؟ 104 الأجنحة- فى العالم المادي تساعد على الطيران، وفي عالم الأرواح ترشد إلى القدرة. 105 ما كان يقوله صلّى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة وبعد الرفع من الركوع 106 الأمر بذكر النعم والشكر عليها. 107 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم بأنه ليس ببدع بين الرسل. 109 لحزب الشيطان العذاب الشديد ولحزب الله المغفرة. 110 ضرب المثل على تحقق البعث والنشور. 113 لمن سعى في ضعف الإسلام عذاب شديد والله يحبط عمله. 114 الآجال والأعمار أحصاها الله في كتاب. 115 البراهين الدالة على الوحدانية والقدرة. 117 النعي على المشركين في عبادة الأصنام والأوثان. 118 من أصول الدين أن لا تزر وازرة وزر- أخرى. 119 البشارة والإنذار إنما تجدى نفعا لدى من يخشى الله. 120 تسلية الرسول عن عدم قبول المشركين دعوته. 121 لم يترك الله أمة سدى بلا نذير. 123 الهداية والتوفيق بيد الله سبحانه. 124 قومك ليسوا ببدع في الأمم. 125 الاعتبار بالآيات الكونية. 126 لا يعلم بديع صنع الله إلا العالم بأسرار الكون. 128 الذين يتبعون أحكام الدين لهم تجارة لن تبور. 129 القرآن الكريم مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية.

130 المؤمنون أقسام ثلاثة. 131 المؤمنون حين يدخلون الجنة يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. 132 الكافرون يوم القيامة يطلبون العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا. 133 ما أجيبوا به عن هذا الطلب. 134 علم الله تعالى محيط بجميع الأشياء. 136 تبكيت المشركين على عبادة الأوثان. 137 نظام الجاذبية. 139 إنكارهم لرسالة النبي صلّى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مترقبين لها. 140 تهديد المشركين بحلول العقاب كما حل بمن قبلهم. 141 تنبيهم إلى آثار الغابرين الذين خلوا من قبلهم. 142 لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة. 143 مجمل ما حوته سورة فاطر من حكم وأحكام. 144 وجه اتصال سورة يس بما قبلها. 145 المراد بياسين. 146 جعل الأغلال في عنق أهل النار. 147 لا فائدة في إنذار هؤلاء المشركين. 148 من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده. 149 ضرب المثل بأهل أنطاكية. 150 من رسل الله الذين أرسلوا إلى أهل أنطاكية؟ 151 مقالة أهل القرية للرسل. 152 ما ردّ به الرسل عليهم. 153 الحق لا يعدم نصيرا. 154 مآل أمر ذلك الواعظ.

تتمة سورة يس

الجزء الثالث والعشرون [تتمة سورة يس] تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثالث والعشرون

[سورة يس (36) : الآيات 28 إلى 32]

الجزء الثالث والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يس (36) : الآيات 28 الى 32] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) تفسير المفردات الجند: العسكر، والمراد بهم الجند من الملائكة، والخمود: انطفاء النار والمقصود به الموت، والحسرة على ما قال الراغب: الغم على مافات، والندم عليه كأن المتحسر انحسرت عنه قواه من فرط الإعياء، وإن: بمعنى ما، ولما: بمعنى إلا، محضرون: أي للحساب والجزاء.

المعنى الجملي

المعنى الجملي تقدم أن قلنا غير مرة: إن تقسيم الكتاب الكريم إلى الأجزاء الثلاثين لوحظ فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي، إذ كثيرا ما تكون بداءة الجزء في أثناء القصّة الواحدة كما هنا، فإنه بعد أن بين حال الناصح الشهيد ودخوله الجنة- أردف ذلك ذكر حال المتخلفين المخالفين له، ثم ذكر سنة الله في أمثالهم في العذاب الدنيوي ثم هم يردّون إلى ربهم فيعذبهم في الآخرة. الإيضاح (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتلوه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم- من بعد مهلكه جندا من الملائكة، بل كان الأمر أيسر من ذلك. وإجمال المعنى: إنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضبا منه تبارك وتعالى، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليّه، وما كاثرهم سبحانه بالجنود وإنزال الملائكة، بل كان أمرهم أهون من ذلك، إذ ليس من سنته أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير من السماء. ثم بين ما كان من هلاكهم بقوله: (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة فإذا هم أموات لاحراك بهم، قد ذهبت منهم حرارة الحياة كما تذهب حرارة النار حين الخمود. وفي هذا إيماء إلى أن الحىّ كشعلة النار، والميت كالرماد، وإلى هذا يشير لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

ويقول أبو العلاء: وكالنار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان ولم يذكر لنا الكتاب الكريم، كيف كانت الصيحة، ولا كيف نزل بهم العذاب، وتفصيل ذلك لا يعنينا، فالعبرة تحصل بدون بيانه، إذ المراد انتقام الله وعذابه لمن كذب أولياءه، على أي نحو كان ذلك العذاب. وفي هذا ما لا يخفى من تهوين أمرهم، وتحقير شأنهم، وتفخيم شأن رسل الله. (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) المراد بالعباد هنا مكذّبو الرسل، أي يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب على تكذيبهم رسل الله ومخالفة أوامره. ثم بين سبب الحسرة والندامة فقال: (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ما جاءهم رسول إلا استهزءوا به وكذبوه، وجحدوا ما أرسل به من الحق. والخلاصة: إن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين، جديرون أن يتحسروا على أنفسهم، إذ فوّتوا عليها السعادة الأبدية، وعرّضوها لعذاب مقيم، وكأنه قيل: يا حسرة احضرى، فهذه شدة لا سبيل للخلاص منها. ولما بين حال الأولين نبه الحاضرين فقال: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ؟) أي ألم يعتبروا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا كما يعتقد الدّهريّة، جهلا منهم بأنهم يعودون إليها كما كانوا. وبعد أن ذكر أنه أهلكهم وبين طريق ذلك، أعقب هذا بأن لهم حسابا وعقابا فقال: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي وإن جميع الأمم ماضيها وحاضرها

[سورة يس (36) : الآيات 33 إلى 36]

وآتيها ستحضر يوم القيامة بين يدى الله فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة له، وما أحسن قوله: ولو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حىّ ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شىّ ونحو الآية قوله: «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ» . والخلاصة- إن الناس يجمعون للحساب والجزاء ويوفى كل عامل جزاء عمله من خير أو شر. [سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن العباد كلهم محضرون إليه يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قدموا من عمل- أردف ذلك ما يدل على أن البعث ممكن وليس بمستحيل، وآية ذلك أن الأرض الميتة إذا نزل عليها المطر تحيا وتنبت من كل زوج بهيج، ثم ذكر أنه كان يجب عليهم شكران هذه النعم بعبادة خالقها وترك عبادة غيره مما لا يجديهم نفعا، ولا يدفع عنهم ضرا.

الإيضاح

الإيضاح (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي ومن الأدلة على قدرتنا على البعث إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها بإنزالنا الماء عليها، فتهتز وتربو وتنبت نباتا مختلفا ألوانه وأشكاله، وتخرج حبا هو قوت لكم ولأنعامكم، وبه قوام حياتكم. (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي وأنشأنا في هذه الأرض التي أحييناها بساتين من نخيل وأعناب، وجعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة تنتشر فيها، ليأكلوا من ثمر الجنات ومما عملت أيديهم مما غرسوا وزرعوا. ثم لما عدد النعم طلب منهم الشكر فقال: (أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) أي أفلا يشكرون خالق هذه النعم على ما تفضل به عليهم من نعم لا تعدّ ولا تحصى. ولما أمرهم سبحانه، بالشكر وشكره تعالى بعبادته وقد تركوها وعبدوا غيره وأشركوا به سواه قال: (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي تنزيها لمن خلق هذه الأنواع كلها من الزرع والثمار ومختلف النبات، وخلق من أولادهم ذكورا وإناثا، وخلق مما لا يعلمون من الأشياء التي لم يطلعهم عليها، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفتها تفصيلا، بل علمهم ذلك بطريق الإجمال بنحو قوله: «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» ليستدلوا بذلك على عظمة الخالق وسعة ملكه وجلالة قدره. والخلاصة- تنزه ربنا خالق هذا الخلق العظيم من نبات وحيوان وإنسان، وخالق ما لا نعلم مما لا ندرك كنهه ولا نعلم حقيقته وفيه الدليل على عظيم قدرته وواسع ملكه- عن كل نقص لا يليق بجليل عظمته.

[سورة يس (36) : الآيات 37 إلى 40]

[سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40] وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) تفسير المفردات أصل السلخ: كشط الجلد عن الشاة ونحوها واستعمل هنا في كشف الضوء من مكان الليل وموضع الفاء ظله، مظلمون: أي داخلون في الظلام، لمستقر لها: أي حول مستقر لها وهو مركز مدارها، وقدرناه: أي صيرنا مسيره في منازل، والمنازل واحدها منزل: وهو المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة، عاد: أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس كالعرجون في رأى العين، والعرجون: هو العود الذي عليه الشماريخ، فإذا أتى عليه الحول تقوس ودقّ واصفرّ. قال أعشى بنى قيس: شرق المسك والعبير بها ... فهى صفراء كعرجون القمر ينبغى لها: أي لا يتيسر لها، أن تدرك القمر: أي تجتمع معه في وقت واحد فتداخله وتطمس نوره، لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه سيأتى ذكرها بعد، والفلك: مجرى الكواكب، سمى بذلك لاستدارته، والسباحة: الجري في الماء للسمك ونحوه، ثم استعمل في سير الكوكب في الفضاء في مداره الخاص.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن استدل على إمكان البعث والنشور بأحوال الأرض وما يطرأ عليها من تغير مما هو دليل القدرة الشاملة- أردف ذلك ذكر أحوال الأزمنة من اختلاف الليل والنهار وجريان الشمس والقمر والأجرام السماوية، وهى مخلوقات عظيمة واقعة تحت قبضته، يتصرف فيها بعظيم سلطانه. الإيضاح (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي ومن آيات قدرته الدالة على إمكان البعث والحشر والنشر، وعلى قدرته على فعل كل ما يشاء: الليل ينزع عنه النهار، فتأتى الظلمة، ويذهب النهار، فإذا الخلق قد صاروا في ظلمة بمجىء الليل الذي كان الضياء ساترا له. وفي الضياء سرور ولذة وراحة للنفس، وسعى على الرزق، وفي زواله وحشة وانقباض تشعر بألمه النفوس كما أن فيه تركا للعمل الذي به قوام الحياة، ومن ثم جعل الآية ظهور الليل ولم يجعلها مجىء النهار، والآية تحصل بكل منهما. والخلاصة- إن تعاقب الليل والنهار على ظهر البسيطة من أكبر الأدلة على قدرة المولى سبحانه، وفيه عبرة لمن يعى ويفهم، وإن البعث والنشور من أيسر الأمور عليه سبحانه. (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي والشمس تجرى حول مركز مدارها الثابت الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمى، فقد ثبت أن لها حركة رحويّة حول هذا المركز تقدّر بمائتي ميل في الثانية، وهذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده، القابض على زمام مخلوقاته، العليم بأحوالها الذي لا تخفى عليه خافية من أمرها.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أي وجعلنا لسير القمر منازل، وهى ثمانية وعشرون منزلا ينزل في كل واحد منها كل ليلة ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر، فإذا كان فى آخر منازله دقّ وتقوس، وهذا ما يشير إليه قوله: (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي يسير في منازله إلى آخرها حتى يدقّ ويتقوس ويصفرّ ويكون كالعود الذي عليه الشماريخ إذا أتى عليه الحول. (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر في سرعة سيره، لأن الشمس تجرى مقدار درجة في اليوم، والقمر يسير مقدار 13 درجة في اليوم، ولأن لكل منهما مدارا خاصا لا يجتمع مع الآخر فيه. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا تسبق آية الليل وهى القمر، آية النهار وهى الشمس فيحل سلطانه محلها، إذ أنهما يجريان بحساب منتظم لا يتغير ولا يتبدل. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي وكل من: الأرض والشمس والقمر يسبح فى فلكه كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تجرى في مدارها، والأرض تجرى حول الشمس في سنة وحول نفسها في يوم وليلة، والقمر يجرى حول الأرض كل شهر. وعلماء الفلك قديما جعلوا الكواكب مركوزة في الأفلاك على ما نراه في كتبهم فليس للكوكب أن يسبح من تلقاء نفسه، بل لا بد له من حامل يحمله وهو الذي يدور به، وكيف يسبح ما لا حرية له ولا قدرة له على السير بل هو محمول على غيره؟ هكذا كان الرأى عندهم، ولكن رأى علماء الفلك المحدثين: أن جميع الكواكب تسير في مدارات في عالم الأثير، فهى إذا كأنها سمك في بحر لجىّ. فاعجب أيها القارئ الكريم للقرآن كيف أثبت مادل على صحته الكشف

الآية الأولى

الحديث، ودحض تلك الآراء التي كانت شائعة عصر التنزيل لدى علماء الفلك من اليونان والهند والصين. وقد طلبت إلى الأستاذ عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الفلكي المصري بحلوان أن يدلى إلىّ بما أثبته علماء الفلك حديثا في النظريات التي تضمنتها الآيات، فكتب إلىّ مايلى: الآية الأولى من آيات الله وبديع صنعه تعاقب الليل والنهار دائبين. وقد جاء ذكر ذلك مرارا في القرآن الكريم، لما لهذه الظاهرة الفلكية من الأهمية العظمى في حياة الجنس البشرى وكافة الأحياء التي على ظهر البسيطة، فهى من الأمور الجديرة بالتفكير للاستدلال بها على عظمة الخالق جل شأنه فالليل يسلخ من النهار والنهار يسلخ من الليل، نتيجة لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق، فتشرق الشمس على بعض الآفاق، وتغيب عن البعض الآخر بانتظام تام بديع. الآية الثانية وزيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم الناشئ عن دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة- ثبت لدى العلماء أخيرا أن للشمس حركتين أخريين حقيقيتين: إحداهما: حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوما تقريبا وتدل عليها أرصاد كلف الشمس وهى نقط سوداء تظهر على سطحها بين حين وآخر، وتتغير مواقعها بالنسبة إلى السطح، وتقطع المسافة بين حافتى القرص في زمن قدره 13 يوما. ثانيتهما: دوران الشمس (ومن حولها توابعها الكواكب السيارة وأقمارها) حول مركز النظام النجومى بسرعة تقدر بنحو مائتى ميل في الثانية، فالشمس

الآية الثالثة

واحدة من ملايين النجوم التي تكوّن النظام النجومى، والذي ثبت أنه يدور حول مركزه، ونظرا لأن الشمس لا تقع عند مركزه فإن لها حركة دورانية. والذي يفهمه الفلكي أو الرياضي من المستقر لجسم متحرك حركة دورانية، أنه المحور الثابت الذي تكون الحركة حوله، أو مركز المدار الدائرى لهذه الحركة، ففى الحالة الأولى يكون المستقر هو الخط الواصل بين قطبى الشمس، وفي الحالة الثانية: يكون هو مركز النظام النجومى بأسره الذي تدور حوله الشمس وكافة النجوم الأخرى. وإذا علمنا أن هاتين الحركتين الحقيقيتين للشمس لم تثبتا بالبرهان العلمي والأرصاد الفلكية إلا حديثا أدركنا ما في هذه الآية الكريمة من إعجاز عظيم. الآية الثالثة قسم الفلكيون القدماء النجوم التي تقع حول مدار القمر ثمانيا وعشرين مجموعة تسمى منازل القمر، وقد جاء ذكرها هنا وفي آيات أخرى كقوله تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» . ولما كانت الشمس تنتقل باستمرار وسط النجوم، فتحجب عن الرؤية كل النجوم ومجموعات النجوم التي تكون موجودة فوق الأفق نهارا، نجد أن ما يكون موجودا من منازل القمر فوق الأفق ليلا يتغير تدريجا من ليلة إلى أخرى، ومن شهر إلى آخر، وهكذا نجد في معرفة مواقع القمر بالنسبة لهذه المنازل وسيلة لحساب الأوقات. وقد كان العرب يعرفون بها الأنواء ويقيسون بالنسبة إليها مواقع الكواكب السيارة والشمس، وأسماؤها هى: الشّرطان، البطين، الثريا، الدّبران، الهقعة،

الآية الرابعة

الهنعة، الذراع المبسوطة، النّثرة، الطرف، جبهة الأسد، الزّبرة، الصّرفة العوّا، السّماك الأعزل، الغفر، الزّبانا، الإكليل، قلب العقرب، الشّولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرع المقدم، الفرع المؤخر، الرّشاء أو بطن الحوت. وبعد أن يتم القمر دورته في مداره متنقلا بين منازله هذه يعود كما بدأ هلالا صغيرا مقوسا في بادئ الشهر، ويرى في ضوء الشفق بعد مغيب الشمس، ويكون لونه مصفرا كعرجون النخل، لأن مركبات ضوئه الأخرى تشتت في الطبقة الهوائية قبل وصولها إلى عين الراصد، كما نرى لون الشمس مصفرا حين الشروق، أو حين الغروب. الآية الرابعة المقصود هنا أن الله سبحانه بديع السموات والأرض جعل لكل من الشمس والقمر مدارا مستقلا يسبح فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حين ما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر. فالشمس كما ذكرنا تدور حول الأرض في حركة ظاهرية تنشأ عن دوران الأرض حولها، وهى تشبه ما يبدو للمسافر في القطار من حركة الأشجار وأعمدة التلغراف والقرى دون أن يحس بحركته المكتسبة من وجوده في القطار. وهكذا تتحرك الشمس وسط النجوم في مدار واسع نسبيا، نصف قطره 93 مليون ميل وتتم دورة كاملة في زمن مقداره سنة، ويدل على هذه الحركة تنقلها وسط البروج بمعدّل برج في كل شهر أو درجة واحدة تقريبا في كل يوم. أما القمر فمداره حول الأرض أصغر نسبيا، ويقدر طول نصف قطر مداره بحوالى 24 ألف ميل يقطعه في شهر، أي بمعدل منزل في كل يوم أو 13 درجة

[سورة يس (36) : الآيات 41 إلى 44]

فى اليوم، وحركته حول الأرض حركة حقيقية، ويمكن ملاحظتها بسهولة من مراقبة موقعه بين النجوم ليلة بعد أخرى. وفضلا عن ذلك فالمداران السالفا الذكر ليسا في مستوى واحد، بل يميل أحدهما على الآخر، ولولا ذلك لتكرر كل من الكسوف والخسوف مرة في كل شهر، وهكذا يتبين كيف إن لكل من: الشمس والقمر فلكا أو مدارا مستقلا يسبح فيه اهـ. [سورة يس (36) : الآيات 41 الى 44] وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) تفسير المفردات الذرية: أصلها صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، ويقع على الواحد والجمع وهى من ذرأ الله الخلق فتركت همزته نحو بريّة، الفلك: السفينة، المشحون: المملوء، ما يركبون: هى الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل، فلا صريخ: أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه على سبيل المنة على عباده أنه أحيا الأرض وهى مكان الحيوان- أردف ذلك ذكر نعمة أخرى على الإنسان، وهى أنه جعل له طريقا يتخذه في البحر ويسير فيه كما يسير في البر جلبا لأرزاقه وتحصيلا لأقواته من أقاصى البلاد فى أنحاء المعمورة.

الإيضاح

الإيضاح (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي ومن آيات قدرته الدالة على رحمته بعباده أن جعل أولادهم يركبون السفن الموقرة بسائر السلع التي ينقلونها من بلد إلى آخر ليستفيدوا مما تحمله من الأقوات وسائر حاجهم المعيشية، ولولا ذلك لما بقي للآدمى نسل ولا عقب من بعده. ونحو الآية قوله: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» . (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) أي وخلقنا من مثل تلك السفن البحرية سفنا برية، وهى الإبل التي تسير في الصحارى كما قال شاعرهم: سفائن برّ والسراب بحارها ونحوها قطر السكك الحديدية والسفن الهوائية من مطاود وطائرات تسير في الجوّ حاملة للناس السلع المختلفة والذخائر الحربية، ومن جرّاء هذا لم يعين الكتاب الكريم ما يركبون لما سيظهر في عالم الوجود مما هو مخبّأ في صحيفة الغيب، وهذا من إعجاز الكتاب الكريم. ونحو الآية: «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» . ثم ذكر لطفه بعباده حين ركوبهم تلك السفن فقال: (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي وإن نشأ إغراقهم في الماء مع ما حملته السفن والزوارق فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق وينجيهم من الموت، ولكن رحمة منّا بهم وتمتيعا لهم إلى حين بلذات الحياة الدنيا أبقيناهم وحفظناهم من الغرق، وإلى هذا أشار بقوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) .

[سورة يس (36) : الآيات 45 إلى 47]

[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 47] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) المعنى الجملي بعد أن ذكر أنهم أعرضوا عن النظر في الآيات التي يشاهدونها في الآفاق- أردف هذا ذكر إعراضهم عن الآيات المنزلة من عند ربهم مما فيه تحذيرهم بأن يحلّ بهم من المثلات مثل ما حل بمن قبلهم، ثم أعقبه بذمهم على ترك الشفقة على خلق الله، إذ قيل لهم أنفقوا فلم يفعلوا. الإيضاح (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بما نزّل الله من الآيات: احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله ومثلاته التي حلّت بمن قبلكم من الأمم، وخافوا أن يحل بكم مثلها من جراء شرككم وتكذيبكم لرسوله- وما خلفكم أي وما بعد هلاككم مما أنتم قادمون عليه إن متم على كفركم الذي أنتم عليه، لعل ربكم يرحمكم ويغفر لكم ما اجترحتم من السيئات- أعرضوا نأوا ونكصوا على أعقابهم مستكبرين. ثم بين أن الإعراض ديدنهم، وليس ببدع منهم فقال: (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وما تجىء هؤلاء المشركين حجة من حجج الله الدالة على توحيده وتصديق رسوله إلا بادروا

بتكذيبها وأعرضوا عنها وتركوا النظر الصحيح المؤدى إلى الإيمان به، ومعرفة صدق رسوله. والخلاصة- إنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله. وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق بين قسوتهم على المخلوقين فقال: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) أي وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين قالوا لمن طلب منهم ذلك: لو شاء الله لأغناهم وأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم. وفي قوله: مما رزقكم الله، ترغيب في الإنفاق على نهج قوله: «وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» وتنبيه إلى عظيم جرمهم في ترك الامتثال للأمر، وذم لهم على ترك الشفقة على عباد الله. وإجمال ذلك- إنهم لم يعظّموا الخالق ولم يشفقوا على المخلوق. ثم ذكر أنهم على شحهم وبخلهم عابوا الآمر على الإنفاق ووصفوه بالضلال البين الذي لا شبهة فيه فقال: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ما أنتم أيها القوم في قيلكم لنا أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم- إلا في جور بيّن وبعد عن سبيل الرشاد لمن تأمل وتدبر. وهذا معذرة البخلاء في كل عصر ومصر، إذ تراهم دائما يقولون: لا نعطى من حرمه الله، وتلك فرية منهم، لأن الله أغنى بعض الخلق، وأفقر بعضا، ابتلاء منه لعباده، ولأسباب نحن لا نعلمها لا بخلا منه وشحا، وأمره الأغنياء بالإنفاق على الفقراء ليس لحاجة منه إلى ما لهم، بل ليبلوهم ويرى أيمتثلون الأمر ويؤدون الواجب، أم ينكصون على أعقابهم ويولون مدبرين؟.

[سورة يس (36) : الآيات 48 إلى 54]

ولا ينبغى لأحد أن يعترض على مشيئة ربه، لأنه يجهل أسباب ما يشاهد ويرى في الكون. [سورة يس (36) : الآيات 48 الى 54] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) تفسير المفردات متى هذا الوعد: أي متى يتحقق ويجىء ما وعدنا به؟ ينظرون: أي ينتظرون، صيحة واحدة: هى النفخة الأولى في الصور بها يموت أهل الأرض جميعا، ونفخ فى الصور: أي النفخة الثانية، والأجداث: واحدها جدث (بفتحتين) القبر، ينسلون: أي يسرعون، والويل: الهلاك، من مرقدنا: أي موتنا، محضرون: أي للحساب والجزاء. المعنى الجملي بعد أن أمرهم بتقوى الله وخوّفهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات- أعقب هذا بذكر إنكارهم ليوم البعث، واستعجالهم له، استهزاء به وسخرية منه،

الإيضاح

ثم أتبعه ببيان أنه حق لا شك فيه وأنه سيأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون، وإذ ذاك يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي ثم ينادون بالويل والثبور، وعظائم الأمور، حين يرون العذاب ويقولون: من أخرجنا من قبورنا؟ فيجابون بأن ربكم هو الذي قدّر هذا ووعدكم به على ألسنة رسله وسيوفى كل عامل جزاء عمله. الإيضاح (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء وإنكارا، متى يحصل هذا البعث الذي تهددوننا به تارة تصريحا وأخرى تلويحا؟ إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون. والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين من قبل أنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه، الآمرة بالإيمان به. فأجابهم ربهم: (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي ما ينتظرون بحلول العذاب إلا نفخة واحدة في الصور، بها يموت أهل الأرض جميعا تأخذهم بغتة وهم يتنازعون في أمور معايشهم لا يخطر ببالهم مجيئها. ونحو الآية قوله: «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . روى ابن جرير عن ابن عمر قال: «لينفخنّ في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور فيصعق به وهى التي قال الله (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) » . وأخرج الشيخان عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ

الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقى منه، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها» . ثم بين سرعة حدوثها وأنها كلمح البصر أو هى أقرب فقال: (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي فلا يستطيعون أن يوصوا فى أموالهم أحدا، إذ لا يمهلون بذلك، ولا يستطيع من كان منهم خارجا من أهله أن يرجع إليهم، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى ربهم. ثم بين أنهم بعد أن يموتوا ينفخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث من القبور فقال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور، والخروج من القبور، فإذا هم جميعا يسرعون للقاء ربهم للحساب والجزاء. ونحو الآية قوله: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» . ثم ذكر أنهم يعجبون حين يرون أنفسهم قد خرجوا من قبورهم للبعث، كما حكى عنهم بقوله: (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟) أي قالوا يا قومنا انظروا هلاكنا وتعجبوا منه، من بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ حينئذ يجيبهم المؤمنون فيقولون لهم: (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي هذا الذي ترون ما وعد به الرّحمن وصدق في الإخبار به المرسلون الذين أتونا بوعد الله ووعيده. وهم قد سألوا عن الفاعل للبعث وأجيبوا بالفعل تذكيرا لهم بكفرهم وتقريعا عليه مع تضمن ذلك الإشارة إلى الفاعل. ثم بين سرعة بعثهم من القبور فقال: (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي ما كانت

[سورة يس (36) : الآيات 55 إلى 58]

إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا نفخة واحدة فإذا هم مجتمعون لدينا قد أحضروا للعرض والحساب لم يتخلف منهم أحد. ونحو الآية قوله: «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله: «وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ» . ثم بين ما يكون في ذلك اليوم من الحساب بالعدل والقسطاس فقال: (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ففى هذا اليوم يوم القيامة لا تبخس نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، ولا يحمل عليها وزر غيرها، بل توفى كل نفس أجر ما عملت من صالح، ولا تعاقب إلا بما اكتسبت من طالح، جزاء وفاقا لما عملت في الدنيا. [سورة يس (36) : الآيات 55 الى 58] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) تفسير المفردات الشغل: الشأن الذي يصدّ المرء ويشغله عما سواه من شئونه وأحواله لأهميته لديه، إما لأنه يحصّل مسرة كاملة أو مساءة عظيمة، الفاكه: الطيب النفس الضحوك قاله أبو زيد، والظلال: واحدها ظل وهو ضد الضّح (ما تصيبه الشمس) والأرائك: واحدها أريكة وهى سرير منجّد مزيّن في قبة أو في بيت، يدّعون: أي يطلبون. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن ذلك اليوم كائن لا محالة، وأنه سيأتى بغتة من حيث يشعر به أحد، فما هو إلا صيحة واحدة فإذا الناس خارجون من قبورهم ينسلون-

الإيضاح

أردف ذلك بيان ما أعده للمحسن والمسيء في هذا اليوم من ثواب وعقاب، ليكون فى ذلك ترغيب في صالح الأعمال، وترهيب من فعل الفجور واجتراح السيئات. الإيضاح (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي إن من يدخل الجنة يتمتع بنعيمها ولذاتها، ويكون بذلك في شغل عما سواه، إذ يرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فأنى له أن يفكر فيما سواه؟ وهو بذلك فرح مستبشر ضحوك السن هادىء النفس، لا يرى شيئا يغمه أو ينغّص عليه حبوره وسروره. ثم ذكر ما يكمل به تفكههم ويزيد في سرورهم فقال: (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) أي هم وأزواجهم في ظل لا يضحون لشمس، لأنه لا شمس فيها (وألذ شىء لدى العربي أن يرى مكانا فيه ظل ظليل، وأنهار جارية، وأشجار مورقة) وهم فيها متكئون على السرر عليها الحجال (الناموسيات) وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من لذة لدى من نزل عليهم التنزيل. وبعد أن ذكر ما لهم فيها من مجالس الأنس- ذكر ما يتمتعون به من مآكل ومشارب، ولذات جسمانية وروحية فقال: (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي لهم فيها من الفواكه مالذ وطاب، مما تقرّ به أعينهم، وتسرّ به نفوسهم، كما هو شأن المترفين المنعمين في الدنيا، ولهم فوق ذلك كل ما يتمنون وتشتاق إليه نفوسهم، قال أبو عبيدة: العرب تقول: ادّع علىّ ما شئت أي تمن علىّ وتقول فلان في خير ما ادّعى أي في خير ما تمنى. ثم فسر الذي يدّعون بقوله: (سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي ذلك الذي يتمنونه هو التسليم من الله عليهم

[سورة يس (36) : الآيات 59 إلى 68]

تعظيما لهم، وهذا السلام يكون بوساطة الملائكة كما قال سبحانه: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ» . والسلام أمان من كل مكروه، ونيل لكل محبوب، وذلك منتهى درجات النعيم الروحي والجسماني الذي تصبو إليه النفوس في دنياها وآخرتها، فكأن هذا إجمال. لما تقدم من اللذات التي فصلت فيما سلف. [سورة يس (36) : الآيات 59 الى 68] وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) تفسير المفردات امتازوا: أي انفردوا وابتعدوا عن المؤمنين، والعهد: الوصية وعرض ما فيه خير ومنفعة، وعبادة الشيطان: يراد بها عبادة غير الله من الآلهة الباطلة، وأضيفت إلى

المعنى الجملي

الشيطان لأنه الآمر بها والمزيّن لها، والجبلّ: الجماعة العظيمة، اصلوها: أي قاسوا حرها، والختم على الأفواه: يراد به المنع من الكلام، والطمس: إزالة الأثر بالمحو، فاستبقوا الصراط: أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم، فأنى يبصرون: أي فكيف يبصرون الحق، ويهتدون إليه؟ والمسخ تحويل الصورة إلى صورة أخرى قبيحة، على مكانتهم: أي في أماكنهم حيث يجترحون القبائح، ونعمره: أي نطل عمره، ننكسه في الخلق: أي نقلبه فيه فلا يزال ضعفه يتزايد، وانتقاص بنيته يكثر، بعكس ما كان عليه في بدء أمره حتى يردّ إلى أرذل العمر. المعنى الجملي بعد أن ذكر ما للمحسنين من نعيم واجتماع بالمحبين والإخوان والأزواج في الجنات- أعقبه بذكر حال المجرمين وأنهم في ذلك اليوم يطلب منهم التفرق وابتعاد بعضهم من بعض، فيكون لهم عذابان: عذاب النار وعذاب الوحدة، ولا عذاب فوق هذا، ثم أردف هذا أنه قد كان لهم مندوحة من كل هذا بما أرسل إليهم من الرسل الذين بلغوهم أوامر ربهم ونواهيه، ومنها نهيهم عن اتباع خطوات الشيطان وعن اتباعه فيما يوسوس به، ثم ذكر أنه كان لهم فيمن قبلهم من العظات ما فيه مزدجر لهم لو تذكروا، لكنهم اتبعوا وساوسه، فحل بهم من النكال والوبال ما رأوا آثاره بأعينهم في الدنيا، وفيه دليل على ما سيكون لهم في العقبى، ثم ذكر مآل أمرهم وأنهم سيصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بما اكتسبت أيديهم، وهم في هذا اليوم لا ينطقون ببنت شفة، ولا تقبل منهم معذرة، بل تتكلم أيديهم بما عملت، وتشهد أرجلهم بما اكتسبت، ثم ذكر أنه رحمة منه بعباده لم يشأ أن يعاقبهم في الدنيا بشديد العقوبات، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم حتى لو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه ما قدروا ولا أبصروا، ولم يشأ أن يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير حتى لو أرادوا الذهاب إلى مقاصدهم ما استطاعوا، ولو أرادوا الرجوع ما قدروا، ثم دفع معذرة أخرى ربما

الإيضاح

احتجوا بها وهى أن ما عمّروه قليل، ولو طال عمرهم لأحسنوا العمل، واهتدوا إلى الحق فرد ذلك عليهم بأنهم كلما عمّروا في السن ضعفوا عن العمل وقد عمّروا مقدار ما يتمكنون به من البحث والإدراك كما قال: «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» ولكن ذلك ما كفاهم، فهم مهما طالت أغمارهم لا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا. الإيضاح (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار، فلم يبق لكم اجتماع بالمؤمنين أبدا، ونحو الآية قوله: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ» وقوله: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» وقوله: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ» . ولما أمروا بالامتياز وشخصت منهم الأبصار وكلحت الوجوه وتنكست الرءوس قال سبحانه موبخالهم: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي ألم أوصكم بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب بيانا للطريق الموصل إلى النجاة- أن تتركوا طاعة الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتى ومخالفة أمرى. ثم علل النهى عن عبادته بقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه ظاهر العداوة لكم من جراء عداوته لأبيكم آدم من قبل، ولأنه يوبقكم في مهاوى الردى، ويوقعكم في مزالق الهلاك. ولما منع من عبادة الشيطان أمر بعبادته سبحانه فقال:

(وَأَنِ اعْبُدُونِي) وحدي، وأطيعونى فيما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه. ثم بين أن ما أمر به ونهى عنه طريق معبّد واضح لا لبس فيه ولا خفاء فقال: (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي نهيتكم عنه من عبادة الشيطان، وأمرتكم به من عبادة الرّحمن، هو الصراط المستقيم، لكنكم سلكتم غيره فوقعتم في مزالق الضلال وتردّيتم في مهاوى الردى. وبعد أن نبههم إلى أنهم نقصوا العهد وبخهم على عدم اتعاظهم بغيرهم ممن أوقعهم الشيطان في المهالك، وكانت عاقبتهم ما يرون من سوء المنقلب في الدنيا والآخرة فقال: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي ولقد صد الشيطان منكم خلقا كثيرا عن طاعتى وإفرادى بالألوهية فاتخذوا من دونى آلهة يعبدونها. ثم زاد في توبيخهم والإنكار عليهم فقال: (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟) أي فلم يكن لكم عقل فترتدعوا عن مثل ما كانوا عليه كى لا يحيق بكم من العذاب مثل ما حاق بهم. وبعد أن أنّبوا ووبّخوا بما سلف خوطبوا بما يزيدهم حسرة وألما فقيل لهم: (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي هذه هى جهنم التي كنتم توعدون بها على ألسنة الرسل والمبلّغين عنهم إذا أنتم اتبعتم وساوس الشيطان، وعصيتم الرّحمن، وعبدتم من دونه الأصنام والأوثان، واجترحتم الفسوق والعصيان. ثم أمرهم أمر إهانة وتحقير لهم بقوله: (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي احترقوا بها اليوم، وقاسوا حرها الشديد بسبب جحودكم بها في الدنيا، وتكذيبكم إياها، بعد أن نبهتم فلم تنتبهوا، وأوقظتم فلم تستيقظوا. وخلاصة ذلك- إنه قد ذكر ما يوجب الحزن والأسى من وجوه ثلاثة:

(1) إنه أمرهم أمر تنكيل وإهانة نحو قوله لفرعون: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» . (2) إنه ذكر لفظ (الْيَوْمَ) الذي يدل على أن العذاب حاضر وأن لذاتهم قد مضت وبقي العذاب اليوم. (3) إن قوله بما كنتم تكفرون يومئ إلى أن هناك نعمة قد كانت فكفروا بها، وحياء الكفور من المنعم أشد ألما وأعظم مضاضة كما قيل: أليس بكاف لذى همة ... حياء المسيء من المحسن ثم بين أنهم في هذا اليوم لا يستطيعون دفاعا عن أنفسهم وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم فقال: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ففى هذا اليوم ينكر الكافرون ما اجترحوا في الدنيا من الشرور والآثام، ويحلفون أنهم ما فعلوا كما حكى الله عنهم من قولهم: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» فيختم على أفواههم فلا تنطق ببنت شفة، ويستنطق جوارحهم بما اجترمت من الفسوق والعصيان الذي لم يتوبوا عنه. ونسب الكلام إلى الأيدى والشهادة إلى الأرجل، من قبل أن الأولى لها مزيد اختصاص بمباشرة الأعمال، ومن ثم كثر نسبة العمل إليها في نحو قوله: َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» وقوله: «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» وقوله: «بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» ولا كذلك الثانية فكانت الشهادة بها أنسب، إذ هى كالأجنبية منها. وجاء في الخبر: «يقول العبد يوم القيامة إنى لا أجد علىّ شاهدا إلا من نفسى، فيختم الله على فيه ويقول لأركانه: انطقى، فتنطق بأعماله. ثم يخلّى بينها وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل» .

وإذا كان المرء في دار الدنيا المملوءة أكاذيب ونفاقا يخجل فيحمرّ وجهه، ويوجل فيصفرّ وجهه ويتخذ القضاة من ذلك أدلة على إدانة المتهم. كما نقصّ آثار أقدام اللصوص والجناة ونتبعهم في السهل والجبل حتى إذا عثرنا عليهم قدمناهم للقضاء بشهادة هذه الآثار التي لا اشتباه فيها، كذلك نختم بأصابغ المجرمين على الورق (البصمة) فلا تشاكل يد يدا، مما يجعل لذلك أجلّ قيمة في خدمة العدالة. وإذا كان هذا في عالمنا الجسماني فما بالك بعالم الأرواح التي يكون فيها لكل ذنب أو عمل حسن أثر في النفوس يولد فيها الخير أو الشر، حتى إذا انفصلت الأرواح من الأجساد ظهر ما انطبع فيها من خير أو شر؟ وإلى هذا يشير قوله تعالى ذاكرا حال الحساب يوم القيامة: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» فالنفس إذا هى الكتاب الذي لا غش فيه ولا كذب، فإذا صمت اللسان نطقت الجوارح كما ننطق آثارها اليوم، أي تدل على المراد أفصح دلالة، وترشد إلى المقصود أيما إرشاد، وهذا هو الذي ينبغى أن يفهم في الآية الكريمة. ثم بين سبحانه أنه قادر على إذهاب الأبصار، كما هو قادر على إذهاب البصائر فقال: (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي ولو نشاء لعاقبناهم على كفرهم، فطمسنا على أعينهم، فصيرناهم عميا لا يبصرون طريقا، ولا يهتدون إلى شىء. وإجمال المراد: لو شئنا لأذهبنا أحداقهم، فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لم يستطيعوا ذلك. ثم زاد في تهديدهم وتوبيخهم وبيان أنه قادر على منعهم من الحركة فقال: (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي ولو أردنا لحوّلناهم عن تلك الحال إلى ما هو أقبح منها، فجعلناهم قردة وخنازير وهم

[سورة يس (36) : الآيات 69 إلى 70]

فى مساكنهم التي يجترحون فيها السيئات، فلا يقدرون على ذهاب ولا مجىء ولا غدوّ ولا رواح. ثم شرع يقطع معذرة لهم ربما احتجوا بها وهى قولهم: إنهم لو عمّروا لأحسنوا العمل فقال: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي إنه كلما طال عمر المرء رد إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط. (أَفَلا يَعْقِلُونَ؟) أنهم كلما تقدمت بهم السن ضعفوا وعجزوا عن العمل، فلو عمّروا أكثر مما عمروا ما ازدادوا إلا ضعفا، فلا يستطيعون أن يصلحوا ما أفسدوا في شبابهم، وقد عمرناهم مقدار ما يتمكنون من البحث والتفكير، والتروّى في عواقب الأمور ومصايرها، فلم يفعلوا، وجاءتهم النذر فلم يهتدوا، فمهما طالت أعمارهم فلن يفيدهم ذلك، ولن يصلح من حالهم قليلا ولا كثيرا. [سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70] وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) تفسير المفردات وما ينبغى له: أي لا يليق به ولا يصلح له، ذكر: أي عظة من الله وإرشاد للثقلين، حيّا: أي حىّ القلب مستنير البصيرة، يحق القول: أي يجب العذاب. المعنى الجملي بعد أن ذكر أمر الوحدانية في قوله: وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، وذكر أمر البعث في قوله: اصلوها اليوم- ذكرها الأصل الثالث. وهو الرسالة في هاتين الآيتين،

الإيضاح

الإيضاح (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) الشعر: ضرب من ضروب الكلام ذو وزن خاص ينتهى كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية، وهو يسير مع العواطف والأهواء، ولا يتبع ما يمليه العقل والمنطق الصحيح ومن ثم كان مستقر الأكاذيب والمبالغات في الأهاجى والمدائح والتفاخر والتنافر، فإذا غضب الشاعر أقذع في القول، وبالغ في الذم، وضرب بالحقيقة عرض الحائط، ولا يرى في ذلك ضيرا، وإذا هو استرضى بعد قليل رفع من هجاه إلى السمّاكين، وأدخله في زمرة العظماء الشجعان، أو الكرماء الأجواد إلى نحو هذا مما تراه في شعر الهجائين المداحين حتى لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا: (أعذب الشعر أكذبه) . والقرآن الكريم آداب وأخلاق، وحكم وأحكام، وتشريع فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم، فرادى وجماعات، فحاشى أن يكون شعرا! أو أن يمت إليه بنسب. فالمراد من نفى تعليمه الشعر نفى أن يكون القرآن شعرا، لأن الله علمه القرآن وإذا لم يكن المعلّم شاعرا لم يكن القرآن شعرا البتة. وهذا رد لقولهم: إن القرآن شعر، وإن محمدا شاعر، ومقصدهم بهذا أنه افتراء وتخيلات وأباطيل، وليس وحيا من عند الله. (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي ولا يليق به الشعر ولا يصلح له، لأنه مبنى كما علمت على الركون إلى الأهواء تبعا لفائدة ترجى، أو شفاء للنفس من ضغائن الصدور، أو كبتا لسورة حقد أو حسد بحق أو باطل، والشرائع والأحكام تنزه عن مثل هذا. وما اتفق له عليه الصلاة والسلام دون قصد من نحو قوله يوم حنين وهو راكب بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحرث آخذ بزمامها: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب

فلا يسمى شعرا، لأن مثل هذا يقع في الكلام المنثور ولا يسمى قائله شاعرا. وقد صح «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أنشد: ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك ما لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر رضى الله عنه: ليس هكذا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام إنى والله ما أنا بشاعر ولا ينبغى لى» . وأخرج ابن سعد وابن أبى حاتم عن الحسن «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت هكذا: كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء. والرواية: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال أبو بكر: أشهد إنك رسول الله، ما علمك الشعر وما ينبغى لك» . والخلاصة- إن الله تعالى كما جعل رسوله أمّيّا لتكون الحجة أتم، والبرهان على المشركين أقوم، كذلك منعه قول الشعر حتى لا يكون لهم حجة أن يدّعوا عليه أن القرآن من المفتريات التي يتقولها، والأباطيل التي ينمّقها، وليس بوحي من عند ربه. وبعد أن نفى عنه أنه شعر وتخيلات أثبت أنه مواعظ ونصائح فقال: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي وما القرآن إلا مواعظ من ربنا، يرشد بها عباده إلى ما فيه نفعهم وهدايتهم في معاشهم ومعادهم، نزل من الملإ الأعلى، وليس من كلام البشر، فقد تحدى المخالفين أن يأتوا بمثله فما استطاعوا، فلجئوا إلى السيف والسنان، وتركوا المقاولة بالحجة والبرهان. ثم ذكر من ينتفع به فقال: (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي لينتفع بنذارته من كان حىّ القلب، مستنير البصيرة، يعرف مواقع الهدى والرشاد، فيسترشد بهديه، وليس له من صوارف الهوى ما يصدّه عن اتباع الحق، ولا من نوازع الاستكبار والإعراض ما يكون حائلا بينه وبين

[سورة يس (36) : الآيات 71 إلى 73]

الهدى، فهو يتواثب على الإقرار بالحق إذا لاح له بريق من نوره، فتمتلىء جوانبه إشراقا وضياء، ويخرّ له مذعنا مستسلما، وكأنّ طائفا من السماء نزل عليه فأثلج صدره وألان قلبه، فاطمأنّ له وركن إليه، وذلك من رزقه الله التوفيق والهداية وكتب له الفوز والسعادة. وبعدئذ بين عاقبة من أعرض عنه فقال: (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين به الذين هم كأنهم أموات لخلوهم من النفوس الحساسة اليقظة التي من دأبها اتباع الحق ومخالفة الهوى. [سورة يس (36) : الآيات 71 الى 73] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه الأدلة على الأصول الثلاثة: الوحدانية والحشر والرسالة- أعاد الكلام في الوحدانية وذكر بعض دلائلها. الإيضاح (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي أو لم يشاهد هؤلاء المشركون بالله الأصنام والأوثان: أنا خلقنا لهم بقدرتنا وإرادتنا بلا معين ولا ظهير- أنعاما من الإبل والبقر والغنم يصرّفونها كما شاءوا بالقهر والغلبة

[سورة يس (36) : الآيات 74 إلى 76]

فهى ذليلة منقادة لهم، فالجارية الصغيرة إن شاءت أناخت البازل الكبير، وإن شاءت ساقته وصرّفته كما تريد، قال العباس بن مرداس: وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير ثم ذكر منافعها فقال: (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي وسخرنا لهم هذه الأنعام، فمنها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار، ومنها ما ينحرون، فيأكلون لحومها وينتفعون بدهنها. (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) أي ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها، كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والحراثة وإدارة المنجنون (الساقية) ولهم منها مشارب من ألبانها ونتاجها. ثم حثهم على الشكر على هذه النعم وتوحيد صانعها فقال: (أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعمتى عليهم، وإحسانى إليهم، بطاعتي وإفرادى بالألوهية والعبادة، وترك وساوس الشيطان، بعبادة الأصنام والأوثان؟ [سورة يس (36) : الآيات 74 الى 76] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنهم كفروا بأنعم الله عليهم وأنكروها- أردف ذلك بيان أنهم زادوا في ضلالهم، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه

الإيضاح

النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال تعالى حاكيا عنهم «قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ» والحقيقة أنها لا هى ناصرة ولا منصورة. الإيضاح (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونهم، طمعا في نصرتهم، ودفع العذاب عنهم، وتقريبهم إلى الله زلفى ثم بيّن بطلان آرائهم، وخيبة رجائهم، وانعكاس تدبيرهم فقال: (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) أي لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها، فهى أضعف من ذلك وأحقر، ولا تقدر على الاستنصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل. (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهم لا يسوقون إليهم خيرا ولا يدفعون عنهم ضرا. والخلاصة- إن العابدين وهم المشركون كالجند، لحمايتهم والذبّ عنهم في الدنيا، والمعبودون يوم القيامة لا يستطيعون أن يقدّموا لهم معونة، ولا يدفعون عنهم مضرّة. ثم سلّى رسوله على ما يلقاه من قومه من الأذى بنحو قولهم: هو شاعر، وهو ساحر، وهو كاهن إلى نحو ذلك من مقالاتهم التي كانوا يجابهون بها الرسول إرادة تحقيره وإهانته فقال: (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي فلا يحزنك أيها الرسول قول هؤلاء المشركين من قومك: إنك شاعر وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك. ثم ذكر أنه سيجازيهم على ما يضمرون في نفوسهم ويتفوهون به بألسنتهم فقال: (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك

[سورة يس (36) : الآيات 77 إلى 83]

إنما هو الحسد، وأنهم يعتقدون أن الذي جئتهم به ليس بشعر ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذاب. والخلاصة- إنا نعلم ما يسرون من معرفتهم حقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحود ذلك بألسنتهم علانية، وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم بما يستحقون يوم يجدون جليل أعمالهم وحقيرها حاضرا لديهم. [سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) تفسير المفردات أولم ير: أي أولم يعلم، والخصيم: المبالغ في الجدل والخصومة إلى أقصى الغاية، وضرب لنا مثلا: أي وأورد في شأننا قصة عجيبة هى في غرابتها كالمثل إذ أنكر إحياءنا للعظام النخرة، والرميم: كالرّمّة والرفات، وبلى: كلمة جواب كنعم تأتى بعد كلام منفىّ، أمره: أي شأنه في الإيجاد، والملكوت: الملك التام كالرحموت والرهبوت والجبروت، والعرب تقول: جبروتى خير من رحموتى.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف الدلائل على عظيم قدرته، ووجوب عبادته، وبطلان إشراكهم به، بعد أن عاينوا فيما بين أيديهم ما يوجب التوحيد والإقرار بالبعث- أردف ذلك ذكر حجة من أنفسهم دالة على قدرته تعالى ومبطلة لإنكارهم له، ثم ذكر أن بعض خلقه استبعدوا البعث ونسوا بدء أمرهم وكيف خلقوا، وقالوا: كيف ترجع الحياة إلى هذه العظام النخرة؟، فأجابهم عن شبهتهم بأن الذي أنشأها أول مرة من العدم هو الذي يحييها، وهو العليم بتفاصيل أجزائها مهما وزعت وتفرّقت، ثم ذكر لهم دليلا آخر يرفع هذا الاستبعاد، وهو أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماء، قادر على إعادة الحياة إلى ما كان غضّا طريا ثم يبس وبلى، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان وفيه الدليل على قدرته، وهو خلق السموات والأرض، ثم أعقب ذلك بما هو كالنتيجة لما سلف، وفيه بطلان لإنكارهم، فأبان أن كل شىء هيّن عليه، فما هو إلا بقول (كُنْ فَيَكُونُ) تنزه ربنا ذو الملك والملكوت عن كل ما يقول المشركون، فإليه يرجع جميع الخلق للحساب والجزاء. قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة: «جاء أبىّ بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يفتّه بيده ويذروه في الهواء ويقول: أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ قال صلّى الله عليه وسلم «نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار، ونزلت هذه الآيات من سورة يس (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى آخرهن» . الإيضاح (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي أو لا يستدل من أنكر البعث بسهولة المبدإ على سهولة الإعادة، فإن من بدأ خلق الإنسان من

سلالة من ماء مهين، ثم جعله بشرا سويا يخاصم ربه فيما قال: إنى فاعل، فيقول: من يحيى العظام وهى رميم؟ إنكارا منه لقدرته على إحيائها- قادر على إعادته بعد موته وحسابه وجزائه على أعماله. ونحو الآية قوله: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ» وقوله: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ» أي من نطفة من أخلاط متفرقة. والخلاصة- إنه تعالى خلق للانسان ما خلق من النعم ليشكر، فكفر وجحد المنعم والنعم، وخلقه من نطفة قذرة مذرة ليكون متذللا، فطغى وبغى وتجبر، وخاصم ربه واستبعد البعث والإعادة. (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟) أي وذكر أمرا عجيبا ينفى به قدرتنا على إحياء الخلق، فقال: من يحيى العظام؟ ونسى خلقنا له، أفلم يكن نطفة فجعلناه خلقا سويا ناطقا؟ ولا شك أن من فعل ذلك لا يعجزه أن يعيد الأموات أحياء، والعظام الرميم بشرا كهيئتهم التي كانوا عليها قبل الفناء. وإجمال ذلك- إن بعض المشركين استبعدوا إعادة الله ذى القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض للأجساد والعظام الرميم، ونسوا أنفسهم وأنه تعالى خلقهم من العدم، فكيف هم بعد هذا يستعبدون أو يجحدون؟. ونحو الآية حكاية عن المشركين: «وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» وقوله أيضا على طريق الحكاية «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا، الْأَوَّلُونَ» . وقد أمر الله رسوله أن يجيبهم عن استبعادهم ويبكّتهم بتذكيرهم بما نسوه من حقيقة أمرهم وخلقهم من العدم فقال:

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي قل أيها الرسول لهذا المشرك القائل لك: من يحيى العظام وهى رميم؟ يحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئا وهو العليم بالعظام، وأين تفرقت في سائر أقطار الأرض؟ وأين ذهبت؟ لا يخفى عليه شىء من أمر خلقه، فهو يعيده على النمط السابق والأوضاع التي كان عليها مع قواه السالفة. وكان الفيلسوف الإسلامى الملقّب بالفارابي يقول. وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلىّ في قوله تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) الآية، إذ تفصيله: الله أنشأ العظام وأحياها أول مرة، وكل من أنشأ شيئا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيا- ونتيجة هذا- الله قادر على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيا اهـ. ولا شك أن الفارابي إنما يريد القياس الذي يفهمه اليوناني باصطلاحه المنطقي، وإلا ففى الآية قياس فهمه العربي على أسلوبه في التخاطب الذي يجرى عليه ويقتنع به، ولكل أمة أساليب في الإقناع والحجاج تسير عليها وتسلك سبيلها، وقد اقتنع الكثير من العرب بما جاء به في هذا، ومن جحد فإنما فعل ذلك عنادا واستكبارا. ثم ذكر دليلا ثانيا يرفع استبعادهم ويبطل إنكارهم فقال: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي وهو الذي بدأ خلق الشجر من ماء حتى صار أخضر ناضرا ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار، ومن فعل ذلك فهو قادر على ما يريد لا يمنعه شىء، إذ من أحدث النار في الشجر الأخضر على ما فيه من المائية المضادة للاحتراق، فهو أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّا فيبس وبلى. ثم زكى ذلك بدليل ثالث على قدرته أعجب من سابقيه فقال: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) يقول تعالى منها هذا الكافر الذي قال: من يحيى العظام وهى رميم؟

إلى خطأ قوله، وعظيم جهله، بأنّ خلق مثلكم من العظام الرميم- ليس بأعظم من خلق السموات والأرض، وإذا لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم منكم، فكيف يتعذر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمّت وبليت؟. والخلاصة- إنه تعالى نبّه إلى عظيم قدرته على خلق السموات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال وقفار وما بين ذلك، وإلى أن الذي قدر على إيجاد هذه العوالم العظيمة- قادر على إعادة الأجساد بعد البلى. ونحو الآية قوله: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» وقوله: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف من تقرير واسع قدرته، وإثبات عظيم سلطانه فقال: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إنما شأنه تعالى في إيجاد الأشياء أن يقول لما يريد إيجاده: تكوّن فيتكوّن ويحدث فورا بلا تأخير. وهذا ولا شك تمثيل لتأثير قدرته فيما يريد، بأمر المطاع لمن يطيعه في حصول الأمور به بلا توقف ولا افتقار إلى مزاولة عمل ولا استعمال آلة. وبعد أن أثبت لنفسه القدرة التامة والسلطة العامة، نزّه نفسه عما وصفوه به، وعجّب السامعين مما قالوه فقال: (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تنزه ربنا الحي القيوم الذي بيده مقاليد السموات والأرض- عن كل سوء. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه يرجع العباد يوم المعاد، فيجازى كل عامل بما عمل، وهو العادل المنعم المتفضل.

أهم مقاصد هذه السورة

ونحو الآية قوله: «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» وقوله: «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» . والله يقول الحق وهو يهدى السبيل، نسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تنير قلوبنا بالتبصر في فهم كتابك، كما أنزت به قلوب عبادك الأبرار، وأصفيائك الأطهار. أهم مقاصد هذه السورة (1) بيان أن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من عند الله حقا، وأنه نذير للأميين وغيرهم. (2) المنذرون من النبي صلّى الله عليه وسلم صنفان: صنف ميئوس من صلاحه، وآخر قد سعى لفلاحه. (3) أعمال الفريقين تحصى عليهم، فتحفظ أخبارهم، وتكتب آثارهم. (4) ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية، إذ كذبوا الناصح لهم وقتلوه فدخلوا النار ودخل الجنة بما قدم من إيمان وعمل صالح وهداية وإرشاد. (5) الدليل الطبيعي والعقلي على البعث. (6) تبيان قدرة الله ووحدانيته وعلمه ورحمته الشاملة. (7) جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم الله عليهم وسرعة أخذهم وندمهم حين معاينة العذاب. (8) الجنة ونعيمها وما أعد للمؤمنين فيها. (9) توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين. (10) قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا وطمس أعينهم. (11) الانتفاع بالأنعام في المأكل والمشرب والملبس. (12) إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق والأنفس.

سورة الصافات

سورة الصافات هى مكية بلا خلاف في ذلك. نزلت بعد سورة الأنعام. وآيها ثنتان وثمانون ومائتان، ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) إن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة التي أشير إليها إجمالا في السورة السابقة فى قوله: «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» . (2) إن فيها تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة مما أشير إليه إجمالا في السورة قبلها. (3) المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى، وعلل ذلك بأنه منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشىء كان، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك، وهو وحدانيته تعالى، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا إذا كان المريد واحدا كما يشير إلى ذلك قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» . [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) تفسير المفردات الصافات: هم جماعة الملائكة يقفون صفوفا لكل واحد منهم مرتبة معينة في الشرف والفضيلة، والزاجرات زجرا: أصل الزجر الدفع عن الشيء بتسلط وصياح ثم استعمل

الإيضاح

فى السّوق والحث على الشيء، وفي المنع والنهى والمراد بها هنا الملائكة، لأن لهم تأثيرا في قلوب بنى آدم بزجرهم عن المعاصي وإلهامهم فعل الخير، والتاليات ذكرا: هم الملائكة يجيئون بالكتب من عند الله إلى أنبيائه، والمشارق: هى مشارق الشمس بعدد أيام السنة، فهى في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب في مغرب، والمغارب كذلك متعددة تعدد المشارق، ولم يذكرها اكتفاء بتعدد المشارق. الإيضاح أقسم سبحانه بالملائكة يتمون صفوفهم في مقام العبودية، ويردعون الناس عن الشر بالإلهام، ويتلون آياته على أنبيائه- إن معبودكم الذي يجب إخلاص العبادة له، لواحد لا ثانى له ولا شريك، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالطاعة، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من الخلق، ومالك ذلك كله وقائم عليه. وإجمال ذلك- إنه أقسم بملائكته الذين كملت أرواحهم وتجردوا لعبادته، يسبحونه الليل والنهار لا يفترون، ويحضون الناس على فعل الخير، ويدفعون عنهم وسوسة الشيطان، ويتلون آياته على أنبيائه حين نزولهم بالوحى- إن ربكم لواحد وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب. [سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الدنيا: مؤنثة الأدنى أي أقرب السموات من أهل الأرض والمارد والمريد، المتعرى عن الخير من قولهم: شجر أمرد: إذا تعرى من الورق، يسمعون: أي يستمعون، والملأ: الجماعة يجتمعون على رأى، والمراد بهم هنا الملائكة، يقذفون: يرجمون، والدحور: الطرد والإبعاد، واصب: أي دائم، والخطفة: الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة، والشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والثاقب: المضيء. الإيضاح (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) أي إنا جعلنا الكواكب زينة فى السماء القريبة منكم بما لها من البهجة والجمال، وتناسب الأشكال وحسن الأوضاع، ولا سيما لدى الدارسين لنظامها، المفكرين في حسابها، إذ يرون أن السيارات منها متناسبة المسافات، بحيث يكون كل سيار بعيدا من الشمس ضعف بعد الكوكب الذي قبله. (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي وحفظنا السماء أن يتطاول لدرك جمالها، وفهم محاسن نظامها، الجهّال والشياطين المتمردون من الجن والإنس، لأنهم غافلون عن آياتنا، معرضون عن التفكر في عظمتها فالعيون مفتحة، ولكن لا تبصر الجمال ولا تفكر فيه، حتى تعتبر بما فيه. (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي إن كثيرا من أولئك الجهال والشياطين محبوسون فى هذه الأرض، غائبة أبصارهم عن الملأ الأعلى، لا يفهمون رموز هذه الحياة وعجائبها، ولا ترقى نفوسهم إلى التطلع إلى تلك العوالم العليا، والتأمل في إدراك أسرارها، والبحث في سر عظمتها. (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً) أي وقد قذفتهم شهواتهم وطردتهم من كل جانب، فهم تائهون في سكراتهم، تتخطفهم الأهواء والمطامع والعداوات والإحن،

فلا يبصرون ذلك الجمال الذي يشرق للحكماء، ويبهر أنظار العلماء، ويتجلى للنفوس الصافية ويسحرها بعظمته، وهم ما زالوا يدأبون على معرفة هذا السر حتى ذاقوا حلاوته، فخروا ركعا سجدا مذهولين من ذلك الجمال والجلال. (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي وأولئك لهم عذاب دائم، لتقصيرهم عن البحث فى سر عظمة هذا الكون، والوصول بذلك إلى عظمة خالقه، وبديع قدرته. ثم بين من وفقهم الله وأنعم عليهم ممن ظفروا بالمعرفة فقال: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي إلا من لاحت له بارقة من ذلك الجمال، وعنّت له سانحة منه، فتخطفت بصيرته كالشهاب الثاقب، فحنّ إلى مثلها، وصبت نفسه إلى أختها، وهام بذلك الملكوت العظيم باحثا عن سر عظمته، ومعرفة كنه جماله، وهم من اصطفاهم الله من عباده، وآتاهم الحكمة من لدنه، وأيدهم بروح من عنده، وهم أنبياؤه وأولياؤه الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين. والخلاصة- إن الدنيا بيت فرشه الأرض، وسقفه السماء، وسراجه الكواكب، والبيوت الرفيعة العماد، العظيمة البناء كما تزين بالأنوار تزين بالنقوش التي تكسبها لألاء وبهجة في عيون الناظرين، ولكن لن يصل إلى إدراك تلك المحاسن إلا الملائكة الصافّون، والأنبياء والعلماء المخلصون، أما الجهال والشياطين المتمردون من الجن والإنس فأولئك عن معرفة محاسنها غافلون، فلقد يعيش المرء منهم ويموت وهولاه عن درك هذا الجمال، إذ لا ينال العلم إلا عاشقوه، وقد تبدو لهم أحيانا بارقة من محاسن هذا الجمال، فتخطف بصائرهم كالشهاب الثاقب، فيخطفون منها خطفة يتبعها قبس من ذلك النور يضىء قلوبهم، وينير ألبابهم، فيكونون ممن كتب الله لهم السعادة، وقيض لهم التوفيق والهداية، وممن اصطفاهم ربهم برضوانه، والفوز بنعيمه «1» .

_ (1) وقد نحونا بهذا نحوا آخر يخالف ما في كثير من التفاسير إذ أنهم قالوا إن خطف الخطفة كان من الشيطان حين أراد أن يسترق السمع ويأخذ أخبار السماء فأتبعه شهاب ثاقب فأحرقه ولم يستطع أخذ شىء منها، وعصم الله وحيه وكتابه.

[سورة الصافات (37) : الآيات 11 إلى 19]

[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 19] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) تفسير المفردات فاستفهم: أي فاستخبر مشركى مكة من قولهم: استفتى فلانا إذا استخبره وسأله عن أمر يريد علمه، أشد خلقا: أي أصعب خلقا وأشق إيجادا، لازب: أي ملتصق بعضه ببعض، وأنشدوا لعلى بن أبى طالب: تعلّم فإن الله زادك بسطة ... وأخلاق خير كلّها لك لازب يسخرون: أي يستهزئون، وإذا ذكروا لا يذكرون: أي وإذا وعظوا لا يتعظون، آية: أي معجزة، يستسخرون: أي يبالغون في السخرية والاستهزاء. المعنى الجملي افتتح سبحانه هذه السورة بإثبات وجود الخالق ووحدانيته، وعلمه وقدرته، بذكر خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق المشارق والمغارب- وهنا أثبت الحشر والنشر وقيام الساعة ببيان أن من خلق هذه العوالم التي هى أصعب في الخلق منكم، فهو قادر على إعادة الحياة فيكم بالأولى كما جاء في السورة السابقة «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» وجاء في قوله: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ»

الإيضاح

الإيضاح (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي سل هؤلاء المنكرين للبعث: أىّ أصعب إيجادا، أهم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة؟ والسؤال للتوبيخ والتبكيت، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد منهم خلقا، أي وإذا فكيف ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، فأين هم بالنسبة لهذه العوالم التي خلقناها؟. ثم زاد الأمر بيانا وأوضح هذا التفاوت فقال: (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي إنا خلقنا أباهم آدم من طين رخو ملتصق بعضه ببعض، وفي هذا شهادة عليهم بالضعف والرخاوة دون الصلابة والقوة، فأين هم من كواكب السماء، وعالم الملائكة، وتلك العوالم المشرقة؟ وإذا قدرنا أن نخلق تلك العوالم العظيمة فهل يعجزنا أن نعيد ما هو مخلوق من طين لا يصلح للحياة إلا بإشراق الأنوار عليه، ووصول الآثار من العوالم الأخرى إليه. ثم خاطب الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء، ولا يتعجبون من تلك الدلائل، بل مثلك من يعجب منها، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات. والخلاصة- إن قلوبهم غلف فلا تنظر فيما حولها من البراهين والآيات الدالة على البعث، ولا تقدر أن تنفذ إلى الإيقان به، فحالهم عجب، ويحق لك أن تكثر التعجب منها، فلقد بلغ من عنادهم وإصرارهم على إنكارهم أن يسخروا من مقالك، ومن اهتمامك بإقناعهم في وجوب تسليمهم بالبعث والاعتقاد بحصوله. (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي وهم لقسوة قلوبهم إذا وعظوا لا تنفعهم العظة،

لأنه قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، فماذا تفيد العبر أو تجدى الذكرى مع قوم هذه حالهم؟. ثم بالغ في ذمهم وشديد غفلتهم عن النظر في دلائل الحق فقال: (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي وإذا أقيمت لهم الأدلة والمعجزات التي ترشد إلى صدق من يعظهم ويذكّرهم بأيام الله، نادى بعضهم بعضا متضاحكين مستهزئين: هلمّوا وانظروا إلى ما يفعله ذلك الساحر الذي يخلب ألبابنا، ويسلب عقولنا، ويريد أن يصدنا عما كان يعبد آباؤنا، وهذا ما أشار إليه حاكيا قولهم: (وَقالُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقالوا ما هذا الذي يأتينا به الفينة بعد الفينة مما يدّعى أنه أدلة ظاهرة على صدق ما يدعيه- إلا ألاعيب ساحر، وخدعة أريب ماهر، يريد أن يلفتنا عما كان يعبد آباؤنا، وما هى من دلائل الحق في شىء، فإياكم أن تخدعوا بها، وترجعوا عن الدين الحق الذي عليه آباؤكم، وقد مرت عليه القرون، ونحن له متبعون. ثم خصصوا بعض ما ينكرون مما يدعيه من الحشر والبعث فقالوا: (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟) أي إنا لو تقبلنا منه بعض ما يقول وإن كان فيه ما يدهش العقول- لا نتقبل منه تلك المقالة، وهى إحياء العظام النخرة، والأجسام التي صارت ترابا، إن هذه إلا إحدى الكبر، فلا ينبغى أن نوجه النظر إلى مثل هذه الآراء التي لا يقبلها العقل، ولا يصل إلى مثلها الفكر. ثم زادوا في استبعادهم وعظيم تعجبهم قالوا: (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أي أيبعث آباؤنا الأولون أيضا، وهذا أغرب لأن آباءهم أقدم منهم، فبعثهم أشد غرابة وأكثر استبعادا. وبعد أن حكى عنهم هذه الشبهة أجاب عنها بقوله: (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما، وأنتم صاغرون أذلاء أمام القدرة البالغة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 20 إلى 26]

ونحو الآية قوله: «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» . ثم بين سهولة ذلك أمام قدرة الله فقال: (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي لا تستصعبوا البعث فإنما يكون بصيحة واحدة بالنفخ في الصور، فإذا الناس قيام من مراقدهم أحياء ينظرون إلى ما كانوا يوعدون به من قيام الساعة. [سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 26] وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) تفسير المفردات قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، والدين: الجزاء كما جاء فى قولهم «كما تدين تدان» ، والفصل: الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل منهما عن الآخر، احشروا: أي اجمعوا، وأزواجهم: أي أمثالهم وأشباههم، فيحشر أصحاب الخمر معا، وأصحاب الزنا كذلك، واهدوهم: أي دلوهم عليها، والصراط: الطريق، والجحيم: النار، وقفوهم: أي احبسوهم في الموقف، مسئولون: أي عن عقائدهم وأعمالهم، لا تناصرون: أي لا ينصر بعضكم بعضا، مستسلمون: أي منقادون وأصل الاستسلام: طلب السلامة ويلزمه الانقياد عرفا.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا وشديد إصرارهم على عدم حدوثه أردف هذا بيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة إذا عاينوا أهوال هذا اليوم، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين، ويندمون على ما فرّطوا في جنب الله، ولات ساعة مندم. الإيضاح (وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي وقال المنكرون للبعث في الدنيا حين رأوا العذاب: لنا الويل والهلاك فقد حلّ ميعاد الجزاء، وسنجازى بما قدمنا من عمل كما وعدنا بذلك على ألسنة الرسل، فكذبناهم وسخرنا منهم، وأنكرنا صدق ما قالوا. ثم أقبل بعضهم على بعض يتناجون ويقولون: (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا هو اليوم الذي يمتاز فيه المحسن بما قدم من عمل عن المسيء الذي دسّى نفسه بما ران على قلبه من الفسوق والعصيان، ومحالفة أوامر الملك الديان، وينال كل منهما جزاء ما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فيدخل الأول جنات النعيم على فرش بطائنها من إستبرق، ويدخل الثاني في سقر «وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ» . ثم ذكر خطاب الملائكة بعضهم لبعض فقال: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي تقول الملائكة للزبانية: احشروا الظالمين من كل مكان إلى موقف الحساب مع أشباههم وأمثالهم، فاجعلوا ذوى المعاصي المتشابهة، بعضهم مع بعض، فاجعلوا الزناة معا، والآكلين لحوم الناس والناهشين لأعراضهم كذلك، واجعلوا عابدى الأصنام

ومعبوديهم من الأوثان والأصنام معا، ليكون في ذلك زيادة لهم في الحسرة وعظيم التخجيل على ما أتوه من عظيم الشرك وكبير المعصية. ثم زادوا في تأنيبهم وتوبيخهم فقالوا: (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي فأرشدوهم إلى طريق جهنم ودلوهم عليها، وفي هذا زيادة في النكاية بهم والازدراء بشأنهم، إذ كانوا في الدنيا يزدرون المؤمنين ويتقحمونهم. (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي واحبسوهم في الموقف، حتى يسألوا عما كسبت أيديهم، واجترحوا من الآثام والمعاصي، وعن تلك العقائد الزائفة التي زينها لهم الشيطان فأضلتهم عن سواء السبيل. وفي الأثر «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس: عن شبابه فيم أبلاه؟ وعن عمره فيم أفناه؟ وعن ماله مم كسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟» . ثم زادوهم تقريعا وتعنيفا فسألوهم: (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟) أي لأىّ شىء لا ينصر بعضكم بعضا وقد كنتم في الدنيا تزعمون أنكم تتناصرون، فقد روى أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر. وأخّر سؤالهم إلى ذلك الحين إذ كان الوقت وقت تنجيز العذاب، وشدة الحاجة إلى النصير والمعين، وقد انقطع الرجاء منه، فالتقريع حينئذ أشد وقعا، وأعظم أثرا. والخلاصة- إن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما يكون بعد إقامة الحجج عليهم وقطع أعذارهم بعد حسابهم. ثم ذكر أنهم لا ينازعون في الوقوف ولا في غيره، بل ينقادون فقال: (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي بل هم منقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، إذ قد سدت أمامهم وجوه الحيل، وعجزوا عن الوصول إلى السلام من أي طريق يلتمسونها، فلا فائدة في المنازعة، ولا سبيل إلى الجدل والمخاصمة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 27 إلى 37]

[سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 37] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) تفسير المفردات عن اليمين: أي من جهة الخير وناحيته فتنهوننا عنه، من سلطان: أي من قهر وتسلط عليكم، طاغين: أي مجاوزين الحد في العصيان، فحق علينا: أي وجب علينا، فأغويناكم: أي دعوناكم إلى الغىّ والضلال. المعنى الجملي بعد أن بين فيما سلف أن الكافرين يندمون يوم القيامة على ما فرط منهم من العناد والتكذيب للبعث حيث لا يجدى الندم- أردف هذا ذكر أنهم يتلاومون فيما بينهم حينئذ ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فيلقى الأولون تبعة ضلالهم على الآخرين، فيجيبونهم بأن التبعة عليكم أنفسكم دوننا، إذ كنتم قوما ضالين بطبيعة حالكم، وما ألزمناكم بشىء مما كنتم تعبدون أو تعتقدون، بل تمنينا لكم من الخير ما تمنينا لأنفسنا فاتبعتمونا دون قسر ولا جبر منا لكم، ثم أعقبه بذكر ما أوقعهم في هذا الذل والهوان، فبين أنهم قد كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد أعرضوا عنها استكبارا

الإيضاح

وقالوا: أنترك دين آبائنا اتباعا لقول شاعر مجنون ثم رد عليهم مقالهم بأنه ليس بالمجنون ولا هو بالشاعر، بل جاء بما هو الحق الذي لا محيص عن تصديقه وهو التوحيد الذي جاء به المرسلون كافة. الإيضاح (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي وأقبل التابعون من الكفار، ورؤساؤهم المضلون لهم، يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع وتعنيف على طريق الجدل والخصومة، إذ أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأنهم صائرون إلى عذاب دائم في النار، فألقى الأتباع مسئولية ما هم فيه على رؤسائهم في الكفر والضلال، وردّ الرؤساء عليهم حجتهم بما جاء فى الآية بعد. ثم فصل طريق التساؤل وكيف يحدث فقال: (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي قال الأتباع لرؤساء الضلال والكفر: إنكم كنتم تمنعوننا عن فعل الخير وتصدوننا عن سلوك طريقه، وترغّبوننا فيما تدينون به وتعتقدونه، ومن ثم أضللتمونا وأوقعتمونا في الهلاك الذي نحن صائرون إليه لا محالة. فردّ الرؤساء عليهم وأجابوهم بجوابين: (1) (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي فردوا عليهم منكرين إضلالهم إياهم قالوا: إننا ما أضللناكم، بل أنتم كنتم بطبيعة أنفسكم مستعدين للكفر بما دسيتم به أنفسكم من أفعال الشرك والمعاصي، إذ كنتم تشركون بالله سواه من الأوثان والأصنام، وترتكبون أنواع الفجور والآثام ما كان سببا في الطبع على الأفئدة والقلوب حتى لم تعرفوا للحق سبيلا، ولا للخير طريقا. (2) (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي إننا على فرض إضلالكم وتزيين الكفر لكم، لم نجبركم عليه ولم نسلبكم اختياركم، فقلوبكم كانت محبة لما تفعلون، مسرورة مما تأتون وما تذرون، مائلة إلى الكفر والعصيان، تواقّة للسير على سننه

واتباع طريقته، فما كان منا إلا أن دعوناكم لتؤمنوا بما اخترناه لأنفسنا، وزينه الشيطان لنا، ووسوس به إلينا، فلبّيتم دعوتنا سراعا، وسرتم فيما نحن فيه سائرون، إذ كنتم لذلك مستعدين، ولمثله محبين، فما كان منا إلا الدعوة، وكانت منكم الإجابة باختياركم، لا جبرا لكم. ثم ذكروا نتيجة لما تقدم فقالوا: (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) أي ولأجل أنا بطبعنا كنا قوما طاغين، وللكفر وتدسية أنفسنا مستعدين، وعن الإيمان بربنا معرضين- ثبت علينا وعيده بأنا ذائقو العذاب لا محالة، إذ كان من عدله أن يجازى كل نفس بما كسبت، ويثيبها بما عملت، وهو الخبير بها وبما اجترحت، وهذا جزاء لا محيص عنه، وهو نتيجة حتمية لما فعلنا باختيارنا، واقتضاه استعدادنا، فلا يلومنّ كل منا إلا نفسه، ولا يلم بعضنا بعضا، ولا داعى إلى الجدل والخصام وشد النكير، فلا يجنى من الشوك العنب، ولا يعقب الضلال إلا النار، عدلا من ربنا كما وعد بذلك على ألسنة رسله، وكنا بذلك عالمين، ولكنا كنا عن الخير معرضين، وعن اتباعه مستكبرين. (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي إنه لم يكن منا في شأنكم إلا حبّنا أن تكونوا مثلنا وهو غير ملزم لكم، وإنما أضركم سوء اختياركم، وقبح استعدادكم، وهو الذي جعل مصيركم ما تشاهدون من العذاب التي وعدتم به على ألسنة الرسل. وبعد أن ذكر حالهم أعقبه. بذكر العذاب الذي سيحل بهم جميعا رؤساء ومرءوسين فقال: (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي فإن الفريقين المتسائلين حينئذ مشتركون في العذاب لا محالة، كما اشتركوا في الضلال والغواية، وإن كان المغوون أشد عذابا، لأنهم تحملوا أوزارهم وأوزارا مثل أوزار من أضلوهم كما ثبت في الحديث وقد تقدم ذكره مرارا. ثم ذكر سبحانه أن هذا عدل منه على مقتضى سننه فقال:

[سورة الصافات (37) : الآيات 38 إلى 49]

(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن مثل ذلك الجزاء العظيم نفعل بالمشركين، وفاقا لما تقتضيه الحكمة ويوجبه العدل بين العباد، فيعطى كل عامل جزاء ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم فصل بعض ما استحقوا لأجله العذاب فقال: (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي إنهم كانوا إذا لقّنوا كلمة التوحيد نفروا منها وأعرضوا عن قبولها، وصعّروا خدودهم أنفة وكبرا أن يسمعوا مثلها. وذكروا السبب الذي لأجله امتنعوا من استجابة دعوته: (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟) أي أنترك عبادة الآلهة التي ورثناها عن آبائنا كابرا عن كابر، ونستمع لقول شاعر يخلّط ويهذى؟ فمثله لا يستمع لكلامه ولا يصغى إلى قوله. وقد جمعوا في كلامهم بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة، فإنكار الأولى فى استكبارهم حين سماع كلمة التوحيد، وإنكار الثانية في قولهم: أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون. ثم كذبهم سبحانه فيما قالوا فقال: (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي إنه صلّى الله عليه وسلم جاء بالحق الذي لا شك فيه وهو التوحيد الذي يثبته العقل ويؤيده البرهان، وبمثله جاء الأنبياء السابقون، فهو لم يكن بدعا بين الرسل، بل سار على شاكلتهم واتبع نهجهم، فكيف يكون من هذه حاله شاعرا أو مجنونا؟ [سورة الصافات (37) : الآيات 38 الى 49] إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

تفسير المفردات

تفسير المفردات بكأس: أي بخمر، من معين: أي من نهر ظاهر للعيون جار على وجه الأرض، لذة: أي ذات لذة، غول: أي صداع، ينزفون: أي لا تذهب عقولهم بالسكر كما ينزف الرجل ماء البئر وينزعه، قاصرات الطرف: أي قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم، عين واحدتهن عيناء: أي واسعة العيون في جمال، المكنون: المستور الذي لا تمسه الأيدى ولا يصاب بالغبار. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال وإلقاء كل منهما تبعة ما وقعوا فيه من الهلاك على الآخرين- بين هنا أن لا فائدة من مثل هذا الخصام والجدل، فإن العذاب واقع بكم لا محالة جزاء ما قدمتم من عمل، ثم أردفه ما يلقاه عباده المخلصون من النعيم المقيم، واللذات التي قصها علينا في تلك الآية مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الإيضاح (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) أي إنكم أيها الكفار المجرمون لتذوقون العذاب الأليم الذي لا تنفك أو جاعه عنكم، وما هو أبدا بمزايلكم. ثم بين العلة في لحوقه بهم فقال:

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وما ينالكم من العذاب إنما هو نتيجة ما قدمتم من عمل، وأسلفتم من معصية «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» . وبعد أن أبان حال المجرمين، ذكر حال عباد الله المؤمنين العالمين، وما يلاقونه من الجزاء والنعيم فقال: (إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي لكن عباد الله الذين أخلصوا له العمل وأنابوا إليه، أولئك لهم جنات يتمتعون فيها بكل ما لذّ وطاب، فيمتعون بلذيذ الفواكه ذات الطعم الجميل والرائحة الشذيّة، وتأتيهم وهم مكرمون كما تقدّم للملوك المترفين وذوى اليسار في الدنيا. وفي ذلك إيماء إلى أن ما يأكلونه في الجنة إنما هو للتفكه والتلذذ لا للقوت، لأنهم فى غنى عنه، لعدم تحلل شىء من أجسامهم بالحرارة الغريزية حتى يحتاجوا إلى بدل منه. وما جاء في قوله: «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» فهو بيان لأنواع ما يأكلون. ثم بين المكان الذي يأتيهم فيه الرزق وذكر حالهم إذ ذاك فقال: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي إنهم يأتيهم ذلك الرزق وهم في جنات النعيم جالسين على سرر متقابلين، ليأنس بعضهم ببعض، ويتمتعوا بطيب الحديث وفي ذلك لذة روحية لا يدركها إلا ذوو النّهى وأرباب الحجا. وبعد أن ذكر صفة المأكل والمسكن ذكر وصف الشراب فقال: (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي وكما يتمتعون بطيب المأكل يتمتعون بجيد الشراب تتميما للنعمة كما هو حال العظماء في الدنيا، فيؤتى لهم بصنوف الخمور على سبيل السعة والكثرة، كأنها تؤخذ من نهر جار فلا تقتير ولا بخل، بل كلما طلبوا وجدوا، وفي ذلك إشارة إلى أنها رقيقة لطيفة، وأنها ليست كخمر الدنيا تداس بالأقدام كما قال شاعرهم:

وشمولة من عهد عاد قد غدت ... صرعى تداس بأرجل العصّار لانت لهم حتى انتشوا فتمكّنت ... منهم فصاحت فيهم بالثار (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي لونها مشرق حسن بهيّ لا كخمر الدنيا ذات المنظر البشع، واللون الأسود أو الأصفر، أو الذي فيه كدورة إلى نحو ذلك مما ينفّر الطبع السليم، وهى لذيذة الطعم كما هى طيبة اللون وطيبة الريح، وقد وصفوا خمر الدنيا بالصفرة كما قال أبو نواس: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسّها حجر مسته سرّاء وجاء وصفها بالحمرة قبل المزج، والصفرة بعده كما قال: وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت في ثيابى نرجس وشقائق حكت وجنة المحبوب صرفا فسلّطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق ثم زاد في مدحها وامتيازها عن خمر الدنيا فقال: (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي هى لا تؤثر في الأجسام كما تؤثر خمور الدنيا، فلا تصدّع الرأس، ولا تفسد العقل بالسكر كما يكون في خمر الدنيا كما قال: فما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول والخلاصة- إنه ليس فيها شىء من أنواع المفاسد التي تكون حين شرب الخمر فى الدنيا، فهى لا تحدث صداعا ولا خمارا ولا سكرا ولا عربدة ولا نحو ذلك مما هو لازم لخمور الدنيا. ثم ذكر محاسن زوجاتهم ليكون في ذلك تتميم لبيان ما آتاهم ربهم من النعم فقال: (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) أي ولديهم نساء عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن، واسعات العيون في جمال. ثم زاد بيانا في وصف جمالهن بما شبههن به فقال:

[سورة الصافات (37) : الآيات 50 إلى 61]

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) أي إنهن في بياض يشوبه قليل من الصفرة كالبيض المستور في الأعشاش الذي لم تمسسه الأيدى ولم يعله الغبار، وهذا اللون مما تهيم به العرب، فقد شبهت النساء ببيضات الخدور كما قال امرؤ القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل [سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 61] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) تفسير المفردات قرين: أي خليل وصاحب، لمدينون: أي لمجزيون، مطلعون: أي مشرفون فناظرون إلى أهل النار، سواء الجحيم: أي وسط النار، لتردين: أي لتهلكنى، من المحضرين: أي المسوقين للعذاب. المعنى الجملي بعد أن ذكر حال أهل الجنة وما يتمتعون به من النعيم المقيم، ثم ذكر سرورهم وحبورهم في المآكل والمشارب وجميل المساكن والأزواج الحسان- بين هنا أنهم

الإيضاح

لخلوّ بالهم من المشاغل، وطيب نفوسهم يسمر بعضهم مع بعض ويتحادثون فيما كانوا فيه في الدنيا مع أخلائهم من شتى الشئون، مع اختلاف الأهواء، حتى ليقص بعضهم على بعض أن خليله كاد يوقعه في الهلاك لولا لطف ربه به، وقد كان مآله أن صار فى سواء الجحيم، ثم ذكر نعمة ربه عليه بسبب ما كان يدين به في الدنيا. الإيضاح (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يطاف عليهم بكأس من معين، فيشربون ويتحادثون على الشراب، وما ألذ الحديث لدى الأخلاء إذ ذاك كما أفصح عن ذلك شاعرهم: وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الكرام على الشراب ولثمك وجنتى قمر منير ... يجول بوجهه ماء الشباب والحديث ذو شجون، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف وفيما سلف لهم من شئون الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات حين رفاهية الحال، وفراغ البال، واطمئنان النفس، وخلوّها من المخاوف العاجلة والآجلة. ثم فصل هذا التساؤل وبيّنه فقال: (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟) أي قال قائل من أهل الجنة: إنى كان لى قرين في الدنيا يوبخنى على التصديق بالبعث والقيامة، ويستنكره أشد الاستنكار، ويقول متعجبا: أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمحاسبون بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا؟ ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان ولا يقبله عاقل، فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعدّ من البله والمجانين الذين لا ينبغى مخاطبتهم ولا الدخول معهم في باب الجدل والخصام، فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين.

وبعد أن ذكر مقالته لأهل الجنة أراد أن يؤكد لهم صدق ما قال، ويريهم ما آل إليه أمره من الدخول في النار فقال: (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي قال لجلسائه من أهل الجنة، ليزيدهم سرورا على أن عصمهم الله من مثل حاله ووفقهم إلى العمل بما أرشد إليه أنبياؤه، هل تودون أن تروا عاقبة ذلك القرين؟ وكيف خذله الله وأوقعه في الهلكة؟ وإنا لا نخوض في كيفية الاطلاع إذ ذاك مع شاسع المسافات، واختلاف مراتب أهل الجنة وأهل النار- فإن ذلك من أمور الغيب التي يجب أن نؤمن بها دون بحث فى شأنها، ولا نقص ولا زيادة فيها. (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي فاطلع إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسطها، يتلظى بحرّها وشديد لهبها. (قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي قال لقرينه مو بخاله: إنك لقد كدت تهلكنى بدعائك إياى إلى إنكار البعث والقيامة. (وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي ولولا فضل ربى بإرشاده لى إلى الحق، وعصمتى من الباطل، لكنت مثلك من المحضرين للعذاب. ثم ذكر ما يقوله ذلك المؤمن لجلسائه تحدثا بنعمة ربه عليه، واغتباطا لحاله، بمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له، فيزيد به تعذيبه. (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي يقول لهم: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا بمعذبين إلا موتتنا الأولى؟ بخلاف الكفار فإنهم يموتون مثلنا، ثم هم في جهنم يتمنون الموت كل ساعة، ولا يخفى ما في ذلك من سوء الحال، وقد قيل لحكيم: ما شرّ من الموت؟ قال الذي يتمنّى معه الموت. والخلاصة- إن المؤمن غبط نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة، والإقامة فى دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب.

[سورة الصافات (37) : الآيات 62 إلى 70]

وعلم أهل الجنة أنهم لا يموتون، جاء من إخبار الأنبياء لهم في الدنيا بذلك وفي نفى العذاب عنهم إيماء إلى استمرار النعيم، وعدم خوف زواله، فإن خوف الزوال نوع من العذاب كما قال: إذا شئت أن تحيا حياة هنية ... فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا وإلى نفى الهرم واختلال القوى، لأنه ضرب من العذاب أيضا. ثم زاد في تأنيب قرينه وزيادة حسرته فقال: (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن ما نحن فيه من نعيم مقيم، مع تمتع بسائر اللذات، من مآكل ومشارب فوز أيّما فوز، ولا سيما الفوز بذلك النعيم الروحي وهو رضا الله عنه كما قال: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» . ثم أومأ إلى اغتباطه بما هو فيه، وبين أن ذلك كان عاقبة كسبه وعمله فقال: (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لمثل هذا النعيم والفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة، ولا يعملوا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام، المشوبة بصنوف الآلام. [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 70] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

تفسير المفردات

تفسير المفردات النزل: ما يعدّ للضيف وغيره من الطعام والشراب، والزقوم: شجرة صغيرة الورق كريهة الرائحة، سميت بها الشجرة الموصوفة في الآية، فتنة: أي محنة وعذابا في الآخرة، وابتلاء في الدنيا، أصل الجحيم: أي قعر جهنم، طلعها: أي ثمرها، رءوس الشياطين: أي في قبح المنظر ونهاية البشاعة، والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان فيقولون: وجه كأنه وجه شيطان، كما يشبهون حسن الصورة بالملك، والملء: حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه، والشّوب: الخلط، والحميم: الماء الشديد الحرارة، مرجعهم: أي مصيرهم، ألفوا: أي وجدوا، يهرعون: أي يسرعون إسراعا شديدا. المعنى الجملي بعد أن وصف سبحانه ثواب أهل الجنة، وذكر ما يتمتعون به من مآكل، ووصف الجنة ورغب فيها بقوله: (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) . أتبع ذلك بذكر جزاء أهل النار وما يلاقون فيها من العذاب اللازب الذي لا يجدون عنه محيصا، وهو عذاب في مآكلهم ومشاربهم وأماكنهم، جزاء ما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال، وما قلدوا فيه آباءهم بلا حجة ولا برهان، من الكفر بالله وعبادة الأصنام والأوثان. الإيضاح (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ؟) أي أهذا الرزق المعلوم الذي أعطيته لأهل الجنة كرامة منى لهم خير، أم ما أوعدت به أهل النار من الزّقوم المرّ البشع؟. وهذا ضرب من التهكم والسخرية بهم، وهو أسلوب كثير الورود في القرآن الكريم، (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي إنا جعلنا تلك الشجرة ابتلاء واختبارا للكافرين،

فهم حين سمعوا في أنها في النار قالوا: كيف يكون ذلك والنار تحرق الشجر؟ مع أن هذا ليس بالعجيب ولا بالمستحيل، فإن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار وينعم فيها، فهو أقدر على خلق الشجر فيها وحفظه من الاحتراق. ثم وصف هذه الشجرة فقال: (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي إنها شجرة تنبت في قعر النار، وأغصانها ترتفع إلى أركانها. (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي إن ثمرها في قبح منظره، وكراهة رؤيته، كأنه رءوس الشياطين والعرب تتخيل رأس الشيطان صورة بشعة لا تعدلها صورة أخرى، فيقولون لمن يسمونه بالقبح المتناهي: كأن وجهه وجه شيطان، وكأن رأسه رأس شيطان، ألا ترى إلى امرئ القيس وقد سلك هذا السبيل، ونهج هذا النهج فقال: أيقتلني والمشرفىّ مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وعلى العكس من هذا تراهم يشبهون الصورة الحسنة بالملك، من قبل أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شر فيه، فارتسم في خيالهم بأبهى صورة، وعلى هذا جاء قوله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف «ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» . ثم بين أن مآكل أهل النار من هذه الشجرة فقال: (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي فإنهم ليأكلون من ثمرها فيملئون بطونهم منه، وإن كانوا يعرفون مرارة طعمه ونهاية نتنه وبشاعة رائحته، ولكن ماذا يعملون وقد غلب عليهم الجوع؟ والمضطر يركب الصعب والذلول، ويستروح من الضرّ بما يقار به فيه. وبعد أن وصف طعامهم وبين شناعته، أردفه ذكر شرابهم ووصفه بما هو أبشع وأشنع فقال: (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي ثم إنهم بعد أن يشبعوا ويغلبهم العطش

[سورة الصافات (37) : الآيات 71 إلى 74]

يستغيثون منه فيغاثون بماء كالمهل قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم شوى لحوم وجوههم، وإذا شربوه قطّع أمعاءهم. ثم ذكر أنهم بعد هذا وذاك لا مأوى لهم إلا نار جهنم وبئس المصير فقال: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي ثم إن مصيرهم بعد المأكل والمشرب، لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، فهم تارة في هذه وتارة في تلك كما قال: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» . والخلاصة- إنهم يؤخذون من منازلهم في الجحيم وهى الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم، فيأكلون إلى أن تمتلىء بطونهم ثم يسقون الحميم ثم يرجعون إلى تلك الدركات. ثم علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد، بتقليد الآباء في الدين بلا دليل يستمسكون به فقال: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ. فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) أي ثم إنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم بلا برهان، وأسرعوا إلى تقليدهم بلا تدبر ولا روية، وكأنهم استحثّوا على ذلك، وأزعجوا إزعاجا. وفي هذا دليل على أن التقليد شؤم على المقلّد وعلى من يتبعه، فالإنسان لا سعادة له إلا بالنظر والبحث في الحقائق الدنيوية والأخروية، ولو لم يكن في القرآن آية غير هذه فى ذم التقليد لكفى. [سورة الصافات (37) : الآيات 71 الى 74] وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين يهرعون على آثار آبائهم الأولين دون نظر ولا تدبر- أردفه ما يوجب التسلية لرسوله على كفرهم وتكذيبهم، بأن كثيرا من الأمم قبلهم قد أرسل إليهم الرسل فكذبوا بهم وكانت عاقبتهم الدمار والهلاك، ونجّى الله المؤمنين ونصرهم، فليكن لك فيهم أسوة، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات إن عليك إلا البلاغ. الإيضاح (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي ولقد ضل قبل قريش كثير من الأمم السابقة، فعبدوا مع الله آلهة أخرى كما فعل قوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح. ثم ذكر رحمته بعباده وأنه لا يؤاخذهم إلا بعد إنذار فقال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي فأرسلنا فيهم أنبياء ينذرونهم بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم ولم يستجيبوا دعوتهم كما أشار إلى ذلك بقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي فانظر كيف كان عاقبة الكافرين المكذبين، فقد دمرهم الله ونجّى المؤمنين ونصرهم. وهذا خطاب موجه إلى كل من شاهد آثارهم، وسمع أخبارهم، فقد سمعت قريش بأنباء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وكيف كان عاقبة أمرهم. وقد استثنى من هؤلاء المهلكين عباد الله المخلصين فقال: (إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكن عباد الله الذين أخلصهم الله بتوفيقهم للإيمان والعمل بأوامر دينه،. أنجاهم من عذابه ففازوا بالنعيم المقيم في جنات عرضها السموات والأرض.

[سورة الصافات (37) : الآيات 75 إلى 82]

قصص نوح عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) المعنى الجملي بعد أن ذكر على سبيل الإجمال ضلال كثير من الأمم السالفة- شرع يفصل ذلك فذكر نوحا عليه السلام وما لقى من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول مدة لبثه فيهم، فلما اشتدوا واشتطوا في العناد دعا ربه أنى مغلوب فانتصر، فغضب الله لغضبه، وأغرق قومه المكذبين، ونجاه وأهله أجمعين. الإيضاح (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي ولقد نادانا نوح واستنصر بنا على كفار قومه لمّا بالغوا في إيذائه وهمّوا بقتله حين دعاهم إلى الدين الحق، فلنعم المجيبون نحن، إذ لبّينا نداءه وأهلكنا من كذب به من قومه. أخرج ابن مردويه عن عائشة رضى الله عنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلّى في بيتي فمر بهذه الآية: (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) قال صدقت ربنا، أنت أقرب من دعى، وأقرب من بغى، فنعم المدعوّ، ونعم المعطى، ونعم المسئول، ونعم المولى أنت ربنا، ونعم النصير» .

ثم بين سبحانه أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه: (1) (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الكرب: الغم الشديد، أي فنجيناه من الغرق ومن أذى قومه ومن كل ما يكربه ويسوءه. (2) (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أي وأهلكنا من كفر بنا استجابة لدعوته: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» ولم يعقب أحد ممن كان فى السفينة عقبا باقيا سوى أبنائه الثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك، وهذا هو المشهور على ألسنة المؤرخين، وليس في القرآن ولا في السنة نص قاطع على شىء من هذا، كما أنه ليس في القرآن ما يشير إلى عموم دعوته لأهل الأرض قاطبة، ولا أن الغرق عمّ الأرض جميعا، وأن ما تفيده الآية من جعل ذريته هم الباقين إنما هو بالنسبة لذرية من معه فى السفينة، وذلك لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وقد كان في بعض الأقطار الشاسعة من لم تبلغهم الدعوة، فلم يستوجبوا الغرق كأهل الصين وغيرهم من البلاد النائية (3) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة. ثم ذكر سبحانه أنه سلّم عليه ليقتدى به، فلا يذكره أحد بسوء فقال: (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أي وقلنا له: عليك السلام في الملائكة والإنس والجن. ونحو الآية قوله: «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ» . ثم علل ما فعله به بأنه جزاء على إحسانه فقال: (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنه كان في زمرة المحسنين فجازيناه بالإحسان إليه و «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» .

[سورة الصافات (37) : الآيات 83 إلى 94]

وإحسانه أنه جاهد أعداء الله بالدعوة إلى دينه، وصبر طويلا على أذاهم، إلى نحو من هذا. ثم بين سبب إحسانه بقوله: (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي إن إحسانه كان بإخلاص عبوديته وكمال إيمانه. وفي هذا إيماء إلى أن أعظم الدرجات، وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي ثم أغرقنا الآخرين من كفار قومه، ولم نبق لهم عينا ولا أثرا. قصص إبراهيم عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 94] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) تفسير المفردات من شيعته: أي ممن سار على دينه ومنهاجه، سليم: أي سالم من جميع العلل والآفات النفسية كالحسد والغل وغيرهما من النيات السيئة، والإفك: الكذب، سقيم:

الإيضاح

أي مريض، فراغ: أي فذهب خفية إلى أصنامهم، وأصل الروغ والروغان: الميل قال شاعرهم: ويريك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب باليمين: أي بقوة وشدة، يزفون: أي يسرعون من زفّ النعام، أي أسرع. الإيضاح (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن ممن سار على نهج نوح، وسلك طريقه، فى اعتقاد التوحيد والبعث، والتصلب في دين الله، ومصابرة المكذبين- إبراهيم صلوات الله عليه. (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي إذ أخلص قلبه لربه وجعله خاليا من كل شئون الحياة الدنيا، فلا غش لديه ولا حقد، ولا شىء مما يشينه من العقائد الزائفة، والصفات القبيحة. ثم فصل ما سلف فقال: (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ؟) أي جاء بقلب سليم حين قال منكرا على أبيه وقومه عبادة الأصنام والأوثان: أىّ شىء تعبدون؟ وهذا منه استنكار وتوبيخ لهم على ما يعبدون، إذ لا ينبغى لعاقل أن يركن إلى مثل هذه المعبودات التي لا تضر ولا تنفع. ثم بين الإنكار وفسره بقوله: (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟) أي أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها إفكا وكذبا، دون أن تركنوا في ذلك إلى دليل من نصّ، ولا تأييد من نقل، إن هذا منكم إلا خبال وخطل في الرأى. (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أىّ شىء ظنكم برب العالمين الحقيق بالعبادة؟ أي أعلمتم أىّ شىء هو، حتى جعلتم الأصنام شركاء له؟

[سورة الصافات (37) : الآيات 95 إلى 101]

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة أن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكرة: نظر في النجوم أي فأطال الفكر فيما هو فيه. (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي إنى أحس بخروج مزاجى عن حال الاعتدال، ولا أرى فى نفسى خفة ونشاطا، وكان مقصده من قولته هذه ألا يخرج معهم في يوم عيدهم، لينفّذ ما عزم عليه من كسر أصنامهم وإعلان الحرب عليهم، فى عبادتهم للأوثان والأصنام، ولم يكن لهم علم بما بيّت عليه النية، ولا دليل على أنه لم يكن صادقا فيما يقول إذ من يعزم على تنفيذ أمر ذى بال يخاف منه الخطر على نفسه أن يكون مهموما مغموما مفكّرا في عاقبة ما يعمل. (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي فأعرضوا عنه وذهبوا إلى معبدهم وتركوه في مكانه. (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي فذهب مستخفيا إلى أصنامهم التي يعبدونها وقال لها استهزاء: ألا تأكلون من الطعام الذي يقدّم إليكم؟ وكانوا يضعون فى أيام أعيادهم طعاما لدى هذه الأصنام لتبارك فيه. (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟) أي أىّ شىء منعكم الإجابة عن سؤلى، ومراده بذلك التهكم بهم، واحتقار شأنهم. (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي فاتجه إليهم يضربهم بقوة وشدة حتى تركهم جذاذا إلا كبيرهم كما تقدم في سورة الأنبياء. (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي فأقبل قومه إليه بعد رجوعهم من عيدهم مسرعين يسألون عمن كسرها، وقد قيل لهم: إنه إبراهيم، فقالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها ولما أخذوا يعتبون عليه طفق يؤنبهم ويعيبهم. [سورة الصافات (37) : الآيات 95 الى 101] قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)

الإيضاح

الإيضاح (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟) أي أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم؟ فما تحدثون فيه الصنعة بأيديكم تجعلونه معبودا لكم، أفلا عاقل منكم ينهاكم عن مثل هذا؟ (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي والله خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، لا جرم أن عبادتكم لها خطأ عظيم، وإثم كبير. ولما أورد عليهم إبراهيم هذه الحجة القوية التي لم يستطيعوا دفعها- عدلوا عن الحجاج إلى الإيذاء واستعمال القوة. (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) تقدم هذا بمزيد إيضاح في سورة الأنبياء (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي فأرادوا إحراقه في النار فأنجيناه منها، وجعلناها بردا وسلاما عليه، وجعلنا كيدهم في نحورهم، وكتبنا له الغلبة والنصر عليهم. وبعد أن يئس من إيمانهم أراد مفارقتهم والهجرة من بينهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي وقال إنى مفارق لتلك الديار، ومهاجر إلى مكان أتفرغ فيه لعبادة ربى، وإنه سيهدينى إلى ما فيه صلاح دينى، وهذا المكان هو الأرض المقدسة. وفي الآية إيماء إلى أن الإنسان إذا لم يتمكن من إقامة دينه على الوجه المرضى فى أرض وجبت عليه الهجرة منها إلى أرض أخرى.

[سورة الصافات (37) : الآيات 102 إلى 113]

ولما هاجر من وطنه طلب الولد فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي رب هب لى أولادا مطيعين يعينوننى على الدعوة، ويؤنسوننى في الغربة، ويكونون عوضا من قومى وعشيرتى الذين فارقتهم. فاستجاب ربه دعاءه فقال: (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي فبشرناه بمولود ذكر يبلغ الحلم ويكون حليما. وقد استفيد بلوغه من وصفه بالحلم، لأنه لازم لتلك السن، إذ قلما يوجد في الصبيان سعة الصدر، وحسن الصبر، والإغضاء عن كل أمر، وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق العلماء من أهل الكتاب والمسلمين، بل جاء النص في التوراة على أن إسماعيل ولد لإبراهيم وسنه ست وثمانون سنة، وولد له إسحاق وعمره تسع وتسعون سنة. وأي حلم مثل حلمه، عرض عليه أبوه وهو مراهق أن يذبحه فقال: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فما ظنك به بعد بلوغه، وما نعت الله نبيا بالحلم غير إبراهيم وابنه إسماعيل عليه السلام. [سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113] فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فلما بلغ معه السعى أي فلما بلغ السن التي تساعده على أن يسعى معه في أعماله وحاجات المعيشة، أسلما: أي استسلما وانقادا لأمر الله، تله: أي كبه على وجهه صدقت الرؤيا: أي حققت ما طلب منك، البلاء المبين. أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، بذبح: أي حيوان يذبح، باركنا عليه: أي أفضنا عليه البركات. المعنى الجملي اعلم أنه بعد أن قال سبحانه: فبشرناه بغلام حليم- أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن المراهقة بقوله: فلما بلغ معه السعى، إذ هو لا يقدر على الكد والعمل إلا بعد بلوغ هذه السن، ثم أتبعه بقص الرؤيا عليه وإطاعته في تنفيذ ما أمر به وصبره عليه، ولما حان موعد التنفيذ كبه على وجهه للذبح فأوحى إليه ربه أنه فداه بذبح عظيم، ثم بشره بإسحاق نبيا من الصالحين، وبارك عليه وعلى إسحاق وأنه سيكون من ذريتهما من هو محسن فاعل للخيرات، ومنهم من هو ظالم لنفسه مجترح للسيئات. الإيضاح (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟) أي فلما كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويسعى في أشغاله وقضاء حوائجه- قال له يا بنى إنى رأيت في المنام أنى أذبحك فما رأيك؟ وقد قص عليه ذلك ليعلم ما عنده فيما

نزل من بلاء الله، فيثبت قدمه إن جزع، وليوطن نفسه على الذبح، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله. ثم بين أنه كان سميعا مطيعا منقادا لما طلب منه. (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي قال يا أبت سميعا دعوت، ومن مجيب طلبت، وإلى راض ببلاء الله وقضائه توجهت، فما عليك إلا أن تفعل ما تؤمر به، وما على إلا الانقياد وامتثال الأمر، وعلى الله المثوبة، وهو حسبى ونعم الوكيل. ولما خاطبه بقوله يا بنى عنى سبيل الترحم، أجابه بقوله يا أبت على سبيل التوقير والتعظيم وفوض الأمر إليه حيث استشاره، وأن الواجب عليه إمضاء مارآه. ثم أكد امتثاله للأمر بقوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي سأصبر على القضاء، وأحتمل هذه اللأواء، غير ضجر ولا برم بما قضى وقدر، وقد صدق فيما وعد، وبر في الطاعة لتنفيذ ما طلب منه، ومن ثم قال سبحانه في شأنه مادحا له «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» . ثم ذكر طريق تنفيذ الرؤيا فقال: (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما استسلما وانقادا لأمر الله وفوضا إليه سبحانه الأمر في قضائه وقدره، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه باشارة منه، حتى لا يرى وجهه فيشفق عليه: وروى عن مجاهد أنه قال لأبيه: لا تذبحنى وأنت تنظر إلى وجهى، عسى أن ترحمنى فلا تجهز على، اربط يدى إلى رقبتى، ثم ضع وجهى للأرض، ففعل. (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى: أن قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح. فقد بان امتثالك للأمر، وصبرك على القضاء: وحينئذ استبشرا وشكرا لله على ما أنعم به عليهما من

دفع البلاء بعد حلوله، والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله، مع إظهار فضلهما، وإحراز المثوبة من ربهما. ثم علل رفعه لذلك البلاء وإزالته لتلك الغمة بقوله: (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إناكما عفونا عن ذبحه لولده، بعد استبانة إخلاصه في عمله، حين أعد العدّة، ولم تتغلب عليه عاطفة البنوة، فرضى بتنفيذ القضاء منقادا صاغرا- نجزى كل محسن على طاعته، ونوفيه من الجزاء ما هو له أهل، وبمثله جدير. ثم ذكر عظيم صبره على امتثال أمر ربه مع ما فيه من كبير المشقة في مجرى العادة فقال: (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي كان لهو محنة أيّما محنة، واختبار لعباده لا يعدله اختبار، ولله عز اسمه أن يبتلى من شاء من عباده بما شاء من التكاليف وهو الفعال لما يريد، لا رادّ لقضائه ولا مانع لقدره، وكثير من التكاليف قد تخفى علينا أسرارها وحكمها، وهو العليم بها وبما لأجله شرعها. (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي وفديناه بوعل أهبط عليه من جبل ثبير قاله الحسن البصري، ولا علينا أن نزيد على ما جاء به الكتاب، ومكان نزوله لا يهم في بيان هذه المنة التي امتن بها عليه. ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة أخرى فقال: (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ذكرا حسنا بين الناس في الدنيا فصار محبّبا بين الناس جميعا من كل ملة ومذهب، فاليهود يجلّونه، والنصارى يعظمونه، والمسلمون يبّجلونه، والمشركون يحترمونه، ويقولون إنا على ملة إبراهيم أبينا، وذلك استجابة لدعوته حين قال: «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» .

من الذبيح؟ أإسحاق أم إسماعيل؟

ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة ثالثة فقال: (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي وقلنا له: عليك السلام في الملائكة والإنس والجن. ثم أعقب ذلك بنعمة رابعة وهى نعمة الولد فقال: (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وآتيناه إسحاق ومننّا عليه بنعمة النبوة له وللكثير من حفدته كفاء امتثاله أمرنا وصبره على بلوانا. (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي وأفضنا عليهما بركات الدنيا والآخرة، فكثّرنا نسلهما وجعلنا منه أنبياء ورسلا، وطلبنا من المسلمين في صلواتهم أن يدعوا لهم بالبركة فيقولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي ومن ذريتهما من أحسن في عمله فآمن بربه وامتثل أوامره واجتنب نواهيه، ومن ظلم نفسه ودساها بالكفر والفسوق والمعاصي. وفي ذلك تنبيه إلى أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال، وأن الظلم في الأعقاب لا يعود إلى الأصول بنقيصة، ولا عيب عليهم في شىء منه كما قال: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» . من الذبيح؟ أإسحاق أم إسماعيل؟ ليس في هذه المسألة دليل قاطع من سنة صحيحة ولا خبر متواتر، بل روايات منقولة عن بعض أهل الكتاب وعن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن ثم حدث الخلاف فيها. 1- فمن قائل إنه إسحاق، ويؤيده: (ا) ما روى عن يوسف عليه السلام أنه قال لفرعون مصر في وجهه: أترغب

عن أن تأكل معى وأنا والله يوسف بن يعقوب نبى الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. (ب) ما روى عن أبى الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود فقال أنا فلان ابن فلان ابن الأشياخ الكرام، فقال ابن مسعود: ذلك يوسف بن يعقوب ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. (ح) ما حكاه البغوي عن عمر وعلىّ وابن مسعود والعباس أنه إسحاق. ولكعب الأحبار ضلع في هذه الأخبار وأمثالها التي تلقاها المسلمون عنه، وكان يحدّث بها عن الكتب القديمة وهى جامعة بين الغثّ والسمين ثقة بأن عمر رضى الله عنه قد استمع منه، ومن ثم احتاج الثقات إلى تمحيصها، وعزل جيدها من بهرجها وصحيحها من سقيمها. 2- ومن قائل إنه إسماعيل وهو الذي يساوقه صحيح النظر ونصوص القرآن ويؤيده. ا- رواية ذلك عن ابن عباس، فقد روى عطاء بن أبى رباح عنه أنه قال: المفدى هو إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود. (ب) روى مجاهد عن ابن عمر أنه قال: الذبيح إسماعيل. (ح) أن ابن إسحاق قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: إن الذي أمر الله ذبحه من ابنيه هو إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى فإنه بعد أن فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» وقال: «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل- قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا. وعلى الجملة فظاهر نظم الآية والروايات التي يروونها يؤيد أنه إسماعيل، ولكن اليهود حسدوا العرب على أن يكون أباهم هو الذي كان من أمر الله فيه ما كان ومن

[سورة الصافات (37) : الآيات 114 إلى 122]

الفضل الذي ذكره الله له لصبره لما أمر به، فجحدوا ذلك وزعموا أنه إسحاق لأنه أبوهم والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهرا مطيعا لربه. قصص موسى وهارون عليهما السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) الإيضاح (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي ولقد أنعمنا عليهما بالخير الكثير، فآتيناهما النبوة ونصرناهما على أعدائهما من قبط مصر وملكناهما أرضهم وأغرقنا من كان مستذلهما إلى نحو ذلك. ثم فصل هذه النعم فقال: (1) (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي ونجيناهما ومن آمن معهما من الكرب العظيم الذي كانوا فيه بإساءة فرعون وقومه إليهم من قتل الأبناء، واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس المهن والصناعات، ومعاملتهم معاملة العبيد والأرقاء إلى ضروب أخرى من المهانة والمذلة التي لولا إلفهم لها لكانت كافية في انقراضهم، ولكنهم شعب لا يأبى الخضوع والاستكانة متى وجد في ذلك السبيل لجمع المال وحيازته، والتمتع بلذات الحياة الدنيا.

(2) (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي ونصرناهم على أعدائهم فغلبوهم وملكوا أرضهم وأموالهم وما كانوا قد جمعوه طوال حياتهم فكانوا أصحاب الصّولة والسلطان والدولة والرفعة. (3) (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي وأعطيناهما الكتاب الجلىّ الواضح الجامع لما يحتاج إليه البشر في مصالح الدين والدنيا، وهو التوراة كما قال: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» وقال: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» . (4) (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي ودللناهما على طريق الحق بالعقل والنقل وأمددناهما بالتوفيق والعصمة. (5) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا لهما الذكر الحسن والثناء الجميل فيمن بعدهم، وهذا ما تصبو إليه النفوس قال شاعرهم: وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى وقال الآخر: الذكر للإنسان عمر ثان. (6) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي وجعلنا الملائكة والإنس والجن يسلمون عليهما أبد الدهر، ولا شىء أدعى إلى سعادة الحياة من الطمأنينة وهدوء البال كما ورد فى الحديث «من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» . ثم ذكر سبب هذه النعم فقال: (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام في هذا نظير ما سلف من قبل.

[سورة الصافات (37) : الآيات 123 إلى 132]

قصص إلياس عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) الإيضاح (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال ابن جرير: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص ابن العيزار بن هرون أخى موسى عليهما السلام، فهو إسرائيلى من سبط هرون. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟) أي أنذر قومه وحذرهم بأس الله فقال: ألا تخافون الله، فتمتثلوا أوامره، وتتركوا نواهيه؟ ثم ذكر سبب الخوف فقال: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بعل اسم صنم أي أتعبدون هذا الصنم. وتتركون عبادة من خلقكم وخلق آباءكم السابقين وهو المستحق للعبادة وحده دون سواه؟ ثم بين أن قومه كذبوه واستمروا في غوايتهم فقال: (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي فكذبوه فيما تضمنه كلامه من وجوب توحيد الخالق، وتحريم الإشراك به، وعقابه تعالى عليه، فهم لأجل ذلك يحضرون يوم القيامة للعذاب، ويجازون على سوء أفعالهم وأقوالهم.

[سورة الصافات (37) : الآيات 133 إلى 138]

ثم أخرج من بينهم جماعة لم يكذّبوا فلم يلحقهم هذا العذاب والهوان فقال: (إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي إلا قوما منهم أخلصوا العمل لله وأنابوا إليه فأولئك يجزون الجزاء الأوفى على ما أسلفوا من عمل صالح، وقدّموا من ذخر طيب. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام فيه كما تقدم فيما قبله سوى أن إلياسين لغة في إلياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء غير العربية. قصص لوط عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) الإيضاح (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي وإنا أرسلنا لوطا إلى قومه أهل سذوم، وكانوا قد أتوا من المنكرات والفواحش ما لم يأته أحد من العالمين، فنصحهم فلم ينتصحوا، فأهلكهم الله ونجاه هو وقومه كما قال: (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه هو وأهله من بين أظهرهم إلا امرأته، فإنها هلكت مع من هلك من قومها، وجعلنا محلتهم من الأرض بحيرة ذات ماء ردىء الطعم، منتن الريح. (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أي ثم أهلكنا عدا من ذكرنا. ثم أرشد مشركى مكة إلى النظر والاعتبار بما حل بهم وبأمثالهم من المكذبين فقال:

[سورة الصافات (37) : الآيات 139 إلى 148]

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) أي وإنكم لتمرون عليهم وأنتم مسافرون إلى الشام حين الصباح، أو أول الليل فترون آثار ديارهم التي عفت وأضحت خرابا يبابا، لا أنيس فيها ولا جليس، ولا ديّار ولا نافخ نار. (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي أتشاهدون هذا فلا تعتبروا ولا تخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟ فإن ما حل بهم من البلاء إنما كان لمخالفة رسولهم كما تفعلون. قصص يونس عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) تفسير المفردات أصل الإباق: هرب العبد من سيده، والمراد هنا أنه هاجر بغير إذن ربه، المشحون: المملوء، فساهم: أي فقارع من في الفلك أي عمل قرعة، المدحضين: أي المغلوبين بالقرعة، فالتقمه: أي فابتلعه، مليم: أي آت ما يستحق عليه اللوم، بالعراء: أي بالمكان الخالي، يقطين: أي دبّاء (القرع العسلي المعروف الآن) وقيل: الموز وهو أظهر لأن أوراقه أعرض

الإيضاح

الإيضاح (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي وإن يونس لرسول من ربه إلى قومه أهل نينوى بالموصل، حين هرب إلى الفلك المملوء بغير إذن ربه، فقارع أهل الفلك فكان من المغلوبين في القرعة وقد رووا في إباقه الرواية الآتية: إنه لما أوعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله تعالى بالهجرة، فركب سفينة فوقفت فقالوا هاهنا عبد آبق من سيده، وكان الملاحون يزعمون أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجرى، فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فقال أنا الآبق وألقى نفسه في الماء. (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فالتقمه الحوت وهو فاعل ما يلام عليه من الهجرة بغير إذن ربه، وقد كان عليه أن يصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل. ثم ذكر سبحانه أنه أنجاه لما كان له من عمل صالح فقال: (فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي فلولا أنه كان من الذاكرين الله كثيرا والمسبحين بحمده طوال عمره، للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث، إذ كان يهضم كبقية أنواع الطعام ويتحول إلى غذاء له كسائر أنواع الأغذية التي يأكلها. (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) أي فجعلنا الحوت يلقيه في مكان خال لا نبات فيه ولا شجر، وهو عليل الجسم سقيم النفس، لما لحقه من الغم مما حدث من قومه معه، إذ أعرضوا عن دعوته ولم يصدقوه فيما جاء به، وقد كان يرجو لهم الخير والسعادة فى دنياهم وآخرتهم ولما وجد من شدة وجهد في ابتلاع الحوت له. ثم بين لطفه به ورعايته له حتى لا يتعرض لحر الشمس ولا لزمهرير البرد فقال: (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي فأنبتنا حواليه شجرة موز يتغطى بورقها،

تذنيب

ويستظل بأغصانها، فتقيه لفح الشمس ووهجها، وبرد الصحراء وشديد صرّها، وكذلك يأكل من ثمارها، فتغنيه عن طلب الغذاء من أي جهة أخرى. ثم ذكر أنه لما شفى من سقمه ونجا من الهلاك ورضى ربه عنه عاد إلى قومه، ليتمّ دعوته، ويبلغ رسالته كما أشار إلى ذلك بقوله: (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي فأرسلناه مرة أخرى إلى هؤلاء القوم وقد كانوا مائة ألف بل يزيدون، فاستقامت حالهم وآمنوا به، لأنه بعد أن خرج من بين أظهرهم رأوا أنهم قد أخطئوا وأنهم إذا لم يتبعوا رسولهم هلكوا كما حدث لمن قبلهم من الأمم، فلما عاد إليهم ودعاهم إلى ربه لبّوا الدعوة طائعين منقادين لأمر الله ونهيه، فمتعناهم في هذه الحياة حتى انقضت آجالهم وهلكوا فيمن هلك. تذنيب هاهنا مسألتان: (1) إن القرآن الكريم لم يبين لنا ممّ أبق، ولو كان في بيانه فائدة لذكرها. (2) إنه لم يذكر مدة لبثه في بطن الحوت وتعيين زمن معين يحتاج إلى نقل صحيح ولم يؤثر ذلك، وأيّا كان فبقاؤه حيا في بطن الحوت مدة قليلة أو كثيرة معجزة لذلك النبي الكريم. [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 160] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

المعنى الجملي

المعنى الجملي أمر الله رسوله في صدر هذه السورة بتبكيت قريش وتوبيخهم على إنكارهم للبعث مع قيام الأدلة وتظاهرها على وجوده، ثم ساق الكثير منها مما لا يمكن رده ولا جحده، ثم أعقبه بذكر ما سيلقونه من العذاب حينئذ، واستثنى منهم عباد الله المخلصين وبين ما يلقونه من النعيم، ثم عطف على هذا أنه قد ضل قبلهم أكثر الأولين وأنه أرسل إليهم منذرين، ثم أورد قصص بعض الأنبياء تفصيلا متضمنا وصفهم بالفضل والعبودية له عز وجل: وهنا أمره بالتنديد عليهم ثانيا بطريق الاستفتاء عن وجه القسمة الجائرة التي عملوها وهى جعل البنات لله وجعل البنين لأنفسهم بقولهم: الملائكة بنات الله، ثم بالتقريع ثالثا على استهانتهم بالملائكة بجعلهم إناثا، ثم أبطل كلا من هذين بالحجة التي لا يجد العاقل محيصا عن التصديق بها والإذعان لها. الإيضاح (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟) أي سل قريشا مؤنبا لها ومقرّعا على ضعف أحلامها وسفاهة عقولها، ألربى البنات ولكم البنون؟ فمن أين جاءكم هذا التقسيم، وإلام تستندون؟ وإنكم لتكرهون البنات وتبغضونها أشد البغض كما جاء في قوله: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» .

ونحو الآية قوله في سورة النجم: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» أي قسمة جائرة. (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟) أي بل أخلقنا الملائكة إناثا وقد شهدوا هذا الخلق؟ وهذا ترقّ في التوبيخ لهم على هذه المقالة، إذ أن ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة أو النقل، ولا سبيل إلى معرفته بالعقل، حتى يقوم الدليل والبرهان على صحته، والنقل الصحيح الذي يؤيد ما تدّعون لا يوجد، فلم تبق إلا المشاهدة، وهذه لم تحصل، ونحو الآية قوله: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ» . ثم بين فساد منشأ هذه العقيدة الزائفة فقال: (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ) أي وما جرأهم على هذا القول الهراء والرأى الخطل إلا اعتقادهم الباطل أن لله ولدا، وهو افتراء قبيح وإفك صريح، لا مستند له، ولا شبهة ترشد إلى صدقه. ثم أكد هذا النفي بقوله: (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولون، ولا أثرة لهم من علم يصدق ما يعتقدون، فمن أين جاءهم هذا؟ ثم نقض الدعوى من أساسها مبينا أن العقل لا يتقبلها فقال: (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟) أي أىّ شىء يحمله على أن يختار البنات ويترك البنين؟ والعرف والعادة والمنطق السليم شاهد صدق على غير هذا. ونحو الآية قوله: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» .

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي أما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون، وتتفكرون فى صحة ما تعتقدون؟ فالعقل يقضى ببطلان مثل هذا. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) فتعرفوا خطأ ما تعتقدون، وترجعوا على أنفسكم باللائمة فيما تقولون. ثم زاد في تأنيبهم وتقريهم وطالبهم ببرهان من النقل يؤيد صحة ما يدعون فقال: (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل ألكم حجة واضحة على هذا نزل بها وحي؟ إن كان الأمر هكذا فأرونى كتابكم الذي يؤيد ما تقولون إن كنتم صادقين. ولا يخفى ما في هذه الآيات من الدلالة على السخط العظيم، والإنكار الشديد لأقاويلهم، وتسفيه أحلامهم، مع الاستهزاء بهم، والتعجيب من جهلهم. ثم ذكر أن هذه العقيدة ستؤدى بهم إلى ما لا ينبغى أن قال فقال: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) المراد بالجنة الملائكة، وسموا جنّا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون، أي وجعلوا بينه وبين الملائكة مشاكلة ومناسبة، فقالوا الملائكة بنات الله. ثم ذكر أنهم سيندمون على مقالتهم هذه فقال: (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي ولقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينه تعالى وبينهم نسبا- إن هؤلاء المشركين محضرون إلى النار ومعذبون فيها لكذبهم وافترائهم في قيلهم هذا. قال مجاهد ومقاتل: القائل ذلك هم كنانة وخزاعة، قالوا إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه، وقال الكلبي وقتادة: قالت اليهود- لعنهم الله-: إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم.

[سورة الصافات (37) : الآيات 161 إلى 170]

والخلاصة- إن هؤلاء سيعذبون في النار على تقوّلهم على الله بغير علم بإثبات البنات له دون أن يكون هناك نص على ذلك. ثم نزه سبحانه نفسه عن كل ما لا يليق به من هذه النقائص فقال: (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تقدس ربنا عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون علوّا كبيرا. (إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولكن المخلصين المتبعين للحق المنزّل على الرسل ناجون فلا يحضرون إلى النار ولا يعذبون. [سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 170] فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) تفسير المفردات بفاتنين: أي بمضلين من قولهم فتن فلان على فلان امرأته إذا أفسدها عليه، صال الجحيم: أي داخل في النار ومعذب فيها، الصافون: أي صافو أنفسهم للعبادة، ذكرا: أي كتابا المعنى الجملي بعد أن أثبت فساد آراء المشركين ومذاهبهم- أتبع ذلك بما نبه به إلى أن هؤلاء المشركين لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان مستعدا له، وقد سبق

الإيضاح

فى حكم الله أنه من أهل النار وأنه لا محالة واقع فيها، ثم حكى اعتراف الملائكة بالعبودية تنبيها إلى فساد قول من ادعى أنهم أولاد الله. الإيضاح (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي فإنكم أيها المشركون مع معبوديكم من الأوثان والأصنام لا يتسهل لكم أن تفتنوا إلا من هو ضالّ مثلكم، ومن كتب له أنه من أصحاب النار فهو لا محالة يكبكب فيها، قال لبيد ابن ربيعة فأحسن: أحمد الله فلا ندّ له ... بيديه الخير ما شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضلّ ثم حكى سبحانه اعتراف الملائكة بالعبودية لربهم فقال: (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي وإن لكل منا مرتبة لا يتجاوزها في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى خضوعا لعظمته، وخشوعا لهيبته، وتواضعا لجلاله كما روى فى الخبر «فمنهم راكع لا يقيم صلبه، وساجد لا يرفع رأسه» . (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي وإنا لنقف صفوفا في أداء الطاعات، ومنازل الكرامات، لكل منا منزلة لا يعدوها، ومرتبة لا يتخطاها. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن في المسجد فقال: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمّون الصفوف الأول ويتراصّون في الصف» وكان عمر يقول إذا قام للصلاة: أقيموا صفوفكم واستووا، إنما يريد الله بكم هدى الملائكة عند ربها ويقرأ: «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ» تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبّر. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي وإنا لننزه الله تعالى عما لا يليق به، فنحن عبيد له، فقراء إليه، خاضعون لأوامره.

[سورة الصافات (37) : الآيات 171 إلى 182]

ثم حكى عن المشركين مقالتهم قبل بعث النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولقد كانوا يتمنون قبل أن يأتيهم الرسول أن لو كان عندهم من يذكّرهم بأمر الله ونهيه ويأتيهم بكتاب من عنده، ليخلصوا له العبادة، ويكونوا أهدى سبيلا ممن سبقهم من أهل الكتب السالفة من اليهود والنصارى. ثم بين أنهم كانوا كاذبين وأن حالهم بعد مجيئه كانت على غير ما قالوا فقال: (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي ثم بعد أن جاءهم الذكر والكتاب المهيمن على كل الكتب أعرضوا عنه وكفروا به، وأنهم سوف يعلمون عاقبة عنادهم وما سيحل يهم من نقمتنا وعذابنا. ونحو الآية قوله: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» . ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الأكيد، والتهديد الشديد، على كفرهم بربهم، وتكذيبهم برسوله صلّى الله عليه وسلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)

تفسير المفردات

تفسير المفردات كلمتنا: وعدنا، المنصورون: أي الغالبون في الحرب وغيرها، جندنا: أي أتباع رسلنا، والساحة: المكان الواسع. المعنى الجملي لما هدد سبحانه المشركين بقوله: فسوف يعلمون- أردفه ما يقوى قلب رسوله صلى الله عليه وسلم بوعده بالنصر والتأييد، كما جاء في آية أخرى «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» . الإيضاح (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي ولقد سبق وعدنا أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، فننصرهم على أعدائهم بقهرهم والنيل منهم، بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن الأوطان أو أسرهم أو نحو ذلك. ونحو الآية قوله: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» . (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي وأعرض عنهم، واصبر على أذاهم، وانتظر مدة قليلة، وسنجعل لك العاقبة والنّصرة والتأييد. (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وانظر وارتقب ما يحل بهم من العذاب والنكال. بمخالفتك وتكذيبك، وسوف يبصرون انتشار دينك وإقبال الناس عليه أفواجا، زرافات ووحدانا مصداقا لوعده بقوله: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً»

ثم وبخهم على استعجالهم العذاب حين قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجّله لنا فنزل. (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) قبل حلوله؟ وهم إنما فعلوا ذلك لتكذيبهم به، وكفرهم بك والله منزله عليهم لا محالة. (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فإذا نزل العذاب بمحلّتهم فبئس اليوم يومهم لهلاكهم ودمارهم، وفي الصحيحين عن أنس قال: «صبّح رسول الله خيبر فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس- الجيش-، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الله أكبر، خربت خيبر، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» رواه البخاري. قال صاحب الكشاف: مثّل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه، بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصاحهم، فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبّروا أمرهم تدبيرا يبجيهم، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم اهـ ثم أكد ما سبق من وقوع الميعاد غبّ توكيد مع ما فيه من تسلية لرسوله إثر تسلية فقال: (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين وخلّهم وفريتهم على ربهم إلى أن يأذن بهلاكهم، وانظر إليهم، فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا حين لا تنفعهم التوبة. ثم ختم سبحانه السورة بخاتمة شريفة جامعة لتنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به مع وصف نفسه بصفات الكمال ومدحه للرسل الكرام فقال: (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي تنزيها لربك أيها الرسول رب القوة والغلبة عما يصفه به هؤلاء المفترون من مشركى قريش من نحو قولهم: ولد الله. وقولهم: الملائكة بنات الله. وأمنة

مجمل ماحوته السورة من موضوعات

من الله للمرسلين الذين أرسلهم إلى أممهم- من العذاب الأكبر ومن أن ينالهم مكروه من قبله تعالى، والحمد لله رب الثقلين الجن والإنس خالصا له دون سواه، لأن كل نعمة لعباده فهى منه. وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يغفلوا عنه. روى البغوي عن على كرم الله وجهه أنه قال: «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله ربّ العالمين» . وعن أبى سعيد الخدري قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . مجمل ماحوته السورة من موضوعات (1) التوحيد ودليله في الآفاق والأنفس. (2) خلق السموات والأرض ووصفه سبحانه لذلك. (3) إنكار المشركين للبعث وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار وهم يطلعون عليهم. (4) وصف الجنة ونعيمها. (5) قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وإسماعيل. (6) دفع فرية قالها المشركون وتوبيخهم عليها إذ قالوا: الملائكة بنات الله. (7) تنزيه الله عن ذلك. (8) بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوى الأحلام الضعيفة المستعدة للاضلال (9) وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون. (10) مدح المرسلين وسلام الله عليهم. (11) حمد الله وثناؤه على نفسه بأنه رب العزة ورب الخلق أجمعين.

سورة ص

سورة ص هى مكية، نزلت بعد سورة القمر، وعدة آيها ثمان وثمانون ومناسبتها لما قبلها أنها جاءت كالمتممة لها من وجهين: (1) إنه ذكر فيها من قصص الأنبياء ما لم يذكر في تلك كداود وسليمان. (2) إنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار أنهم قالوا: لو أن عندنا ذكرا من الأولين. لكنا عباد الله المخلصين. وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم- بدأ عز اسمه هذه السورة بالقرآن ذى الذكر وفصّل ما أجمله هناك من كفرهم. [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الذكر: الشرف كما قال «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» الذين كفروا هم رؤساء قريش، فى عزة: أي في استكبار عن اتباع الحق ومتابعة غيرهم فيه والعزة أيضا الغلبة والقهر كما قالوا في أمثالهم: من «عزّ بزّ» أي: من غلب سلب، شقاق: أي مخالفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من قولهم: فلان في شقّ غير شق صاحبه، فنادوا: أي استغاثوا، لات: أي ليس الحين، مناص: أي فرار وهرب، عجاب: أي بالغ في العجب نحو قولهم طويل وطوال أي إنه من نوائب الدهر فلا حيلة لنا إلا الصبر عليه، الملة: الآخرة: هى ملة النصارى، اختلاق: أي كذب وافتراء، فليرتقوا: أي فليصعدوا، فى الأسباب: أي في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى الاستيلاء على العرش، قاله مجاهد وقتادة. ومنه قول زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلّم جند ما: أي جند كثير عظيم كقولهم «لأمر ما جدع قصير أنفه» ، مهزوم: أي مغلوب، الأحزاب: أي المجتمعين لإيذاء محمد وكسر شوكته وإبطال دينه. الإيضاح (ص) تقدم الكلام في مثل هذا مرارا وقلنا إن هذه حروف يراد بها تنبيه المخاطب للاصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته نحو ألا، ويا، وينطق بأسمائها فيقال (صاد) بالسكون. (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي أقسم بالقرآن ذى الشرف والرفعة إنه لمعجز، وإن محمدا لصادق فيما يدّعيه من النبوة، وإنه مرسل من ربه إلى الأسود والأحمر، وإن كتابه لمنزل من عنده: ثم بين السبب الحقيقي في كفرهم فقال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي إنهم ما كفروا به لأنهم لم يجدوا فيه

ما يصلح حالهم في دينهم ولا دنياهم، بل كذبوا به لاستكبارهم عن اتباع الحق ومشاقتهم لرسوله صلّى الله عليه وسلم وحرصهم على مخالفته. ثم حذرهم وخوّفهم ما أهلك به الأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم فقال: (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي وكثير من الأمم قبلهم أهلكناهم فاستغاثوا حين حل بهم العذاب، فلم يغن ذلك عنهم شيئا، فقد فات الأوان وحل البأس، فليس الوقت وقت فرار وهرب من العقاب. ونحو الآية قوله: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» وقوله «حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ» وقوله «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» . (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي وما كان أشد تعجبهم حين جاءهم بشر مثلهم يدّعى النبوة ويدعو إلى الله وليس له من الصفات الباطنة والظاهرة في زعمهم ما يجعله يمتاز عنهم ويختص بهذا المنصب وتلك المنزلة الرفيعة، ومن ثم قالوا ما هو إلا خدّاع كذاب فيما ينسبه إلى الله من الأوامر والنواهي، ثم ذكر شبهتهم فى إثبات كذبه من وجوه ثلاثة: (1) (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي أزعم أن المعبود إله واحد لا إله إلا هو؟ وقد أنكروا ذلك وتعجبوا من ترك الشرك بالله، من أجل أنهم تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم إلى محو ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا منه وقالوا إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين ويكون محمد وحده محقّا صادقا- ولا شك أن هذا استبعاد فحسب، ولا مستند له من عقل ولا نقل. ونحو الآية قوله «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ

النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» . روى ابن جرير عن ابن عباس قال: «لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث أبو طالب إليه فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبى طالب قدر مجلس رجل واحد، قال فخشى أبو جهل إن جلس إلى جنب أبى طالب أن يكون أرقّ عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخى ما لقومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله فقال يا عم: إنى أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية، ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم ما هى وأبيك، لنعطينّكها وعشرا، قال صلّى الله عليه وسلم (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) فقاموا فزعين ينفضون أثوابهم ويقولون: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» فنزل من هذا الموضع إلى قوله: «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ» . (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبى طالب بعد ما بكّتهم رسول الله وشاهدوا تصلبه في الدين، ويئسوا مما كانوا يرجون منه بوساطة عمه، يتحاورون بما جرى ويقلّبون وجوه الرأى فيما يفعلون، ويقولون: اثبتوا على عبادتها محتملين القدح فيها والغضّ من شأنها والاستهزاء بأمرها. ثم عللوا الأمر بالصبر بما شاهدوه من تصلبه عليه السلام فقالوا: (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي إن هذا لأمر عظيم يريد محمد إمضاءه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان،

أو يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم، واصبروا على عبادة آلهتكم. ثم ذكروا أيضا ما ظنوا أن فيه إبطالا لدعواه فقالوا: (2) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة وهى ملة النصارى، فإنهم يقولون بالتثليث ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه، وإنما خصوا النصرانية لأنها آخر الأديان المعروفة لديهم من أديان أهل الكتاب. ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم. (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي ما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له، وليس له مستند من دين سماوى ولا من عقل فيما يزعمون. ثم أخذوا ينكرون اختصاص محمد صلّى الله عليه وسلم بالوحى وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرياسة فيما يزعمون فقالوا: (3) (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) أي إنه من البعيد أن يختص محمد من بيننا بإنزال القرآن عليه وفينا ذو الجاه والشرف، والرياسة والكياسة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ثم نعى عليهم تعرّضهم لهذا التفضيل وإعطاء النبوة لمن يريدون فقال: «أهم يقسمون رحمة ربّك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات» فهذا منهم دليل على الجهل وقلة العظة. ثم ذكر أن سبب الاستبعاد هو الشك في أمر القرآن وميلهم إلى التقليد فقال: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي بل هم في شك من تلك الدلائل التي لو تأملوا فيها لزال هذا الشك عنهم، إذ هى دالة بأنفسها على صحة نبوته، ولكنهم حين تركوا النظر والاستدلال لم يصلوا إلى الحق في أمره.

ثم ذكر أن سبب هذا الشك هو الحسد لمجىء النبوة إليه من بينهم وسيزول حين مجىء العذاب فقال: (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي إنهم لما يذوقوا عذابى بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك. والخلاصة- إنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا حينئذ إلى التصديق بذكرى. ثم أنكر عليهم استبعاد نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وطلبهم نبوة غيره من صناديد قريش فقال: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي بل أيملكون خزائن رحمة الله القهار لخلقه، الكثير المواهب لهم، المصيب بها مواقعها- فيتصرفوا فيها بحسب ما يريدون، ويمنحوها من يشاءون، ويصرفوها عمن لا يحبون، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم؟ والخلاصة- إن أمر النبوة ليس بأيديهم بل بيد العليم بكل شىء «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» . ونحو الآية قوله: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» . ثم ارتقى إلى ما هو أشد في الإنكار، فأمرهم أمر تهكم بارتقاء الأسباب فقال: (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجرام السفلية حتى يتكلموا في الشئون الغيبية ويفكروا فى التدابير الإلهية التي يستأنر بها رب العزة والكبرياء؟ فإن كان الأمر كما يزعمون فليصعدوا في المعارج ويتوصلوا إلى السموات، وليدبروا شئونها حتى يظن صدق دعواهم، إذ لا سبيل إلى التصرف فيها إلا بذلك. والخلاصة- إنه ليس لهم شىء من ذلك، فلا سبيل لهم إلى توزيع رحمة الله

[سورة ص (38) : الآيات 12 إلى 15]

بحسب ما يريدون، وإعطاء النبوة لمن يشاءون، فذلك من شئونه تعالى فهو الذي يفضل من يشاء من عباده على من يشاء. ثم وعد سبحانه نبيه بالنصر والغلبة عليهم فقال: (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي هؤلاء الذين يقولون هذه المقالة، ويوزعون رحمة ربك بحسب أهوائهم- جند كثير من الكفار المتحزبين على المؤمنين- مغلوبون في الوقائع التي ستكون بينك وبينهم، وستنتصر عليهم كما حدث في بدر وغيرها، فأنى لهم تدبير الأمور الغيبية، والتصرف في الخزائن الربانية؟. وهذا خبر من الله لنبيه وهو بمكة ولم يكن له يومئذ جند- أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويله يوم بدر وغيره من المواقع- وهذا من أعظم المعجزات وأدل الدلائل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق كتابه وأنه من عند الله لا من عند البشر. [سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) المعنى الجملي لما ذكر سبحانه أنهم إنما توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال لأنهم لم ينزل بهم العذاب- بين في هذه الآيات أن أقوام الأنبياء الماضين كانوا كذلك حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزئون. وفي هذا تخويف لأولئك الكافرين الذين كذبوا الرسول صلّى الله عليه وسلم.

الإيضاح

الإيضاح ذكر سبحانه في هذه الآيات ستة أقوام من الذين كذبوا رسلهم وما آل إليه أمرهم لتكون ذكرى لأولئك المكذبين من قومه، فيرعووا عن غيّهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال: (1) (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قوم نوح رسولهم وقالوا إنه مجنون وهزءوا به، وكلما ألحف في الدعوة زادوا عتوا وعنادا، فدعا ربه وقال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» ولما أصروا على تكذيبهم وعنادهم أخذهم الطوفان وهم ظالمون، ونجّى الله نوحا ومن آمن معه كما قال: «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ» . (2) (وَعادٌ) وهم قوم هود وقد كذبوه فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية كما قال فى سورة الحاقة: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» . (3) (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) وقد بعث الله إليه موسى وأيده بآياته التسع فأصرّ على الجحود والعناد وبغى وتجبر وقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ونجّى موسى وقومه بنى إسرائيل كما قال في سورة يونس: «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» . وقوله ذو الأوتاد: أي ذو الملك الثابت، وأصله للبيت المطنب بأوتاد وهو لا يثبت بدونها، ثم استعمل في إثبات العز والملك كما قال الأسود بن يعفر: ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... فى ظل ملك ثابت الأوتاد (4) (وَثَمُودُ) وقد جاء ذكرهم في عدة سور أرسل الله إليهم صالحا وكانت الناقة له آية فكذبوه فعقروها فأرسل عليهم صاعقة فأهلكتهم وجعلتهم كهشيم المحتظر كما جاء في سورة القمر: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ- إلى أن قال- إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ» . (5) (وَقَوْمُ لُوطٍ) وقد سبق ذكر قصصهم في عدة سور من الكتاب الكريم وذكر ما حل بهم من العذاب، فمنها قوله في سورة القمر: «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ» . (6) (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الأيكة: الشجر الملتف بعضه على بعض وأصحابها هم قوم شعيب، وقد ذكر الله قصصهم في كثير من السور، فمنها ما جاء في سورة الحجر: «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» . (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي هؤلاء الذين تحزبوا على الرسل، وهم كالأحزاب الذين تحزبوا عليك. ثم بين سبب انهزامهم وعقابهم فقال: (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) أي إن كل هذه الأمم الخالية والقرون الغابرة، وقد كانوا أشد منهم قوة كذبوا أنبياءهم فحل بهم العذاب، فكيف بهؤلاء الضعفاء إذا نزل بهم ما لا قبل لهم به من عذابى؟.

[سورة ص (38) : الآيات 16 إلى 18]

ثم بين عقاب كفار قريش إثر بيان عقاب أضرابهم فقال: (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) ينظر أي ينتظر كقوله تعالى: «انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ» وهؤلاء أي كفار مكة، والفواق: الزمن الذي بين الحلبتين، والصيحة: النفخة الثانية التي بها تقوم الساعة أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تلك النفخة- بلا توقف مقدار فواق. والخلاصة- إذا حل هذا الميقات لا يتأخرون عنه أبدا. [سورة ص (38) : الآيات 16 الى 18] وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) تفسير المفردات القط: النصيب والحظ والكتاب بالجوائز والجمع القطوط، قال الأعشى يمدح النعمان بن المنذر: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطى القطوط ويأفق ويأفق: أي يصلح. المعنى الجملي تقدم أن قلنا إن القوم إنما تعجبوا لشبهات تتعلق بالتوحيد والنبوات والمعاد، فأشاروا إلى الأولى بقولهم: أجعل الآلهة إلها واحدا، وإلى الثانية بقولهم: أأنزل عليه الذّكر من بيننا، وهنا أشار إلى الثالثة بقوله: وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا سخرية وتهكما حين سمعوا بالمعاد، وأن هناك دارا أخرى يحاسبون فيها ويجازون على ما يعلمون، ثم أمر رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى كل ما يقولون في شأنه من أنه شاعر وأنه مفتر كذاب.

الإيضاح

الإيضاح (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) أي وقالوا استهزاء وسخرية حين سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة- ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به ولا تؤخره لى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة. وقائل ذلك على ما روى عن عطاء النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال فيه الله تعالى: «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» أو أبو جهل على ما روى عن قتادة، ورضى بهذه المقالة الباقون، ومن ثم أسندها إليهم جميعا. ولما بلغ الكفار في السفاهة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغاية، إذ قالوا إنه ساحر كذاب، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا- أمره سبحانه بالصبر على سفاهتهم فقال: (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي اصبر على ما يقوله مشركو قومك لك مما تكره، فإنا ممتحنوك بالمكاره كما امتحنا سائر من أرسلنا من قبلك، ثم جاعلو الظفر لك على من كذبك وشاقّك، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا من قبلك. قصص داود عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 18 الى 20] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) تفسير المفردات الأيد والآد: القوة في العبادة وكان يصوم يوما ويفطر يوما، أوّاب: أي رجاع إلى الله وإلى طاعته من قولهم آب. إذا رجع، قال عبيد بن الأبرص:

المعنى الجملي

وكلّ ذى غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب والإشراق: أي وقت الإشراق، يقال أشرقت الشمس: أضاءت، وشرقت: طلعت، محشورة: أي محبوسة في الهواء، أواب: أي منقاد يسبح تبعا له، شددنا ملكه: أي قويناه بالهيبة والنصر، والحكمة: هى إصابة الصواب في القول والعمل، الفصل: الحاجز بين الشيئين، وفصل الخطاب: الكلام الذي يفصل بين الحق والباطل. المعنى الجملي بعد أن أمر الله رسوله بالصبر على أذى المشركين- أردف ذلك ذكر قصص بعض الأنبياء الذين حدث لهم من المشاقّ والأذى مثل ما حدث له فصبروا حتى فرّج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم- ترغيبا له في الصبر وإيذانا ببلوغه ما يريد كما كان ذلك عاقبة من قبله. الإيضاح (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي واذكر لقومك قصة عبدنا داود ذى القوة في الطاعة والفقه في الدين، فقد كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر وورد في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى، وإنه كان أوّابا» أي رجاعا إلى الله تعالى في جميع شئونه، فكان كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر الله، قال النبي صلّى الله عليه وسلم «إنى لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» . وأخرج البخاري في تاريخه عن أبى الدرداء قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا ذكر داود وحدّث عنه قال: كان أعبد البشر» .

وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا ينبغى لأحد أن يقول إنى أعبد من داود» . ثم عدد سبحانه نعمه عليه فقال: (1) (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه حين إشراق الشمس وآخر النهار، وتسبيحها معه تقديسها لله بحال تليق بها، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر يدل على اختصاصهما بمزيد شرف العبادة فيهما، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات. (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي وسخرنا له الطير حال كونها محبوسة في الهواء تسبح بتسبيحه، فإذا مر به الطير وهو سابح في الهواء وسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف ويسبح معه. وفي هذا إيماء إلى ما لداود من حسن الترتيل والصوت المتقبّل الذي يعجب به الحيوان الأعجم، فما بالك بالإنسان؟ ثم أكد ما سلف من تسخيرها له فقال: (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل من الجبال والطير مطيع مرجاع إلى أمره يسبح تبعا له (2) (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوينا ملكه بكثرة الجند وبسطة الثراء والهيبة ونفوذ الكلمة والنصر على الأعداء (3) (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي وأعطيناه العلم الكامل، والإتقان للعمل، فهو لا يقدم على عمل إلا إذا عرف موارده ومصادره، مباديه وغاياته على نحو ما قال الشاعر: قدّم لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقا عن غرّة زلجا (4) (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي وألهمناه حسن الفصل في الخصومات بما يستبين به وجه الحق بلا جنف ولا ميل مع الهوى، وهذا يحتاج إلى فضل كبير في العلم، ومزيد فى الحلم، وتفهم أحوال الخصوم، ورباطة الجأش، وعظيم الصبر، والذكي لذى لا يتوافر لكثير من الناس.

[سورة ص (38) : الآيات 21 إلى 25]

قضية من قضاياه التي حكم فيها [سورة ص (38) : الآيات 21 الى 25] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) تفسير المفردات هل: هنا كلمة يراد منها التعجيب والتشويق إلى سماع ما يرد بعدها، والخصم: جماعة المخاصمين ويستعمل للمفرد والجمع مذكرا ومؤنثا قال الشاعر: وخصم عضاب ينفضون لحاهم ... كنفض البرازين العراب المخاليا وتسوروا: أي أتوه من أعلى السور ودخلوا إلى المنزل، والمحراب: الغرفة التي كان يتعبد فيها ويشتغل بطاعة ربه، والفزع: انقباض ونفار يعترى الإنسان من شىء مخيف، بغى: أي جار وظلم، ولا تشطط: أي لا تبعد عن الحق ولا تجر في الحكومة، سواء الصراط: أي وسط الطريق، والنعجة أنثى الضأن ويكنى بها عن المرأة كما قال عنترة:

المعنى الجملي

يا شاة ما قنص لمن حلّت له ... حرمت علىّ وليتها لم تحرم فبعث جاريتى فقلت لها اذهبي ... فتحسّسى أخبارها لى واعلم قالت رأيت من الأعادى غرّة ... والشاة ممكنة لمن هو مرتمى أكفلنيها: أي ملكنيها، وأصل ذلك اجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدى، وعزّنى: أي غلبنى، وفي المثل: من عزّ بزّ أي من غلب سلب، وقال الشاعر: قطاة عزّها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح فى الخطاب: أي في مخاطبته إياى ومحاجته، إذ قد أتى بحجاج لم أستطع رده، والخلطاء: هم المعارف أو الأعوان ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج: واحدهم خليط، فتنّاه: أي ابتليناه، خر: أي سقط، راكعا: أي ساجدا وقد يعبر بالركوع عن السجود، قال الشاعر: فخرّ على وجهه راكعا ... وتاب إلى الله من كل ذنب وأناب: أي رجع إلى ربه، والزلفى: القرب من الله، والمآب: المرجع. المعنى الجملي بعد أن مدح سبحانه داود وأثنى عليه بما سلف- أردف ذلك ذكر نبأ عجيب من أنبائه، مشوّقا إليه السامع، ومعجّبا له. الإيضاح (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي هل علمت ذلك النبأ العجيب، نبأ الجماعة الذين تسلّقوا سور غرفة داود ودخلوا عليه وهو مشتغل بعبادة ربه في غير وقت جلوسه للحكم، وحين رآهم

فزع منهم ظنا منه أنهم جاءوا لا غتيا له، إذ كان منفردا في محرابه للعبادة، فقالوا له: لا تخف منا، نحن اثنان جار بعضنا على بعض فاحكم بيننا حكما عادلا ولا تجر واهدنا إلى الطريق السوىّ، ولا تشطط في الحكومة. ثم فصّلوا موضع الخصومة فقالوا: (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي إن أخى هذا يملك تسعا وتسعين شاة وأملك شاة واحدة، فقال ملكنيها وغلبنى في المحاجة، فجاء بحجج لم أطق لها ردّا ولا دفعا. ثم ذكر سبحانه حكم داود في الواقعة فقال: (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أي قال داود بعد أن أقرّ المدعى عليه بما قال المدّعى: لقد ظلمك بطلبه منك إضافة نعجتك إلى نعاجه. ثم استطرد إلى بيان أن الظلم من شيمة الإنسان فقال: (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وإن كثيرا ممن يتعاملون معا يجور بعضهم على بعض حين التعامل كما قال المتنبي: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم إلا من يخافون ربهم ويؤمنون به ويعملون صالح الأعمال، فإن نفوسهم تعزف عن الظلم، وترعوى خشية من خالقها، وما أقل هؤلاء عددا، وأندرهم وجودا كما قال: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» . ثم ذكر أن داود كان قد ظن أنهما قد جاءا للاغتيال ثم تبين له غير ما كان قد ظن فقال: (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي وظن داود أن دخولهما عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى لأجل أن يغتالوه،

فلم يقع ما كان قد ظنه فاستغفر ربه من ذلك الظن إذ لم يقع ما كان قد ظنه فخرّ ساجدا ورجع إلى ربه طالبا منه المغفرة لما فرط منه. ثم بين أنه أجاب طلبه وغفر له إنه كان غفورا رحيما فقال: (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي فغفرنا له ما وقع منه من ذلك الظن، وإنه لمن المقر بين لدينا وله حسن المرجع وهو النعيم في الجنة. هذا خلاصة مارآه أبو حيان في البحر في تفسير هذا القصص، وهو حسن. بيد أنا نرى أن ظن داود في الخصمين وقد دخلا عليه في مثل هذا الوقت ومن غير الباب لإرادة الاغتيال- ظن له ما يؤيده من الدلائل وشواهد الحال، فلا يمكن أن يكون إثما حتى يطلب من ربه المغفرة عليه- إلى أن هذه الخصومة التي ترافعا إليه فيها وطلبا منه الحكومة- ليست من معضلات المشاكل التي يحتاج فيها إلى حكم داود، إلى أنه قد كان لهما مندوحة منها بأن ينتظرا إلى اليوم التالي حتى يجلس للقضاء ولا يضيع عليهما حق إذا هما تأخرا يوما آخر، لأن هذه الواقعة إن كانت على الوضع الذي قالاه، فليس فيها ما يدعو إلى المبادرة والتقاضي فى غير موعد القضاء والوصول إلى القاضي على تلك الحال المريبة- فلا بد أنهما قد كانا يريدان غرضا آخر أخفياه غير ما كان قد ظهر منهما، ذلك الغرض هو إرادة الاغتيال، وما منعهما من تنفيذه إلا يقظة الحراس والخدم والحشم وإحاطته بهما، فاخترعا سببا لمجيئهما إليه وهو مجيئها للاستفتاء فيما خفى عليهما، ولأجله تسوّرا المحراب، ومما يرشد إلى هذه النية المبيّتة نية الاغتيال أنّ تهجّم الناس على البيوت للتقاضى ليس بالمألوف ولا المعروف في أي عصر، إلى أن هذه الفتوى لا تحتاج إلى مثل داود، فهى فتوى جاءت بنت ساعتها لم يفكرا فيها من قبل، والذي ألجأهما إليها يقظة الحرس وظنهما أنهما هالكان لا محالة إذا لم يذكرا سببا يسوّغ لهما دخول القصر في ذلك الحين، ومما يؤيد هذا أن اغتيال الأنبياء كان معروفا في بنى إسرائيل فقد قتلوا أشعيا وزكريا كما يرشد إلى ذلك قوله: «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ»

[سورة ص (38) : آية 26]

وحين علم داود غرضهما وتظاهرت عليه الأدلة همّ أن ينتقم منهما ويجازى السيئة بمثلها «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ولكنه رأى أن مقام النبوة أمثل به الصفح والعفو كما قال: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ومن ثم استغفر ربه لما كان قد عزم عليه من الانتقام تأديبا لهما ولأمثالهما. وما جاء في بعض كتب التفسير من أن المراد بالنعاج النساء كما جاء كناية عن ذلك فى كلام العرب كما قال ... كنعاج الفلا تعسّفن رملا فذلك يتوقف على أن كلمة (نعجة) فى اللغة العبرية تستعمل كناية عن المرأة كما هى في العربية، وتأباه كلمة (الْخُلَطاءِ) وكذلك ما يقال من أن الخصمين كانا ملكين فإن (تَسَوَّرُوا) تأباه لأن الملائكة أجسام نورانية لا أجسام كثيفة فلا حاجة إلى التسوّر، إلى أنّ ما جاء من القصص عن ذكر السبب في مجىء الملكين مما يخلّ بمنصب النبوة، وفيه نسبة الكبائر إلى الأنبياء، فيجب علينا أن نطرحه إذ يبطل الوثوق بالشرائع- إلى ما فيه من مطعن لأرباب الأديان الأخرى على المسلمين، إذ نسبوا إلى الأنبياء ما يجلّ مقامهم عنه، ويأباه عامة الناس فضلا عن الأنبياء الذين اصطفاهم الله لرسالاته، ومن ثم أثر عن علىّ رضى الله عنه أنه قال: من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستين. [سورة ص (38) : آية 26] يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) المعنى الجملي بعد أن قص سبحانه علينا قصص داود والخصمين- أردف ذلك بيان أنه فوض إلى داود خلافة الأرض وأوصاه بالحكم بين الناس بالحق وعدم اتباع الهوى حتى لا يضل

الإيضاح

عن سبيل الله، ثم ذكر أن من ضل عن سبيله فله شديد العذاب وسوء المنقلب، إذ قد نسى يوم الحساب والجزاء. الإيضاح (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي يا داود إنا استخلفناك في الأرض، وجعلناك نافذ الحكم بين الرعية، لك الملك والسلطان، وعليهم السمع والطاعة، لا يخالفون لك أمرا، ولا يقيمون في وجهك عصا. ثم ذكر ما يستتبع ذلك فقال: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) المنزل من عندى، والذي شرعته لعبادى لما فيه من المصلحة لهم في الدنيا والآخرة. ثم أكد ما سلف بالنهى عن ضده فقال: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) فى الحكومة وغيرها من أمور الدين والدنيا. وفي هذا إرشاد لما يقتضيه منصب النبوة، وتنبيه لمن هو دونه لسلوك هذا الطريق القويم. ثم بين سوء عاقبة ذلك فقال: (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فيكون اتباعك للهوى سببا في الضلال عن الدلائل التي نصبت، والأعلام التي وضعت، للارشاد إلى سبل السلام، بإصلاح حال المجتمع فى دينه ودنياه، وتهذيبه حتى يسلك طريق الحق بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس. ثم بين غائلة الضلال ووخامة عاقبته فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي إن الذين يتركون الحق ويضلون عن سبيل معالمه- لهم من الله العذاب الشديد

[سورة ص (38) : الآيات 27 إلى 29]

يوم الحساب لنسيانهم ما في ذلك اليوم من الأهوال، وأن الله سيحاسب كل نفس بما كسبت، فمن دسّى نفسه وسلك بها سبيل المعاصي فقد حق عليه العذاب الذي كتبه على العاصين جزاء وفاقا على أعمالهم التي كسبوها بأيديهم. [سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) تفسير المفردات باطلا: أي عبثا ولعبا، ويل: أي هلاك، مبارك: أي كثير المنافع الدينية والدنيوية، ليدبروا: أي ليتفكروا، ليتذكر: أي ليتعظ، الألباب: واحدها لبّ، وهو العقل، وقد يجمع على ألبّ ويفك إدغامه في ضرورة الشعر، قال الكميت: إليكم ذوى آل النبىّ تطلّعت ... نوازع من قلبى ظماء وألبب المعنى الجملي بعد أن ذكر أن الذين يضلون عن سبيل الله لهم العذاب الشديد يوم الحساب لظنهم أنه ليس بكائن- أعقب هذا ببيان أن هذا اليوم آت لا ريب فيه، لأنه سبحانه لم يخلق الخلق عبثا، بل خلقهم لعبادته وتوحيده، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيعين، ويعذب الكافرين، ثم أردف ذلك ببيان فضل القرآن الذي أنزله على رسوله هاديا للناس، ومنقذا لهم من الضلالة إلى الهدى، فإذا هم تدبروا آياته، واتعظوا بعظاتها، سعدوا في الدارين، وبلغوا السماكين، وكانوا سادة العالم أجمع.

الإيضاح

الإيضاح (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا) أي وما أوجدنا السماء وما فيها من زينة ومنافع للناس، والأرض وما فيها من فوائد في ظاهرها وباطنها لهم، وما بينهما مما يعلمون ومما لا يعلمون- لهوا ولعبا، بل خلقناها مشتملة على حكم باهرة، وأسرار بالغة، ومصالح جمة، فقد خلقناها للعمل فيها بطاعتنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، فإنا لن نترك الناس سدى، بل سنعيدهم بعد موتهم إلى حياة أخرى يحاسبون فيها على النقير والقطمير والقليل والكثير، ثم يلقون الجزاء على ما كسبت أيديهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ونحو الآية قوله: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» . ثم بين أن هذا الظن الفاسد قد ظنه الذين كفروا بالله وجحدوا آياته فقال: (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن الذين كفروا بالله وآياته التي نصبها في الأنفس والآفاق، ولم يتدبروا حق التدبر في خلق هذا الكون البديع الدالّ على قدرة خالقه وعظيم تصرفه- أنكروا الحكمة في خلقه، وأنه إنما وجد ليكون دليلا على وجود خالقه، وبرهانا على وحدانيته كما ورد في الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيّا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى» . ونحو الآية قوله: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» ثم بين أن لهم سوء المنقلب، على بطلان ما اعتقدوا، وقبيح ما فعلوا فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي فياويل الكافرين من النار التي أعدت لهم مستقرا ومقاما، جزاء لهم على ما اجترحوا من الشرك بربهم وخالقهم، وكفرانهم بنعمه التي أنعم بها عليهم، وإنكارهم لليوم الذي تجازى فيه كل نفس بما قدمت من صالح العمل وسيئه «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»

ثم بين أن مقتضى عدله وحكمته ألا يساوى بين الذين أحسنوا بالحسنى، والذين اجترحوا السيئات، ودسّوا أنفسهم بكبير الآثام والذنوب فقال: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي بل أنجعل من آمنوا بربهم واعتقدوا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ملكه، وأصلحوا أعمالهم فأدّوا ما يجب للخلق والخالق وائتمروا بما أمر به ربهم على لسان أنبيائه وانتهوا عما نهوا عنه، فلم يدسّوا أنفسهم بفعل شىء من كبائر الآثام خوفا من يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ولا تقبل الشفاعة ولا الفداء من أحد «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» . «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» كمن كفروا به وعاثوا في الأرض فسادا، وهاموا فيها على وجوههم، لا دين يمنعهم، ولا زاجر يردعهم، إذ هم ينكرون الجزاء والحساب والإعادة بعد الموتة الأولى ويقولون: ما هى إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر، فأنى لمثل هؤلاء أن يرعووا عن غىّ، أو يكفّوا عن معصية؟ بل هم جهد استطاعتهم يحصلون على اللذات، ويجترحون السيئات، بما وسوس إليهم به الشيطان، أن لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار، فما هذه إلا أساطير الأولين، وخزعبلات الموسوسين المتزمّتين. وإذا كان هذا حقا واقتضته الحكمة وأوجبته العدالة، فلا بد من دار أخرى يجازى فيها المطيع، ويثاب على ما عمل، ويعاقب فيها العاصي على ما دنّس به نفسه من شرك بربه، واجتراح للاثم والعصيان ومخالفة أمر الواحد الديان. والعقول السليمة، والفطر الصحيحة ترشد إلى هذا وتؤيده، وتدل عليه وتثبته، فإنا نرى الظالم الباغي قد يزداد في دنياه مالا وولدا، ويتمتع بصنوف اللذات، من الدور

والقصور، والفراش الوثير، والسكن في الجنات، ويركب فاره الخيول المطهّمة والمراكب الفاخرة، ويشار إليه بالبنان، بينا نرى المطيع لربه، المظلوم من بنى جنسه قد يعيش عيش الكفاف، ولا يجد ما يقيم به أوده، ويسدّ به مخمصته، أفيكون من حكمة الحكيم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يترك الناس سدى يفعلون ما شاءوا بلا حساب ولا عقاب، أو ينتصف للمظلوم من الظالم ويرجع الحق إلى صاحبه؟ وربما لا يحصل هذا في الدنيا، فلا بد من دار أخرى يكون فيها العدل والإنصاف، والكيل بالقسط والميزان، وتلك هى الدار التي وعد بها الرّحمن، على ألسنة رسله الكرام، صدق ربنا، وإن وعده الحق، وإن هذا اليوم آت لا شك فيه، لتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم. أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه قال: الذين آمنوا علىّ وحمزة وعبيدة ابن الحارث رضى الله عنهم، والمفسدون في الأرض عتبة والوليد بن عتبة وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر. ولما كان القرآن هو الذي يرشد إلى مثل هذه المقاصد الشريفة، والمآخذ العقلية الصحيحة قال: (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أنزلنا إليك هذا الكتاب النافع للناس، المرشد لهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، فى دينهم ودنياهم، الجامع لوجوه المصالح، ليتدبرها أولو الحجا الذين قد أنار الله بصائرهم، فاهتدوا بهديه، وسلكوا في أعمالهم ما أرشد إليه، وتذكروا مواعظه وزواجره، واعتبروا بمن قبلهم فارعووا عن مخالفته، حتى لا يحل بهم مثل ما حل بالغابرين، ويستأصلهم كما استأصل السابقين، ممن بغوا في الأرض فسادا. وما تدبّره بحسن تلاوته وجودة ترتيله، بل بالعمل بما فيه، واتباع أوامره ونواهيه، ومن ثمّ قال الحسن البصري: قد قرأ القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، حفظوا

[سورة ص (38) : الآيات 30 إلى 33]

حروفه، وضيعوا حدوده حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، لا أكثر الله في الناس من مثل هؤلاء. قصص سليمان عليه السلام حين عرض الصافنات الجياد [سورة ص (38) : الآيات 30 الى 33] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) تفسير المفردات الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها كما قال: ألف الصّفون فما يزال كأنّه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا وقال النابغة: لنا قبّة مضروبة بفنائها ... عتاق المهارى والجياد الصوافن والجياد: واحدها جواد، وهو السريع العدو، كما أن الجواد من الناس السريع البذل قاله المبرد، والخير هنا: الخيل: توارت: أي غيبت عن البصر، طفق: شرع، المسح إمرار اليد على الجسم.

الإيضاح

الإيضاح (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) أي وآتينا داود ابنا يسمى سليمان. ونحو الآية قوله: «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» . ثم مدحه سبحانه وأثنى عليه فقال: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي ما أحقه بالمدح والثناء! لأنه كان كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى ربه في أكثر الأوقات، وفي كثير من المهمات، اعتقادا منه بأن كل شىء من الخير لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه. ثم ذكر حالا من أحواله التي تستحق الإطراء والثناء فقال: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) أي امدحه حين عرضت عليه الجياد الصافنات من العصر حتى آخر النهار، لينظر إليها ويتعرف أحوالها، ومقدار صلاحيتها للقيام بالمهامّ التي توكل إليها حين الغزو وغيره. وقد وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين وصفين ممدوحين واقفة وجارية، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها، وقيل وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن، بل يكون في العراب الخلّص. (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) قد يحب الإنسان شيئا وهو يتمنى ألا يحبه، كالمريض الذي يشتهى ما يزيد مرضه، والوالد الذي يحب ولده السيّء السيرة والخلق، وقد يحب شيئا وهو يرى أن من المصلحة أن يحبه، ومن الخير أن يزداد شغفه به، وتلك هى غاية المحبة، فسليمان عليه السلام يقول: إنى أحب حبى لهذه الخيل، وتلك المحبة إنما حصلت عن ذكر ربى وأمره لا عن الشهوة والهوى. (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي حتى غابت عنى بسبب العثير المتطاير من سنابكها كما قال المتنبي: أثارت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا

[سورة ص (38) : الآيات 34 إلى 40]

فالمراد أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة «إنّى أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّى» وما زال يرددها حتى غابت عن عينيه بسبب الغبار من جهة، ولبعد المسافة من جهة أخرى. وبعد أن اطمأن إلى حالها، وحمد جميل أمرها قال: (رُدُّوها عَلَيَّ) فقد كفى ما قامت به من حضر دلت به على نجابتها وفراهتها، وأنها أهل لأن تقوم بما يطلب منها حين الملمّات، وفيها الكفاية وفوق الكفاية حين حلول الأزمات، من غزو وغيره. ولما ارتاح إليها وسرّ بما بذلته من جهد، وما ينتظر منها إذا جدّ الجدّ- أظهر استحسانه لها ولفرسانها. (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي فجعل يمسح سوقها وأعناقها إظهارا لكرامتها لديه، إذ هى أعظم الأعوان، فى دفع العدوان، ولا سيما وقد بلاها وخبر أمرها وعلم قوة أسرها، وأنها خلو من الأمراض التي قد تعوقها عن عملها حين البأساء. والخلاصة- إن سليمان احتياطا للغزو أراد أن يعرف قوة خيوله التي تتكوّن منها قوة الفرسان، فجلس وأمر بإحضارها وإجرائها أمامه، وقال إنى ما أحببتها للدنيا ولذاتها، وإنما أحببتها لأمر الله وتقوية دينه، حتى إذا ما أجريت وغابت عن بصره، أمر راكضيها بأن يردوها إليه، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها، سرورا بها وامتحانا لأجزاء أجسامها، ليعرف ما ربما يكون فيها من عيوب قد تخفى، فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها على الوجه المرضى. [سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40] وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فتنّا سليمان: أي ابتليناه بمرض، جسدا: أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح، أناب: أي رجع إلى صحته، لا ينبغى لأحد من بعدي: أي لا ينتقل منى إلى غيرى، رخاء: أي لينة، أصاب: أي قصد وأراد، فقد حكى الزجاج عن العرب أنها تقول: أصاب الصواب فأخطأ الجواب، قال الشاعر: أصاب الكلام فلم يستطع ... فأخطأ الجواب لدى المفصل مقرّنين: أي مربوطين، والأصفاد: واحدها صفد (بالتحريك) وهو الغلّ الذي يجمع اليدين إلى العنق، قال عمرو بن كلثوم: فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا والزلفى: الكرامة، والمآب: المرجع. الإيضاح (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) أي ولقد ابتلينا سليمان بمرض عضال صار بسببه ملقى على كرسيه، لشدة وطأته عليه (والعرب تقول فى الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح) ثم رجع بعد إلى حاله الأولى واستقامت له الأمور كما كان. (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) طلب المغفرة من ربه، لأنه قد يترك الأفضل والأولى فاحتاج إلى طلب المغفرة من ربه، كما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأن

هذا في مقام التذلل والخضوع كما قال عليه السلام «إنى لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» وما روى من قصص الخاتم والشيطان، وعبادة الوثن في بيت سليمان، فذلك من أباطيل اليهود دسّوها على المسلمين، وأبى قبولها العلماء الراسخون. ومن ثم قال الحافظ ابن كثير: وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضى الله عنهم كسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب اهـ. (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي هب لى ملكا لا يكون لأحد غيرى لعظمه. قال صاحب الكشاف: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة وارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، ولن تكون معجزة حتى تخرق العادة، فذلك معنى قوله: لا ينبغى لأحد من بعدي اهـ. وقيل إنه أراد بقوله: لا ينبغى لأحد من بعدي- الدلالة على عظمه وسعته كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. ثم علل المغفرة والهبة معا فقال: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إنك أنت الكثير المواهب والعطاء، فأجب طلبى، وحقق رجائى. ثم أخبر سبحانه بأنه أجاب دعاءه ووفقه لتحصيل ما أراد وعدّد نعمه عليه فقال: (1) (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) أي فذللنا لطاعته إجابة لدعوته الريح تجرى لينة طيّعة له لا تمتنع عليه إلى أىّ جهة قصد.

ولا تنافى بين وصف الريح هنا بالرخاء، ووصفها في آية أخرى بكونها عاصفة كما قال: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً» لأنها تكون بكلتا الحالين بحسب الحاجة إليها، فهى تشتد حين الحلّ، وتلين حين السير. (2) (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي وذللنا لأمره البنائين من الشياطين والغوّاصين في البحار منهم، يسخرهم فيما يريد من الأعمال، فإذا أراد بناء العمائر والقصور أو الحصون والقناطر أنجزوها له في الزمن القصير، وإذا أحب استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار لجعلهما حلية لمن في قصوره لبّوا طلبه سراعا. (3) (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي وآخرين من الشياطين مردة مشاكسين لا يلبون دعوة الداعي، ويخالفون ما أمروا به فيوضعون في السلاسل والأغلال ليتقى شرهم. وخلاصة ما سلف- إن سليمان قد استعمل الشياطين في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص في الماء، ومن لم يطع أمره وضعه في السلاسل والأغلال، كفّا لشره، وعقابا له، وعبرة لغيره. وإنا لا نعلم حقيقة تلك القيود ولا كيف تكون العقوبة، كما لا نعلم كيف يشتغل الشياطين وكيف يبنون أو يغوصون؟ فكل ذلك في عالم لا ندرك شيئا من أحواله، فعلينا أن نؤمن بأن سليمان لعظم ملكه لم يكتف بتسخير الإنس في أعماله بل سخّر معهم الجن فيما يصعب عليهم، ونتقبل هذا كما قصه القرآن دون دخول في التفاصيل خوفا من الزلل الذي لا تؤمن مغبّته، ولا نصل أخيرا إلى معرفة الحق فيه، ولنكتف بذلك، فالعبرة به ماثلة ولا نتزيّد فيه. ثم ذكر سبحانه أنه أباح له أن يتصرف في كل هذا الملك الواسع كما شاء دون رقيب ولا حسيب فقال: (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي وقلنا له: إن هذا الذي أعطيناكه

[سورة ص (38) : الآيات 41 إلى 44]

من الملك العظيم والبسطة في الغنى والتسليط على عالم لم يسلط عليه غيرك من العوالم الأخرى- عطاؤنا الخاص بك، فأعط من شئت، وامنع من شئت غير محاسب على شىء من ذلك، فقد فوضنا لك التصرف فيه كما تشاء. وبعد أن ذكر ما أوتيه من نعم الدنيا التي يحار العقل في إدراكها، أبان ماله فى الآخرة عند ربه من مقام كريم وجنات ونعيم فقال: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن له في الآخرة لقربى وكرامة لدينا فنبوّئه جنات النعيم، ونؤتيه الإجلال والتعظيم، فهو كما كان سعيدا في الدنيا يكون سعيدا في الآخرة، ويفوز برضا ربه، وعظيم كرامته. جعلنا الله ممن كتبت له السعادة فى الدارين والكرامة والمثوبة لديه في جنات النعيم. قصص أيوب عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) تفسير المفردات أيوب: هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، فهو من بنى إسرائيل قاله ابن جرير. والنّصب: (بضم فسكون) والنّصب (بفتحتين) كالرشد والرشد: المشقة والتعب، عذاب: أي ألم مضر كما جاء في قوله: «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ» اركض برجلك: أي اضرب بها على الأرض، مغتسل: أي ماء تغتسل به

الإيضاح

وتشرب منه، والضغث: الحزمة الصغيرة من الكلأ والريحان، ويقال حنث في يمينه: إذا لم يفعل ما حلف عليه. الإيضاح (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي واذكر لقومك صبر أيوب حين نادى ربه وقال: رب إنى أصبت بالمرض، وتفرق الأهل وضياع الولد. ومن حديث مس الشيطان له ما روى- إن الشيطان وسوس إليه فأعجب بكثرة ما له وولده ووافر صحته، فابتلاه الله بالأمراض والأسقام، وأضاع ماله وتفرق ولده فى أنحاء البلاد، وهلك منهم من هلك فصبر على ما أصابه من أذى وما ناله من ألم ممضّ، وحسرة تقطّع نياط القلب. ولا نعلم على وجه التحقيق قدر الزمن الذي لحقه فيه الضر ولا نوع هذا الضر، إذ القرآن لم يصرح بهذا، ولكنا نعلم على وجه لا يقبل الشك أنه لم يصب بأذى ينفر الناس منه، ويمنعهم من لقائه والجلوس معه، لأن ذلك شرط من شروط النبوة، كما أنا نعلم من وصف الدواء الآتي الذي أوحى الله به إليه أنه من الأمراض الجلدية التي تشفيها المياه المعدنية أو الكبريتية كما أشار إلى ذلك بقوله واصفا له الدواء: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي حرك الأرض برجلك واضربها بها يخرج ينبوع من الماء تغتسل منه وتشرب، فتبرأ مما أنت فيه من المرض. وفي هذا إيماء إلى نوع المرض الذي كان به، وأنه من الأمراض الجلدية غير المعدية كالإكزيما والحكّة ونحوهما مما يتعب الجسم ويؤذيه أشد الإيذاء لكنه ليس بقتال، وكلما تقدم الطب أمكن الطبيب أن يبين نوع هذا المرض على وجه التقريب لا على وجه التحديد- كما أن في ذلك إيماء إلى أن الماء كان من المياه الكبريتية ذات الفائدة الناجحة في تلك الأمراض، وهى كما تفيد بالاستعمال الظاهري، تفيد بالشرب أيضا

كما نرى في العيون التي في البلاد التي أنشئت فيها الحمامات في أوروبا ومصر وغيرها، واستعملت مشاتى ومصحات للأمراض الجلدية والأمراض الباطنية كمياه فيشى وسويسرا وحلوان. وقد أراد بمس الشيطان إياه بالنصب والعذاب- ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق لدفعه ورده بالصبر الجميل. وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن نبى الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثمانى عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه وما ذاك؟ قال منذ ثمانى عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدرى ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم أنى كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق» . ولا شك أن هذا الحديث من أخبار الآحاد التي تصادم أسس الدين الصحيحة من أن الأنبياء يجب ألا يكون فيهم من الأمراض ما ينفر الناس منهم، لأن وظيفتهم تبليغ ما أرسلوا به إليهم، وكيف يجتمع الناس بهم ويتحدثون إليهم وهم في تلك الحال وهذا البلاء، ومن ثم فنحن نقف أمام هذه الأخبار موقف الحذر والاحتياط في قبولها أو نقطع بعدم صحتها لمخالفتها لقطعى لا شك فيه. وكما دفع عنه سبحانه الضر أجاب لدعائه، أجاب دعاءه في أهله وولده فقال: (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي وجمعنا له أهله بعد التفرّق والتشتّت وأكثرنا نسلهم حتى صاروا ضعف ما كانوا عليه، رحمة منا

وتذكرة لأولى العقول السليمة، لنعتبر ونعلم أن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن مع العسر يسرا، وأن الإنسان لا يقنط من الفرج بعد الشدة: عسى فرج يأتى به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر ولم يذكر لنا الكتاب الكريم ماذا كانت حاله في ماله، فنمسك عن الكلام كما أمسك. ثم ذكر أنه رخص له سبحانه في تحلة يمينه فقال: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي وخذ حزمة صغيرة من ريحان أو كلأ فاضرب بها، فيكون ذلك تحلة ليمينك التي حلفتها، والكتاب لم يبين لنا علام حلف؟ وعلى من حلف؟ ويذكر الرواة أنه حلف على زوجه رحمة بنت إفرائيم، وقد كانت ذهبت لحاجة فأبطأت، فحلف ليضربنها إن برىء مائة ضربة، فرخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة ويضربها بها، وبذا يتحقق البر في يمينه رحمة به وبها، لحسن خدمتها له وقيامها بواجباته المنزلية أثناء مرضه. وفي هذا مخرج وفرج لمن اتقى الله وأناب إليه، ولهذا قال عز اسمه: (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي إنا وجدنا أيوب صابرا على ما أصابه فى النفس والأهل والمال من أذى، فجازيناه بما فرّج كربته، وأذهب لوعته، وليس فى الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، وليس فيه شىء من الجزع، فهو كتمنى العافية وطلب الشفاء. وقد روى أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت، وكان يقول في مناجاته: إلهى قد علمت أنه لم يخالف لسانى قلبى، ولم يتبع قلبى بصرى، ولم يلهنى ما ملكت يمينى، ولم آكل إلا ومعى يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان.

[سورة ص (38) : الآيات 45 إلى 49]

قصص إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، وإسماعيل، واليسع وذى الكفل [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 49] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) تفسير المفردات الأيدى: أي القوى في طاعة الله، والأبصار: واحدها بصر ويراد به هنا البصيرة والفقه في الدين ومعرفة أسراره، أخلصناهم: أي جعلناهم خالصين لنا، بخالصة: أي بخصلة خالصة لا شوب فيها، هى تذكّر الدار الآخرة والعمل لها، المصطفين: أي المختارين من أبناء جنسهم، والأخيار: واحدهم خيّر وهو المطبوع على فعل الخير، هذا ذكر: أي هذا المذكور من الآيات فصل من الذكر وهو القرآن. الإيضاح (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي واذكر صبر عبادنا الذين شرفناهم بطاعتنا، وقويناهم على العمل لما يرضينا، وآتيناهم البصيرة فى الدين، والفقه في أسراره والعمل النافع فيه. ثم علل ما وصفهم به من فاضل الصفات وجليل المدح بقوله: (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي إنا جعلناهم خالصين لطاعتنا، عاملين بأوامرنا ونواهينا، لا تصافهم بخصلة جليلة الشأن لا يساويها غيرها من الخصال، وهى

[سورة ص (38) : الآيات 50 إلى 54]

تذكرهم الدار الآخرة، فهى مطمح أنظارهم ومطّرح أفكارهم في كل ما يأتون وما يذرون ليفوزوا بلقاء ربهم، وينالوا رضوانه في جنات النعيم. (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي وإنهم لمن المختارين الذين جبلت نفوسهم على الخير، قلا تطمح إلى الأذى، ولا تميل إلى التباغض والتحاسد، ولا ترتكب الشرور والآثام. (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) أي واذكر لقومك من هؤلاء الأنبياء الذين تحملوا الشدائد في دين الله، وقد ذكرنا شرح هذه الأسماء، وأوصاف هؤلاء الأنبياء في سورتى الأنعام والأنبياء. (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) أي وكل منهم ممن اختاره الله للنبوة، واصطفاه من خلقه. (هذا ذكر) أي هذه الآيات الناطقة بمحاسهم شرف لهم يذكر بين الناس، وهذا أسلوب يذكر للانتقال من كلام إلى آخر، كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع فى آخر: هذا وكان كيت وكيت- وعلى هذا جاء قوله: «هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ» كما سيأتى بعد. [سورة ص (38) : الآيات 50 الى 54] جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) تفسير المفردات الطاغي: المتجاوز للحد في ترك الأوامر وفعل النواهي، جنات عدن: أي جنات استقرار وثبات، من قولهم: عدن بالمكان أي أقام به، متكئين فيها: أي متكئين فيها

المعنى الجملي

على الأرائك كما جاء في الآية الأخرى، أتراب: أي لدات متساوون في السن حتى لا تحصل الغيرة بينهن، نفاد: أي انقطاع. المعنى الجملي لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلّى الله عليه وسلم فوصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا استهزاء: ربنا عجل لنا قطّنا- أمره بالصبر على أذاهم لوجهين: (1) إن المتقين من الأنبياء قبله صبروا على كثير من المكاره فعليه أن يقتدى بهم ويجعلهم أسوة له. (2) ما ذكره في هذه الآيات والتي بعدها من أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك مما يوجب الصبر على الأذى حين تبليغ الرسالة وعلى ما يلاقيه من المكاره. الإيضاح (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن الله أعطى المتقين الذكر الحسن في الدنيا، ولهم في الآخرة حسن المرجع. ثم بين هذا المآب الحسن بقوله: (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي هو جنات استقرار وإقامة، أبوابها فتّحت إكراما لهم، وفي هذا إيماء إلى وصفها بالسعة وقرة العيون فيها ومشاهدة أحوالها التي تسرّ الناظرين، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ثم ذكر سبحانه ما يدل على مقدار أمنهم فيها وتنعمهم بنعيمها فقال:

[سورة ص (38) : الآيات 55 إلى 64]

(مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) أي يدعون فيها بألوان كثيرة من الفاكهة والشراب وهم متكئون على الأرائك، وإنما خص الشراب والفاكهة من بين ما يتنعم به فيها، لأن بلاد العرب قليلة الفواكه والأشربة، فالنفس إليها أشوق، وفي ذكرها أرغب، كما أن في ذلك إيماء إلى أن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه إنما يكون لتحصيل بدل المتحلل، ولا تحلل فيها. وبعد أن وصف المسكن والمأكول والمشروب وصف الأزواج فقال: (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) أي وعندهم نساء ذوات خفر قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن، وهن متساويات في السن والجمال يجب بعضهن بعضا، وفي ذلك راحة عظيمة للأزواج، إذ في تباغض الضرائر النّصب والتعب والهمّ الكثير للزوج ولهنّ. (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هو ما وعد الله به عباده المتقين، يصيرون إليه بعد نشورهم، وقيامهم من قبورهم. ثم أخبر بأن نعيم الجنة دائم لا يزول ولا ينقطع فقال: (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي إن هذا النعيم وتلك الكرامة- لعطاء دائم غير مجذوذ ولا منقطع. ونحو الآية قوله: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» وقوله: «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» أي مقطوع، وقوله: «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي منقطع. وقوله: «أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها» . [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64] هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الطاغين: هم الكفار الذين تجاوزوا حدود الله وكذبوا رسله، يصلونها: أي يدخلونها ويقاسون حرها، والمهاد: كالفراش لفظا ومعنى، والحميم: الماء الشديد الحرارة، والغساق: شديد البرودة يغسق من صديد أهل النار، يقال غسقت العين: أي سال دمعها، من شكله: أي من مثل المذوق في الشدة والفظاعة، أزواج: أي أجناس، فوج: أي جمع كثير من أتباعكم في الضلال، والاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها، لا مرحبا بهم. قال أبو عبيدة: العرب تقول لا مرحبا بك: أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت، من الأشرار: أي الأراذل الذين لا خير فيهم، يريدون بذلك المؤمنين، زاغت عنهم: أي مالت عنهم، والتخاصم: مخاصمة بعضهم بعضا ومدافعة كل منهم الآخر. المعنى الجملي بعد أن وصف سبحانه ثواب المتقين- أردفه بوصف عقاب الطاغين، ليكون ذلك متمما له، فيأتى الوعيد عقب الوعد، والترهيب إثر الترغيب، فيكون المرء بين

الإيضاح

رجاء في الثواب وخوف من العقاب، فيزداد في الطاعة وينأى عن المعصية، وتلك وسيلة التهذيب والتأديب التي ترقى بها النفوس إلى سبيل الكمال في دنياها وآخرتها. الإيضاح (هذا) أي هذا الذي تقدم ما يكون جزاء للمؤمنين كفاء ما قدّموا من أعمال صالحة. (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) أي وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله المكذبين لرسله سوء المنقلب وشر العاقبة، ثم فسر ذلك بقوله: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي هم يدخلون جهنم ويقاسون شديد حرها، فبئس فراشا هى ونحو الآية قوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» . ثم أمرهم أمر تهكم وسخرية بذوق هذا العذاب فقال: (هذا فَلْيَذُوقُوهُ) أي العذاب هذا، فليذوقوه. ثم فصل أنواعه وبين ألوانه فقال: (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي لهم فيها ماء حارّ يشوى الوجوه، وماء بارد لا يستطاع شر به لبرودته. قال الحسن رضى الله عنه: الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله تعالى، إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة. ثم زاد في التهديد وبالغ في الوعيد فقال: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي ليس الأمر مقصورا على هذا فحسب، بل لهم فيها أشباه وأمثال من مثله فظاعة وشدة كالزقوم والصعود والسموم. وبعد أن وصف مساكنهم ومشاربهم حكى ما يتناجون به ويقوله بعضهم لبعض. (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي هم يتلاعنون ويتكاذبون، فتقول

الطائفة التي تدخل قبل الأخرى حين تقبل التي بعدها مع الخزنة والزبانية: هذا جمع كثيف داخل معكم، فلا مرحبا بهم. قال ابن عباس في تفسير الآية: إن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع تقول الخزنة للقادة: هذا فوج داخل النار معكم، فيقول السادة: لا مرحبا بهم، والمراد بذلك الدعاء عليهم، قال النابغة: لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبّة في غد ثم علل استيجاب الدعاء عليهم بقوله: (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي إنهم ذائقو حر النار مثلكم. وهذا كلام من المتبوعين والرؤساء الذين أغووهم وأدخلوهم في الكفر، وحينئذ يردّ عليهم الداخلون من الأتباع ويقولون لهم: (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي قال الأتباع وهم الفوج المقتحم للنار لأولئك الرؤساء: بل أنتم أحق منا بما قلتم (لا مرحبا بكم) فإنكم أغويتمونا ودعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير، وبئس النار المنزل والمستقر. وهذا كلام يراد به التشفي منهم، لأنه مشترك بينهم. ونحو الآية قوله: «كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها» . ثم ذكر مقالة أخرى للأتباع ذمّا لهم أيضا فقال: (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي قال الأتباع دعاء على رؤساء الضلال. ربنا آت من قدم لنا هذا العذاب- عذابا مضاعفا في النار، عذابا للضلال وعذابا للإضلال كما ورد في الحديث «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» . ونحو الآية قوله: «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» وقوله: «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» .

[سورة ص (38) : الآيات 65 إلى 70]

وبعد أن ذكر حديثهم عن أحبابهم في الدنيا حكى حديثهم عن أعدائهم فيها فقال: (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ؟) أي قال المشركون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر إذا افتقدوا المؤمنين ولم يجدوهم في النار: ما بالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم؟. قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم، يقول أبو جهل: أين بلال: أين صهيب، أين عمار، أولئك في الفردوس. وا عجبا لأبى جهل! مسكين، أسلم ابنه عكرمة وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو. قال: ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رجلى منه أسود مظلم ثم سألوا عن السبب في عدم رؤيتهم فقالوا: (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ؟) أي ألأجل أنا قد اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك لم يدخلوا النار، أم هم معنا ولكن لم تقع عليهم أبصارنا؟. وفي هذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على استسخارهم منهم في الدنيا. والخلاصة- إن الكفار حين دخلوا النار ونظروا في جوانبها لم يروا المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا فتناجوا وقالوا: ما بالنا لا نرى الذين كنا نتخذهم فى الدنيا سخريا؟ ألم يدخلوا النار معنا، أم دخلوها ولكن زاغت عنهم أبصارنا؟ ثم بين أن هذا التناجي سيكون يوم القيامة وأنه حق لا مرية فيه فقال: (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن هذا الذي حدثناك عنه أيها الرسول من تخاصم أهل النار بعضهم لبعض، ولعن بعضهم بعضا- حق لا مرية فيه. [سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70] قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر أول السورة أن محمدا صلّى الله عليه وسلم دعا إلى التوحيد وأثبت أنه نبىّ، ودعا إلى الحشر والنشر فقابلوه بالسفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب، ثم صبّره على ذلك وقص عليه من قصص الأنبياء قبله ما يكون سلوة له في الصبر على الأذى، ثم أردف ذلك ذكر ثواب أهل الجنة وعذاب أهل النار- عاد هنا إلى تقرير هذه المطالب التي ذكرها أول السورة وهى تقرير التوحيد والنبوة والبعث. الإيضاح (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي قل أيها الرسول لمشركى مكة: إنما أنا نذير مرسل من ربى لأحذركم مخالفة أوامره حتى لا يحل بكم من العقاب مثل ما حل بالأمم قبلكم كعاد وثمود، ولست بالساحر ولا الكذاب، ولا بالمسيطر الجبار على نحو ما جاء في قوله: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» . وبعد أن ذكر وظيفة الرسول ذكر ما يبلغه للناس فقال: (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي إنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الذي قهر كل شىء وغلبه بعزته وجبروته، وهو مالك السموات والأرض وما بينهما، وهو الذي يغلب ولا يغلب، ويغفر الذنوب لمن يشاء من عباده إذا تاب، جلت أو حقرت. ثم توعدهم على مخالفته وترك العمل به وأمر رسوله أن يجلى لهم حقيقة وظيفته، ليرعووا عن غيهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال:

[سورة ص (38) : الآيات 71 إلى 85]

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي قل لهم: إنّ ما أنبأتكم به من كونى رسولا منذرا، ومن أن الله واحد لا شريك له- خبر عظيم الفائدة لكم، فهو ينقذكم مما أنتم فيه من الضلال، لكنكم معرضون عنه، لا تفكرون فيه، لتماديكم في الغفلة. وفي هذا تنبيه إلى ما هم فيه من الخطأ، علّهم يرجعون عن غيهم. ثم ذكر من الأدلة ما يرشد إلى نبوته فقال: (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي ولولا الوحى ما كنت أدرى باختلاف الملإ الأعلى، يعنى في شأن آدم عليه السلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه، وهو ما ذكره بعد. ثم أكد نبوته بقوله: (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما يوحى إلىّ إلا للانذار، لا لأن أكون جبارا ولا مسيطرا. قصص آدم عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 71 الى 85] إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فقعوا له: أي اسجدوا له، ما منعك: أي ما صرفك وصدك، واليد: القدرة قال: تحمّلت من عفراء ما ليس لى به ... ولا للجبال الراسيات يدان من العالين: أي المستحقين للترفع عن طاعة الله المتعالين عن ذلك، رجيم: أي مرجوم ومطرود من كل خير، لعنتى: أي طردى، أنظرنى: أي أمهلنى، من المنظرين: أي الممهلين، لأغوينهم: أي لأضلنهم، المخلصين: أي الذين أخلصتهم للعبادة. المعنى الجملي قد سلف ذكر هذه القصة في سور: البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، كما ذكرت هنا والعبرة منها النهى عن الحسد والكبر، لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسببهما، والكفار إنما نازعوا محمدا صلّى الله عليه وسلم بسببهما، وكرر ذكرها ليكون زاجرا لهم عنهما والمواعظ والنصائح باب من أبواب التكرير للمبالغة فى النصح والإرشاد. الإيضاح خلاصة هذه القصة- إن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام أنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، وأمرهم بالسجود له متى فرغ من

[سورة ص (38) : الآيات 86 إلى 88]

خلقه وتسويته، إجلالا وإعظاما له، فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس، ولم يكن منهم جنسا بل كان من الجن فخانه طبعه، فاستنكف عن السجود له وخاصم ربه وادعى أنه خير من آدم، لأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد خالف بذلك أمر ربه، فكفر به فأبعده وطرده من باب رحمته وحضرة فدسه مذموما مدحورا، فسأل النّظرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرّد وطغى وقال «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» فقال تعالى: «فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» . [سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) تفسير المفردات من المتكلفين: أي المدّعين معرفة ما ليس عندهم، نبأه: أي ما أنبأ به من وعد ووعيد، بعد حين: أي بعد الموت. الإيضاح (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي قل يا أيها الرسول لمشركى قومك: ما أسألكم على تبليغ ما يوحى إلىّ أجرا لا قليلا ولا كثيرا، وما عرفتمونى أتكلف ما ليس عندى حتى أنتحل النبوة وأتقوّل القرآن. أخرج ابن عدى عن أبى برزة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال هم الرحماء بينهم، قال: ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا بلى، قال هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون» .

ما تضمنته هذه السورة من العبر والمواعظ

وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال: «أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل: الله تعالى أعلم، قال الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم: (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) . (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هذا القرآن إلا عظة للثقلين كافة، وكل ذى عقل سليم، وطبع مستقيم، يشهد بصحته وبعده عن البطلان والفساد. ثم ختم السورة بتهديدهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي إنكم إن أصررتم على ما أنتم عليه من الجهل وأبيتم إلا تقليد الآباء والأجداد فستعلمون حين الموت إن كنتم مصيبين في إعراضكم أو مخطئين. وكان الحس البصري يقول: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين. جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا يعرضون عن اتباع الذكر وما فيه من صلاح للناس في الدنيا والآخرة. ما تضمنته هذه السورة من العبر والمواعظ (1) صلف المشركين وإعراضهم عن الحق، مع ضرب المثل لهم بالأمم الماضية التي حادت عن الحق فهلكت. (2) إنكارهم للوحدانية. (3) إنكارهم لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. (4) إنكارهم للبعث والحساب. (5) قصص داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين عليهم السلام.

(6) وصف نعيم أهل الجنة. (7) وصف عذاب أهل النار، وتلاعن بعضهم بعضا، وسؤالهم عن المؤمنين لم لم يروهم في النار؟ (8) قصص آدم عليه السلام. (9) قسم إبليس- ليغوينّ بنى آدم أجمعين إلا عباد الله المخلصين. (10) أمر الله نبيه أن يقول للمشركين: ما أطلب منكم أجرا على تبليغ رسالتى ولا أنا بالذي يدّعى علم شىء هو لا يعرفه. (11) إن القرآن أنزل للثقلين كافة. (12) إن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره.

سورة الزمر

سورة الزمر هى مكية إلا الآيات 52، 53، 54 فمدنيات، وآياتها خمس وسبعون نزلت بعد سبأ. ووجه اتصالها بما قبلها: (1) إنه وصف القرآن في آخر سورة ص بقوله: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» ووصفه هنا بقوله: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» . (2) إنه ذكر في ص أحوال الخلق من المبدإ إلى المعاد، وذكر هنا مثله- إلى نحو ذلك من وجوه للربط تظهر بالتأمل. [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) الإيضاح (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هذا الكتاب العظيم منزل من عنده تعالى، فهو الحق الذي لا مرية فيه كما جاء في آية: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ

الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» وجاء في قوله: «وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» . وبعد أن بيّن شأن المنزل وأنه من عند الله- ذكر ما اشتمل عليه ذلك المنزّل من الحق والعدل فقال: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن أيها الرسول آمرا بالحق والعدل الواجب اتباعهما والعمل بهما. ثم أمر رسوله بعبادته والإخلاص له فقال: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي فاعبده تعالى ممحّضا له العبادة من شوائب الشرك والرياء بحسب ما أنزل في تضاعيف كتابه، على لسان أنبيائه من تخصيصه وحده بالعبادة وأنه لا ندّ له ولا شريك. ثم أكّد هذا الأمر بقوله: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي ألا لله العبادة والطاعة وحده لا شركة لأحد معه فيها، لأن كل ما دونه ملكه، وعلى المملوك طاعة مالكه، وفي حديث الحسن عن أبى هريرة «أن رجلا قال: يا رسول الله إنى أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، لا يقبل الله شيئا شورك فيه، ثم تلا: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) » . وبعد أن أبان أن رأس العبادة الإخلاص لله- أعقب ذلك بذم طريق المشركين فقال: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) أي والذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله منزلة ويشفعوا لنا عنده في حاجتنا.

ومن حديث عبادتهم للأصنام أنهم جعلوا تماثيل للكواكب، والملائكة، والأنبياء، والصالحين الذين مضوا، وعبدوها باعتبار أنها رمز إليها، وقالوا إن الإله الأعظم أجلّ من أن يعبده البشر مباشرة، فنحن نعبد هذه الآلهة وهى تعبد الإله الأعظم. وهذه شبهة تمسك بها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءت الرسل مفندة لها ماحية لها من الأذهان العالقة بها، موجهة العقول إلى إفراد الله وحده بالعبادة كما قال: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» وقال: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» . قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله. فيقال لهم فلم تعبدونهم؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده، فرد الله عليهم بقوله: «فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ» . ثم هددهم وبيّن لهم عاقبة ما يفعلون فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن الله يحكم بينهم وبين خصومهم وهم المحقون فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك يوم القيامة، ويجازى كلا بما هو أهل له، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار. ثم بين نتيجة الحكم قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي إن الله لا يرشد إلى الحق ولا يوفق له من هو كاذب مفتر عليه، بزعمه أن له ولدا وأن له ندّا وأن الأوثان تشفع لديه إلى غير ذلك من الترّهات والأباطيل التي لا يقبلها العقل، ولا تجد لها مستندا من نقل. ثم فصّل ما كذبوا فيه فقال: (لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لو أراد الله أن يتخذ ولدا- ولا ينبغى له ذلك- لما رضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء، فكيف نسبتم إليه البنات؟

[سورة الزمر (39) : الآيات 5 إلى 6]

ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يكون له ولد فقال: (سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي تقدس الله أن يكون له ولد، فإنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغنى عما سواه، قهر الأشياء فدانت له، وتسلط على المخلوقات بقدرته فذلت له، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. [سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 6] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) تفسير المفردات التكوير: فى الأصل اللف واللى من كار العمامة على رأسه وكوّرها والمراد يذهب الليل ويغشى مكانه النهار، والعكس بالعكس، وسخر الشمس والقمر جعلهما منقادين له، والأجل المسمى: يوم القيامة، والظلمات الثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرّحم وظلمة المشيمة، تصرفون: أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه أنه منزه عن الولد بكونه إلها قهارا، وأن كل المخلوقات فى قبضته وسلطانه- أردف ذلك ما يدل على كمال قدرته بآياته التي أوجدها

الإيضاح

فى الأكوان، وفي خلق الإنسان، فبسط سلطانه على الشمس والقمر وذللهما، وجعلهما يجريان في ذلك الملكوت الذي لا يعلم مداه إلا هو، كما خلق الإنسان الأول وجعل له زوجا من جنسه، وخلق ثمانية أزواج من الحيوان ذكر وأنثى فكانت نواة التناسل فى هذه الأنواع، فهل بعد هذا يجد العاقل معدلا عن الاعتراف بربوبيته، وعظيم قدرته. الإيضاح (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي خلق هذا العالم العلوي على ما فيه من بديع الصنع من شموس وأقمار، تكوّن الليل والنهار، والعالم السفلى المشتمل على المواليد الثلاثة من حيوان ونبات وجماد، وسخر كل ما فيه ظاهرا وباطنا لانتفاع الإنسان في سبل معايشه إذا استعمل عقله، واستخدم فكره في استنباط مرافقه- خلقهما على أكمل وجه، وأبدع نظام، قائمين على الحق والصواب، والحكم والمصالح. وبعد أن أبان أنه خلقهما ذكر سبيل تصرفه فيهما فقال: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يغشى كلا منهما الآخر كأنه يلفه عليه لفّ اللباس على اللابس، أو يجعلهما في تتابعهما أشبه بتتابع أكوار العمامة بعضها على بعض، ألا ترى إلى الأرض وقد دارت حول نفسها وهى مكورة فأخذ النهار الحادث من مقابلتها للشمس يسير من الشرق إلى الغرب ويلف حولها طاويا الليل، والليل من الجهة الأخرى يلتف حولها طاويا النهار، فالأرض كالرأس والظلام والضياء يتتابعان تتابع أكوار العمامة، ويلتفان متتابعين حولها. وفي هذا إيماء إلى كروية الأرض أولا، وإلى دورانها حول نفسها ثانيا، فتكوير الأرض ظاهر الآية، ودورانها أتى تابعا بالزمر والإشارة. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وجعل الشمس والقمر وهما وسيلتا الليل والنهار منقادين له (وأكثر مصالح العالم مرتبطة بهما) يجريان لمنتهى

دورتهما، ومنقطع حركتهما، وهو يوم القيامة، «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» . ثم ذيل الكلام بالجملة الآتية ترغيبا في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له، والتحذير من الكفر والمعاصي، فقال: (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال، وأنعم على خلقه بهذه النعم- هو القادر على الانتقام ممن عاداه، الغفار لذنوب عباده التائبين. ولا يخفى ما في هذا من الدلالة على كمال قدرته، وكمال رحمته فهو القهار ذو القوة المتين، الغفار لذنوب التائبين. وبعد أن ذكر الدلائل التي بثها في العالم العلوي- أردفها ذكر الدلائل التي أودعها في العالم السفلى، وبدأها بخلق الإنسان، لأنه أعجب ما فيه، لما فيه من العقل وقبوله الأمانة الإلهية، ولله در من قال: وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي خلقكم على اختلاف ألسنتكم وألوانكم- من نفس واحدة وهى آدم، ثم جعل من جنسها زوجها وهى حواء، ثم ثنّى بخلق الحيوان فقال: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهى التي ذكرها في سورة الأنعام «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ» أي ذكر وأنثى لكل منها. ثم ذكر سبيل خلق ما ذكر من الأناسى والأنعام فقال: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي يبتدىء خلقكم أيها الناس فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق، فيكون أحدكم أوّلا نطفة، ثم يكون علقة،

[سورة الزمر (39) : الآيات 7 إلى 8]

ثم يكون مضغة، ثم يكون لحما وعظما وعصبا، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين. (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) أي في ظلمات أغشية ثلاثة جعلها المولى سبحانه وقاية للولد وحفظا له من التعفن، قال الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه [الإسلام والطب الحديث] : يعلمنا القرآن أن الجنين له ثلاثة أغشية سماها ظلمات: هى الغشاء المنبارى، والخربون، والغشاء اللفانفى، وهى لا تظهر إلا بالتشريح الدقيق، وتظهر كأنها غشاء واحد بالعين المجردة اهـ. وبعد أن ذكر هذه الأفعال العجيبة ذكر موجدها ومنشئها فقال: (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله- هو الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها، المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه (لَهُ الْمُلْكُ) على الإطلاق في الدنيا والآخرة. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تنبغى العبادة إلا له وحده لا شريك له. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟) أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها، وانتفاء ما يصرف عنها- إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة ما يصرف عنها. والخلاصة- كيف تعبدون معه سواه؟ أين ذهبت عقولكم؟ وكيف ضاعت أحلامكم؟. [سورة الزمر (39) : الآيات 7 الى 8] إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)

تفسير المفردات

تفسير المفردات منيبا: أي راجعا إليه مطيعا له، خوّله: ملّكه وأنشد أبو عمرو بن العلاء لزهير ابن أبى سلمى: هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا المعنى الجملي بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى وذكر أن المشركين عبدة الأصنام لا دليل لهم على عبادتها، وكأنّ عقولهم قد ذهبت حين عبدوها- أعقب ذلك ببيان أنه هو الغنى عما سواه من المخلوقات، فهو لا يريد بعبادته جر منفعة، ولا دفع مضرة، ولكنه لا يرضى الكفر لعباده، بل يرضى لهم الشكر، وأن كل نفس مطالبة بما عملت، وبعدئذ تردّ إلى عالم الغيب والشهادة فيجازيها بما كسبت، ثم أتبعه بذكر تناقض المشركين فيما يفعلون، فإذا أصابهم الضر رجعوا في طلب دفعه إلى الله، وإذا ذهب عنهم عادوا إلى عبادة الأوثان، وقد كان العقل يقضى بأنهم وقد علموا أنه لا يدفع الضر سواه- أن يعبدوه في جميع الحالات، ثم أمر رسوله أن يقول لهم متهكما موبخا تمتعوا بكفركم قليلا ثم مصيركم إلى النار وبئس القرار. الإيضاح (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي إن تكفروا به سبحانه مع مشاهدة ما يوجب الإيمان والشكر فإن ذلك لا يضيره شيئا، فهو الغنى عن سائر المخلوقات كما قال تعالى حكاية عن موسى: «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ

لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» وجاء في صحيح مسلم «يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا» . ثم ذكر ما يحبه سبحانه وما يكرهه فقال: (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لا يحبه ولا يأمر به، لأنه مانع من ارتقاء النفوس البشرية بجعلها ذليلة خاضعة للأرباب المتعددة والمعبودات الحقيرة من الخشب والنّصب وممن يأكل الطعام ويمشى في الأسواق. (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لأنه على مقتضى السّنن القويم، والصراط العادل المستقيم كما قال: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» . ثم ذكر أن كل إنسان يوم القيامة يجازى بما قدم من عمل، ولا يضيره عمل سواه فقال: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تحمل أىّ نفس أوزار نفس أخرى، بل كلّ مطالب بعمل نفسه خيرا كان أو شرا. ثم بين أن جزاء المرء في الآخرة وفق ما عمل في الدنيا فقال: (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم يوم القيامة إلى خالقكم البصير بأمركم العليم بالسر والنجوى، فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا، إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ثم يجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، فاحذروا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا ما لا يرضاه فتهلكوا. ثم بين أن هذه المجازاة ليست بالعسيرة عليه سبحانه فقال: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى محص جميع أعمالكم حتى ما تضمره صدوركم مما لا تدركه أعينكم فكيف بما رأته العيون، وأدركته الأبصار؟. ثم بين سبحانه شأن الكافر بالنسبة إلى ربه فقال: (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ

[سورة الزمر (39) : آية 9]

يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي وإذا أصاب الكافر بلاء فى جسده، أو شدة في معيشته، أو خوف على حياته- استغاث بربه الذي خلقه ورغب إليه في كشف ما نزل به، تائبا إليه مما كان عليه من قبل ذلك من الكفر به وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته، ثم إذا منحه نعمة منه فأزال ما به من ضرّ، وأبدله بالسقم صحة، وبالشدة رخاء- ترك دعاءه الذي كان يدعوه من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ، فجعل لله شركاء وأضل الناس ومنعهم من توحيده والإقرار به والدخول في الإسلام له. ثم أوعده وهدده على ما فعل فقال: (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي قل أيها الرسول لمن فعل ذلك: تمتع بما أنت فيه من زخرف الدنيا ولذاتها، منصرفا عن النظر إلى أدلة التوحيد التي أوجدها الله في الأكوان، وجعلها في نفس الإنسان، زمنا قليلا إلى أن تستوفى أجلك، وتأتيك منيّتك، ثم أنت بعد ذلك من أصحاب النار المخلدين فيها أبدا. [سورة الزمر (39) : آية 9] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) تفسير المفردات القانت: القائم بما يجب عليه من الطاعة، آناء الليل: ساعاته واحدها آن، يحذر الآخرة: أي يخشى عذابها. المعنى الجملي بعد أن أبان صفات المشركين الضالين، وذكر تقلقلهم واضطرابهم في العبادة، إذ يرجعون إليه في وقت الشدة ويعودون إلى الأوثان حين الرخاء- أردفه ذكر

الإيضاح

أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون إلا على ربهم، ولا ينيبون إلا إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه. الإيضاح (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي أأنت أيها المشرك أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بأداء الطاعات، ودائب على وظائف العبادات، فى ساعات الليل التي تكون فيها العبادة أشق على النفوس، وأبعد من الرياء، فتكون أقرب إلى القبول، وهو في حال عبادته خائف راج؟ لا شك أن الجواب لا يحتاج إلى بيان. والخلاصة- أمن هو مطيع كمن هو عاص؟ إنهما لا يستويان. ثم أكد نفى التساوي ونبه إلى فضيلة العلم وشرف العمل به فقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟) أي قل أيها الرسول لقومك: هل يستوى الذين يعلمون ما لهم في طاعة ربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من عقاب، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون خبط عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون من سيئها شرا. وجاء هذا الكلام بأسلوب الاستفهام للدلالة على أن الأولين بلغوا أعلى معارج الخير، وأن الآخرين درجوا في دركات الشر، ولا يخفى ذلك على منصف ولا مكابر. ثم بين أن ما سلف إنما يفهمه كل ذى لبّ، فأمثال هؤلاء على قلوبهم غشاوة، لا يفقهون موعظة، ولا تنفع فيهم التذكرة فقال: (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعتبر بحجج الله ويتعظ بها ويتدبرها أهل العقول والحجا، لا أهل الجهل والغفلة. والخلاصة- إنه إنما يعلم الفرق بين هذا وذاك من له لب وعقل يتدبر به.

[سورة الزمر (39) : الآيات 10 إلى 16]

[سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 16] قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) المعنى الجملي بعد أن نفى المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم- أردفه أمر رسوله أن ينصح المؤمنين بجملة نصائح: (1) تقوى الله وطاعته لما في ذلك من جزيل الفوائد، فإذا تعذرت طاعته فى بلد تحولوا عنه إلى بلد يتمكنون فيه من الاشتغال بالعبادة والطاعة كما فعل كثير من الأنبياء، ولهم كفاء ذلك أجر بغير حساب، فلا يقدر بمكيال ولا ميزان. (2) إنه أمر بعبادة الله وحده مخلصا له الدين، وقد قال كفار قريش للنبى صلّى الله عليه وسلم: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك إبراهيم وجدّك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله الآية وأمره أن يكون أول المسلمين، وفي ذلك تنبيه إلى كونه رسولا من عند الله واجب الطاعة. (3) إنه أمر أن يقول لهم: إنى أخاف عذاب يوم القيامة إن عصيته، وفي ذلك إيماء إلى زجر غيره عن المعاصي.

الإيضاح

(4) إنه أمر أن يذكر لهم أن الخاسر هو الذي يخسر نفسه ويخسر أهله، لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده. (5) وصف النار وأنها تحيط بهم من كل جانب، وهذا من أفظع أنواع العذاب التي يخوّف بها عباده. الإيضاح (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أمر سبحانه رسوله أن يعظ المؤمنين ويحملهم على الطاعة والتقوى باجتناب معاصيه واتباع أوامره. ثم علل وجوب الامتثال بقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي لمن أحسن في هذه الدار، وعمل صالح الأعمال، وزكّى نفسه فيها- حسنة من صحة وعافية ونجاح في الأعمال التي يزاولها كفاء ما يتحلى به من تمسك بآداب الدين واتباع فضائله، وحسنة في الآخرة فيتمتع بجنات النعيم ورضوان الله عنه «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» . ثم رغّبهم في الهجرة من مكة إلى المدينة وصبّرهم على مفارقة الأوطان فقال: (وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ) أي إنكم إذا لم تتمكنوا من التوفر على الإحسان والتقوى وصرف الهمم إلى العبادة في البلد الذي أنتم فيه فتحولوا عنه إلى بلاد تستطيعون فيها ذلك، واجعلوا أسوتكم الأنبياء والصالحين فقد فعل كثير منهم ذلك. ثم ذكر ما لهم من رفيع المنزلة وعظيم الأجر على ذلك فقال: (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي ولهم على صبرهم أجر عظيم عند ربهم لا يقدر قدره، كما وفّى من قبلهم أجورهم على هذه الشاكلة، وعن الحسين بن على رضى الله عنهما قال: سمعت جدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بنى إن في الجنة

شجرة يقال لهال شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا ثم تلا: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» قال النحاس: من صبر على المعاصي يقال صابر، ومن صبر على المصيبة يقال صابر على كذا. ثم ذكر ما أمر به نبيه من الإخلاص في الطاعة فقال: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك: إن الله أمرنى أن أعبده مفردا له الطاعة دون كل ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد. وفي هذا نعى لهم على تماديهم في عبادة الأوثان، والكلام عليه من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره) . (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرت أن أكون أول المسلمين وسابقهم فى إخلاص التوحيد لله، وإخلاص العبادة له، والبراءة من كل ما دونه من الآلهة. (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي قل لهم: إنى أخاف إن عصيت ربى بترك الإخلاص له أو إفراده بالربوبية- عذاب يوم القيامة الكثير الأهوال والآلام. وفي هذا من التعريض بهم ما لا يخفى. ثم كرر الأمر مرة أخرى بالإخلاص في الطاعة للتهديد والوعيد فقال: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) أي قل لهم: الله أعبد لا غيره لا استقلالا ولا اشتراكا، مخلصا له عبادتى مبتعدا من الشرك والرياء، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه من الأوثان والأصنام، وستعلمون وبال عاقبتكم حينما تلقون ربكم. ثم أمر رسوله أن يذكر للمشركين حالهم يوم القيامة فقال: (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قل لهم

[سورة الزمر (39) : الآيات 17 إلى 20]

أيها الرسول: إن الخسران الذي لا خسران بعده- هو خسران النفس وإضاعتها بالضلال، وخسران الأتباع الذين أضلوهم وأوقعوهم في العذاب السرمدي يوم القيامة إذ أوقعوهم في هلكة ما بعدها هلكة. (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الخسران المبين الظاهر لكمال هو له، وفظاعة شأنه. ثم فصل ذلك الخسران وبينه بعد إبهامه تهويلا وتعظيما لأمره فقال: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي لهم أطباق متراكمة من النار بعضها فوق بعض كأنها ظلل، ومن تحتهم مثلها، والمراد من ذلك أن النار محيطة بهم من كل جانب. ونحو الآية قوله: «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» وقوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» . (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ) أي إنما يقص عليكم ربكم خبر ما سيكون لا محالة ليزدجر عباده عن المحارم والآثام. بعد هذا أمرهم بتقواه وحذرهم من عصيانه فقال: (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي يا عبادى بالغوا في الخوف والحذر والتقوى، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى، وهذه منة منه تعالى منطوية على نهاية اللطف والرحمة. [سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 20] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه وعيده لعبدة الأصنام- أردف ذلك وعد من اجتنبوا عبادتها وبعدوا عن الشرك، ليكون الوعد مقترنا بالوعيد ويحصل بذلك كمال الترهيب والترغيب. الإيضاح (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى) الطاغوت: الشيطان، ويطلق على الواحد والجمع، وسميت عبادة الأوثان عبادة للشيطان، إذ كان الآمر بها، والمزيّن لها. أي والذين اجتنبوا عبادة الأصنام، وأقبلوا إلى ربهم معرضين عما سواه- لهم البشرى بالثواب العظيم من الله على ألسنة رسله حين الموت وحين يحشرون من قبورهم للحساب. ثم مدحهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل فقال: (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي فبشر هؤلاء الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، وأنابوا إلى ربهم وسمعوا القول فاتبعوا أولاه بالقبول- بالنعيم المقيم فى جنات النعيم. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ) أي هؤلاء هم الذين وفقهم الله للرشاد، وإصابة الصواب، لا الذين يعرضون عن سماع الحق، ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع. (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة، والفطر

[سورة الزمر (39) : آية 21]

المستقيمة، التي لا تطيع الهوى ولا يغلبها الوهم، فتختار خير الأمرين في دينها ودنياها. روى أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر: زيد بن عمرو وأبى ذر الغفاري وسلمان الفارسي، كانوا في الجاهلية يقولون «لا إله إلا الله» . ثم بين أضداد المذكورين أولا وسجل عليهم الحرمان من الهداية فقال: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ؟ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟) أي أأنت مالك شئون الناس ومصرّف أمورهم، فمن حقت عليه كلمة العذاب لعدم أهليته للكمال وتدسيته نفسه بولوغها في الآثام والمعاصي- فأنت تنقذ من النار؟ - كلا، ليس أمرهم إليك بل أمرهم إلى ربهم يجازيهم بحكمته وعدله. ثم أعاد جزاء المتقين عناية بأمرهم بعد ذكر أضدادهم فقال: (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب محارمه، لهم في الجنة غرف طباق فوق طباق، مبنيات محكمات تجرى الأنهار خلال أشجارها. ثم أكد حصول ذلك لهم فقال: (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ) أي وعد الله هؤلاء المتقين بذلك، ووعده الحق، فهو لا يخلف ما وعدهم، بل يفى بوعده. [سورة الزمر (39) : آية 21] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) تفسير المفردات فسلكه: أي فأدخله، ينابيع: أي عيونا ومجارى، ألوانه: أي أنواعه وأصنافه، يهيج: أي يجف، حطاما: أي فتاتا متكسرا.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن وصف جلّت قدرته الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها ومزيد الشوق إليها- أعقب ذلك بذكر صفات للدنيا توجب النفرة منها كسرعة زوالها وتقضّيها وشيكا، تحذيرا من الاغترار بزهرتها، والركون إلى لذتها، فمثّل حالها بحال نبات يسقى بماء المطر فيخرج به زرع مختلف الأصناف والأنواع، وبعد قليل تراه يجف ويصير فتاتا متكسرا، فما أسرع زواله، وأيسر تقضيه!. الإيضاح إنك أيها الرسول لتشاهد الماء وقد نزل من السماء فجرى عيونا في الأرض، فسقيت به أنواع مختلفة من النبات من برّ إلى شعير إلى أرز إلى نحو ذلك، ثم نضجت وجفّت وصارت مصفرة بعد خضرة ونضرة، ثم صارت فتاتا متكسرة، فما أشبه حال الدنيا بحالها فهى سريعة التقضّى وشيكة الزوال، فليعنبر بذلك أولو الحجا، وليعلموا أن الدنيا كسوق قام ثم انفض، ولا يغتروا ببهجتها ولا يفتنوا بزخرفها. ونحو الآية قوله: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» . [سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 28] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)

تفسير المفردات

تفسير المفردات شرح مصدر للإسلام: الفرج به والطمأنينة إليه، والنور: البصيرة والهدى، والقسوة: جمود وصلابة في القلب يقال قلب قاس: أي لا يرق ولا يلين، أحسن الحديث: هو القرآن، متشابها: أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والأحكام، مثانى: واحدها مثنى من التثنية: أي التكرير، تقشعر: أي تضطرب وتتحرك وتشمئز، تلين: أي تسكن وتطمئن، الخزي: الذل والهوان، يتذكرون: أي يتعظون، غير ذى عوج: أي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، قال: وقد أتاك يقين غير ذى عوج ... من الإله وقول غير مكذوب المعنى الجملي بعد أن بالغ في ذكر ما يدل على وجوب الإقبال على طاعته سبحانه والإعراض عن الدنيا- أردف ذلك بيان أنه لا ينتفع بهذا إلا من شرح الله صدره ونوّر قلبه وأشعر نفسه حب العمل به، ثم أعقبه بذكر أن من أضله الله فلا هادى له، وأن من يتقى بيديه المخاوف صيانة لوجهه عن النار ليس حاله كحال من هو آمن لا يفكر في مآل

الإيضاح

أمره، وعاقبة عمله، وبعدئذ ذكر أن هؤلاء المشركين ليسوا بدعا في الأمم، فلقد كذّب كثير قبلهم، فأتاهم العذاب بغتة من حيث لا يشعرون، فأصيبوا في الدنيا بالذل والصغار والقتل والخسف، ولعذاب الآخرة أشد نكالا ووبالا، ثم ذكر أن القرآن قد ضرب الأمثال للناس بلسان عربى مبين لعلهم يرعوون ويزدجرون. الإيضاح (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟) أي أفمن دخل نور الإسلام قلبه وانشرح صدره له، لما رأى فيه من البدائع والعجائب المهيئة للحكمة، الممهدة لقبول الحق والموصلة إلى الرشاد- كمن طبع على قلبه لغفلته وجهالته؟ وقد روى أن علامة ذلك الانشراح الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت، قبل حلول الموت. والخلاصة- هل يستوى من أنار الله بصيرته ومن هو قاسى القلب بعيد من الحق؟ ونحو الآية قوله: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» . قال ابن عباس: من شرح الله صدره للاسلام أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: «تلا النبي صلّى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا نبى الله: كيف انشراح صدره؟ قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت» . وأخرج الترمذي عن ابن عمر «أن رجلا قال يا رسول الله: أىّ المؤمنين أكيس؟ قال أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقالوا: ما آية ذلك

يا نبى الله؟ قال الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» . ثم ذكر ما يدل على المحذوف الذي قدر في الجملة السالفة فقال: (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي فالويل أشد الويل لمن قست قلوبهم من أجل ذكر الله الذي من حقه أن تلين منه القلوب، فهم إذا ذكر الله عندهم، وذكرت دلائل قدرته، وبدائع صنعه، اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قسوة. قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة. وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» . وعن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: اطلبوا الحوائج من السمحاء، فإنى جعلت فيهم رحمتى، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإنى جعلت فيهم سخطى» . ثم بين حالهم فقال: (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أولئك القساة القلوب الذين أعمى الله أبصارهم فى غواية ظاهرة لكل أحد لا تحتاج إلى عناء في تفهم حقيقتها ومعرفة كنهها. وبعدئذ وصف القرآن الذي يشرح الصدر ويلين القلب فقال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) أي الله أنزل أحسن الحديث قرآنا كريما يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة، كما تتشابه أجزاء الماء والهواء وأجزاء النبات والزهر، تثنى وتردد قصصه وأنباؤه وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، إذا تليت منه آيات العذاب اقشعرّت الجلود، ووجلت القلوب، وإذا تليت آيات

الرحمة والوعد لانت الجلود، وسكنت القلوب، واطمأنت النفوس قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله. (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الكتاب يهدى به الله من يشاء ويوفقه للإيمان. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق به، فما له من مخرج من الضلالة، ولا موفّق لسلوك طريق الحق. ثم ذكر علة ما تقدم من تباين حال المهتدى والضالّ فقال: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أكل الناس سواء؟ فمن شأنه أن يتقى بوجهه الذي هو أشرف أعضائه العذاب الشديد السيئ يوم القيامة (لأن يده التي كان يتقى بها المكاره في الدنيا مغلولة إلى عنقه) ، كمن هو آمن لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء محظور مخوف. ثم ذكر ما ينال الكفار والعاصين من الإهانة في ذلك اليوم فقال: (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وقيل تهكما واستهزاء لمن ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي- ذوقوا وبال ما كسبتم في الدنيا، ودسّيتم به أنفسكم حتى أوقعتموها في الهاوية، النار الحامية. ثم ذكر ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الجميع من العذاب الأخروى فقال: (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن بعض الأمم الماضية التي كذبت رسلها أتاها العذاب بغتة من حيث لا تحتسب ولا يخطر لها بالبال، فلحقها الذل والصغار في الحياة الدنيا، فأصيبت تارة بالمسخ، وأخرى بالخسف، وثالثة بالقتل أو السبي أو نحو ذلك من ضروب النكال والوبال، وإن عذاب الآخرة لأنكى عاقبة وأشد أثرا لو علموا ذلك واعتبروا به.

[سورة الزمر (39) : الآيات 29 إلى 31]

ثم بين أن فيما قصه القرآن عليهم من الأمثال والمواعظ عبرة لهم لو كانوا يعقلون فقال: (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين بالله أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا، ليتعظوا ويزدجروا ويقلعوا عما هم عليه مقيمون من الكفر بربهم، بكلام عربى لا لبس فيه ولا اختلاف، ليفهموا ما فيه من مواعظ، ويعتبروا بما فيه من حكم، فيتقوا ما حذّرهم فيه من بأسه وسطوته، وينيبوا إليه ويفردوه بالعبادة، ويتبرءوا من الآلهة والأنداد. [سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 31] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) تفسير المفردات ضرب المثل: تشبيه حال عجيبة بأخرى وجعلها مثلا لها، متشاكسون: أي مختلفون يتنازعون لسوء طباعهم وشكاسة أخلاقهم، سلما لرجل: أي خالصا لسيد واحد، والميت (بالتشديد) من لم يمت وسيموت، والميت (بالتخفيف) من قد مات وفارقته الروح، قال الخليل أنشد أبو عمرو: وتسألنى تفسير ميت وميّت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقل فمن كان ذا روح فذلك ميّت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل تختصمون: أي تحتكمون للقضاء.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر الحكمة في ضرب الأمثال للناس، وهى أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم، ويرعووا عن غيهم وضلالهم- أردفه ذكر مثل يرشد إلى فساد مذهب المشركين وقبح طريقتهم ووضوح بطلانها، ثم أعقبه ببيان أن الناس جميعا سيموتون ثم يعرضون على ربهم، وهناك يستبين المحق والمبطل، والضال والمهتدى. فلا داعى إلى الجدل والخلاف بينك وبينهم. الإيضاح (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟) أي ضرب الله مثلا لقومك وقال لهم: ماذا تقولون في عبد مملوك قد امتلكه شركاء، بينهم اختلاف وتنازع فهم يتجاذبونه في حاجهم وهو خائر في أمره إذا هو أرضى أحدهم أغضب الباقين، وإذا احتاج إليهم في مهمّ رده كل منهم إلى الآخرين، فهو في عذاب دائم وتعب مقيم، ومملوك آخر له مخدوم واحد يخدمه مخلصا وهو يعينه على مهماته، ويقضى له سائر حاجاته، فأىّ العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا؟ - الجواب لا يحتاج إلى بيان- هكذا حال المشرك الذي يعبد آلهة شتى يبقى ضالّا حائرا لا يدرى أىّ تلك الآلهة يعبد؟ ولا على أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفده؟ أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلّفه، عارف ما يرضيه وما يسخطه- لا شك أن البون بين حاليهما شاسع. وقوله (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا) أي هل تستوى صفتاهما وحالاهما؟ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي بعد أن بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد، وثبت أن لا إله إلا هو- ثبت أن الحمد لله لا لغيره. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر الناس لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره فيشركوا به سواه.

ولما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل، أخبر سبحانه بأن مصير الجميع إلى الله، وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحكم العدل، وهناك يتميز المحق من المبطل قال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي إنك ستموت وهم سيموتون، ثم تختصمون عند ربكم، فتحتجّ أنت عليهم بأنك قد بلّغت فكذّبوا، ويعتذرون هم بما لا طائل تحته، وبما لا يدفع عنهم لوما ولا تقريعا، ويقول التابعون للرؤساء: أطعناكم فأضللتمونا، ويقول السادة: أغوانا الشيطان وآباؤنا الأولون. عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» رواه البخاري. وعن أبى هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن المفلس من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتى قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» أخرجه مسلم. وعن أبى سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا. اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفّقنا لما فيه رضاك. تم هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثلاث بقين من ذى القعدة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء الصفحة المبحث 5 جمع الناس للحساب والجزاء 6 البعث ممكن وليس بمستحيل 10 القرآن يدل على أن جميع الكواكب سائرة 13 لكل من الشمس والقمر مدار يسبح فيه 15 السفن البرية والسفن الهوائية 19 تأتى الساعة بغتة والناس لا يشعرون 20 خروج الخلق من الأجداث 22 ما يتمتع به أهل الجنة من مآكل ومشارب 23 شهادة الأيدى والأرجل على المجرمين يوم القيامة 30 ما ينبغى للرسول أن يكون شاعرا 32 عاقبة من أعرض عن النظر في آيات ربه 34 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه 36 دليل القدرة في الأنفس والآفاق 39 تنزيهه سبحانه عما لا يليق به 42 قسمه تعالى بملائكته بأن الإله واحد 44 الدنيا بيت فرشه الأرض وسقفه السماء 45 الدليل على الحشر والنشر وقيام الساعة

الصفحة المبحث 47 مقالتهم في القرآن 49 يحشر الظالمون مع من على شاكلتهم في المعاصي 51 يوم القيامة يتخاصم الأتباع والرؤساء من أهل الضلال 56 وصف خمور الجنة 59 سمر أهل الجنة في الجنة 60 اغتباط المؤمنين بما آتاهم ربهم من النعيم 63 وصف شجرة الزقوم 64 تقليد الأبناء للآباء 65 تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن قومهم ليسوا ببدع في الأمم 68 تقريع إبراهيم لقومه على عبادة الأصنام 71 عدول قومه عن الحجاج إلى استعمال القوة 73 طاعة إسماعيل لأبيه في ذبحه تنفيذا للرؤيا 76 الذبيح إسحاق أم إسماعيل؟ 78 نعم الله على موسى وهارون 81 قصص لوط عليه السلام 82 قصص يونس عليه السلام 84 توبيخ المشركين على نسبة البنات إليه سبحانه 93 مجمل ما حوته هذه السورة 94 سورة ص 96 عجب المشركين من قول الرسول: إن الإله واحد 98 الأسباب التي تمنع في زعمهم أن يكون محمد نبيا 104 قصص داود عليه السلام

107 قضية من قضايا داود التي حكم فيها 110 الرد على المفسرين فيما قالوه في قصص داود 114 الحكمة في خلق هذا الكون 115 ليس من العدل مساواة البرّ بالفاجر في الجزاء 117 عرض سليمان للصافنات الجياد والحكمة في ذلك 119 تسخير الريح لسليمان عليه السلام 123 داء أيوب عليه السلام ودواؤه ورفض ما قيل في ذلك نقلا عن اليهود 130 وصف نعيم المتقين في مآكلهم ومشاربهم 133 محاورة بين رؤساء الضلال وأتباعهم 135 الرسول منذر لا مسيطر 136 الأدلة التي ترشد إلى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم 141 اعتذار المشركين على عبادة الأصنام 150 تهديد المشركين على أفعالهم القبيحة 152 أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم أن ينصح المؤمنين بنصائح 153 للصابرين أجرهم بغير حساب 156 بشرى من يسمعون القول فيتبعون أحسنه 158 صفات الدنيا الموجبة للنفرة منها 159 وجوب الإقبال على طاعة الله 160 ضرب القرآن الأمثال للناس 164 أصيب الأمم الماضية بضروب من العذاب في الدنيا قبل الآخرة

تتمة سورة الزمر

الجزء الرابع والعشرون [تتمة سورة الزمر] تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الرابع والعشرون

[سورة الزمر (39) : الآيات 32 إلى 35]

الجزء الرابع والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 35] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) تفسير المفردات مثوى: مقاما من ثوى بالمكان يثوى ثويّا وثواء: إذا أقام به، والذي جاء بالصدق: هو الرسول صلّى الله عليه وسلم، وصدق به هم أتباعه، أسوأ الذي عملوا: أي ما عملوه من المعاصي قبل الإسلام، ويجزيهم أجرهم: أي يثيبهم على الطاعات التي فعلوها في الدنيا.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف بعض هنات المشركين، وبعض مقابحهم وأعقبه بمثل يشرح حالهم- أردف ذلك نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون فيثبتون لله ولدا ويثبتون له شركاء، ويكذّبون القائل المحق، فيكذبون محمدا بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقة، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق، ووعد المصدقين له، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب، ويمنع عنهم العقاب. الإيضاح (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) أي لا أحد يبلغ ظلمه ظلم من افترى على الله الكذب، فجعل معه آلهة أخرى، أو ادعى أن الملائكة بنات الله، وهو أيضا كذّب بالحق الذي جاء به رسوله من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور. وفي قوله (إِذْ جاءَهُ) بيان لأنهم كذّبوا به من غير وقفة ولا إعمال رويّة بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النّصفة فيما يسمعون. وبعد أن ذكر حالهم أردفه وعيدهم فقال: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفروا بالله وأبوا تصديق رسوله وامتنعوا عن اتباعه فيما يدعو إليه من التوحيد والشرائع التي أنزلها عليه. وخلاصة هذا- ألا يكفيهم ذلك جزاء على أعمالهم. وبعد أن ذكر حال المكذبين ووعيدهم أردفه ذكر الصادقين المصدقين، ومدحهم على ما فعلوا فقال: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي والذي جاء بالصدق

[سورة الزمر (39) : الآيات 36 إلى 40]

وهو الرسول صلّى الله عليه وسلم، وصدّق به وهم أتباعه الذين نهجوا نهجه وساروا على طريقه- هم الذين اتقوا الله فوحدوه وبرئوا من الأوثان والأصنام وأدّوا فرائضه واجتنبوا نواهيه، رجاء ثوابه وخوف عقابه. ثم ذكر ما وعدهم به من ثواب عظيم ونعيم مقيم فقال: (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي لهم من الكرامة عند ربهم ما تشتهيه أنفسهم وتقرّبه أعينهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء من أحسن عملا، فأخلص لربه في السر والنجوى، وراقبه فى أقواله وأفعاله، وعلم أنه محاسب على النّقير والقطمير، والجليل والحقير. ثم بين سبحانه ما هو الغاية لهم عند ربهم فقال: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) وذلك أعظم ما يرجونه من دفع الضر عنهم والنفس إذا علمت زوال المكروه عنها كان لها في ذلك سرور ولذة تعدل السرور واللذة بجلب المنافع لها. (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ويثيبهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بمساويها، وقدّم تكفير السيئات على إعطاء الثواب، لأن دفع المضار أهم من جلب المسارّ. وفي ذكر تكفير الأسوإ إشارة إلى استعظامهم للمعصية مطلقا لشدة خوفهم من الله، وإلى أن الحسن الذي يعلمونه هو الأحسن عند الله لحسن إخلاصهم فيه. [سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 40] أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)

تفسير المفردات

تفسير المفردات بكاف عبده: أي يكفيه وعيد المشركين وكيدهم، الذين من دونه: هم الأصنام: ذى انتقام: أي مما عاداه وعادى رسوله. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتى المؤمنين ما يشاءون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم- أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم، ولا يضيرهم ما يخوّفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى فمن يضلله فلا هادى له، ومن يهده فلا مضل له، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السموات والأرض يقولون الله؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثم سألهم سؤال تعجيز: هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده الله بأحد، أو يمنع خيرا قدره الله لأحد؟ إذا فالله حسبى وعليه أتوكل. وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم- أمره سبحانه أن يقول لهم: اعملوا كما تشاءون، وعلى نحو ما تحبون، إنى عامل على طريقتى، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.

الإيضاح

الإيضاح (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟) أي الله وحده هو الذي يدفع عن عباده الآفات: ويزيل عنهم المصايب والويلات، ويعطيهم جميع المشتهيات، والمراد أنه يكفى من عبده وتوكل عليه. وأتى بالكلام على طريق الأسلوب الإنكارى للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسر لأحد أن ينكرها. ثم رتب على ذلك ما هو كالنتيجة لما سلف فقال: (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي ويخوفك المشركون بغير الله من الأوثان والأصنام عبثا وباطلا، لأن كل نفع أو ضر فلا يصل إلا بإرادته تعالى. وقد روى أنهم خوّفوا النبي صلّى الله عليه وسلم مضرة الأوثان فقالوا: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنّك بسوء. وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزّى ليكسرها بالفأس، فقال له سادتها: أحذّركها يا خالد، فإن لها شدة لا يقوم لها شىء، فعمد خالد إلى العزّى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس اه. وفي الآية إيماء إلى أنه سبحانه يكفى نبيه صلّى الله عليه وسلم دينه ودنياه، ويكفى أتباعه أيضا، ويكفيهم شر الكافرين. ونحو الآية قوله: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: «وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟» . ثم أبان شديد جهلهم لتوعدهم بما لا يضر ولا ينفع فقال: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يضلله الله لتدسيته نفسه وحبه للاثم والفسوق ومعصية الرسول، فما له من هاد يهديه إلى الرشاد ويخلّصه من الضلال. (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) أي ومن يوفقه الله إلى أسباب السعادة بتزكية

نفسه وتحبيبها إلى صالح العمل، فلا مضل له يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يغيّر سلوكه إذ لا رادّ لفعله، ولا معارض لإرادته، وإلى ذلك أشار بقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) أي الله عزيز لا يغالب، ومنيع لا ينازع ولا يمانع، وذو انتقام من أعدائه لأوليائه، فهو الذي لا يضام من استند إلى جنابه، أو لجأ إلى بابه. ثم أقام الدليل على غفلتهم وشديد جهلهم في عبادتهم للأصنام والأوثان مع تفرده تعالى بالخالقية لكل شىء وعدم خلقها شيئا فقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي إن هؤلاء المشركين يقرون بوجود الإله العالم الحكيم لوجود الدليل، ووضوح السبيل الذي لا يمكن إنكاره، فإذا هم سئلوا اعترفوا به، وإذا كان كذلك فكيف ساغ لهم عبادة غير الخالق أو تشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الفطنة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم، وأحسنوا الظن بهم، هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل. ثم أمر سبحانه رسوله أن يبكتهم ويوبخهم بعد هذا الاعتراف فقال: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟) أي أخبرونى عن آلهتكم هذه، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر أو منع ما أراده لى من الخير؟ وإذا لم تكن لها قدرة على شىء فلا ينبغى التعويل عليها ولا الكدّ في عبادتها، بل نعبد الإله القادر الذي تكون عبادته كافية جلب السراء ودفع الضراء. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلّى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئا من قدر الله ولكنها تشفع فنزل قوله: (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) فى جميع أمورى من جلب نفع أو دفع ضر، فلا أخاف شيئا من أصنامكم التي تخوفوننى بها.

(عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي عليه لا على غيره يعتمد العاملون. وفي الحديث «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل» . وروى عن ابن عباس أنه قال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف، واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا» . ونحو الآية قول هود عليه السلام: «إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» حين قال له قومه: «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» . ولما أورد عليهم الحجة التي لا دافع لها أمر رسوله أن يقول لهم على وجه التهديد: (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي اعملوا على ما أنتم تعتقدون في أنفسكم من القوة والشدة واجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإنى عامل أيضا في تقرير دينى والسعى في نشره بين الناس، فسوف تعلمون أن العذاب والخزي في الدنيا يصيبنى أو يصيبكم، فيظهر حينئذ أيّنا المبطل أنا أو أنتم، ويحل علىّ العذاب المقيم الدائم في الآخرة أو عليكم.

[سورة الزمر (39) : الآيات 41 إلى 45]

[سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 45] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) المعنى الجملي بعد أن حاجّهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى- سلاه على إصرار هم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقال: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضل فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى. ثم ذكر أنه تعالى يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا، وظاهرا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.

الإيضاح

ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد. الإيضاح (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن بالحق لتبلّغه للانس والجن مبشرا برحمة الله، ومنذرا بعقابه، وفيه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم والهادي لهم إلى الصراط المستقيم. (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي فمن عمل بما فيه واتبعه فإنما بغى الخير لنفسه، إذ أكسبها رضا خالقها، وفاز بالجنة ونجا من النار. (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن حاد عن البيان الذي بيناه لك، فضّل عن الحجة، فإنما يجور على نفسه، وإليها يسوق العطب والهلاك، لأنه يكسبها سخط الله وأليم عقابه في دركات الجحيم «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» . (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنت أيها الرسول برقيب على من أرسلت إليهم ترقب أعمالهم وتحفظ عليهم أفعالهم، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. ونحو الآية قوله: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» وقوله: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» . ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة، وصفته العجيبة فقال: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي الله هو الذي يقبض الأنفس حين انقضاء آجالها بالموت، ويقطع تعلقها بالأجساد تعلق المتصرّف فيه.

(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم يحضر أجلها، فيقبضها عن التصرف في الأجساد مع بقاء الأرواح متصلة بها. (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يردها إلى الأجساد. (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويرسل النائمة إلى الأجساد حين اليقظة إلى أجل مسمى وهو وقت الموت. روى عن ابن عباس أنه قال: إن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح هى التي بها النفس والتحريك، فيتوفيان عند الموت، وتتوفى النفس وحدها حين النوم. وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره (طرفه الذي يلى الجسد ويلى الجانب الأيمن) فإنه لا يدرى ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربى وضعت جنبى، وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسى فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» . وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن أبى شيبة عن أبى قتادة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي: ان الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء، وردّها عليكم حين شاء» . وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم فى سفر فقال: من يكلؤنا الليلة؟ فقلت أنا، فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحرّ الشمس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيها الناس إن هذه الأرواح عارية فى أجساد العباد، فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء» . وأخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال:

العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء ولم يخطر على باله فتكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا! فقال علىّ كرم الله وجهه، أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ يقول الله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» فالله يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهى عنده سبحانه في السماء فهى الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهى الكاذبة، لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها، فعجب عمر من قوله رضى الله عنهما اه. ومن هذا تعلم أن النفس علويّة هبطت من المحل الأرفع، وشغلت بتدبير منزلها فى ليلها ونهارها، ولا تزال تنتظر العود إلى ذيّاك الحمى، فحين النوم تنتهز الفرصة، فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور، وتستعد لقبول بعض آثاره، والاستضاءة بشىء من أنواره فمتى رأت وهى في تلك الحال فاضت عليها أنواره فكانت الرؤيا صادقة، ومتى رأت وهى راجعة القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام، وتزدحم فيه أىّ ازدحام، كانت رؤياه كاذبة، وهى في كلتا الحالين متفاوتة بحسب الاستعداد والله ولى التوفيق، ومنه الهداية لأقوم طريق. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر لآيات عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته لمن يتفكر في طريق تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها بانقطاع تصرفها حين الموت مع بقائها في عالم آخر إلى أن يعيد الله الخلق، وفي قطع تصرفها فى الظاهر فقط في حال النوم، ثم إرسالها حال اليقظة إلى انقضاء آجالها. ثم أنكر على المشركين اتخاذ الأصنام شفعاء، فقال: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ) أي بل اتخذ المشركون آلهتهم التي يعبدونها لتشفع لهم عند الله في قضاء حاجاتهم؟.

وإجمال المعنى- إنه لا ينبغى لهم ذلك، إذ لا يخطر على بال عاقل فائدة لهذا، ومن ثم أمر رسوله أن يتهكم بهم ويحمّقهم على ما يفعلون فقال: (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: أتتخذونهم شفعاء كما تزعمون، ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا، ولا يعقلون أنكم تعبدونهم. ثم أمر رسوله أن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) فليس لأحد منها شىء إلا بإذنه لمن ارتضى كما قال: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟» وقال: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» والخلاصة- إنه تعالى مالك الشفاعة كلها، لا يستطيع أحد أن يشفع لديه إلا أن يكون المشفوع له مرتضى والشفيع مأذونا له، وكلاهما ليس بموفور لهؤلاء. ثم بين العلة في أن الشفاعة جميعا له فقال: (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان في السموات والأرض، وكل من فيها ملك له، ومنها ما تعبدون من دونه، فاعبدوا مالك الملك كله الذي لا يتصرف أحد فى شىء منه إلا بإذنه ورضاه. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي ثم إليه مصيركم بعد البعث وهو معاقبكم على إشراككم به سواه إن أنتم متم على هذه الحال. وخلاصة ذلك اعبدوا من يقدر على نفعكم في الدنيا وعلى صركم فيها، وفي الآخرة بعد مماتكم يجازيكم بما قدمتم من عمل، خيرا كان أو شرا. ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الذي تقشعرّ منه الجلود خشية. ثم ذكر هفوة من هفواتهم التي تصدر منهم، وتدل على غفلة عظيمة وتناقض بين الاعتراف بالألوهية والإنكار لها فقال: (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ

الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الاشمئزاز أن يمتلىء القلب غيظا وغما ينقبض عنهما أديم الوجه كما يرى في وجه العابس المحزون، والاستبشار أن يمتلىء القلب سرورا فتنبسط له بشرة الوجه. أي إنه إذا قيل لا إله في الكون إلا الله وحده نفرت قلوب أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث والمعاد بعد الموت، وإذا ذكرت الآلهة التي يدعونها من دون الله فقيل: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى إن استبشروا وفرحوا لفرط افتنانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى. قال ابن عباس في الآية: اشمأزت قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة أبو جهل بن هشام والوليد بن عتبة وصفوان وأبىّ بن خلف اه ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» . قال السيد الآلوسى في تفسيره ناعيا حال المسلمين اليوم: وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق أهواءهم ومعتقداتهم فيهم، ويعظمون من يحكم لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادى يا فلان أغثنى، فقلت له: قل يا الله فقد قال سبحانه: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء، وسمعت من بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان اهـ

[سورة الزمر (39) : الآيات 46 إلى 48]

[سورة الزمر (39) : الآيات 46 الى 48] قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) المعنى الجملي بعد أن ذكر عن المشركين حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد- أمر رسوله بالالتجاء إليه لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم، تسلية له، وبيانا لأن سعيه مشكور، وجدّه معلوم لديه، وتعليما لعباده أن يلجئوا إليه حين الشدة، ويدعوه بأسمائه الحسنى، ثم ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال وما ينتظرهم من العذاب. الإيضاح (قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي قل: يا الله يا مبدع السموات والأرض. ويا عالم ما غاب عنا وما تشهده العيون والأبصار، أنت تحكم بين عبادك فتفصل بينهم بالحق، يوم تجمعهم لفصل القضاء فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا من القول فيك وفي عظمتك وسلطانك، فتقضى بيننا وبين المشركين الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر من دونه استبشروا وفرحوا. أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم ربّ جبريل

وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم. وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلمنا أن نقول: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت رب كل شىء وإله كل شىء، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون، أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأعوذ بك أن أقترف على نفسى إثما أو أجرّه إلى مسلم» . قال أبو عبد الرّحمن رضى الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلم عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أن يقول ذلك حين يريد أن ينام. وقال أبوبكر الصديق: «أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضطجعى من الليل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شىء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسى وشر الشيطان وشركه، أو أقترف على نفسى سوءا أو أجره إلى مسلم» رواه الترمذي. وبعد أن ذكر معتقداتهم الفاسدة ذكر في وعيدهم أمورا: (1) (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولو أن هؤلاء المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه، وقبل ذلك منهم يوم القيامة لافتدوا به أنفسهم من أهوال ذلك العذاب الشديد الذي سيعذبون به، وقد تقدم إيضاح هذا في سورة آل عمران. (2) (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي وظهر لهم من عذاب الله الذي أعدّه لهم ما لم يكن في حسبانهم ولم يحدّثوا أنفسهم به. وفي هذا وعيد عظيم لهم وتهديد بالغ غاية لاغاية وراءها. قال مجاهد: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هى سيئات، وقال عكرمة بن

[سورة الزمر (39) : الآيات 49 إلى 52]

عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال أخاف آية من كتاب الله (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فأنا أخشى أن يبدو لى ما لم أكن أحتسب. (3) (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهر لهم حين تعرض عليهم صحائف أعمالهم ما كانوا اجترحوه من السيئات وارتكبوه من الآثام وعلموا أنهم مجازون على النقير والقطمير، وأحاط بهم العذاب من كل جانب، وأيقنوا أنهم مواقعوه لا محالة لاستهزائهم بما كان ينذرهم به الرسول صلّى الله عليه وسلم. [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) المعنى الجملي بعد أن حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة- حكى عنهم هناة أخرى هى أنهم حين الوقوع في الضر من أفقر ومرض يفزعون إلى الله ويلجئون إليه علما منهم أنه لا دافع له إلا هو، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله زعموا أن ذلك بكسبهم، وحسن صنيعهم، وجميل تدبيرهم، والحقيقة أن ما أوتوه إنما هو فتنة لهم واختبار لحالهم، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.

الإيضاح

وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله يبسطه تارة ويقبضه أخرى، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه فى ضيق شديد، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه. الإيضاح (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن أمر المشرك عجيب يدعو إلى الدهشة والحيرة، فإذا هو أصيب بضر من فقر أو مرض جأر إلى الله واستعان به لكشف ذلك الضر عنه- وإذا تغيرت الحال ونال شيئا من الرخاء أو زال عنه ما به من العلة قال: إنما أوتيت هذا لعلمى بوجوه المكاسب وجدى واجتهادي أو لذهابى إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج فلم أدخر دواء نافعا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه. وهذا منه تناقض عجيب، ففى الحال الأولى يستغيث بربه، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه ويقطع صلتها عن المنعم بها الذي أوجدها وأرادها، وفي الحق إن ما أعطيه من النعم إنما هو فتنة واختبار لحاله، أيشكر أم يكفر، أيطيع أم يعصى؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من الله وامتحان لهم، ومن ثم يقولون ما يقولون، ويدّعون من الدعاوى ما لا يفقهون. ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم فقال: (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي قد زعم مثل هذا الزعم وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم، فلم يغن عنهم شيئا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ويجمعون من حطامها حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله واستهزائهم بهم.

ثم بين ما سلف فقال: (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي فحلّ بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوجلوا بالخزي في الدنيا كالخسف الذي لحق بقارون، والصاعقة التي نزلت بقوم لوط، وسيصيبهم النكال الدائم في الآخرة. ثم أوعد سبحانه مشركى قومه على ما سينالهم في الدنيا والآخرة فقال: (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي والذين كفروا بالله من قومك وظلموا أنفسهم سيصيبهم أيضا وبال السيئات التي اكتسبوها، كما أصاب الذين من قبلهم، فأصابهم القحط سبع سنين متوالية وقتل صناديدهم يوم بدر، وأسر منهم العدد الكثير. (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي وما هم بفائتين الله هر با يوم القيامة، بل مرجعهم إليه ويصنع بهم ماشاء من العقوبة. ثم أقام سبحانه الدليل على عظيم قدرته وبديع حكمته فقال: (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) أي أولم ير هؤلاء المشركون أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة، ويضيق على من يريد أخرى، كما يشاهد من اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه، وليس ذلك لجهل في الكاسب أو علم لديه، فربما كان العاقل القادر ضيق الرزق، والجاهل أو المريض ذا سعة وبسطة في المال. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في هذا لدلالات لقوم يؤمنون بالله ويقرون بوحدانيته، وهم الدين يعلمون أن الذي يفعل ذلك هو الله لا سواه. وإنما خص المؤمنين بذلك، لأنهم المنتفعون بالآيات، المتفكرون فيها.

[سورة الزمر (39) : الآيات 53 إلى 59]

[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) تفسير المفردات الإسراف: تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء، وكثرة استعماله في إنفاق المال وتبذيره، والمراد هنا الإفراط في المعاصي، لا تقنطوا: أي لا تيأسوا، والإنابة: الرجوع. والإسلام لله: لإخلاص له، أحسن ما أنزل إليكم من ربكم: هو القرآن، بغتة: أي فجأة، يا حسرتا: أي يا حسرتى وندمى، فرّطت: أي قصرت، فى جنب الله: أي في عبادته وطاعته، لمن الساخرين: أي المستهزئين، كرة: أي رجعة. المعنى الجملي بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف- أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.

الإيضاح

أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: إن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية. الإيضاح (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول للمؤمنين الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود الله، فارتكبوا محارمه وتركوا أوامره: لا تيأسوا من مغفرة الله، فهو يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إليه ولجأ إلى جنابه، وإن كثرت وكانت كز بد البحر. روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما: أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا صلّى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ» ونزل: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» . والمراد من الآية الأولى قوله: «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» الآية: وروى أحمد عن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما أحب أن لى الدنيا وما فيها بهذه الآية: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» إلى آخر الآية، فقال رجل يا رسول الله فمن أشرك، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال: «ألا ومن أشرك- ثلاث مرات» .

وروى أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضى الله عنه قال: «جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم شيخ كبير يتوكأ على عصا له فقال: يا رسول الله إن لى غدرات وفجرات، فهل يغفر لى؟ قال صلّى الله عليه وسلم: ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال بلى وأشهد أنك رسول الله، فقال صلّى الله عليه وسلم: قد غفر لك غدراتك وفجراتك» . فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة والإخلاص فى العمل، ولا يقنطنّ عبد من رحمة الله، فإن باب الرحمة واسع كما قال: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» وقال: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» . وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل أنه قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آية في كتاب الله «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» وإن أكثر آية فى القرآن فرجا في سورة الغرف «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» فقال له مسروق: صدقت. وبعد أن نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه، فيحل الرجاء مكانه. وجاء بما لا يبقى بعده شك ولا يخالج القلب عند سماعه ظن فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) أي إن الله يغفر كل ذنب، كائنا ما كان إلا ما أخرجه النص القرآنى، وهو الشرك بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» . فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين ثياب القنوط، البعيدين عن سوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل

بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين إليه في مغفرة ذنوبهم. ثم ذكر علة ذلك فقال: (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد التوبة منها. فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته- أولى بهم مما بشرهم الله به- فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير هو الذي جاءت به نصوص الكتاب، وهو المسلك الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه من قوله: «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا» . وبعد أن وعد سبحانه بالمغفرة أمر بشيئين: (1) الإنابة إليه بقوله: (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي أيها الناس أنيبوا إلى ربكم بالتوبة، وارجعوا إليه بالطاعة، واستجيبوا إلى ما دعاكم إليه من توحيده وإفراد الألوهية قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا من عذابه النازل بكم. (2) اتباع الأحسن بقوله: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي واتبعوا ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه فيه، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم، ولا يخفى ما في هذا من تهديد ووعيد. ولما خوّفهم بالعذاب ذكر علة ذلك فقال: (1) (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي بادروا إلى العمل واحذروا أن تقول بعض الأنفس: يا حسرتا على تقصيرى فى طاعة الله، وسخريتى واستهزائى بدين الله وكتابه، وبرسوله وبالمؤمنين.

[سورة الزمر (39) : الآيات 60 إلى 61]

(2) (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي أو تقول: لو أن الله أرشدنى إلى دينه وطاعته، لكنت ممن اتقى الله فترك الشرك والمعاصي: (3) (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي أو تقول حين رؤية العذاب: ليت لى رجعة إلى الدنيا فأكون من المهتدين المحسنين لعقيدتهم وأعمالهم. وخلاصة ذلك- إن هذا المقصر تحسر على التفريط في الطاعة، وفقد الهداية ثم تمنى الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات. فأجابه سبحانه بقوله: (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي إنه لا فائدة من ذلك، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولى الذي أرسلته إليك وفي كتابى الذي يتلوه عليك، ويذكّرك بما فيه من وعد ووعيد، وتبشير وإنذار فكذبت بها واستكبرت عن قبولها، وكنت ممن يعمل عمل الكافرين ويستنّ بسنتهم، ويتّبع مناهجهم. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» . [سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) تفسير المفردات وجوههم مسودة: أي ما يظهر عليها من آثار الذل والحشرة، والمثوى: المقام، والمفازة: الظفر بالبغية على أتمّ وجه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أوعد المشركين فيما سلف بما سيكون لهم من الأهوال يوم القيامة، ووعد. المتقين بما يمنحهم من الفوز والنعيم في ذلك اليوم- أردف ذلك ذكر حال لكل منهما تبدو للعيان، ويشاهدها كل إنسان، يوم العرض والحساب. الإيضاح (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) أي وترى أيها الرسول يوم القيامة وجوه الذين كذبوا على الله، فزعموا أن له ولدا وأن له شريكا وعبدوا آلهة من دونه- مجلّلة بالسواد، لما أحاط بها من الكآبة والحزن الذي علاها، والغم الذي لحقها. ثم علل هذا وأكده بقوله: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي أليست النار كافية لهم سجنا وموئلا، ولهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق. وقد بين الرسول صلّى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال: «هو سفه الحق وغمص (احتقار) الناس» وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم «يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذرّ، يلحقهم الصّغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم» . (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) أي وينجّى الله من عذاب جهنم الذين اتقوا الشرك والمعاصي وينيلهم ما يبتغون، ويعطيهم فوق ما كانوا يؤملون. وعن النبي صلّى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبى هريرة قال: «يحشر الله مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب

[سورة الزمر (39) : الآيات 62 إلى 67]

ريح، فكلما كان رعب أو خوف قال له: لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت المعنىّ به، فإذا كثر ذلك عليه، قال فما أحسنك؟ فمن أنت؟ فيقول أما تعرفنى؟ أنا عملك الصالح حملتنى على ثقلى، فو الله لأحملنّك ولأدفعن عنك، فهى التي قال الله: «وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» . ثم بين هذه المفازة فقال: (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يمسهم أذى جهنم ولا يحزنون على ما فاتهم من مآرب الدنيا، إذ هم قد صاروا إلى ما هو خير منه، نعيم مقيم، فى جنات تجرى من تحتها الأنهار، ورضوان من الله أكبر. وخلاصة ذلك- إنهم آمنوا من كل فزع، وبعدوا من كل شر، وفازوا بكل خير. [سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 67] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

تفسير المفردات

تفسير المفردات وكيل: أي قيّم بالحفظ والحراسة فيتولى التصرف بحسب الحكمة والمصلحة، مقاليد: أي مفاتيح لفظ فارسى معرّب، واحده إقليد معرب، إكليد جمع جمعا شاذا، ليحبطن عملك: أي ليذهبن هباء ولا يكون له أثر، وما قدروا الله حق قدره: أي ما عظموه حق التعظيم على الوجه الذي يليق به، والقبضة: المرة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض، بيمينه: أي بقدرته. المعنى الجملي بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك- عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية. الإيضاح (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي هو سبحانه الخالق للأشياء جميعا من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما، وكلها تحت جبروته وقهره. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي وهو القائم على كل الأشياء يتولاها بحراسته وحفظه بحسب ما تقتضيه المصلحة، فهى محتاجة إليه في بقائها كما هى محتاجة إليه فى وجودها. ثم فصل ذلك بعض التفصيل فقال:

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو حافظ الخزائن ومدبرها ومالك مفاتيحها فله التصرف في كل شىء مخزون فيها. والخلاصة- هو القادر عليهما والحافظ لهما. أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فقال لى يا عثمان: لقد سألتنى عن مسألة لم يسألنى عنها أحد قبلك. «مقاليد السموات والأرض: لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن يحيى ويميت وهو حىّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شىء قدير» وعلى هذا فالمراد أن هذه الكلمات يوحّد بها ويمجّد وهى مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها أصابه خيرهما. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين كفروا بالأدلة التي وضعت في الأكوان وجاءت في القرآن، دالة على وحدانية الله وعظيم قدرته وبديع حكمته- أولئك هم المغبونون حظوظهم من خيرات السموات والأرض، لأنهم حرموا من ذلك في الآخرة بخلودهم في النار. ثم أمر رسوله أن يوبخ المشركين على أمره صلّى الله عليه وسلم بعبادة الأصنام والأوثان فقال: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي قل لمشركى قومك الداعين لك إلى عبادة الأصنام والقائلين لك: هودين آبائك: أفتأمروني أيها الجاهلون بعد مشاهدتى الآيات الدالة على تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية- أن أعبد غيره، والعبادة لا تصلح لشىء سواه. روى عن ابن عباس «أن قريشا دعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعطوه ما لا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء ويطئون عقبه (أي يغطون دعوته ويزيلونها) وقالوا هذا لك يا محمد وتكفّ عن شتم آلهتنا ولا تذكرها

بسوء، قال حتى أنظر ما يأتينى من ربى فنزل: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» إلى آخر السورة، ونزل (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي- إلى قوله- مِنَ الْخاسِرِينَ) » . وعنه أيضا: إن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم وهم يعبدون معه إلهه. ثم بين أنه حذر وأنذر عباده من الشرك بلسان جميع الأنبياء فقال: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولقد نزل عليك الوحى من ربك بأنه إذا حصل منك إشراك به بعبادة صنم أو وثن ليبطلنّ كل عمل لك من أعمال الخير كصلة رحم وبرّ ببائس فقير ولا تنالنّ به ثوابا ولا جزاء ولتكونن ممن خسروا حظوظهم في الدنيا والآخرة، وأوحى إلى الرسل من قبلك بمثل هذا. فاحذر أن تشرك بالله شيئا فتهلك، وهذا كلام سيق على سبيل الفرض والتقدير، لتهييج المخاطب المعصوم، وللايذان بشناعة الإشراك وقبحه، حتى لينهى عنه من لا يكاد يفعله فكيف بغيره؟ والحكم بحبوط عمل المشرك في الآخرة مقيّد بما إذا مات وهو كذلك بدليل قوله في الآية الأخرى: «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» . ثم رد عليهم ما أمروه به من عبادة الأصنام وأمره بعبادته وحده فقال: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) أي لا تعبد ما أمرك به قومك، بل الله فاعبده دون سواه من الأنداد والأوثان. (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه، وما اختصك به من الرسالة. ثم أكد ما سلف بقوله:

(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق التعظيم، إذ عبدوا غيره معه، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شىء، المالك لكل شىء، وكل شىء تحت قهره وقدرته. روى البخاري عن ابن مسعود قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا محمد: إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» الآية. وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه في جماعة آخرين عن ابن عمر «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» وهو يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر، يمجّد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلّى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرّنّ به» . (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي إن الأرض جميعا تحت ملكه يوم القيامة يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يتصرف فيها سواه، والسموات مطويات طى السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصى معها شىء، وفي هذا رمز إلى أن ما يشركونه معه في الأرض أو في السماء مقهور تحت سلطانه جل شأنه. روى البخاري عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «يقبض الله الأرض، ويطوى السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟»

[سورة الزمر (39) : الآيات 68 إلى 70]

وقد علمت أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه، وأن الخلف يؤولونه، والأول أسلم، والثاني أحكم. قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه اهـ. وقال صاحب الكشاف: والغرض من هذا الكلام إذا أخذته بجملته ومجموعه تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز اهـ. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع القدرة العظيمة، والحكمة الباهرة. [سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) تفسير المفردات الصور: القرن ينفخ فيه، صعق: أي غشى عليه، ينظرون: أي ينتظرون ماذا يفعل بهم؟ وأشرقت الشمس: أضاءت، وشرقت: طلعت، بنور ربها: أي عدله، ووضع الكتاب: أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدى العاملين، بالحق: أي بالعدل، ما عملت: أي جزاء ما عملت.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر عظمته تعالى بأنه خالق كل شىء، وهو الوكيل على كل شىء، وبيده مقاليد السموات والأرض- أردف ذلك ذكر دلائل أخرى تدل على كمال قدرته وعظيم سلطانه، فبذكر مقدمات يوم القيامة من نفخ الصور النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض جميعا، ثم النفخة الثانية التي يقوم بها الناس جميعا من قبورهم، ثم الفصل بينهم للجزاء والحساب، فتوفى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، وهو سبحانه العليم بأفعالهم جميعا. الإيضاح (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) بيّن سبحانه ما يكون بعد قبض الأرض وطىّ السماء والنفخ في الصور النفخة الأولى، إذ هما نفختان يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون فى الثانية بعد أن كانوا عظاما ورفاتا. أخرج ابن ماجه والبزار وابن مردويه عن أبى سعيد الخدري مرفوعا «إن صاحبى الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر، متى يؤمران» ؟. وروى أبو داود عن أبى سعيد الخدري قال: «ذكر رسول الله صاحب الصور وقال: عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل» . وليس في القرآن ولا في صححيح الأخبار ما يدل على تعيين من استثناهم الله من الصعق والفزع، ومن ثم قال قتادة لا ندرى من هم؟. ونحو الآية قوله: «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» وقوله: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» .

وقوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» . (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي وأضاءت أرض المحشر بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات. (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدى العاملين كما قال: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» . وقال في آية أخرى «مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» . (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليكونوا شهداء على أممهم كما قال: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» . (وَالشُّهَداءِ) أي الحفظة من الملائكة الذين يقيدون أعمال العباد خيرها وشرها كما يدل على ذلك قوله: «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» . فالسائق يسوق للحساب، والشهيد يشهد عليها. وبعد أن بيّن أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات- بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه كاملا غير منقوص، ودل على ذلك بأربع عبارات: (1) (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بينهم بالعدل والصدق. (2) (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب ولا زيادة في عقاب، ونحو الآية قوله: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» . وقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» . (3) (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي، وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت جزاء كاملا.

[سورة الزمر (39) : الآيات 71 إلى 72]

(4) (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) فى الدنيا دون حاجة إلى كاتب ولا حاسب، فلا يفوته شىء من أعمالهم، ومن ثمّ يكون حكمه بينهم بالقسطاس المستقيم. والخلاصة- أنه إنما وضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة، لا لحاجة إليها في علمه تعالى بما يعملون وما يقولون، ثم جزائهم على ما قدموا من خير أو شر. [سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 72] وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) تفسير المفردات السوق: الحث على السير بعنف وإزعاج علامة على الاهانة والاحتقار، والزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في إثر بعض، والخزنة: واحدهم خازن نحو سدنة وسادن، وينذرونكم: أي يخوّفونكم، حقت: أي وجبت. المعنى الجملي بعد أن شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال بقوله: «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» - فصّل ذلك فذكر ما يحل بالأشقياء من الأهوال، وما يلقونه من التأنيب والتوبيخ من خزنة جهنم على طريق السؤال والجواب التهكمى وهو أشد وقعا على الأبىّ العيوف الذي تأبى نفسه الهوان والاحتقار.

الإيضاح

الإيضاح (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي وسيق الكافرون بربهم، المشركون به الأصنام والأوثان، إلى جهنم سوقا عنيفا، أفواجا متفرقة بعضها في إثر بعض بحسب ترتب طبقاتهم في الضلال والشر- بزجر وتهديد ووعيد، كما يساق المجرمون في الدنيا إلى السجون جماعات مع الإهانة والتحقير على ضروب شتى. ونحو الآية قوله: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» أي يدفعون إليها دفعا. (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت لهم أبوابها سريعا ليدخلوها، كأبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتى أرباب الجرائم الذين يسجنون فيها، فتفتح ليدخلوها، فإذا دخلوها أغلقت عليهم. ثم ذكر سؤال الخزنة لهم على طريق التوبيخ، والاهانة فقال: (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟) أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون ما ينبئونكم به من طاعة ربكم والاعتراف بوحدانيته وترك الشرك به، ويسهل عليكم مراجعتهم حين يقيمون عليكم الحجج والبراهين مبينين صدق ما دعوكم إليه، وينذرونكم أهوال هذا اليوم؟. فأجابوهم معترفين ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لوضوح السبل أمامهم، ولا سبيل حينئذ إلى الإنكار والجحود. (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قالوا بلى قد أتانا رسل من ربنا فأنذرونا وأقاموا الحجج والبراهين، ولكنا كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشّقوة والضلالة، فعدلنا بسوء اختيارنا عن الحق إلى الباطل، وفعلنا الشر دون الخير، وعبدنا ما لا يضر ولا ينفع، وتركنا عبادة الواحد القهار. ونحو الآية قوله: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» .

[سورة الزمر (39) : الآيات 73 إلى 75]

وبعد أن اعترفوا هذا الاعتراف. (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي قالت لهم الملائكة الموكلون بعذابهم: ادخلوا جهنم ماكثين فيها أبدا لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها. (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فبئس المصير، وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم فى الدنيا، وإبائكم عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه، فبئس الحال وبئس المآل. [سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أحوال الأشقياء وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال- أردفها ذكر أحوال السعداء، وما يلاقونه إذ ذاك من النعيم، وما يقال لهم وما يقولون. ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش، يسبحون بحمد ربهم، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص، وأنه سيقضى بين الخلائق بالعدل، وأن أولئك المتقين سيقولون: الحمد لله رب العالمين على ما تفضل به علينا وأنعم. الإيضاح (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أي وسيق المتقون إلى الجنة جماعة إثر جماعة على النجائب وفودا إلى الجنة، المقربون فالأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين

يلونهم، كل طائفة منهم مع من يشاكلهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم. والمراد بالسوق هنا الإسراع بهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرّم من الوافدين على بعض الملوك وبالسوق المتقدم طردهم إلى العذاب والهوان كما يفعل بالأسير إذا سبق إلى الحبس أو القتل، فشتان ما بين السوقين. (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها وقد فتحت لهم أبوابها، كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف قبل قدومه وتقف منتظرة حضوره فرحا بمقدمه- فرحوا بما أفاء الله به عليهم من النعيم، وبما شاهدوا مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيسّبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» أخرجه مسلم وغيره. وروى عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب درىّ فى السماء إضاءة» . واخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فى الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريان لا يدخله إلا الصائمون» ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال: (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي وقال لهم الخزنة: سلام عليكم من جميع المكاره والآلام، فلا يعتريكم مكروه بعد ذلك. (طِبْتُمْ) نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم، وقد يكون المعنى: طبتم في الدنيا فلم تدنسوا أنفسكم بالشرك والمعاصي، وطاب سعيكم، وطاب جزاؤكم.

(فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي فادخلوها ما كثين فيها أبدا، لا زوال ولا فناء، ولا تحوّل عنها. (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي وقال المؤمنون إذا عاينوا ذلك النعيم المقيم، والعطاء العظيم في الجنة: الحمد لله الذي صدقنا ما وعدنا به على السنة رسله الكرام، كما دعوا بذلك في الدنيا وقالوا: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ» وقالوا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» . (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي وجعلنا نتصرف في أرض الجنة تصرف الوارث فيما يرث، فنتخذ منها مباءة ومسكنا حيث شئنا. (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي فنعم الأجر أجرنا على عملنا، وثوابنا الذي أعطيتنا. (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي وترى أيها الرائي الملائكة محيطين بجوانب العرش، قائمين بجميع ما يطلب منهم، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتقديس، ويصلّون حول العرش، شكرا لربهم وتنزيها له عن كل نقص. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بين العباد بالعدل، فأدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار، أعاذنا الله منها. (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي بدأ خلقهم وصوّرهم فأحسن صورهم، ومن له ملك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي لا يعلم عدّها إلا هو. وقد بدأ سبحانه هذه الآية بالحمد وختمها بالحمد، للتنبيه إلى تحميده في بداية كل أمر ونهايته.

مجمل مشتملات هذه السورة الكريمة

وقال قتادة: «افتتح الخلق بالحمد في قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . اللهم صل على محمد عبدك ورسولك خاتم النبيين والمرسلين صلاة دائمة إلى يوم الدين. مجمل مشتملات هذه السورة الكريمة (1) وصف الكتاب الكريم. (2) الأمر بعبادة الله وحده والنعي على المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام. (3) إقامة الأدلة على وحدانية الله. (4) طبيعة المشرك في السراء والضراء. (5) ضرب الأمثال في القرآن وفائدة ذلك. (6) تمنى المشركين الفداء حين يرون العذاب. (7) الوعد بغفران ذنوب من أسرفوا على أنفسهم إذا تابوا. (8) ما يرى على وجوه أهل النار من الكآبة والحزن. (9) ذكر أحوال يوم القيامة. (10) وصف ذهاب أهل النار إلى المحشر وما يشاهد وبه من الأهوال- (11) وصف ذهاب أهل الجنة وما يشاهدونه فيها من النعيم المقيم. (12) بعد فصل القضاء يقول أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) .

سورة غافر

سورة غافر هى مكية إلا آيتي 56، 57 فمدنيتان، وآيها خمس وثمانون، نزلت بعد سورة الزمر. ومناسبتها اقبلها: (1) إنه ذكر في سابقتها ما يئول إليه حال الكافر وحال المؤمن، وذكر هنا أنه غافر الذنب، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عن الكفر. (2) إنه ذكر في كل منهما أحوال يوم القيامة، وأحوال الكفار فيه وهم في المحشر وهم في النار. قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: آل حم ديباج القرآن. وعنه أيضا: إذا وقعت فى آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهن. وقال ابن عباس رضى الله عنهما: إن لكل شىء لبابا، ولباب القرآن آل حم. وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لكل شىء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم» . وعنه أيضا «مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب» . [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) الإيضاح (حم) تقدم الكلام في أمثال هذه الحروف المقطعة في أوائل السور بما يغنى عن إعادته هنا، وقد اخترنا هناك أن أحسن الآراء في ذلك أنها كلمات يراد بها التنبيه

فى أول الكلام نحو (ألا) و (يا) وينطق بأسمائها فيقال (حاميم) بتفخيم الألف وتسكين الميم، ويجمع على حواميم وحواميمات، وأنكر ذلك الجواليقي والحريري وابن الجوزي وقالوا لا يقال ذلك بل يقال آل حم، ويؤيد ذلك أن صاحب الصحاح نقل عن الفرّاء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب، وحديث ابن مسعود وقد تقدم: إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات: وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقىّ ومعزب يريد بذلك قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا القرآن تنزيل من الله الغالب القاهر في ملكه، الكثير العلم بخلقه، وبما يقولون وما يفعلون. وفي هذا إيماء إلى أنه ليس بمتقوّل ولا مما يجوز أن يكذّب به. (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) أي وهو الذي يغفر ما سلف من الذنوب، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله وبغى، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم التي لا يطيقون القيام بشكرها ولا شكر واحدة منها كما قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) . وذكر (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) لترغيب عباده العاصين، وذكر (شَدِيدِ الْعِقابِ) لترهيبهم، وفي مجموع هذا الحثّ على فعل المراد من تنزيل الكتاب وهو التوحيد والإيمان بالبعث والإخلاص لله في العمل والإقبال عليه، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه كقوله: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.

[سورة غافر (40) : الآيات 4 إلى 6]

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا نظير له، فيجب اتباع أوامره وترك نواهيه. (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه وحده المرجع والمآب، فيجازى كل نفس بما كسبت. أخرج أبو عبيد وابن سعد وابن مردويه والبيهقي في الشّعب عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (من قرأ حم المؤمن إلى- إليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى، ومن قرأهما حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح) . [سورة غافر (40) : الآيات 4 الى 6] ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) تفسير المفردات الجدل: شدة اللدد في الخصومة، تقلبهم: أي تصرفهم فيها للتجارة وطلب المعاش، والأحزاب: الجماعات الذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل، وهمّت: أي عزمت، ليأخذوه: أي ليقتلوه ويعذبوه، ليدحضوا: أي ليزيلوا، حقت: أي وجبت، كلمة ربك: أي حكمه بالإهلاك. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب أنزله لهداية الناس وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم إذا هم عملوا بهديه- ذكر أحوال من يجادل فيه لغرض إبطاله وإخفاء

الإيضاح

نوره، ثم أرشد رسوله ألا يغتر بأحوال أولئك المجادلين وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارة، لسعة الرزق والتمتع بزخرف الدنيا، فإنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية ممن كذبوا رسلهم فحلّ بهم البوار فى الدنيا، وسينزل بهم النكال في الآخرة في جهنم وبئس القرار. الإيضاح (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ما يخاصم في القرآن بالطعن فيه وتكذيبه كقولهم مرة إنه شعر، وأخرى إنه سحر وثالثة إنه أساطير الأولين إلى أشباه ذلك من سخيف المقال- إلا الذين جحدوا به وأعرضوا عن الحق مع ظهوره. وهذا النوع من الجدل هو المذموم، وإليه الاشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم «لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر» أما الجدل لتقرير الحق وإيضاح الملتبس، وكشف المعضل، واستنباط المعاني، ورد أهل الزيغ بها، ورفع اللبس، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، فهو وظيفة الأنبياء، ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح لنوح «يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «هاجرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب، فقال إنما هلك من كان قبلهم باختلافهم في الكتاب» رواه مسلم. وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما علىّ: «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» الآية، وقوله: «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر نهى رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يغتر بشىء من حظوظهم الدنيوية فقال: (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافعة

فى البلاد، وما يحصلون عليه من المكاسب في رحلة الشتاء في اليمين ورحلة الصيف فى الشام، ثم يرجعون سالمين غانمين، فإنهم معاقبون عما قليل، وهم وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون. قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك. وفي هذا تسلية له صلّى الله عليه وسلم ووعيد لهم. ثم قال مسليا رسوله على تكذيب من كذبه من قومه، بأن له أسوة في سلفه الأنبياء، فإن أقوامهم كذبوهم وما آمن منهم إلا قليل فقال: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي كذبت قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب، فحلّت بهم نقمتنا بعد بلوغ أمدهم كما هى سنتنا فى أمثالهم من المكذبين، كعاد وثمود ومن بعدهم، وكانوا في جدلهم على مثل الذي عليه قومك. (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي وحرصت كل أمة على تعذيب رسولهم بحبسه وإصابة ما أرادوا منه. وقال قتادة والسدى ليقتلوه، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى: «أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» . (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي وخاصموا رسولهم بالباطل بإيراد الشبه التي لا حقيقة لها كقولهم: «ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله، وليطفئوا النور الذي أوتيه، قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا الإيمان. (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فأهلكتهم واستأصلت شأفتهم فلم أبق منهم ديّارا ولا نافخ نار وصاروا كأمس الدابر، وإنكم لتمرون على ديارهم مصبحين وممسين كما قال: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» وهكذا سأفعل بقومك إن هم أصروا على الكفر والجدل في آيات الله، وإلى ذلك أشار بقوله: (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، وقصصت عليك خبرها أن يحل بها عقابى- وجبت

[سورة غافر (40) : الآيات 7 إلى 9]

كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك، لأن الأسباب واحدة وهى كفرهم وعنادهم للحق، واهتمامهم بإطفاء نور الله الذي بثه في الأرجاء لإصلاح نظم العالم وسعادته فى دينه ودنياه، وارتقاء النفوس البشرية والسموّ بها عن الاستخذاء إلى شجر أو حجر أو حيوان، طمعا في خير يرجى منه، وشفاعة تنفع عند الله. [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) تفسير المفردات العرش: مركز تدبير العالم كما تقدم إيضاح ذلك في سورة يونس، وندع أمر وصفه إلى عالم الغيب فهو العليم بعرشه ووصفه، وقهم: أي احفظهم من وقيته كذا أي حفظته، السيئات: أي الجزاء المرتب عليها. المعنى الجملي بعد أن أبان ما أظهره المشركون للمؤمنين من العداوة، ومجادلتهم للرسل بالباطل لاطفاء نور دعوتهم- أردف ذلك بيان أن أشرف المخلوقات وهم الملائكة الذين يحملون العرش والحافّون حول العرش- يحبون المؤمنين ويطلبون لهم ولآبائهم

الإيضاح

وأزواجهم وذرياتهم المغفرة من ربهم، فلا تبال أيها الرسول بهؤلاء المشركين ولا تقم لهم وزنا، وكفاك نصرة حملة العرش والحافين حوله. الإيضاح (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الملائكة الذين يحملون عرش ربهم، والملائكة الذين هم حوله ينزهون الله متلبسين بحمده على نعمه، ويقرون بأن لا إله إلا هو ولا يستكبرون عن عبادته، ويسألون أن يغفر لمن أقروا بمثل ما أقروا به من توحيد الله والبراءة من كل معبود سواه. ونحن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم من حمل الملائكة للعرش، ولا نبحث عن كيفيته ولا عن عدد الحاملين له، فإن ذلك من الشؤون التي لم يفصلها لنا الكتاب ولا السنة المتواترة فنكل أمر علمها إلى ربنا، وعلينا التسليم بما جاء في كتابه. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحمل يراد به التدبير والحفظ، وأن الحفيف والطواف بالعرش يراد به القرب من ذى العرش سبحانه، ومكانة الملائكة لديه، وتوسطهم في نفاذ أمره. ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكيا عنهم: (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي وسعت رحمتك وعلمك كل شىء من خلقك، والمراد أن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك يحبط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم. (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي فصفح عن المسيئين إذا تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات، وترك

المنكرات، واجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية بأن تلزمهم الاستقامة، وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بالبعد عن هذا العذاب، ولا يبدّل القول لديك. قال مطرّف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية. وقال خلف بن هشام البزّار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» بكى، ثم قال يا خلف: ما أكرم المؤمن على الله، يكون نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له. (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ربنا وأدخلهم الجنات التي وعدتهم إياها على ألسنة رسلك، وأدخل معهم في الجنة الصالحين من الآباء والأزواج والذرية، لتقرّبهم أعينهم، فإن الاجتماع بالأهل والعشيرة في موضع السرور يكون أكمل للبهجة وأتم للأنس. قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنة فيقول يا رب أين أبى وجدي وأمي؟ وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتى؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك، فيقول: يا رب كنت أعمل لى ولهم، فيقال أدخلوهم الجنة، ثم تلا: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ» إلى قوله: «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» ويقرب من هذه الآية قوله: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» . (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي أنت الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور. ثم عمموا في الدعاء لهم بأن يمنع عنهم العقوبات الدنيوية والأخروية فقالوا: (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي واصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي كانوا قد أتوها قبل توبتهم، ولا تؤاخذهم بذلك فتعذبهم بها.

[سورة غافر (40) : الآيات 10 إلى 17]

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصرف عنه سوء عاقبة ما ارتكب من السيئات يوم القيامة فقد رحمته ونجيته من عذابك. (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وهذا هو الفوز الذي لا فوز أجمل منه، ولا مطمع وراءه لطامع، إذ وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع، وبأفعال قليلة ملكا لا نصل العقول إلى كنه جلاله. [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 17] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المقت: أشد البغض، والروح: الوحى، يوم التلاقي: هو يوم القيامة وسمى بذلك لالتقاء الخالق بالمخلوق، بارزون: أي ظاهرون لا يسترهم جبل ولا أكمة ولا نحوهما. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أحوال المشركين المجادلين في آيات الله- أردف ذلك بيان أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم وباستحقاقهم ما سيحل بهم من النكال والوبال، ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم. وبعد أن هددهم أعقب ذلك بما يدل على كمال قدرته وحكمته بإظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق، وأنه أرفع الموجودات، لأنه مستغن عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه، وأنه ينزل الوحى على من يشاء من عباده، لينذر بالعذاب يوم الحساب والجزاء. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي إن الكافرين تناديهم الملائكة يوم القيامة وهم يتلظّون النار ويذوقون العذاب، فيمقتون أنفسهم ويبغضونها أشد البغض، بسبب ما أسلفوا من سيئ الأعمال التي كانت سبب دخولهم في النار- إن مقت الله لكم في الدنيا حين كان يعرض عليكم الإيمان فتكفرون- أشد من مقتكم أنفسكم اليوم وأنتم على هذه الحال. والخلاصة- إن مقت الله لأهل الضلال حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا

فتركوه وأبوا أن يقبلوه- أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذابه يوم القيامة، قاله قتادة ومجاهد والحسن البصري وابن جرير. ثم ذكر ما يقولونا حين ينادون بهذا النداء فقال: (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي قالوا ربنا خلقتنا أمواتا، وأمتنا حين انقضاء آجالنا، وأحييتنا أو لا ينفخ الأرواح فينا ونحن في الأرحام، وأحييتنا بإعادة أرواحنا إلى أبداننا حين البعث نقله ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود، وجعلوا ذلك نظير آية البقرة: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» . (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي فاعترفنا أننا أنكرنا البعث فكفرنا وفعلنا من الذنوب ما لا يحصى عدّا، لأن من لم يخش عاقبة يتماد في غيه، ولكن حين رأينا الإماتة والإحياء قد تكررا علينا علمنا أن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها. ثم طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما فاتهم فقالوا: (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل أنت معيدنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإنك قادر على ذلك. وهذا أسلوب يستعمل في التخاطب حين اليأس، قالوه تحيّرا أو تعللا عسى أن يتاح لهم الفرج. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» وقوله: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» . فما كان جوابهم عما طلبوا إلا الرفض الباتّ مع ذكر السبب فقال:

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي لا سبيل إلى رجعتكم إلى الدار الدنيا، لأن طباعكم لا تقبل الحق بل تنفيه، فإنكم كنتم فيها إن دعى الله وحده كفرتم وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله، فأنتم هكذا تكونون لو رددتم إلى الدنيا كما قال: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» . ثم ذكر ما ترتب على أعمالهم التي عملوها وما ضرّوا بها إلا أنفسهم فقال: (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) أي فالحكم حينئذ لله الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يقضى إلا بما تقتضيه الحكمة، وهو ذو الكبرياء والعظمة الذي ليس كمثله شىء، ومن ثم اشتدت سطوته بمن أشركوا به، واقتضت حكمته خلودهم في النار، فلا سبيل إلى خروجكم منها أبدا إذ أشركتم به سواه. ثم ذكر ما يدل على كبريائه وعظمته فقال: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي هو الذي يظهر قدرته لخلقه، بما يشاهدونه في العالم العلوي والسفلى من الآيات العظام الدالة على كمال خالقها وقدرة مبدعها وتفرده بالألوهية كما قال: وفي كل شىء له آية ... تدلّ على أنه واحد ثم خصص من هذه الآيات ما هم في أشد الحاجة إليه وهو المطر فقال: (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أي وهو الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزرع والثمار ما تشاهدونه مما هو مختلف الألوان والطعوم والروائح والأشكال، مما أبدعته يد القدرة ووشّته بأبدع الحلي والمناظر. (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي وما يعتبر بتلك الآيات، ويستدل بها على عظمة خالقها، إلا من ينيب إلى ربه، ويتفكر في بديع ما خلق، وعظيم ما أوجد، ويترك التقليد واتباع الهوى.

والخلاصة- إن دلائل التوحيد مركوزة في العقول لا يحجبها إلا الاشتغال بعبادة غير الله، فإذا أناب العبد إلى ربه زال الغطاء، وظفر بالفوز، وظهرت له سبل النجاة. ولمّا ذكر ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي إذا علمتم أن التذكر خاص بمن ينيب، فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها، وخالفوا المشركين فى مسلكهم، ولا تلتفتوا إلى كراهتهم لذلك، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم. وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالاجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاه» . وبعد أن ذكر من صفات كبريائه إظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق- ذكر ثلاث صفات أخرى تدل على جلاله وعظمته فقال: (1) (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي إنه أرفع الموجودات وأعظمها شأنا، لأن كل شىء محتاج إليه، وهو مستغن عما عداه، وإنه أزلى أبدىّ ليس لوجوده أول ولا آخر، وإنه العالم بكل شىء «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» . (2) (ذُو الْعَرْشِ) أي إنه مالك العرش ومدبره، فهو مستول على عالم الأجسام وأعظمها العرش، كما هو مستول على عالم الأرواح وهى مسخرة له، وإلى ذلك أشار قوله:

(3) (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي يلقى الوحى بفضائه على من يشاء من عباده الذين يصطفيهم لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى من يريد من خلقه. ونحو الآية قوله: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» وقوله: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» . (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي لينذر بالعذاب يوم يلتقى العابدون والمعبودون، يوم هم ظاهرون لا يكنّهم شىء، ولا يسترهم شىء. (لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) فيعلم ما فعله كل منهم، فيجازيه بحسب ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ونحو الآية قوله: «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» . ثم ذكر ما يقال عند بروز الخلق للحساب والجزاء فقال: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي يقول الرب تعالى: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب سبحانه فيقول: لله الواحد القهار أي هو الواحد الذي لا مثل له، القهار لكل شىء سواه بقدرته، الغالب بعزته. وقيل: المجيب هم أهل المحشر، فقد روى أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عز وجل عليها، فيؤمر مناد ينادى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟) فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) يقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا وخضوعا. وبعد أن ذكر صفات قهره في ذلك اليوم- أردفها بيان صفات عدله وفضله فقال: (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي اليوم يثاب كل عامل بعمله، فيلاقى أجره، ففاعل الخير يجزى الخير وفاعل الشر يجزى بما يستحق، لا يبخس أحد

[سورة غافر (40) : الآيات 18 إلى 20]

ما استوجبه من أجر عمله في الدنيا فينقص منه إن كان محسنا، ولا يحمل على مسىء إثم ذنب لم يعمله. روى مسلم عن أبى ذر رضى الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا- إلى أن قال- يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» . ثم بين سبحانه أنه يصل إلى الخلق في ذلك اليوم ما يستحقون بلا إبطاء فقال: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي إن الله سريع حسابه لعباده على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا نفسا واحدة، لإحاطة علمه بكل شىء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة. أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: «يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادى مناد لمن الملك اليوم- إلى قوله الحساب» . ونحو الآية قوله: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» وقال: «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» . [سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 20] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يوم الآزفة: يوم القيامة وسميت بذلك لقربها يقال أزف السفر: أي قرب، قال: أزف الترحّل غير أنّ ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد والحناجر: واحدها حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى، وهى لحمة بين الرأس والعنق، كاظمين: أي ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج، والحميم: القريب، خائنة الأعين: يراد بها النظر إلى ما لا يحل، ما تخفى الصدور: أي ما تكتمه الضمائر. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أن الأنبياء ينذرون الناس بيوم التلاقي- أعقب ذلك بذكر أوصاف هائلة تصطك منها المسامع، وتشيب من هولها الولدان لهذا اليوم المهيب. الإيضاح (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) أي وأنذر أيها الرسول مشركى قومك يوم القيامة، ليقلعوا عن قبيح أعمالهم، وذميم معتقداتهم التي يستحقون عليها شديد العذاب، ذلك اليوم الذي يعظم فيه الخوف حتى ليخيل أن القلوب قد شخصت من الصدور، وتعلقت بالحلوق، فيرومون ردها إلى مواضعها من صدورهم، فلا هى ترجع ولا هى تخرج من أبدانهم فيموتوا. ثم بين أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال: (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله قريب ينفعهم، ولا شفيع تقبل شفاعته لهم، بل تقطعت بهم الأسباب من كل خير.

ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شىء وإن كان في غاية الخفاء فقال: (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي يعلم ربكم ما خانت أعين عباده وما نظرت به إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الرّيب، قال ابن عباس في الآية: هى الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغضّ بصره عنها، وإذا غضوا نظر إليها، وإذا نظروا غض بصره عنها. وقد اطّلع الله من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها، أخرجه ابن أبى شيبة وابن المنذر. (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي لا يخفى عليه شىء من أمورهم حتى ما يحدّثون به أنفسهم وتضمره قلوبهم. (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي والله يحكم بالعدل في الذي خانته الأعين بنظرها، وأخفته الصدور من النوايا، فيجزى الذين أغمضوا أبصارهم وصرفوها عن محارمه حذار الموقف بين يديه بالحسنى، ويجزى الذين رددوا النظر، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش جزاءهم الذي أوعدهم به في دار الدنيا. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من قومك- لا يقضون بشىء لأنهم لا يعلمون شيئا ولا يقدرون على شىء، فاعبدوا الذي يقدر على كل شىء، ولا يخفى عليه شىء. وغير خاف ما في هذا من التهكم بآلهتهم. (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إنه تعالى هو السميع لما تنطق به الألسنة، البصير بما تفعلون من الأفعال، وهو محيط بكل ذلك ومحصيه عليكم، فيجازيكم عليه جميعا يوم الجزاء. ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، والتعريض بحال ما يدعون من دون الله.

[سورة غافر (40) : الآيات 21 إلى 22]

[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) المعنى الجملي بعد أن بالغ سبحانه في تخويف الكفار بعذاب الآخرة- أردفه تخويفهم بعذاب الدنيا، فطلب إليهم أن ينظروا إلى من قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إذ كذبوا رسلهم حين جاءوهم بالبينات. الإيضاح حذر الله هؤلاء المشركين مما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم وأعظم آثارا كعاد وثمود، (والسعيد من وعظ بغيره) فقال واعظا ومذكرا: ألم يسر هؤلاء المشركون بالله في البلاد فيروا عاقبة الذين كانوا من قبلهم من الأمم ممن سلكوا سبيلهم في الكفر وتكذيب الرسل، وقد كانوا أشد منهم بطشا، وأبقى في الأرض آثارا، فلم تنفعهم شدة قواهم، ولا عظيم آثارهم إذ جاء أمر الله، فأخذوا بما أجرموا من المعاصي واكتسبوا من الآثام، فأبيدوا جميعا وصارت مساكنهم خاوية بما ظلموا، وما كان لهم من عذاب الله من حافظ يدفعه عنهم؟ قصص موسى عليه السلام مع فرعون [سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)

تفسير المفردات

تفسير المفردات السلطان: الحجة والبرهان، فرعون: ملك القبط بالديار المصرية، وهامان وزيره، وقارون كان أكثر الناس في زمانه تجارة ومالا، عذت: التجأت وتحصنت، متكبر: أي مستكبر عن اتباع الحق. المعنى الجملي لما سلى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا بالأنبياء قبله بمشاهدة آثارهم- سلاه أيضا بذكر قصص موسى مع فرعون مع ما أوتى من الحجج الباهرة، كذبه فرعون وقومه وأمروا بقتل أبناء بنى إسرائيل، وأمر فرعون بقتل موسى خوفا أن يبدل دينهم أو يعيث في الأرض فسادا، فتعوّذ موسى بربه ورب بنى إسرائيل من كل جبار متكبر لا يؤمن بالجزاء والحساب. الإيضاح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يقول سبحانه مسليا نبيه على تكذيب من كذبه من قومه، ومبشرا له بأن العاقبة والنصر له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام، فإن الله

أرسله بالآيات البينات إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوه وجعلوه ساحرا مجنونا حين عجزوا عن معارضته. وخص فرعون وهامان وقارون بالذكر، لأنهم الرؤساء المكذبون والناس تبع لهم. ولما عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة لجئوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، وإلى هذا أشار بقوله: (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي فلما جاءتهم الآيات البينات الدالة على توحيد الله ووجوب العمل بطاعته، قالوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه من أبناء بنى إسرائيل وأبقوا نساءهم لخدمتنا. قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بنى إسرائيل عقوبة لهم فكان يأمر بقتل الذكور وترك الإناث ليمتنعوا من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم ويشتد عضدهم بالذكور من أولادهم، لكن الله شغلهم عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمّل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر. وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي وما مكرهم وقصدهم وهو تقليل عدد بنى إسرائيل لئلا ينصروا عليهم- إلا ذاهب سدى وباطلا، فالناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم ما فعل، وإن القدر المقدور لا محالة نافذ، والقضاء المحتوم لا بدّ واقع، والنصر حليف المؤمنين، كما وعد في كتابه المكنون «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» . والخلاصة- إن ما أظهروه من الإبراق والإرعاد سيضمحل لا محالة ويذهب هباء أمام تلك القوة القاهرة وسيكون النصر للمتقين.

ثم ذكر أنه ما كفاهم قتل البنين واستحياء البنات من بنى إسرائيل بل أرادوا أن يجتثوا هذه الشجرة من أصلها، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي وقال فرعون لملئه: دعونى أقتل موسى وليدع ربه الذي أرسله إلينا ليمنعه منا، وكان إذا همّ بقتله كفوه وقالوا له: ليس هذا بالذي يخاف منه وهو أضعف من ذلك شأنا، وما هو إلا ساحر يصاوله ساحر مثله، وإنك إن قتلته أدخلت الشبهة في نفوس القوم واعتقدوا أنك عجزت عن مقابلة الحجة بالحجة، وما يزالون به هكذا يحاورونه ويداورونه حتى يكف عن قتله. وربما يكون قد قال ذلك تمويها على قومه وإيهاما أن حاشيته هم الذين يكفونه عن قتله، وما يكفه عن ذلك إلا ما في نفسه من هول الفزع الذي استحوذ عليه، كما يرشد إلى ذلك قوله «وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» فإن ظاهره الاستهانة به بدعائه ربه سبحانه كما يقال: ادع ناصرك فإنى منتقم منك، وباطنه أن فرائصه كانت ترتعد من دعائه ربه، فلهذا تكلم بما تكلم به مظهرا أنه لا يبالى بدعائه ربه، كما يقول القائل ذرونى أفعل كذا وما كان فليكن. ثم ذكر السبب في قتله فقال: (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي إنى أخاف أن يفسد موسى عليكم أمر دينكم الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده، أو يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، إذ يجتمع إليه الهمل الشّرّد ويكثرون من الخصومات والمنازعات وإثارة القلاقل والاضطرابات، فتتعطل المزارع والمتاجر وتعدم المكاسب. والخلاصة- إنه يقول: إنى أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل، أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل، وهما أمران أحلاهما مرّ.

[سورة غافر (40) : الآيات 28 إلى 29]

وقد جعل ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه. ولما هدد فرعون موسى بالقتل استعاذ بالله من كل متعظم عن الإيمان به لا يؤمن بالبعث والنشور، فصانه من كل بليّة، وإلى ذلك أشار بقوله: (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) أي إنى استجرت بالله ربى وربكم، واستعنت به من شر كل مستكبر لا يذعن للحق، ولا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه الخلائق، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء، وإنما خص الاستعاذة بمن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء، لأنهما عنوان قلة المبالاة بالعواقب، وعنوان الجرأة على الله وعلى عباده، فمن لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على الإحسان راجيا، ولا من العقاب على الإساءة وقبيح ما يأتى من الأفعال خائفا. وفي قوله (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) حثّ لهم على موافقته في العياذ به سبحانه، والتوجه إليه جل شأنه بالأرواح، فالأرواح الطاهرة إذا تظاهرت كان ذلك أدنى إلى الإجابة، وأقرب إلى تحقق الغرض، ومن ثم شرعت صلاة الجماعة، وإنما قال (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) ولم يقل «منه» سلوكا لطريق التعريض، وتحاشيا مما قد يعرض له من الأذى إذا هو سمع كلامه فهو واف بالغرض ومبين للعلة التي لأجلها أبى واستكبر. [سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 29] وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الرجل المؤمن: هو ابن عم فرعون وولىّ عهده وصاحب شرطته وهو الذي نجامع موسى وهو المراد بقوله: «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى» ، والبينات: هى الشواهد الدالة على صدقه، والمسرف: المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب: المفترى، ظاهرين: أي غالبين عالين على بنى إسرائيل، ما أريكم إلا ما أرى: أي ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب. المعنى الجملي بعد أن حكى عن موسى أنه مازاد حين سمع مقالة فرعون الداعية إلى قتله، على أن استعاذ بالله من شره- أردف ذلك بيان أن الله قيّض له من يدافع عنه من آل فرعون أنفسهم ويذبّ عنه على أكمل الوجوه وأحسنها، ويبالغ في تسكين تلك الفتنة، ويجتهد فى إزالة ذلك الشر. الإيضاح (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟) أي وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه منهم خوفا على نفسه: أينبغى لكم أن تقتلوا رجلا ما زاد على أن قال: ربى الله وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه؟ ومثل هذه المقالة لا تستدعى قتلا ولا تستحق عقوبة فاستمع فرعون لكلامه، وأصغى لمقاله وتوقف عن قتله، قال ابن عباس: لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي قال: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» .

وخلاصة ذلك- أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء، وهى قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله؟ وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق، وهى قوله: ربى الله. أخرج البخاري وغيره من طريق عروة بن الزبير قال: قيل لعبد الله بن عمرو ابن العاص: أخبرنا بأشد شىء صنعه المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّى بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟» . وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علىّ بن أبى طالب أنه قال: «أيها الناس أخبرونى من أشجع الناس؟ قالوا أنت، قال أما إنى ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبرونى عن أشجع الناس؟ قالوا لا نعلم، فمن؟ قال أبو بكر: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا، قال: فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجأ هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله؟ ثم رفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم: أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبى بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا رجل أعلن إيمانه وبذل ماله ودمه» . ثم ذكر من الحجج ما يؤيد به رأيه فقال: (1) (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي إن كان كاذبا في قيله إن الله أرسله إليكم ليأمركم بعبادته وترك دينكم الذي أنتم عليه،

فإنما إثم كذبه عليه دونكم، وإن يك صادقا في قيله ذلك أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين: سخطا على الكفر، وسخطا على قتل رسوله. وفي قوله: بعض الذي يعدكم- مبالغة في التحذير، فإنه إذا حذرهم من بعض العذاب أفاد أنه مهلك مخوف فما بال كله؟ إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب. (2) (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي إنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله، ولما عاضده بتلك المعجزات، إلى أنه لو كان كذلك لخذله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله. وفي هذا تعريض بفرعون بانه مسرف في القتل والفساد، كذاب في ادعاء الربوبية، لا يهديه الله إلى سبيل الرشاد، ولا يلهمه طريق الخير والفلاح. (3) (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟) أي يا قوم قد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه بقتله، فإنه لا قبل لكم به، وإن جاءنا لم يمنعه عنا أحد. وفي قوله: ينصرنا وجاءنا، تطييب لقلوبهم، وإيذان بأنه ناصح لهم، ساع فى تحصيل ما يجديهم، ودفع ما يرديهم، سعيه في حق نفسه، ليتأثروا بنصحه. ولما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم كما حكى سبحانه عنه بقوله: (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي قال فرعون مجيبا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: لا أشير عليكم برأى سوى ما ذكرته من وجوب قتله حسما للفتنة، وإنى لأرى أن هذا هو سبيل الرشاد والصلاح، ولا أعدّ غير هذا صوابا.

[سورة غافر (40) : الآيات 30 إلى 35]

[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 35] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) تفسير المفردات الأحزاب: أي الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوهم، والدأب: العادة، يوم التناد: يوم القيامة، سمى بذلك لأن الناس ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة. قال أمية بن أبى الصّلت: وبثّ الخلق فيها إذ دحاها ... فهم سكانها حتى التّناد عاصم: أي مانع، مرتاب: أي شاك في دينه، ويوسف: هو يوسف بن يعقوب عليه السلام، وروى عن ابن عباس أنه يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، أقام فيهم نبيا عشرين سنة، والسلطان: الحجة، والمقت: أشد الغضب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن سمع ذلك المؤمن رأى فرعون في موسى وتصميمه على قتله، وإقامة البراهين على صحة رأيه، وأنه لا سبيل إلى العدول عن ذلك- أعاد النصح مرة أخرى لقومه، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم، فذكّرهم بأس الله وسنته في المكذبين للرسل، وضرب لهم الأمثال بما حل بالأحزاب من قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود، ثم ذكّرهم بأهوال يوم القيامة، يوم لا عاصم من عذاب الله، ثم أعقب ذلك بتذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف من قبل من تكذيبهم برسالته ورسالة من بعده، فأحل الله بهم من البأس ما صاروا به مثلا في الآخرين، وكأنّ لسان حاله يقول: هأنذا قد أسمعت، ونصحت فما قصرت، والأمر إليكم فيما تفعلون. الإيضاح (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي وقال ناصحا قومه: يا قوم إنى أخاف عليكم إن كذبتم موسى وتعرضتم له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوهم كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، فقد نزل بهم من بأس الله وعذابه ما لم يجدوا له واقيا ولا عاصما، وهذه سنة الله في المكذبين جميعا، فحذار حذار أيها القوم، إنى لكم ناصح أمين، وما أهلكهم إلا بسوء أفعالهم وعظيم ما اجترحوا من الآثام والمعاصي وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وإلى هذا أشار بقوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي وما أهلك الله هذه الأمم ظلما لهم بغير جرم اجترموه، بل أهلكهم بإجرامهم وكفرهم، وتكذيبهم رسله، بعد أن جاءوهم بالبينات، فأنفذ فيهم قدره، وأحل بهم وعيده.

وبعد أن خوفهم العذاب الدنيوي خوفهم العذاب الأخروى فقال: (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي إنى أخاف عليكم عذاب يوم القيامة حين ينادى بعضكم بعضا، ليستغيث به من شدة الهول، أو حين ينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، وينادى «أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا نَعَمْ» وينادى «أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» . يوم تولون مدبرين هربا من زفير النار وشهيقها، فلا يجديكم ذلك شيئا، ولا تجدون من يعصمكم من العذاب، فتردّون إليه وينالكم منه ما قدّر لكم وكتب عليكم. ثم نبه إلى شدة ضلالتهم وعظيم جهالتهم فقال: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله ولا يلهمه رشده فما له هاد يهديه إلى طريق النجاة ويوفقه إلى الخلاص. وفي هذا إيماء إلى أنه يئس من قبولهم نصحه. ثم وبخهم بأنهم ورثوا التكذيب بالرسل من آبائهم الأولين، وأسلافهم الغابرين فقال: (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) أي ولقد جاء آباءكم يوسف من قبل موسى بالآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، فلم يزالوا في ريب من أمره، وشك من صدقه، فلم يؤمنوا به، حتى إذا مات قالوا: لن يبعث الله رسولا من بعده يدعو إليه ويحذّر بأسه، ويخوّف من عقابه، فالتكذيب متوارث، والعناد قديم، والريب دأب آبائكم الغابرين، وقد نسب تكذيب الآباء إليهم، لما تقدم من أن الأمم متكافلة فيما بينها، فينسب ما حدث من بعضها إلى جميعها، إذا تواطئوا واتفقوا عليه كما جاء في قصص

ثمود حين كذّب قدار فعقر الناقة فنسب التكذيب إلى ثمود جميعها كما قال: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها» . والخلاصة- إنهم كفروا بيوسف في حياته، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته، وظنوا أن ذلك لا يجدد عليهم الحجة. وقد قالوا هذه المقالة على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان، ليكون لهم أساس في تكذيب من بعده، وليس إقرارا منهم برسالته، بل هو ضم إلى الشك فى رسالته التكذيب برسالة من بعده. ثم بين أنه لا عجب في تكذيبهم فقد طمس الله بصائرهم، وران على قلوبهم، حين دسّوا أنفسهم بقبيح الخصال وعظيم الآثام. (كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي مثل هذا الضلال الواضح، يضل الله ويصد عن سبيل الحق، وقصد السبيل من هو مسرف في معاصيه مستكثر منها، شاك في وحدانيته ووعده ووعيده، لغلبة الوهم عليه، وانهما كه في التقليد. ثم بين هؤلاء المسرفين المرتابين فقال: (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي إن المسرفين المرتابين هم الدين يخاصمون في حجج الله التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحجج التي لا مستساغ لها من عقل ولا نقل، فيتمسكون بتقليد الآباء والأجداد، ويتمسكون بترّهات الأباطيل التي لا يتقبلها ذوو الحصافة والرأى. ثم أكد ما سلف وقرره وتعجب من حالهم فقال: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي كبر ذلك الجدل بغضا لدى الله والمؤمنين، فمقت الله إياهم يكون بما يستتبعه من سوء العذاب، ومقت المؤمنين تظهر آثاره في هجرهم إياهم، والاحتراس من التعامل معهم، وعدم الركون إليهم في الدين والدنيا.

[سورة غافر (40) : الآيات 36 إلى 37]

ثم بين أن هذه سنة الله فيهم وفي أمثالهم فقال: (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي كما طبع الله على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذين أبوا أن يوحدوا الله ويصدقوا رسله، واستعظموا عن اتباع الحق، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والجدل بغير الحق. ونسب التكبر إلى القلب، لأنه هو الذي يتكبر وسائر الأعضاء تبع له، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلم «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب» . قال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق. [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) تفسير المفردات هامان: وزير فرعون، الصرح: القصر الشامخ المنيف، الأسباب: واحدها سبب، وهو ما يتوصل به إلى شىء من حبل وسلم وطريق، والمراد هنا الأبواب. قال زهير بن أبى سلمى: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم

المعنى الجملي

والتباب: الخسران والهلاك، ومنه قوله تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ» وقوله سبحانه: «وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ» . المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف تكبر فرعون وجبروته- أبان هنا أنه بلغ من عتوّه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى أن أمر وزيره هامان أن يبنى له قصرا شامخا من الآجرّ ليصعد به إلى السماء، ليطلع إلى إله موسى، ومقصده من ذلك الاستهزاء به ونفى رسالته، وأكد ذلك بالتصريح بقوله: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ثم أرشد إلى أن هذا وأمثاله صنيع المكذبين الضالين، وأن عاقبة تكذيبهم الهلاك والخسران. الإيضاح (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أي وقال فرعون بعد سماعه عظة المؤمن وتحذيره له من بأس الله إذا كذب بموسى وقتله: يا هامان ابن لى قصرا منيفا عالى الذّرا رفيع العماد، علّنى أبلغ أبواب السماء وطرقها، حتى إذا وصلت إليها رأيت إله موسى، ولا يريد بذلك إلا الاستهزاء والتهكم، وتكذيب دعوى الرسالة من رب السموات والأرض. والخلاصة- إن هذا نفى لرسالته من عند ربه. ثم أكد هذا النفي الضمنى بالتصريح به بقوله: (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أي وإنى لأظنه كاذبا فيما يقول ويدّعى من أن له في السماء ربّا أرسله إلينا، وقد قال هذا تمويها وتلبيسا على قومه، توصلا بذلك إلى بقائهم على الكفر، وإلا فهو يعلم أن الإله ليس في جهة العلو فحسب، وكأنه يقول: لو كان إله

[سورة غافر (40) : الآيات 38 إلى 46]

موسى موجودا لكان له محل، ومحله إما الأرض وإما السماء، ولم نره في الأرض، فإذا هو في السماء، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم، فيجب أن نبنى الصرح لنصل إليه. ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع فقال: (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العمل السيّء، فانهمك في غيّه، واستمر في طغيانه، ولم يرعو بحال، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، وما كان ذلك إلا لسوء استعداده وتدسيته نفسه والسير بها قدما في شهواتها دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيها، ويثوب بها إلى رشدها. والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدى وأن الله ناصر أولياءه، ومهلك أعداءه و «مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وإلى هذا أشار بقوله: (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي وما احتياله الذي يحتال به ليطّلع على إله موسى إلا في خسار وذهاب مال، لأنها نفقة تذهب باطلا سدى دون أن يصل إلى شىء مما أراده من القضاء على دعوة موسى، فالنصر في العاقبة له «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» . [سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 46] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الرشاد: ضد الغى والضلال، متاع: أي يستمتع به أياما قليلة ثم ينقطع ويزول، دار القرار: أي دار البقاء والدوام، إلى النجاة: أي إلى الإيمان بالله الذي ثمرته وعاقبته النجاة، إلى النار: أي إلى اتخاذ الأنداد والأوثان الذي عاقبته النار، ما ليس لى به علم: أي ما لا وجود له ولم يقم عليه دليل ولا برهان، لا جرم: أي حقّا، دعوة: أي استجابة دعوة لمن يدعو إليه، مردّنا: أي مرجعنا، وأن المسرفين، أي الذين يغلب شرهم على خيرهم، فستذكرون: أي فسيذكر بعضكم بعضا حين معاينة العذاب، وقاه: حفظه، يعرضون عليها: أي تعرض أرواحهم عليها. المعنى الجملي اعلم أن هذا المؤمن لما رأى تمادى قومه في تمردهم وطغيانهم أعاد إليهم النصح مرة أخرى، فدعاهم أولا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد، ثم بين

الإيضاح

لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة، وأنها هى الدار التي لا زوال لها، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان بالله الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار، ثم أردف هذا بيان أن الأصنام لا تستجاب لها دعوة، فلا فائدة في عبادتها، ومردّ الناس جميعا إلى الله العليم بكل الأشياء، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس الله وتفويض أمره إلى الله الذي يدفع عنه كل سوء يراد به ثم أخبر سبحانه بأنه استجاب دعاءه فوقاه السوء الذي دبروه له وحفظه مما أرادوه من اغتياله، وأحاط بآل فرعون سوء العذاب فغرقوا في البحر، ويوم القيامة يكون لهم أشد العذاب في النار. الإيضاح (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي يا قوم إن اتبعتمونى فقبلتم منى ما أقول لكم سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين الله الذي ابتعث به موسى. ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، فصدوا عن التصديق برسول الله فقال: (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى تستمعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون، وإن الآخرة هى دار الاستقرار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن عنها إلى غيرها، وفيها إما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم. ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة وأشار إلى أن جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب فقال: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ

فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت، فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب، ومن عمل بطاعة الله وائتمر بأمره، وانتهى عما نهى عنه، ذكرا كان أو أنثى وهو مؤمن بربه مصدق بأنبيائه ورسله، فأولئك يدخلون الجنة ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل بل يجازون أضعافا مضاعفة بلا انقضاء ولا نفاد. ثم كرّر ذلك المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقول الرجل المحب لقومه تحذيرا لهم من الوقوع فيما يخاف عليهم من مواضع الهلكة فقال: (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟) أي أخبرونى كيف أنتم وما حالكم، أدعوكم إلى النجاة من عذاب الله بإيمانكم بالله وإجابة رسوله وتصديق ما جاء به من عند ربه، وتدعوننى إلى عمل أهل النار بما تريدون منى من الشرك؟. ثم فسر الدعوتين بقوله: (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي تدعوننى إلى الكفر بالله والإشراك به في عبادته ما لم يقم دليل على ألوهيته، وأنا أدعوكم إلى من استجمع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران. ثم أكد ما سلف بقوله: (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حقا إن ما تدعوننى إليه من الأصنام لا يجيب دعوة من يدعوه، فهو لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة. ونحو الآية: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» وقوله:

«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ» . (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ) أي وأن منقلبنا بعد الموت والبعث إلى الله، وحينئذ يجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر. (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وأن المشركين بالله المتعدّين حدوده هم أهل الجحيم خالدين فيها أبدا قاله قتادة وابن سيرين، وقال ابن مسعود ومجاهد والشعبي: هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها الذين ركبوا أهواءهم ودسّوا أنفسهم بصنوف المعاصي. ثم ختم نصحه بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم، ليتفكروا في عاقبة أمرهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال: (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) أي فستعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه وتتذكرونه فتندمون حيث لا ينفع الندم، وإنى قد بالغت في نصحكم وتذكيركم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد. ثم ابتدأ كلاما آخر يبين به اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر ويخبئه له الغيب كما هو دأب المؤمنين الصادقين فقال: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي وأتوكل على ربى وأفوض إليه أمرى وأستعين به ليعصمنى من كل سوء. قيل إنه قال ذلك لما أرادوا قتله والإيقاع به. وقال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه. ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه خبير بهم فيهدى من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال لسوء استعداده وتدسيته نفسه، وله الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والقدرة النافذة.

ثم أخبر سبحانه أنه قد كانت النصرة له والهلاك لعدوه فقال: (فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي فحفظه الله مما أرادوا به من المكر السيئ في الدنيا، إذ نجاه مع موسى عليه السلام، وفي الآخرة بإدخاله دار النعيم، وأحاط بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق في اليمّ، وفي الآخرة بدخول جهنم وبئس القرار. وفي هذا إيماء إلى أنهم قصدوه بالسوء، وقد روى عن ابن عباس أنه لما ظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب ونجا. ثم فصّل ما أجمله من سوء العذاب بقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة على النار بالغداة والعشى وينفّس عنهم فيما بين ذلك، ويدوم هذا إلى يوم القيامة، وحينئذ يقال لخزنة جهنم: أدخلوا آل فرعون النار. قال بعض العلماء. وفي هذه الآية دليل على عذاب القبر، ويؤيده ما روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، ويقال هذا مقعدك حين يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة، ثم قرأ: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا» . وروى ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر، قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب وقرأ: «أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» . وقد أثبت علماء الأرواح حديثا، نعيم الروح وعذابها، وشبهوا ذلك بما يراه النائم حين نومه، فقد نرى نائمين في سرير واحد يقوم أحدهما مذعورا كئيبا وجلا مما شاهد

[سورة غافر (40) : الآيات 47 إلى 50]

فى نومه، بينما نرى الثاني مستبشرا فرحا بما لاقى من المسرة والنعيم، فيروى أنه كان فى حديقة غناء وشاهد كذا وكذا مما فيها من بهجة وبهاء، وجمال ورواء. [سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 50] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) تفسير المفردات المحاجة: المجادلة والخصام بين اثنين فأكثر، الضعفاء: الأتباع والمرءوسون، والمستكبرون: السادة أولو الرأى فيهم، والتبع: واحدهم تابع كخدم وخادم، مغنون: أي دافعون، نصيبا: أي قسطا وجزءا، حكم: قضى، الخزنة: واحدهم خازن وهم القوّام يتعذيب أهل النار، ضلال: أي في ضياع وخسار. الإيضاح (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي واذكر أيها الرسول لقومك وقت حجاج أهل النار وتخاصمهم وهم في النار، فيقول الأتباع للقادة السادة: إنا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، فتكبرتم على الناس بنا.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ؟) أي فهل تقدرون أن تحتملوا عنا قسطا من العذاب فتخففوه عنا، فقد كنا نسارع إلى محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم جاءنا العذاب، ولولا أنتم لكنا مؤمنين. ومقصدهم من هذا المقال تخجيلهم وإيلام قلوبهم، وإلا فهم يعلمون أنهم لا قدرة لهم على ذلك التخفيف. فيرد عليهم أولئك الرؤساء بما حكاه الله عنهم بقوله: (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي قال رؤساؤهم الذين أبوا الانقياد للأنبياء: إنا جميعا واقعون في العذاب، فلو قدرنا على إزالته عن أنفسنا لدفعناه عنكم. وخلاصة مقالهم: إنا وأنتم في العذاب سواء. (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بفصل قضائه، فلا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، وكل منا كافر، وكل منا يستحق العقاب، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا. ولما يئس الأتباع من المتبوعين رجعوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء كما حكى الله عنهم بقوله: (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) أي وقال أهل جهنم لخدمها وقوّامها مستغيثين بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء رجاء أن يجدوا لديهم فرجا من ذلك الكرب الذي هم فيه: ادعوا ربكم أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب. فرد عليهم الخزنة موبخين لهم على سوء ما كانوا يصنعون مما استحقوا عليه شديد العذاب. (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟) أي أو ما جاءتكم الرسل بالحجج على توحيد الله لتؤمنوا به وتبرءوا مما دونه من الآلهة؟.

[سورة غافر (40) : الآيات 51 إلى 56]

فأجابوهم: (قالُوا بَلى) أي قالوا أتونا فكذبناهم، ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من البينات الواضحة، والبراهين الساطعة، حينئذ تهكم بهم خزنة جهنم. (قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي قالوا لهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم فادعوا أنتم وحدكم، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله، وإن دعاءكم لا يفيدكم شيئا فما هو إلا في خسران وتبار، وسواء دعوتم أو لم تدعوا فإنه لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم. روى الترمذي وغيره عن أبى الدرداء قال: «يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع، فيأكلون لا يغنى عنهم شيئا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذى غصّة فيغصّون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: «ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ» فيجيبونهم: «أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» [سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 56] إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يوم يقوم الأشهاد: هو يوم القيامة، والأشهاد: واحدهم شهيد بمعنى شاهد، والهدى: ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع، والإبكار: أول النهار إلى نصفه، والعشى: من النصف إلى آخر النهار، والسلطان: الحجة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه في أول السورة أنه لا يجادل في آيات الله إلا القوم الكافرون، ثم رد على أولئك المبطلين المجادلين تسلية لرسوله وتصبيرا له على تحمل أذى قومه- أردف ذلك وعده له بالنصرة على أعدائه في الدنيا والآخرة، وتلك سنة الله، فهو ينصر الأنبياء والرسل ويقيّض لهم من ينصرهم على أعدائهم ويملأ قلوبهم بنور اليقين، ويلهمهم أن النصرة لهم آخرا مهما تقلبت بهم الأمور. الإيضاح (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي إنا لنجعل رسلنا هم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، وننصر معهم من آمن بهم في الحياة الدنيا إما بإعلائهم على من كذبوهم كما فعلنا بداود وسليمان، فأعطيناهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكما فعلنا بمحمد صلّى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل كما فعلنا بنوح وقومه من إغراقهم وإنجائه، وكما فعلنا بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكناهم غرقا ونجينا موسى

ومن آمن معه من بنى إسرائيل- وإما بانتقامنا منهم بعد وفاة رسلنا كما نصرنا شعيبا بعد مهلكه بتسليطنا على من قتله من سلّطنا حتى انتصرنا بهم ممن قتله. وكذلك ننصرهم عليهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة لرسلها- بالشهادة بأن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وأن الأمم قد كذبتهم. (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل كما حكى سبحانه عنهم من قولهم: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» . (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم في هذا اليوم الطرد من رحمة الله، ولهم شر ما في الآخرة من العذاب الأليم، والقرار في سواء الجحيم. ولما بين أنه ينصر الأنبياء والمرسلين في الدنيا والآخرة ذكر نوعا من تلك النصرة فى الدنيا فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ولقد أعطينا موسى من المعجزات والشرائع ما يهتدى به الناس في الدنيا والآخرة، وأنزلنا عليه التوراة هدى لقومه، فتوارثوها خلفا عن سلف وصارت هداية لهم وتذكرة لأولى العقول السليمة التي بعدت من شوائب التقليد والوهم. وبعد أن بين سبحانه أنه ينصر رسله والمؤمنين وضرب لذلك مثلا بحال موسى خاطب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم بقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي فاصبر أيها الرسول لأمر ربك، وبلّغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك، وأيقن بأن الله منجز وعده، وناصرك وناصر من صدقك وآمن بك، على من كذبك

وأنكر ما جئت به من عند ربك، وسل ربك غفران ذنبك وعفوه عنك، وصلّ شكرا له طرفى النهار كما جاء في الآية الأخرى: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» . وقد يكون المراد من ذلك المواظبة على ذكر الله وألا يفتر اللسان عنه، ولا يغفل القلب حتى يدخل في زمرة الملائكة الذين قال سبحانه في وصفهم: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» . ولما ابتدأ عزّ اسمه بالرد على الذين يجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على النسق المتقدم، نبه هنا إلى السبب الذي يحملهم على تلك المجادلة فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي إن الذين يخاصمونك أيها الرسول فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة- ما يحملهم على هذا الجدل إلا كبر في صدورهم يمنعهم عن اتباعك وعن قبول الحق الذي جئتهم به، إذ لو سلموا بنبوتك لزمهم أن يكونوا تحت لوائك وطوع أمرك ونهيك، لأن النبوة ملك ورياسة، وهم في صدورهم كبر لا يرضون معه أن يكونوا فى خدمتك، وما هم ببالغي موجب الكبر وهو دفع الرياسة والنبوة عنك، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وليس ذلك بالذي يدرك بالأمانى. والخلاصة- إنه ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والحسد لك، وما هم ببالغي إرادتهم فيه، فإن الله قد أذلهم. ثم أمر رسوله أن يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين، فيقيه من أذاهم وشرهم ويكلؤه ويحفظه منهم فقال: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي فالتجىء إلى الله تعالى في دفع كيد من يشنؤك ويبغى عليك، فهو السميع لأفوالهم، البصير بأفعالهم، لا يخفى عليه شىء منها.

[سورة غافر (40) : الآيات 57 إلى 59]

[سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 59] لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنهم يجادلون في آيات الله بغير سلطان، وكان من جدلهم أنهم ينكرون البعث، ويعتقدون استحالته، ويعملون أقيسة وهمية، وقضايا جدلية، كقولهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» وقولهم: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» ذكر هنا برهانا يؤيد إمكان حدوثه ويبعد عن أذهانهم استحالته، وهو خلقه للسموات والأرض ابتداء على عظم أجرامهما، ومن قدر على ذلك فهو قادر على إعادتكم كما جاء في الآية الأخرى: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» . الإيضاح (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي لخلق السموات والأرض ابتداء من غير سبق مادة- أعظم في النفوس وأجل في الصدور، من خلق الناس لكبر أجرامهما، واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب بلا سبب، وقد جرت العادة في مزاولة الأفعال أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الشيء الصغير، فمن قدر على ذلك قدر على ما دونه كما قال: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن هؤلاء المشركين لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها ولا يعلمون أن الله لا يعجزه شىء. وبعد أن ذكر سبحانه الجدل بالباطل ذكر مثلا للمجادل بالباطل والمحق بين به أنهما لا يستويان فقال: (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي وما يستوى الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما يشاء ويؤمن بذلك ويصدق به- والمؤمن الذي يرى بعينيه تلك الحجج فيتفكر فيها ويتعظ بها ويعلم ما تدل عليه من توحيده وعظيم سلطانه وقدرته على خلق الأشياء جميعها صغيرها وكبيرها، وقد ضرب لهما مثل الأعمى والبصير، ليستبين ذلك الفارق على أتم وجه وأعظم تفصيل، فما الأمثال إلا وسائل للايضاح تبين للناس المعقولات وهى لابسة ثوب المحسوسات، فيتضح ما أنبهم منها وخفى من أمرها كما قال: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» . (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي وكذلك لا يستوى المؤمنون المطيعون لربهم والعاصون المخالفون لأمره، ونحو الآية قوله: «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ» . (قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ) أي ما أقل ما تتذكرون حجج الله فتعتبرون بها وتتعظون، ولو تذكرتم واعتبرتم لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحياء من فنى من خلقه وإعادته لحياة أخرى غير هذه الحياة. ولما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث والنشر- أردفه الإخبار بأنه واقع لا محالة فقال: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي إن يوم القيامة الذي يحيي فيه الله الموتى للثواب والعقاب لآت لا شك فيه، فأيقنوا بمجيئه، وأنكم مبعوثون من بعد مماتكم،

[سورة غافر (40) : الآيات 60 إلى 65]

ومجازون بأعمالكم، فتوبوا إلى ربكم واشكروا له جزيل إنعامه، ليدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وفيها ترون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بمجيئه، ومن ثم ركبوا رءوسهم وعاثوا في الأرض فسادا، واجترحوا السيئات دون خوف الرقيب الحسيب. [سورة غافر (40) : الآيات 60 الى 65] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) تفسير المفردات ادعوني: أي اعبدوني، أستجب لكم: أي أثبكم على عبادتكم إياى، داخرين: أي صاغرين أذلاء، لتسكنوا فيه: أي لتستريحوا فيه، مبصرا: أي يبصر فيه،

المعنى الجملي

تؤفكون: أي تصرفون، قرارا: أي مستقرا، بناء: أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب للسكنى فيها، فتبارك: أي تقدس وتنزه، الدين: الطاعة. المعنى الجملي بعد أن أثبت أن يوم القيامة حق، وكان المرء لا ينتفع فيه إلا بطاعة الله والتضرع له، وأشرف أنواع الطاعات الدعاء أي العبادة، لا جرم أمر الله تعالى بها في هذه الآية. ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا أقيمت الأدلة على وجود المعبود، ذكر من ذلك تعاقب الليل والنهار وخلق السموات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة ورزقه من الطيبات. الإيضاح (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدوني أثبكم، هكذا روى عن ابن عباس والضحاك ومجاهد في جماعة آخرين، ويؤيده أن القرآن كثيرا ما استعمل الدعاء بمعنى العبادة كقوله: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً» وما رواه النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي إلى قوله: داخِرِينَ» . أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية. ويجوز أن يراد بالدعاء والاستجابة معناهما الظاهر، ويرجحه ما روى عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدعاء الاستغفار» وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من لم يدع الله يغضب عليه» . أخرجه أحمد والحاكم. وعن معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء» أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني،

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدعاء مخ العبادة» أخرجه الترمذي، وعن ابن عباس قال: «أفضل العبادة الدعاء» وقرأ هذه الآية، وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم أي العبادة أفضل؟ فقال: دعاء المرء لنفسه» . ثم صرح سبحانه بأن المراد من الدعاء العبادة فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي إن الذين يتعظمون عن إفرادى بالعبادة وإفرادى بالألوهة سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء. وفي هذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم كبير، من حيث توعد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشر بالدعاء بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة الشديدة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم إليه، وعوّلوا فى كل مطالبكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التوكل عليه، وكفل لكم الإجابة بإعطاء مطالبكم، وحصول رغباتكم، فهو الكريم الجواد الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا. ولما أمر بالدعاء، والاشتغال به لا بد أن يسبق بمعرفة المدعوّ- ذكر الدليل عليه بذكر بعض نعمه فقال: (1) (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي إن الله الذي لا تصلح الألوهة إلا له، ولا تنبغى العبادة لغيره- هو الذي جعل الليل للسكون والاستراحة من الحركة والتردد في طلب المعاش والحصول على ما يفى بحاجات الحياة. (2) (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي وجعل النهار مضيئا بشمسه ذات البهجة والرواء، لتتصرفوا فيه بالأسفار، وجوب الأقطار، والتمكن من مزاولة الصناعات، ومختلف التجارات.

ثم ذكر نتيجة لما تقدم فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي فهو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى، ولا يمكن أن تستقصى. ثم بين أن كثيرا من عباده جحدوا هذه النعم، واستكبروا عن عبادة المنعم فقال: (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعم، ولا يعترفون بها، إما لجحودهم وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، وإما لإهمالهم النظر وغفلتهم عما يجب من شكر المنعم كما هو حال الجاهلين. ونحو الآية قوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» وقوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» . ثم بين كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده فقال: (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) أي ذلكم الذي فعل كل هذا، وأنعم عليكم بهذه النعم هو الله الواحد الأحد خالق جميع الأشياء لا إله غيره ولا رب سواه، فكيف تنقلبون عن عبادته، والإيمان به وحده، مع قيام البرهان الساطع، والدليل الواضح، وتعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهى مخلوقة منحوتة بأيديكم. ثم ذكر أن هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم قبلهم، بل قد سبقهم إلى هذا خلق كثير فقال: (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) أي كما ضل هؤلاء بعباده غير الله ضل وأفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان، بل للجهل والهوى. وبعد أن ذكر من الدلائل تعاقب الليل والنهار ذكر منها خلق الأرض والسماء فقال: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) أي الله الذي جعل لكم الأرض مستقرا تعيشون عليها، وتتصرفون فيها، وتمشون في مناكبها، وجعل لكم السماء سقفا محفوظا مزينا بنجوم ينشأ عنها الليل والنهار والظلام والضياء.

[سورة غافر (40) : الآيات 66 إلى 68]

وبعد أن ذكر دلائل الآفاق والأكوان- ذكر دلائل الأنفس فقال: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي وخلقكم فأحسن خلقكم، إذ خلق كلا منكم منتصب القامة، بادى البشرة، متناسب الأعضاء، مهيأ لمزاولة الصناعات، واكتساب الكمالات، ورزقكم من طيبات المطاعم والمشارب. (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم، هو الذي لا تنبغى الألوهة إلا له، ولا تصلح الربوبية لغيره، لا من لا ينفع ولا يضر، فتقدس سبحانه وتنزه وهو رب العالمين. ثم نبه إلى وحدانيته وأمر بإخلاص العبادة فقال: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي هو الحي الذي لا يموت، وما سواه فمنقطع الحياة غير دائمها، لا معبود بحق غيره ولا تصلح الألوهة إلا له، فادعوه مخلصين له الطاعة، ولا تشركوا في عبادته شيئا سواه من وثن أو صنم، ولا تجعلوا له ندّا ولا عدلا. ثم أمر عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه وجليل إحسانه فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي احمدوه سبحانه فهو مالك جميع أصناف الخلق من ملك وإنس وجن، لا الآلهة التي تعبدونها، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فضلا عن نفع غيرها وضره، وعن ابن عباس أنه قال: «من قال لا إله إلا الله فليقل إثرها: الحمد لله رب العالمين» وذلك قوله: «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . [سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 68] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أثبت سبحانه لنفسه صفات الجلال والكمال- أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأنه نهى عن عبادة غيره، وأورد ذلك بألين قول وألطفه، ليصرفهم عن عبادة الأوثان، ثم بين أن سبب النهى هو البينات التي جاءته، إذ قد ثبت بصريح العقل أن إله العالم الذي تجب عبادته هو الموصوف بصفات العظمة، لا الأحجار المنصوبة، والخشب المصوّرة، ثم ذكر أنه بعد أن نهى عن عبادة غيره أمر بعبادته تعالى، وقد ذكر من الأدلة على وجوده خلق الأنفس على أحسن الصور ورزقها من الطيبات، ثم تكوين الجسم من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى الشيخوخة ثم الموت. الإيضاح (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك من قريش وغيرهم: إنى نهيت أن أعبد ما تعبدون من دون الله من وثن أو صنم، حين جاءتنى الأدلة من عند ربى وهى آيات الكتاب الذي أنزله علىّ وهى مؤيدة لأدلة العقل ومنهة لها. وجملة ذلك- إن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التي في الأكوان والأنفس.

ولما بين أنه نهى عن عبادة غير الله- أردف ذلك أنه أمر بعبادته تعالى فقال: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرت أن أنقاد له تعالى وأخلص له دينى. ثم ذكر من الدلائل على وجوده تعالى تكوين الإنسان من ابتداء النطفة إلى وقت الشيخوخة فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هو الذي خلقكم من التراب، إذ كل إنسان مخلوق من المنى، والمنى مخلوق من الدم، والدم يتولد من الأغذية، والأغذية تنتهى إلى النبات، والنبات يتكون من التراب والماء- ثم ذلك التراب يصير نطفة ثم علقة إلى مراتب كثيرة حتى ينفصل الجنين من بطن الأم. وقد رتب سبحانه عمر الإنسان ثلاث مراتب: (1) الطفولة. (2) بلوغ الأشد. (3) الشيخوخة، ومن الناس من يتوفى قبل المرتبة الأخيرة. وهو يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة، ولتعقلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم. وكما استدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر- استدل على ذلك بانتقال الإنسان من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة فقال: (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي قل لهم أيها الرسول: هو الذي يحيى من يشاء بعد مماته، ويميت من يشاء من الأحياء وإذا أراد كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها، فإنما يقول له كن فيكون بلا معاناة ولا كلفة. وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات حين تعلق إرادته بوجودها، وتصوير سرعة ترتب المكوّنات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور

[سورة غافر (40) : الآيات 69 إلى 76]

[سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) تفسير المفردات الكتاب: القرآن، يسحبون: أي يجرّون، الحميم: الماء الحار، يسجرون: أي يحرقون، يقال سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومنه: «وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ» أي: المملوء، ضلوا عنا: أي غابوا، تفرحون: أي تبطرون، تمرحون: تختالون أشرارا وبطرا. المعنى الجملي عود على بدء بالتعجيب من أحوال المجادلين الشنيعة وآرائهم الفاسدة، والتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ؟) أي انظر واعجب من هؤلاء المكابرين في آياتنا الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدل فيها،

كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي على الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها، وقيام الأدلة على صحتها، وأنها في نفسها موجبة للتوحيد. ثم بين صفات هؤلاء المبطلين بقوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي هم الذين كذبوا بالقرآن وبجميع ما أرسلنا به رسلنا، من إخلاص العبادة له سبحانه، والبراءة مما يعبد من دونه من الآلهة والأنداد، والاعتراف بالبعث بعد الممات. ثم هددهم وأوعدهم على ما يفعلون فقال: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حقيقة ما نخبرهم به وصدق ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم، يسحبون بها فى الحميم، فينسلخ كل شىء عليهم من جلد ولحم وعروق، ثم تملأ بهم النار. ونحو الآية قوله: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» وقوله: «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ» . ثم ذكر أنهم يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها فقال: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي ثم يسألون ويقال لهم: أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله ليغيثوكم وينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب؟ فيجيبون ويقولون: غابوا عنا وأخذوا طريقا غير طريقنا وتركونا في البلاء- لا، بل الحق أننا ما كنا ندعوا فى الدنيا شيئا يعتدّ به، وهذا كما نقول حسبت أن فلانا شىء فإذا هو ليس بشىء، إذا خبرته فلم تر عنده خيرا. والخلاصة- إنهم اعترفوا بأن عبادتهم إياها كانت عبادة باطلة.

[سورة غافر (40) : الآيات 77 إلى 78]

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ) أي كما أضل الله تعالى هؤلاء وأبطل أعمالهم، كذلك يفعل بأعمال جميع من يدين بالكفر فلا ينتفعون بشىء منها. ثم بين السبب فيما يأتيهم من هذا العذاب فقال: (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي هذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب، بسبب فرحكم لذى كنتم تفرحونه في الدنيا، بارتكاب الشرك والمعاصي، ومرحكم وبطركم فيها بتمتعكم باللذات. (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم كما قال تعالى: «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» خالدين فيها أبدا، فبئس منزل المتكبرين على الله في الدنيا أن يوحّدوه ويؤمنوا برسله- جهنم. [سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) المعنى الجملي كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طرق المجادلين في آيات الله، وهنا أمر رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، إن الله سينجز له ما وعده من النصر والظفر على قومه، ويجعل العاقبة له ولمن اتبعه من المؤمنين في الدنيا والآخرة.

الإيضاح

الإيضاح (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما يجادلك به هؤلاء المشركون فى آيات الله التي أنزلها عليك وعلى تكذيبهم إياك، فإن الله منجز لك فيهم ما وعدك من الظفر بهم، والعلوّ عليهم، وإحلال العقاب بهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة كما قال: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي فإما نرينّك فى حياتك بعض الذي نعدهم من العذاب والنقمة كالقتل والأسر يوم بدر فذاك ما يستحقونه أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم وننتقم منهم أشد الانتقام، ونأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ونحو الآية قوله: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» . ثم قال مسلّيا رسوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أي ولقد أرسلنا رسلا وأنبياء من قبلك إلى أممهم، منهم من أنبأناك بأخبارهم في القرآن وبما لا قوه من قومهم وهم خمسة وعشرون، ومنهم من لم نقصص عليك فيه خبرهم ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين أقوامهم. وعن أبى ذر قال: «قلت يا رسول الله كم عدّة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» رواه الإمام أحمد. (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي وليس في الرسل أحد إلا آتاه الله آيات ومعجزات جادله قومه فيها وكذبوه، وجرى عليه من الإيذاء ما يقارب ما جرى عليك فصبر على ما أوذى، وكانوا يقترحون عليه المعجزات على سبيل

[سورة غافر (40) : الآيات 79 إلى 81]

التعنت والعناد لا للحاجة إليها، فكان من الحكمة عدم إجابتهم إلى ما طلبوا، ولم يكن ذلك بقادح في نبوتهم، فلا عجب أن يقترح قومك عليك المعجزات التي لم يكن إظهارها صلاحا، ولا جرم إذ لم يجابوا إلى ما طلبوا، لأن المصلحة في عدم إجابتهم إليه. (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي فإذا جاء أمر الله وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين قضى بالعدل، فنجّى رسله والذين آمنوا معهم، وأهلك الذين افتروا على الله الكذب وجادلوا في آياته وزعموا أن له شركاء. [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) المعنى الجملي بعد أن أوعد المبطلين وبالغ في ذلك بما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد- عاد إلى ذكر الدلائل على وجوده ووحدانيته بذكر نعمة من نعمه التي لا تحصى، ثم لفت أنظارهم إلى ما يحيط بهم من أدلة هم عنها معرضون. الإيضاح (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) المراد من الأنعام هنا: الإبل خاصة، لأنها ذات المنافع التي ذكرت في الآية، وقد عدد سبحانه لها الفوائد التالية:

(1) أكلها واستعمالها طعاما لهم ولضيفانهم، وقد كانوا يتفاخرون بنحرها عند قدوم الطارق. (2) لها منافع أخرى كالأوبار والأصواف التي تتخذ منها بيوت الشّعر والملابس الصوفية وقد كانوا يستعملونها كثيرا، ولألبان التي تستعمل شربا ويستخرج منها الجبن ليكون إداما لهم في طعامهم وسائر حاجتهم المعيشية والجلود التي تدبغ لتكون نعالا وفرشا على ضروب شتى. (3) استعمالها للنجعة وطلب مساقط الغيث لحاجتهم إلى الكلأ والقوت لهم ولما شيتهم والسفر من صقع إلى صقع ومن قطر إلى آخر، وهى لما لها من خفّ مفرطح أنسب حيوان للسير في رمال الصحراء ومن ثم قالوا «الجمل سفينة الصحراء» وقال شاعرهم يصف ذلك: ما فرّق الألّاف بعد الله إلا الإبل ... وما غراب البين إلّا ناقة أو جمل وقد كانت من أهم سبل المواصلات في الأزمنة الغابرة في البر كما كانت السفن كذلك في البحر. ونحو الآية قوله في سورة النحل «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» . ثم ذكر أن هناك آيات من آياته الباهرة التي لا مجال لإنكارها فقال: َ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) أي إنه تعالى له آيات يراها خلقه عيانا ويشاهدونها متجددة كل يوم وفي كل آن. وفي كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد

[سورة غافر (40) : الآيات 82 إلى 85]

فأيّا منها تنكرون وبأيها تعترفون، وهى ظاهرة بادية للعيان لا سبيل إلى جحدها. وقصارى ذلك- إنكم لا تقدرون على إنكار شىء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا. [سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) المعنى الجملي ختم سبحانه هذه السورة بتهديد الذين يجادلون في آياته، طلبا للرياسة والجاه، والحصول على المال، وكسب حظوظ الدنيا، وأبان أن هذه الدنيا فانية ذاهبة، فما فيها من مال وجاه ظل زائل، لا يغنى عنهم من الله شيئا، وقد ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم ممن كانوا أكثر عددا وأشد قوة وآثارا في الأرض فلم ينفعهم شىء من ذلك حين حل بهم بأس الله، ثم ذكر أن المكذبين حين رأوا البأس تركوا الشرك وآمنوا بالله وحده، وأنّى لهم ذلك؟، وهيهات هيهات. فذلك لا يحديهم فتيلا ولا قطميرا، سنة الله في عباده ألا ينفع الإيمان حين حلول العذاب. صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب؟

الإيضاح

الإيضاح (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أفلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركى قريش- فى البلاد، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن، فينظروا فيما وطئوا من البلاد- إلى ما حل بالأمم قبلهم، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، وكيف كانت عاقبة أمرهم، وقد كانوا أكثر منهم عددا، وأشد بطشا، وأقوى جندا، وأبقى في الأرض أثرا، لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا، ويتخذون مصانع، ويبنون أهراما ضخمة، فلما جاءهم بأسنا، وحلت بهم نقمتنا لم يغن ذلك عنهم شيئا، ولا رد عنهم العذاب الذي حل بهم. (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلما جاء هذه الأمم المكذبة للرسل من أرسلوا إليهم بالأدلة الواضحة، والبراهين الظاهرة، فرحوا بما عندهم من شبهات ظنوها علما نافعا كقولهم: «وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» وقولهم: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» وقولهم: (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» ولكن حل بهم ما كانوا يستعجلون به رسلهم استهزاء وسخرية. وقد سمى ما عندهم من العقائد الزائفة، وشبههم الدّاحضة علما، تهكما واستهزاء بهم. ثم ذكر حالهم حين عاينوا العذاب فقال: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي فلما عاينوا عذابنا النازل بهم قالوا آمنا بالله، وكفرنا بتلك المعبودات الباطلة، والآلهة الزائفة، التي لا تجدى فتيلا ولا قطميرا.

مجمل ما حوته السورة الكريمة

ثم بين أن ذلك لا يفيدهم شيئا فقد فات الأوان، فلا يفيد الندم ولا الاعتراف بالحق شيئا ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم فقال سبحانه: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي فلم يفدهم إيمانهم عند ما عاينوا عقابنا، وحين نزل بهم عذابنا، ومضى فيهم حكمنا، فمثل هذا الإيمان لا يفيد شيئا كما قال تعالى لفرعون حين الغرق وحين قال: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ» - «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟» . وبعدئذ ذكر سبحانه أن هذه سنته فيهم وفي أمثالهم من المكذبين فقال: (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي وهكذا كانت سنة الله في الذين سلفوا إذا عاينوا عذابه ألا ينفعهم إيمانهم حينئذ، بعد أن جحدوا به وأنكروا وحدانيته، وعبدوا من دونه من الأصنام والأوثان. وقصارى ذلك- إن حكم الله في جميع من تاب حين معاينة العذاب ألا تقبل منه توبة، وقد جاء في الحديث «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرر» أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحلقوم فلا توبة، ولهذا قال: «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ» . اللهم اقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وآمن روعتنا: واجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله. مجمل ما حوته السورة الكريمة (1) وصف الكتاب الكريم. (2) الجدل بالباطل في آيات الله. (3) وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله.

سورة فصلت

(4) طلب أهل النار الخروج منها لشدة الهول ثم رفض هذا الطلب. (5) إقامة الأدلة على وجود الإله القادر. (6) إنذار المشركين بأهوال يوم القيامة. (7) قصص موسى عليه السلام مع فرعون وما دار من الحوار بين فرعون وقومه والذي يكتم إيمانه. (8) أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل. (9) تعداد نعم الله على عباده في البر والبحر. سورة فصلت هى مكية وآيها أربع وخمسون، نزلت بعد غافر. أخرج ابن أبى سيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: «اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر بم يردّ عليه؟ فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة فقالوا ائته يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال عتبة فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى

بعض بالسيوف، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فرغت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ» - حتى بلغ- «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا فهل أجابك؟ قال والذي نصبها بنية (يريد الكعبة) ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدرى ما قال؟ قال لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة» . وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: «لما قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال يا قوم: أطيعونى في هذا اليوم واعصوني بعده، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذنى قط كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه» . وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته صلّى الله عليه وسلم أول هذه السورة عليه. ومناسبتها ما قبلها: (1) إنهما اشتركتا في تهديد قريش وتقريعهم، فقد توعدهم في السورة السابقة بقوله: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» إلخ وهددهم هنا بقوله: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» . (2) إن كلتيهما بدئت بوصف الكتاب الكريم.

[سورة فصلت (41) : الآيات 1 إلى 5]

[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) تفسير المفردات لا يسمعون: أي لا يقبلون ولا يطيعون، من قولهم: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولى: أي لم يقبله ولم يعمل به فكأنه لم يسمعه، والأكنة واحدها كنان كأغطية وغطاء: وهى خريطة السهام والمراد أنها في أغطية متكاثفة، والوقر: الثقل في السمع. الإيضاح (حم) تقدم الكلام في هذا في السورة قبلها. (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي هذا القرآن منزل من الله الرّحمن الرّحيم على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، وخص هذين الوصفين (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بالذكر لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين إلى الدواء، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان رحمة لهم ولطفا بهم كما قال: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» . ونحو الآية قوله: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» . (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هو كتاب بينت آياته، وميزت لفظا بفواصل ومقاطع،

ومبادئ للسور وخواتم لها، وميزت معنى بكونها وعدا ووعيدا، ومواعظ ونصائح وتهذيب أخلاق ورياضة نفس، وقصص الأولين، وتواريخ الماضين. ونحو الآية قوله: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» . (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي أنزلناه بلغة العرب، ليسهل عليهم فهمه كما قال: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» . وفي هذا امتنان من الله عليهم، ليسهل عليهم قراءته وفهمه. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معانيه، لكونه جاء بلسانهم، فهم أهل اللسان فيفهمونه بلا واسطة، وغيرهم لا يفهمه إلا بوساطتهم. (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي بشيرا لأوليائه بالجنة والنعيم المقيم إن داوموا على العمل بما فيه من أوامر ونواه، ونذيرا لأعدائه بالعذاب الأليم إن هم أصروا على التكذيب به والجدل فيه بالباطل وترك أوامره وفعل نواهيه. ثم بين حال المشركين حين أنزل إليهم فقال: (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي فاستكبر أكثر المشركين عن الإصغاء إليه، ولم يقبلوه ولم يطيعوا ما فيه من أوامر ونواه، إعراضا عن الحق. ثم صرحوا بنفرتهم منه، وتباعدهم عنه، وذكروا لذلك ثلاثة أسباب، تعللا واحتقارا لدعوته: (1) (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) أي إن قلوبنا في أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا، فهى لا تفقه ما تقول من التوحيد، ولا يصل إليها قولك. (2) (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي وفي آذاننا صمم يمنعها من استماع قولك. (3) (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي ومن بيننا وبينك ستر يمنعنا عن إجابتك. روى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.

[سورة فصلت (41) : الآيات 6 إلى 8]

وقصارى ما يقولون: إن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبّله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، وأسماعهم لا يدخل إليها شىء منه، كأن بها صمما، ولتباعد الدينين وتباعد الطريقين كان بينهم وبين رسول الله حجاب كثيف، وحاجز منيع. ثم بارزوه بالخلاف وشن الغارات الجدلية بما لم يبق بعده مجال للوفاق فقالوا: (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) أي فاعمل في إبطال أمرنا جهد طاقتك، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك وتشتيت شمل من آمن بك حتى تبطل دعوتك. [سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 8] قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) تفسير المفردات فاستقيموا إليه: أي فأخلصوا له العبادة، ويل: أي هلاك، لا يؤتون الزكاة: أي لا يتصدقون بجزء من مالهم للسائل والمحروم، ممنون: أي مقطوع من قولهم مننت الحبل إذا قطعته، ومنه قول ذى الإصبع: إنى لعمرك ما بابى بذي غلق ... على الصديق ولا خيرى بممنون المعنى الجملي بعد أن ذكر المشركون الأسباب التي تحول بينهم وبين قبول دعوته- أمر رسوله أن يجيب عن كلامهم بأنه لا يقدر على جبرهم على الإيمان وحملهم عليه قسرا،

الإيضاح

فإنه بشر مثلهم ولا ميزة له عليهم إلا بأن الله أوحى إليه ولم يوح إليهم، ثم ذكر أن خلاصة الوحى علم وعمل، أما العلم فدعامته التوحيد، وأما العمل فأسه الاستغفار والتوبة مما فرط من الذنوب، ثم أردف ذلك التهديد لمن يشرك بالله ولا يزكى نفسه من دنس الشح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة، وينصرف إلى الدنيا ولذاتها، وبعد أن ذكر وعيد الكفار أعقبه بوعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم عند ربهم أجرا دائما غير مقطوع ولا ممنوع. الإيضاح (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي قل أيها الرسول لقومك: ما أنا إلا بشر مثلكم في الجنس والصورة والهيئة، ولست بملك ولا جنّى لا يمكنكم التلقي منى، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول، بل أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه الدلائل الكونية، وأيده النقل عن الأنبياء جميعا، من آدم فمن بعده، فأخلصوا له العبادة، وسلوه العفو عن ذنوبكم التي سلفت منكم، بالتوبة من شرككم- يتب عليكم ويغفر لكم. (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وخسارة وهلاك لمن أشرك بربه ولم يواس البائس الفقير بشىء من ماله، يدفع به عوزه، ويزيل خصاصته، وأنكر البعث والحساب والجزاء، وكان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وإنما جعل منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة، لأن أحب شىء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذاك أقوى دليل على استقامته وثباته وصدق نيته، وصفاء طويته وما خدع المؤلّفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا، بها لانت شكيمتهم، وزالت عصبيتهم وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله إلا بمنعهم للزكاة،

[سورة فصلت (41) : الآيات 9 إلى 12]

فعرّضوا أنفسهم للحرب، والطعن والضرب، إبقاء على أموالهم ولو ذهبت مهجهم وأرواحهم. وقصارى ذلك- دمار وهلاك لمن أشرك بربه، ولم يطهر نفسه من دنس الرذائل التي من أهمها البخل بالمال ودفع غائلة الجوع عن المسكين والفقير، وأنكر البعث والجزاء. ونحو الآية قوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» وقوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» . وبعد أن ذكر وعيد المشركين أردفه وعد المؤمنين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر به، وانتهوا عما نهى عنه- لهم عند ربهم جزاء غير مقطوع ولا ممنوع. قال السّدّى: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة. ونحو الآية قوله: «ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» وقوله: «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فى يومين: أي في نوبتين، والرواسي: الجبال الثوابت، أقواتها: أي أقوات أهلها، سواء: أي كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة، للسائلين: أي لطالبى الأقوات المحتاجين إليها، استوى: أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر، دخان: أي مادة غازية أشبه بالدخان، فقضاهن: أي فرغ من تسويتهن، أمرها: أي شأنها وما هى مستعدة له واقتضت الحكمة أن يكون فيها، بمصابيح: أي بكواكب ونجوم، وحفظا: أي وحفظناها حفظا من الآفات. المعنى الجملي بعد أن أمر رسوله بأن يقول للمشركين: إن ما تلقيته بالوحى أن إلهكم إله واحد، فأخلصوا له العبادة- أردف هذا ما يدل على كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض على أطوار مختلفة متعاقبة وأكمل لكل منها ما هى مستعدة له، وزين السماء بالنجوم والكواكب الثوابت والسيارات، ولا عجب فذلك تقدير العزيز الغالب على أمره، العليم بكل ما فيهما لا يخفى عليه شىء منهما، فكيف يسوغ لكم أن تجعلوا الأوثان والأصنام شركاء له، وليس لها شىء في خلقهما وتقديرهما، تعالى الله عن ذلك. الإيضاح (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ؟) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك توبيخا وتقريعا. كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض التي تقلّكم

فى نويتين؟ فتقولوا إنه لا يقدر على حشر الموتى من قبورهم، وتنسبوا إليه الأولاد وتقولوا إنه لم يبعث أنبياء- أي كيف تقولون هذا، مع أنه خلق الأرض في يومين. (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) أي وتجعلون له أندادا وأمثالا من الملائكة والجن والأصنام والأوثان. ثم شدد عليهم في الإنكار وبين أن مثل هذا لا ينبغى أن يكون فقال: (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلك الذي خلق الأرض في نوبتين نوبة جعلها جامدة بعد أن كانت كرة غازية، ومرة جعلها ستا وعشرين طبقة في ستة أطوار كما بين ذلك علماء طبقات الأرض (الجلوجيا) - هو رب العالمين لا ربها وحدها، فهو مربّى المخلوقات جميعا، فإن رباها في نوبتين فقد ربى غيرها في نوبات يعلم سبحانه عددها، فكيف يكون شىء منها ندّا له وضريبا؟. ثم بين إحكام ذلك الخلق وحسن تدبيره فقال: (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) أي وجعل فيها جبالا ثوابت مرتفعة عليها، أسسها في الأرض وهى الطبقة الصوانية، وهذه الطبقة هى التي برزت منها الجبال، فالجبال أساسها بعيدة الغور ضاربة في جميع الطبقات واصلة إلى أول طبقة، وهى الطبقة الصوانية التي لولاها لم تكن الأرض أرضا ولم نستقر عليها فأرضنا كرة من النار غطيت بطبقة صوّانية فوقها طبقات ألطف منها تكوّن فيها الحيوان والنبات على مدى الزمان، والجبال نتوءات نتأت من تلك الطبقة وارتفعت فوقها عشرات آلاف الكيلو مترات، وصارت محازن للمياه والمعادن وهداية للطرق وحافظة للهواء والسحاب. (وَبارَكَ فِيها) أي وجعلها مباركة كثيرة الخيرات بما خلق فيها من المنافع، فجعل جبالها مبدأ لجريان الأنهار، ومخزنا للمعادن كالذهب والفضة والحديد والنحاس. (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قدر لأهلها من الأقوات ما يناسب حال كل إقليم من مطاعم وملابس ونبات، ليكون بعض الناس محتاجا إلى بعض، فتروج المتاجر بينهم

وتنتقل المحصولات من بلد إلى آخر ومن قطر إلى قطر، وفي هذا عمار للأرض وانتظام أمور العالم. ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي إن خلق الأرض وجعل الرواسي فيها في نوبتين، وإكثار خيراتها وتقدير أقواتها في نوبتين فيكون ذلك في أربع نوبات كما يقول القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما: أي في تتمة خمسة عشر يوما. وقصارى ذلك- إن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وخلق الجبال الرواسي فيها وتقدير الأقوات في أربعة أيام. (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي في أربعة أيام كاملة وفق مراد طالب القوت ومن له حاجة إليه وهو كل حيوان على وجه الأرض كما قال: «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فالناس والحيوان جميعا كلهم سائلون ربهم ما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولباس ورداء- سؤالا طبيعيا مغروسا في جبلّتهم. ولما كان الإنسان يهتمّ بحال ما حوله من الأرض قدّم ذكرها وبين أنها هى وما عليها قد كوّنها في أربع نوبات، فنوبة لتجمد المادة الأرضية بعد أن كانت غازا، ونوبة لتكميل بقية طبقاتها ويدخل في ذلك معادنها، ومرة للنبات وأخرى للحيوان. ولما انتهى من الكلام في الأرض أخذ يذكر السماء، فالترتيب في الذكر فحسب فقال: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) أي ثم دعا داعى الحكمة إلى خلق السماء وهى مادة غازية أشبه بالدخان أو بالسحاب أو بالسديم وتسمى في العلم الحديث (عالم السديم) وقد شاهدوا من تلك العوالم اليوم عوالم كثيرة في عالم السديم آخذة فى البروز كما برزت شمسنا وسياراتها، وأرضها وكانت في الأصل دخانا.

وعلى الجملة فالتكوين لم يكن في لحظة واحدة، بل كان وفق الحكمة والنظام فى غير نوبة، وكفى بكتاب مقدس أن يقول: إنه خلق الأرض في نوبتين، وما عليها فى نوبتين، والسموات السبع كذلك. ثم ذكر ما كان من شأنهما بعد خلقهما فقال: (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أي فقال لتلك العوالم السماوية، وللأرض التي دارت حولها: ائتيا كيف شئتما طائعتين أو كارهتين فأجابتا قالتا أتينا طائعين، قال ابن عباس: قال الله تعالى للسموات: أطلعى شمسك وقمرك وكواكبك، وأجرى رياحك وسحابك، وقال للأرض: شقى أنهارك، وأخرجى شجرك وثمارك، طائعتين أو كارهتين: «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» . وفي هذا دلالة على الحركة المستمرة المعبر عن سببها بالجاذبية، فهى حركة تجرى جرى طاعة لا جرى قسر، فإنا نشاهد أنا نرمى الحجر إلى أعلى قسرا فيأبى إلا أن ينزل إلى الأرض بطريق الجاذبية إلى جسم أكبر منه وهى الأرض، وهكذا الأرض مجذوبة إلى الشمس التي هى أصلها بحركة دورية دائمة طوعا لا قسرا، لأن القسرية كرمى الحجر إلى أعلى سريعة الزوال، أما حركة الطاعة فهى دائمة ما دام المطيع متخلقا بخلقه الذي هو فيه. (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي فأتم خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن فى نوبتين سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض، فوقع خلق السموات والأرض فى ستة كما قال: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» على ما اقتضته الحكمة وحسن النظام. ومن ذلك يفهم وجه الحكمة في قوله- فقال لها وللأرض إلخ، وهى الدلالة على أن حركة الإتيان منهما كانت معا، فبينما نرى الأرض دائرة حول نفسها وحول

[سورة فصلت (41) : الآيات 13 إلى 18]

الشمس نرى الشمس دائرة حول نفسها وحول شموس أخرى أكبر منها، فهذا هو السبب في ذكرهما معا. وقصارى ذلك- إنه قال لهما معا وأجابتاه معا، لأن الأرض لما كانت ضمن المجموعة الشمسية كانت دائرة كبقية أجزائها. (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي وخلق في كل منها ما استعدت له، واقتضت الحكمة أن يكون فيها من بحار وبرد وثلج إلى نحو أولئك مما لا يعلمه إلا الله، قاله السدى وقتادة. (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح، وهى وإن تفاوتت ارتفاعا وانخفاضا فكلها ترى متلألئة. (وَحِفْظاً) أي وحفظناها من الاضطراب في سيرها ومن اصطدام بعضها ببعض، وجعلناها تسير على نهج واحد ما دام هذا النظام باقيا حتى يأتى اليوم الموعود، فهناك تختل نظمها كما قال سبحانه: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» . (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي إن ذلك الذي تقدم هو تقدير العزيز الذي قد عزّ كلّ شىء فغلبه وقهره، العليم بحركات مخلوقاته وسكناتها، سرها ونجواها، ظاهرها وباطنها. [سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)

تفسير المفردات

تفسير المفردات صاعقة: أي عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة. قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأىّ شىء كان، وهى في الأصل الصيحة التي يحصل بها الهلاك، أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد، من بين أيديهم ومن خلفهم: أي من كل ناحية، صرصرا: أي باردة تهلك بشدة بردها. أنشد قطرب قول الحطيئة في المديح: المطعمون إذا هبّت بصرصرة ... والحاملون إذا استودوا على الناس استودوا: أي سئلوا الدية. نحسات واحدها نحسة (بكسر الحاء) أي نكدات مشئومات، والهون: الذل. المعنى الجملي بعد أن أنكر عليهم عبادة الأنداد والأوثان، وطلب إليهم ألا يعبدوا إلا الله الذي خلق السموات والأرض، وزين السماء الدنيا بالمصابيح، وأوجد في الأرض جبالا رواسى أن تميد بهم، ثم أعرضوا عن كل ذلك، لم يبق حينئذ طريق للعلاج. ومن ثم أمر رسوله أن ينذرهم بحلول شديد النقم بهم إن هم أصروا على عنادهم، كما نزل بعاد وثمود من قبلهم.

الإيضاح

الإيضاح (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك المكذبين لما جئتهم به من الحق: إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله فإنى أنذركم بحلول نقمته بكم كما حلت بالأمم الماضية التي كذبت رسلها كعاد وثمود ومن على شاكلتهما ممن فعل فعلهما حين جاءتهم الرسل في القرى المجاورة لبلادكم، وأمروا أهلها بعبادة الله وحده، فكذبوهم واستكبروا عن إجابة دعوتهم، واعتذروا بشتى المعاذير كما ذكر ذلك سبحانه بقوله: (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا لا نصدق برسالتكم فما أرسل الله بشرا، ولو أرسل رسلا لأنزل ملائكة، وإذا فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا. وقد تقدم في غير موضع دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها. وقوله: «بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» ليس إقرارا منهم بكونهم رسلا، بل ذكروه استهزاء بهم كما قال فرعون: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» . أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال «قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علىّ إن كان كذلك، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه، قال: لم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ إن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة (الميل إلى قربان النساء) زوجناك عشر نسوة تختارهن، أىّ بنات من

شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغنى به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ قال صلّى الله عليه وسلم: بسم الله الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا- حتى بلغ- فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابنى بشىء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته الرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب» . وقد ذكرنا هذا القصص قبل برواية أخرى، وهذه الرواية أتم من سابقتها فأعدناها تكميلا للفائدة. ولما بين سبحانه كفر قوم عاد وثمود إجمالا وبين معاذيرهما- أردف ذلك ذكر ما لكل منهما من الجناية وما حل به من العذاب فقال: (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) أي فأما عاد فبغوا وعصوا ربهم ولم يقبلوا كلام الرسول الذي جاء لهم وقالوا من أشد منا قوة؟ حتى يستطيع قهرنا وإذلالنا، وقد كانوا قوما طوال القامة شديدى الأسر، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هو بالعذاب، وقد روى في قوّتهم روايات ليس بنا حاجة إلى تصديقها كقولهم: إن الرجل منهم كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده ويجعلها حيث يشاء. فرد الله عليهم موبخا بقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟) أي أما يفكرون فيمن يبارزون بالعداوة؟ إنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها،

وإن بطشه لشديد، وإنه لقادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء، فيقول: (كُنْ فَيَكُونُ) . (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكانوا يعرفون أن آياتنا التي أنزلناها على رسلنا حق لا مرية فيها، ولكنهم جحدوها وعصوا رسله. وقد يكون المراد: إنهم جحدوا الأدلة التكوينية التي نصبناها لهم، وجعلناها حجة عليهم. ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال: (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي فأرسلنا عليهم ريحا باردة تهلك بشدة بردها، وإذا هبت سمع لها صوت قوىّ لتكون عقوبة لهم من جنس ما اغتروا به. ثم بين سبحانه وقت نزول العذاب عليهم فقال: (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي في أيام مشئومات نكدات متتابعات كما قال في آية أخرى: «سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» . ثم بين الغاية التي من أجلها نزل العذاب فقال: (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أنزلنا عليهم هذا العذاب كى نذيقهم الذل والهوان في الحياة الدنيا بسبب ذلك الاستكبار. ثم أرشد إلى أن هذا العذاب هين يسير إذا قيس بعذاب الآخرة فقال: (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي ولعذاب الآخرة أشد إهانة وخزيا من عذاب الدنيا، وهم لا يجدون إذ ذاك نصيرا ولا معينا يدفعه عنهم. وبعد أن ذكر قصص عاد أتبعه بقصص ثمود فقال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي وأما ثمود فبينا لهم الحق على لسان نبيهم صالح، ودللناهم على سبل النجاة بنصب الأدلة التكوينية، وإنزال الآيات التشريعية، فكذبوه واستحبوا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان.

[سورة فصلت (41) : الآيات 19 إلى 24]

ثم ذكر جزاءهم على ما اختاروه لأنفسهم فقال: (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فأرسلنا عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا، بما كانوا يكسبون من الآثام بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله. (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي ونجينا صالحا ومن آمن معه من المؤمنين من ذلك العذاب: فلم يمسسهم سوء ولا نزل بهم مكروه، بإيمانهم وتقواهم وصالح أعمالهم. [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 24] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) تفسير المفردات يوزعون: أي يحبسن أولهم ليلحق آخرهم لكثرتهم من قولهم، وزعته: أي كففته، جلودهم: أي جوارحهم، أرداكم: أي أهلككم، مثوى: أي مقام، وإن يستعتبوا: أي يطلبوا العتبى والرضا، من المعتبين: أي المجابين إلى ما يطلبون

المعنى الجملي

يقال أعتبنى فلان: أي أرضانى بعد إسخاطه إياى، قال الخليل: تقول استعتبته فأعتبنى: أي استرضيته فأرضانى، قال النابغة في اعتذار يأته للنعمان بن المنذر: فإن أك مظلوما فعبد ظلمته ... وإن يك ذا عتبى فمثلك يعتب المعنى الجملي بعد أن بين كيف عاقب أولئك الجاحدين في الدنيا وأذاقهم عذاب الهون بما كانوا يكسبون- أردف ذلك ذكر عقابهم في الآخرة، ليكون ذلك أتمّ للزجر، وأكثر فى الاعتبار لمن اعتبر. الإيضاح (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي واذكر أيها الرسول لقريش المعاندين لك حال الكفار يوم القيامة، لعلهم يرتدعون ويزدجرون حين يساقون إلى النار، فيحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا قاله السدى وقتادة وغيرهما. وفي هذا إيماء إلى كثرة عددهم وشدة سوقهم ودفعهم. (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي حتى إذا وقفوا على النار شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجوارحهم بما كانوا يعملون فى الدنيا من المعاصي، بعلامات متمايزة تدل على الأخلاق المختلفة، لكل خلق منها علامة خاصة نحن لا نعرف الآن كنهها، وربما كانت سوائل روحية، كل سائل يدل على خلق من الأخلاق كما يكون في أنواع النبات والشجر روائح مختلفة، فالعلم والحلم والنشاط وجب الناس لها سوائل جميلة، والجهل والطيش والكسل وبغض الناس لها سوائل رديئة، وتلك السوائل تلازمهم فتكون مشقية لهم ومضايقة، أو مفرحة لهم ومنعمة، وهكذا الأجسام بعد الموت لا تشبه نفس نفسا أخرى في أوصافها، فهذه هى الشهادة التي تشهد بها أسماعهم وأبصارهم وجلودهم.

ثم ذكر سبحانه أنهم لاموا جوارحهم على أداء الشهادة التي تلزمهم الحجة، فحكى عنهم قولهم لها. (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟) أي وقالوا على جهة اللوم والمؤاخذة لجلودهم حين شهدوا عليهم، لم شهدتم علينا؟ وقد كانوا في الدنيا مساعدين لهم على المعاصي، فكيف يشهدون عليهم الآن؟. فأجابوهم حينئذ معتذرين: (قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي قالوا: إن الله جعل فينا من الدلالات الفعلية ما يقوم مقام النطق، بل ما هو أفصح منها، فشهدنا عليكم بما فعلتم من القبائح. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: ألم تجرنى من الظلم؟ قال: يقول بلى. قال فيقول: فإنى لا أجيز على نفسى إلا شاهدا منى. قال: يقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا: قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقى، فتنطق بأعماله، قال ثم يخلّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل» . (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فهو لا يخالف ولا يمانع، وقد جعل فيكم دلائل واضحة كخطوط اليد والإبهام والأصوات وألوان الوجوه وأشكالها، ولكنّ قليلا من الناس من يفطن إلى ذلك. فمن قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ورجعكم إليه، ومن ثم قال: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه مصيركم بعد مماتكم، فيجازى كل نفس بما كسبت. لا معقّب لحكمه، وهو سريع الحساب.

ثم وبختهم جلودهم على ما كانوا يفعلون في الدنيا فقالت لهم: (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي وما كنتم تستخفون حين تفعلون قبيح الأعمال، وترتكبون عظيم الفواحش- بالحيطان والحجب حذرا من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي، وتجحدون البعث والجزاء. قال عبد الأعلى بن عبد الله الشامي فأحسن: العمر ينقص والذنوب تزيد ... وتقال عثرات الفتى فيزيد هل يستطيع جحود ذنب واحد ... رجل جوارحه عليه شهود؟ والمرء يسأل عن سنيه فيشتهى ... تقليلها وعن الممات يحيد (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي ولكن ظننتم عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون من المعاصي فاجترأتم على فعلها. والخلاصة- إنكم كنتم في الدنيا تستترون عن الناس خوف الفضيحة والعار حين ارتكاب الذنوب، وما ظننتم أن أعضاءكم وجسمكم الأثيرى الذي هو على صورة الجسم الظاهري قد سطرت فيه جميع أعمالكم، كأنه لوح محفوظ لها، فلذلك ما كنتم تستترون عنها بترك الذنوب. وفي الآية إيماء إلى أنه لا ينبغى للمؤمن أن تمر عليه حال إلا وهو يفكر في أن الله رقيب عليه، كما قال أبو نواس: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علىّ رقيب ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: «كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشى وثقفيان، أو ثقفى وقرشيان، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم

بطونهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمع كله، قال: فذكرت ذلك للنبى صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ- إلى قوله: مِنَ الْخاسِرِينَ» . (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي وهذا الظن الفاسد الذي قد كان منكم في الدنيا وهو أن الله لا يعلم كثيرا من قبائح أعمالكم ومساويها هو الذي أوقعكم في مواقع التلف والردى، فصرتم اليوم من الهالكين، إذ صرفتم ما منحتم من أسباب السعادة إلى الشقاء، فكفرتم نعم الخالق والرازق، وانهمكتم فى الشهوات والمعاصي. أخرج أحمد وأبو داود والطيالسي وعبد ابن حميد ومسلم، وأبو داود وابن ماجه وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، فإن قوما قد أرادهم سوء ظنهم بالله فقال الله: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» . قال العلماء: الظن قسمان: (1) حسن وهو أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان، قال صلّى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل «أنا عند ظن عبدى بي» . (2) قبيح وهو أن يظن أن الله يعزب عن علمه بعض الأفعال. وقال قتادة، الظن نوعان: منج ومرد. (1) فالمنجى قوله: «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» وقوله: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» . (2) والمردي هو قوله: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ» .

[سورة فصلت (41) : الآيات 25 إلى 29]

وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية: هؤلاء قوم كانوا يدمنون على المعاصي، ولا يتوبون منها، ويتكلمون على المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا مفاليس، ثم قرأ: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» . وقال الحسن البصري: إن قوما ألهتهم الأمانى حتى خرجوا من الدنيا ومالهم حسنة، ويقول أحدهم: إنى أحسن الظن بربي وقد كذب، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، وتلا قول الله: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» . ثم أخبر عن حالهم فقال: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي فإن أمسكوا عن الاستغاثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا وتكون النار مثوى لهم ومقاما. (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي وإن يبدوا معاذير فلن تقبل منهم ولا تقال لهم العثرات. ونحو الآية قوله تعالى: «سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ» . [سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 29] وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

تفسير المفردات

تفسير المفردات وقيضنا: أي ويسرنا وهيأنا، قرناء: واحدهم قرين: أي أخدانا وأصحابا من غواة الجن والإنس، والغوا فيه: أي عارضوه باللغو والباطل حين يقرأ لتهوّشوا عليه، دار الخلد: أي دار الإقامة المستمرة، تحت أقدامنا: أي ندوسهما بهما انتقاما منهما. المعنى الجملي اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على الكفر والمعاصي أردف ذلك ذكر السبب الذي من أجله وقعوا في الكفر، ثم حكى عنهم جناية أخرى وهى أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن أعملوا الحيلة في عدم إسماع الناس له حتى لا يتدبروا معناه، فتشاغلوا حين قراءته برفع الأصوات وإنشاء الأشعار حتى يهوّشوا على القارئ ويغلبوا على قراءته ثم ذكر أنهم حين يقعون في العذاب الشديد يطلبون أن يروا من كانوا السبب في وقوعهم في الضلال من الجن والإنس ليدوسوهم تحت أقدامهم، انتقاما منهم على أن صيروهم في هذه الهاوية. الإيضاح (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي وسلطنا عليهم إخوانا وأعوانا من شياطين الجن والإنس، فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا من الضلالة والكفر واتباع الشهوات، وما خلفهم من أمر الآخرة، فألقوا إليهم أن لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب، إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر،

فسهل عليهم فعل ما يشهون، وركوب كل ما يتلذذون به من الفواحش. (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي ووجب عليهم من العذاب ما وجب على الذين كفروا من قبلهم ممن فعلوا فعلهم. ثم علل استحقاقهم للعذاب فقال: (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) أي لأنهم استووا جميعا في الخسار والدمار، واستحقوا اللعن والخزي في الحياة الدنيا والآخرة. وبعد أن أخبر عن كفر قوم هود وصالح وغيرهم أخبر عن مشركى قريش وأنهم كذبوا بالقرآن فقال: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أي وقال الذين كفروا بالله ورسوله: لا تنصتوا لسماع هذا القرآن، وعارضوه باللغو والباطل بإنشاد الشعر والأراجيز حتى تهوّشوا على القارئ لعلكم تغلبون على قراءته، وتميتون ذكره. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: الغوا فيه بالبكاء والصفير وإنشاد الشعر. قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدرى ما يقول: وقد يكون المعنى: لا تطيعوا. من قولهم: سمعت لك: أي أطعتك. ثم أوعد الكفار بالعذاب الشديد فقال: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلنذيقن الكافرين عذابا لا يحاط بوصفه، ولنجازينهم بأسوإ أعمالهم، لأن أعمالهم الحسنة كصلة الأرحام وإكرام الضيف قد أحبطها الكفر، ولم يبق لهم إلا القبيح، ومن ثم لم يجازوا إلا على السيئات.

وفي هذا تعريض بمن لا يخشع ولا يتدبر حين سماع القرآن، وتهديد ووعيد لمن بصدر منه حين سماع القرآن ما يهوّش على القارئ ويخلّط عليه في القراءة. ثم بين العذاب الشديد الذي يحيق بهم فقال: (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ) أي ذلك الجزاء المعدّ لأعداء الله هو النار. (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي إنهم مخلدون فيها أبدا، لا انقطاع لعذابها، ولا انتقال منها. ثم ذكر أن هذا جزاء لما عملوا فقال: (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي هى جزاء لهم على جحودهم بآياتنا، واستكبارهم عن سماعها. ثم بين أنهم حين وقوعهم في العذاب الشديد يطلبون الانتقام ممن أضلوهم من شياطين الإنس والجن فقال: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي وقال الكافرون وهم يتقلبون في العذاب: ربنا أرنا شياطين الإنس والجن الذين أوقعونا في الضلال ندسهم تحت أقدامنا انتقاما منهم ومهانة لهم. وقصارى ذلك- إنهم طلبوا من ربهم أن يريهم من أضلهم من فريقى الجن والإنس من الرؤساء الذين كانوا يزّينون لهم الكفر، والشياطين الذين كانوا يوسوسون لهم ويحملونهم على المعاصي. والشياطين على ضربين: جنّى وإنسيّ، قال تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» وقال: «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» . وقال علىّ كرم الله وجهه: هما ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس أي لأنهما هما اللذان سنّا المعصية.

[سورة فصلت (41) : الآيات 30 إلى 32]

[سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 32] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) تفسير المفردات استقاموا: أي ثبتوا على الإيمان ولم يرجعوا إلى الشرك، أولياؤكم: أي أعوانكم فى شئونكم، تدّعون: أي تتمنون وتطلبون، النزل: ما يهيأ للضيف ليأكله حين نزوله. المعنى الجملي بعد أن أسلف القول في وعيد الكفار بما لم يبق بعده في القوس منزع- أعقبه بهذا الوعد الشريف للمؤمنين كما هى سنة القرآن من إتباع أحدهما بالآخر كما جاء في قوله: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» . قال عطاء عن ابن عباس نزلت هذه الآية في أبى بكر الصديق: الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي إن الذين قالوا ربنا الله اعترافا بربوبيته، وإقرارا بوحدانيته، ثم ثبتوا على ذلك فلم تزلّ أقدامهم، ويدخل في هذا كل العبادات والاعتقادات.

قال أبو بكر رضى الله عنه: الاستقامة ألا يشركوا بالله شيئا. وأخرج أحمد وعبد ابن حميد والدارمي والبخاري في تاريخه ومسلم والنسائي وابن ماجه وابن حبّان عن سفيان بن عبد الله الثقفي «أن رجلا قال: يا رسول الله مرنى بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» قلت: فما أتّقى؟ فأومأ إلى لسانه» قال الترمذي حسن صحيح. والخلاصة- الاستقامة: الاعتدال في الطاعة اعتقادا وقولا وفعلا مع الدوام على ذلك. (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) من عند الله سبحانه بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع، أو دفع ضر، أو رفع حزن؟ أي بكل ما يعنّ لهم من الشئون الدنيوية والدينية مما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام، كما أن الكفار يغويهم قرناء السوء بتزيين المعاصي وارتكاب الآثام. قال وكيع: البشرى تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث. (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) أي لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال. وقال عطاء: لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنى أغفرها. (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي ويقال لهم: أبشروا بالجنة التي وعدتم بها على ألسنة الرسل في الدنيا، فإنكم واصلون إليها، مستقرون بها، خالدون في نعيمها. ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من هذا كله فقال: (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي نحن أعوانكم في أمور دنياكم، نلهمكم الحق، ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم في دنياكم، وكذلك نكون معكم فى الآخرة، نؤمّنكم من الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ويوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم.

[سورة فصلت (41) : الآيات 33 إلى 36]

وقصارى ذلك- نحن المتولّون حفظكم وولايتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ومن كان الله وليّه فاز بكل مطلب، ونجا من كل مخافة. (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من صنوف اللذات وأنواع النعم. (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي ولكم فيها ما تتمنون وتطلبون. ونحو الآية قوله: «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» . والجملة الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبون سواء أكان مشتهى لهم أم لا، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى كالفضائل العلمية ونحوها (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي أعطاكم ربكم ذلك كرامة من لدنه، وهو الغفور لذنوبكم، الرّحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم. [سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 36] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) تفسير المفردات دعا إلى الله: أي دعا إلى توحيده، المسلمين: أي الخاضعين، الحسنة: ما ترضى الله ويتقبلها، والسيئة: ما يكرهها ويعاقب عليها، ادفع: أي ردّ، والحميم: الصديق، وما يلقاها: أي يتقبلها ويحتملها، حظّ: أي نصيب وافر من الخير، ينزعنك: أي يوسوسنّ لك، وأصل النزغ: النخس، فاستعذ بالله: أي التجئ إليه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر أن قرناء السوء يدعون إلى المعاصي- أردف ذلك ذكر حال أضدادهم الذين يدعون الناس إلى توحيد ربهم وطاعته، ثم أعقب هذا بأن الحسنة والسيئة لا يستويان ثوابا عند الله، تم أمر رسوله بدفع سفاهات المشركين وجهالاتهم بطريق الحسنى، لما في ذلك من تآلف القلوب، وارعواء النفوس عن غيّها، وثوبها إلى رشدها، وأرشد إلى أن هذه فعلة لا يتقبلها إلى الصابرون على احتمال المكاره، ومن لهم حظ عظيم من الثواب عند الله، ثم ختم ذلك بتلك النصيحة الذهبية، وهى أنه إذا صرف الشيطان المرء عن شىء مما شرعه الله فليتعوذ من شره ولا يطعه في أمره، والله سميع لما يقول، عليم بكل ما يفعل، وهو المجازى له على ذلك. الإيضاح (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟) أي لا أحد أحسن قولا ممن جمع بين خصال ثلاث: (1) الدعاء إلى توحيد الله وطاعته، قال ابن سيرين والسّدى وابن زيد والحسن: والداعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا ولىّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه. (2) العمل الصالح بعمل الطاعات، واجتناب المحرمات. (3) أن يتخذ الإسلام دينا ويخلص إلى ربه، من قولهم: هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده. وقد يكون المراد أنه يتلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب.

وبعد أن ذكر محاسن الأعمال التي بين العبد وربه- ذكر محاسن الأعمال التي بين العباد بعضهم مع بعض ترغيبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصبر على أذى المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان فقال: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي ولا تتساوى الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها، والسيئة التي يكرهها ويعاقب عليها. وقد يكون المعنى- ولا تستوى دعوة الرسول إلى الدين الحق بالطرق المثلى، والصبر على سفاهة الكفار، وترك الانتقام منهم- وما أظهروه من الغلظة والفظاظة فى قولهم: «قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» وقولهم: «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ» . والخلاصة- إن فعلك أيها الرسول حسنة، وإن فعلهم سيئة، فإذا أتيت بهذه الحسنة استحققت التعظيم في الدنيا، والمثوبة في الآخرة، وهم بضد ذلك، فلا ينبغى أن يكون إقدامهم على السيئة مانعا من الاشتغال بالحسنة. ثم ذكر بعض الحسنات ووضحها بذكر بعض ضروبها فقال: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هى أحسن الطرق، فقابل إساءتهم بالإحسان إليهم، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر والإغضاء عن الهفوات، واحتمال المكاره، فإنك إن صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفههم بالغضب، ولا أذاهم بمثله، استحيوا من ذميم أخلاقهم، وتركوا قبيح أفعالهم. ثم بين نتائج الدفع بالحسنى فقال: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي إنك إن فعلت ذلك انقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغض إلى المودة، قال عمر: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وقال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر

عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم. وروى أن رجلا شتم قنبرا مولى علىّ بن أبى طالب، فناداه علىّ يا قنبر دع شاتمك، واله عنه ترض الرّحمن، وتسخط الشيطان. وقالوا: ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه، ولله در القائل: وللكفّ عن شتم اللئيم تكرما ... أضرّ له من شتمه حين يشتم وقال آخر: وما شىء أحبّ إلى سفيه ... إذا سبّ الكريم من الجواب متاركة السفيه بلا جواب ... أشدّ على السفيه من السبّاب وقال محمود الوراق: سألزم نفسى الصفح عن كل مذنب ... وإن كثرت منه لدىّ الجرائم فما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم فأما الذي فوقى فأعرف قدره ... وأتبع فيه الحق والحق لازم وأما الذي دونى فإن قال صنت عن ... إجابته عرضى وإن لام لائم وأما الذي مثلى فإن زلّ أو هفا ... تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم وقال آخر: إن العداوة تستحيل مودة ... بتدارك الهفوات بالحسنات قال مقاتل: نزلت الآية في أبى سفيان بن حرب كان معاديا للنبى صلّى الله عليه وسلم فصار له وليّا في الإسلام، حميما بالمصاهرة. ثم نبه إلى عظيم فضل هذه الطريق بقوله: (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا الصابرون

على تحمل المكاره وتجرّع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام، فإن ذلك يشق على النفوس، ويصعب احتماله في مجرى العادة إلا من عصم الله. وقال أنس في تفسير ذلك: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقا غفر الله لى، وإن كنت كاذبا غفر الله لك. (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي وما يتقبلها إلا ذو نصيب وافر من السعادة فى الدنيا والآخرة. قال قتادة: الحظ العظيم الجنة، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة. ثم ذكر طريقا لمنع تهييج الشر ودفع الغضب إذا بدت بوادره فقال: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي وإن وسوس إليك الشيطان ليحملك على مجازاة المسيء فاستعذ بالله من كيده وشره، واعتصم من خطراته، إنه هو السميع لا ستعاذتك منه، واستجارتك به من نزغاته ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك، العليم بما ألقى في روعك من نزغاته، وحدّثتك به نفسك، وما قصدت من صلاح، ونويت من إحسان. ومن شياطين الإنس من يفعل مثل هذا، فيصرف عن الدفع بالتي هى أحسن، فيقول لك: إن فلانا عدوك الذي فعل بك كيت وكيت، فانتهز الفرصة، وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس، ولا يظننّ فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى نحو أولئك من العبارات المثيرة للغضب التي ربما لا تخطر ببال شياطين الجن- نعوذ بالله من شر كل شيطان. والخلاصة- إن صرفك الشيطان عما شرعت فيه من الدفع بالحسنى، فاستعذ بالله من شره، وامض لشأنك. ولا تطعه.

[سورة فصلت (41) : الآيات 37 إلى 39]

[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) تفسير المفردات الآية: هى البرهان والحجة، يسأمون: أي يملّون، خاشعة: أي جامدة يابسة لا نبات فيها، اهتزت: أي تحركت، وربت: أي انتفخت. المعنى الجملي لما ذكر في الآيات السابقة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى- أردفه ذكر الدلائل على وجوده تعالى وقدرته وحكمته، تنبيها إلى أن الدعوة إلى الله هى تقرير الدلائل على ذاته وصفاته، ثم ذكر منها الدلائل الفلكية وهى الليل والنهار والشمس والقمر، ثم أتبعها بآية أرضية تشاهد رأى العين في كل حين وهى حال الأرض حين خلوّها من المطر والنبات، ثم حالها بعد نزول المطر، فهى تنتعش بعد أن كانت ميتة، وتهتز بعد أن كانت ساكنة، والذي أحياها هو الذي يحيى الموتى، إنه على كل شىء قدير. الإيضاح (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالتها على وحدانيته وعظم سلطانه- الليل والنهار، ومعاقبة كل منهما صاحبه،

والشمس ونورها، والقمر وضياؤه، وتقدير منازلهما في فلكيهما، واختلاف سيرهما فى السماء، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار والأسابيع والشهور والأعوام، وبذلك تضبط المعاملات وأوقات العبادات. ولما كانت الشمس والقمر من أجلّ الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلى نبه إلى أنهما مخلوقان مسخران له تعالى وهما تحت قهره وسلطانه، فلا تعظموهما وعظموا خالقهما فقال: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي لا تسجدوا أيها الناس للشمس والقمر، فإنهما إنما يجريان بمنافعكم بإجراء الله إياهما طائعين له في جريهما وهما لا يستطيعان لكم نفعا ولا ضرا، فله فاسجدوا، وإياه فاعبدوا دونهما، لأنهما لا فضيلة لهما في أنفسهما، فيستحقا بها العبادة من دون الله، ولو شاء الله لأعدمهما أو طمس نورهما. وفي هذا رد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب والنجوم، وزعموا أنهم بعبادتهم إياها يعبدون الله، فنهوا عن ذلك. (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي فإن استكبر هؤلاء المشركون الذين يعبدون هذه الكواكب وأبوا إلا أن يسجدوا لها وحدها دون الله- فالله لا يعبأ بهم، فالملائكة الذين في حضرة قدسه وهم خير منهم لا يستكبرون عن عبادته، بل يسبحون له ويصلون ليلا ونهارا، وهم لا يفترون عن ذلك ولا يمّلون. ولما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال: (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي ومن الدلائل على قدرته تعالى على البعث، وإحياء الموتى بعد بلاها، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها- أنك ترى الأرض يابسة غبراء لا نبات بها ولا زرع،

[سورة فصلت (41) : الآيات 40 إلى 42]

فإذا نزل عليها الغيث من السماء تحركت بالنبات، وانتفخت، وأخرجت ألوان الزرع والثمار، كما يشاهد من ارتفاع الأرض وانتفاخها، ثم تصدّعها وتشققها إذا حان ظهور النبات منها، وتراه يسمو في الجوّ ويغطى قشرتها، ثم تتشعب عروقه، وتغلظ سوقه. (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة، وأخرج منها النبات، وجعلها تهتز بالزرع- قادر على أن يحيى أموات بنى آدم بعد مماتهم، وهو القدير على كل شىء، لا يعجزه شىء كائنا ما كان. [سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) تفسير المفردات يقال: ألحد الحافر في الأرض: إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق منها، والمراد بالملحدين المنحرفون في تأويل الآيات بحملها على المحامل الباطلة، والذكر: القرآن، من بين يديه ومن خلفه: أي من جميع جهاته، حكيم: أي في جميع أفعاله، حميد: أي محمود إلى جميع خلقه بكثرة نعمه عليهم. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن الدعوة إلى دين الله أسمى المقاصد، وأنها إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد وصحة البعث يوم القيامة- أعقب هذا بتهديد من ينازع

الإيضاح

فى تلك الدلائل بإلقاء الشبهات، ثم هددهم بضروب من التهديد، فهددهم بقوله: «لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا» وبقوله: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» وبقوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ» إلخ. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي إن الذين يميلون عن الحق فى حججنا تكذيبا بها وجحودا لها- نحن بهم عالمون لا يخفون علينا، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا، وسنجازيهم بما يستحقون. ولا يخفى ما في ذلك من شديد الوعيد كما يقول الملك المهيب: إن الذين ينازعوننى فى ملكى أعرفهم ولا شك، فهو يريد تهديدهم وإلقاء الرعب في قلوبهم. ثم بين كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال: (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟) أي أفمن يلقى في النار لإلحاده بالآيات، وتكذيبه للرسول خير أم من آمن بها، وجاء يوم القيامة من الآمنين حين يجمع الله الخلائق للعرض عليه والحكم بينهم بالعدل؟ لا شك أنهما لا يستويان. وظاهر الآية العموم وتمثيل حالى المؤمن والكافر، وقيل المراد بمن يلقى في النار أبو جهل، وبمن يأتى آمنا النبي صلّى الله عليه وسلم. وعن بشير بن تميم قال: نزلت في أبى جهل وعمار بن ياسر. وبعد أن أبان لهم عاقبة الملحدين بالآيات والمؤمنين بها، هددهم بقوله: (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) فقد علمتم مصير المسيء والمحسن، فمن أراد أحد الجزاءين فليعمل له فإنه ملاقيه. (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه بأعمالكم ذو خبرة وعلم لا تخفى عليه خافية منها ولا من غيرها، وهو مجازيكم بحسب أعمالكم.

[سورة فصلت (41) : الآيات 43 إلى 46]

ثم بين أولئك الملحدين بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أي إن الملحدين هم الذين جحدوا هذا القرآن وكذبوا به حين جاءهم. ثم وصف الذكر بقوله: (1) (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي وإنه لكتاب عزيز عن أن يعارض أو يطعن فيه الطاعنون، منيع عن كل عيب، محمىّ بحماية الله. (2) (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي ليس للبطلان إليه سبيل، فلا تكذبه الكتب السابقة عليه كالتوراة والإنجيل، ولا يجىء من بعده كتاب يكذبه، قاله سعيد بن جبير والكلبي. وقال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وبه قال قتادة والسدّى. وقصارى ذلك- إن الباطل لا يتطرّق إليه، ولا يجد لديه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه، فكل ما فيه حق وصدق، وليس فيه ما لا يطابق الواقع. (3) (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي وهو تنزيل من عند ذى الحكمة بتدبير شئون عباده، المحمود على ما أسدى إليهم من النعم التي منها تنزيل هذا الكتاب، بل هى أجلّها. [سورة فصلت (41) : الآيات 43 الى 46] ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن هدد الملحدين في آياته- سلّى رسوله على ما يصيبه من أذى المشركين وطعنهم في كتابه، وحثه على الصبر، وألا يضيق صدره بما حكاه عنهم من نحو قولهم: «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. وقولهم: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ» فما قاله أولئك الكفار في شأنه وشأن ما أنزل إليه من القرآن لا يعدو شأن ما قاله أمثالهم من الأمم السابقة، ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهى هلا نزل القرآن بلغة العجم- بأنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضا، وقالوا ما لنا ولهذا؟. ثم ذكر أن القرآن هداية وشفاء للمؤمنين، والذين لا يؤمنون به في آذانهم صمم عن سماعه، ثم ذكر أن الاختلاف فى شأن الكتب عادة قديمة للأمم، فقومك ليسوا ببدع فيها بين الأمم، ثم أبان أن المرء وما عمل، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، ولا يظلم ربك أحدا. الإيضاح (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذبون ما جئتهم به من عند ربك إلا مثل ما قالته الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم، فاصبر على ما نالك منهم من أذى كما صبر أولو العزم من الرسل، وقد يكون المعنى- ما يقال لك من التوحيد وإخلاص العبادة لله إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك وإن اختلفت في غير هذا، تبعا للزمان والمكان.

ونحو الآية على المعنى الأول قوله: «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» . وعلى المعنى الثاني قوله: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ» . ثم ذكر علة أمره بالصبر فقال: (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي إن ربك لذو مغفرة للتائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم، وذو عقاب مؤلم لمن أصرّ على كفره ومات على ذلك قبل التوبة. ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهى: هلا نزل القرآن بلغة العجم فقال: (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) أي ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزل إليك بلغة العجم- لقال قومك من قريش: هلا بينت أدلته وما فيه من حكم وأحكام بلغة العرب حتى نفقهه ونعلم ما هو وما فيه، وكانوا يقولون منكرين: أقرآن أعجمى ولسان المرسل إليهم عربى؟ وخلاصة ذلك- لو نزل بلسان أعجمى لقالوا هلا بينت آياته باللسان الذي نفهمه، ولقالوا: أكلام أعجمى والمرسل إليهم عرب خلّص؟ ثم بين حال القرآن لدى المؤمنين والكافرين فقال: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي قل لهم ردّا على قولهم «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» : إن هذا القرآن للذين صدقوا بما جاءهم به من عند ربهم- هاد إلى الحق، شاف لما في الصدور من ريبة وشك، ومن ثم جاء بلسانهم معجزا بيّنا في نفسه مبينا لغيره. ونحو الآية قوله: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» . (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي والذين لا يؤمنون بالله

ورسوله وبما جاءهم به من عنده في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن فلا يستمعون له بل يعرضون عنه، وهو عليهم عمى فلا يبصرون حججه ومواعظه. ونحو الآية قوله في وصفه «وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً» . ثم مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم له بحال من ينادى من مكان بعيد لا يسمع من يناديه فقال: (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال الفراء تقول العرب للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تنادى من مكان بعيد، ولثاقب الرأى: إنك لتأخذ الأمور من مكان قريب، شبّهت حال هؤلاء المكذبين في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا إليه، بحال من ينادى من مسافة نائية لا يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه. ثم بين أن هؤلاء المكذبين ليسوا بدعا بين الأمم في تكذيبهم بالقرآن، فقد اختلف من قبلهم في التوراة فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي ولقد أرسلنا موسى وآتيناه التوراة فاختلفوا فيها، فمن مصدّق بها ومن مكذب، وهكذا شأن قومك معك، فمن مصدق بكتابك ومن مكذّب به، فلا تأس على ما فعلوا معك، واسلك سبيل أولى العزم من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين فقد أوذوا فصبروا وكان النصر حليفهم، والتوفيق أليفهم وكتب الله لهم الفلج والفوز على أعدائهم المشركين، وأهلك الله القوم الظالمين. ثم أخبر سبحانه أنه أخر عذابهم إلى حين ولم يعاجلهم بالعقاب على ما اجترحوا من تكذيب الرسول وجحدهم بكتابه فقال: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولولا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم من تأخير عذابهم إلى يوم القيامة بنحو قوله: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ» وقوله: «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» لعجّل الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه بإهلاك المكذبين كما فعل بمكذبى الأمم السالفة.

ثم بين ما يقتضى إهلاكهم فقال: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن قومك لفى شك من أمر القرآن موجب لقلقهم واضطرابهم، فما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم حين قالوا ما قالوا، بل كانوا شاكين غير محققين لشىء مما كانوا فيه من عنادك ومقاومة دعوتك. ثم بين أن الجزاء من جنس العمل وأنه لا يظلم ربك أحدا فقال: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي من عمل بطاعة الله في هذه الحياة فأتمر بأمره وانتهى عما نهى عنه فلنفسه عمل، لأنه يجازى عليه الجزاء الذي هو له أهل، فينجو من النار ويدخل جنة النعيم. ومن عصى الله فعلى نفسه جنى، لأنه أكسبها سخطه وأليم عقابه، وقد قالوا فى أمثالهم (إنك لا تجنى من الشوك العنب) وما ربك أيها الرسول بحامل عقوبة ذنب على غير مكتسبه، بمعاقب أحدا إلا على جرم اكتسبه. ونحو الآية قوله: «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» . اللهم وفقنا لعمل الصالحات، وأبعدنا عن ارتكاب الآثام والموبقات، وألهمنا التوفيق لما يرضيك، والبعد عما يسخطك. وقد كان الفراغ من تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم قبيل فجر الليلة السادسة عشرة من ذى الحجة سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة النبي الكريم بمدينة حلوان من أرباض القاهرة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّ ربنا على محمد وآله.

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء 4 ذكر بعض هفوات للمشركين. 5 ذكر ما أعد للمؤمنين من ثواب. 7 يكفى الله المؤمنين ما أهمهم في الدنيا. 7 من يضلل الله فلا هادى له. 9 الحديث المأثور عن ابن عباس. 10 قطع صلة الروح بالبدن حين الموت. 11 الرسول صلّى الله عليه وسلم مبلغ لا مسيطر. 13 تفسير على كرم الله وجهه للرؤيا الصادقة والكاذبة. 15 نعى السيد الآلوسى في تفسيره حال المسلمين اليوم. 16 دعاه النبي صلّى الله عليه وسلم حين افتتاح صلاته بالليل. 17 ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم أبا بكر من الدعاء. 18 كان المشركون يلجأون إلى الله حين وقوع الضرر. 20 الله يبسط الرزق لبعض عباده ويضيق على بعض. 22 غفران الذنوب لمن تاب وأخلص العمل 23 أجمع آية في القرآن بخير وشر «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ» وأكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف. 24 يسروا ولا تعسروا. 26 وجوه المشركين ووجوه المؤمنين يوم القيامة. 29 مقاليد السموات والأرض. 30 ما أوحى به إلى الأنبياء جميعا. 31 ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم. 32 يقبض الله الأرض ويطوى السماء بيمينه. 33 يصعق الخلق حين النفخ في الصور. 34 يوم القيامة توضع صحائف الأعمال بأيدى العاملين. 35 يساق المجرمون حينئذ زمرا. 36 تقول الخزنة لأهل النار ألم يأتكم الرسل. 37 تقول خزنة الجنة لأهلها سلام عليكم طبتم. 38 أبواب الجنة ثمانية. 39 الملائكة من حول العرش يسبحون بحمد ربهم. 40 ما تحتوى عليه سورة الزمر من موضوعات. 41 آل حم ديباج القرآن. 42 قول العامة: الحواميم ليس من كلام العرب. 43 ذكر حال المجادلين في القرآن لأجل إبطاله. 44 قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على. 45 الأمم جميعا جادلت في كتبها بالباطل لتدحض الحق. 46 الملائكة من حول العرش يستغفرون للمؤمنين. 48 يدخل الرجل الجنة فيقول يا رب أين أبى وجدى وأمي إلخ؟ 51 يوم القيامة يعترف المجرمون بذنوبهم واستحقاقهم للعذاب. 52 الحكم لله العلى الكبير يوم القيامة. 53 صفات الله الدالة على عظمته وجلاله. 55 في الحديث «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى إلخ» . 56 «ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع» . 57 علمه تعالى شامل لكل شىء. 58 قصص موسى عليه السلام مع فرعون. 60 أمر فرعون بقتل أبناء بنى إسرائيل. 61 قال فرعون لقومه: إنى أخاف أن يبدل موسى دينكم- تبرئة لنفسه من دعوى سفك الدماء. 62 تعوذ موسى بربه من الجبارين المتكبرين. 63 حديث مؤمن آل فرعون وذكر نصائحه.

64 قال على: أشجع الناس أبو بكر. 65 رد فرعون على موسى وتصلبه في رأيه. 67 إعادة النصح كرة أخرى بضرب الأمثال. 68 توبيخهم بأن التكذيب فيهم متوارث. 69 يضل الله عن سبيل الحق المسرف في المعاصي 71 أمر فرعون وزيره هامان أن يبنى له قصرا شامخا. 72 السبب في تمرد فرعون وصده عن السبيل. 73 إعادة النصح عليهم مرة ثالثة. 75 الأصنام لا تستجاب لها دعوة. 75 تعجبه من دعوته إياهم إلى الهداية ودعوتهم إياه إلى الضلال. 76 اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر. 81 وعد الرسول صلّى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائه. 82 في التوراة هدى لبنى إسرائيل. 83 ما يحمل قومك على التكذيب بك إلا الكبر والحسد. 84 البراهين الدالة على إمكان البعث. 85 لا يستوى المؤمن والكافر ولا الأعمى والبصير. 88 من الأدلة على وجود المعبود خلق السموات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة 89 قومك أيها الرسول ليسوا ببدع في الأمم. 90 أمر الله عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه. 91 من الأدلة على وجوده تعالى خلق الأنفس على أحسن الصور. 92 مراتب عمر الإنسان ثلاث. 94 يسأل المجرمون سؤال توبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها. 95 أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين. 96 قص الله سبحانه أخبار بعض الرسل لا جميعهم 97 فوائد الإبل. 99 تهديد الذين يجادلون في آياته طلبا للرياسة. 100 يقول المشركون حين يرون العذاب آمنا بالله وحده. 101 لا تقبل التوبة حين معاينه العذاب. 102 حديث الرسول صلّى الله عليه وسلم مع صناديد قريش وتلاوته عليهم أول سورة فصلت. 104 القرآن كتاب فصلت آياته بمقاطع وفواصل. 105 ذكر المشركون لنفرتهم من القرآن ثلاثة أسباب. 107 خلاصة الوحى علم وعمل. 109 خلق السموات والأرض على أطوار. 110 الحكمة في خلق الجبال الرواسي. 111 خلق الأرض وجبالها الرواسي وتقدير أقواتها في أربعة أيام. 112 عالم السديم. 115 إنذار المشركين بشديد العقاب إن أصروا على عنادهم. 115 ما دار بين أبى جهل وعتبة بن ربيعة من الحديث بشأن النبي صلّى الله عليه وسلم. 116 ما قيل عن وصف قوم عاد. 117 ما نزل بقوم عاد من العذاب. 119 بيان المراد من شهادة السمع والأبصار والجلود. 121 على المرء في كل حال رقيب. 122 الظن قسمان: منج ومرد. 123 لا تقبل لأهل النار معاذير ولا تقال لهم عثرات. 124 تشاغل المشركين عن سماع القرآن. 126 طلب المشركين الانتقام ممن أضلوهم. 127 بشرى الملائكة للمؤمنين وولايتهم لهم. 128 قال وكيع: البشرى في ثلاثة مواطن. 130 أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بدفع سفاهات المشركين بالحسنى. 131 قال عمر: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. 132 ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه. 133 الطريق لدفع الغضب إذا بدت بوادره. 134 الدلائل الفلكية والأرضية على وجوده تعالى. 135 الرد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب. 136 تهديد من ينازع في دلائل الوحدانية والقدرة. 138 صفة الكتاب الكريم. 139 قال المشركون: هلا نزل القرآن بلغة العجم. 140 القرآن هدى وشفاء للذين آمنوا. 142 من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساه فعلى نفسه جنى.

تتمة سورة فصلت

الجزء الخامس والعشرون [تتمة سورة فصلت] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 48] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) تفسير المفردات الساعة: يوم القيامة، الأكمام: واحدها كمّ (بالكسر) : وعاء الثمرة وقد يطلق على كل ظرف لمال أو غيره، آذناك: أي أعلمناك يقال آذنه يؤاذنه أي أعلمه كما قال: آذنتنا بينها أسماء ... رب ثاو يملّ منه الثّواء ضل عنهم: أي غاب وزال، ظنوا: أي أيقنوا وعلموا، محيص: أي مهرب يقال حاص يحيص حيصا: إذا هرب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن هدد الكافرين بأن جزاء كل عامل سيصل إليه يوم القيامة كاملا غير منقوص، إن خيرا فخير وإن شرا فشر- أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا سبيل للخلق إلى معرفته، فلا يعلمه إلا هو، وأن علم الحوادث المقبلة فى أوقاتها المعينة مما استأثر الله به، فلا يعلم أحد متى تخرج الثمر من الأكمام، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع. ثم ذكر أنه سبحانه يوم القيامة ينادى المشركين تهكما وتقريعا لهم: أين شركائى الذين كنتم تزعمون؟ فيجيبون: الآن لا نشهد لأحد منهم بالشركة فى الألوهية، وقد غابوا عنهم فلا يرجون منهم نفعا، ولا يفيدونهم خيرا، وأيقنوا حينئذ أن لا مهرب لهم من العذاب. روى أن المشركين قالوا يا محمد إن كنت نبيا فخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت الآية: الإيضاح (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي إذا سئل عنها أحد ردّ علمها إليه تعالى، فإنه لا يعلم متى قيامها سواه، وقد جاء فى الحديث «أن جبريل عليه السّلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل» . ونحو الآية قوله تعالى: «إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» وقوله: «لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» . وبعد أن ذكر أنه استأثر بعلم الساعة بين أنه اختص أيضا بعلم الغيب ومعرفة ما سيحدث فى مستأنف الأزمنة فقال: (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي وما تبرز الثمرة من وعائها الذي هى مغلّفة به، وما تحمل أنثى ولا تضع ولدها إلا يعلم

من الله، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء. ونحو الآية قوله: «يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» . وفى هذا دليل على أن المنجمين لا يمكنهم الجزم بشىء مما يقولون البتة، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد يصيب وربما لا يصيب، وعلم الله هو المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد. ثم ذكر بعض ما يحدث فى هذا اليوم فقال: (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادى سبحانه عباده المشركين على رءوس الأشهاد تهكما بهم واستهزاء بأمرهم- أين شركائى الذين عبدتموهم معى؟ فيجيبون ويقولون: أعلمناك أنه ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكا، ونفى الشهادة يراد به التبرؤ منهم، لأن الكفار يوم القيامة ينكرون عبادة غير الله كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» . والخلاصة- إن قوله آذناك إخبار بإعلام سابق علمه الله من أحوالهم يوم القيامة، وأنهم لم يبقوا على الشرك، وعلى تلك الشهادة، كأنهم يقولون أنت أعلم به، ثم يأخذون فى الجواب. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي وغابت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها فى الدنيا، فأخذ بها طريق غير طريقهم فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئا من عذاب الله الذي حل بهم. (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وأيقنوا حينئذ أنه لا ملجأ لهم من عذاب الله.

[سورة فصلت (41) : الآيات 49 إلى 51]

[سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 51] لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) تفسير المفردات لا يسأم: أي لا يملّ، والخير: المال والصحة والعزة والسلطان ونحوهما، والشر: الفقر والمرض ونحوهما، واليأس: انقطاع الرجاء من حصول الخير، والقنوط: (بالفتح) من اتصف بالقنوط (بالضم) وهو ظهور أثر اليأس على الإنسان من المذلة والانكسار، والرحمة هنا: الصحة وسعة العيش، والضراء: المرض وضيق العيش ونحوهما، هذا لى: أي هذا ما استحقه لما لى من الفضل والعمل، والحسنى: الكرامة، والغليظ هنا: الكثير، نأى بجانبه: أي تكبر واختال، وعريض: أي كثير مستمر يقولون أطال فى الكلام، وأعرض فى الدعاء: إذا أكثر. المعنى الجملي بعد أن أبان سبحانه حال الكافرين فى الآخرة، وذكر أنهم حينئذ يتبرءون من الشركاء بعد أن كانوا معترفين بهم فى الدنيا- أردف ذلك بيان أن الإنسان متبدّل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحسّ بخير وقدرة انتفخت أوداجه وصعّر خديه ومشى الخيلاء، وإن أصابته محنة وبلاء تطامن واستكان ويئس من الفرج، وهذا دليل على شدة حرصه على الجمع، وشدة جزعه من الفقد، إلى ما فيه من طيش يتولد عنه إعجابه واستكباره حين النعمة، وتطامنه حين زوالها، وذلك مما يومىء بشغله بالنعمة عن

الإيضاح

المنعم فى حالى وجودها وفقدها، أما فى حال وجودها فواضح، وأما فى حال فقدها فلأن التضرع جزعا إنما كان على الفقد الدالّ على الشغل عن المنعم بالنعمة. الإيضاح (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل الإنسان من دعائه ربه ومسألته إياه أن يؤتيه صحة وعافية وسعة فى الرزق، فهو مهما أوتى من المال فهو لا يقنع، وقد جاء فى الأثر «منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال» وجاء أيضا «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا» . (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) أي وإن أصابه بؤس وضيق فى المال أو ابتلى بمرض أنهك قواه واضمحلّ به جسمه- يئس من فضل الله ورحمته، وظهر عليه سيمى الذل والانكسار، والخنوع والخضوع. وخلاصة ذلك- إن الإنسان متبدل الأحوال، متغير الأطوار، إن أحس بخير بطر وتعظم، وإن شعر ببؤس ذل وخضع، فهو شديد الحرص على الجمع، شديد الجزع على الفقد. ثم ذكر حال هذا اليئوس القنوط فقال: (1) (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي ولئن كشفنا ما أصابه من سقم فى نفسه أو شدة وجهد فى معيشته، فوهبنا له العافية بعد السقم، والغنى بعد الفقر- ليقولن هذا حقى قد وصل إلىّ، لأنى أستوجبه بما حصل لى من ضروب الفضائل وأعمال البر والقرب من الله، لا تفضل منه علىّ- أو لا يعلم أن هذه الفضائل لو وجدت فإنما هى بفضل الله وإحسانه، وهو لا يستحق على الله شيئا؟ (2) (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي وما أظن الساعة ستقوم، فلا رجعة ولا حساب

ولا عقاب على شىء من الآثام التي يقترفها الإنسان فى دنياه، ويجترمها مدى حياته الدنيوية. وما نتج هذا إلا من شدة رغبته فى الدنيا، وعظيم نفرته من الآخرة، فهو حين ينظر إلى أحوال الدنيا يقول: إنها لى وأنا جدير بها، لما لى من فضل به استحققتها، وحين ينظر إلى أحوال الآخرة يقول: وما أظن الساعة قائمة. (3) (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي وإن الغالب على ظنى أن لا رجعة ولا بعث ولا قيامة، ولئن كان البعث حقا فإن لى عنده لكرامة فى الآخرة، فإن حالها كحال الدنيا، فما استحققته من النعيم فيها سيكون لى مثله فى الآخرة. وبعد أن حكى عنهم هذه الأقوال ذكر أنه سيظهر لهم أن الأمر بعكس ما يظنون، وبضد ما يعتقدون فقال: (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي فلنخبرن هؤلاء الكافرين يوم يرجعون إلينا بما عملوا من المعاصي، واجترحوا من الآثام، وما دسّوا به أنفسهم من الخطايا، ثم لنجازينّهم عليها، فيستبين لهم أنهم جديرون بالإهانة والاحتقار لا بالكرامة والإحسان، ولنذيقنهم عذابا غليظا لا يمكنهم الفكاك منه وهو عذاب جهنم التي لا موت فيها ولا يجدون عنها حولا. وبعد أن حكى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه فى الجهد الجهيد- حكى أفعاله فقال: (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا نحن أنعمنا عليه فكشفنا عنه المرض ووهبنا له الصحة والعافية ورزقناه سعة العيش- أعرض عما دعوناه إليه من طاعتنا، واستكبر عن الانقياد لأمرنا. ثم ذكر أنه حين الضراء يكون على عكس هذا فيتضرع ويبتهل إلى ربه فقال: (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي وإذا أصابته شدة من فقر ومرض ونحوهما

[سورة فصلت (41) : الآيات 52 إلى 54]

أطال الدعاء والتضرع إلى الله، لعله يكشف عنه تلك الغمة، ويزيل عنه برحمته هاتيك الملمّة. ونحو الآية قوله «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» الآية. [سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) تفسير المفردات أرأيتم: أي أخبرونى، أضل: أي أكثر ضلالا وبعدا عن الحق، والشقاق: الخلاف، والآفاق: النواحي من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها واحدها أفق (بضمتين وبضم فسكون) وشهيد: أي شاهد على كل ما يفعله خلقه، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، ومرية: أي شك، من لقاء ربهم: أي من البعث بعد الممات، محيط: أي عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء. المعنى الجملي بعد أن أوعد سبحانه على الشرك وهدد، وحذر وأنذر، وذكر أن المشركين ينكرون الشرك يوم القيامة ويتبرءون من الشركاء، ويظهرون الذل والخضوع، لاستيلاء الخوف عليهم لما يرون من شديد الأهوال، وأردف هذا ذكر طبيعة الإنسان وأنه

الإيضاح

متبدل لا يثبت على حال واحدة، فإن أحس القوة تكبر وتعظم، وإن شعر بالضعف أظهر المسكنة والمذلة- أعقب ذلك بلفت أنظار الطاعنين فى ثبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى التأمل والتفكر فيما بين أيديهم من الدلائل، ليرعووا عما هم فيه من الغى والضلال، ويقروا بها لتظاهر الأدلة عليها، وعلى أن القرآن منزل من عند الله حقا، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور. الإيضاح (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ؟) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالقرآن الذي جئتهم به من عند ربك: أخبرونى أيها القوم إن كان هذا الذي أنتم به تكذبون- من عند ربى ثم كفرتم به، أفلا تكونون مفارقين للحق بعيدين من الصواب؟. وقد كانوا كلما سمعوا القرآن أعرضوا عنه وبالغوا فى النفرة منه، حتى قالوا: قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر، فلفت أنظارهم إلى أنه يجب عليهم النظر والتأمل فيه، فإن دل الدليل على صحته قبلوه، وإن أرشد إلى فساده تركوه، أما قبل ذلك فالإصرار على الإعراض والإنكار بعيدان عو الصواب وعما يحكم به العقل. فما أضلكم وأكثر عنادكم ومشاقتكم للحق واتباعكم للهوى. وخلاصة ذلك- قل لهم: من أشد ذهابا عن قصد السبيل، وأسلك لغير طريق الصواب، ممن هو فى فراق لأمر الله وخلاف له، وبعد عنه؟ وبعد أن ذكر أدلة التوحيد والنبوة أجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال: (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) أي سنرى هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد المحيطة بمكة وبمكة بما أجريناه على يدى نبينا وعلى يدى خلفائه وأصحابه من الفتوح الدالة على قوة الإسلام وأهله، ووهن الباطل وحزبه حتى

يعلموا حقيقة ما أوحينا به إليك وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن وعده صادق وأنه مظهر دينك على الأديان كلها. والخلاصة- سنيسر لهم من الفتوح ما لم يتيسر لأحد ممن قبلهم، ونظهرهم على الجبابرة والأكاسرة، ونجرى على أيديهم من الأمور الخارجة عن المعهود، الخارقة للعادة، فيستبين لهم أن هذا القرآن هو الحق، ومن ثمّ نصر حامليه، وأظهرهم على أعدائهم فى قليل من الزمان. ثم وبخهم على إنكارهم تحقق هذه الإراءة وحصولها فقال: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟) أي كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد بأن محمدا صادق فيما أخبر به عنه كما قال: «لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ» الآية، وقوله: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ» . وقصارى ذلك- ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها سبحانه فى هذه السورة وفى كل سور القرآن، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانية الله وتنزيهه عن كل نقص، وإثبات النبوة والبعث. وبعد أن أقام الأدلة، وأوضح الحجج حتى لم يبق بعدها مقال لمتنعت ولا جاحد- بين سبب عنادهم واستكبارهم فقال: (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي إنهم فى شك من البعث والجزاء، واستبعادهم إحياء الموتى بعد تفرق أجزائهم، وتبدد أعضائهم، ومن ثم لا يلتفتون إلى النظر فيما ينفعهم عند لقائه كالتفكر فى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن القرآن حق لا شك فيه. ثم دفع مريتهم وشكهم فى البعث وإعادة ما تفرق واختلط، مما يتوهم منه عدم إمكان تمييزه فقال:

مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة

(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عليم بجمل الأشياء وتفاصيلها، مقتدر عليها لا يفوته شىء منها، فهو يعلم ما تفرق من أجزاء الأجسام، ويقدر على إعادتها إلى مكنتها، ثم بعثها وحسابها، لتستوفى جزاءها على ما قدمت من عمل. مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة (1) وصف الكتاب الكريم. (2) إعراض المشركين عن تدبره. (3) جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين. (4) إقامة الأدلة على الوحدانية. (5) إنذار المشركين بأنه سيحل بهم ما حل بالأمم قبلهم. (6) شهادة الأعضاء عند الحشر على أربابها. (7) ما يفعله قرناء السوء من التصليل والصد عن سبيل الله. (8) ما كان يفعله المشركون حين سماع القرآن. (9) طلب المشركين إهانة من أضلوهم انتقاما منهم. (10) ما يلقاه المؤمنون من الكرامة يوم العرض والحساب. (11) إعادة الأدلة على الوحدانية. (12) القرآن هداية ورحمة. (13) إحاطة علم الله وعظيم قدرته. (14) من طبع الإنسان التكبر عند الرخاء والتضرع وقت الشدة. (15) آيات الله فى الآفاق والأنفس الدالة على وحدانيته وقدرته. (16) شك المشركين فى البعث والنشور ثم الرد عليهم.

سورة الشورى

سورة الشورى هى مكية إلا الآيات 23، 24، 25، 26، 27 فمدنية. وآيها ثلاث وخمسون، نزلت بعد فصلت. ومناسبتها لما قبلها- اشتمال كل منهما على ذكر القرآن، ودفع مطاعن الكفار فيه، وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك. [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) تفسير المفردات حم عسق- تقدم أن قلنا إن الحروف المقطعة التي جاءت فى أوائل السور حروف تنبيه نحو ألا ويا ونحوهما، يؤتى بها لإيقاظ السامع وتنبيهه إلى ما سيلقى إليه من الأمور العظام المشتملة عليها هذه السورة، وينطق بأسمائها هكذا (حاميم. عين. سين. قاف.) يتفطرن: أي يتشققن، يسبحون: أي ينزهون الله عما لا يليق به، والأولياء: الشركاء والأنداد، حفيظ: أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم، بوكيل:

المعنى الجملي

أي بموكول إليك أمورهم حتى تؤاخذهم بها ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ فحسب. المعنى الجملي بين سبحانه أن ما جاء فى هذه السورة موافق لما فى تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل، من الدعوة إلى التوحيد، والإيمان باليوم الآخر، والتزهيد فى جمع حطام الدنيا، والترغيب فيما عند الله، ثم ذكر أن ما فى السموات والأرض فهو مهلكه وتحت قبضته، وله التصرف فيه إيجادا وإعداما وتكوينا وإبطالا، وأن السموات والأرض على عظمهما تكاد تتشقق فرقا من هيبته وجلاله سبحانه، وأن الملائكة ينزهونه عما لا يليق به من صفات النقص، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين، ثم أردف هذا تسلية رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأنه ليس بالرقيب على عبدة الأصنام والأوثان يستطيع أن يردهم إلى سواء السبيل، بل ليس عليه إلا البلاغ وعلينا حسابهم، فلا يبخع نفسه عليهم حسرات، إن الله عليم بما يصنعون. الإيضاح (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي بمثل ما فى هذه السورة، من الدعوة إلى التوحيد، والنبوة، والإيمان باليوم الآخر، وتجميل النفس بفاضل الأخلاق، وإبعادها عن رذائل الخلال، والعمل على سعادة المرء والمجتمع، يوحى إليك الله العزيز فى ملكه، الغالب بقهره، الحكيم بصنعه، المصيب فى قوله وفعله، كما أوحى إلى الأنبياء بمثله من قبلك. وسيأتى تفصيل هذا فى سورة «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» فقد ذكر فى أولها التوحيد، وفى وسطها النبوة وفى آخرها المعاد. ثم قال: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» أي إن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه

المطالب الثلاثة العالية التي لا تتم السعادة إلا بها، ولا الفوز بالنعيم فى الدارين إلا بسلوكها. ثم بين سبحانه عظمته وكبرياءه وحكمته فقال: (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أي إن ما فى السموات والأرض تحت قبضته وفى ملكه وله التصرف فيه إيجادا وإعداما، وهو المتعالي فوقه، العظيم عن مماثلته، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير. (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي تكاد السموات يتشققن من هيبة من هو فوقهن بالألوهية والقهر، والعظمة والقدرة. وبعد أن بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات، انتقل إلى ذكر الروحانيات فقال: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي والملائكة ينزهون ربهم عن صفات النقص، ويسمونه بسمات الجلال والكمال، شاكرين له على ما أنعم به عليهم من طاعته، وسخرّهم لعبادته. ونحو الآية قوله: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» . (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي يسألون ربهم المغفرة لذنوب من فى الأرض من أهل الإيمان به، ويلهمونهم سبل الخير الموصلة إلى السعادة، فمثلهم مثل الضوء يعطى الحياة بحرارته، ويعطى الهدى بنوره. ونحو الآية قوله: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» .

[سورة الشورى (42) : الآيات 7 إلى 8]

ثم بين سبحانه أن من شأنه المغفرة والرحمة لعباده فقال: (أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فما من مخلوق إلا له حظ من رحمته، وهو سبحانه ذو مغفرة للناس على ظلمهم. وفى الآية إيماء إلى قبول استغفار الملائكة، وهو يزيد على ما طلبوه من المغفرة، الرحمة بهم، وتأخير عقوبة الكافرين والعصاة نوع من المغفرة والرحمة، لعلهم يرعوون عن غوايتهم، ويثوبون إلى رشدهم، وينيبون إلى ربهم. ثم أبان وظيفة الرسل فقال: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي والمشركون الذين اتخذوا آلهة من الأصنام والأوثان يعبدونها- الله هو المراقب لأعمالهم، المحصى لأفعالهم وأقوالهم، المجازى لهم يوم القيامة على ما كانوا يفعلون، ولست أنت أيها الرسول بالحفيظ عليهم، إنما أنت نذير تبلغهم ما أرسلت به إليهم، إن عليك إلا البلاغ وعلينا الحساب، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإنك لست بمدرك ما تريد من هدايتهم إلا إذا شاء ربك. [سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 8] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) تفسير المفردات الإنذار: التخويف: وأم القرى: مكة، ويوم الجمع يوم القيامة: سمى بذلك لاجتماع الخلائق فيه كما قال تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ» والفريق: الجماعة، والسعير: النار المستعرة الموقدة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أبان فيما سلف أنه هو الرقيب على عباده، المحصى لأعمالهم، وأنه عليه السلام نذير فحسب، وليس عليه إلا البلاغ- ذكر هنا أنه أنزل كتابه بلغة العرب ليفهمه قومه من أهل مكة وما حولها كما قال: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» وينذرهم بأن يوم القيامة آت لا شك فيه، وأن الناس إذ ذاك فريقان: فريق يدخل الجنة بما قدم من صالح الأعمال، وفريق يدخل النار بما دسّى به نفسه من سيىء الفعال، ثم ذكر أن حكمته اقتضت أن يكون الإيمان بالتكليف اختيارا ولم يشأ أن يكون قسرا وجبرا، ولو شاء أن يكون كذلك لفعل، فمن أخبت لله وأناب وعمل صالحا أفلح وفاز بالسعادة، ومن عاث فى الأرض فسادا، واتجهت همته إلى ارتكاب الشرور والآثام خسر وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المهاد، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. الإيضاح (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح، أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسان قومك، لاخفاء فيه عليك ولا عليهم، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره ولتنذر به أهل مكة وما حولها من البلاد، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه. وقصارى ذلك- إنا كما أوحينا إليك أنك لست بالحفيظ عليهم ولا بالوكيل، أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أهل مكة وما حولها. وخص هؤلاء بالذكر، لأنهم أول من أنذروا، ولأنهم أقرب الناس إليه، فلا دليل فيها على أنه أرسل إليهم خاصة، كيف وقد جاء فى آية أخرى «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» .

وهذا الإنذار يعم شئون الدنيا وشئون الآخرة. ثم خص من بينها أمور الآخرة بيانا لعظيم أهوالها وشديد نكالها فقال: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي ولتنذر الخلائق كافة عقاب الله يوم جمعهم للعرض والحساب، وهو يوم لا شك فيه، لتظاهر الأدلة على تحققه عقلا ونقلا، فالحكمة قاضية بجزاء المحسن على إحسانه، ومعاقبة المسيء على إساءته، ولما فيه من نصوص قاطعة على وجوده لا تحتمل تأويلا ولا تفسيرا. ثم ذكر عاقبة العرض والحساب فقال: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي إنهم بعد جمعهم وعرضهم للحساب يفرقون، ففريق منهم يدخل الجنة لإيمانه بالله ورسوله وبما أحسن من عمل فى دنياه استحق به الكرامة عند ربه، والنعيم المقيم فى جنته، وفريق منهم فى نار الله الموقدة المسعورة على أهلها، وهم الذين كفروا بالله وخالفوا ما جاءهم به رسوله، فدسّوا أنفسهم بما أساءوا إليها من شرور وآثام، وبما عبدوه من أوثان وأصنام. ونحو الآية قوله: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» . ثم سلّى رسوله على ما كان يناله من الغم والهم بتولي قومه عنه، وعدم استجابة دعوته، وأعلمه أن أمور عباده بيده، وأنه الهادي إلى الحق من يشاء، والمضل من أراد فقال: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ولو شاء الله لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه، ولكن حكمته اقتضت أن يكون بعضهم مؤمنين كما تحب، وبعضهم كفارا وهم الذين اتخذوا من دون الله أولياء لأنه سبحانه شاء أن يكون الإيمان مبنيا على التكليف

[سورة الشورى (42) : الآيات 9 إلى 12]

والاختيار، يدخل فيه المرء بمحض الرضا والتأمل فى الأدلة الموصّلة إلى الهدى، وبذلك يتم الفوز والسعادة فى الدارين، وينفر منه من دنّس نفسه بإدران الشرك، وركب رأسه وأطاع هواه فكان من الخاسرين. ولو شاء لجعل الإيمان بالقسر والإلجاء فكان الناس جميعا أمة واحدة، ولكن له الحجة البالغة، والمثل الأعلى، لم يشأ ذلك، فلا تأس على عدم إيمان قومك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات كما قال: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقد جاء هذا المعنى فى غير آية سلف كثير منها كقوله: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» وقوله: «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» . [سورة الشورى (42) : الآيات 9 الى 12] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) تفسير المفردات الولي: الناصر والمعين، أنيب: أي أرجع، فاطر السموات والأرض: أي مبدعهما لا على مثال سابق، من أنفسكم: أي من جنسكم، يذرؤكم: أي يكثّركم يقال ذرأ الله

المعنى الجملي

الخلق: بثهم وكثّرهم، مقاليد: واحدها مقلاد أو مقليد أو إقليد، وهو المفتاح، يبسط أي يوسع، يقدر: أي يقتّر ويضيق. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنهم اتخذوا من دون الله أولياء، وأن الله وكيل عليهم، ولست أيها الرسول بالحفيظ عليهم- طلب إليه هنا أن يدع الاهتمام بأمرهم، ويقطع الطمع فى ايمانهم، مبينا أنهم اتخذوا من دون الله أولياء، وهو سبحانه الولي حقا، القادر على كل شىء، فقد عدلوا عنه إلى ما لا نسبة بينه وبينهم بحال. الإيضاح (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن هؤلاء المشركين من قومك، قد اتخذوا أولياء ينصرونهم من دون الله، وقد ضلوا ضلالا بعيدا، فهؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فإن أرادوا وليّا بحق يدفع عنهم الملمات، ويجلب لهم الخيرات، فالله هو القادر على ذلك، وهو المحيي الموتى، ويحشرهم يوم القيامة، فجدير بمثله أن يتّخذ وليّا، لا من يستطيع دفع الضر عن نفسه ولا جلب الخير لها. ونحو الآية قوله: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» . وبعد أن منع رسوله أن يحمل الكفار على الإيمان قسرا- منع المؤمنين أن يتنازعوا معهم فى شأن من شؤون الدين فقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) أي وما اختلف فيه العباد من أمر الدين فحكمه ومرجعه إلى الله، يحكم فيه يوم القيامة بحكمه، ويفصل بين المختصمين، وحينئذ يظهر المحق من المبطل، ويتميز أهل الجنة وأهل النّار.

وقد يكون المعنى- إن حكمه مردود إلى كتاب الله، فقد اشتمل على الحكم بين عباده فيما فيه يختلفون، فالآية عامة فى كل اختلاف يتعلق بأمر الدين وأنه مردود إلى كتاب الله. ونحو الآية قوله: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» . وقد حكم سبحانه فى كتابه، بأن الدين هو الإسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين فى الجنة والكافرين فى النار، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون بأن ذلك حق إلا فى الدار الآخرة وعدهم بذلك يوم القيامة. ثم أمره أن يقول لهم: (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي ذلكم الموصوف بهذه الصفات، من الإحياء والإماتة، والحكم بين المختلفين، هو ربى وحده، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، عليه توكلت فى دفع كيد الأعداء وفى جميع شئونى، وإليه أرجع فى كل المهمات، وإليه أتوب من الذنوب. وفى هذا تعريض لهم بأن ما هم عليه من اتخاذ غير الله وليّا لا يجديهم نفعا، ولا يدفع عنهم ضرا، فالأجدر بهم أن يقلعوا عنه، إذ من شأن العاقل ألا يفعل إلا ما يفيده فى دين أو دنيا. ثم بين الأسباب التي تحمله على أن يلتجىء إليه وتجعله الحقيق بذلك فقال: (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه الجدير بأن يعتمد عليه، ويستعان به، لأنه خالق العوالم جميعها، علويها وسفليها، على عظمتها التي ترونها، لا آلهتكم التي لا تستطيع أن تخلق شيئا. ثم بين بعض ما خلقه وأنعم به فقال: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي ومن حكمته لبقاء العمران فى هذه الحياة إلى الأجل الذي حدده فى علمه- أن خلق لكم

من جنسكم زوجات، لتتوالدوا، ويكثر النسل، ويستمر بقاء هذا النوع، وجعل للأنعام مثل هذا، وبذا تنتظم شئون الحياة لهذا الخليفة الذي جعله الله فى الأرض، وتقضى مآربه الدنيوية من مأكول ومشروب، وتستمر تغذيته على أتم النظم، وأكمل الوجوه، فيشكر ربه على ما أولى، ويعبده على ما أنعم، فيفوز بالسعادة فى الحياة الآخرة كما فاز بها فى الدنيا. وقوله «فيه» أي فى هذا التدبير وهو التزويج، فهو سبحانه جعل الناس والأنعام أزواجا ليكون بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، فيكون هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير فى النسل. وبعد أن ذكر بعض صنعه الدال على عظمته أرشد إلى بعض صفاته العظيمة فقال: (1) (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي ليس كخالق الأزواج شىء يزاوجه، لأنه الفرد الصمد، وقد يكون المعنى ليس مثله شىء فى شئونه التي يدبرها بمقتضى قدرته الشاملة، وعلمه الواسع، وحكمته الكاملة، ومن ثم جعل هذا التدبير المحكم لإحاطة علمه بكل شىء. (2) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي وهو السميع لما ينطق به خلقه من قول، البصير بأعمالهم لا يخفى عليه شىء مما كسبت أيديهم من خير أو شر. (3) (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له تعالى مفاتيح خزائن السموات والأرض فبيده مقاليد الخير والشر، فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك منها فلا مرسل له من بعده، وقد بين هذا بقوله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويقتّر على من يريد، بحسب السنن والنواميس التي وضعها بين عباده فى هذه الحياة. ثم ذكر سبب هذا البسط والتقتير فقال: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى عليم بكل ما يفعله من توسعة على من يوسع

[سورة الشورى (42) : الآيات 13 إلى 14]

عليه، وتقتير على من يقتر عليه، ومن الذي يصلحه البسط فى الرزق، ومن الذي يفسده، ومن الذي يصلحه التقتير، ومن الذي يفسده، لا يخفى عليه شىء من ذلك، فيفعل كل ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة، وعلمه المحيط. [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 14] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) تفسير المفردات أقيموا الدين: أي حافظوا عليه، ولا تخلّوا بشىء من مقوّماته، والمراد بالدين دين الإسلام، وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله، واليوم الآخر، وسائر ما يكون به العبد مؤمنا، ولا تتفرقوا فيه: أي ولا تختلفوا فيه، فتأتوا ببعض وتتركوا بعضا، كبر: أي عظم وشق عليهم، يجتبى: أي يصطفى، ينيب: أي يرجع، والبغي: الظلم ومجاوزة الحد فى كل شىء، لقضى بينهم: أي باستئصال المبطلين حين تفرقوا. المعنى الجملي بعد أن عظم وحيه إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأبان ماله من كبير الخطر حين نسبه إليه تعالى، وأنه صادر من عزيز حكيم لا يوحى إلا بما فيه مصلحة البشر ومنفعتهم

الإيضاح

فى دينهم ودنياهم- ذكر هنا تفصيل هذا الوحى، وأرشد إلى أنه هو الدين الذي وصى به أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة وأردف ذلك أن المشركين يشقّ عليهم دعوتهم إلى التوحيد وترك الأنداد والأوثان، وأن الله يهدى من يشاء من عباده لهدى دينه، وأنهم ما خالفوا الحق إلا بعد إبلاغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وأنه ما حملهم على ذلك إلا البغي والعدوان والحسد، وأنه لولا الكلمة السابقة من الله بإنظار المشركين بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة فى الدنيا، وأن من اعتنقوا الأديان من بعد الأجيال الأولى ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان، وهم فى حيرة من أمرهم، وشك مريب وشقاق بعيد. الإيضاح (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) أي شرع لكم من الدين ما شرع لنوح ومن بعده من أرباب الشرائع وأولى العزم من الرسل، وأمرهم به أمرا مؤكدا وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر، لعلوّ شأنهم وعظيم شهرتهم، ولاستمالة قلوب الكفار إلى أتباعه، لاتفاق كلمة أكثرهم على نبوّتهم، واختصاص اليهود بموسى عليه السّلام، والنصارى بعيسى عليه السّلام- وإلا فكل نبى مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد، وأصول الشرائع والأحكام مما لا يختلف باختلاف الأعصار كالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة واكتساب مكارم الأخلاق وفاضل الصفات. وفى الآية إيماء إلى أن ما شرعه لهم صادر عن كامل العلم والحكمة، وأنه دين قديم أجمع عليه الرسل، وما أوحاه إليه هو إما ما ذكر فى صدر السورة، وفى قوله: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) الآية.

وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع فى سائر المواضع التي من جملتها قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وقوله: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» . ثم فصل ما شرعه بقوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي اجعلوا هذا الدين وهو دين التوحيد والإخلاص لله قائما دائما مستمرا، واحفظوه من أن يقع فيه زيغ أو اضطراب، ولا تتفرقوا فيه، بأن تأتوا ببعض وتتركوا بعضا، أو بأن يأتى بعض منكم بهذه الأصول التي شرعت لكم ويتركها بعض آخر. والنهى إنما هو عن التفرق فى أصول الشرائع، أما التفاصيل فلم يتحد فيها الأنبياء كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» . والخلاصة- إننا شرعنا لكم ما شرعنا للأنبياء قبلكم، دينا واحدا فى الأصول وهى التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، والتقرب بصالح الأعمال، كالصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحرّمنا عليكم الزنا، وإيذاء الخلق، والاعتداء على الحيوان- فكل هذا قد اتحد فيه الرسل وإن اختلفوا فى تفاصيله. (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي شق على المشركين دعوتهم إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام والأوثان، وتقريعهم على ذلك، لأنّهم توارثوا ذلك كابرا عن كابر ونقلوه عن الآباء والأجداد كما حكى سبحانه عنهم بقوله: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» وبعد أن أرشد المؤمنين إلى التمسك بالدين- ذكر أنه إنما هداهم إلى ذلك، لأنه اصطفاهم من بين خلقه فقال: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي الله يصطفى من يشاء من عباده ويقربهم إليه تقريب الكرامة، ويوفّق للعمل بطاعته واتباع ما بعث به

نبيه عليه من الحق- من راجع التوبة من معاصيه، وهذا كما روى فى الخبر «من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة» أي من أقبل إلىّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتى وإرشادى، بأن أشرح له صدره، وأسهّل له أمره. ثم أجاب عن سؤال قد يخطر بالبال، لماذا صار الناس متفرقين فى الدين مع أنهم أمروا بالأخذ به وعدم التفرق فيه فقال: (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي وما تفرقت الأمم إلا من بعد ما علموا أن الفرقة ضلالة، وقد فعلوا ذلك بغيا وطلبا للرياسة، وللحميّة حمية الجاهلية التي جعلت كل طائفة تذهب مذهبا وتدعو إليه وتقبح ما سواه، طلبا للأحدوثة بين الناس والسيطرة عليهم. والخلاصة- إن الأمم قديمها وحديثها أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين وبلّغهم أنبياؤهم ذلك، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بذلك، بغيا وحسدا، وعنادا، وحبا للرياسة، فدعت كل طائفة إلى مذهب، وأنكرت ما عداه. ثم ذكر أن هؤلاء كانوا يستحقون العذاب المعجل على سوء أفعالهم، ولكن حكمته تعالى اقتضت تأخيره ليوم معلوم فقال: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ... لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولولا الكلمة السابقة من ربك بإنظار حسابهم وتأخيره إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة فى الدنيا سريعا بما دسّوا به أنفسهم من كبير الآثام وقبيح المعاصي. ثم ذكر أن تفرقهم فى الدين باق فى أعقابهم مضافا إليه الشك فى كتابهم مع انتسابهم إليه فقال: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن أهل الكتاب الذين كانوا فى عهده صلّى الله عليه وسلّم وورثوا التوراة والإنجيل عن السابقين لهم فى شك من كتابهم، إذ لم يؤمنوا به حق الإيمان، فهم مقلدون أسلافهم بلا حجة ولا برهان، وهم فى حيرة من أمرهم، وشك أقضّ مضاجعهم، وأوقعهم فى اضطراب وقلق.

[سورة الشورى (42) : آية 15]

وقصارى ذلك- إنهم تفرقوا بعد العلم الذي حصل من النبي المبعوث إليهم المصدّق لكتابهم، لأنهم شكوا فى كتابكم فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه من أمر ونهى. [سورة الشورى (42) : آية 15] فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) تفسير المفردات ادع: أي إلى الائتلاف والاتفاق، واستقم: أي اثبت على الدعاء كما أوحى إليك، آمنت بما أنزل من كتاب: أي صدقت بجميع الكتب المنزلة، لا حجة: أي لا احتجاج ولا خصومة: المعنى الجملي بعد أن أمرهم سبحانه فيما سلف بالوحدة فى الدين وعدم التفرق فيه، وذكر أنهم قد تفرقوا فيه من بعد ما جاءهم العلم، بغيا وحسدا، وعنادا واستكبارا- أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بالدعوة إلى الاتفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها والدعوة إليها وألا يتبع أهواءهم الباطلة، ثم أمره بالإيمان بجميع الكتب السماوية، وبالعدل بين الناس والمساواة بينهم وبين نفسه، فلا يأمرهم بما لا يعمله، أو يخالفهم فيما نهاهم عنه

الإيضاح

ثم أردف ذلك ببيان أن إلههم جميعا واحد، وأن كل امرئ مسئول عن عمله، وأن الله يجمع الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم. وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشرة أوامر ونواه، كل منها مستقل بذاته ودالّ على حكم برأسه، ولا نظير لها فى ذلك سوى آية الكرسي فهى عشرة فصول أيضا. الإيضاح (فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي فلأجل ذلك التفرق، ولما حدث بسببه من تشعب الكفر فى الأمم السالفة شعبا- ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ملة إبراهيم (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي واثبت أنت ومن اتبعك على عبادة الله كما أمركم. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي ولا تتبع أيها الرسول أهواء الذين شكّوا فى الحق الذي شرعه الله لكم، من الذين أورثوا الكتاب من قبلكم فتشكّوا فيه كما شكّوا. (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ) أي وقل: صدّقت بجيمع الكتب المنزلة على الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، لا أكذّب بشىء منها. وفى هذا تعريض بأهل الكتاب، إذ صدقوا ببعض وكفروا ببعض، وتأليف لقلوبهم، إذ آمن بما آمنوا به. (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي وأمرنى الله بما أمرنى به، لأعدل بينكم فى الأحكام إذا ترافعتم إلىّ، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه أو نقصان منه، ولأبلّغ ما أمرنى تبليغه إليكم كما هو. (اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي الله هو المعبود بحق لا إله غيره، فنحن نقرّ بذلك اختيارا، وأنتم وإن لم تفعلوه فله يسجد من فى السموات والأرض طوعا وجبرا. (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لنا أعمالنا لا يتخطانا جزاؤها، ثوابا كان أو عقابا، ولكم أعمالكم لا ننتفع بحسناتكم ولا تضرنا سيئاتكم.

[سورة الشورى (42) : الآيات 16 إلى 18]

ونحو الآية قوله: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» . (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة بيننا ولا احتجاج، فإن الحق قد وضح، وليس للمحاجة مجال، فما المخالف إلا معاند أو مكابر، وسيأتى الوقت الذي يستبين فيه الحق، ويتضح سبيل الرشاد، وإلى ذلك أشار بقوله: (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) أي الله يجمع بيننا يوم القيامة، فيقضى بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه. ونحو الآية قوله: «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ» . (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي وإليه المرجع والمعاد بعد مماتنا يوم الحساب، فيجازى كل نفس بما كسبت «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . وهذه الأوامر والنواهي وإن وجهت فى الظاهر إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهى له ولأمته كما هى القاعدة: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر لأمته إلا إذا ورد دليل على التخصيص. [سورة الشورى (42) : الآيات 16 الى 18] وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يحاجون فى الله: أي يخاصمون فى دينه، استجيب له: أي استجاب الناس لدينه ودخلوا فيه لوضوح حجته، داحضة: أي زائفة باطلة، والميزان: العدل بين الناس، يدريك: يعلمك، الساعة: القيامة، مشفقون: خائفون منها حذرون من مجيئها، الحق: أي الأمر المحقق الكائن لا محالة، يمارون: أي يجادلون وأصله من مريت الناقة: أي مسحت ضرعها للحلب، إذ كل من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه. المعنى الجملي بعد أن ذكر عز اسمه فيما سلف أن لا محاجة بين المشركين والمؤمنين لوضوح الحجة، بين هنا أن الذين يخاصمون فى دين الله من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا فيه أفواجا، حجتهم فى الصرف عنه زائفة لا ينبغى النظر إليها، وعليهم غضب من ربهم لمكابرتهم للحق بعد ظهوره، ولهم عذاب شديد يوم القيامة. روى أن اليهود قالوا للمؤمنين: إنكم تقولون إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، ونبوة موسى وتوراته مسلّمة بيننا وبينكم، ونبوة محمد ليست كذلك، وإذا فالأخذ باليهودية أولى، فدحض سبحانه هذه الحجة بأن الإيمان بموسى إنما وجب لظهور المعجزات على يديه دالة على صدقه، وقد ظهرت المعجزات على يدى محمد واليهود قد شاهدوها فوجب الاعتراف بنبوته. ثم أردف ذلك تخويفهم بيوم القيامة حتى يستعدوا له ويتركوا المماراة بالباطل، ثم ذكر أن المشركين يستعجلون به استهزاء وإنكارا لوجوده، والمؤمنون خائفون

الإيضاح

منه، لعلمهم بالجزاء حينئذ، ثم أعقب ذلك بذكر أن المماراة فى الساعة ضلال بيّن، لتظاهر الأدلة على حصولها لا محالة. الإيضاح (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ورسوله، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى- حجتهم زائفة لا تقبل عند ربهم، وعليهم غضب منه، لأنهم ما روا فى الحق بعد ما تبين، ولهم عذاب شديد يوم القيامة، لتركهم الحق بعد أن وضحت محجته عنادا واستكبارا. وقد سمى أباطيلهم التي لا ينبغى التعويل عليها- أدلة مجاراة لهم على زعمهم حتى يعاودوا النظر فيها، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم. (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) أي الله أنزل كتبه على أنبيائه حاوية للحق الذي لا شبهة فيه، بعيدة من الباطل الذي لا خير فيه، وأنزل العدل ليقضى بين الناس بالإنصاف، ويحكم بينهم بحكمه الذي أمر به فى كتابه. ونحو الآية قوله: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» . ثم رغب سبحانه فى الآخرة وزهد فى الدنيا فقال: (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ؟) أي وأىّ شىء يعلمك لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة تكون قد أزفت؟ فعليك أن تتبع الكتاب وتواظب على العدل بين الناس، واعمل بما أمرت به قبل أن يفجأك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى كل عامل جزاء عمله. والمراد بذلك حث المؤمنين على اتباع نهج الشرع وترك مخالفته.

روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا متى الساعة؟ استهزاء بها، وتكذيبا لمجيئها، فأنزل الله الآية، ويدل على ذلك قوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استعجال استهزاء وإنكار، وكانوا يقولون متى هى؟ ليتها قامت حتى يظهر لنا، أنحن على الحق فنفوز بالنجاة، أم محمد وأصحابه فنكون من الخاسرين؟ وبعد أن بين حال المشركين فى شأنها ذكر حال المؤمنين بها فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) أي والذين آمنوا خائفون منها وجلون من مجيئها، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم، وهم موقنون أنهم محاسبون ومجزيون على أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كما أنهم يعلمون علم اليقين أن مجيئها حق لا ريب فيه، فهم يستعدون له ويعملون من أجله. ونحو الآية قوله: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» . روى «أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصوت جهورى وهو فى بعض أسفاره فقال يا محمد: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنحو من صوته (هاؤم) فقال له متى الساعة؟ فقال له: إنها كائنة فما أعددت لها؟ فقال حب الله ورسوله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: أنت مع من أحببت» . ثم بين ضلال الممارين فيها فقال: (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي ألا إن الذين يجادلون فى وجودها، ويدفعون وقوعها، لفى جور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الرشاد، وبعد من الصواب، لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى كما قال: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» .

[سورة الشورى (42) : الآيات 19 إلى 22]

[سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 22] اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) تفسير المفردات لطيف بعباده: أي هو برّ بهم يفيض عليهم من جوده وإحسانه، حرث الآخرة: ثمرات أعمالها تشبيها لها بالغلة الحاصلة من البذور، حرث الدنيا: لذّاتها وطيباتها، شركاء: أي فى الكفر وهم الشياطين، شرعوا لهم: أي زينوا لهم، ما لم يأذن به الله: أي كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فحسب، كلمة الفصل: هى القضاء والحكم السابق منه بالنّظرة إلى يوم القيامة، الروضة: مستنقع الماء والخضرة، وروضات الجنات: أطيب بقاعها وأنزهها. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سبق أنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على الدلائل الموصلة إلى السعادة، وأن المتفرّقين فى الدين استوجبوا شديد العذاب، لكنه أخره إلى يوم معلوم- أرشد هنا إلى أن ذلك من لطف الله بعباده، ولو شاء لجعلهم فى عماية من أمرهم، وتركهم فى ضلالهم يعمهون، ولو شاء لعجل لهم العذاب. ثم بين أن من

الإيضاح

يعمل للآخرة يرجو ثوابها يضاعف له فيها الجزاء إلى سبعمائة ضعف، ومن يعمل للدنيا وجلب لذاتها يؤته ما يريد، وليس له فى الآخرة نصيب من نعيمها، ثم أعقب هذا بذكر ما وسوست به الشياطين للمشركين، وزينت لهم به من الشرك بالله وإنكار البعث إلى نحو ذلك، ثم بين أنهم كانوا يستحقون العذاب العاجل على ذلك، لكنه أجّله لما سبق فى علمه من إنظارهم إلى يوم معلوم، ثم ذكر مآل كل من الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، فالأولون خائفون وجلون من جزاء ما عملوا، والآخرون مترفون منعّمون. الإيضاح (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي إنه برّ تعالى برّ بعباده يرسل إليهم أعظم المنافع، ويدفع عنهم أكبر البلاء، فيرزق البرّ والفاجر، لا ينسى أحدا منهم، ويوسع الرزق حلى من يشاء منهم، ويقتّره على من يشاء، ليمتحن الغنى بالفقير والفقير بالغنى، وليحتاج مضر إلى بعض كما قال: «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» . ونحو الآية قوله: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» . ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال: (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي وهو القادر على ما يشاء، العزيز الذي لا يقدر أحد أن يمنعه عن شىء مما يريده. وبعد أن أبان أن الرزق ليس إلا فى يده أتبعه بما يزهّد فى التكالب على طلب رزق البدن، ويرغّب فى الجد فى طلب رزق الروح والسعى فى رفع منزلتها عند ربها ليرضى عنها فقال: (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة نوفقه لصالح الأعمال ونجزه بالحسنة عشر أمثالها إلى ما شاء الله.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي ومن كان سعيه موجها إلى شؤون الدنيا، وطلب طيباتها واكتساب لذاتها، وليس له همّ فى أعمال الآخرة- نؤته منها ما قسمناه له، وليس له فى ثواب الآخرة حظ، فالأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، قال قتادة: إن الله يعطى على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطى على نية الدنيا إلا الدنيا. ونحو الآية قوله: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» . وقال ابن عباس: من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيبا فى الآخرة إلا النار، ولم يزد بذلك من الدنيا شيئا إلا رزقا فرغ منه وقسم له. وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وابن حبان عن أبىّ بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «بشّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين فى الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له فى الآخرة من نصيب» . وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبى هريرة قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) لآية ثم قال يقول الله: ابن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك» . وعن علىّ كرم الله وجهه قال: الحرث حرثان: فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات. ولما بين القسطاس الأقوم فى أعمال الآخرة وأعمال الدنيا أردفه التنبيه إلى ما هو الأصل فى باب الضلالة والشقاوة فقال: (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) أي هم ما اتبعوا ما شرع الله

من الدين القويم، بل اتبعوا ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، فحرّموا عليهم ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة، وحللوا لهم أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو أولئك من الضلالات والجهالات التي كانوا قد اخترعوها فى الجاهلية. وقد ثبت فى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت عمرو بن لحىّ بن قمنعة يجر قصبه- أمعاءه- فى النار» لأنه أول من سيّب السوائب وحمل قريشا على عبادة الأصنام، وكان أحد ملوك خزاعة. وقصارى ذلك- إن الشيطان زين لهم الشرك والمعاصي والشرائع المضلة وإنكار البعث والعمل للدنيا. ثم بين أنه رحمة بعباده أخّر عذاب المشركين ليوم معلوم ولم يعجله لهم فقال: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولولا القضاء السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة لعوجلوا بالعذاب كما قال سبحانه: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ» . (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وإن الظالمين أنفسهم بشرع ما لم يأذن به الله مما ابتدعوه من التحليل والتحريم- لهم عذاب شديد الإيلام فى جهنم وبئس المصير. ثم ذكر أحوال أهل العقاب وأهل الثواب يوم القيامة مبتدئا بالأولين فقال: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي ترى الظالمين خائفين أشد الخوف مما كسبوا من السيئات وهو واقع بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا. وذكر الآخرين بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي والذين آمنوا بالله وأطاعوه فيما أمر به ونهى عنه- لهم فى الآخرة روضات الجنات متمتعين بمحاسنها ولذاتها.

[سورة الشورى (42) : الآيات 23 إلى 26]

ثم بين ما يكون من النعيم فى تلك الروضات فقال: (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي لهم ما يشاءون من فنون اللذات من مآكل ومشارب ومناظر مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وبعدئذ بين خطر ذلك الفوز الذي ينالونه تفضلا من ربهم ورحمة فقال: (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الذي أعطاهم ربهم من هذا النعيم وتلك الكرامة- هو الفضل الذي منّ به عليهم، وهو الذي يفوق كل كرامة فى الدنيا من بعض أهلها على بعض. [سورة الشورى (42) : الآيات 23 الى 26] ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) تفسير المفردات البشارة: الإخبار بحصول ما يسرّ فى المستقبل، والقربى: التقرب، يقترف: أي يكتسب، يختم على قلبك: أي يجعل قلبك من المختوم عليهم حتى تجترىء

المعنى الجملي

على الافتراء، يمحو: أي يزيل، يحق: أي يثبت، وكلماته: هى حججه وأدلته، يستجيب الذين آمنوا: أي يجيب دعاءهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر فى الآيات السالفة أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون بالنعيم فى روضات الجنات، وأنه يعطيهم من فضله ما فيه قرّة أعينهم رحمة من لدنه- ذكر هنا أن ذلك كائن لهم لا محالة ببشارة منه لهم، ثم أعقب هذا بأن أمر رسوله أن يقول لهم: إنه لا يسألهم على هذا البلاغ والنصح أجرا، وإنما يطلب منهم التقرب إلى الله وحسن طاعته، ثم رد عليهم قولهم: إن القرآن مفترى بأنه لا يفترى الكذب على الله إلا من كان مختوما على قلبه، ومن سنن الله إبطال الباطل ونصرة الحق، فلو كان محمد كذابا مفتريا لفضحه وكشف باطله، ولكن أيده بالنصر والقوة، ثم ندبهم إلى التوبة مما نسبوه إلى رسوله من افترائه للقرآن، ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا هم دعوه، ويزيدهم من نعمه، وأوعد الكافرين بشديد العقاب كفاء ما اجترحوا من الشرور والآثام. الإيضاح (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي هذا الذي أخبرتكم بأنى أعددته فى الآخرة من النعيم والكرامة لمن آمن بالله ورسوله وعمل صالح الأعمال- البشرى التي أبشركم بها فى الدنيا، ليتبين لكم أنها حق وأنها كائنة لا محالة. والخلاصة- إن هؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل بما أمر الله به وترك ما نهى عنه- هم المبشرون بتلك البشارة.

وبعد أن ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلّى الله عليه وسلّم من هذه الأحكام التي اشتمل عليها كتابه- أمره أن يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ أجرا فقال: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي قل لهم: لا أسالكم على تبليغ ما أبلغكم به من هذا لدين القويم نقعا منكم فى دنياى، لكن أسألكم أن تودوا الله ورسوله فى تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح، قاله الحسن البصري، ويدخل فى ذلك مودة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومودة قرابته ومودة ذوى القربى من المسلمين. وقال ابن عباس: إلا أن تودونى فى نفسى لقرابتى منكم، وتحفظوا القرابة التي بينى وبينكم. وعن الشعبي قال: أكثر الناس علينا فى هذه الآية «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان واسط النسب فى قريش، ليس بطن من بطونهم إلّا وله فيه قرابة فقال الله: قل لا أسألكم الآية، أي أن تودونى لقرابتى منكم وتحفظوني بها. وروى عن ابن عباس قال: «قالت الأنصار فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا، فقال العباس لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فى مجالسهم فقال: يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال أفلا تجيبون؟ قالوا ما نقول يا رسول الله؟ قال ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ ألم يكذبوك فصدقناك؟ ألم يخذلوك فنصرناك؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا أموالنا وما فى أيدينا لله ورسوله فنزلت هذه الآية» ، وعلى هذه الرواية فالآية مدنية، والأصح أنها مكية. (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي ومن يعمل عملا فيه طاعة لله ورسوله نزد له فيه أجرا وثوابا، فنجعل له مكان الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى ما فوق ذلك فضلا منا ورحمة.

ونحو الآية قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» . (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي إنه تعالى يغفر الكثير من السيئات، ويكثّر القليل من الحسنات، فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر، قال قتادة: غفور للذنوب، شكور للحسنات. ثم أنكر عليهم نسبة افتراء القرآن إلى الرسول ووبخهم على مقالهم فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي أيقع فى قلوبهم ويجرى على ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله وهو أقبح أنواع الفرية وأفحشها؟ وهذا المقال منهم أفظع من الشرك الذي جعلوه شرعا لهم، فإنهم قد جعلوا الحق الأبلج الذي يعاضده الدليل ويؤيده البرهان- افتراء على الله واختلافا للكذب عليه- وفى ذلك أتم دلالة على بعده صلّى الله عليه وسلّم من الافتراء. وخلاصة ذلك- إنهم قالوا إن هذا الذي يتلوه علينا من القرآن ما هو إلا اختلاق من قبل نفسه وليس بوحي من عند ربه كما يدّعى. ثم زاد فى استبعاد الافتراء من مثله عليه السلام والإنكار له على أتم وجه فقال: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي فإن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترىء بالافتراء عليه، فإنه لا يفعل مثل هذا إلا من كان فى مثل حالهم قد ختم الله على قلبه وأعمى بصيرته. والخلاصة- إنه إن يشأ يجعلك منهم، لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. وما أجمل هذا التعريض بأنهم مفترون، وأنهم فى نسبة الافتراء إليه مفترون أيضا، وشبيه بالآية قول أمين نسب إلى الخيانة: لعل الله خذلنى، لعل الله أعمى بصيرتى-

لا يريد بمقالة إثبات الخذلان وعمى القلب، بل يريد استبعاد الخيانة من مثله، وأن من نسبه إلى ذلك فقد ركب شططا، وأتى أمرا إدّا، وقال قولا نكرا. ثم أكد استبعاد الافتراء منه وزاده إيضاحا فقال: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي كيف يكون منه الافتراء على الله، وقد جرت سنته تعالى أن يمحو الباطل ويمحقه ويثبت الحق وينشره بين الناس، وها هو ذا يزداد ما أوتيه محمد كل يوم قوة وانتشارا، فلو كان مفتريا كما تدّعون لكشف افتراءه ومحقه، وقذف بالحق على باطله فدمغه. وقد يكون المعنى- إن هذه عدة من الله لرسوله بالنصر ويكون المراد- يمحو الله باطلهم وما بهتوك به، ويثبت الحق الذي أنت عليه بقضائه الذي لا مرد له، فيكون هذا كلاما معترضا بين ما قبله وما بعده مؤكدا لما سبق من الكلام من كونهم مبطلين فى نسبة الافتراء إلى من هو أصدق الناس حديثا. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما تكنّه الضمائر، وتنطوى عليه السرائر، وتجرى الأمور بحسب علمه الواسع المحيط بكل شىء. ثم امتنّ على عباده بقبول توبتهم إذا هم تابوا ورجعوا إليه فقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) بالتجاوز عما فرط منهم من الذنوب، واقترفوا من السيئات. والتوبة الندم على المعصية، والإقلاع عنها، والعزم على عدم العودة إليها، وهذه شروط ثلاثة فيما بين العبد وربه، فإذا كملت صحت التوبة، وإن فقد واحد منها لم تكن توبة صحيحة، أما فيما يتعلق بحقوق العباد فيزاد على ذلك أن يبرأ من حق صاحبها.

ومن علامات التوبة النصوح- صدق العزيمة على ترك الذنب، وألا يجد له حلاوة فى قلبه عند ذكره. وقد ورد فى الحضّ على التوبة كثير من الأحاديث فى الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك: (1) ما رواه أبو هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلّم «لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالّته فى المكان الذي يخاف أن يقتله فيه العطش» . (2) ما رواه جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علىّ كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين ما التوبة؟ قال التوبة اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، وإذابتها فى الطاعة كما ربيتها فى المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) أي يقبل التوبة فى المستقبل ويعفو عن السيئات فى الماضي. (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي ويعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان خيرا أو شرا، فيجازى بالثواب والعقاب، أو يتجاوز بالعفو بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح. وفى هذا حث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له وإمحاض التوبة. (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ويجيب الذين آمنوا إذا دعوه، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه بالدعاء. وبعد أن ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب أردف ذلك ما أعده للكافرين من العذاب فقال:

[سورة الشورى (42) : الآيات 27 إلى 35]

(وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والكافرون يوم القيامة لهم عذاب مؤلم موجع، فالمؤمنؤن قد تقبل دعاءهم وزادهم من فضله، وهؤلاء لا يستجيب لهم دعاء «وما دعاء الكافرين إلّا فى ضلال» . [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 35] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) تفسير المفردات البسط: السعة، والبغي: الظلم ومجاوزة الحد، بقدر: أي بتقدير يقال قدره قدرا وقدرا إذا قدّره، والغيث: المطر، وقنط: يئس، ورحمته: هى منافع الغيث وآثاره التي تعم الحيوان والنبات والسهل والجبل، والولي: هو الذي يتولى عباده

المعنى الجملي

بالإحسان، الحميد: أي المستحق للحمد على نعمه، بث: نشر وفرّق، والدابة: كل ماله دبيب وحركة، على جمعهم: أي حين الحشر والحساب: بمعجزين: أي بجاعلين الله تعالى عاجزا بالهرب منه، والجواري: أي السفن الجارية، والأعلام: واحدها علم: وهو الجبل، قالت الخنساء فى رثاء أخيها صخر: وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم فى رأسه نار يسكن الريح: أي يجعلها ساكنة لا تموج، رواكد: أي ثوابت، والصبار: كثير الصبر وهو حبس النفس حين الشدائد عن الجزع وعن التوجه إلى من لا ينبغى التوجه إليه، وشكور: أي كثير الشكر للنعم، يوبقهن: أي يهلكهن يقال للمجرم أوبقته ذنوبه: أي أهلكته، محيص: أي مهرب ومخلص. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه فيما سلف أنه يجيب دعاء المؤمنين إذا هم أنابوا إليه وأخبتوا ذكر هنا أنه لا يعظيهم كل ما يطلبون من الأرزاق، بل ينزلها بقدر بحسب ما يعلم من مصلحتهم، فإن كثرة الرزق تجعل الناس يتجبرون ويتكبرون، والله هو الخبير بما يصلح حالهم من فقر وغنى. قال خبّاب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية، نظرنا إلى أموال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع فتمنيناها. ثم أعقب هذا بأنهم إذا احتاجوا إلى الرزق لا يمنعه منهم وهو المتولى أمورهم بإحسانه، المحمود على ما يوصل للخلق من صنوف الرحمة، ثم أقام الأدلة على ألوهيته يخلقه للسموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ثم جمعهم للحساب يوم القيامة، ثم ذكر أن ما يصيب الإنسان من نكبات الدنيا من الأمراض والأسقام والفقر والغنى فيكسب الإنسان واختياره كما دلت على صدق ذلك التجارب، ثم أعقب ذلك بآية أخرى على

الإيضاح

ألوهيته وهى جريان السفن فى البحار، فتارة يجعل الريح ساكنة فتظل السفن على سطحها، وأخرى تعصف الرياح فتفرقها أو تنجو بحسب تقديره تعالى. الإيضاح (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي ولو أعطى عباده من الرزق فوق حاجتهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان وطلب ما ليس لهم طلبه، لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة لمن اعتبر، ولكن يرزقهم ما فيه صلاحهم وهو أعلم بحالهم، فيغنى من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر بحسب ما يعلم من المصلحة فى ذلك كما ورد فى الأثر «إن من عبادى من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه» . والخلاصة- إنه تعالى خبير بما يصلح عباده من توسيع الرزق وتضييقه، فيقدر لكل منهم ما يصلحه، فيبسط ويقبض، ويعطى ويمنع، ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا. فنظام العالم لا يستقر إلا على هذا الوضع القائم الجامع بين الأمرين، فخوف الأغنياء يزعهم عن الظلم، وخوف الفقراء من الأغنياء يدعوهم إلى التعاون معهم، ليفوزوا بمبتغاهم ويزعهم عن البغي. عن أبى هانىء الخولاني قال: سمعت عمرو بن خريت وغيره يقولون: «إنما نزلت هذه الآية فى أهل الصّفّة، فإنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الدنيا» . رواه السيوطي بسند صحيح.

قال قتادة: كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك. وبعد أن بين أنه لا يعطى عباده ما زاد على حاجتهم، لأنه يعلم أن الزيادة تضرهم فى دينهم- ذكر أنهم لو احتاجوا إلى الغيث فهو لا يمنعه عنهم فقال: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي وهو الذي ينزل المطر من السماء فيغيثهم به من بعد يأسهم من نزوله حين حاجتهم إليه، وينشر بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب، وهو الذي يتولى عباده بإحسانه ويحمد على ما يوصله إليهم من رحمته. قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: قحط المطر وقنط الناس يا أمير المؤمنين، فقال عمر: مطرتم ثم قرأ الآية. ثم أقام الأدلة على ألوهيته فقال: (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه القاهر- خلق السموات والأرض وما نشر فيهما من دابة تدبّ وتتحرك، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان على اختلاف أشكالهم وألوانهم. (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي وهو يجمعهم يوم القيامة، فيجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق فى صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل وهو اللطيف الخبير. وقصارى ذلك- إنه قدير على جمع ما بث فيهما من دابة إذا شاء جمعه، كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه. ثم ذكر دستورا للناس فى أعمالهم إذا تأملوه أفعلوا عما يرتكبونه من الآثام فقال: (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي وما يحل بكم أيها الناس من المصايب فى الدنيا، فإنما تصابون به عقوبة لكم على ما اجترحتم

من الآثام، واقترفتم من الشرور والمعاصي، ويعفو لكم عن كثير من جرائمكم فلا يعاقبكم بها. فالله سبحانه جعل الذنوب أسبابا لها نتائجها ومسبباتها: فشارب الخمر يصاب بكثير من الأمراض الجسمية والعقلية فى الدنيا وهى أثر من آثار ما اجترح من الذنب. والتاجر غير الأمين أو الكذاب تصاب تجارته بالكساد ويشهر بين الناس بالخيانة فيحجمون عن معاملته. والحكام المرتشون الظلمة الذين يجمعون أموالهم بالسحت يصابون بالفقر والعدم ويصبحون مثلا بين الناس، وإن لم يصبهم الفقر بصب أولادهم فيصبحوا بحال يرثى لها ويصيروا أحاديث الخاصة والعامة. والأمم الظالمة التي لا تناصر بين أفرادها، بل بينها التقاطع، ويبتز بعض أفرادها أموال بعض آخر، تصاب بالمهانة بعد العظمة والذلة بعد العزة، وما الأمثال فى ذلك بعزيزة، فها هى ذى الأمم الشرقية إنما أصابها ما أصابها من الضعف والخمول والاضمحلال ثم الزوال من صفحة الوجود بما اجترحت من ظلم وإفساد فى الأرض، وأكل بعضها أموال بعض واحتجان عظمائها الأموال فى خزائنهم، وابتزازها من أيدى الضعفاء وقد اقتص الله لهم منهم، فأضاع ملكهم، وأذهب ريحهم، وجعلهم لقمة سائغة للمستعمرين الذين تحكموا فيهم وجعلوهم كالعبيد، يتصرفون فيهم بحسب أهوائهم، وما تمليه عليهم مصالحهم، وما يدرّ عليهم الخير لبلادهم وشعوبهم. وفى هذا عبرة لمن ادّكر، وقد تقدم أن قلنا فى غير موضع إن عقاب الأفراد فى الدنيا ليس بالمطرد، إذ كثيرا ما نرى سكيرا عربيدا لا يصاب بأذى مما يفعل، ونرى تاجرا يخون الأمانة ولا يصاب بكساد فى تجارته، وحينئذ يكون عقاب كل منهما مؤجلا ليوم الحساب إن شاء ربك عاقب، وإن شاء عفا بعد التوبة عما فرط منهما من الذنوب والآثام. أما عقاب الأمم على ما تجترح من السيئات فهو محقق فى الدنيا، ولدينا عظة التاريخ فى القديم والحديث، فما من أمة تركت أوامر دينها وخالفت نواميس العمران،

إلا زالت وصارت كأمس الدابر، وأصبحت عبرة للباقين، ومثلا للآخرين، فالرومان والفرس والعرب فى الشرق وفى الأندلس والترك- مثل ماثلة أمامنا تجلّى لنا تلك القضية «فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» . ونحو الآية قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وفى الحديث الصحيح «والذي نفسى بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها» . ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» . وروى الترمذي وجماعة عن علىّ كرم الله وجهه قال: «ألا أخبركم بأفضل آية فى كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال وسأفسرها لك يا على: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء فى الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثّنى عليكم العقوبة فى الآخرة، وما عفا الله تعالى عنه فى الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه» والآثار فى هذا الباب كثيرة. والخلاصة- إنه يكفّر عن العبد بما يصيبه من المصايب، ويعفو عن كثير من الذنوب وقد ثبت بالأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان فى الدنيا يؤجر عليه أو يكفّر عنه من ذنوبه. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي وإنكم لا تعجزون الله حيثما كنتم، فلا تسبقونه بهربكم منه فى الأرض حتى لا تنالكم المصايب، بل هى لا حقة بكم أينما تكونوا، والخلاصة- إن ما قضاه الله عليكم واقع بكم لا محالة ولا مفرّ منه.

وبعد أن نفى المهرب مما قدّر نفى النصير والمعين الذي يمنع حلول المقدور فقال: (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لكم من دون الله ولىّ يليكم بالدفاع عنكم إذا أراد عقوبتكم على معصيتكم، ولا لكم نصير ينصركم إذا هو عاقبكم، فينتصر لكم، فاحذروا معاصيه واتقوا مخالفة أوامره، فإنه لا دافع لعقوبته إذا أحلها بعبد من عباده. ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات عظمته الدالة على توحيده وصدق ما وعد به فقال: (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي ومن دلائل قدرته، وباهر حكمته، وعظيم سلطانه- تسخيره البحر لتجرى فيه الفلك بأمره كالجبال الشاهقة، والمدن العالية. (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي إن يشأ الله الذي قد أجرى هذه السفن فى البحر ألا تجرى فيه. أسكن الريح التي تجرى بها، فتثبت فى موضع واحد وتقف على ظهر الماء لا تتقدم ولا تتأخر. ثم أتى بجملة معترضة بين ما مضى وما سيأتى فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى جرى هذه الجواري فى البحر بقدرته تعالى- لحجة بينة على قدرته على ما يشاء، لكل ذى صبر على طاعته، شكور لنعمه وأياديه عنده. والمؤمن إذا كان فى ضراء كان من الصابرين، وإذا كان فى سرّاء كان من الشاكرين، وقال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتلى غير صابر، وقال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر. وقد قيل: الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر. (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق السفن بذنوب راكبيها، ولكنه يعفو عن كثير من ذنوبهم، ولو آخذهم بجميع ما يجترحون منها لأهلك كل من ركب البحر.. (4- مراغى- الخامس والعشرون)

[سورة الشورى (42) : الآيات 36 إلى 39]

والخلاصة- إنه لو شاء أسكن الريح فوقفت السفن رواكد على ظهر البحر، ولو شاء لأرسلها عاتية قويّة فاخرتها عن سيرها، وصرّفتها ذات اليمين وذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا تصل إلى مقصد حتى تغرق، ولكن من رحمته ولطفه يرسلها بقدر الحاجة لينتفع بها الملاحون لقضاء أوطارهم. (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وليعلم الذين ينازعون فى آياتنا على جهة التكذيب لها أنه لا مخلص لهم إذا وقفت السفن أو إذا عصفت الريح، فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن النافع الضارّ ليس إلا الله تعالى. [سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 39] فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) تفسير المفردات آتاه الشيء: أعطاه إياه، والمتاع: ما ينتفع ويتمتع به من رياش وأثاث ونحوهما، يتوكلون: يفوّضون إليه أمورهم، كبائر الإثم: هى كل ما يوجب حدّا، والفواحش: هى ما فحش وعظم قبحه كالزنا والقتل ونحوهما، واستجابوا: أي أجابوا داعى الله، فأدّوا فرائضه، وتركوا نواهيه، والشّورى والمشاورة: المراجعة فى الآراء، ليتبين الصواب منها، والبغي: الظلم، ينتصرون: أي ينتقمون.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر دلائل توحيده وعظيم قدرته وسلطانه بخلق السموات والأرض وجرى السفن ماخرات فى البحار- أردف ذلك التنفير من الدنيا وزخرفها، لأن المانع من النظر فى الأدلة إنما هو الرغبة فيها طلبا للرياسة والجاه، فإذا صغرت الدنيا فى عين المرء لم يلتفت إليها، وانتفع بالأدلة ووجّه النظر إلى ملكوت السموات والأرض، ثم أبان أن ما عند الله خير لمن آمن به، وتوكل عليه، واجتنب كبائر الذنوب والفواحش، وكان منقادا له مطيعا لأوامره، تاركا لنواهيه، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ولم يبرم أمرا إلا بعد مشورة، وانتصر لنفسه ممن ظلمه. الإيضاح (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وكل ما تعطونه أيها الناس من الغنى والسعة فى الرزق والمال والبنين، فهو متاع قليل، تتمتعون به فى مدى قصير، يذهب وينقضى، ولله در القائل: إنما الدّنيا فناء ... ليس للدنيا ثبوت إنما الدنيا كبيت ... نسجته العنكبوت وفى هذا تحقير لشأن هذه الحياة وزينتها وما فيها من النعيم الزائل. ثم رغبهم فى ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال: (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي وما عند الله من الثواب والنعيم خير من زهرة الدنيا، لأنه باق سرمدىّ، وما فيها زائل فان، والعقل قاض بترجيح الباقي على الفاني. ثم بين أنه لا يكون خيرا إلا لمن اتصف بصفات: (1) (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي للذين صدقوا الله وآمنوا برسوله.

(2) (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي وعلى من ربّاهم على إحسانه يعتمدون، ويفوضون إليه أمورهم، ولا يلتفتون إلى غيره فى مهامّ أمورهم. روى أن الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه حين تصدق بماله فلامه المسلمون وخطأه الكافرون. (3) (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) أي والذين يتباعدون عن ارتكاب كبائر الآثام كالقتل والزنا والسرقة، وعن الفواحش التي ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم، من قول أو فعل. (4) (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي وإذا ما غضبوا كظموا غيظهم، إذ من سجاياهم الصفح والعفو، وليس من طباعهم الانتقام وقد ثبت فى الصحيح «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تتهك حرمات الله» . (5) (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي والذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه، من توحيده والبراءة من عبارة كل ما يعبد من دونه. (6) (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة فى أوقاتها على أكمل وجوهها، وخص الصلاة من بين أركان الدين، لما لها من الخطر فى صفاء النفوس، وتزكية القلوب، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن. (7) (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي وإذا حزبهم أمر تشاوروا فيما بينهم، ليقتلوه بحثا وتمحيصا، ولا سيما الحروب ونحوها. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشاور أصحابه فى الكثير من الأمور، ولم يكن يشاورهم فى الأحكام، لأنها منزلة من عند الله، أما الصحابة فكانوا يتشاورون فيها، ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينص عليها حتى انتهى أمرهم إلى تولية أبى بكر، وتشاوروا فى قتال من ارتدوا بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فاستقرّ رأى أبى بكر على القتال، وقد كان فيه الخيرة للاسلام والمسلمين، وشاور عمر رضى الله عنه الهرمزان حين وقد عليه مسلّما.

ونحو الآية قوله: «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة، وصقال للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلا هدوا. ولأمر ما أصبحت الحكومات فى العصر الحاضر لا تبتّ فى مهام الأمور إلا إذا عرضت على مجالس الشورى (البرلمان- مجلس الشيوخ والنواب) وكأنى بك قد سمعت قول بشار بن برد فى فوائد الشورى: إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن ... برأى لبيب أو مشورة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... قريش الخوافي قوة للقوادم وما خير كف أمسك الغلّ أختها ... وما خير كف لم تؤيد بقائم (8) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون مما آتاهم ربهم فى سبل الخير، والبذل فيما فيه منفعة للفرد والمجتمع، ورفعة الأمة وعلوّ شأنها وعزها. (9) (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي والذين إذا بغى عليهم باغ ينتصرون ممن ظلمهم من غير تعدّ عليه. والمؤمنون فريقان: (1) فريق يعفو اتباعا لقوله تعالى: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وقوله: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» وقوله: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» . (ب) فريق ينتصر ممن ظلمه وهو المذكور فى هذه الآية. والخلاصة- إن العفو ضربان: (1) ضرب يكون فيه العفو سببا لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ومنع استفحال الشر، وهذا محمود وحثت عليه الآيات الكريمة التي ذكرت آنفا. (2) ضرب يكون فيه العفو سببا لجراءة الظالم وتماديه فى غيّه، وهذا مذموم وعليه تحمل الآية التي نحن بصدد تفسيرها.

[سورة الشورى (42) : الآيات 40 إلى 43]

فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود، والانتصار من المخاصم المصرّ على جرمه والمتمادى فى غيّه محمود، وإلى هذا أشار المتنبي بقوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فوضع الندى فى موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى [سورة الشورى (42) : الآيات 40 الى 43] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) تفسير المفردات السيئة: مأخوذة من السوء، وهو القبيح، وانتصر: أي سعى فى نصر نفسه بجهده، من سبيل: أي من عقاب ولا عتاب، لمن عزم الأمور: أي لمن الأمور المشكورة والأفعال التي ندب إليها عباده، ولم يرخّص بالتهاون فيها. المعنى الجملي بعد أن مدح فيما سلف الذين ينتصرون لأنفسهم ممن بغى عليهم- أردف ذلك ما يدل على أن ذلك الانتصار مقيد بالمثل، لأن النقصان حيف، والزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض، ثم ندب إلى العفو والإغضاء

الإيضاح

عن الزلات، ثم ذكر أنه لا مؤاخذة على من ينتصر لنفسه، وإنما المؤاخذة على من يظلم الناس، ويبغى فى الأرض بغير الحق، وأن الصبر وغفران السيئة مما حث عليه الدين، وأجزل ثواب فاعله. الإيضاح (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما شرعه الله من عقوبة مماثلة لجرمه، وسمى هذا الجزاء سيئة مع أنه عقوبة مشروعة من الله مأذون بها، لأنها تسوء من تنزل به كما قال تعالى فى آية أخرى: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» يريد ما يسوءهم من المصايب والبلايا. وفى الآية حثّ على العفو، لأن الانتصار إنما يحمد إذا حصلت المماثلة فى الجزاء، وتقديرها عسر شاقّ، وربما صار المظلوم حين استيفاء القصاص ظالما. ونحو الآية قوله: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» وقوله: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ» وقوله «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» . وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بردّ الشتم على الشاتم. أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة قالت: «دخلت علىّ زينب وعندى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبلت علىّ تسبنى فردعها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم تنته، فقال لى سبيها، فسبيتها حتى جفّ ريقها فى فمها، ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتهلل سرورا» . وكان هذا بمنزلة التعزيز منه لزينب بلسان عائشة، لما أن لها حقا فى الرد وقد رأى فيه المصلحة. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: المستبّان ما قالا من شىء فعلى البادي حتى يعتدى المظلوم ثم قرأ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) »

وقصارى ذلك- إن كل جناية على النفس أو المال تقابل بمثلها قصاصا، لأن إهدارها يوجب فتح باب الشرور والمفاسد، إذ فى طبع الإنسان الظلم والبغي والعدوان، فإذا لم يزدجر عنه تمادى فيه ولم يتركه، والزيادة على قدر الذنب ظلم، والشرائع تتنزه عن ذلك، ومن ثم شرع الله القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو فقال: «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» وجاء تتمة لهذه الآية. (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي فمن عفا عن المسيء وأصلح ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء عما صدر منه، فأجره على الله، فيجزيه أعظم الجزاء. وفى إبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه زيادة فى الترغيب فى العفو والحثّ عليه. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادى: ألا ليقم من كان له على الله أجر فلا يقوم إلا من عفا فى الدنيا وذلك قوله: (فَمَنْ عَفا) الآية» . ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هى سبب الفوز والنجاة فقال: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إنه تعالى لا يحب المتجاوزين الحد فى الانتقام، وفى هذا تصريح بما تضمنه سالف الكلام من حسن رعاية طريق المماثلة وأنها قلّما تخلو من الاعتداء والتجاوز عن الواجب، ولا سيما حال الحرد والتهاب الحميّة، وحينئذ يدخل المنتقمون فى زمرة من لا يحبهم الله. (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي والله لمن انتصر ممن ظلمه بعد ظلمه إياه، فأولئك المنتصرون لا سبيل للمنتصر منهم أن يوجهو إليهم عقوبة ولا أذى لأنهم انتصروا منهم بحق، ومن أخذ حقه ممن وجب له عليه ولم يتعدّ- لم يظلم فلا سبيل لأحد عليه.

[سورة الشورى (42) : الآيات 44 إلى 46]

ولما نفى السبيل على من انتصر بعد ظلمه بيّن من عليه السبيل فقال: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي إنما الحرج والإثم على الذين يبدءون الناس بالظلم، أو يزيدون فى الانتقام ويتجاوزون ما حدّ لهم، أو يتكبرون فى الأرض تجبرا وفسادا. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي هؤلاء لهم عذاب مؤلم بسبب بغيهم وظلمهم. ثم رغب سبحانه فى الصبر والعفو فقال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي ولمن صبر عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى، وستر السيئة، فقد فعل ما يشكر عليه، ويستحق به الأجر وجزيل الثواب. روى «أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر: يا أبا بكر ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضى عنها إلا أعزه الله تعالى بها ونصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة. وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عزّ وجلّ بها قلة» . [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر أن الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق لهم عذاب أليم على ما اجترحوا من البغي والعدوان بغير الحق- أردف ذلك بيان أن من أضله الله فلا هادى له، وأن الكافرين حين يرون العذاب يوم القيامة يطلبون الرجوع إلى الدنيا، وأنهم يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء ينظرون من طرف خفى، وأن الذين آمنوا يقولون إن الكافرين لفى خسران فقد أضاعوا النفس والأهل، ولا يجدون لهم ناصرا يخلصهم مما هم فيه من العذاب. الإيضاح (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي إنه ما شاء الله كان ولا رادّ له، وما لم يشأ لم يكن، فمن هداه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادى له. والخلاصة- إن من خذله الله لسوء استعداده وتدسيته نفسه باجتراح الآثام والمعاصي، فليس له من ولىّ يهديه إلى سبيل الرشاد، ويوصله إلى طريق الفوز والفلاح. ونحو الآية قوله: «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» . ثم ذكر تمنى الكافرين الرجوع إلى الدنيا فقال: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟) أي وترى الكافرين بالله حين يعاينون العذاب يوم القيامة يتمنّون الرجعة إلى الدنيا ويقولون: هل من رجعة لنا إليها؟ ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .

ثم ذكر حالهم حين يعرضون على النار فقال: (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) أي وتراهم أيضا فى ذلك اليوم يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء (لأنهم عرفوا ذنوبهم وتكشفت لهم عظمة من عصوه) يسارقون النظر إليها خوفا منها، وحذرا من الوقوع فيها، كما ينظر من قدّم للقتل إلى السيف، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه، وإنما ينظر ببعضها. ولما وصف حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال: (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ويقول المؤمنون يوم القيامة: إن المغبونين غبنا لا غبن بعده- هم الذين خسروا أنفسهم، فأدخلوا فى النار، وحرموا نعيم الأبد، وفرّق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وذوى قراباتهم. ثم صدّقهم ربهم فيما قالوا فقال: (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي ألا إن الكافرين لفى عذاب سرمدىّ، لا مهرب لهم منه ولا خلاص، ثم أيأسهم من الفكاك منه بأى سبيل فقال: (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي ولا يجدون لهم أعوانا وأنصارا ينقذونهم مما حل بهم من العذاب، فأصنامهم التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم لا تستطيع أن تتقدم إليهم بشفاعة. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي ومن يضلله الله لما علم من استعداده للشر والفساد وارتكاب الشرور والآثام فلا سبيل له إلى الوصول إلى الحق فى الدنيا ولا إلى الجنة فى الآخرة.

[سورة الشورى (42) : الآيات 47 إلى 50]

[سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) تفسير المفردات استجيبوا لربكم: أي أجيبوه إذا دعاكم إلى ما فيه نجاتكم، لا مردّ له: أي لا يرده أحد بعد ما حكم به، ملجأ: أي ملاذ تلجئون إليه، نكير: أي إنكار وجحود لما اقترفتم، حفيظا: أي محاسبا لأعمالهم رقيبا عليها، رحمة: أي نعمة من صحة وغنى، سيئة: أي بلاء من فقر ومرض وخوف، كفور: نسّاء للنعمة ذكّار للبلية، يزوجهم أي يجعلهم جامعين بين البنين والبنات، عقيما: أي لا يولد له. المعنى الجملي بعد أن ذكر ما سيكون يوم القيامة من الأهوال وعظائم الأمور- حذر من هذا اليوم فبين أن الكافرين لا يجدون حينئذ ملجأ يقيهم من عذاب الله، ولا ينكرون ما اقترفوه، لأنه مكتوب فى صحائف أعمالهم، ثم أرشد رسوله إلى أنهم إن أعرضوا عن دعوتك، فلا تأبه بهم، ولا تهتم بشأنهم، ثم أعقب هذا بذكر طبيعة الإنسان، وأنه يفرح حين النعمة، ويجحد نعم ربه حين الشدة، ثم قسم هبته لعباده فى النسل

الإيضاح

أربعة أقسام، فمنهم من وهب الإناث، ومنهم من وهب الذكران، ومنهم من أعطى الصّنفين، ومنهم العقيم الذي لا نسل له. الإيضاح (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) أي أجيبوا داعى الله وهو رسوله صلّى الله عليه وسلم، وآمنوا به، واتبعوه فيما جاءكم به من عند الله، من قبل أن يأتى يوم لا يستطيع أحد أن يرده إذا جاء به الله. (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه، ولا يستطيعون إنكار ما اجترحتموه من السيئات، لأنه قد كتب فى صحفكم، وتشهد به ألسنتكم وجوارحكم. ونحو الآية قوله تعالى: «يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ» . (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي فإن أعرض هؤلاء المشركون عما أتيتهم به من الحق، ودعوتهم إليه من الرشد، ولم يستجيبوا لك، وأبوا قبوله منك، فدعهم وشأنهم، فإنا لم نرسلك رقيبا عليهم تحفظ أعمالهم وتحصيها، فما عليك إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم، فإذا أنت بلّغته فقد أديت ما كلّفت به. ونحو الآية قوله: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقوله: «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» . وبعدئذ ذكر طبيعة الإنسان وغريزته فى هذه الحياة فقال: (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي وإنا إذا أغنينا ابن آدم فأعطيناه من لدنا سعة فى الرزق أو فى الصحة أو فى الأمن سرّ بما آتيناه، وإن أصابته فاقة أو مرض بما أسلف من

[سورة الشورى (42) : الآيات 51 إلى 53]

معصية ربه جحد نعمتنا وأيس من الخير، والإنسان من طبعه الجحد والكفران بالنعم حين الشدة. والخلاصة- إن الإنسان إن إصابته نعمة أشر وبطر، وإن ابتلى بمحنة يئس وقنط. (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطى من يشاء ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع. (يَخْلُقُ ما يَشاءُ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي يخلق ما يشاء فيرزق من يشاء البنات فحسب، ويرزق من يشاء البنين فحسب، ويعطى من يشاء الزوجين الذكر والأنثى، ويجعل من يشاء لا نسل له. وفى هذا إيماء إلى أن الملك من غير منازع ولا مشارك، يتصرف فيه كيف يشاء، ويخلق ما يشاء، فليس لأحد أن يعترض أو يدبر بحسب هواه، وتصرفه لا يكون إلا على أكمل وجه وأتم نظام، وقد قيل: ليس فى الإمكان أبدع مما كان. (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إنه عليم بمن يستحق كل نوع من هذه الأنواع، قدير على ما يريد أن يخلق، فيفعل ما يفعل بحكمة وعلم. [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه تقسيم النعم الجسمانية التي يهبها لعباده- أردفها تقسيم النعم الروحية، وأبان أن الناس محجوبون عن ربهم، لأنهم فى عالم المادة وهو منزه عنها، ولكن من رقّ حجابه، وخلصت نفسه، وأصبح فى مقدوره أن يتصل بالملإ الأعلى يستطيع أن يكلم ربه على أحد أوجه ثلاثة: (1) أن يحس بمعان تلقى فى قلبه، أو يرى رؤيا منامية كرؤيا الخليل إبراهيم عليه السلام ذبح ولده. (2) أن يسمع كلاما من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر من يكلمه، فهو قد سمع كلاما ولم ير المتكلم. (3) أن يرسل إليه ملكا فيوحى ذلك الملك ما يشاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثم ذكر أنه كما أوحى إلى الأنبياء قبله أوحى إليه القرآن وما كان قبله يعلم ما القرآن وما الشرائع التي بها هداية البشر وصلاحهم فى الدارين.

الإيضاح

الإيضاح (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ) أي وما ينبغى لبشر من بنى آدم أن يكلمه ربه إلا بإحدى طرق ثلاث: (1) (إِلَّا وَحْياً) أي إلا أن يوحى إليه وحيا أي يكلمه كلاما خفيا بغير واسطة بأن يقذف فى روع النبي شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل كما روى ابن حبان فى صحيحه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن روح القدس نفث فى روعى: إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب» . (2) (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي أو إلا من طريق لا يرى السامع المتكلم جهرة مع سماعه للكلام كما كلم موسى عليه السلام ربه. (3) (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) أي أو يرسل الله من ملائكته رسولا إما جبريل أو غيره فيوحى ذلك الرسول إلى المرسل إليه ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهى كما كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى غيره من الأنبياء. روى البخاري فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنها أن الحرث بن هشام رضى الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشده علىّ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول» قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد (يسيل) عرقا» . (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي إنه علىّ عن صفات المخلوقين يفعل ما تقتضيه حكمته، فيكلمه تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة إما إلهاما وإما خطابا من وراء حجاب.

وبعد أن بين أقسام الوحى ذكر أنه أوحى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم كما أوحى إلى الأنبياء قبله فقال: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي وكما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك هذا القرآن رحمة من عندنا. ثم بين حال نبيه قبل نزول الوحى بقوله: (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي ما كنت قبل الأربعين وأنت بين ظهرانى قومك تعرف ما القرآن ولا تفاصيل الشرائع ومعالمها على النهج الذي أوحينا به إليك. (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي ولكن جعلنا هذا القرآن نورا عظيما نهدى به من نشاء هدايته من عبادنا، ونرشده إلى الدين الحق. ونحو الآية قوله: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» الآية. (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتهدى بذلك النور من تشاء هدايته إلى الحق القويم. ثم فسر هذا الصراط بقوله: (صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هذا الطريق هو الطريق الذي شرعه الله مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه. (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي ألا إن أمور الخلائق يوم القيامة تصير إلى الله لا إلى غيره، فيضع كلا منهم فى موضعه الذي يستحقه من نعيم أو جحيم. وفى هذا وعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم، ووعيد للظالمين. (5- مراغى- الخامس والعشرون)

خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات

خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات (1) إنزال الوحى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم. (2) اختلاف الأديان ضرورى للبشر. (3) أصول الشرائع واحدة لدى جميع الرسل. (4) اختلاف المختلفين فى الأديان بغى وعدوان منهم. (5) إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قامت الأدلة على صدقه. (6) استعجال المشركين لمجىء الساعة وإشفاق المؤمنين منها. (7) من يعمل للدنيا يؤت منها وماله حظ فى الآخرة، ومن يعمل للآخرة يوفقه الله للخير. (8) ينزل الله الرزق بقدر بحسب ما يرى من المصلحة. (9) من الأدلة على وجود الخالق خلق السموات والأرض وجرى السفن فى البحار. (10) متاع الآخرة خير وأبقى من متاع الدنيا. (11) جزاء السيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله. (12) يتمنى المشركون يوم القيامة العودة إلى الدنيا حين يرون العذاب. (13) إذا عرض المشركون على النار نظروا إليها من طرف خفىّ وهم خاشعون أذلاء. (14) ليس على الرسول إلا البلاغ. (15) يهب الله لمن يشاء الإناث ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما. (16) أقسام الوحى إلى البشر. (17) الرسول قبل الوحى ما كان يدرى شيئا من الشرائع.

سورة الزخرف

سورة الزخرف هى مكية إلا آية 45 فإنها نزلت بالمدينة، قاله مقاتل، وآياتها تسع وثمانون، نزلت بعد الشورى. ووجه مناسبتها ما قبلها أن مفتتح هذه يشاكل مختتم تلك. [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) تفسير المفردات الكتاب: هو القرآن، المبين: أي الموضح لطريق الهدى المبعد من الضلالات، لعلكم تعقلون: أي لكى تفهموه وتحيطوا بما فيه، أمّ الكتاب: هو علم الله الأزلى، حكيم: أي ذو حكمة بالغة، يقال ضربت عنه وأضربت عنه: أي تركته، والذكر: أي القرآن، صفحا: أي إعراضا، مسرفين: أي منهمكين فى كفركم وتوليكم عن الحق، بطشا: أي قوة وجلدا، مضى: أي سلف، والمثل: الصفة. المعنى الجملي أقسم سبحانه بكتابه المبين لطريق الهدى إنه جعل هذا القرآن بلغة العرب لغة قومك ليفقهوا معناه ويحيطوا به خبرا، وإنه محفوظ فى علمه تعالى فليس هو من عند

الإيضاح

محمد كما تدّعون، وإننا لن نترك تذكيركم به لأجل إعراضكم عنه، وانهماككم فى الكفر به، رحمة منا ولطفا بكم، ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيرا من الأمم قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة- كذبوا رسلهم فكان عاقبتهم ما رأيتم، وحل بهم ما تشاهدون آثاره. الإيضاح (حم) تقدم الكلام فى مثل هذا من قبل (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أي والقرآن المبين لطريق الهدى والرشاد، الموضح لما يحتاج إليه البشر فى دنياهم وآخرتهم ليفوزوا بالسعادة، فمن سلك سبيله فاز ونجا، ومن تنكّب عنه خاب سعيه، وضل سواء السبيل. (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إنا أنزلناه قرآنا عربيا إذ كنتم أيها المنذرون به عربا، لتعقلوا ما فيه من عبر ومواعظ، ولتتدبروا معانيه، ولم ينزله بلسان العجم حتى لا تقولوا نحن عرب، وهذا كلام أعجمى لا نفقه شيئا مما فيه. ثم بين شرفه فى الملإ الأعلى تعظيما له، وليطيعه أهل الأرض فقال: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي وإن هذا الكتاب فى علمه الأزلى رفيع الشأن، لاشتماله على الأسرار والحكم التي فيها سعادة البشر وهدايتهم إلى سبيل الحق. ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» . (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟) أي أنترك إنذاركم وتذكيركم بالقرآن، لانهماككم فى الكفر والإعراض عن أوامره ونواهيه؟ كلا.

لا نفعل ذلك رحمة بكم، وقد كانت حالكم تدعو إلى تخليتكم وما تريدون حتى تموتوا على الضلال. قال قتادة: لو أن هذا القرآن قد رفع حين ردّته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليها ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله اه. أراد أنه تعالى من رحمته ولطفه بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل يأمر به ليهتدى من قدّر له الهداية، وتقوم الحجة على من كتب له الشقاوة. ثم قال مسلّيا رسوله صلّى الله عليه وسلّم على تكذيب قومه، آمرا له بالصبر، مهدّد للمشركين، منذرا لهم بشديد العقاب. (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وكثيرا ما أرسلنا فى الأمم الغابرة رسلا قبلك كما أرسلناك إلى قومك من قريش، وكلما أتى نبى أمته يدعوهم إلى الهدى وطريق الحق استهزءوا به وسخروا منه كما يفعل قومك بك- فقومك ليسوا ببدع فى الأمم، ولا أنت ببدع فى الرسل، فلا تأس على ما تجد منهم ولا يشقنّ ذلك عليك، فهم قد سلكوا سبيل من قبلهم، واحتذوا حذوهم، ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة وكن كما كان أولوا العزم من الرسل، واصبر كما صبروا على ما أوذوا فى سبيل الله. ثم ذكر عقبى تكذيبهم واستهزائهم برسله تسلية لرسوله وتحذيرا لهم فقال: (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي فأهلكنا المكذبين بالرسل ولم يقدروا على دفع بأسنا إذ أتاهم، وقد كانوا أشد بطشا من قومك وأشد قوة، فأحر بهؤلاء ألا يعجزونا. ونحو الآية قوله: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً» الآية.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 إلى 14]

(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي وقد مضت سنتنا فى المكذبين لرسلهم من قبلكم، ورأيتم ما حل بهم، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم. ونحو الآية قوله: «فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ» وقوله: «سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ» . [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) تفسير المفردات مهدا: أي فراشا، وأصله موضع فراش الصبى، سبلا: واحدها سبيل، وهى الطريق، بقدر: أي بمقدار تقتضيه الحكمة والمصلحة، فأنشرنا: أي أحيينا، ميتا: أي خالية من النبات، الأزواج: أصناف المخلوقات، لتستووا على ظهوره: أي لتستقروا عليها، سخر: ذلل، مقرنين: أي مطيقين، قال قطرب وأنشد قول عمرو بن معديكرب: لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا فى النائبات بمقرنينا

المعنى الجملي

وقول الآخر: ركبتم صعبتى أشر وحيف ... ولستم للصعاب بمقرنينا لمنقلبون: أي راجعون. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن المشركين منهمكون فى كفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن من توحيد الله والبعث- أبان هنا أن أفعالهم تخالف أقوالهم، فإن سألتهم عن الخالق لهذا الكون من سمائه وأرضه ليقولن: الله، وهم مع اعترافهم به يعبدون الأوثان والأصنام، ثم ذكر سبحانه جليل أوصافه، فأرشد إلى أنه هو الذي جعل الأرض فراشا، وجعل فيها طرقا، لتهتدوا بها فى سيركم، ونزّل من السماء ماء بقدر الحاجة يكفى زرع النبات وسقى الحيوان، وخلق أصناف المخلوقات جميعا من حيوان ونبات، وسخر لكم السفن والدواب لتركبوها وتشكروا الله على ما آتاكم، وتقولوا: لولا لطف الله بنا ما كنا لذلك بمطيقين، وإنا يوم القيامة إلى ربنا راجعون، فيجازى كل نفس بما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. الإيضاح (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين من قومك: من خلق السموات والأرض؟ لأجابوك: خلقهن العزيز فى سلطانه وانتقامه من أعدائه، العليم بهن وما فيهن لا يخفى عليه شىء من ذلك. والخلاصة- إنهم يعترفون بأنه لا خالق لهما سواه، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأوثان.

ثم دل على نفسه بذكر مصنوعاته فقال: (1) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي والعزيز العليم هو الذي مهد لكم الأرض وجعلها لكم وطاء تطئونها بأقدامكم، وتمشون عليها بأرجلكم، وجعل لكم فيها طرقا تنتقلون فيها من بلد إلى آخر، ومن إقليم إلى إقليم لمعاشكم ومتاجركم وابتغاء رزقكم. والخلاصة- إن الخلق كلهم يتربّون على الأرض وهى موضع راحتهم كما يربى الصبى على مهده. (2) (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وهو الذي ينزل من السماء ماء بقدر الحاجة، فلا يجعله كثيرا حتى لا يكون عذابا كالصوفان الذي أنزل على قوم نوح، ولا قليلا لا يكفى النبات والزرع، لئلا تهلكوا جوعا، فتحيا به الأقاليم التي كانت خالية من النبات والشجر. وكما أحيينا الأرض بعد موتها بالماء نحييكم ونخرجكم من قبوركم أحياء. (3) (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي وهو الذي خلق سائر الأصناف مما تنبت الأرض من نبات وأشجار وثمار وأزاهير، ومن الحيوان على اختلاف أجناسها وألوانها ولغاتها. (4) (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي وهو الذي جعل لكم من السفن ما تركبونه فى البحار إلى حيث تقصدون لمعايشكم ومتاجركم، ومن الأنعام ما تركبونه فى البر كالخيل والبغال والحمير، ومما سيجدّ من وسائل المواصلات وطرق النّقلة برّا وبحرا كما جاء فى سورة النحل من قوله تعالى: «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» . (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي لكى تستووا على ظهور ما تركبون من

الفلك والأنعام، ثم تذكروا نعمة ربكم الذي أنعم به عليكم، فتعظموه وتمجّدوه وتقولوا تنزيها له عما يصفه المشركون: سبحان الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه، وما كنا لولا تسخيره وتذليله بمطيقين ذلك، فالأنعام مع قوّتها ذللها للانسان ينتفع بها حيث شاء وكيفما أراد، ولولا ذلك ما استطاع الانتفاع بها، ولقد أشار إلى نحو من هذا العباس ابن مرداس فقال فى وصف الجمل: وتضر به الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير واعلم أنه سبحانه عيّن ذكرا خاصا حين ركوب السفينة وهو قوله: «بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها» وذكرا آخر حين ركوب الأنعام وهو قوله: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» وذكرا ثالثا حين دخول المنازل وهو قوله: «رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» . أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثا ثم قال: (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) . قال القرطبي: علّمنا سبحانه وتعالى ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرّفنا فى آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحّمت أو طاح عن ظهرها فهلك، وكم من راكب سفينة انكسرت به فغرق. فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور، واتصالا بسبب من أسباب التلف، أمر ألا ينسى عند اتصاله به موته وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منقلت من قضائه، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدّا للقاء الله، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته فى علم الله وهو غافل عنه اه. ولأجل ما تقدم أشار بقوله: (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي وإنا لصائرون إلى ربنا بعد مماتنا، فيجازى

[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 إلى 25]

كل نفس بما عملت، فاستعدوا لهذا اليوم، ولا تغفلوا عن ذكره فى حلّكم وترحالكم، يوم ظعنكم ويوم إقامتكم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 25] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) تفسير المفردات جزءا: أي ولدا إذ قالوا الملائكة بنات الله، وعبر عن الولد بالجزء، لأنه بضعة ممن ولد له كما قال شاعرهم: إنما أولادنا أكبا ... دنا تمشى على الأرض

المعنى الجملي

مبين: أي ظاهر الكفر، من أبان بمعنى ظهر، أصفاكم: أي اختار لكم، ضرب: أي جعل، مثلا: أي شبها أي مشابها بنسبة البنات إليه، لأن الولد يشبه الوالد، كظيم: أي ممتلىء غيظا وغما، ينشّأ: أي يربّى، فى الحلية: أي فى الزينة، الخصام: أي الجدل، غير مبين: أي غير مظهر حجته لعجزه عن الجدل، يخرصون: أي يكذبون، مستمسكون: أي متمسكون ومعوّلون، على أمة: أي على طريقة خاصة، مترفوها: أي أهل الترف والنعمة فيها الذين أبطرتهم الشهوات، فلا ينظرون إلى ما يوصلهم إلى الحق، مقتدون: أي سالكون طريقتهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنهم يعترفون بالألوهية لله وأنه خالق السموات والأرض، أردف هذا ببيان أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلق السموات والأرض يصفونه بصفات المخلوقين المنافية لكونه خالقا لهما، إذ جعلوا الملائكة بنات له ولا غرو، فالإنسان من طبعه الكفران وجحود الحق، ومن عجيب أمرهم أنهم أعطوه أخس صنفى الأولاد، وما لو بشّر أحدهم به اسودّ وجها وامتلأ غيظا، ومن يتربى فى الزينة وهو لا يكاد يبين حين الجدل، فلا يظهر حجة ولا يؤيد رأيا، واختاروا لأنفسهم الذكران، ثم أعقبه بالنعي عليهم فى جعلهم الملائكة إناثا، وزاد فى الإنكار عليهم ببيان أن مثل هذا الحكم لا يكون إلا عن مشاهدة، فهل هم شهدوا ذلك؟ ثم توعدهم على هذه المقالة وأنه يوم القيامة يجازيهم بها. ثم حكى عنهم شبهة أخرى، قالوا: لو شاء الله ألا نعبد الملائكة ما عبدناها، لكنه شاء عبادتها لأنها هى المتحققة فعلا فتكون حسنة ويمتنع النهى عنها، ثم رد مقالهم بأن المشيئة إنما هى ترجيح بعض الأشياء على بعض، ولا دخل لها فى حسن أو قبح وبعد أن أبطل استدلالهم العقلي نفى أن يكون لهم دليل نقلى على صحة ما يدّعون،

الإيضاح

ثم أبان أن ما فعلوه إنما هو بمحض التقليد عن الآباء دون حجة ولا برهان، وهم ليسوا ببدع فى ذلك، فكثير من الأمم قبلهم قالوا مثل مقالهم، مع أن الرسل بينوا لهم الطريق السوىّ فكفروا به واتبعوا سنن من قبلهم حذو القذّة بالقذّة، فكان عاقبة أمرهم أن حلّ بهم نكالنا كما يشاهدون ويرون من آثارهم. الإيضاح (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي وأثبتوا لله ولدا، إذ قالوا الملائكة بنات الله قاله مجاهد والحسن، والولد جزء من والده كما قال عليه السّلام «فاطمة بضعة منى» . وإن مقالهم هذا يقتضى الكفر من وجهين: (1) كون الخالق جسما محدثا لمشابهة الولد له، فلا يكون إلها ولا خالقا. (2) الاستخفاف به، إذ جعلوا له أضعف نوعى الإنسان وأخسهما. ثم أكد كفرهم بقوله: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي إن الإنسان لجحود بنعم ربه التي أنعمها عليه، ظاهر كفره لمن تأمل حاله وتدبر أمره. ثم زاد فى الإنكار عليهم والتعجب من حالهم فقال: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي هل اتخذ سبحانه من خلقه أخسّ الصنفين لنفسه، واختار لكم أفضلهما؟ وكأنه قيل: هبو أنه اتخذ ولدا فأنتم قد ركبتم شططا فى القسمة فادعيتم أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك لنفسه شرهما وأدناهما، فما أنتم إلا حمقى جهلاء. ونحو الآية قوله: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» - جائرة-. ثم زاد فى التوبيخ والإنكار بقوله: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)

أي وإذا بشر أحد هؤلاء بما نسبوه لله من البنات أنف وعلته الكآبة والحزن من سوء ما بشر به وتوارى من القوم خجلا. روى أن بعض العرب وضعت امرأته أنثى فهجر البيت الذي ولدت فيه فقالت: ما لأبى حمزة لا يأتينا ... يظلّ فى البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا ... وليس لنا من أمرنا ماشينا وإنما نأخذ ما أعطينا ثم كرر الإنكار وأكده فقال: (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي أو قد جعلوا لله الأنثى التي تتربى فى الزينة، وإذا خوصمت لا تقدر على إقامة حجة ولا تقرير دعوى، لنقصان عقلها وضعف رأيها؟ وما كان ينبغى لهم أن يفعلوا ذلك. وفى قوله (يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) إيماء إلى ما فيهنّ من الدعة ورخاوة الخلق بضعف المقاومة الجسمية واللسانية، كما أن فيه دلالة على أن النشوء فى الزينة ونعومة العيش من المعايب والمذامّ للرجال، وهو من محاسن ربات الحجال، فعليهم أن يجتنبوا ذلك ويأنفوا منه ويربئوا بأنفسهم عنه، قال شاعرهم: كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذيول وروى عن عمر أنه قال: «اخشوشنوا فى الطعام، واخشوشنوا فى اللباس، وتمعددوا» أي تزيّوا بزىّ معدّ فى تقشفهم. (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي سموهم وحكموا لهم بذلك، وفى هذا كفر من وجوه ثلاثة: (1) إنهم نسبوا إلى الله الولد. (2) إنهم أعطوه أخس النصيبين. (3) إنهم استخفوا بالملائكة بجعلهم إناثا.

وقد رد الله عليهم مقالهم فقال: (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟) أي أحضروا خلق الله لهم، فشاهدوهم بنات حتى يحكموا بأنوثتهم؟. ونحو الآية قوله: «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ» . وفى هذا تجهيل شديد لهم، ورمى لهم بالسفه والحمق. ثم توعدهم على مقالهم فقال: (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) أي ستكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها فى الدنيا فى ديوان أعمالهم، ويسألون عنها يوم القيامة ليأتوا ببرهان على صحتها، ولن يجدوا لذلك سبيلا. وفى هذا دليل على أن القول بغير برهان منكر، وأن التقليد لا يغنى من الحق شيئا. ثم حكى عنهم فنّا آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء والسخرية فقال: (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي وقالوا لو شاء الله لحال بيننا وبين عبادة الأصنام التي هى على صورة الملائكة، فإنه تعالى عالم بذلك وهو قد أقرّنا عليه. وقد جمعوا فى هذا أفانين من الكفر وضروبا من الترهات والأباطيل، منها: (1) إنهم جعلوا لله ولدا تقدس سبحانه وتنزه عن ذلك. (2) دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، إذ جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا. (3) عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله، بل بالرأى والهوى والتقليد للأسلاف. (4) احتجاجهم بتقدير الله ذلك، وقد جهلوا فى هذا جهلا كبيرا، فإنه تعالى أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار، وهو منذ أن بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته

وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة سواه كما قال: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» وقال: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟» . ثم رد عليهم مقالهم وبيّن جهلهم بقوله: (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ما لهم على ما قالوا، دليل ولا برهان يستندون إليه فى تأييد دعواهم. ثم أكد هذا الردّ بقوله: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلا كاذبون فيما قالوا، متمحلون تمحلا باطلا، متقوّلون على الله ما لم يقله. وبعد أن بين بطلان قولهم بالعقل أتبعه ببطلانه بالنقل فقال: (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي بل أأعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بصحة ما يدّعون، فهم بذلك الكتاب متمسكون، وعليه معوّلون. والخلاصة- إنه لا كتاب لهم بذلك. ولما بين أنه لا حجة لهم على ذلك من عقل ولا نقل- ذكر أن الحامل لهم على ما جنحوا إليه إنما هو التقليد فقال: (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي ليس لهم مستند على ما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد، وقد قالوا إنهم أرجح منا أحلاما وأصح أفهاما، ونحن سائرون على طريقتهم، وسالكون نهجهم، ولم نأت بشىء من عند أنفسنا، ولم نغلط فى الأتباع واقتفاء الآثار، كما قال قيس بن الخطيم: كنا على أمّة آبائنا ... ويقتدى بالأول الآخر

والخلاصة- إنهم اعترفوا بأن لا مستند لهم من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث النقل، وإنما يستندون إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم. ثم بين سبحانه أن مقال هؤلاء قد سبقهم إلى مثله أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل فقال: (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي ومثل هذا المقال المتناهي فى الشناعة قالت الأمم الماضية لإخوانك الأنبياء، فلم نرسل قبلك فى قرية رسولا إلا قال رؤساؤها وكبراؤها: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين، وإنا على منهاجهم سائرون، نفعل مثل ما فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون. فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع فى الأمم، فهم قد سلكوا نهج من قبلهم من أهل الشرك فى جواباتهم بما أجابوك به، واحتجاجهم بما احتجوا به لمقامهم على دينهم الباطل. ونحو الآية قوله: «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» . وإنما قال أولا: مهتدون، وثانيا: مقتدون، لأن الأول وقع فى محاجتهم النبي صلى الله عليه وسلّم وادعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين وأنهم مهتدون كآبائهم، فناسبه (مُهْتَدُونَ) والثاني وقع حكاية عن قوم ادعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء فناسبه (مُقْتَدُونَ) . (وفى هذا تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ودلالة على أن التقليد فى نحو ذلك ضلال قديم، وتخصيص المترفين بالذكر للاشعار بأن الترف هو الذي أوجب البطر وصرفهم عن النظر إلى التقليد.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 إلى 35]

ثم حكى ما قاله كل رسول لأمته: (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟) أي قال لهم الرسول: أتبغون ذلك وتسيرون على نهجه، ولو جئتكم من عند ربكم بدين أهدى إلى طريق الحق، وأدل على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آباءكم من الدين والملة؟. وتلخيص ذلك- أتتبعون آباءكم وتقلدونهم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟. فأجابوه إجابة تيئيس من اتباعهم له على كل حال. (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ولو جئتنا بما هو أهدى منه، فكأنهم يقولون: إنهم لو علموا صحة ما جئتهم به ما انقادوا لك، لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله. وحينئذ لم يبق لهم عذر، ومن ثم قال: (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فانتقمنا من هؤلاء المكذبين لرسلهم الجاحدين بربهم، فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة أمرهم حين كذبوا بآياتنا؟ ألم نهلكهم ونجعلهم عبرة لغيرهم؟ وفى هذا سلوة لرسوله، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له، ووعيد وتهديد لهم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لأبيه: أي آزر، براء: كلمة لا تثنى ولا تجمع يقولون: أنا منك براء، ونحن منك براء، فإن قلت برىء ثنيت وجمعت، فطرنى: أي خلقنى، والكلمة: هى كلمة التوحيد فى عقبه: أي فى ذريته، مبين: أي ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرة، من القريتين: أي من إحدى القريتين مكة والطائف، والرجل الذي من مكة: هو الوليد ابن المغيرة المخزومي وكان يسمى ريحانة قريش، والذي من الطائف: هو عروة بن مسعود الثقفي، ورحمة ربك: هى النبوة، والسخرىّ: هو الذي يقهر على العمل، والسقف بضمتين: واحدها سقف كرهن ورهن، والمعارج: واحدها معرج كمنبر، وهو المسمى الآن (أسنسير) وهذا من معجزات القرآن إذ لم يكن معروفا عصر التنزيل، يظهرون أي يرتقون، زخرفا: أي نقوشا وتزاويق، قال الراغب الزخرف: الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب زخرف، ولمّا بمعنى إلا، حكى سيبويه نشدتك الله لمّا فعلت كذا: أي إلا فعلت كذا.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن الذي دعا الكفار إلى اعتناق العقائد الزائفة هو تقليد الآباء والأجداد، وبين أنه طريق باطل، ونهج فاسد، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد- أردف هذا أن ذكر لهم أن أشرف آبائهم وهو إبراهيم عليه السلام ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعتهم، فيجب عليكم تقليده، وحين عدل عن طريق آبائه جعل الله دينه باقيا فى عقبه إلى يوم القيامة، وأديان آبائه درست وبطلت. ثم ذكر أن قريشا وآباءهم مدّ لهم فى العمر والنعمة، فاغتروا بذلك واتبعوا الشهوات، وأعرضوا عن توحيد الله وشكره على آلائه، حتى جاءهم الرسول منبها لهم مذكرا بالنظر إلى من فطرهم وفطر السموات والأرض وآتاهم من فضله ما يتمتعون به من زينة هذه الحياة، فكذبوه وقالوا ساحر كذاب، ثم حكى عنهم أنهم قالوا: هلا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم الجاه كثير المال من إحدى القريتين مكة والطائف، فرد عليهم مقالهم، بأنه قسم الحظوظ الدنيوية بين عباده، فجعل منهم الغنى والفقير، والسيد والمسود، والملوك والسّوقة، والأقوياء والضعفاء، ولم يغير أحد ما حكم به فى أحوال دنياهم على حقارتها، فكيف يعترضون على حكمه فيما هو أرفع درجة، وأشرف غاية، وأعظم مرتبة، وهو منصب النبوة؟. ثم ذكر أن التفاوت فى شئون الدنيا هو الذي يتمّ به نظام المجتمع والسير به على النهج القويم، فلولاه ما صرّف بعضهم بعضا فى حوائجه، ولا تعاونوا فى تسهيل وسائل المعيشة، ثم أعقب هذا ببيان أنه لولا أن يرغب الناس فى الكفر إذا رأوا الكفار فى سعة من الرزق لمتعهم بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم أبوابا من فضة وسقفا وسررا ومصاعد منها وزينة فى كل شىء، ولكن كل هذا متاع قليل زائل والآخرة هى الباقية وهى لمن يتقى الله ويجتنب الكفر والمعاصي.

الإيضاح

ولم يفعل ذلك بالمؤمنين فيوسع عليهم جميعا، ليكون سبب اجتماعهم على الإيمان العقيدة المنبعثة عن الاطمئنان النفسي، لأنه لو فعل ذلك لاجتمعوا عليه طلبا للدنيا، وهذا إيمان المنافقين، ومن ثم ضيّق الرزق على بعض المسلمين ووسع على بعض ليكون من يدخله، فإنما يدخله للدليل والبرهان وابتغاء رضوان الله ومثوبته. الإيضاح (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي واذكر لقومك المكبّين على التقليد: كيف تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه حين رآهم عاكفين على عبادة الأصنام؟ قال لهم إنى براء مما تعبدون إلا من عبادة الله الذي خلقنى وخلق الناس جميعا، وأنه سيهدينى إلى سبيل الرشاد، ويوفقنى إلى اتباع الحق، وقد جزم بذلك لثقته بربه، ولقوة يقينه. (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وجعل كلمة التوحيد وهى (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) كلمة باقية فى ذريته يقتدى به فيها من هداه الله منهم، لعل أهل مكة يرجعون عما هم عليه إلى دين أبيهم إبراهيم، فإنهم إذا ذكروا أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم ذلك الفخر، تبعوه فيما يدين به. قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال ابن العربي: إنما كانت لإبراهيم فى الأعقاب، موصولة بالأحقاب، بدعوتيه المجابتين: إحداهما قوله: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» فقد قال إلا من ظلم منهم فلا عهد له. ثانيتهما قوله: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» . (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي ولكنى متعت هؤلاء المشركين وآباءهم من قبل، ومددت أعمارهم، وأكثرت نعمهم، فشغلتهم النعم

والترف والشهوات، فأطاعوا الشيطان ونسوا كلمة التوحيد، فجريت على سنتى أن أجعل فى بنى إبراهيم من يوحّد الله ويدعو من كفر منهم إلى الإيمان، فاخترت محمدا وأنزلت معه الكتاب ليدعو هؤلاء إلى ما فيه صلاحهم فى دينهم ودنياهم، وسعادتهم فى آخرتهم وأولاهم. ثم وبخهم على إعراضهم عما جاء به من الحق وعدم النظر فيه فقال: (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي ولما جاءهم القرآن والرسول الصادق بما معه من المعجزات قالوا إن ما جاءنا به سحر وليس بوحي من عند الله وإنا به جاحدون، فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به. ثم ذكر ضربا آخر من كفرهم بقوله: (وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي وقالوا إن منصب الرسالة منصب شريف، فلا يليق إلا برجل شريف كثير المال عظيم الجاه، ومحمد ليس بذاك، فمن الحق أن يسند هذا المنصب إما إلى الوليد بن المغيرة بمكة أو إلى عروة ابن مسعود الثقفي بالطائف. فأنكر الله عليهم ذلك وجهّلهم وعجّب من حالهم بقوله: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي عجبا لهم كيف جهلوا قدر أنفسهم؟ أو قد بلغ من أمرهم أن يصطفوا من يشاءون للنبوة التي لا يصلح لها إلا من بلغ مرتبة روحانية خاصة، وكان ذا فضائل قدسية وكمالات خلقية، مستهينا بالزخارف الدنيوية التي انغمسوا فيها؟ فهم ليسوا لها بأهل، فضلا عن أن يهبوها لمن يشاءون. ثم بين خطأهم فى طلب الاصطفاء بحسب ما يهوون فقال: (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي إننا فى هذه الحياة فضلنا بعض العباد على بعض، فى الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، لأنا لوسوّينا بينهم

فيها لم يخدم بعضهم بعضا ولم يسخّر أحد غيره، وذلك مما يفضى إلى خراب العالم وفساد الدنيا، ولم يستطع أحد أن يغيّر نظامنا ولا أن يخرج عن حكمنا. وإذا كانوا قد عجزوا عن ذلك فى أحوال الدنيا فكيف يعترضون علينا فى منصب الرسالة؟ وقصارى ذلك- إنا قسمنا بينهم أرزاقهم، أفلا يقنعون بقسمتنا فى أمر النبوة وتفويضها إلى من نشاء من خلقنا؟. ثم علل ما سلف بقوله: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي ورحمة ربك وفضله بالنبوة وما يتبعها من وحي وكتاب ينزل، خير مما يجمعون من حطام الدنيا، فالدنيا على شفا جرف هار، ومظاهرها فانية لا قيمة لها، فهو قد أغدقها على الدواب والأنعام وكثير من جهلة بنى آدم. ثم بين حقارة الدنيا وخستها بقوله: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً) أي ولولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال للكفار دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر، ويرغبوا فيه، إذا رأوا سعة الرزق عندهم- لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة، ومصاعد من فضة، وسررا من فضة، عليها يتكئون، وزينة فى كل ما يرتفق به من شئون الحياة. ثم بين أن هذه المتعة قصيرة الأمد، سريعة الزوال، فهى متاع الحياة الفانية فقال: (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي وما كل ذلك إلا متاع قصير زائل، والآخرة بما فيها من ضروب النعيم التي لا يحيط بها عدّ ولا إحصاء- أعدها الله لمن اتقى الشرك والمعاصي، وعمل بطاعته، وآثر الآخرة على الدنيا.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 إلى 45]

أخرج الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» . وكذلك لو أعطيت هذه النعم والسرر والأبواب المصنوعة من الذهب والفضة للمؤمنين، حتى ليصير الناس كلهم هكذا، لأخلّت بالمقصود من الإيمان، لأن الترف والنعيم يحجب العقول عن عالم الروحانيات والرقى العقلي، فقلّ من يتخلص من شرك هذه الآفات، فالشهوات والزينة والزخارف للعقول أشبه بالقاذورات للأجسام، والأجسام القذرة يحوم حولها الذباب، فيلقى فيها بيوضه لتفرخ فى القروح والعيون، ويخرج ذباب يعيش من تلك القاذورات، وهكذا النفوس الضعيفة تعيش فيها النفوس المماثلة لها من عالم الشياطين، وتلقى إليها بذور الفساد، فتزرع فيها وتحصدها النفوس خزيا وعارا فى الدنيا والآخرة وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يقال عشى فلان كرضى إذا حصلت له آفة فى بصره، وعشا: كغزا إذا نظر نظر العشىّ لعارض قال الحطيئة فى المحلّق الكلانى: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد أي تنظر إليها نظر العشى لما يضعف بصرك من كثرة الوقود واتساع الضوء، فالمراد هنا أنه يتعامى عن ذكر الله، نقيض له: أي نهيىء له ونضم إليه، والقرين: الرفيق الذي لا يفارق، والمشرقين: أي المشرق والمغرب، وكثيرا ما تسمى العرب الشيئين المتقابلين باسم أحدهما، قال الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع يريد الشمس والقمر، بعد المشرقين: أي بعد أحدهما من الآخر، فإما نذهبن بك: أي فإن قبضناك وأمتناك، لذكر: أي لشرف عظيم، تسألون: أي عن قيامكم بما أوجه القرآن عليكم من التكاليف من أمر ونهى. المعنى الجملي بعد أن بين أن المال متاع الدنيا وهو عرض زائل، ونعيم الآخرة هو النعيم الدائم الذي أعده الله للمتقين- ذكر هنا أن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله وصار من جلساء الشياطين الضالين المضلين الذين يصدونه عن السبيل القويم، ويظن أنه مهتد، لأنه يتلقى من الشياطين ما يلائم أخلاقه فيألفه ولا ينكره، ثم ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة تبرأ الكافر من الشيطان قرينه وقال له: ليت بينى وبينك بعد ما بين المشرقين، ثم أعقب هذا ببيان أن اشتراك الكافر مع قرينه الشيطان فى العذاب لا يخفف عنه شيئا منه، لاشتغال كل منهما بنفسه. ثم ذكر لرسوله أن دعوته لا تؤثر فى قلوبهم، وقلما تجديهم المواعظ، فإذا أسمعتهم

الإيضاح

القرآن كانوا كالصم، وإذا أريتهم معجزاتك كانوا كالعمى، وإنما كانوا كذلك لضلالهم المبين ثم سلى رسوله وبين له أنه لا بد أن ينتقم منهم إما حال حياته أو بعد موته، ثم أمره أن يستمسك بما أمره الله به، فيعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم النافع فى الدين والدنيا وفيه الشرف العظيم له ولقومه، وسوف يسألون عما قاموا به من التكاليف التي أمرهم بها، ثم أرشد إلى أن بغض الأصنام وبغض عبادتها جاء على لسان كل نبى، فمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا من بينهم فى الإنكار عليها حتى يعارض ويبغض. الإيضاح (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي ومن يتعام عن ذكر الله وينهمك فى لذات الدنيا وشهواتها نسلط عليه شياطين الإنس والجن يزينون له أن يرتع فى الشهوات، ويلغ فى اللذات، فلا يألوا جهدا فى ارتكاب الآثام والمحرمات على ما جرت به سنتنا الكونية، كما نسلط الذباب على الأجسام القذرة ونخلق الحيات والعقارب والحشرات فى المحال العفنة، لتلطف الجو وترحم الناس والحيوان، وهكذا النفوس الموسوسة للضعفاء توقعهم فى الذنوب لاستعدادهم لها، فينالون جزاءهم من عقاب الله وعقوبات البشر واحتقارهم لهم، إلى ما ينالهم من الأمراض الفتاكة والأدواء التي لا يجدى فيها علاج، فيكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم وأنى لهم أن تنفعهم تلك الذكرى فقد فات الأوان، ولا ينفع الندم على فائت: ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم قال الزجاج: معنى الآية- إن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكم إلى أباطيل المضلين- يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله، ويلازمه قرينا له فلا يهتدى، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق المبين اه.

أخرج ابن أبى حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي: أن قريشا قالت قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه، فقيّضوا لأبى بكر طلحة بن عبيد الله، فأتاه وهو فى القوم فقال أبو بكر: إلام تدعونى؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزّى قال أبو بكر وما اللات؟ قال: أولاد الله، قال: وما العزّى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، وقال لأصحابه أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأنزل الله هذه الآية، وثبت فى صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرينا من الجن. (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وإن هؤلاء الشياطين الذين يقيضهم الله لكل من يعشو عن ذكر الرحمن ليحولنّ بينهم وبين سبيل الحق، ويوسوسنّ لهم أنهم على الجادّة وسواهم على الباطل، فيطيعنهم ويكرّهنّ إليهم الإيمان بالله والعمل بطاعته. ثم ذكر حال الكافر مع القرين يوم القيامة فقال: (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي حتى إذا وافى الكافر يوم القيامة إلينا وعرض عليها أعرض عن قرينه الذي وكل به وتبرأ منه وقال: ليت بينى وبينك بعد ما بين المشرق والمغرب، فبئس القرين أنت أيها الشيطان، لأنك قد أضللتنى وأوصلتنى إلى هذا العذاب المهين، والخزي الدائم، والعيش الضنك، والمحل المقضّ المضجع. ثم حكى ما سيقال لهم حينئذ توبيخا وتأنيبا فقال: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي ولن ينفعكم فى هذا اليوم اشتراككم فى العذاب أنتم وقرناؤكم، كما كان ينفع فى الدنيا الاشتراك فى المهامّ الدنيوية، إذ يتعاونون فى تحمل أعبائها، ويتقاسمون شدتها وعناءها، فإن لكل منهم من العذاب ما لا تبلغه طاقته، ولا قدرة له على احتماله.

وقد يكون المعنى- ولن ينفعكم ذلك من حيث التأسى، فإن المكروب فى الدنيا يتأسى ويستروح بوجدان المشارك فى البلوى، فيقول أحدهم لى فى البلاء والمصيبة أسوة، فيسكّن ذلك من حزنه كما قالت الخنساء ترثى أخاها صخرا: يذكّرنى طلوع الشمس صخرا ... وأذكره بكل مغيب شمس فلولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى وما يكون مثل أخى ولكن ... أعزّى النفس عنه بالتأسى وقصارى ذلك- إنه لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شىء من العذاب، إذ لكل منهم الحظ الأوفر منه. وقد يكون المعنى- ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم، فأنتم وقرناؤكم مشتركون فى العذاب، كما كنتم مشتركين فى سببه فى الدنيا. وقد وصفهم فيما سلف بالعشي ووصفهم بالعمى والصمم، من قبل أن الإنسان لاشتغاله بالدنيا يكون كمن حصل بعينيه ضعف فى البصر، وكلما زاد انهما كه بها كان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل فقال: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ؟) أي أفانت تسمع من قد سلبهم الله استماع حججه التي ذكرها فى كتابه، أو تهدى إلى طريق الحق من أعمى قلوبهم عن إبصارها، واستحوذ عليهم الشيطان فزين لهم طريق الردى. والخلاصة- إن ذلك ليس إليك، إنما ذلك إلى من بيده تصريف القلوب وتوجيهها أنّى شاء، فعليك البلاغ وعلينا الحساب. وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يبالغ فى دعاء قومه إلى الإيمان وهم لا يزيدون إلا غيّا وتعاميا عما يشاهدون من دلائل النبوة وتصامّا عما يسمعون من بينات القرآن.

وبعد أن أيأسه من إيمانهم سلاه بالانتقام منهم لأجله إما حال حياته أو بعد مماته فقال: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي فإن نذهب بك أيها الرسول من بين أظهر المشركين بموت أو غيره فإنا منهم منتقمون كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم المكذبة لرسلها، أو نرينك الذي وعدناك من الظفر بهم وإعلائك عليهم فإنا عليهم مقتدرون، فنظهرك عليهم ونخزيهم بيديك وأيدى المؤمنين. وفى التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخالف الميعاد- إشارة إلى أن ذلك سيقع حتما وهكذا كان، فإنه لم يقبض رسوله حتى أقر عينيه من أعدائه، وحكّمه فى نواصيهم، وملّكه ما تضمنته صياصيهم، قاله السدى واختاره ابن جرير. ثم أمر رسوله أن يستمسك بما أوحى به إليه فيعمل به فقال: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي فخذ بالقرآن المنزل على قلبك، فإنه هو الحق المفضى إلى الصراط المستقيم، والموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم. ثم ذكر ما يستحثه على التمسك به فقال: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقومك، لأنه نزل بلغتهم على رجل منهم، فهم أفهم الناس له، فينبغى أن يكونوا أسبق الناس إلى العمل به. أخرج الطبراني وابن مردويه عن عدى بن حاتم قال: «كنت قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: ألا إن الله تعالى علم ما فى قلبى من حبى لقومى فبشرنى فيهم فقال سبحانه: وإنّه لذكر لك ولقومك» الآية. فجعل الذكر والشرف لقومى- إلى أن قال- فالحمد لله الذي جعل الصدّيق من قومى والشهيد من قومى،

وإن الله قلب العباد ظهرا وبطنا، فكان خير العرب قريش وهى الشجرة المباركة» ثم قال عدىّ ما رأيت رسول الله ذكرت عنده قريش بخير إلا سره حتى يتبين ذلك السرور فى وجهه للناس كلهم اه. ونظير الآية قوله فى سورة الأنبياء «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ» أي شرفكم، فالقرآن نزل بلسان قريش، وإياهم خاطب، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم وصاروا عيالا عليهم، حتى يقفوا على معانيه من أمر ونهى ونبإ وقصص وحكمة وأدب. روى الترمذي عن معاوية رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن هذا الأمر فى قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» . وفى الآية إيماء إلى أن لذكر الجميل والثناء الحسن أمر مرغوب فيه، ولولا ذلك ما امتن الله على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم به، ولما طلبه إبراهيم عليه السّلام بقوله: «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» وقال ابن دريد: وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى وقال المتنبي: ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما فاته وفضول العيش أشغال (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن حقه وأداء شكر النعمة فيه. وخلاصة ما سلف- إن القرآن نزل بلغة العرب، وقد وعد الله بنشر هذا الدين، وأبناء العرب هم العارفون بهذه اللغة، فهم الملزمون بنشرها ونشر هذا الدين للأمم الأخرى فمتى قصروا فى ذلك أذلهم الله فى الدنيا، وأدخلهم النار فى الآخرة، فعسى أن يقرأ هذا أبناء العرب ويعلموا أنهم هم المعلمون للأمم، فيبشروا هذا القرآن ويكتبوا المصاحف باللغة العربية، ويضعوا على هوامشها تفاسير بلغات مختلفة كالإنجليزية

[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 إلى 56]

والألمانية والروسية حتى تعرف الأمم كلها هذا الدين معرفة حقة خالية من الخرافات التي ألصقها به المبتدعون، ويعود سيرته الأولى، وما ذلك على الله بعزيز. ثم وبخ مشركى قريش بأن ما هم عليه من عبادة الأصنام لم يأت فى شريعة من الشرائع فقال: (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك من الرسل: هل حكمنا بعبادة غير الله؟ وهل جاء ذلك فى ملة من الملل؟ والمراد بهذا الاستشهاد بيان إجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه إلى أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس ببدع من بين الرسل فى الأمر به، حتى يكذّب ويعادى له. وقصارى ذلك- إن الرسل جميعا دعوا إلى ما دعا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام. ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» . [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الآيات: هى المعجزات، وملئه: أي أشراف قومه، أخذناهم: أي أخذ قهر بالعذاب فأرسلنا عليهم الجراد والقمّل والضفادع، الساحر: أي العالم الماهر، بما عهد عندك: أي بما أخبرتنا من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا، ينكثون: أي ينقضون العهد، من تحتى: أي من تحت قصرى وبين يدىّ فى جناتى، مهين: أي ضعيف حقير، يبين: أي يفصح عن كلامه. قال ابن عباس كانت بموسى لثغة فى لسانه (واللثغة بالضم: أن تصير الراء غينا أو لاما والسين ثاء وقد لثغ من باب طرب فهو ألثغ) ، والأسورة: واحدها سوار كأخمرة وخمار، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوّروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة سيادته، مقترنين: أي مقرونين به يعينونه على من خالفه، فاستخف قومه: أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلال فاستجابوا له، آسفونا: أي أغضبونا وأسخطونا. قال الراغب: الأسف الحزن والغضب معا، وقد يقال لكل منهما على الانفراد. وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام، فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا وسلفا: أي قدرة لمن بعدهم من الكفار، مثلا: أي حديثا عجيب الشأن يسير سير المثل فيقول الناس مثلكم مثل قوم فرعون.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر أن كفار قريش طعنوا فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لكونه فقيرا عديم المال ولجاه- بين هنا أن موسى بعد أن أورد المعجزات الباهرة أورد فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال: إنى غنى كثير المال عظيم الجاه، فلى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى، وموسى فقير مهين وليس له بيان ولا لسان، وهذا شبيه بما قاله كفار قريش وأيضا فإنه لما قال: واسأل من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا- ذكر هنا قصة موسى وعيسى عليهما السّلام وهما أكثر الأنبياء أتباعا وقد جاءا بالتوحيد ولم يكن فيما جاءا به إباحة اتخاذ آلهة من دون الله. ثم ذكر سبحانه أن فرعون قال: هلا ألقى ألى موسى مقاليد الملك فطوق بسوار من ذهب إن كان صادقا، زعما منه أن الرياسة من لوازم الرسالة، أو جاء معه جمع من الملائكة يعينونه على من خالفه، وأعقب هذا بأن ذكر أنه حين دعا قومه إلى تكذيب موسى فى دعواه الرسالة أطاعوه لضلالهم وغوايتهم، ولما لم نجد فيهم المواعظ غضبنا وانتقمنا منهم، وجعلناهم قدوة للكافرين، وضربنا بهم الأمثال للناس ليكونوا عبرة لهم. الإيضاح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ولقد بعثنا موسى ومعه حججه الدالة على صدقه إلى فرعون وأشراف قومه، كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك، فقال لهم: إنى رسول من قبل الله إليكم، كما قلت أنت لقومك: إنى رسول الله إليكم.

فطالبوه بإحضار البينة على صدق دعواه كما يدل على ذلك قوله: (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي فلما جاءهم بالأدلة على صدق قوله فيما يدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الآلهة- إذا فرعون وقومه يضحكون من تلك المعجزات، كما أن قومك يسخرون مما جئتهم به. وفى هذا تسلية لرسوله على ما كان يلقاه من قومه المشركين، وإعلام له بأن قومه لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم فى الكفر بالله وتكذيب رسله، وندب له أن يستن بسنة أولى العزم من الرسل فى الصبر على أذى أقوامهم وتكذيبهم لهم، وإخبار بأن عقبى أمرهم الهلاك كسنته فى الكافرين قبلهم، وظفره بهم، وعلوّ أمره كما فعل بموسى عليه السّلام وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم على فرعون وملئه. (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي وما أرينا فرعون وملأه حجة من حججنا الدالة على صدق رسولنا فى دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها فى الحجية عليهم، وآكد فى الدلالة على صحة ما يأمر به من توحيد الله، ومعنى الأخوّة بين الآيات تشا كلها وتناسبها فى الدلالة على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه أي هما قرينتان فى المعنى. ثم بين ما جوزوا به على تكذيبهم فقال: (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي وأنزلنا عليهم ألوانا من العذاب كنقص الثمرات والجراد والقمل والضفادع. ثم بين العلة فى أخذه لهم بذلك وهو رجاء رجوعهم فقال: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكى يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان بالله وطاعته، والتوبة مما هم عليه مقيمون من المعاصي. ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات، والدلالات الواضحات- ظنوا أن ذلك من قبيل السحر.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي وقالوا يا أيها العالم الماهر، وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويوقرونهم ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم. وقد يكونون نادوه بذلك فى تلك الحال، لشدة شكيمتهم، وفرط حماقتهم. (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي ادع لنا ربك ليكشف عنا العذاب بما أخبرتنا من عهده إليك، أنا إن آمنا به كشفه عنا. (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي إنا لمؤمنون بما جئت به إن حدث ذلك. ونحو ذلك ما جاء فى سورة الأعراف من قولهم: «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ» . ثم بين ما حدث منهم بعد دعوة موسى وكشف العذاب فقال: (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فدعانا فكشفنا عنهم العذاب فلم يؤمنوا ونقضوا العهد، وقد كان هذا ديدنهم مع موسى، يعدونه فى كل مرة أن يؤمنوا به إذا كشف عنهم الرجز، ثم ينقضون ما عاهدوا الله عليه. ونحو الآية ما جاء فى سورة الأعراف من قوله: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» . ثم أخبر سبحانه عن تمرد فرعون وعتوّه وعناده فقال: (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ: يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي إنه جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها وجرى الأنهار المنبثقة من نهر النيل تحت قصوره وتحت جنانه وضياعه.

ثم أكد هذا بقوله: (أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) ذلك وتستدلون به على قوة ملكى وعظم قدرى وضعف موسى عن مقاومتى لما فيه من فقر وعىّ وحصر. (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي بل أنا ولا شك خير بما لى من السعة فى المال والجاه والملك العريض- من هذا المهين الحقير الذي لا يكاد يفصح عما يريد، إذ كان فى لسانه حبسة فى صغره فعابه بها، وهو لا يعلم أن الله استجاب سؤله حين قال: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» فحل عقدة لسانه كما جاء فى قوله: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» . قال الحسن البصري: إنه قد بقي منها شىء لم يسأل زواله، وإنما سأل زوال ما يمنع الإبلاغ والإفهام اه. والأشياء الخلقية لا يعاب المرء بها ولا يذم، لكنه أراد الترويج على رعيته وصدهم عن الإيمان به. ونحو الآية قوله: «فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» . ثم ذكر شبهة مانعة له من الرياسة، وهى أنه لا يلبس لبس الملوك، فلا يكون رئيسا ولا رسولا لتلازمهما فى زعمه فقال: (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي فهلا ألقى ربّ موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا كما جرت عادتهم بذلك، وهذا شبيه بما قال كفار قريش فى عظيم القريتين. ثم ذكر شبهة أخرى وهى أنه ليس له خدم من الملائكة تعينه فقال: (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقا، يعينونه على أمره، ويشهدون له بالنبوة، ويمشون معه، كما نفعل نحن

إذا أرسلنا رسولا فى أمر هامّ يحتاج إلى دفاع، وفيه خصام ونزاع- وهو بهذا أوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة، أو يكونوا محفوفين بالملائكة. ثم ذكر أن هذه الخدع قد انطلت عليهم، وسحرت ألبابهم، لغفلتهم وضعف عقولهم، فاعترفوا بربوبيته، وكذبوا بنبوة موسى فقال: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي فاستخف أحلامهم بقوله وكيده، وبما أبداه من عظمة الملك والرياسة، وجعلها مناطا للعلم والنبوة، وأنه لو كانت هناك نبوة لكان أولى بها، فأطاعوه فيما أمرهم، لأنهم كانوا قوما ذوى ضلال وغىّ ومن ثم أسرعوا إلى تلبية دعوة ذلك الفاسق الغوىّ. ثم ذكر جزاءهم على ما اجترحوا من تكذيب رسوله على وضوح الدليل وظهور الحق فقال: (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي فلما أغضبونا بعنادهم وعظيم استكبارهم وبغيهم فى الأرض- انتقمنا منهم بعاجل عذابنا، فأغرقناهم جميعا. وإنما أهلكوا بالغرق ليكون هلاكهم بما تعززوا به وهو الماء فى قوله: «وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» : وفى هذا إشارة إلى أن من تعزز بشىء دون الله أهلكه الله به. أخرج أحمد والطبراني والبيهقي فى الشعب وابن أبى حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت الله يعطى العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له، وقرأ: (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) » . (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي فجعلناهم قدوة لمن يعمل عملهم من أهل الضلال ككفار قومك. (وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) أي وعبرة وموعظة لمن يأتى بعدهم من الكافرين.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 إلى 66]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 66] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) تفسير المفردات مثلا: أي حجة وبرهانا، يصدّون (بكسر الصاد) أي يصيحون ويرتفع لهم ضجيج وفرح، جدلا: أي خصومة بالباطل، خصمون: أي شديد والخصومة مجبولون على اللجاج وسوء الخلق، مثلا: أي أمرا عجيبا، منكم: أي من بعضكم، يخلفون: أي يخلفونكم فى الأرض، علم: أي علامة وشرط من أشراطها، فلا تمترنّ: أي فلا تشكنّ، البينات: المعجزات، الحكمة: الشرائع المحكمة التي لا يستطاع نقضها ولا إبطالها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي روى محمد بن إسحاق فى السيرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فى المسجد مع الوليد بن المغيرة، فجاء النضر بن الحارث وجلس معهم وفى المسجد غير واحد من رجالات قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» الآيات، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقبل عبد الله بن الزّبعرى التميمي وجلس فقال له الوليد بن المغيرة: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال ابن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، سلوا محمدا، أكلّ ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح عيسى بن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه فى المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته وأنزل الله عز وجل: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» أي عيسى وعزير ومن عبد معهما، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلال أربابا من دون الله، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه السّلام وأنه يعبد من دون الله «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) » الآية. الإيضاح (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا وجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعبادة النصارى له، إذا

قومك من هذا المثل يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحا وسرورا كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا أعيوا فى حجة ثم فتحت عليهم. وقد روى أن عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم وقد سمعه يقول: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» أليس النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا صالحا، فإن كان فى النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم. (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟) أي إن آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون. (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي ما ضربوا لك المثل إلا لأجل الجدل والغلبة فى القول لا لإظهار الحق، فإن قوله: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» إنما ينطلق على الأصنام والأوثان ولا يتناول عيسى والملائكة، ولكنهم قوم ذوو لدد فى الخصومة، مجبولون على سوء الخلق واللجاج. قال صاحب الكشاف: إن ابن الزبعرى بخبّه وخداعه وخبث دخلته لما رأى كلام الله ورسوله محتملا لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم لا غير- وجد للحيلة مساغا فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريقة المحك والجدال وحب المغالبة والمكابرة وتوقّح فى ذلك، فتوفّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أجاب عنه ربه بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» فدل به على أن الآية خاصة فى الأصنام اه. أخرج سعيد بن منصور وأحمد فى جماعة عن أبى أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية» ثم بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي ما عيسى بن مريم

إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة وروادفها، فهو رفيع المنزلة علىّ القدر، وقد جعلناه آية، بأن خلقناه من غير أب، وشرفناه بالنبوة، وصيرناه عبرة سائرة، تفتح للناس باب التذكر والفهم، وليست مخالفة العادة بموجبة لعبادته كما يزعم النصارى، بل مذكرة بعبادة الخالق الحكيم. (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي ولو نشاء لجعلنا ذريتكم ملائكة يخلفونكم فى الأرض كما يخلفكم أولادكم، كما خلقنا عيسى من أنثى بلا ذكر وجعلناه رجلا. وقد يكون المعنى على التهديد والتخويف لقريش ويكون المراد- لو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلكم فى الأرض ملائكة يعمرونها ويعبدوننا. والخلاصة- إننا لو نشاء لجعلنا فى الأرض عجائب كأمر عيسى بحيث يلد الرجل ملكا فيخلفه، فباب العجائب وتغير السنن لاحد له عندنا، فكم من نواميس خافية عليكم بيدنا تصريفها. (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي وإن القرآن ليعلمكم بقيام الساعة، ويخبركم عنها وعن أهوالها، فلا تشكّنّ فيها واتبعوا هداى، فهذا الذي أدعوكم إليه هو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه وهو الموصل إلى الحق. (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي ولا تغتروا بوساوس الشيطان وشبهه التي يوقعها فى قلوبكم، فيمنعكم ذلك عن اتباعى، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه. ثم علل نهيهم عن اتباعه بعداوته لهم فقال: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه مظهر لعداوته لكم، غير متحاش ولا متكتم لها كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين أبيكم آدم من امتناعه عن السجود له، وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بنى آدم إلا عباد الله المخلصين.

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي ولما جاء عيسى بالمعجزات الواضحة قال قد جئتكم بالشرائع التي فيها صلاح البشر، ولأبيّن لكم بعض ما اختلف فيه قوم موسى من أحكام الدين دون أمور الدنيا كطرق الفلاحة والتجارة، فإن الأنبياء لم يبعثوا لبيانها كما يشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسّلام حين نهاهم عن تأبير النخل (تلقيحه بالطلع) ففسد الثمر ولم يغلّ شيئا نافعا «أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم» . ولما بين لهم أصول الدين وفروعه قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاتقوا الله فى مخالفتى، وخافوا أن يحل بكم عقابه، وأطيعونى فيما أبلغكم عنه من الشرائع والتكاليف. ثم فصل ما يأمرهم به بقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي إن الله الذي يستحق إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له- ربى وربكم، فأنا وأنتم عبيد له فقراء إليه. (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم، وكل الديانات جاءت بمثله، فما هو إلا اعتقاد بوحدانية الله، وتعبّد بشرائعه. وقصارى ذلك- إنه علم بحقائق، وعمل بشرائع. ولما كان الطريق القويم يجب الاجتماع عليه، والاتفاق على سلوكه- بين أنهم خالفوا ذلك فاختلفوا فيه فقال: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي فاختلف النصارى وصاروا شيعا، من ملكانية إلى نسطورية إلى يعقوبية، فمنهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق، ومنهم من يدعى أنه ابن الله، ومنهم من يقول إنه الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي فالويل لهؤلاء المختلفين الذين

[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 إلى 73]

أشركوا بالله وقالوا فى عيسى ما كفروا به- من عذاب يوم القيامة حين يحاسبون على ما قالو وعلى ما عملوا. ثم حذرهم وأنذرهم على ما هم فيه من الخلاف دون أن يتبينوا وجه الحق فقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون فى شأن عيسى القائلون فيه الباطل من القول- إلا أن تقوم الساعة بغتة وهم غافلون عنها لا يعلمون بمجيئها لاشتغالهم بأمر دنياهم وإنكارهم لها، فيندمون حين لا ينفعهم الندم، ولا يدفع ذلك عنهم شيئا. ونحو الآية قوله تعالى: «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» . روى ابن مردويه عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعمة، والرجلان يطويان الثوب، ثم قرأ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) . [سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 73] الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) تفسير المفردات الأخلاء: واحدهم خليل، وهو الصديق الحميم، مسلمين: أي مخلصين منقادين لربهم، تحبرون: أي تسرون سرورا يظهر حباره (بفتح الحاء) أي أثره من النضرة

المعنى الجملي

والحسن على وجوهكم، والصحاف: واحدها صحفة وهى كالقصعة، قال الكسائي: أكبر أوانى الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم المئكلة، والأكواب: واحدها كوب، وهو كوز لا أذن له. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أن يوم القيامة سيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون- أردف ذلك بيان أحوال ذلك اليوم، فمنها أن الأخلاء يتعادون فيه إلا من تخالّوا على الإيمان والتقوى، ومنها أن المؤمنين لا يخافون من سلب نعمة يتمتعون بها، ولا يحزنون على فقد نعمة قد فاتتهم، ومنها أنهم يتمتعون بفنون من الترف والنعيم فيطاف عليهم بصحاف من ذهب فيها ما لذّ وطاب من المآكل، وبأكواب وأباريق فيها شهنىّ المشارب، ويقال لهم هذا النعيم كفاء ما قدمتم من عمل بأوامر الشرع ونواهيه، وأسلفتم من إخلاص لله وتقوى له. الإيضاح (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي كل صداقة وخلة فإنها تنقلب فى ذلك اليوم إلى عداوة إلا ما كانت فى الله وفى سبيله، فإنها تبقى فى الدنيا والآخرة. ونحو الآية ما قاله إبراهيم لقومه: «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» . ثم ذكر ما يتلقى به سبحانه عباده المؤمنين المتحابين فى الله تشريفا لهم وتسكينا لروعهم مما يرون من الأهوال فقال: (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي ونقول لهم حينئذ: يا عباد

لا تخافوا من عقابى، فإنى قد أمّنتكم منه برضاى عنكم، ولا تحزنوا على فراق الدنيا، فإن الذي تقدمون عليه خير لكم مما فارقتموه منها. ثم بين من يستحق هذا النداء وذلك التكريم فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أي الذين آمنت قلوبهم، وصفت نفوسهم، وانقادت لشرع الله بواطنهم وظواهرهم. ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل البشرى فقال: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي ادخلوا الجنة أيها المؤمنون أنتم وأزواجكم مغبوطين بكرامة الله، مسرورين بما أعطاكم من مننه. وبعدئذ ذكر طرفا مما يتمتعون به من النعيم فقال: (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) أي وبعد أن يستقروا فى الجنة ويهدأ روعهم يطاف عليهم بجفان من الذهب مترعة بألوان الأطعمة والحلوى، وبأكواب فيها أصناف الشراب مما لذّ وطاب. وبعد أن فصل بعض ما فى الجنة من نعيم، عمّم فى ذلك فقال: (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وفى الجنة ما تشتهيه أنفس أهلها من صنوف الأطعمة والأشربة والأشياء المعقولة والمسموعة ونحوها مما تطلبه النفوس وتهواه كائنا ما كان، جزاء لهم على ما منعو أنفسهم من الشهوات، وفيها ما تقرّ أعينهم بمشاهدته، وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم، وأنتم لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا. أخرج ابن أبى شيبة والترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال: «قال رجل يا رسول الله هل فى الجنة خيل فإنى أحب الخيل؟ قال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك فى أىّ الجنة شئت إلا فعلت، وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل فى الجنة من إبل فإنى أحب الإبل؟ فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك» .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 إلى 80]

ثم ذكر أن هذا كان فضلا من ربكم آتاكموه كفاء أعمالكم التي أسلفتموها فقال: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وهذه الجنة جعلها الله لكم باقية كالميراث الذي يبقى عن المورث، جزاء ما قدمتم من عمل صالح. أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد إلا وله منزل فى الجنة ومنزل فى النار، فالكافر يرث المؤمن منزله فى النار، والمؤمن يرث الكافر منزله فى الجنة، وذلك قوله: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها» . وبعد أن ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال: (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) أي لكم فيها صنوف من الفواكه لا حصر لها، تأكلون منها حيثما شئتم، وكيفما اخترتم. [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 80] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) تفسير المفردات المراد بالمجرمين هنا الراسخون فى الإجرام وهم الكفار، يفتّر: أي يخفف، من قولهم: فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا، مبلسون: من الإبلاس وهو الحزن المعترض

المعنى الجملي

من شدة اليأس، والمبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه، ومن ثم قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته، قاله الراغب، مالك: خازن النار، ليقض علينا ربك: أي ليمتنا، من قولهم: قضى عليه: أي أماته، وأبرم الأمر: أحكم تدبيره، أمرا: هو التحيل فى تكذيب الحق، والسر: هو ما يحدث به المرء نفسه أو غيره فى مكان خال، والنجوى: التناجي فيما بينهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر ما أعدّ لأهل الجنة من النعيم المقيم، والتمتع بفنون اللذات من المآكل والمشارب والفواكه- أعقب ذلك بذكر ما يكون فيه الكفار من العذاب الأليم الدائم الذي لا يخفّف عنهم أبدا، وهم فى حزن لا ينقطع، ثم ذكر أن هذا ليس إلا جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من سييء الأعمال، ثم أردف ذلك بمقال أهل النار لخزنة جهنم وطلبهم من ربهم أن يموتوا حتى يستريحوا مما هم فيه من العذاب، ثم إجابته لهم عن ذلك، ثم وبخهم على ما عملوا فى الدنيا واستحقوا به العذاب، ثم ذكر ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق وإعلاء شأن الباطل ظنا منهم أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم، وقد وهموا فيما ظنوا، فإن الله عليم بذلك ورسله يكتبون كل ما صدر عنهم من قول أو فعل. الإيضاح (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي إن الذين اجترموا الكفر بالله فى الدنيا يجازيهم ربهم بعذاب جهنم خالدين فيه أبدا لا ينفك عنهم ولا يجدون عنه حولا. (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي لا يخفف عنهم لحظة وهم فيه ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج، ولا منافاة بين هذا وبين قوله الآتي: ونادوا

يا مالك إلخ لأن تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون تارة لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا فرج، ويشتد عليهم العذاب أخرى فيستغيثون. ثم ذكر أن ذلك العذاب جزاء ما كسبت أيديهم فقال: (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أننا فاعلون بهم، ولكن هم الذين أساءوا إلى أنفسهم، فكذبوا الرسل وعصوهم بعد أن أقاموا الحجة عليهم، فأتوهم بباهر المعجزات. ثم ذكر ما يقوله أهل النار وما يجيبهم به خزنتها فقال: (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي ونادى المجرمون من شدة العذاب فقالوا: يا مالك ادع لنا ربك أن يقبض أرواحنا ليريحنا مما نحن فيه، فأجابهم بقوله إنكم ماكثون لا خروج لكم منها، ولا محيص لكم عنها. ونحو الآية قوله تعالى: «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» وقوله: «وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» . ثم خاطبهم خطاب تقريع وتوبيخ وبين سبب مكثهم فيها بقوله: (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي لقد بيّنا لكم الحق على ألسنة رسلنا وأنزلنا إليكم الكتب مرشدة إليه، ولكن سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، وتبغض أهله، فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة. وبعد أن ذكر كيفية عذابهم فى الآخرة، بين سببه وهو مكرهم وسوء طويتهم فى الدنيا فقال: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي بل هم تحيلوا فى رد الحق بالباطل بوجوه من الحيل والمكر، فكادهم الله تعالى ورد عليهم سوء كيدهم بتخليدهم فى النار معذبين فيها أبدا.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 إلى 89]

وقصارى ذلك- أحكموا كيد النبي صلّى الله عليه وسلم، وإنا محكمون لهم كيدا قاله مجاهد وقتادة وابن زيد. ونحو الآية قوله: «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» وقوله: «أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ» . (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي بل أيظنون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك، ولا ما يتكلمون به فيما بينهم بطريق التناجي. (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي بل نسمعهما ونطلع عليهما، والحفظة يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول وفعل. والخلاصة- إنا نعلم ذلك، والملائكة يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها. قال يحيى بن معاذ: من ستر من الناس ذنوبه، وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية- فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من أمارات النفاق. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة نفر بين الكعبة وأستارها، قرشيان وثقفىّ، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا، وقال الثاني: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، وقال الثالث: إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم، فنزلت الآية. [سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 89] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

تفسير المفردات

تفسير المفردات سبحان رب السموات: أي تنزيها له عن كل نقص، يصفون: أي يقولون كذبا بأن له ولدا، فذرهم: أي فاتركهم، يخوضوا: أي يسلكوا فى باطلهم مسلك الخائضين فى الماء، ويلعبوا: أي يفعلوا فى أمورهم الدنيوية فعل اللاعب الغافل عن عاقبة ما يعمل، يومهم: هو يوم القيامة، إله: أي معبود بحق لا شريك له، يدعون: أي يعبدون، من شهد بالحق: أي من نطق بكلمة التوحيد، يؤفكون: أي يصرفون، وقيله: أي قوله: قال أبو عبيدة: يقال قلت قولا وقالا وقيلا، وفى الخبر «نهى عن قيل وقال» ، فاصفح عنهم: أي اعف عنهم عفو المعرض ولا تقف عن التبليغ، سلام: أي سلام متاركة لكم بسلامتكم منى وسلامتى منكم. المعنى الجملي أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للمشركين إحقاقا للحق: إن مخالفته لهم فى عبادة ما يعبدون لم يكن بغضا منه لهم ولا عداوة لمعبوديهم، بل لاستحالة نسبة ما نسبوه إليهم وبنوا عليه عبادتهم لهم من كونهم بنات الله، تنزه ربنا عما يقولون، ثم أمره أن يتركهم وشأنهم حتى يأتى اليوم الذي يلاقون فيه جزاء أعمالهم وأقوالهم (8- مراغى- الخامس والعشرون)

الإيضاح

ثم أخبر بأن لا معبود فى السماء ولا فى الأرض سواه، وهو الحكيم العليم بكل شىء وأن من يعبدونهم لا يشفعون لهم حين الجزاء والحساب، ثم ذكر أن أقوالهم تناقض أفعالهم، فهم يعبدون غير الله، ويقولون إن الخالق للكون: سمائه، وأرضه هو الله، ثم أردف هذا أنه لا يعلم الساعة إلا هو، وأنه يعلم شديد حزنك على عدم إيمانهم، وعدم استجابتهم لدعوتك، ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم وتركهم وشأنهم، سيأتى اليوم الذي يلقون فيه الجزاء على سوء صنيعهم. الإيضاح (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي قل لهم: إن ثبت ببرهان صحيح توردونه، وحجة واضحة تدلون بها- أن للرحمن ولدا، كنت أسبقكم إلى طاعته، والانقياد له، كما يعظّم الرجل ابن الملك تعظيما لأبيه- ولا شك أن هذا أبلغ أسلوب فى نفى الولد، كما يقول الرجل لمن بناظره ويجادله: إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به، وهذا ما اختاره ابن جرير ورجحه. وخلاصته- إذا كنت لم أعترف بولد، بدليل أنى لم أعبده مع أنى أقرب الناس إلى الله، فالولد لا وجود له حتما- وكأنه يقول: إن انتفاء الولد مرتب على انتفاء عبادته، لما علم من أنه إذا انتفى اللازم لشىء انتفى ذلك الشيء، كما استدل بعدم فساد نظام الكون على وحدانية الله فى قوله: «لَوْ كانَ فِيهِما- السماوات والأرض- آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» . ثم نزه سبحانه نفسه فقال: (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه مالك السموات والأرض وما فيهما من الخلق، ورب العرش المحيط بذلك كله- عما يصفه

به المشركون كذبا، وعما ينسبون إليه من الولد، إذ كيف تكون هذه العوالم كلها ملكا له، ويكون شى منها جزءا منه، تعالى ربنا عن ذلك علوّا كبيرا. ولما ذكر الدليل القاطع على نفى الولد أمره أن يتركهم وشأنهم فيما يقولون فقال: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فاترك أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله، الواصفيه بأن له ولدا، يخوضوا فى باطلهم، ويلعبوا فى دنياهم حتى يأتى ذلك اليوم الذي لا محيص عنه، وحينئذ يعلمون عاقبة أمرهم، ويذوقون الوبال والنكال جزاء ما اجترحوه من الشرك والآثام. ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد والتهديد. ثم أكد هذا التنزيه فقال: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي وهو الله الذي يعبده أهل السماء وأهل الأرض، ولا تصلح العبادة إلا له، وهو الحكيم فى تدبير خلقه وتسخيرهم لما يشاء، العليم بمصالحهم، فالحكمة المقترنة بالعلم تخللت كل رطب ويابس وجليل وحقير، فمن يشاهد إتقان العالم وحسن تنسيقه وإبداعه يجد الحكمة فيه على أتم وجوهها، ويعجب مما فيه من جمال وكمال ويدهش لما يجد فيه من غرائب يحار فيها اللب، فأفردوا له العبادة، ولا تشركوا به شيئا سواه. (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي وتقدس خالق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا ندرى كنهها ولا نعلم حقيقتها، المتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة من أحد، وهو العلى العظيم الذي بيده أزمّة الأمور نقضا وإبراما. (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي وعنده العلم بميقات الساعة لا يجلّيها لوقتها إلا هو. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه المرجع فيجازى كل أحد بما يستحق، إن خيرا فخير، وإن شرافشر. (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولا تقدر الأصنام والأوثان التي يعبدونها على الشفاعة لهم كما زعموا أنهم شفعاء عند ربهم،

ولكن من نطق بكلمة التوحيد وكان على بصيرة وعلم من ربه كالملائكة وعيسى تنفع شهادتهم عنده بإذنه لمن يستحقها. وقال سعيد بن جبير: إن معنى الآية- لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة. ثم بين أن هؤلاء المشركين متناقضو الأقوال والأفعال فقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء، المشركين بالله العابدين غيره، من خلق الخلق جميعا؟ ليعترفنّ بأنه الله تعالى وحده لا شريك له فى ذلك، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه. (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان وعبده مع الله أو عبده وحده- فقد عبد بعض مخلوقات الله، فهم فى غاية الجهل والسفه وضعف العقل. وفى هذا تعجيب شديد من إشراكهم بعد هذا. (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي ويعلم علم الساعة وقوله لربه شاكيا قومه الذين كذبوه ولقى منهم شديد الأذى: يا رب إن هؤلاء الذين أمرتنى بإنذارهم وأرسلتنى إليهم لتبليغهم دينك الحق- قوم لا يؤمنون. ولما شكا الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه عدم إيمانهم أجابه بقوله: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي فأعرض عنهم وأنت آيس من إيمانهم، ولا تجبهم بمثل ما يخاطبونك به من سيىء الكلام، بل تألفهم واصفح عنهم قولا وفعلا، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، فإنك ستنتصر عليهم، ويحل بهم بأسنا الذي لا يردّ. وقد أنجز الله وعده، وأنفذ كلمته، وأعلى دينه، وشرع الجهاد والجلاد، فدخل الناس فى دين الله أفواجا، وانتشر الإسلام فى مشارق الأرض ومغاربها.

خلاصة ما تضمنته السورة من المقاصد

فله الحمد والمنة على إظهار الحق وإعلاء مناره، وإزهاق الباطل وكبح جماحه، تعاليت ربنا يا ذا الجلال والإكرام، والطّول والإنعام، وصلواتك على محمد وآله. خلاصة ما تضمنته السورة من المقاصد (1) وصف القرآن الكريم. (2) الأمر بإنذار قومه صلّى الله عليه وسلّم مع غفلتهم وإسرافهم فى لذات الدنيا، (3) شأن هؤلاء المشركين فى تكذيبهم للرسول شأن غيرهم من المكذبين من قبلهم. (4) اعترافهم بأن الله هو خالق السموات والأرض مع عبادتهم للأصنام والأوثان. (5) اعتقادهم أن الملائكة بنات الله ثم نعى ذلك عليهم. (6) تمسكهم بتقليد الآباء والأجداد فى شئونهم الدينية. (7) قصص الأنبياء من أولى العزم كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. (8) وصف نعيم الجنة. (9) الأهوال التي يلقاها أهل النار حتى يتمنّوا الموت ليستريحوا مما هم فيه. (10) متاركة أهل الباطل والصفح عنهم حتى يأتى وعد الله.

سورة الدخان

سورة الدخان هى مكية، وآيها تسع وخمسون، نزلت بعد الزخرف. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) إنه تعالى ختم ما قبلها بالوعيد والتهديد، وافتتح هذه بالإنذار الشديد. (2) إنه تعالى حكى فيما قبلها قول رسوله صلّى الله عليه وسلم: يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، وحكى هنا عن أخيه موسى: «فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ» . (3) إنه قال فيما سلف «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ» ، وحكى هنا عن موسى «إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» ، وهو قريب من ذلك. [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) تفسير المفردات ليلة مباركة: هى ليلة القدر، منذرين: أي مخوّفين، يفرق: أي يفصل ويبين، حكيم: أي محكم لا يستطاع أن يطعن فيه بحال، موقنين أي تطلبون اليقين وتريدونه كما يقال منجد متهم: أي يريد نجدا وتهامة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي أقسم جلت قدرته بكتابه الكريم المبين لما فيه صلاح البشر إنه أنزل القرآن فى ليلة القدر لإنذار العباد وتخويفهم من عقابه، وإن هذه الليلة يفصل فيها كل أمر حكيم، فيبين فيها التشريع النافع للعباد فى دنياهم وآخرتهم، وهو رب السموات والأرض وما بينهما فلا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهو الذي بيده إحياؤهم وإماتتهم، وهو ربهم ورب آبائهم الأولين، ولكنهم يمترون بعد أن وضح الحق، وأفصح الصبح لذى عينين. الإيضاح (حم) أسلفنا الكلام فى مثل هذا من قبل: (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أقسم ربنا جلت قدرته بكتابه المجيد إنه بدأ ينزل القرآن فى ليلة مباركة هى ليلة القدر التي هى خير من ألف شهر كما جاء فى قوله «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» من شهر رمضان كما قال سبحانه «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» . والخلاصة- إن بدء نزوله كان فى ليلة القدر ثم نزل منجما بعد ذلك فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع حالا فحالا، وقد عقد السيوطي فى كتابه «الإتقان» أبوابا لنزول القرآن فقال: باب ما نزل منه صيفا. باب ما نزل منه شتاء. باب ما نزل منه سفرا. باب ما نزل منه حضرا. باب ما نزل منه فى الأرض. باب ما نزل منه فى السماء. باب ما نزل منه بين الأرض والسماء. باب ما نزل منه بمكة. باب ما نزل منه بالمدينة. باب ما نزل بين مكة والمدينة- إلى آخر ما قال فليراجع فإن فيه فوائد نفيسة.

ثم بين السبب فى إنزاله فقال: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي إنا كنا معلمين الناس ما ينفعهم فيعملون به، وما يضرهم فيجتنبونه، لتقوم حجة الله على عباده. ثم بين سبب تخصيص نزوله بتلك الليلة فقال: (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) أي فى هذه الليلة بدأ يبين سبحانه ما ينفع عباده من أمور محكمة لا تغيير فيها ولا تبديل. بإنزاله ذلك التشريع الكامل الذي فيه صلاح البشر وهدايتهم وسعادتهم فى دنياهم وآخرتهم، ولا غرو فهى من لدن حكيم عليم بما يصلح شئون عباده فى معاشهم ومعادهم. ثم بيّن السر فى نزول القرآن على لسان رسوله فقال: (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إنا أرسلنا الرسول به رحمة منا لعبادنا حتى يستبين لهم ما يضرهم وما ينفعهم وحتى لا يكون لهم حجة بعد إرسال الرسول به. ثم أكد ربوبيته بقوله: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه إنما فعل تلك الرحمة، لأنه هو السميع لأقوالهم، العليم بما يصلح أحوالهم، فلا عجب أن أرسله إليهم لحاجتهم إليه. ثم أكد العلة فى سمعه للأشياء وعلمه بها فقال: (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إنه هو السميع لكل شىء العليم به، لأنه مالك السموات والأرض وما فيهمان كنتم تطلبون معرفة ذلك معرفة يقين لا شك فيه. وبعد أن أثبت ربوبيته ووحدانيته ذكر فذلكة لذلك فقال: (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي هو الإله الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو المحيي المميت، فيحيى ما يشاء مما يقبل الحياة، ويميت ما يشاء عند انتهاء ما قدر له من الأجل.

[سورة الدخان (44) : الآيات 10 إلى 16]

(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي هو مالككم والمتصرف؟؟؟ آبائكم الأولين ومدبر شئونهم، فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضر ولا؟؟؟ ثم بيّن أنهم ليسوا بموقنين بالجواب بعد أن تبين لهم الرشد من الغى؟؟؟. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) أي بل هم فى شك من التوحيد والبعث والإقرار بأن الله خالقهم، وإن قالوا ذلك فإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم، إذ هم قابلوه بالهزء والسخرية فعل اللاعب العابث الذي يأخذ الجدّ وما لامرية فيه، أخذ الهزل الذي لا فائدة فيه. [سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16] فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) تفسير المفردات ارتقب: أي انتظر، من قولهم: رقبته أي انتظرته وحرسته، والمراد من الدخان ما أصابهم من الظلمة فى أبصارهم من شدة الجوع حتى كأنهم كانوا يرون دخانا، فإن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ورأى الدنيا كالمملوءة دخانا، يغشى الناس: أي يحيط بهم، اكشف عنا: أي ارفع، أنّى: أي كيف يكون ومن أين معلّم أي يعلمه غلام رومى لبعض ثقيف، وبطش به أخذه بالعنف والسطوة كأبطشه، والبطش: الأخذ الشديد فى كل شىء والبأس، قاله صاحب القاموس.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر حال كفار قريش إذ قابلوا الرحمة بالكفران ولم ينتفعوا بالمنزّل ولا بالمنزّل عليه- أردف هذا أن أمر نبيّه بالانتظار حتى يحل بهم بأسه، لأنهم أهل الخذلان والعذاب، لا أهل الإكرام والغفران. وفى هذا تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم وتهديد للمشركين. ثم حكى عنهم مقالهم فى شأن لرسول، فتارة يقولون: إنه معلّم، وأخرى يقولون إنه مجنون، ثم أوعدهم بأنه سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى وهو يوم القيامة، ويجازيهم بما قالوا وبما فعلوا ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر. الإيضاح (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي فانتظر يوم يأتى الجدب والمجاعة التي تجعل الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان المنتشر فى الفضاء. ومن خبر هذا ما رواه البخاري عن مسروق قال: إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف، فأصابهم الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان، فأنزل الله تعالى «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ- إلى أَلِيمٌ» فأتوا النبي صلى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله: استسق الله تعالى، فاستسقى لهم فسقوا، فأنزل الله «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ» فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم الأولى فأنزل الله «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» فانتقم الله منهم يوم بدر. (يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يحيط بهم من كل جانب، فيقولون: هذا عذاب مؤلم يقضّ المضاجع وينتهى إلى موت محقق إن دام.

ثم بين أنهم وعدوا الرسول أن يؤمنوا إذا كشف عنهم العذاب كما كان يحدث من قوم فرعون حين نزول الرجز بهم فقال: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي ربنا إنا سنؤمن إن كشفت عنا العذاب، وهذه هى طبيعة البشر إذا هم وقعوا فى شدة أيا كانت أن يعدوا بالتوبة والإقلاع عما هم فيه، ولكن النفوس الشريرة، لاتتجه إلى فعل الخير، ولا تفعل ما تتقرب به إلى ربها، انتظارا لمثوبته، ورجاء فى غفرانه ورحمته. روى أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرحم وواعده إن دعا لهم وزال ما بهم أن يؤمنوا. ثم نفى صدقهم فى الوعد وبين أن غرضهم كشف العذاب فحسب فقال: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ؟) أي كيف يتذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان حين يكشف عنهم العذاب، وقد جاءهم الرسول بما هو كاف فى رجوعهم إلى الحق فلم يرجعوا، بل قال بعضهم: إن القرآن إنما يعلمه له غلام رومىّ لبعض ثقيف، وقال آخرون: إنه أصيب بخبل إذ تلقى إليه الجن هذه الكلمات حين يعرض له الغشي. والخلاصة- إن التوبة إما أن تكون بما ينال الناس من النوائب، وإما أن تكون بما يتضح لهم من الحقائق، وهؤلاء قد اتضحت لهم وجوه الصواب فلم يفقهوا، فأخذناهم بالعذاب، ولكن كيف يرجعون به وقد ذكرناهم بالآيات وأريناهم الحقائق وهى أنجع أثرا من العقاب فلم يؤمنوا وقالوا ما قالوا. ثم نبه إلى أنهم لا يوفون بعهدهم، بل إذا زال الخوف نكصوا على أعقابهم ورجعوا سيرتهم الأولى وعضّوا على الكفر بالنواجذ، وساروا على طريق الآباء والأجداد فقال: (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي إنا رافعو هذا الضر النازل بهم بالخصب الذي نوجده لهم زمنا يسيرا، وإنا لنعلم أنهم عائدون إلى سيرتهم الأولى من

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 إلى 33]

تمسكهم بالكفر وترك الحق وراءهم ظهريا، لما فى طباعهم من الميل إلى عبادة الأوثان وتقليد الآباء والأجداد. ولما كان العذاب الأليم لم يؤثر، والإصلاح بالعلم والإيمان لم يفد، أمهلناهم إلى يوم البطشة الكبرى حيث لا توبة بعدها فينتقم الله منهم، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي إننا يوم القيامة لنسلطنّ عليهم بأسنا، وننتقمنّ منهم أشد الانتقام، ولا يجدنّ شفيعا ولا وليا ولا نصيرا يمنع عنهم عقابنا، فيندمنّ، ولات ساعة مندم. [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فتنا: أي بلونا وامتحنا، كريم: أي جامع لخصال الخير والأفعال المحمودة قاله الراغب، أدّوا إلىّ عباد الله: أي أطلقوا وسلموا، أمين: أي ائتمنه الله على وحيه ورسالته، وأن لا تعلوا على الله: أي لا نستكبروا على الله بالاستهانة بوحيه، بسلطان مبين: أي بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها، عذت بربي وربكم: أي التجأت إليه وتوكلت عليه، أن ترجمون: أي تؤذوني ضربا أو شتما، فاعتزلون: أي كونوا بمعزل منى لا علىّ ولا لى ولا تتعرضوا لى بسوء، مجرمون: أي كافرون، أسر بعبادي: أي سر بهم ليلا، متبعون: أي يتبعكم فرعون وقومه، رهوا: أي ساكنا، يقال عيش راه إذا كان خافضا وادعا، وافعل ذلك سهوا رهوا: أي ساكنا بغير تشدد، قال القطامي فى وصف الرّكاب: يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتّكل مقام كريم: أي مجالس ومنازل حسنة، نعمة: أي حسن ونضرة، قال صاحب الكشاف: النعمة (بالفتح) من التنعم، (وبالكسر) من الإنعام، فاكهين: أي طيبى الأنفس ناعمين، فما بكت عليهم السماء: أي لم تكترث لهلاكهم ولا اعتدّت بوجودهم، وقد جرى الناس أن يقولوا حين هلاك الرجل العظيم الشأن: إنه قد أظلمت الدنيا لفقده، وكسفت الشمس والقمر له- وبكت عليه السماء والأرض كما قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكى عليك نجوم الليل والقمرا منظرين: أي ممهلين ومؤخرين، العذاب المهين: أي الشديد الإهانة والإذلال، عاليا: أي جبارا متكبرا، من المسرفين: أي فى الشر والفساد، اخترناهم: أي اصطفيناهم، على علم: أي عالمين باستحقاقهم ذلك، على العالمين: أي عالمى زمانهم، الآيات: أي المعجزات كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى، بلاء مبين: أي اختبار ظاهر.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر أن مشركى مكة أصروا على كفرهم ولم يؤمنوا برسولهم- أردف هذا بيان أن هؤلاء ليسوا ببدع فى الأمم، فكثير قبلهم كذبوا رسلهم، فهاهم أولاء قوم فرعون قد كان منهم مع موسى مثل ما كان من قومك معك بعد أن أتاهم بالبينات التي كانت تدعو إلى تصديقه، فكذبوه فنصره الله عليهم وأغرق فرعون وقومه وجعلهم مثلا للآخرين. الإيضاح (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي ولقد اختبرنا قبل مشركى قومك- قوم فرعون وهم مثال قومك فى جبروتهم وطغيانهم، وعتوّهم واستكبارهم، فأرسلنا إليهم الرسول الكريم موسى عليه السلام فقال لهم: أيها القوم أرسلوا معى بنى إسرائيل وأطلقوهم من أسركم وتعذيبكم، إنى رسول من الله مأمون على ما أبلغكم غير متّهم فيه. ونحو الآية قوله عز اسمه: «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى» . (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي وأن لا تطغوا وتبغوا على ربكم فتكفروا به وتعصوه فتخالفوا أمره- لأنى آتيكم بحجة واضحة على حقية ما أدعوكم إليه، لمن تأملها وتدبّر فيها. (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أي وإنى ألتجئ إلى الله الذي خلقنى وخلقكم أن لا تصلوا إلىّ بسوء من قول أو فعل. (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي وإن لم تصدقونى فيما جئتكم به من عند

ربكم فخلوا سبيلى ولا ترجمونى باللسان ولا باليد، ودعوا الأمر بينى وبينكم مسالمة إلى أن يقضى الله بيننا.. ولما طال مقامه صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، وأقام حجج الله عليهم، ولم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا دعا عليهم، وإلى ذلك أشار بقوله: (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي فدعا ربه إذ كذبوه ولم يؤمنوا به ولم يؤدوا إليه عباد الله وهموا بقتله: بأن هؤلاء قوم مشركون بك مكذبون لرسلك. ونحو الآية قوله: «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما» . وحينئذ أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم بلا أمر فرعون ولا مشورته، وإلى ذلك أشار بقوله: (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا) أي فسر ببني إسرائيل ومن آمن معك من القبط ليلا. ثم علل السّرى ليلا فقال: (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي إن فرعون وقومه سيتبعونكم إذا علموا بخروجكم، ومسيركم ليلا يؤخر علمهم بذلك، فلا يدركونكم. ونحو الآية قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً. لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى» . (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي وإذا قطعت البحر أنت وأصحابك فاتركه ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته حتى يدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه.

روى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر رجع ليضربه بعصاه حتى يلتئم خوفا من فرعون وجنوده أن يتبعوه، فأمر أن يتركه كما هو حتى يدخلوه. وإنما أخبر موسى بغرقهم ليطمئن قلبه فيترك البحر كما هو. ولما أخبر بغرقهم ذكر ما خلفوه فقال: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ. وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي كم ترك فرعون وقومه بعد مهلكهم من بساتين فيحاء، وحدائق غنّاء، وزروع ناضرة، وقصور شاهقة، فقد كانوا فى بلهنية من العيش، وسعة فى الرزق، وخفض ودعة، وسرور وحبور. ثم أكد هذا بقوله: (كَذلِكَ) أي هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذبوا رسلنا، وهكذا نفعل بكل من عصانا وخالف أمرنا. (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) أي وأورثنا تلك البلاد بما فيها من خير عميم، ونعيم عظيم، قوما غير أهلها ممن لا يمتون إليهم بقرابة ولا دين، فقد تغلب على مصر الآشوريون والبابليون حينا، والحبش حينا آخر، ثم الفرس مدة واليونان أخرى ثم الرومان من بعدهم، ثم العرب ثم الطولونيون والإخشيديون والفاطميون والمماليك البرية والبحرية والترك والفرنسيون والإنكليز. وها نحن أولاء نجاهد لنحظى بخروجهم من ديارنا ونتمكن من استقلال بلادنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . ثم سخر منهم واستهزأ بهم حين هلكوا فقال: (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) كان هؤلاء القوم يستعظمون أنفسهم ويظنون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك على ما جرت به العادة فى مهلك العظيم

أن يقولوا بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح ونحو ذلك. قال يزيد بن مفرّغ: الريح تبكى شجوه ... والبرق يلمع فى غمامه فأخبر سبحانه بأن هؤلاء كانوا دون ذلك فما بكت عليهم سماء ولا أرض. (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي وما أمهلوا لتوبة أو تدارك تقصير، بل عجّل لهم العذاب. ولما بين كيفية إهلاك فرعون وقومه، أردف ذلك ذكر إحسانه إلى موسى وقومه فقال: (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي ولقد خلصناهم بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم بالأعمال الشاقة، إلى نحو ذلك من وسائل الخسف والضيم إذ كان جبارا مستكبرا مسرفا فى الشر والفساد، ولا أدل على ذلك من ادعائه الألوهية، إذ قال أنا ربكم الأعلى. ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً» . وبعد أن بين طريق دفعه للضّر عنهم، أردف ذلك ذكر ما أكرمهم به فقال: (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي ولقد اصطفيناهم على عالمى زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتب وأرسلنا فيهم من الرسل، ونحن عالمون بأنهم أهل لكل مكرمة وفضل. (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي وأعطيناهم من الأمور ذوات الخطر الدالة على كرامتهم عندنا، ما فيه عبرة لمن تأمل فيه، فأنجيناهم من عدوهم، وظللنا عليهم الغمام، وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى، إلى نحو أولئك. (9- مراغى- الخامس والعشرون)

[سورة الدخان (44) : الآيات 34 إلى 37]

قال الحسن وقتادة: البلاء المبين النعمة الظاهرة على نحو ما جاء فى قوله: «وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً» وقوله: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» . [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 37] إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) تفسير المفردات بمنشرين: أي بمبعوثين، يقال نشر الله الموتى وأنشرهم إذا أحياهم، وتبّع: واحد التبابعة، وهم ملوك اليمن، وهذا اللقب أشبه بفرعون لدى قدماء المصريين، وهم طبقتان: الطبقة الأولى ملوك سبإ وريدان من سنة 115 قبل الميلاد إلى 275 بعده. والطبقة الثانية ملوك سبإ وريدان وحضرموت والشّحر من سنة 275 بعد الميلاد إلى سنة 525، وأولهم شمر برعش، وآخرهم ذو نواس ثم ذو جدن، ومنهم ذو القرنين أو إفريقش، ويسمى الصعب. وبعده عمرو زوج بلقيس ثم أبو بكر ابنه ثم ذو نواس، والذين اشتهروا من هؤلاء الملوك ثلاثة شمر برعش وذو القرنين وأسعد أبو كرب. المعنى الجملي عود على بدء- كان الكلام أولا فى كفار قريش، إذ قال فيهم: بل هم فى شك يلعبون، أي إنهم فى شك من البعث والقيامة، ثم بين كيف أصروا على كفرهم، ثم ذكر أن قوم فرعون كانوا فى إصرارهم على الكفر كهؤلاء، وقد أهلكهم الله وأنجى بنى إسرائيل، ثم رجع إلى الحديث الأول، وهو إنكارهم للبعث وقولهم إنه لا حياة بعد هذه الحياة، فإن كنتم صادقين فاسألوا ربكم يعجل لنا إحياء من

الإيضاح

مات حتى يكون ذلك دليلا على صدق دعواكم النبوّة والبعث فى القيامة، ثم توعدهم بأنه سيستنّ بهم سنة من قبلهم من المكذبين، فقد أهلك من هم أقوى منهم بطشا وأكثر جندا، وهم قوم تبع ملوك اليمن من قحطان، فحذار أن تصرّوا على الكفر حتى لا يحيق بكم بأس ربكم. الإيضاح (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي إن هؤلاء المشركين من أهل مكة يقولون: ما ثمّ إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور. ثم خاطبوا من وعدوهم بالنشور، وهم النبي وأصحابه وقالوا لهم: (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان البعث حقا كما تقولون، فعجلوا لنا بإحياء آبائنا الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا إن كنتم صادقين فيما تدّعون. وهذه حجة داحضة، فإن المعاد يوم القيامة بعد انقضاء الدار الدنيا حين يعيد الله العالمين خلقا جديدا، ومن ثم لم يتعرض الكتاب الكريم لردّ ما قالوا، بل قال لهم مهددا متوعدا منذرا بأسه الذي لا يرد: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي إن نظراءهم المشركين المنكرين للبعث كقوم تبع أهلكهم الله وخرّب ديارهم وشرّدهم فى البلاد شذر مذر، وقد كانوا أقوى منهم جندا وأكثر عددا، وكانت لهم دولة وصولة، وهؤلاء ليسوا فى شىء من ذلك- وكذلك فعل بمن قبلهم كعاد وثمود إذ كانوا فى خسران مبين بكفرهم وإنكارهم للبعث والنشور، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» .

[سورة الدخان (44) : الآيات 38 إلى 42]

[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 42] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) تفسير المفردات لاعبين: أي عابثين، بالحق: أي بسبب الحق وهو الإيمان بالله والطاعة له، يوم الفصل: هو يوم القيامة، سمى بذلك لأنه يفصل فيه بين الحق والباطل، ميقاتهم: أي وقت موعدهم، يغنى: أي ينفع، مولى: أي ابن عم أو حليف. الإيضاح (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي وما خلقنا الخلق عبثا بأن نوجدهم ثم نفنيهم بغير امتحان بطاعتنا، واتباع أمرنا ونهينا، وبغير مجازاة للمطيع على طاعته، والعاصي على معصيته، بل خلقناهم لنبتلى من أردنا امتحانه منهم بما شئنا، ولنجزى الذين أساءوا بما عملوا، ونجزى الذين أحسنوا بالحسنى. وقد سبق نحو هذا فى سورة «يونس» وسورة «المؤمنون» حيث قال: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» وفى سورة ص إذ قال: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» . (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالحق، وهو الدلالة بهما على وحدانية الخالق لهما، ووجوب طاعته، والإنابة إليه، لعظمته وجبروته

كما جاء فى الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبى عرفونى» . (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون ذلك، فهم لا يخافون من سخطه عقوبة لهم على ما اجترحوا من السيئات، ولا يرجون ثوابا على خير فعلوه لتكذيبهم بالميعاد والعودة إلى دار أخرى بعد هذه الدار. وخلاصة ما تقدم- إن هؤلاء لقلة تدبرهم لا يعتقدون أن الأمر كذلك، وهم واهمون فيما يظنون، إذ لو لم توجد دار للجزاء لما امتاز مطيع من عاص، ولا محسن من مسىء، والعقل قاض بغير هذا. ثم أكد ما سلف بقوله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إن هذا اليوم الذي يفصل الله فيه بين خلقه، فيحق الحق، ويبطل الباطل، لآت لا محالة وهو وقت حسابهم، وجزائهم على ما كسبت أيديهم من خير أو شر. ونحو الآية قوله: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ» وقوله: «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً» . م وصف أهوال هذا اليوم فقال: (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي إن هذا يوم تنقطع فيه الأسباب بابن آدم فلا تنفع الناس إلا أعمالهم، فمن أصاب خيرا فى دنياه سعد به، ومن أصاب شرا شقى به، ولا يغنى القريب عن القريب، ولا يدفع عنه شيئا من عذاب الله، ولا يجد الناصر الذي يقيه ذلك العذاب. وقصارى ذلك- لا يفيد المؤمن الكافر ولا ينصره ولو كان بينهما فى الدنيا علقة من قرابة أو صداقة أو غيرهما.

[سورة الدخان (44) : الآيات 43 إلى 50]

ونحو الآية قوله: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ» وقوله «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ» . (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) أي لكن من رحمه الله فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه، ولا إلى ناصر ينصره قاله الكسائي. (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي إن الله هو العزيز فى انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه وأهل طاعته. [سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 50] إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) تفسير المفردات شجرة الزقوم: هى شجرة ذات ثمر مرّ تنبت بتهامة، شبهت بها الشجرة التي تنبت فى الجحيم، والأثيم: أي الكثير الآثام والذنوب وهو الكافر، والمهل: دردىء الزيت، والجميم: الماء الذي تناهى حره، والعتل أن تأخذ بمنكبي الرجل فتجره إليك وتذهب به إلى حبس أو محنة. وقال ابن السكيت: عتلته إلى السجن وأعتلته إذا دفعته دفعا عنيفا، وسواء الجحيم: وسطها. الإيضاح (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ) أي إن الزقوم وهو ثمر هذه الشجرة التي فى الجحيم- طعام للكافر كثير الذنوب والآثام.

(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي وهذا الطعام الذي يشبه دردىء الزيت الأسود- يغلى فى بطون الكفار ويكون كالماء الحار إذا اشتد غليانه. (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي ويقال للزبانية «خدم جهنم» خذوا هذا المجرم فادفعوه دفعا إلى وسط جهنم، لينال قسطه من عذابها. (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) أي وبعد أن تدخلوه فيها صبّوا فوق رأسه من الماء الساخن الذي ذكرنا صفته. ونحو الآية قوله تعالى: «يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ» . ثم ذكر ما يقال له آنئذ تقريعا وتهكما. (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي ذق هذا الذل والهوان اليوم، فإنك كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم، وها هو ذا قد تبين لك أنك أنت الذليل المهين، فأين ما كنت تقول وتدعى من العز والكرامة؟ فهلا تمتنع من العذاب بعزتك. أخرج الأموى فى مغازيه عن عكرمة قال: لفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا جهل فقال له: إن الله أمرنى أن أقول لك: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، فنزع يده من يده وقال بأى شىء تهددنى، ما تستطيع أنت ولا صاحبك أن تفعلا بي شيئا، إنى لمن أعز هذا الوادي وأكرمه، لقد علمت أنى أمنع أهل بطحاء على قومه، فقتله الله يوم بدر وأذله، وعيّره بكلمته، فأنزل «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» . (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي إن هذا العذاب. الذي تعذبون به هو العذاب الذي كنتم تشكّون فيه فى الدنيا، فتختصمون فيه، ولا توقنون به، فقد لقيتموه فذوقوه. ونحو الآية قوله تعالى «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» .

[سورة الدخان (44) : الآيات 51 إلى 59]

[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) تفسير المفردات فى مقام أمين: أي فى مجلس أمنوا فيه من كل همّ وحزن، سندس: أي ديباج رقيق، إستبرق: أي حرير فيه بريق ولمعان، زوّجناهم: أي قرناهم، بحور عين: أي بجوار بيض حسان واسعات العيون، يدعون: أي يطلبون، وقاهم: أي حفظهم ارتقب: أي انتظر. المعنى الجملي بعد أن ذكر وعيد الكافرين وما يرونه من الأهوال فى ذلك اليوم- أعقب هذا بوعد المتقين بما يلاقونه فى جنات النعيم من ضروب التكريم فى الملبس والزوجات والمآكل، ثم ببيان أن هذا النعيم أبدىّ خالد لا يعقبه موت ولا تحوّل ولا انتقال، ثم ختم السورة بالمنة على العرب فى نزول القرآن بلغتهم لعلهم يعتبرون ويتعظون به، ثم توعدهم إذا هم كذبوا بما جاء به الرسول بحلول النقمة بهم، والنصر له عليهم، كما هى سنته فى أمثالهم من المكذبين «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» .

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي إن المتقين لله فى الدنيا الخائفين عقابه، المنتظرين فضله وثوابه- يكونون فى الآخرة فى مجالس يأمنون فيها من الموت ومن كل ما يحزنهم ويصيبهم من الآفات والآلام. وقد ذكر سبحانه من ضروب نعيمهم خمسة ألوان: (1) مساكنهم كما قال «فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» والمسكن يطيب بأمرين: (ا) أن يكون من فيه آمنا من جميع ما يخافه ويحذر منه، وهو المقام الأمين. (ب) أن يكون فيه أسباب النزهة من الجنات والعيون، وذلك قوله: ِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» . (2) ملابسهم، وهى التي عناها سبحانه بقوله: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) وقد تقدم بسط الكلام فى ذلك فى سورة الكهف. (3) استئناس بعضهم ببعض بجلوسهم على جهة التقابل، وهو ما أشار إليه بقوله: (مُتَقابِلِينَ) أي ينظر بعضهم إلى بعض، وهو أتمّ للأنس. (4) الأزواج كما قال: (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي وهذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور العين اللاتي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ. (5) المأكول كما قال: (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي يطلبون ما يشتهون من أنواع الفاكهة، وهم آمنون من انقطاعها، ومن غائلة أذاها ومكروهها، فهى ليست كفاكهة الدنيا التي نأكلها ونخاف مكروه عاقبتها، أو نخاف نفادها فى بعض الأحايين.

وبعد أن وصف ما هم فيه من نعيم مقيم، بيّن أن حياتهم فى هذا النعيم دائمة لا يلحقها موت ولا فناء فقال: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أي لا يخشون فى الجنة موتا ولا فناء أبدا. وقد ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يؤتى بالموت فى صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» وقد تقدم هذا فى سورة مريم. وروى أبو هريرة وأبو سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا» رواه مسلم. وخلاصة ذلك- لا يذوقون فيها الموت، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها فى الدنيا كذا قال الزجاج والفرّاء. (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وهم مع هذا النعيم قد نجاهم من العذاب الأليم، فى دركات الجحيم، فأعطاهم ما يطلبون، ونجاهم مما يهزبون. (فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ) أي نجاهم من ذلك تفضلا منه وإحسانا. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الذي أعطيناه هؤلاء المتقين من الكرامة، هو الفوز العظيم بما كانوا يطلبون إدراكه فى الدنيا، بأعمالهم، وطاعتهم لربهم، واتقائهم إياه، فيما امتحنهم به من الطاعات، واجتنابهم للمحرمات. ولما أتمّ المقاصد التي أراد ذكرها فى هذه السورة لخصها بقوله: (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إنما سهلنا إليك قراءة القرآن الذي أنزلناه إليك بلسانك، ليتذكر به قومك ويتعظوا بعظاته، ويتفكروا فى آياته إذا تلوتها عليهم، فينيبوا إلى ربهم، ويذعنوا للحق الذي تبيّنوه. ولما كان القرآن مع هذا الوضوح والبيان قد خالف فيه بعض الناس وعاند، قال تعالى مسليّا رسوله وواعدا له بالنصر، ومتوعدا من كذبه بالهلاك.

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي فانتظر فإنهم منتظرون، وسيعلمون لمن تكون النصرة والغلبة، والظفر وعلوّ الكلمة فى الدنيا والآخرة- ولا شك أن النصر سيكون لك كما كان لإخوانك من النبيين والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» . وقصارى ذلك- ارتقب النصرة من ربك، إن المشركين مرتقبون بك ما يتمنونه من الغوائل، وما يتربصونه بك من الدوائر، ولن يضيرك ذلك بفضل ربك عليك، وسيتم نصرك، ويفلج حجتك، ويعلى كلمتك. اللهم يا من بيدك الخير، وأنت على كل شىء قدير، وفقنا لإتمام تفسير كتابك، واجعله لنا نورا يوم العرض والحساب. خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد (1) بيان بدء نزول القرآن. (2) وعيد الكافرين بحلول الجدب والقحط بهم. (3) عدم إيمانهم مع توالى النكبات بهم. (4) عظة الكافرين بقصص فرعون وقومه مع موسى عليه السلام، وقد أنجى الله المؤمنين، وأهلك الكافرين. (5) إنكار المشركين للبعث وقولهم: إن هى إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (6) إقامة الدليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم. (7) وصف أهوال يوم القيامة. (8) وصف ما يلاقيه المجرمون من النكال والوبال. (9) وصف نعيم المتقين وحصولهم على كل ما يرغبون.

سورة الجاثية

سورة الجاثية هى مكية إلا الآية الثامنة فمدنية. وعدة آيها سبع وثلاثون، نزلت بعد سورة الدخان. ومناسبتها لما قبلها: أن أول هذه مشاكل لآخر سابقتها فى الأغراض والمقاصد. [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تفسير المفردات لآيات: أي لعبرا، يبث: أي يفرق وينشر، اختلاف الليل والنهار: أي تعاقبهما ليل بعد نهار ونهار بعد ليل، من رزق. أي من مطر، وسمى بذلك لأنه سبب له، وتصريف الرياح: أي تغييرها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال. الإيضاح (حم) قد عرفت الكلام فى أمثالها من قبل. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي إن هذا الكتاب الكريم

أنزله العزيز الغالب القاهر لكل شىء، الحكيم فى تدبيره لكل ما خلق، فهو سبحانه مع قهره للعوالم المادية والروحية، لا يتصرف إلا بالحكمة كما يشاهد فى النبات والحيوان والأجسام الإنسانية ودوران الكواكب وانتظامها فى سيرها، فكل ذلك من القهر والغلبة لها مع الحكمة فى صنعها، ومن ثم أعقب ذلك بنتائج العزة والحكمة فقال: (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن فى السموات السبع اللاتي منهن ينزل الغيث، وفى الأرض التي منها يخرج الخلق- لأدلة واضحة للمصدقين بالحجج إذا تأملوها وفكروا فيها تفكير من يسلك السبيل القويم، فيرتب المقدمات، ليصل منها إلى النتائج، التي هى لازمة لها بحكم النظام الفكرى، والترتيب العقلي. وبعد أن ذكر الأدلة الكونية التي فى الآفاق أتبعها بذكر الأدلة التي فى الأنفس فقال: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي وإن فى خلق الله إياكم على أطوار مختلفة من تراب ثم من نطفة إلى أن تصيروا أناسىّ، وفى خلق ما تفرق فى الكون من الدواب- لحججا لقوم يوقنون بحقائق الأشياء فيقررونها بعد العلم بصحتها. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي وإن فى تعاقب الليل والنهار عليكم، هذا بظلمته وسواده، وذاك بنوره وضيائه، وفيما أنزل الله من السماء من مطر تحيا به الأرض بعد موتها، فتهتز بالنبات والزرع من بعد جدوبها وقحوطها، فتخرج أرزاق العباد وأقواتهم، وفى تصريف الرياح لمنافعكم شمالية مرة وجنوبية أخرى، صبا مرة، ودبورا أخرى- لأدلة وحججا لله على خلقه الذين يعقلون عنه حججه ويفهمون ما وعظهم به من الآيات والعبر.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 6 إلى 11]

وقصارى ما سلف- إنكم إذا تأملتم الحكم المنبثة فى السموات والأرض آمنتم بوحدة خالقها وقدرته، فإذا ازددتم علما، ازداد تثبتكم وفهمكم، فصرتم موقنين بها لأن الإيقان يكون بتوافر الأدلة وتكاثرها، ومتى أيقنتم بجمال هذا الكون وحسن نظامه أصبحتم من ذوى العقول الناضجة، والأفكار النافذة فى أسرار هذا الكون وبديع صنعه، فتستطيعون أن تنتفعوا بما فيه وتسخروه لمنافعكم فى هذه الحياة المليئة بالمطالب. وإجمال ذلك- إن أول المراتب الإيمان بالله، فإذا ازداد المرء علما وحكمة وبحثا فى دقائق الأشياء وعظائمها أصبح موقنا به، وكلما ازداد بحثا ازداد عقله دراية وفهما لأسرار هذا الكون، فسخره لمنافعه، واستفاد من نظمه التي وجد عليها وعرف أنه لم يخلق عبثا، بل خلق للانتفاع بما فى ظاهره وباطنه، علويّه وسفليه، أرضه وسمائه، نوره وظلامه، فكأنه يقول: إنا أمرناكم بالنظر فى العالم لتؤمنوا، فإذا ازددتم علما أيقنتم بي، وذلك كله مما يربى عقولكم، ويكملها إلى أقصى حدود طاقتها البشرية. [سورة الجاثية (45) : الآيات 6 الى 11] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأفاك: كثير الإفك والكذب، والأثيم: كثير الإثم والمعاصي، والإصرار على الشيء: ملازمته، من ورائهم: أي من بعد آجالهم، يغنى: أي يدفع، أولياء: أي أصناما، والرجز: أشد العذاب. المعنى الجملي بعد أن ذكر آيات القرآن العظيم- أشار إلى ما لها من علوّ المرتبة، ورفيع الدرجة ثم أوعد من كذبوا بها بعد سماعها، وأصروا على كفرهم بها- بالويل والثبور، وعظائم الأمور، ثم بين أن عاقبتهم النار، وبئس القرار، ولا تنفعهم أصنامهم شيئا، ولا تدفع عنهم ما قدّر لهم من العذاب. الإيضاح (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي هذه آيات القرآن بما فيها من حجج وبينات، نتلوها عليك متضمنة للحق. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ؟) أي فبأى حديث أيها القوم بعد حديث الله الذي يتلوه على رسوله، وبعد حججه وبرهاناته التي دلكم بها على وحدانيته- تصدقون إن كذبتم به. والخلاصة- إذا كنتم لا تؤمنون بهذه الآيات ولا تنقادون لها، فبم تؤمنون؟ وإلام تنقادون؟ وبعد أن بين للكفار آياته، وذكر أنهم إن لم يؤمنوا بها فبأى حديث بعدها يؤمنون؟ أتبعه بالوعيد العظيم لهم فقال:

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي فالويل أشد الويل، والعذاب أقسى العذاب، لكل كذاب فى قوله، أثيم فى فعله. وبعد أن وصف هذا الأفاك بالإثم أولا، أتبعه بوصفه بالاستكبار عن سماع الآيات فقال: (يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي إذا سمع آيات الله تقرأ عليه، وهى مشتملة على الوعد والوعيد، والإنذار والتبشير، والأمر والنهى، والحكم والآداب، أصرّ على الكفر بها، وجحدها عنادا كأنه ما سمعها. ثم أوعده على ما فعل عذابا أليما فى نار جهنم فقال: (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فبشره أيها الرسول بالعذاب المؤلم الموجع فى جهنم وبئس القرار. وفى تسمية هذا الخبر المحزن بشرى، وهى لا تكون إلا فى الأمر السار- تهكم بهم، واحتقار لشأنهم، فهو من وادي قوله للكافر «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» وقول الشاعر: تحية بينهم ضرب وجيع نزلت الآية فى النضر بن الحارث وكان يشترى أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، وهى عامة فى كل من كان صادّا عن الدين مستكبرا عن اتباع هدايته. (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) أي وإذا وصل إليه خبرها، وبلغه شىء منها، جعلها هزوا وسخرية، فقد روى أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» دعا بتمر وزبد وقال لأصحابه: تزقّموا من هذا، ما يعدكم محمد إلا شهدا، وحين سمع قوله «عليها تسعة عشر» أي على النار قال: إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 إلى 15]

ثم ذكر ما يصيب هؤلاء من العذاب فقال: (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي أولئك الأفاكون المتصفون بتلك الصفات لهم العذاب الذي يهينهم ويذلهم فى نار جهنم بما كانوا فى الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته واتخاذها هزوا. (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر جهنم، والمراد أنها من قدامهم، لأنهم متوجهون إليها. (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) أي ولا يدفع العذاب عنهم ما كسبوا من الأموال والأولاد. (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تغنى عنهم أصنامهم التي عبدوها من دون الله شيئا. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولهم من الله يومئذ عذاب عظيم لا يقدر قدره. (هذا هُدىً) أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أيها الرسول هاد إلى الحق وإلى صراط مستقيم لمن اتبعه وعمل بما فيه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي والذين جحدوا بآياته الكونية فى الأنفس والآفاق وآياته المنزلة على ألسنة رسله لهم العذاب المؤلم الموجع يوم القيامة. [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

تفسير المفردات

تفسير المفردات سخر: هيأ، الفلك: السفينة، والابتغاء: الطلب، يغفر: أي يعفو ويصفح، لا يرجون: أي لا يتوقعون حصولها، وأيام الله: وقائعه بأعداء دينه كما يقال لوقائع العرب أيام العرب، والقوم هم المؤمنون الغافرون. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف الحجج الدالة على ربوبيته ووحدانيته- أردف ذلك ذكر آثارها، فمن ذلك تسخير السفن فى البحار حاملة للأقوات والمتاجر رجاء أن تشكروا ما أنعم به عليكم، ومنها تسخيره ما فى السموات والأرض من شموس وأقمار وبحار وجبال، لتنتفعوا بها فى مرافقكم وشئونكم المعيشية. ثم أمر المؤمنين بأحاسن الأخلاق، فطلب إليهم أن يصفحوا عن الكافرين ويحتملوا أذاهم، وعند الله جزاؤهم، فمن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها، ويوم القيامة يعرضون على ربهم ويجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر. الإيضاح (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي إن ذلك الخالق الواحد الذي أقمت لكم الأدلة على وجوده- هو الذي يسّر لكم استخدام البحر لتجرى فيه السفن بإذنه وقدرته، حاملة أقواتكم ومتاجركم، لتقوم بشئونكم المعيشية، ولتطلبوا رزق ربكم منه بالغوص للدرّ تارة والصيد تارة أخرى،

ولتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم، فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه. (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي وسخر لكم جميع ما خلقه فى سمواته وأرضه مما تتعلق به مصالحكم، وتقوم به معايشكم، فمما سخر لكم من المخلوقات السماوية الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، ومن المخلوقات الأرضية الدواب والأشجار والجبال والسفن رحمة منه وفضلا، وكل هذه أدلة على أنه الله الذي لا إله غيره، لمن تأمل فيها واعتبر بها وتدبرها حق التدبر. والخلاصة- إن العالم كله كأنه جسم واحد يحتاج كل جزء منه إلى الأجزاء الباقية، فلا يستقيم مطر بلا حرارة شمس، ولا تسير سفن إلا بهواء أو فحم أو كهرباء وما شاكل ذلك، فالعالم كله كساعة منتظمة لا يستقيم سيرها إلا إذا استكملت آلاتها وعددها. وعن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق فقال من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب، قال فمم خلق هؤلاء؟ قال لا أدرى، ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق؟ فقال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال مم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» فقال الرجل ما كان ليأتى بهذا إلا رجل من أهل بيت النبوة. ولما علّم سبحانه عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة- أردفه تعليمهم فضائل الأخلاق فقال: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) أي قل للذين صدقوا الله ورسوله: اعفوا واصفحوا عن هؤلاء المشركين الذين لا يخافون بأس الله ونقمته، إذا نالكم منهم أذى ومكروه قاله مجاهد.

روى الواحدي والقشيري عن ابن عباس أن الآية نزلت فى عمر بن الخطاب مع عبد الله بن أبىّ فى غزوة بنى المصطلق، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها المريسيع، فأرسل عبد الله غلامه ليستقى فأبطأ عليه، فقال ما حبسك؟ قال غلام عمر قعد على فم البئر، فما ترك أحدا يستقى حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبى بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل «سمّن كلبك يأكلك» فبلغ عمر قوله، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله، فأنزل الله هذه الآية: وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس سببا آخر قال: لما نزل قوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» قال يهودى بالمدينة يسمى فنحاصا، احتاج رب محمد. قال فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج فى طلبه، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربك يقول لك: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلب عمر فلما جاء قال: (يا عمر ضع سيفك) قال يا رسول الله صدقت. أشهد إنك أرسلت بالحق، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية. فقال عمر: لا جرم والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب فى وجهى. ثم علل الأمر بالمغفرة فقال: (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليجزى الله تعالى يوم القيامة قوما بما كسبوا فى الدنيا من أعمال طيبة، من جملتها الصبر على أذى الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه- ما لا يحيط به الوصف من الثواب العظيم فى جنات النعيم. ولما رغب سبحانه ورهّب وقرر أنه لا بد من الجزاء- أبان أن النفع والضر لا يعدو المحسن والمسيء فقال: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من عمل من عباد الله بطاعته، فانتهى إلى أمره وازدجر عن نهيه- فلنفسه عمل، ولها طلب الخلاص من عذابه،

[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 إلى 20]

والله غنى عن كل عامل، ومن أساء عمله فى الدنيا بمعصية ربه فعلى نفسه جنى، ولها اكتسب الضر. ثم بين وقت الجزاء فقال: (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي ثم تصيرون إلى ربكم حين العرض للحساب، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 20] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) تفسير المفردات الكتاب: المراد به الكتب التي نزلت على أنبيائهم، الحكم: الفصل بين الناس فى الخصومات، لأنهم كانوا ملوكا، بينات من الأمر: أي دلائل واضحات فى أمر الدين، ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام، بغيا: أي حسدا وعنادا، على شريعة من الأمر: أي على طريقة ومنهاج فى أمر الدين. وأصل الشريعة مورد

المعنى الجملي

الماء فى الأنهار ونحوها، وشريعة الدين يرد منها الناس إلى رحمة الله والقرب منه، بصائر للناس: أي معالم للدين بمنزلة البصائر فى القلوب. المعنى الجملي اعلم أن الله سبحانه بين أنه أنعم على بنى إسرائيل بنعم كثيرة، وقد حصل بينهم الاختلاف بغيا وحسدا، وجاء ذكر هذا تسلية لرسوله بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم، بل طريقهم طريق من تقدمهم، ثم أمر رسوله بأن يتمسك بالحق، ولا يكون له غرض سوى إظهاره، ولا يتبع أهواء الجاهلين الضالين، ثم ذكر أن القرآن معالم للهداية تهتدى بها القلوب الضالة عن طريق الحق، فتلزم الجادّة وتصل إلى طريق النجاة. الإيضاح (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) امتنّ سبحانه على بنى إسرائيل بما أنعم به عليهم من وافر النعم الدينية والدنيوية وذكر من ذلك: (1) إنزال التوراة على موسى فيها معالم للهدى وشرائع للناس تهديهم إلى سواء السبيل. (2) إرسال الرسل، فكثر فيهم الأنبياء بما لم يكن لأمة مثله. (3) القضاء بين الناس والفصل فى خصوماتهم، إذ كان الملك فيهم، فاجتمع لهم حكم الدين وحكم الدنيا. (4) إيتاؤهم طيبات الأرزاق، فكانوا ذوى ترف ونعيم فى معايشهم، وكان

منهم الملوك ذوو الحظ الأوفر من العظمة والفضل وسعة الجاه والأمر والنهى وبسطة العيش كداود وسليمان عليهما السلام. (5) تفضيلهم على الناس جميعا، إذ لم يكن فى أمة أنبياء كما كان فيهم، ولم يجمع الله بين الملك والنبوة فى شعب كما اجتمع فيهم، فهم أرفع الشعوب منقبة. قال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحب إليه منهم اه. وقد آتاهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثر فيهم من الأنبياء بما لم يفعله بغيرهم ممن سبق. (6) إيتاؤهم أحكاما ومواعظ مؤيدة بالمعجزات، وقد كان هذا مما يستدعى ألفتهم واجتماعهم، وكانوا كذلك لا يختلفون إلا اختلافا يسيرا لا يضر مثله، فلما جاءهم العلم اختلفوا كما أشار إلى ذلك بقوله: (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي فما حدث فيهم هذا الخلاف إلا بعد قيام الحجة طلبا للرياسة وحسدا فيما بينهم، وقد سبق تفصيله فى سورة حم عسق. ثم وكل سبحانه أمر المختلفين إليه للقضاء بينهم يوم القيامة فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك سبحانه يقضى بين المختلفين من بنى إسرائيل بغيا وحسدا فيما كانوا فيه يختلفون فى الدنيا بعد العلم الذي آتاهم، والبيان الذي جاءهم منه، ويجعل الفلج للمحقّ على المبطل، والمقصد من هذا أنه لا ينبغى أن يغترّ المبطل بنعم الدنيا، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها، فهو سيرى فى الآخرة ما يسوءه. وفى هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم، وأن تسير على نهجهم. ولما بين أنهم أعرضوا عن الحق بغيا وحسدا- أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعدل عن هذه الطريقة وأن يستمسك بالحق فقال:

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي ثم جعلناك بعد بنى إسرائيل الذين وصفت لك صفتهم- على نهج خاص من أمر الدين، فاتبع ما أوحى إليك، ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون الذين لا يعلمون توحيد الله ولا شرائعه لعباده وهم كفار قريش ومن وافقهم فتهلك. ثم علل النهى عن اتباع أهوائهم فقال: (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي إن هؤلاء الجاهلين بربهم لا يدفعون عنك شيئا مما أراده بك إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعته. ثم بين أولياء الكافرين وأولياء المؤمنين فقال: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي وإن الكافرين ليتولى بعضهم شئون بعض فى الدنيا، أما فى الآخرة فلا ولىّ ولا شفيع ولا نصير يجلب لهم ثوابا ولا يدفع عنهم عقابا. (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي والمتقون المهتدون وليهم الله وهو ناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور، والكافرون أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، فما أبعد الفرق بين الولايتين: شتان ما يومى على كورها ... ويوم حيّان أخى جابر وقصارى ما سلف- دم على ما أنت عليه من اعتمادك على ولاية ربك ونصرته، وأعرض عما سواه. ثم بين فضل القرآن وذكر ما يجلبه التمسك بحبله المتين فقال: (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي هذا القرآن دلائل للناس فيما يحتاجون إليه من أمر الدين، وبينات تبصّرهم وجه الفلاح، وتعرّفهم سبيل الهدى، وهو هدى ورحمة لقوم يوقنون بصحته، وهو تنزيل من رب العالمين. وإنما خص الموقنين بأنه لهم هدى ورحمة، لأنهم هم الذين ينتفعون بما فيه دون من كذّب به من أهل الكفر فإنه عليهم عمى.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 إلى 23]

[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 الى 23] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) تفسير المفردات الاجتراح: الاكتساب، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدى، والمراد بالسيئات: سيئات الكفر والإشراك بالله. المعنى الجملي بعد أن ذكر الفارق بين الكافرين والمؤمنين فى الولاية، فأبان أن الأولين بعضهم أولياء بعض، وأن الآخرين وليهم الله- أردف ذلك ذكر الفارق بينهم فى المحيا والممات، فالمحسنون مرحومون فى الحالين، ومجترحو السيئات مرحومون فى الدنيا فحسب، ثم ذكر الدليل على هذا بأن الله ما خلق الخلق إلا بالحق المقتضى للعدل والانتصاف للمظلوم من الظالم، والتفاوت بين المحسن والمسيء فى الجزاء، وإذا لم يكن هذا فى المحيا كان فى دار الجزاء حتما، لتجزى كل نفس بما كسبت، فلا تظلم بنقص ثواب أو بمضاعفة عقاب. ثم عجّب سبحانه ممن ركب رأسه واتبع هواه وترك الهدى وأضله الله وهو العليم باستعداده وخبث طويته، وأنه ممن يميل إلى تدسية نفسه واجتراح الآثام والمعاصي،

الإيضاح

فهو ممن ختم الله على سمعه وقلبه، فلا يتأثر بعظة، ولا يفكر فى آية، وجعل على بصره غشاوة مانعة من الاستبصار والاعتبار، فمن بعد الله يهديه؟ أفلا تتذكرون وتتفكرون فى هذا؟ روى الكلبي فى تفسيره أن عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا لعلى وحمزة وجمع من المؤمنين: ولله ما أنتم على شىء، ولو كان ما تقولونه حقا، لكان حالنا أفضل من حالكم فى الآخرة كما هو أفضل فى الدنيا، فنزلت الآية «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ» إلخ. الإيضاح (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أي أيظن هؤلاء الذين اكتسبوا الإثم والمعاصي فى الدنيا، فكفروا بالله وكذبوا الرسل، وخالفوا أمره، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين آمنوا به وصدقوا رسله، فنساوى بينهم فى دار الدنيا وفى الآخرة- كلا لا يستوون فى شىء منهما، فإن أهل السعادة فى عز الإيمان والطاعة وشرفهما فى المحيا، وفى رحمة الله ورضوانه فى الممات، وأهل الشقاء فى ذلك الكفر والمعاصي وهوانهما فى المحيا، وفى لعنة الله والعذاب الخالد فى الممات، فشتان ما بينهما وما أبعد ما بين الثريا والثرى. ونحو الآية قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» وقوله: «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء ما ظنوا وبعد أن نساوى بين الأبرار والفجار فى الدار الآخرة وفى هذه الدار. وفى الآية إرشاد إلى تباين حالى المؤمن العاصي والمؤمن الطائع. وقد أثر عن كثير من الناسكين المخبتين لربهم أنهم كانوا يبكون عند تلاوة هذه الآية حتى سموها مبكاة العابدين.

أخرج عبد الله بن أحمد فى زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبى الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ» الآية لم يزل يكررها ويبكى حتى أصبح وهو عند المقام. وأخرج ابن أبى شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلى فمرّ بهذه الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) فلم يزل يردّدها حتى أصبح. وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعرى من أي الفريقين أنت؟. ثم أقام الدليل على عدم التساوي وأبان حكمة ذلك فقال: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي لم يخلق الله السموات والأرض للجور والظلم، بل خلقهما للحق والعدل، ومن العدل أن يخالف بين المحسن والمسيء فى العاجل والآجل. (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وليثيب كل عامل بما هو له أهل، فلا يبخس المحسن ثواب إحسانه، أو يحمل عليه جرم غيره فيعاقبه به، أو يجعل للمسىء ثواب إحسان غيره. والخلاصة- كل عامل يجزى بما كسبت يداه، ولا يظلم بنقص ثواب، ولا بتضعيف عقاب. ثم بين أحوال الكافرين وذكر جناياتهم على أنفسهم فقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ؟) أي انظر واعجب من حال من ركب رأسه، وترك الهدى، وأطاع الهوى، فكأنه جعله إلها يعبده من دون الله، فهو لا يهوى شيئا إلا فعله، لا يخاف ربا ولا يخشى عقابا، ولا يفكر فى عاقبة ما يعمل. وفى هذا إيماء إلى ذم اتباع هوى النفس، ومن ثم قال وهب بن منبّه: إذا شككت فى خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته. وقال سهل التّسترى: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك، وقال الإشبيلى الزاهد:

فخالف هواها واعصها إنّ من يطع ... هوى نفسه ينزع به شرّ منزع ومن يطع النفس اللجوجة تزده ... وترم به فى مصرع أىّ مصرع وقال البوصيرى فى بردته: وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإن هما محّضاك النصح فاتّهم وقال ابن عباس: ما ذكر الله هوى فى القرآن إلا ذمّه، قال تعالى «وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ» وقال: «وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» وقال «وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» وقال أبو أمامة: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى» وروى شدّاد بن أوس عن النبي صلّى الله عليه وسلم «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» وعنه أنه قال «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فالمهلكات شحّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات خشية الله فى السر والعلن، والقصد فى الغنى والفقر، والعدل فى الرضا والغضب» . وحسبك ذمّا لاتباع الهوى قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» . (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) أي خذله فلم يجعله يسلك سبيل الرشاد، لأنه قد علم أنه لا يهتدى ولو جاءته كل آية، لما فى جوهر نفسه من الميل إلى ارتكاب الإجرام، واتباع الشهوات، فهو يوغل فى القبائح دون زاجر ولا وازع.

(وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) أي وقد طبع على سمعه، فلا يتأثر بالآيات تتلى عليه ليعتبر بها، ولا يتدبرها ليعقل ما فيها من النور والهدى. (وَقَلْبِهِ) أي وختم على قلبه، فلا يعى حقّا، ولا يسترشد إلى صواب. (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) تمنعه أن يبصر حجج الله وآياته فى الآفاق والأنفس، فيستدل بها على وحدانيته ويعلم بها أن لا إله غيره. قال مقاتل: نزلت فى أبى جهل. ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد ابن المغيرة، فتحدثا فى شأن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إنى لأعلم أنه صادق، فقال له مه، وما دلك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميه فى صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن، والله إنى لأعلم أنه صادق، قال فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عنى بنات قريش أنى اتبعت يتيم أبى طالب من أجل كسرة، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا فنزلت «وختم على سمعه وقلبه» . ونحو الآية قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» . ثم ذكر أن مثل هذا لا أمل فى هدايته فقال: (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي فمن يوفقه لإصابة الحق، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه، أي لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك، أفلا تتذكرون أيها القوم فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا، فلن يهتدى أبدا، ولن يجد لنفسه وليا ولا مرشدا.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 24 إلى 26]

[سورة الجاثية (45) : الآيات 24 الى 26] وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين قد اتخذوا إلاههم هواهم، وأن الله قد أضلهم على علم بحالهم، وأنه ختم على سمعهم وقلبهم وجعل على بصرهم غشاوة- ذكر هنا جناية أخرى من جناياتهم، وحماقة من حماقاتهم، تلك أنهم أنكروا البعث وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وما ذلك منهم إلا ظنون وأوهام لا مستند لها من نقل ولا عقل، ولم يجدوا حجة يقولونها إلا أن قالوا: إن كان ما تقوله حقا فارجعوا آباءنا الموتى إلى الحياة، فأمر الله رسوله أن يجيبهم بأنه هو الذي يحهيهم ثم يميتهم، ثم يجمعهم فى يوم لا شك فيه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة ذلك. الإيضاح (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي وقال المشركون الذين سبق ذكر بعض أوصافهم: لا حياة بعد هذه الحياة التي نحن نعيش فيها، فنموت نحن وتحيا أبناؤنا من بعدنا- وهذا تكذيب صريح منهم للبعث والمعاد. وقصارى ذلك- ما ثمّ إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وليس هناك بعث ولا قيامة.

(وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي وما يفنينا إلا مرّ الليالى والأيام، فمرورها هو المؤثر فى هلاك الأنفس، ويضيفون كل حادث إلى الدهر وأشعارهم ناطقة بذلك قال: أشاب الصغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشى وقد كان العرب فى جاهليتهم إذا أصابتهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر، وقد جاء النهى عن سبّ الدهر، فجاء فى الحديث القدسي «يقول الله عز وجل: يؤذينى ابن آدم، يسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار» . وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «يقول الله تعالى: استقرضت عبدى فلم يعطنى، وسبّنى عبدى يقول وا دهراه وأنا الدهر» . قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة فى تفسير قوله صلّى الله عليه وسلم «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» كان العرب فى الجاهلية إذا أصيبوا بشدة أو بلاء قالوا يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله، فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل، لأنه فاعل ذلك فى الحقيقة، فلذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال. ثم نعي عليهم مقالهم هذا الذي لا دليل عليه فقال: (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي وما لهم بقصر الحياة على حياة الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر- علم يستند إلى عقل أو نقل، وقصارى أمرهم الظن والتخمين من غير أن يكون لهم ما يتمسكون به من حجة نافذة. وفى الآية إشارة إلى أن القول بغير بينة ولا حجة- لا ينبغى أن يعوّل عليه، وأن اتباع الظن منكر عند الله. ثم ذكر شبهتهم على إنكار البعث فقال: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ

صادِقِينَ) أي وإذا تلى على هؤلاء المشركين الذين سبق القول فى جرائمهم- آيات الكتاب الدالة على أن البعث حق، وأن الله سيعيد الخلق يوم القيامة وينشئه نشأة أخرى- لم يكن لهم من حجة فى دحض هذا إلا أن قالوا إن كان ما تقولونه حقّا فأنشروا لنا آباءنا الأولين وابعثوهم من قبورهم أحياء حتى نعتقد صحة ما تقولون. وهذا قول آفن وكلام لا ينبغى أن يصدر من عاقل، فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء فى الحال كإعادة آبائهم التي طلبوها فى الدنيا- امتناعه فيما بعد إذا قامت القيامة وبعث الله الموتى من قبورهم للعرض والحساب. وتسمية كلامهم الزائف حجة- ضرب من التهكم بهم على نحو قوله: تحية بيّنهم ضرب وجيع ثم أمر سبحانه رسوله أن يرد عليهم فقال: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي قل لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث: الله يحييكم ما شاء أن يحييكم فى الدنيا، ثم يميتكم فيها متى شاء، ثم يجمعكم جميعا أولكم وآخركم صغيركم وكبيركم يوم القيامة. ثم أكد ذلك بقوله: (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ريب فى هذا الجمع والبعث، فإن من قدر على البدء قد على الإعادة، والحكمة قاضية بذلك، لتجزى كل نفس بما كسبت، والأديان جميعا متضافرة على تحققه وحصوله يوم القيامة. وقصارى ما سلف- إن البعث أمر ممكن أخبر به الأنبياء الصادقون، والحكمة تقتضى حصوله والعقل يؤيده، فهو واقع لا محالة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر الناس ينكرون البعث ويستبعدون عودة الأجساد بعد موتها وحين تكون عظاما نخرة كما قال:

[سورة الجاثية (45) : الآيات 27 إلى 29]

«إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» أي يرون وقوعه بعيدا والمؤمنون يرونه قريبا، وما دعاهم إلى ذلك إلا جهلهم وقصر نظرهم، لا لأن فيه شائبة ريب. [سورة الجاثية (45) : الآيات 27 الى 29] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) تفسير المفردات جاثية: أي باركة على الركب مستوفزة، وهى هيئة المذنب الخائف المنتظر ما يكره، إلى كتابها: أي إلى صحيفة أعمالها التي كتبها الحفظة لتحاسب على ما قيّد فيها، ينطق: أي يشهد، نستنسخ: أي نجعل الملائكة تكتب وتنسخ. المعنى الجملي بعد أن أثبت فيما سلف أنه تعالى قادر على الإحياء مرة ثانية كما قدر على ذلك فى المرة الأولى- ذكر هنا دليلا آخر على ذلك، وهو أنه تعالى مالك الكون كله، فهو قادر على التصرف فيه بالإحياء فى الإعادة كما أحياه فى البدء، ثم ذكر من أهوال هذا اليوم أن كل أمة تجثو على ركبها وتجلس جلسة المخاصم بين يدى الحاكم ينتظر القضاء، وكل أمة تدعى إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب عليها، ويقال لهم: اليوم تجزون ما كنتم تعملون، ولا شاهد عليكم أصدق من كتابكم، فهو صورة أعمالكم قد كتبتها الملائكة فى دنياكم. (11- مراغى- الخامس والعشرون)

الإيضاح

الإيضاح (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى مالك العالم العلوي والسفلى، جار حكمه فيهما، دون ما تدعون من دونه من الأوثان والأصنام. ثم توعد الكافرين أهل الباطل فقال: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) أي ويوم تقوم الساعة ويحشر الناس من قبورهم للعرض والحساب- سيظهر خسران أولئك المنكرين الجاحدين بما أنزل الله على رسله من الآيات والدلائل- بدخولهم فى جهنم وبئس المستقر. وقد جعلت الحياة والصحة والعقل كأنها رءوس أموال، والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية يجرى مجرى تصرف التاجر فى ماله طلبا للريح. أما الكفار فقد أتعبوا أنفسهم وتصرفوا فيها بفعل الآثام والإشراك بالله تصرف التاجر الذي أساء فى تجارته فوكس فيها، ولم يجد فى العاقبة إلا الخسران والخذلان والطرد من رحمة الله، وذلك ما لا يرضاه عاقل لنفسه، يزن الأمور بميزان الحكمة والسداد. ثم بين حال الأمم فى ذلك اليوم وما تلاقيه من الشدائد انتظارا لفصل القضاء فقال: (1) (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) على ركبها لشدة الهول والرعب، واستعدادا لما لعلها تؤمر به حين فصل القضاء. (2) (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) لذى أنزل عليها لتعبد ربها بهديه، وكتابها الذي نسخته الحفظة من أعمالها، ليطبق أحدهما على الآخر، فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا، ومن خالفه هلك وكان من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ونحو الآية قوله: «وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .

[سورة الجاثية (45) : الآيات 30 إلى 37]

ثم ذكر أنهم ينذرون ويبشّرون بما سيبنى عليه حكم القضاء فقال: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويقال لهم حال دعائهم: اليوم تجازون بأعمالكم التي عملتموها فى الدنيا خيرها وشرها. ثم بين مستندات الحكم وأدلته فقال: (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) أي هذا كتابنا الذي كتبته الحفظة ودوّنت فيه أعمالكم- يشهد عليكم شهادة حق دون زيادة ولا نقص، فهو صورة تطابق ما فعلتموه حذو القذّة بالقذّة. ثم علل مطابقة هذه الشهادة لأعمالهم فقال: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنا كنا نأمر الحفظة بنسخ أعمالكم وكتابتها وإثباتها عليكم أول فأول فى الدنيا، فهى وفق ما عملتم بالدقة والضبط. وفى هذا إجابة عما يخطر بالبال من سؤال فيقال: ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد العهد؟ فأجيبوا بهذا الجواب. [سورة الجاثية (45) : الآيات 30 الى 37] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فى رحمته: أي فى جنته، الفوز: هو الظفر بالبغية، المبين: أي الظاهر أنه لا فوز وراءه، آياتي: أي آيات كتبى التي جاءت فى الشرائع السماوية، وعد الله: أي بأنه محيى الموتى من قبورهم، بمستيقنين: أي بمتحققين، وبدا: أي ظهر، سيئات ما عملوا: أي عقوباتها، وحاق: أي حل، ننساكم، أي نترككم، نسيتم: أي تركتم، آيات الله: أي حججه، غرتكم: أي خدعتكم، الحياة الدنيا: أي زينتها، يستعتبون: أي يطلب منهم العتبى بالتوبة من ذنوبهم، والإنابة إلى ربهم، الكبرياء: العظمة والسلطان. المعنى الجملي بعد أن ذكر أهوال العرض والحساب، وأن أعمال كل أمة تعرض عليها، ويقال لهم هذا ما كتبته الحفظة فى الدنيا، فهو شهادة صدق لا شك فيها- أردف هذا بيان أنه بعد انتهاء هذا الموقف يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات النعيم، ويوبّخ الكافرون على ما فرط منهم فى الدنيا ويقال لهم: لا عذر لكم فى الإعراض عن آياتي حين كانت تتلى عليكم إلا الاستكبار والعناد، وقد كنتم فى الحياة الأولى إذا قيل لكم إن يوم القيامة آت لا شك فيه، قلتم لا بقين عندنا به، وهو موضع حدس وتخمين، فها هو ذا قد حل بكم جزاء ما اجترحتموه من السيئات، وما كنتم تستهزئون به

الإيضاح

فى دنياكم، إذ قد خدعتكم بزخارفها، فظننتم أن لا حياة بعد هذه الحياة- فلا مأوى لكم إلا جهنم فادخلوها، ولا مخرج لكم منها، ولا عتبى حينئذ، فلا تنفع توبة مما فرط منكم من الذنوب. الإيضاح فصل سبحانه فى هذه الآيات حالى السعداء والأشقياء فقال: (1) (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي فأما الذين آمنت قلوبهم، وعملت جوارحهم صالح الأعمال التي أمر بها الدين، فيكافئهم ربهم على ما عملوا، ويدخلهم جنات النعيم. جاء فى الحديث الصحيح أن الله تعالى قال للجنة «أنت رحمتى، أرحم بك من أشاء» . ثم بين خطر ما نالوا وعظيم ما أوتوا فقال: (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الظفر بالبغية التي كانوا يطلبونها، والغاية التي كانوا يسعون فى الدنيا لبلوغها، وهو فوز لا فوز بعده. (2) (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي وأما الذين جحدوا وحدانية الله فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا: ألم تكن تأتيكم رسلى فتتلوا عليكم آيات كتبى، فتستكبرن عن الإيمان بها؟ ولا عجب فديدنكم الإجرام، وارتكاب الآثام، والكفر بالله، لا تصدقون بميعاد، ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب. (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ؟ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي وكنتم إذا قال لكم المؤمنون: إنه سبحانه وتعالى باعثكم من قبوركم بعد موتكم، وإن الساعة التي أخبركم أنه سيقيمها لحشركم وجمعكم للحساب والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، آتية لا ريب فيها، فاتقوا الله وآمنوا به، وصدقوا برسوله، واعملوا لما ينجيكم من عذابه- قلتم لعتوّكم واستكباركم متعجبين مستغربين، ما الساعة؟ نحن لا علم لنا بها، وما نظنها آتية إلا ظنا لا يقين فيه.

ثم ذكر أنهم يقفون موقف المتهم المسئول زيادة فى تأنيبهم ثم يحل بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب: (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهرت لهم قبائح أعمالهم التي عملوها فى الدنيا حين قرءوا كتب أعمالهم التي دونتها الحفظة كى لا يكون لهم حجة إذا نزل بهم العذاب ثم جوزوا بما كانوا يهزءون به فى الدنيا ويقولون ما هو إلا أوهام وأباطيل، وخرافات قد دونها المبطلون. ثم ذكر ما يزيد فى تعذيبهم وإلقاء الرعب فى قلوبهم فقال: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وقيل لهم تغليظا فى العقوبة وإمعانا فى التهكم والسخرية: اليوم نترككم فى العذاب، كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، وليس لكم مستنقذ ينقذكم منه، ولا مستنصر يستنصر لكم ممن يعذبكم. والخلاصة- إنه تعالى جمع لهم ثلاثة ألوان من العذاب: قطع الرحمة عنهم، وجعل مأواهم النار، وعدم وجود الأنصار والأعوان، من قبل أنهم أتوا بثلاثة ضروب من الإجرام: الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به، والاستغراق فى حب الدنيا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي هذا الذي حل بكم من عذاب الله بأنكم فى الدنيا اتخذتم حجج الله وآيات كتابه التي أنزلها على رسوله سخرية تسخرون منها، وخدعتكم زينة هذه الحياة فآثرتموها على العمل لما ينجيكم من عذابه، ظنا منكم أنه لا حياة بعد هذه الحياة ولا بعث ولا حساب. (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي فاليوم لا يخرجون من النار، ولا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة مما عوقبوا عليه.

والخلاصة- إنهم لا يخرجون ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم عليهم أي لا يطلب منهم إرضاؤه لفوات أوانه. وبعد أن ذكر ما حوته السورة من آلائه تعالى وإحسانه، وما اشتملت عليه من الدلائل التي فى الآفاق والأنفس، وما انطوت عليه من البراهين الساطعة على المبدأ والمعاد- أثنى على نفسه بما هو له أهل فقال: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فلله الحمد على أياديه على خلقه، فإياه فاحمدوا، وله فاعبدوا، فكل ما بكم من نعمة فهو مصدرها دون ما تعبدون من وثن أو صنم، وهو مالك السموات السبع، ومالك الأرضين السبع، ومالك جميع ما فيهنّ. (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الجلال والعظمة والسلطان فى العالم العلوي والعالم السفلى، فكل شىء خاضع له فقير إليه دون ما سواه من الآلهة والأنداد. وفى الحديث القدسي: «يقول الله تعالى: الكبرياء ردائى، والعظمة إزارى، فمن نازعنى واحدا منهما أسكنته نارى» . أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن أبى شيبة عن أبى هريرة. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب، الحكيم فى أفعاله وأقواله، تقدس ربنا جلت قدرته، وعظمت آلاؤه. وقصارى ذلك- له الحمد فاحمدوه، وله الكبرياء فعظّموه، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد (1) إقامة الأدلة على وجود الخالق سبحانه. (2) وعيد من كذب بآياته واستكبر عن سماعها. (3) طلب العفو من المؤمنين عن زلات الكافرين. (4) الامتنان على بنى إسرائيل بما آتاهم من النعم الروحية والمادية. (5) أمر رسوله ألا يطيع المشركين ولا يتبع أهواءهم. (6) التعجب من حال المشركين الذين أضلهم الله على علم. (7) إنكار المشركين للبعث. (8) ذكر أهوال العرض والحساب، وشهادة صحائف الأعمال على الإنسان. (9) حلول العذاب بالمشركين بعد أن تتبين لهم قبائح أعمالهم. (10) ثناء المولى سبحانه على نفسه وإثبات الكبرياء والعظمة له. تم تفسير هذا الجزء ليومين بقيا من صفر من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 يوم القيامة مما استأثر الله سبحانه بعلمه 5 المنجمون لا يجزمون بشىء مما يقولون 7 منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال 10 لفت أنظار المشركين إلى التدبر فى الآيات قبل إنكارها 11 كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم 12 مجمل ما اشتملت عليه سورة فصلت 14 ما جاء فى القرآن من الشرائع فهو على نهج ما جاء فى الكتب السالفة من الدعوة إلى التوحيد والإيمان باليوم الآخر 19 لو شاء الله لجعل الإيمان بالقسر والإلجاء فكان الناس أمة واحدة 20 نهى الرسول عن الاهتمام بإيمان المشركين 24 هذه الشريعة هى التي وصى بمثلها أكابر الأنبياء 27 نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن اتباع أهواء المشركين 31 دحض حجة المشركين فى الصد عن الدين 32 المشركون يستعجلون الساعة والمؤمنون مشفقون منها 35 بشر هذه الأمه بالسناء والرفعة ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة 36 فى الحديث «رأيت عمرو بن لحى بن قمعة يجر قصبه (أمعاءه) فى النار» . (12- مراغى- الخامس والعشرون)

الصفحة المبحث 41 التوبة وشروط قبولها 45 فى الحديث «إن من عبادى من لا يصلحه إلا الغنى» إلخ 46 ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير 48 فى الحديث «ألا أخبركم بأفضل آية فى كتاب الله؟» 49 الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر 52 المؤمنون أمرهم شورى بينهم 55 حوار بين عائشة رضى الله عنها وأم المؤمنين زينب 56 كل جناية على النفس أو المال تقابل بمثلها قصاصا 59 حين يعرض الكفار على النار ينظرون من طرف خفى 62 ليس فى الإمكان أبدع مما كان 63 الأنبياء يكلمون ربهم على وجوه ثلاثة 66 خلاصة ما تضمنته سورة الشورى 68 القرآن مشتمل على الحكم والأسرار التي فيها سعادة البشر 69 ما بعث الله نبيا إلا استهزأ به قومه 71 المشركون يعترفون بالإله ويعبدون سواه. 72 دل الإله على نفسه بمصنوعاته 77 قال المشركون: الملائكة بنات الله 83 إبراهيم عليه السلام ترك دين الآباء واتبع الدليل 90 محاورة بين أبى بكر وجمع من المشركين 92 القرآن الكريم سرف للرسول وقومه

الصفحة المبحث 94 الرسل جميعا دعوا إلى ما دعا إليه الرسول صلّى الله عليه وسلم 97 تسلية الرسول عما يلقاه من أذى قومه 98 ما حدث من فرعون وقومه بعد كشف العذاب عنهم بدعوة موسى 99 شبهة فرعون التي تمنع موسى من الرياسة 102 حديث بين النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة 108 الأخلاء يتعادون يوم القيامة إلا من تخالوا على الإيمان والتقوى 108 ما يقال لأهل الجنة على سبيل البشرى 110 ما يقوله أهل النار لخزنة جهنم 114 أقوال المشركين تخالف أفعالهم 117 خلاصة ما تضمنته سورة الزخرف 123 مشى أبو سفيان إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرحم 134 وصف شجرة الزقوم 135 محاورة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبى جهل 144 كان المشركون يتخذون آيات الله هزوا 150 ما آتاه الله لبنى إسرائيل من النعم 155 ما قاله العلماء فى ذم اتباع الهوى 157 حوار بين أبى جهل والوليد بن المغيرة بشأن الرسول صلّى الله عليه وسلم 159 قال المشركون: إن هى إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر.

الصفحة المبحث 160 البعث ممكن والحكمة تقتضى حصوله والعقل يؤيده 162 يجمع الله للكافرين ثلاثة ألوان من العذاب 164 ما يجده المؤمنون بعد انتهاء الموقف من إكرام الله لهم 165 ما يلقاه الكافرون من التوبيخ والعذاب الأليم والسبب فى ذلك 168 خلاصة ما تضمنته سورة الجاثية من المقاصد

الجزء السّادس والعشرون تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء السّادس والعشرون

سورة الأحقاف

الجزء السادس والعشرون بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأحقاف هى مكية إلا ثلاث آيات: 10، 15، 35 فمدنية. وآياتها خمس وثلاثون، نزلت بعد الجاثية. ووجه اتصالها بما قبلها- أنه تعالى ختم السورة السالفة بالتوحيد، وذمّ أهل الشرك وتوعدهم عليه، وافتتح هذه بالتوحيد وتوبيخ المشركين على شركهم أيضا. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أجل مسمى: هو يوم القيامة، أنذروا: أي خوّفوا، معرضون: أي مولّون لاهون، تدعون: أي تعبدون، شرك: أي نصيب، أثارة: أي بقية، ومثلها الأثرة (بالتحريك) يقال (سمنت الإبل على أثارة) أي بقية شحم كان قبل ذلك، حشر: أي جمع، كافرين: أي مكذبين. المعنى الجملي بدأ سبحانه السورة بإثبات أن هذا القرآن من عند الله، لا من عند محمد كما تدّعون ثم ذكر أن خلق السموات والأرض مصحوب بالحق قائم بالعدل والنظام، ومن النظام أن تكون الآجال مقدرة معلومة لكل شىء، إذ لا شىء فى الدنيا بدائم، ولا بد من يوم يجتمع الناس فيه للحساب، حتى لا يستوى المحسن والمسيء، ولكن الذين كفروا أعرضوا عن إنذار الكتاب ولم يفكروا فيما شاهدوا فى العالم من النظام والحكمة، فلا هم بسماع الوحى متعظون، ولا هم بالنظر فى العالم المشاهد يعتبرون ثم نعى على المشركين حال آلهتهم وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: أخبرونى ماذا خلق آلهتكم من الأرض، أم لهم شركة فى خلق السموات حتى يستحقون العبادة؟ فإن كان لهم ما تدّعون فهاتوا دليلا على هذا الشرك المدّعى بكتاب موحى به من قبل القرآن أو ببقية

الإيضاح

من علوم الأولين، وكيف خطر على بالكم أن تعبدوها وهى لا تستجيب لكم دعاء إلى يوم القيامة وهى غافلة عنكم، وفى الدار الآخرة تكون لكم أعداء وتجحد عبادتكم لها. الإيضاح (حم) الكلام فى مثلها قد تقدم من قبل. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) اعلم أنّ نظم أول هذه السور كنظم أول سورة الجاثية وقد تقدم إيضاحه وتفسيره. (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالعدل، وبتقدير أجل مسمى لكل مخلوق، إليه ينتهى بقاؤه فى هذه الحياة الدنيا، وهذا يستدعى أن يكون خلقه لحكمة وغاية، وأن يكون هناك يوم معلوم للحساب والجزاء، لئلا يتساوى من أحسن فى الدار الأولى ومن أساء فيها، ومن أطاع ربه واتبع أوامره ونواهيه، ومن دسّى نفسه، وركب رأسه، واتبع شيطانه وهواه، وسلك سبل الغواية فلم يترك منها طريقا إلا سلكه، ولا بابا إلا ولجه. ثم بين غفلة المشركين وإعراضهم عما أنذروا به فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي مع ما نصبنا من الأدلة، وأرسلنا من الرسل، وأنزلنا من الكتب- بقي هؤلاء الكفار معرضين عنه، غير ملتفتين إليه، فلا هم بما أنزلنا من الكتب اتعظوا، ولا بما شاهدوا من أدلة الكون اعتبروا، وأنّى لهم ذلك؟ فهم صم بكم عمى لا يعقلون. وبعد أن أثبت لنفسه الألوهية، وأنه رحيم عادل، وأثبت البعث والجزاء يوم القيامة، ردّ على عبدة الأصنام فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي قل لهم أيها الرسول: أخبرونى عن حال آلهتكم بعد التأمل فى خلق

السموات والأرض وما بينهما، والنظام القائم فيهما، المبنى على الحكمة ودقة الصنع، والإبداع فى التكوين: هل تعقلون لهم مدخلا فى خلق جزء من هذا العالم السفلى، فيستحقوا لأجله العبادة؟ ولو كان لهم ذلك لظهر التفاوت فى هذا النظام، والمشاهد أنه على حال واحدة يستمد أدناه من أعلاه، ويرتبط بعضه ببعض، وكل فرد فى الأرض مخدوم بجميع الأفراد فيها، أم هل تظنون أن لهم شركة فى خلق العالم العلوي شموسه وأقماره، كواكبه ونجومه، سياراتها وثوابتها. وقصارى ذلك- نفى استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتمّ وجه، فقد نفى أن لها دخلا فى خلق شىء من أجزاء العالم السفلى استقلالا، ونفى ثانيا أن لها دخلا على سبيل الشركة فى خلق شىء من أجزاء العالم العلوي، ونفى ذلك يستلزم نفى استحقاق المعبودية أيضا. وتخصيص الشركة فى النظم الجليل بقوله سبحانه «فى السّموات» مع أنه لا شركة فيها ولا فى الأرض أيضا- لأن الغرض إلزامهم بما هو مسلّم لهم، ظاهر لكل أحد، والشركة فى الحوادث السفلية ليست كذلك، لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة. وبعد أن بكّتهم وعجّزهم عن الإتيان بسند عقلى، عجزهم وبكتهم عن الإتيان بسند نقلى فقال: (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان ما تقولونه حقا فائتونى أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب كالتوراة والإنجيل يشهد بصحة ما تدّعون لآلهتكم، أو ببقية بقيت عندكم من علم الأولين المفكرين فى خلق السموات والأرض ترشد إلى استحقاق الأصنام والأوثان للعبادة. وتدل على صحة المسلك الذي سلكتموه. والخلاصة- إن الدليل: إما وحي من الله، أو بقية من كلام الأوائل، وإما

إرشاد من العقل، فإن كان الأول فأين الكتاب الذي يدل على أنهم شركاء؟ وإن كان الثاني فأين هو؟ وبعد أن أبطل شركة الأصنام فى الخلق بعدم قدرتها على ذلك- أتبعه إبطاله بعدم علمها بالعبادة فقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي لا أضل ممن يعبد من دون الله أصناما ويتخذهم آلهة، وهم إذا دعوا لا يسمعون ولا يجيبون إلى يوم القيامة أي لا يجيبون أبدا ماداموا فى الدنيا، إذ هم فى غفلة عن دعائهم، لأنهم أحجار، فهم صم بكم لا يسمعون ولا يتكلمون. وما أنكى هذا التوبيخ وما أمضّ ألمه لهؤلاء المشركين على سوء رأيهم وقبح اختيارهم فى عبادتهم ما لا يعقل شيئا ولا يفهم، وتركهم عبادة من بيده جميع نعمهم، ومن به إغاثتهم حين تنزل بهم الجوائح والمصايب. وبعد أن أبان أنهم لا ينفعونهم فى الدنيا ولا يستجيبون لهم دعاء- أبان حالهم فى الآخرة فقال: (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) أي وإذا جمع الناس لموقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يعبدونها فى الدنيا أعداء لهم، إذ يتبرءون منهم، وكانوا بعبادتهم كافرين، فهم يقولون: ما أمرناهم بعبادتنا ولا شعرنا بهم، تبرأنا إليك ربنا منها. ونحو الآية قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام «وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» .

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 إلى 9]

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 9] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) تفسير المفردات المراد بالحق آيات القرآن، افتراه: كذب عليه عمدا، فلا تملكون لى من الله شيئا: أي لا تغنون عنى من الله شيئا إن أراد عقابى، تفيضون فيه: أي تخوضون فيه من تكذيب القرآن، يقال أفاض القوم فى الحديث: أي اندفعوا فيه، والبدع والبديع من كل شىء: المبتدع المحدث دون سابقة له. المعنى الجملي بعد أن تكلم فى تقرير التوحيد ونفى الأضداد والأنداد- أعقب هذا بالكلام فى النبوة، وبين أنه كلما تلا عليهم الرسول شيئا من القرآن قالوا إنه سحر، بل زادوا فى الشناعة وقالوا: إنه مفترى، فرد عليهم بأنه لو افتراه على الله فمن يمنعه من عقابه لو عاجله به؟ وهو العليم بما تندفعون فيه من الطعن فى نبوّتى، ويشهد لى بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والجحود. ثم أمر رسوله أن يقول لهم: إنى لست بأول الرسل حتى تنكروا دعائى لكم إلى التوحيد، ونهى لكم عن عبادة الأصنام، وما أدرى ما يفعل بي فى الدنيا؟

الإيضاح

أأموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلى، ولا ما يفعل بكم، أترمون بالحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض، أم يفعل بكم غير ذلك مما عمل مع سائر المكذبين للرسل؟ وإنى لا أعمل عملا ولا أقول قولا إلا بوحي من ربى، وما أنا إلا نذير، لا أستطيع أن آتى بالمعجزات والأخبار الغيبية، فالقادر على ذلك هو الله تعالى. الإيضاح (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وإذا تتلى على هؤلاء المشركين حججنا التي أودعناها كتابنا الذي أنزلناه عليك قالوا: هذا خداع وتمويه يفعل فعل السحر فى قلب من سمعه. ثم انتقل من هذه المقالة الشنعاء إلى ما هو أشنع منها فقال: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي دع هذا واسمع القول المنكر العجيب: إنهم يقولون إن محمدا افتراه على الله عمدا، واختلقه عليه اختلاقا. وقد أمر الله رسوله أن يبطل شبهتهم بقوله: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي قل لهم: لو كذبت على الله، وزعمت أنه أرسلنى إليكم، ولم يكن الأمر كذلك لعاقبنى أشد العقاب، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرنى منه، فكيف أقدم على هذه الفرية وأعرّض نفسى لعقابه، فالملوك لا يتركون من كذب عليهم دون أن ينتقموا منه، فما بالكم بمن يتعمد الكذب على الله فى الرسالة، وهى الجامعة لأمور عظيمة، ففيها الإخبار عن تكليف الناس بما يصلح شأنهم فى دينهم ودنياهم. ونحو الآية قوله: «قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ» وقوله: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» .

ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام منهم بقوله: (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه، من التكذيب بالقرآن، والطعن فى آياته، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى. ثم أكد صدق ما يقول بنسبة علم ذلك إلى الله فقال: (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو يشهد لى بالصدق فى البلاغ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود. ولا يخفى ما فى هذا من الوعيد الشديد على إفاضتهم فى الطعن فى الآيات. ثم فتح لهم باب الرحمة بعد الإنذار السابق لعلهم يتوبون ويثوبون إلى الحق فقال: (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي ومع كل ما صدر منكم من تلك المطاعن الشنعاء، إن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وصح عزمكم على الرجوع عما أنتم عليه، تاب عليكم، وعفا عنكم، وغفر لكم ورحمكم. وبعد أن حكى عنهم طعنهم فى القرآن- أمر رسوله أن يرد عليهم مقترحاتهم العجيبة، وهى طلبهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بمعجزات بحسب ما يريدون ويشتهون، وكلها تدور حول الإخبار بشئون الغيب فقال: (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي قل لهم: لست بأول رسول بلّغ عن ربه، بل قد جاءت رسل من قبلى، فما أنا بالفذّ الذي لم يعهد له نظير حتى تستنكرونى وتستبعدون رسالتى إليكم، وما أنا بالذي يستطيع أن يأتى بالمعجزات متى شاء، بل ذلك باذنه تعالى وتحت قبضته وسلطانه، وليس لى من الأمر شىء، وإلى ذلك أشار بقوله: (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ولا أعلم ما يفعل بي فى الدنيا، أأخرج من بلدي كما أخرجت أنبياء من قبلى، أم أقتل كما قتل منهم من قتل؟ ولا ما يفعل

بكم أيها المكذبون، أترمون بحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض؟ كل هذا علمه عند ربى. وفى صحيح البخاري وغيره من حديث أمّ العلاء أنها قالت: «لما مات عثمان ابن مظعون رضى الله عنه، قلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب، لقد أكرمك الله تعالى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أمّا هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإنى لأرجو له الخير، والله ما أدرى- وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم، قالت أمّ العلاء فو الله ما أزكى بعده أبدا» . وفى رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس «أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة، فنظر إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر مغضب وقال: وما يدريك؟ والله إنى لرسول الله، وما أدرى ما يفعل الله بي، فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم، فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه» . ومن هذا يعلم أن ما ينسب إلى بعض الأولياء من العلم بشئون الغيب، فهو فرية على الله ورسوله، وكفى بما سلف ردّا عليهم. ثم أكد ما سلف وقرره بقوله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع شيئا من عندى. ثم زاد الأمر توكيدا فقال: (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وما أنا إلا نذير، أنذركم عقاب الله، وأخوّفكم عذابه، وآتيكم بالشواهد الواضحة على صدق رسالتى، ولست أقدر على شىء من الأعمال الخارجة عن قدرة البشر.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 إلى 14]

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 الى 14] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) المعنى الجملي لا يزال الكلام موصولا بسابقه، فبعد أن نعى عليهم استهزاءهم بكتابه وقولهم فيه: إنه سحر مفترى وردّ الرسول عليهم بأنه ليس بأول رسول حتى يستنكرون نبوته ويطلبون منه ما لا قبل له به من المعجزات التي أمرها بيد الله لا بيده- أردف هذا أمر رسوله أن يقول لهم: ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله الله علىّ لأبلغكموه فكفرتم به وكذبتموه؟ وقد شهد شاهد من بنى إسرائيل الواقفين على أسرار الوحى بما أوتوا من التوراة على مثل ما قلت، فآمن واستكبرتم؟ ثم حكى عنهم شبهة أخرى بشأن إيمان من آمن منهم من الفقراء كعمار وصهيب وابن مسعود فقالوا: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء، ثم ذكر أنهم حين لم يهتدوا به قالوا: إنه من أساطير الأولين، ثم ذكر أن مما يدل على صدق القرآن أن التوراة وهى الإمام المقتدى به، بشرت بمقدم محمد صلّى الله

الإيضاح

عليه وسلم فاقبلوا حكمها فى أنه رسول حقا من عند الله، ثم أعقب هذا ببيان أن من آمنوا بالله وعملوا صالحا لا يخافون مكروها، ولا يحزنون لفوات محبوب، وأولئك هم أهل الجنة، جزاء ما عملوا من عمل صالح، وما أخبتوا لربهم، وانقادوا لأمره ونهيه. الإيضاح (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي قل لهم: أخبرونى إن ثبت أن القرآن من عند الله لعجز الخلق عن معارضته، لا أنه سحر ولا مفترى كما تزعمون، ثم كذبتم به وشهد أعلم بنى إسرائيل بكونه من عند الله فآمن واستكبرتم- أفلستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟. والخلاصة- أخبرونى إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، وشهادة منصف من بنى إسرائيل عارف بالتوراة على مثل ما قلت فآمن به مع استكباركم- أفلا تكونون ظالمين لأنفسكم؟ وهذا الشاهد هو عبد الله بن سلام- فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبى وقاص قال: «ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض: إنه من أهل لجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه، نزلت: (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) » . وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: نزل فىّ آيات من كتاب الله، نزلت فىّ (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) ونزل فىّ: (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) . ثم ذكر أن فى استكبارهم عن الإيمان ظلما لأنفسهم وكفرا بآيات ربهم فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يوفق لإصابة الحق وهدى الصراط المستقيم من ظلموا أنفسهم باستحقاقهم سخط الله لكفرهم به بعد قيام الحجة الظاهرة عليهم.

عن عوف بن مالك الأشجعى قال «انطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود أرونى اثنى عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحطّ الله عن كل يهودى تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا، فقال: أبيتم، فو الله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفّى، آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا تخرج، فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أىّ رجل تعلمونى فيكم يا معشر اليهود، فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدّك، فقال فإنى أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوبا فى التوراة والإنجيل، قالوا كذبت، ثم ردوا عليه وقالوا شرّا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كذبتم لن يقبل منكم قولكم، فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله وأنا وعبد الله ابن سلام فأنزل الله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) . أخرجه أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه السيوطي. ثم حكى نوعا آخر من أقاويلهم الباطلة فى القرآن العظيم والمؤمنين به فقال: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي وقال كفار مكة لأجل إيمان من آمن من فقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود ومن لفّ لفّهم: لو كان ما أتى به محمد خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء، فإن معالى الأمور لا تنالها أيدى الأراذل، وهؤلاء سقّاط الناس ورعاة الإبل والشاء، وقد قالوا ذلك زعما منهم أنهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة، وأن الرياسة الدينية مما تنال بأسباب دنيوية، وقد غاب عنهم أنها منوطة بكمالات نفسية وملكات روحية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية

والإقبال على الآخرة، وأن من فاز بها فقد حازها بحذافيرها، ومن حرمها فما له فيها من خلاق، ولم يعلموا أن الله يختص برحمته من يشاء ويصطفى لدينه من يشاء. وعن قتادة: قال ناس من المشركين نحن أعز ونحن ونحن فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان فنزلت هذه الآية. وروى أنه لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأشجع وأسد: لو كان هذا خيرا ما سبقتنا إليه رعاء البهم والشاء. فأجابهم الله عن هذا بقولهم: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) اى وقد ظهر عنادهم واستكبارهم إذ لم يهتدوا به، وسيقولون الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين: هذا كذب مأثور عن الأقدمين، انتقاصا له ولأهله، واستكبارا عن اتباع الحق. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الكبر بطر الحق وغمص (احتقار) الناس» . ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» . ثم رد عليهم طعنهم فى القرآن وأثبت صحته فقال: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي ومما يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون فى أن الله أنزل التوراة على موسى وجعلها إماما لبنى إسرائيل ورحمة لهم، وهى قد اشتملت على البشارة بمقدم محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا بد أن يكون محمد صادقا فى رسالته، وأن يكون القرآن من عند الله، وقد جاء بلسان عربى لينذر الذين ظلموا أنفسهم وهم مشركو مكة وهو بشرى لمن أحسن عملا. والخلاصة- كيف يكون إفكا قديما وهو مصدق لكتاب موسى الذي تعترفون

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 إلى 16]

بصدقه، وهو بلسان عربى، والتوراة بلسان عبرى، فتصديق الأول للثانى دليل على اتحادهما صدقا- فبطل كونه إفكا قديما وثبت الصدق القديم. وبعد أن ذكر طريق المبطلين أرشد إلى طريق المحقين وذكر جزاءهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين قالوا ربنا الله، لا إله غيره، ثم استقاموا على تصديقهم بذلك، ولم يخلطوه بشرك ولم يخالفوا الله فى أمر ولا نهى- فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم بعد مماتهم. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هؤلاء الذين قالوا هذا القول واستقاموا- هم أهل الجنة ماكثين فيها أبدا ثوابا منا لهم كفاء ما قدموا من صالح الأعمال فى الدنيا. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 16] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) تفسير المفردات الإيصاء والوصية: بيان الطريق القويم لغيرك ليسلكه، والإحسان: خلاف الإساءة، والحسن: خلاف القبح، والمراد أنه يفعل معهما فعلا ذا حسن، والكره

المعنى الجملي

(بالضم والفتح) كالضعف والضعف: المشقة، وحمله: أي مدة حمله، وفصاله: فطامه والمراد به الرضاع التام المنتهى بالفطام، والأشد: استحكام القوة والعقل، أوزعنى: أي رغبنى ووفقني، من أوزعته بكذا: أي جعلته مولعا به راغبا فى تحصيله، والقبول: هو الرضا بالعمل والإثابة عليه، فى أصحاب الجنة: أي منتظمين فى سلكهم كما تقول أكرمنى الأمير فى أصحابه. المعنى الجملي بعد أن ذكر فى سابق الآيات توحيده سبحانه وإخلاص العبادة له والاستقامة فى العمل- أردف هذا الوصية بالوالدين، وقد فعل هذا فى غير موضع من القرآن الكريم كقوله: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» وقوله: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» . روى أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر إذ أسلم والداه ولم يتفق ذلك لأحد من الصحابة، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أمّ الخير بنت صخر بن عمرو. الإيضاح (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنوّ عليهما، والبر بهما فى حياتهما وبعد مماتهما، وجعلنا البر بهما من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر، والآيات والأحاديث فى هذا الباب كثيرة. ثم ذكر سبب التوصية وخص الكلام بالأم لأنها أضعف وأولى بالرعاية، وفضلها أعظم كما ورد فى صحيح الأحاديث ومن ثم كان لها ثلثا البر فقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي إنها قاست فى حمله مشقة وتعبا من وحم وغثيان وثقل إلى نحو أولئك مما ينال الحوامل، وقاست فى وضعه مشقة من تعب الطلق وألم الوضع، وكل هذا يستدعى البر بها واستحقاقها للكرامة وجميل الصحبة. (2- مراغى- السادس والعشرون)

ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال: (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا تكابد الأمّ فيها الآلام الجسمية والنفسية، فتسير الليالى ذوات العدد إذا مرض، وتقوم بغذائه وتنظيفه وكل شئونه بلا ضجر ولا ملل، وتحزن إذا اعتل جسمه أو ناله مكروه يؤثّر فى نموّه وحسن صحته. وفى الآية إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن أكثر مدة الإرضاع حولان كاملان لقوله تعالى: «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر، وبذلك يعرف أقل الحمل وأكثر الإرضاع. وأول من استنبط هذا الحكم منها علىّ كرم الله وجهه ووافقه عليه عثمان وجمع من الصحابة رضى الله عنهم. روى محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج منا رجل من امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضى الله عنه فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت لها: وما يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضى الله فىّ ما شاء، فلما أتى بها عثمان أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال ما تصنع؟ قال ولدت لتمام ستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له علىّ: أما تقرأ القرآن؟ قال بلى، قال: أما سمعت الله عز وجل يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال: «حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ» فلم تجده أبقى إلا ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، علىّ بالمرأة، فوجدها قد فرغ منها، قال معمر فو الله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه. وعن ابن عباس أنه كان يقول: إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع

أحد وعشرون شهرا، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا ولدت لستة أشهر فحولان كاملان لأن الله يقول: (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) . (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي حتى إذا اكتهل واستوفى السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وهى فيما بين الثلاثين والأربعين. (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وهذا نهاية استحصاد العقل واستكماله، ومن ثم روى عن ابن عباس: من أتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ولهذا قيل: إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه فلا تنفس عليه الذي مضى ... وإن جرّ أسباب الحياة له العمر قال المفسرون: لم يبعث الله نبيا قط قيل الأربعين إلا ابني الخالة «عيسى ويحيى» (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) أي رب وفقني لشكر نعمك التي غمرتنى بها فى دينى ودنياى، بما أتمتع به من سعة فى العيش، وصحة فى الجسم، وأمن ودعة، للإخلاص لك، واتباع أوامرك، وترك نواهيك، وأنعمت بها على والدىّ من تحننهما علىّ حين ربيانى صغيرا. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي واجعل عملى وفق رضاك لأنال مثوبتك. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي واجعل الصلاح ساريا فى ذريتى، متمكنا من نفوسهم، راسخا فى قلوبهم. قال ابن عباس: أجاب الله دعاء أبى بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه عليه، ودعا فقال: أصلح لى فى ذريتى، فأجابه الله تعالى، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبىّ صلّى الله عليه وسلم وآمنوا به، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين.

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي إنى تبت إليك من ذنوبى التي فرطت منى فى أيامى الخوالى، وإنى من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك. روى أبو داود فى سننه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعلّمهم أن يقولوا فى التشهد: اللهم ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجّنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا فى أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، وأتمها علينا» . ثم ذكر جزاء أصحاب هذه الأوصاف الجليلة فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا فى الدنيا من صالح الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه، ويصفح عن سيئات أعمالهم التي فرطت منهم فى الدنيا لماما ولم تكن عادة لهم، بل جاءت بحافز من القوة الشهوانية، أو القوة الغضبية، فلا يعاقبهم عليها، وهم منتظمون فى سلك أصحاب الجنة، داخلون فى عدادهم. ثم أكد الوعد السابق بقوله: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم الله الوعد الحق الذي لا شك فيه، وأنه موفّ به. وهذه الآية كما تنطبق على سعد بن أبى وقاص وعلى أبى بكر الصديق اللذين قيل فى كل منهما إن الآية نزلت فيه تنطبق على كل مؤمن، فهو موصّى بوالديه،

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 إلى 20]

مأمور أن يشكر نعمة الله عليه وعلى والديه، وأن يعمل صالحا، وأن يسعى فى إصلاح ذريته، ويدعو الله أن يوفقه لعمل أهل الجنة. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20] وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) تفسير المفردات أفّ: صوت يصدر من الإنسان حين تضجره، أخرج: أي أبعث من القبر للحساب، خلت القرون من قبلى: أي مضت ولم يخرج منها أحد، يستغيثان الله: أي يقولان الغياث بالله منك، يقال استغاث الله واستغاث بالله، والمراد أنهما يستغيثان بالله من كفره، إنكارا واستعظاما له، حتى لجأ إلى الله فى دفعه كما يقال العياذ بالله من كذا، ويلك: دعاء عليه بالثبور والهلاك، ويراد به الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن مرتكبه حقيق بأن يهلك، فإذا سمع ذلك ارعوى عن غيّه وترك ما هو فيه وأخذ بما ينجيه، أساطير الأولين: أي أباطيلهم التي سطروها فى الكتب من غير أن يكون لها حقيقة، حق عليهم القول: أي وجب عليهم قوله لإبليس «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ

المعنى الجملي

وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» من الخاسرين: أي الذين ضيعوا نظرهم الشبيه برءوس الأموال باتباعهم همزات الشياطين، والدرجات: المنازل واحدها درجة، وهى المنزلة، ويقال لها منزلة إذا اعتبرت صعودا، ودركة إذا اعتبرت حدورا، ومن ثم يقال درجات الجنة، ودركات النار، فالتعبير بالدرجات هنا على سبيل التغليب، طيباتكم: أي شبابكم وقوتكم يقولون ذهب أطيباه أي شبابه وقوته، الهون: أي الهوان والذل، تفسقون: أي تخرجون من طاعة الله. المعنى الجملي بعد أن ذكر عزّ اسمه حال الداعين للوالدين، البررة بهما، ثم ذكر ما أعد لهما من الفوز والنجاة فى الدار الآخرة- أعقب هذا بذكر حال الأشقياء العاقّين للوالدين، المنكرين للبعث والحساب، المحتجين بأن القرون الخوالى لم تبعث، ثم رد الآباء عليهم بأن هذا اليوم حق لا شك فيه، ثم بإجابة الأبناء لهم بأن هذه أساطير الأولين وخرافاتهم، ثم ذكر أن أمثال هؤلاء ممن حق عليهم القول بأن مصيرهم إلى النار. ثم أردف هذا أن لكل من البررة والكفرة منازل عند ربهم كفاء ما قدموا من عمل وسيجزون عليها الجزاء الأوفى، ثم أخبر بأنه يقال للكفار حين عرضهم على النار: أنتم قد تمتعتم فى الحياة الدنيا، واستكبرتم عن اتباع الحق، وتعاطيتم الفسوق والمعاصي، فجازاكم الله بالإهانة والخزي والآلام الموجبة للحسرات المتتابعة فى دركات النار. الإيضاح (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي؟) أي والذي قال لوالديه أن دعواه إلى الإيمان والإقرار ببعث الله خلقه من

قبورهم ومجازاته إياهم بأعمالهم: أفّ لكما: إنى لضجر منكما، أتقولان إنى أبعث من قبرى حيا بعد موتى وفنائى، وما لحقنى من بلى وتفتت عظام؟ إن هذا لعجب عاجب فها هى ذى قرون مضت، وأمم قد خلت من قبلى كعاد وثمود ولم يبعث منهم أحد، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان لبعث من قبلى من القرون الغابرة ألا ترى إلى قول من قال: ما جاءنا أحد يخبّر أنه ... فى جنة لمّا مضى أو نار وزعم مروان بن الحكم أنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وقد ردت عليه عائشة رضى الله عنها. أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال: إنى لفى المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد رأى لأمير المؤمنين (يعنى معاوية) فى يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه، فقد استخلف أبوبكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبى بكر: سنة هرقل وقيصر «1» إن أبا بكر رضى الله عنه ما جعلها فى أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست «الّذى قال لوالديه أفّ لكما» فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أباك، فسمعت عائشة فقالت لمروان: أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا، كذبت والله ما فيه نزلت، نزلت فى فلان بن فلان. والحق أن الآية لم ترد فى شخص معين، بل المراد كل شخص يقول أمثال هذه المقالة فيدعوه أبواه إلى الإيمان بالبعث وإلى الدين الصحيح فيأبى وينكر. (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه أن يوفقه إلى الإيمان بالبعث، ويقولان له حثا وتحريضا: هلاكا لك، صدّق بوعد الله، وأنك مبعوث بعد وفاتك، إن وعد الله الذي وعده خلقه أنه باعثهم من قبورهم ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم حق لا شك فيه.

_ (1) يريد أن البيعة لأولاد الملوك ستة ملوك الروم، وهرقل: اسم ملك الروم.

والخلاصة- إنهما يستعظمان قوله، ويلجآن إلى الله فى دفعه، ويدعوان عليه بالويل والثبور، ليستحثاه على ترك ما هو فيه، ويشعراه بأن ما يرتكبه جدير بأن يهلك فاعله. ثم ذكر ردّه عليهما مع الاستهزاء بهما والتعجيب من حالهما. (فَيَقُولُ: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي فيقول مجيبا والديه، رادّا عليهما نصحهما، مكذبا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لى، وتدعوان إليه، إلا ما سطره الأولون من الأباطيل، فأصبتماه أنتما وصدقتما به، ولا ظلّ له من الحقيقة. ثم ذكر سبحانه جزاء هؤلاء على ما قالوا واعتقدوا فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي هؤلاء الذين هذه أوصافهم هم الذين وجب عليهم عذاب الله، وحلت عليهم عقوبته وسخطه، فيمن حل به العذاب من الأمم الذين قد مضوا من قبلهم من الجن والإنس ممن كذّبوا الرسل، وعتوا عن أمر ربهم. وفى الآية إيماء إلى أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس. قال أبو حيان فى البحر: قال الحسن البصري فى بعض مجالسه: الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بالآية فسكت. وفيها ردّ أيضا على من قال: إنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر، لأنه رضى الله عنه أسلم وجبّ عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة، أما من حق عليه القول فهو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا. ثم ذكر العلة فى هذا العذاب المهين فقال: (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنهم ضيعوا فطرهم التي فطرهم الله عليها واتبعوا الشيطان، فغبنوا ببيعهم الهدى بالضلال، والنعيم بالعذاب. ثم ذكر أن لكل من الفريقين الذين قالوا ربنا الله، والذي قال لوالديه مراتب متفاوتة فقال:

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ولكل من الأبرار والفجار من الإنس والجن مراتب عند الله يوم القيامة بحسب أعمالهم من خير أو شر فى الدنيا، وليوفيهم أجور أعمالهم، المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، وهم لا يظلمون شيئا، فلا يعاقب المسيء إلا بعقوبة ذنبه، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يبخس المحسن منهم ثواب إحسانه. وبعد أن بين سبحانه أنه يعطى كل ذى حق حقه- بين الأهوال التي يلاقيها الكافرون فقال: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي واذكر لقومك حال الذين كفروا حين يعذبون فى النار، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: إن كل ما قدر لكم من اللذات والنعيم قد استوفيتموه فى الدنيا ونلتموه ولم يبق لكم منه شىء، ولكن بقيت لكم الإهانة والخزي جزاء استكباركم وفسوقكم عن أمر ربكم وخروجكم من طاعته. وفى هذا تحريض على التقلل من زخرف الدنيا وزينتها والأخذ بالتقشف فيها. أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن عمر رضى الله عنه رأى فى يد جابر بن عبد الله رضى الله عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟ قال أريد أن أشترى به لأهلى لحما قرموا إليه، فقال: أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء «1» وصنابا وصلائق ولكنى

_ (1) الصلاء. الشواء بالمد والكسر، والصناب: صباغ (سلطة) يتخذ من الخردل والزبيب، والصلائق: الحملان المشوية.

أستبقى حسناتى، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» . وأخرج أحمد والبيهقي فى شعب الإيمان عن ثوبان رضى الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سافر كان آخر عهده من أهله بفاطمة، وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضى الله عنها، فقدم من غزاة فأتاها فإذا بمسح (بكسر فسكون، وهو ثوب من شعر غليظ) على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين (مثنى قلب بضم فسكون: السوار) من فضة فرجع ولم يدخل عليها، فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا، فقسمت ذلك بينهما، فانطلقا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهما يبكيان، فأخذ ذلك رسول الله منهما، وقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بنى فلان (أهل بيت بالمدينة) واشتر لفاطمة قلادة من عصب (بفتح فسكون خرز أبيض) وسوارين من عاج، فإن هؤلاء أهل بيتي: ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم فى حياتهم الدنيا» . وقد كان السلف الصالح يؤثرون التقشف والزهد فى الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم فى الآخرة أكمل، لا أن التمتع بزخارف الدنيا مما يمتنع، بدليل قوله تعالى «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» . نعم إن الاحتراز عن التنعم أولى، لأن النفس إذا اعتادت ذلك وألفته صعب عليها تركه والاكتفاء بما دونه، ولله درّ البوصيرى إذ يقول: والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: أن على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا (الطعام بلا أدم) ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 إلى 28]

ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمده أصلا، ولا يجعله ديدنا له. قصص هود عليه السلام مع قومه عاد [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)

تفسير المفردات

تفسير المفردات أخا عاد: هو هود عليه السلام، والأحقاف: واحدها حقف (بالكسر والسكون) وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء، سمى به واد بين عمّان ومهرة كانت تسكنه عاد، وكانوا أهل عمل، سيارة فى الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وهم من قبيلة إرم، والنذر: واحدهم نذير أي منذر، من بين يديه: أي من قبله، ومن خلفه: أي من بعده، لتأفكنا: أي لتصرفنا، عن آلهتنا: أي عن عبادتها، بما تعدنا: أي من معاجلة العذاب على الشرك: إنما العلم عند الله، أي العلم بوقت نزوله عند الله، والعارض: السحاب الذي يعرض فى أفق السماء قال الأعشى: يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه ... كأنما البرق فى حافاته الشّعل مستقبل أوديتهم: أي متجها إليها، تدمّر: أي تهلك، حاق: أي نزل، صرفنا: أي بيّنا ونوّعنا، الآيات: الحجج والعبر، فلولا: أي فهلا، نصرهم: أي منعهم، قربانا: أي متقربا بها إلى الله، ضلوا عنهم: أي غابوا عنهم، إفكهم: أي أثر إفكهم وصرفهم عن الحق، وما كانوا يفترون أي وأثر افترائهم وكذبهم. المعنى الجملي بعد أن أورد سبحانه الدلائل على إثبات التوحيد والنبوة التي أعرض عنها أهل مكة ولم يلتفتوا إليها ولم تجدهم فتيلا ولا قطميرا، لاستغراقهم فى الدنيا واشتغالهم بطلبها- أردف هذا ذكر قصص عاد وما حدث منهم مع نبيهم هود عليه السلام وضرب لهم به المثل ليعتبروا فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا، ويقبلوا على طاعة الله، فقد كانوا أكثر منهم أموالا وأقوى منهم جندا، فسلط الله عليهم العذاب بسبب كفرهم، ولم يغن عنهم مالهم من الله شيئا.

الإيضاح

الإيضاح (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك المكذبين ما جئتهم به من الحق- هودا أخا عاد، فقد كذبه قومه بالأحقاف حين أنذرهم بأس الله وشديد عذابه، وقد مضت رسل من قبله ومن بعده منذرة أممها ألا تشركوا مع الله شيئا فى عبادتكم إياه، بل أخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهة، وقد كانوا أهل أوثان يعبدونها من دون الله، فقال لهم ناصحا: إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم الهول «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» . وحين نصحهم بذلك أجابوه: (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، وإلى اتباعك فيما تقول؟ هلمّ فهات ما تعدنا به من العذاب على عبادة ما نعبد من الآلهة إن كنت صادقا فى قولك وعدتك. والخلاصة- أتزيلنا بضروب من الكذب عن آلهتنا وعبادتها؟ فأتنا بما تعدنا من معالجة العذاب على الشرك إن كنت صادقا فى وعيدك، وقد استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعادا منهم لوقوعه كما قال تعالى. «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» . فردّ هود عليهم مقالهم: (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قال: إنما العلم بوقت نزوله عند الله وحده لا عندى، فلا أستطيع تعجيله ولا أقدر عليه، ثم بين وظيفته فقال:

(وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، لا أن آتى بالعذاب، فليس ذلك من مقدورى، بل هو من مقدورات ربى. ثم بين لهم أنهم جاهلون بوظيفة الرسل فقال: (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي وإنى لأعتقد فيكم الجهل، ومن ثم بقيتم مصرّين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم علىّ ما ليس من شأن الرسل، وهو الإتيان بالعذاب. ثم ذكر مجىء العذاب إليهم وانتقامه منهم واستئصال شأفتهم فقال: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوا سحابا يعرض فى أفق السماء متجها إلى أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، ظنا منهم أن غيثا قد أتاهم وفيه حياتهم. روى أنه قد حبس عنهم المطر أياما، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المعتّب، فلما رأوها تستقبل أوديتهم استبشروا بها خيرا. ولما سمع هود مقالهم وشام العارض مليا قال: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب إذ قلتم «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . ثم فسر هذا العارض وبين حقيقته فقال: (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي بل هو ريح فيها عذاب يهلككم ويجعلكم كأمس الدابر. ثم وصف هذه الريح فقال: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) أي تهلك كل شىء مرت به من نفوس عاد وأموالها بإذن ربها. ونحو الآية قوله تعالى: «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» أي كالشىء البالي الخلق.

ثم ذكر مآل أمرهم بعدها فقال: (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي فجاءتهم الريح فدمرتهم، فصاروا بعد الهلاك لا يرى إلا آثار مساكنهم، إذ قد اجتاحت الأموال، وأذهبت الأنفس، وجعلتها أثرا بعد عين. روى عن ابن عباس: أن أول ما عرفوا أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان فى الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلّقوا أبوابهم، فقلعتها الريح وصرعتهم: وأحال الله عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، ثم كشفت الريح عنهم الرمال فاحتملتهم فطرحتهم فى البحر. أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عائشة رضى الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال: اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فإذا أخيلت السماء تغير لونه صلّى الله عليه وسلّم وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرّى عنه، فسألته فقال عليه السلام لا أدرى لعلّه كما قال قوم عاد (هذا عارض ممطرنا) » . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: «ما رأيت رسول الله مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته «1» وإنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيما وريحا عرف ذلك فى وجهه، قلت يا رسول الله: الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف فى وجهك الكراهية، قال: يا عائشة وما يؤمّننى أن يكون فيه عذاب، عذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا» . وفى صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور. «2» »

_ (1) واحدها لهاة: وهى اللحمة المشرفة على الحلق فى أقصى سقف الفم. (2) الصبا: ريح الشمال، والدبور: ريح الجنوب. [.....]

قال شاعرهم يحكى هذا القصص فيما رواه ابن الكلبي: فدعا هود عليهم ... دعوة أضحوا همودا عصفت ريح عليهم ... تركت عادا خمودا سخّرت سبع ليال ... لم تدع فى الأرض عودا (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جازينا عادا بكفرهم بالله ذلك العقاب فى الدنيا، فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزى كل مجرم كافر بالله متماد فى غيّه. ولا يخفى ما فى هذا من التهديد والوعيد الشديد. ثم أخبر سبحانه عن قوة عاد بقوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي ولقد مكنا عادا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه، من الأموال الكثيرة، وبسطة الأجسام، وقوة الأبدان- وهم على ذلك ما نجوا من عقاب الله، فتدبروا أمركم، وفكروا فيما تعملون قبل أن يحل بكم العذاب، ولا تجدون منه مهربا. ونحو الآية قوله «كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ» . (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي إنا فتحنا عليهم أبواب نعمنا، فأعطيناهم سمعا فما استعملوه فى سماع الأدلة والحجج ليعتبروا ويتذكروا، وأعطيناهم أبصارا ليروا ما نصبناه من الشواهد الدالة على وجودنا فما انتفعوا بها، وأعطيناهم قلوبا تفقه حكمة الله فى خلق الأكوان فما استفادوا منها ما يفيدهم فى آخرتهم ويقرّبهم من جوار ربهم، بل صرفوها فى طلب الدنيا ولذاتها، لا جرم لم ينفعهم ما أعطيناهم من السمع والأبصار والأفئدة، إذ لم يستعملوها فيما خلقت له من شكر من أنعم بها ودوام عبادته.

ثم بين العلة فى عدم إغناء ذلك عنهم فقال: (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي لأنهم كانوا يكذبون رسل الله، وينكرون معجزاتهم. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ونزل بهم ما سخروا به فاستعجلوه من العذاب. وفى هذا تخويف لأهل مكة حتى يحذروا من عذاب الله، ويخافوا عقابه، فإنّ عادا لما اغتروا بدنياهم، وأعرضوا عن قول الحق- نزل بهم العذاب، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم شيئا- فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى. ولما أخبر بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة، ليتعظ بهم من سمع أمرهم، أتبعه بذكر من كان مشاركا لهم فى التكذيب، فأدركه سوء العذاب كما أدركهم فقال: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) أي ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حول قريتكم من القرى المكذبة للرسل كعاد، وقد كانوا بالأحقاف بحضرموت، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وسبإ باليمن، ومدين، وكانت فى طريقهم فى رحلاتهم صيفا وشتاء، بعد أن أنذرناهم بالمثلات، فلم يغن ذلك عنهم شيئا فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر. (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وبيّنا لهم دلائل قدرتنا، وبديع حججنا ليرجعوا عن غيّهم الذي استمسكوا به لمحض التقليد، أو لشبهة عرضت لهم، فحلّ بهم سوء العذاب ولم يجدوا لهم نصيرا ولا دافعا لعذاب الله، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي فهلا نصرهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتهم قربانا يتقربون به إلى ربهم فيما زعموا، حين جاءهم بأسه فأنقذوهم من عذابه إن كانوا يشفعون عنده، لكنهم غابوا عنهم ولم يفيدوهم شيئا. (3- مراغى- السادس والعشرون)

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 إلى 32]

وفى هذا تقريع لأهل مكة وتأنيب لهم على أنه لو كانت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تغنى عنهم شيئا، أو تنفعهم عنده- لأغنت عمن كان قبلهم من الأمم الذين أهلكوا بعبادتهم لها، فدفعت عنهم العذاب إذ نزل بهم، أو لشفعت لهم عند ربهم، لكنها أضرّتهم ولم تنفعهم، وغابت عنهم أحوج ما كانوا إليها، فما أحراهم أن يتنبهوا لما هم فيه من خطل الرأى وسوء التقدير للأمور. (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وامتناع نصرة آلهتهم لهم وصلالهم عنهم- أثر من آثار إفكهم الذي هو اتخاذهم إياهم آلهة، وثمرة افترائهم على الله الكذب. استماع الجن للقرآن [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) تفسير المفردات صرفنا: أي وجهنا، والنفر: ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال، سموا بذلك: لأنهم ينفرون إذا حزبهم أمر لكفايته، أنصتوا: أي اسكتوا، قضى: أي فرغ

المعنى الجملي

من تلاوته، ولّوا: أي رجعوا، منذرين: أي مخوّفين لهم عواقب الضلال. روى أن هؤلاء الجن كانوا من جنّ نصيبين من دياربكر قريبة من الشام، أو من نينوى بالموصل، وكان الاجتماع بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة، وقد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا منهم فاستمعوا منه، حتى إذا انقضى من تلاوته رجعوا إلى قومهم منذريهم عقاب الله إذا هم استمروا على الضلال. أجاره من كذا: أنقذه منه، وداعى الله: هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس بمعجز فى الأرض: أي لا ينجو منه هارب، ولا يسبق قضاءه سابق. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن فى الإنس من آمن ومنهم من كفر- أعقب هذا ببيان أن الجن كذلك، فمنهم من آمن ومنهم من كفر وأن مؤمنهم معرّض للثواب، وكافرهم معرض للعقاب، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كما أرسل إلى الإنس أرسل إلى الجن. واعلم أن عالم الملائكة وعالم الجن لا يقوم عليهما دليل من العقل فهما بمعزل عن ذلك، وإنما دليلهما السمع وإخبار الأنبياء بذلك فقط، فعلينا أن نؤمن بما جاء به فحسب ولا نزيد على ذلك شيئا، ولا نتوسع فى بحثه وتأويله وتفصيله، فإن ذلك من عالم الغيب الذي لم نؤت من علمه كثيرا ولا قليلا، فعلينا أن نؤمن بأن اتصالا قد تمّ بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وعالم الملائكة، وبه تلقّى الوحى على أيديهم، وأنه اتصل بعالم الجن، فعلّمهم وبشرهم وأنذرهم، لكنا لا ندرى كيف كان الاتصال ولا كيف تلقّوا عنه القرآن، ولعل تقدم العلوم فى مستأنف الأيام يلقى علينا ضواءا من هذه المعرفة، أو لعل قراءة علم الروح والتوسع فى دراسته ينير لنا بعض السر فى ذلك ففى هذه الدراسة معرفة شىء من أحوالنا فى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة وسيأتى تفصيل لهذا القصص فى سورة الجن

الإيضاح

الإيضاح (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي واذكر أيها الرسول لقومك موبخا لهم على كفرهم بما آمنت به الجن، لعلهم يتنبهون لجهلهم، ويرعوون عن غيّهم وقبح ما هم فيه من كفر بالقرآن وإعراض عنه، مع أنهم أهل اللسان الذي به نزل، ومن جنس الرسول الذي جاء به، وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عند الله وآمنوا به، وليسوا من أهل لسانه، ولا من جنس رسوله- فى ذلك الوقت الذي وجه الله إليه جماعة من الجن، ليستمعوا القرآن ويتعظوا بما فيه من عبر وعظات، فلما حضروا الرسول قال بعضهم لبعض: أنصتوا مستمعين، فلما فرغ من تلاوته رجعوا إلى قومهم لينذروهم بأس الله وشديد عذابه. وذكر الوقت ذكر لما فيه من الأحداث التي يراد إخبار السامع بها، لما لها من خطر جليل وشأن عظيم، فيراد علمه بها ليكون لها فى نفسه الأثر الذي يقصد منها من ترغيب أو ترهيب، ومسرة أو حزن إلى نحو أولئك من أغراض الكلام ومقاصده. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبىّ صلى الله عليه وسلّم بالجن ليلة استمعوا القرآن، قال آذنته بهم الشجرة. وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منكم أحد ليلة الجن؟ قال ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل. استطير. ما فعل؟ قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان فى وجه الصبح إذا نحن به يجىء من قبل حراء فأخبرناه فقال: إنه أتانى داعى الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.

وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرة بعد مرة، وأخذت عنه الشرائع والأحكام الدينية. ثم فصل ما قالوه لهم فى إنذارهم. (قالُوا: يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قالوا لهم يا قومنا من الجن: إنا سمعنا كتابا أنزله الله من بعد توراة موسى، يصدّق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله، ويرشد إلى سبيل الحق، وإلى ما فيه لله رضا، وإلى الطريق الذي لا عوج فيه. وخصوا التوراة بالذكر لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين. وقال عطاء لأنهم كانوا على اليهودية، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله، وصدقوه فيما جاء به من أمر الله ونهيه- يغفر لكم بعض ذنوبكم ويسترها لكم ولا يفضحكم بها فى الآخرة بعقوبته لكم عليها، وينقذكم من عذاب موجع، إذا أنتم تبتم من ذنوبكم وأنبتم إلى ربكم، وأخلصتم له العبادة. وفى الآية إيماء إلى أن حكم الجن حكم الإنس فى الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي. ثم حذروا قومهم وتوعدوهم وأوجبوا إجابتهم داعى الله بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب فقالوا: (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي ومن لا يجب رسول الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى مادعا إليه من التوحيد والعمل بطاعته، فلا يفوت ربه ولا يسبقه هربا إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه، ولا يجد له نصراء ينصرونه ويدفعون عنه عذابه.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 إلى 35]

ثم بيّن أن من فعل ذلك فقد بلغ الغاية فى الضلال، والبعد عن الصراط السوىّ فقال: (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وأولئك الذين يفعلون ذلك يكونون فى ضلال بيّن، وجور عن قصد السبيل، لأن طريق الحق واضحة وأعلامه منصوبة، والوصول إليه ميسور، فمن جانفه وأعرض عنه فقد أجرم واستحق الجزاء الذي هو له أهل. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) تفسير المفردات لم يعى: أي لم يعجز، قال الكسائي: يقال أعييت من التعب، وعييت من انقطاع الحيلة والعجز، قال عبيد بن الأبرص: عيّوا بأمرهم كما ... عيّت ببيضتها الحمامه أولو العزم: أي ذوو الحزم والصبر، قال مجاهد: هم خمسة نظمهم الشاعر فى قوله: أولو العزم نوح والخليل الممجّد ... وموسى وعيسى والحبيب محمد بلاغ: أي كفاية فى الموعظة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فى أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم، وأبطل قول عبدة الأصنام، ثم ثنى بإثبات النبوة وذكر شبهاتهم فى الطعن فيها وأجاب عنها- أردف ذلك إثبات البعث وأقام الدليل عليه، فذكر أن من خلق السموات والأرض على عظمهن فهو قادر على أن يحيى الموتى، ثم أعقب هذا بما يجرى مجرى العظة والنصيحة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على أذى قومه كما صبر من قبله أولو العزم من الرسل، وبعدم استعجال العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وحين نزوله بهم سيستقصرون مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار لهول ما عاينوا، ثم ختم السورة بأن فى هذه العظات كفاية أيّما كفاية، وما يهلك إلا من خرج عن طاعة ربه، ولم ينقد لأمره ونهيه. الإيضاح (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الخلق بعد وفاتهم، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلاهم، فيعلموا أن الذي خلق السموات والسبع والأرض فابتدعهن من غير شىء، ولم يعى فى إنشائهن- بقادر على أن يحيى الموتى فيخرجهم من بعد بلاهم فى قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم؟. ونحو الآية قوله عز وجل: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . والخلاصة- إن من قال للسموات والأرض كونى فكانت لا ممانعة ولا مخالفة، طائعة خائفة وجلة- أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى؟

ثم أجاب عن ذلك مقرّرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود فقال: (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي بلى إن الذي خلق ذلك- ذو قدرة على كل شىء أراد خلقه، ولا يعجزه شىء أراد فعله. وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال لوضوح الجواب إذ لا يختلف فيه أحد، ولا يعارض فيه ذو لبّ. ولما أثبت البعث بما أقام من الأدلة ذكر ما يحدث حينئذ من الأهوال فقال: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي ويوم يعرض هؤلاء المكذبون بالبعث وبثواب الله لعباده على أعمالهم الصالحة، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة- على نار جهنم يقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم وقد كنتم تكذبون به فى الدنيا- بالحق الذي لا شك فيه؟ قالوا من فورهم: بلى وربنا إنه لحق. (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي قال آمرا لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار الآن جزاء جحودكم به فى الدنيا، وإبائكم الاعتراف به إذا دعيتم للتصديق به. ولما قرر التوحيد والنبوة والبعث وأجاب عن شبهاتهم- أردف ذلك ما يجرى مجرى العظة والنصيحة لنبيّه، لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوغرون صدره فقال: (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي فاصبر أيها الرسول على ما أصابك فى الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم منذرا، كما صبر أولو العزم من الرسل على القيام بأمر الله والانتهاء إلى طاعته. والخلاصة- اصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك. وعن عائشة قالت: ظلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صائما ثم طوى، ثم ظلّ صائما ثم طوى، ثم ظل صائما قال يا عائشة: «إن الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد،

يا عائشة إن الله لم يرض من أولى العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض منى إلا أن يكلفنى ما كلفهم فقال: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» وإنى والله لأصبرنّ كما صبروا جهدى ولا قوة إلا بالله» أخرجه ابن أبى حاتم والدّيلمى. ولما أمره بالصبر، وهو أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة وهى أخسّ الرذائل فقال: (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي ولا تعجل بمسألة ربك العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة. ونحو الآية قوله تعالى: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» وقوله: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» . ثم أخبر بأن العذاب إذا نزل بالكافرين استقصروا مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي كأنهم حين يرون عذاب الله الذي أوعدهم بأنه نازل بهم- لم يلبثوا فى الدنيا إلا ساعة من نهار- لأن شدة ما ينزل بهم منه ينسيهم قدر ما مكثوا فى الدنيا من السنين والأعوام، فيظنونها ساعة من نهار. ونحو الآية قوله: «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ» وقوله: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» . (بلاغ) أي هذا القرآن بلاغ لهم، وكفاية إن فكروا واعتبروا، ودليله قوله تعالى: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» وقوله: «إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ» .

خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة

ثم أوعد وأنذر فقال: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟) أي وما يهلك بالعذاب إلا الخارجون عن طاعة الله، المخالفون لأمره ونهيه إذ لا يعذب إلا من يستحق العذاب. قال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك مشرك، وهذه الآية أقوى آية فى الرجاء ومن ثم قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، وهذا تطميع فى سعة فضل الله سبحانه وتعالى. أخرج الطبراني فى الدعاء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «اللهم إنى أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لى ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرّجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين» . خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة (1) إقامة الأدلة على التوحيد والرد على عبدة الأصنام والأوثان. (2) المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة والإجابة عنها وبيان فسادها. (3) ذكر حال أهل الاستقامة الذين وحدوا الله وصدقوا أنبياءه، وبيان أن جزاءهم الجنة. (4) ذكر وصايا للمؤمنين من إكرام الوالدين وعمل ما يرضى الله. (5) بيان حال من انهمكوا فى الدنيا ولذاتها. (6) قصص عاد، وفيه بيان أن صرف النعم فى غير وجهها يورث الهلاك. (7) استماع الجن للرسول صلى الله عليه وسلّم وتبليغهم قومهم ما سمعوه. (8) عظة للنبى صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من أمته. (9) بيان أن القرآن فيه البلاغ والكفاية فى الإنذار. (10) من عدل الله ورحمته ألا يعذب إلا من خرج من طاعته ولم يعمل بأمره ونهيه.

سورة محمد صلى الله عليه وسلم

سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتسمى سورة القتال هى مدنية إلا آية 13 فقد نزلت فى الطريق أثناء الهجرة. وآيها ثمان وثلاثون آية. نزلت بعد الحديد. ولا تخفى قوة ارتباطها بما قبلها، فإن أولها متلاحم بآخر السورة السابقة، حتى لو أسقطت البسملة من البين لكان الكلام متصلا بسابقه لا تنافر فيه، ولكان بعضه آخذا بحجز بعض. أخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرؤها فى صلاة المغرب. [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) تفسير المفردات صدوا عن سبيل الله: أي صرفوا الناس عن الدخول فى الإسلام، وذلك يستلزم أنهم منعوا أنفسهم عن الدخول فيه، أضل أعمالهم: أي أبطلها، وهو الحق من ربهم:

المعنى الجملي

أي وهو الحق الثابت الذي لا مرية فيه، بالهم: أي حالهم فى الدين والدنيا بالتوفيق لصالح الأعمال، وأصل البال: الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال ما باليت به: أي ما اكترثت به، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم «كل أمر ذى بال» الحديث. يضرب الله للناس أمثالهم: أي يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه فى معادهم. المعنى الجملي قسم سبحانه الناس فريقين: أهل الكفر الذين صدوا الناس عن سبيل الله، وهؤلاء يبطل أعمالهم سواء كانت حسنة كصلة الأرحام وإطعام الطعام، أو سيئة كالكيد لرسول الله والصدّ عن سبيل الله، فالأولى يبطل ثوابها، والثانية يمحو أثرها، وهكذا كل من قاوم عملا شريفا فإن مآله الخذلان. وأهل الإيمان بالله ورسوله الذين أصلحوا أعمالهم، وأولئك يغفر الله لهم سيئات أعمالهم ويوفقهم فى الدين والدنيا، كما أضاع أعمال الكافرين ولم يثب عليها. ثم علل ما سلف بأن أعمال الفريقين جرت على ما سنه الله فى الخليقة: بأن الحق منصور، وأن الباطل مخذول سواء كان فى أمور الدين أم فى أمور الدنيا، فالصناعات المحكمة إنما يقبل الناس عليها ويؤثرونها، لأنها جارية على الطريق القويم والنسق الحق، وهكذا الشأن فى المزروعات والمصنوعات المتقنة الجيدة، والسياسات الحكيمة. والصناعات المرذولة والسلع المزجاة لن يكون حظها إلا الكساد والبوار، لأن الباطل لا ثبات له، والحق هو الثابت، والله هو الحق فينصر الحق، والعلم الصحيح والدين الصحيح والصناعات الجيدة والآراء الصادقة نتائجها السعادة، وضدها عاقبته الشقاء والبوار. وقصارى ذلك- إن الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق وعلى قوانين ثابتة منظمة، فكل ما قرب من الحق كان باقيا، وكل ما ابتعد عنه كان هالكا، فرجال الجدّ والنشاط مؤيدون، ورجال الكسل والتواكل مخذولون، والمحققون فى كل شىء محبوبون منصورون.

الإيضاح

الإيضاح (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي الذين جحدوا توحيد الله، وعبدوا غيره، وصدوا من أراد عبادته والإقرار بوحدانيته وتصديق نبيّه عما أراد- جعل الله أعمالهم تسير على غير هدى، لأنها عملت فى سبيل الشيطان لا فى سبيل الرحمن، وما عمل للشيطان فمآله الخسران. فما عملوه فى الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق: من صلة الأرحام وفك الأسارى وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام وإجارة المستجير وقرى الأضياف ونحو ذلك- حكم الله ببطلانه، فلا يرون له فى الآخرة ثوابا، ويجزون به فى الدنيا من فضله تعالى. ونحو الآية قوله: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» . قال ابن عباس: نزلت الآية فى المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبىّ، وأمية ابنا خلف، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل. ولما ذكر سبحانه جزاء أهل الكفر، أتبعهم بثواب أهل الإيمان فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي والذين صدقوا الله، وعملوا بطاعته، واتبعوا أمره ونهيه، وصدقوا بالكتاب الذي نزل على محمد، هو الحق من ربهم- محا الله بفعلهم سيىء ما عملوا فلم يؤاخذهم به، وأصلح شأنهم فى الدنيا بتوفيقهم لسبل السعادة، وأصلح شأنهم فى الآخرة بأن يورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم فى جناته.

[سورة محمد (47) : الآيات 4 إلى 9]

قال ابن عباس نزلت الآية فى الأنصار. ثم بين سبب الإضلال، وإصلاح البال فقال: (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وإنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شئونهم، لأن الذين كفروا اختاروا الباطل على الحق بما وسوس إليهم به الشيطان، ولأن الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من ربهم، فأنار بصائرهم وهداهم إلى سبل الرشاد. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي كما بينت لكم فعلى بفريقى الكفار والمؤمنين. كذلك نمثل للناس الأمثال، ونشبّه لهم الأشباه، فنلحق بالأشياء أمثالها وأشكالها. والخلاصة- إنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار، وإضلال أعمالهم مثلا لخيبتهم، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، وتكفير سيئاتهم مثلا لفوزهم، وهكذا شأن القرآن يوضح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الأمثال كما ضرب المثل بالنخل والحنظل فى سورة أخرى. [سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لقيتم من اللقاء: وهو الحرب، فضرب الرقاب: أي فالقتل، وعبر به عنه تصويرا له بأشنع صورة وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأوجه أعضائه ومجمع حواسه، وبقاء البدن ملقى على هيئة مستبشعة، وفى ذلك من الغلظة والشدة ما ليس فى لفظ القتل، وأثخنتموهم: أي أكثرتم القتل فيهم، فشدّوا الوثاق: أي فأسروهم، والوثاق: (بالفتح والكسر) : ما يوثق به، منّا: أي إطلاقا من الأسر بالمجّان، فداء: أي إطلاقا فى مقابلة مال أو غيره، والأوزار فى الأصل: الأحمال ويراد بها آلات الحرب وأثقالها من السلاح والكراع، قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا ومن نسج داود موضونة ... تساق مع الحىّ عيرا فعيرا انتصر: أي انتقم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق، ليبلو: أي ليختبر، يضلّ: أي يضيع، بالهم. أي شأنهم وحالهم، عرّفها. أي بينها وأعلمها، إن تنصروا الله: أي تنصروا دينه، يثبت أقدامكم: أي يوفقكم للدوام على طاعته، فتعسا لهم، من قولهم: تعس (بفتح العين) الرجل تعسا: أي سقط على وجهه، وضده انتعش: أي قام من سقوطه، ويقال تعسا ونكسا (بضم النون) : أي سقوطا على الوجه وسقوطا على الرأس، أحبط أعمالهم: أي أبطلها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس فريقان: أحدهما متبع للباطل، وهو حزب الشيطان، وثانيهما متبع للحق، وهو حزب الرحمن- ذكر هنا وجوب قتال الفريق الأول حتى يفىء إلى أمر الله، ويرجع عن غيّه، وتخضد شوكته. الإيضاح (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي فإذا واجهتم المشركين فى القتال فاحصدوهم حصدا بالسيوف حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقابهم وصاروا فى أيديكم أسرى فشدوهم فى الوثاق، كى لا يقاتلوكم أو يهربوا منكم، ثم أنتم بعد إنهاء الحرب وانتهاء المعارك- بالخيار فى أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتموهم بلا عوض من مال أو غيره، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه- حتى لا يكون حرب مع المشركين ولا قتال، بزوال شوكتهم. ونحو الآية قوله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» . قال ابن عباس رضى الله عنهما: لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى فى الأسارى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وكان عليه عمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده. روى البخاري عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلّم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بنى حنيفة، يقال له ثمامة ابن أثال، فربطوه فى سارية من سوارى المسجد، فخرج إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندى خير، إن تقتلنى تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له صلّى الله عليه وسلم: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندى ما قلت لك، قال: أطلقوا

ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلىّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلىّ، والله ما كان من دين أبغض إلىّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلىّ، والله ما كان من بلد أبغض إلىّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إلىّ وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال لا ولكن أسامت مع محمد صلّى الله عليه وسلم. وعن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ففداه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف. واعلم أن للحرب فوائد، وللسلم أخرى، فالأمم فى حال الطفولة عقولها أشبه بعقول الشاب المراهق الذي لم يبلغ الحلم، تراه يقاتل الصبيان ويشاجرهم ويوقع الأذى بهم وهم يزيدون فى أذاه، وينكلون به، وهذه هى حال الأمم اليوم. ألا إن الحرب تقوّى الأبدان، وترقى الصناعات، وتجعل الأمم تنمو، وتوقظ الشعور، وتفتح المغلق، وتيسر العسير، قال أرسطو للاسكندر: إن الراحة مضرة للأمم، ومن ثم قيل: إذا أردت رقىّ أمة فاجعلها تخوض الحروب فذلك يفتح لها باب السعادة والأمم النائمة على فراش الراحة الوثير معرّضة للزوال فإذا كملت أخلاق الأمم ومواهبها، فإن نتائج السلم عندها ستكون كنتائج الحرب لدى من قبلها، فكما يفرح الرجل فى الأمم الحاضرة بغلبة الأعداء وشفاء الغليل وجمع الرجال والسلاح والكراع، فسيكون فرح الأمم فيما بعد بمساعدة غيرها وانشراح صدورها بظهور أمم أخرى تكافح معها فى ميدان الحياة، ويكون كل فرد فى الأمم المقبلة أشبه بالأب يكدح لمساعدة أبنائه، وهذا الكدح والجد فى العمل لفائدة الجميع بحد فيه العامل لذة وفرحا أشد من فرح المنتصر فى ميادين القتال.

وإن الأمم لا تزال فى الطّور الأول، فهى تسعى لإسعاد نفسها بإهلاك سواها، وسيأتى حين تسعى فيه لإسعاد الجميع، ويكون فرحها بهذا المسعى أشد من فرحها بهزيمة الأعداء ويكون الناس جميعا بعضهم لبعض كالآباء والأبناء. وإلى حال الكمال أشار سبحانه بقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وإلى حال النقص أشار سبحانه بقوله: (ذلِكَ) أي هذا الذي أمرتكم به من قتل المشركين إن لقيتموهم فى حرب، وشدّ وثاقهم فى أسرهم، والمنّ والفداء حتى تضع الحرب أوزارها- هو الحق الذي أمركم به ربكم، وهو السنة التي جرى عليها لإصلاح حال عباده، وهى التي ستبقى السنة الطبيعية بين الأمم ما دامت فى طور طفولتها، حتى يتم نضجها العقلي والخلقي فتضع الحرب أوزارها، إذ لا يكون هناك حاجة إليها، لأن العالم كله يكون كأسرة واحدة، سعادته بسعادة أفراده جميعا، وشقاؤه بشقائهم. ثم بين أن هذه هى السنة التي أرادها الله من حرب المشركين، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال، فقال: (وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولو يشاء ربكم لانتصر من هؤلاء المشركين بعقوبة عاجلة، وكفاكم أمرهم، ولكنه أراد أن يبلو بعضكم ببعض فيختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلوهم بكم، فيعاقب بأيديكم من شاء، ويتعظ منهم من شاء بمن أهلك بأيديكم حتى ينيب إلى الحق. وفى الجهاد تقوية لأبدانكم، ورقىّ لعقولكم، ونفاذ لكلمتكم، وجمع لشملكم بما ترون من اتحاد عدوكم، وبه ترقى الزراعة والتجارة والصناعة وجميع العلوم إذ لا يتم حرب ولا غلبة إلا بها، وهكذا ترتقى حال الأعداء، فيتسع العمران، وتعم المدنية، ويرقى النوع الإنسانى، ولا يعيش فى هذا الوسط الصاحب إلا الصالح للبقاء والضعيف من الطرفين هالك، وهذه هى سنة الله فى الكون.

ثم ذكر جزاء المجاهدين فى سبيل الله فقال: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين جاهدوا أعداء الله فى دين الله وفى نصرة ما بعث الله به رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الهدى، فلن يجعل أعمالهم التي عملوها فى الدنيا ضائعة سدى كما أذهب أعمال الكافرين وجعلها عديمة الجدوى. روى أحمد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يعطى الشهيد ستّ خصال. عند أول قطرة من دمه تكفّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوّج من الحور العين، ويأمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلّى حلة الإيمان» . وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن قتادة قال: «ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الشّعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون: الله أعلى وأجلّ. وقال المشركون: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: قولوا لاسواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم فى النار يعذبون، فقال المشركون: إن لنا العزى ولا عزّى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم» . ثم فسر ما سلف بقوله: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي سيوفقهم الله للعمل بما يرضيه ويحبه، ويصونهم مما يورث الضلال، ويصلح شأنهم فى العقبى، ويتقبل أعمالهم، ويجعل لكل منهم مقرّا فى الجنة لا يضل فى طلبه. لا جرم أن لكل امرئ فى الحياة عملا يستوجب حالا فى الآخرة لا يتعداها، كما يحصل كل من نال إجازة فى علم أو صناعة على عمل يشاكل إجازته فى قوانين الدولة.

والناس فى الآخرة أشبه بأنواع السمك فى البحر الملح وأنواع الطير فى جوّ السماء لكل منها جوّ لاتتعداه، هكذا لكل من الصالحين درجة فى الآخرة لا يتعداها، بل يجد نفسه مقهورا على البقاء فيها كما أن السمك منه ما هو قريب من سطح الماء، ومنه ما يوجد تحت سطح الماء بمئات الأمتار وآلافها، وإلى ذلك يشير قوله تعالى «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» . أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها. وفى الخبر: «لأحدكم بمنزله فى الجنة أعرف منه بمنزله فى الدنيا» . ثم وعدهم سبحانه بنصرهم على أعدائهم إذا نصروا دينه بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي إن تنصروا دين الله ينصركم على عدوكم، ويثبت أقدامكم فى القيام بحقوق الإسلام ومجاهدة الكفار، لتكون كلمة الله هى العليا، وكلمة المشركين هى السفلى: وبعد أن ذكر جزاء المجاهدين أعقبه بجزاء الكافرين فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين كفروا بالله وجحدوا توحيده فخزيا لهم وشقاء، وأبطل الله أعمالهم وجعلها على غير هدى واستقامة، لأنها عملت للشيطان، لا طاعة للرحمن. ثم بين سبب ذلك الإضلال فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الذي فعلنا بهم من التعس وإضلال الأعمال، من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه على نبينا محمد

[سورة محمد (47) : الآيات 10 إلى 14]

صلى الله عليه وسلّم فكذبوا به وقالوا هو سحر مبين، فمن ثم أحبط أعمالهم التي عملوها فى الدنيا وأصلاهم سعيرا. وقصارى ذلك- إن كل ما عملوه فى الدنيا من صالح الأعمال فهو باطل، لعدم الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال. [سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 14] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) المعنى الجملي بعد أن نعى سبحانه على الكافرين مغبّة أعمالهم، وأن النار مثوى لهم- أردف هذا أمرهم بالنظر فى أحوال الأمم السالفة ورؤية آثارهم، لما للمشاهدات الحسية من آثار فى النفوس، ونتائج لدى ذوى العقول، إذا تدبروها واعتبروا بها.

الإيضاح

الإيضاح (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أفلم يسر هؤلاء المكذّبون بمحمد صلّى الله عليه وسلم، المنكرون ما أنزلنا عليه من الكتاب- فى الأرض فيروا نقمة الله التي أحلها بالأمم الغابرة، والقرون الخالية، حين كذبوا رسلهم كعاد وثمود، ويتعظوا بذلك، ويحذروا أن نفعل بهم كما فعلنا بمن قبلهم. ثم ذكر ما فعله بهم فقال: (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) يقال دمّره: أهلكه، ودمّر عليه: أهلك ما يختص به، أي أهلك ما يختص بهم من الأهل والولد والمال، أفلا يعتبر هؤلاء بما حل بمن قبلهم فيعلموا أن ما حاق بهم من سوء المنقلب- لا بد أن يحل بهم مثله بحسب ما وضعه سبحانه من السنن فى الأمم المكذبة لرسلها، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي ولهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم أمثال هذه العاقبة التي ترون آثارها. ثم بيّن السبب فى حلول أمثال هذه العاقبة بهم فقال: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي هذا الذي فعله بهم من التدمير والهلاك، ونصر المؤمنين وإظهارهم عليهم بسبب أن الله ولىّ من آمن به وأطاع رسوله، وأن الكافرين لا ناضر لهم، فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب. ونفى المولى عنهم هنا لا يخالف إثباته فى قوله: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» لأن المراد به هناك المالك لأمورهم، المتصرف فى شئونهم. قال قتادة: نزلت يوم أحد والنبي صلّى الله عليه وسلّم فى الشّعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» وقد تقدم هذا برواية أخرى.

وبعد أن بين حالى المؤمنين والكافرين فى الدنيا، بيّن حاليهم فى الآخرة فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله ذا الجلال والكمال يدخل يوم القيامة من آمنوا به وصدقوا رسوله وعملوا صالح الأعمال- بساتين تجرى من تحت قصورها الأنهار كرامة لهم على إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي والذين جحدوا توحيد الله وكذبوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم يتمتعون فى هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية، ويأكلون فيها غير مفكرين فى عواقبهم ومنتهى أمورهم، ولا معتبرين بما نصب الله لخلقه فى الآفاق والأنفس من الحجج المؤدية إلى معرفة توحيده وصدق رسوله، فمثلهم مثل البهائم تأكل فى معالفها ومسارحها، وهى غافلة عما هى بصدده من النحر والذبح، فكذلك هؤلاء يأكلون ويتلذذون وهم ساهون لاهون عن عذاب السعير. (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي ونار جهنم مسكن ومأوى لهم يصيرون إليها بعد مماتهم والخلاصة- إن المؤمنين عرفوا أن نعيم الدنيا ظل زائل فتركوا الشهوات، وتفرغوا للصالحات، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم فى مقام كريم، وإن الكافرين غفلوا عن ذلك فرتعوا فى الدّمن كالبهائم حتى ساقهم الخذلان، إلى مقرهم من درك النيران، أعاذنا الله منها. وبعد أن ضرب لهم المثل بقوله: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» ولم يعتبروا به وذكر لهم. ما تقدم من الأدلة على وحدانيته- ضرب المثل لنبيّه تسلية له على ما يلاقي من عنت قومه وجحودهم فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي وكثير من الأمم التي كان أهلها أشد بأسا وأكثر جمعا، وأعدّ عديدا من

أهل مكة الذين أخرجوك- أهلكناهم بأنواع العذاب ولم يجدوا ناصرا ولا معينا يدفع عنهم بأسنا وعذابنا، فاصبر كما صبر قبلك أولو العزم من الرسل، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات، فالله مظهرك عليهم، ومهلكهم كما أهلك من قبلهم إن لم ينيبوا إلى ربهم، ويثوبوا إلى رشدهم. وغير خاف ما فى هذا من التهديد الشديد، والوعيد الأكيد لأهل مكة. أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: أنت أحبّ بلاد الله إلىّ، وأنت أحب بلاد الله إلىّ. ولولا أن أهلك أخرجونى لم أخرج منك، وأعدى الأعداء من عدا على الله فى حرمه، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول (ثارات) الجاهلية فأنزل الله سبحانه على نبيّه (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) » الآية. ثم ذكر الفارق بين حالى المؤمنين والكافرين والسبب فى كون هؤلاء فى أعلى عليين وأولئك فى أسفل سافلين، فقال: (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟) أي أفمن كان على بصيرة ويقين فى أمر الله ودينه بما أنزله فى كتابه من الهدى والعلم، وبما فطره الله عليه من الفطرة السليمة، فهو على علم بأن له ربّا يجازيه على طاعته إياه بالجنة، وعلى إساءته ومعصيته إياه بالنار- كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله، وأراه إياه جميلا فهو على العمل به مقيم، وعلى السير على نهجه دائب، واتبع هواه وجمحت به شهواته فطفق يعدو فى المعاصي، ويخبّ فيها ويضع، غير ملتفت إلى واعظ أو زاجر؟ والخلاصة- أيستوى الفريقان: من كان ثابتا على حجة بينة من عند ربه وهى كتابه الذي أنزله على رسوله وسائر الحجج التي أقامها فى الآفاق والأنفس. ومن زين له الشيطان سيىء أعماله من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك،

[سورة محمد (47) : آية 15]

واتباع هواه من غير أن يكون له شبهة يركن إليها تعاضد ما يدعيه، وتطمئن إليها نفسه فى الدفاع عما يدين به؟ كلّا هما لا يستويان. ونحو الآية قوله: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى» وقوله: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» . [سورة محمد (47) : آية 15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) تفسير المفردات مثل الجنة: أي صفتها، آسن: أي متغير الطعم والريح لطول مكثه، وفعله أسن (بالفتح من بابى ضرب ونصر، وبالكسر من باب علم) لذة تأنيث لذّ، وهو اللذيذ، مصفى: أي لم يخالطه الشمع ولا فضلات النحل ولم يمت فيه بعض نحله كعسل الدنيا، حميما: أي حارّا، والأمعاء: واحدها معى (بالفتح والكسر) وهو ما فى البطون من الحوايا. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه الفارق بين الفريقين فى الاهتداء والضلال- ذكر الفارق بينهما فى مرجعهما ومآلهما، فذكر ما للأولين من النعيم المقيم واللذات التي لا يدركها

الإيضاح

الإحصاء، وما للآخرين من العذاب اللازب فى النار وشرب الماء الحارّ الذي يقطّع الأمعاء الإيضاح (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفة الجنة التي وعدها الله من اتقى عقابه، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه- ما ستسمعونه بعد. ثم فسر هذه الصفة بقوله: (1) (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي فيها أنهار جارية من مياه غير متغيرة الطعم والريح، لطول مكثها وركودها. (2) (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي لم يحمض ولم يصر قارصا ولا حازرا كألبان الدنيا، وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم. (3) (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي وفيها أنهار من خمر لذيذة لهم، إذ لم تدنسها الأرجل، ولم ترنّقها (تكدرها) الأيدى كخمر الدنيا، وليس فيها كراهة طعم وريح، ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا، فلا يتكرّهها الشاربون. (4) (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي وفيها أنهار من عسل قد صفّى من القذى وما يكون فى عسل أهل الدنيا قبل التصفية من الشمع وفضالات النحل وغيرها. وبدىء بالماء لأنه لا يستغنى عنه فى الدنيا، ثم باللبن لأنه يجرى مجرى المطعوم لكثير من العرب فى غالب أوقاتهم، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الرىّ والشبع تشوفت النفس لما يستلذ به، ثم بالعسل لأن فيه الشفاء فى الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم. أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن معاوية ابن حيدة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «فى الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار منها بعد» .

[سورة محمد (47) : الآيات 16 إلى 19]

(5) (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ولهم فيها أنواع من الثمار المختلفة الطعوم والروائح والأشكال. (6) (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فهو يرضى عنهم بما أسلفوا من عمل، ويتجاوز عن هفواتهم التي اقترفوها فى الدنيا. وبعد أن ذكر ما وعد به المتقين من النعيم- ذكر ما أوعد به الكافرين من العذاب الأليم فقال: (1) (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي أم من هو خالد فى الجنة بحسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد فى النار كما نطق به الكتاب فى قوله: «وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» أي ليس هؤلاء كأولئك فليس من هو فى الدرجات العلى، كمن هو فى الدركات السفلى. (2) (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي وسقوا ماء حارّا لايستساغ، وإذا دنوا منه شوى وجوههم وقطّع أمعاءهم. [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)

تفسير المفردات

تفسير المفردات آنفا: أي قبيل هذا الوقت، مأخوذ من أنف الشيء لما تقدم منه، وأصل ذلك الأنف بمعنى الجارحة ثم سمى به طرف الشيء ومقدمه وأشرفه، آتاهم: أي ألهمهم، بغتة: أي فجأة، والأشراط: العلامات، واحدها شرط (بالسكون والفتح) ومنه أشراط الساعة، قال أبو الأسود الدؤلي: فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو فأنى لهم: أي كيف لهم، ذكراهم: أي تذكرهم، متقلبكم: أي تقلبكم لأشغالكم فى الدنيا، ومثواكم: أي مأواكم فى الجنة أو النار. المعنى الجملي بعد أن ذكر حال المشركين وبين سوء مغبتهم- أردف هذا بيان أحوال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيسمعون كلامه ولا يعونه تهاونا واستهزاء به، حتى إذا خرجوا من عنده قالوا للواعين من الصحابة: ماذا قال قبل افتراقنا وخروجنا من عنده؟ - وهؤلاء قد طبع الله على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم، ومن ثم تشاغلوا عن سماع كلامه وأقبلوا على جمع حطام الدنيا، ثم أعقبه بذكر حال من اهتدوا، وألهمهم ربهم ما يتقون به النار، ثم عنّف أولئك المكذبين وذكر أن عليهم أن يرعووا قبل أن تجىء الساعة التي بدت علاماتها بمبعث محمد صلّى الله عليه وسلم والذكرى لا تنفع حينئذ، ثم أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله وإصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، والله هو العليم بمتصرفكم فى الدنيا ومصيركم إلى الجنة أو إلى النار فى الآخرة.

الإيضاح

الإيضاح (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً؟) أي ومن الناس منافقون يستمعون فلا يعون ما تقول، ولا يفهمون ما تتلو عليهم من كتاب ربك، تغافلا عما تدعو إليه من الإيمان، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا لمن حضر مجلسك من أهل العلم بكتاب الله: ماذا قال محمد قبل أن نفارق مجلسه؟. وما مقصدهم من ذلك إلا السخرية والاستهزاء بما يقول، وأنه مما لا ينبغى أن يؤبه به، أو يلقى لمثله سمع. روى مقاتل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله ابن مسعود، استهزاء: ماذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل. ثم بين سبب استهزائهم وتهاونهم بما سمعوا فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي هؤلاء الذين هذه صفتهم- هم الذين ختم الله على قلوبهم، فلا يهتدون للحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبعوا شهواتهم وما دعتهم إليه أنفسهم، فلا يرجعون إلى حجة ولا برهان. ثم ذكر سبحانه أضداد هؤلاء بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي والذين اهتدوا بالإيمان واستماع القرآن زادهم الله بصيرة وعلما وشرح صدورهم، وألهمهم رشدهم، وأعانهم على تقواه. ثم بيّن أنهم فى غفلة عن النظر والتأمل فى عاقبة أمرهم فقال: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي إنه بعد أن قامت الأدلة على وحدانية الله وصدق نبوّة رسوله وأن البعث حق، وأن الله يهلك

من كذب رسله ويحل بهم الوبال والنكال كما شاهدوا ذلك فيمن حولهم من الأمم التي أهلكها الله لتكذيبها رسلها، ولم يبق منها إلا آثارها، ولم يفدهم كل ذلك شيئا ولم يتعظوا ولم يؤمنوا- فماذا ينتظرون للعظة والاعتبار؟ لا ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتة إذ جاءت علامتها، ولم يبق من الأمور الموجبة للتذكر والعظة للإيمان بالله سوى ذلك. والخلاصة- إن البراهين قد نصبت، والأدلة قد وضحت على وجوب الإيمان بالله، وصدق رسوله، والبعث والنشور، وهم لم يؤمنوا- فلا يتوقع منهم إيمان بعدئذ إلا حين مجىء الساعة بغتة، وهاهى ذى أشراطها قد ظهرت، ومقدماتها قد بدأت، ولم يأبهوا بها، ولا فكروا فى أمرها، والمراد بيان أنهم بلغوا الغاية فى العناد، والنهاية فى الاستكبار. ثم أظهر خطأهم، وحكم بأن رأيهم آفن فى تأخيرهم التذكر إلى قيام الساعة، ببيان أن التذكر لا يجدى نفعا حينئذ فقال: (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ؟) أي فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟ فإن الذكرى لا تنفع حينئذ، ولا تقبل التوبة، ولا ينفع الإيمان. ونحو الآية قوله: «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى» . وبعد أن أبان أن الذكرى لا تنفع إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل- أمر رسوله بالثبات على ما هو عليه، والاستغفار لأتباعه، فقال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي إذا علمت سعادة المؤمنين وعذاب الكافرين، فاستمسك بما أنت عليه من موجبات السعادة، واستكمل حظوظ نفسك بالاستغفار من ذنبك (وذنوب الأنبياء أن يتركوا ما هو الأولى بمنصبهم الجليل) وتوجّه بالدعاء والاستغفار لأتباعك من المؤمنين والمؤمنات. وفى الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم

[سورة محمد (47) : الآيات 20 إلى 23]

اغفر لى خطيئتى وجهلى وإسرافى فى أمرى وما أنت أعلم به منى اللهم اغفر لى هزلى وجدّى، وخطئى وعمدى، وكل ذلك عندى» . وثبت أنه كان يقول فى آخر الصلاة: «اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به منى، أنت إلهى لا إله إلا أنت» . وجاء أيضا أنه قال «أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإنى أستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة» . وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال: إنما أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكونى بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون» . وفى الأثر المروي «قال إبليس وعزّتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم فى أجسادهم، فقال الله عز وجل: وعزتى وجلالى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى» . ثم رغبهم سبحانه فى امتثال ما يأمرهم به، ورهّبهم مما ينهاهم عنه فقال: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي والله يعلم تصرفكم فى نهاركم ومستقركم فى ليلكم، فاتقوه واستغفروه، فهو جدير بأن يتقى ويخشى، وأن يستغفر ويسترحم. ونحو الآية قوله: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» وقوله: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» . [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 23] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)

تفسير المفردات

تفسير المفردات لولا: كلمة تفيد الحثّ على حصول ما بعدها، أي هلا أنزلت سورة فى أمر الجهاد، محكمة: أي بيّنة واضحة لا احتمال فيها لشىء آخر، مرض: أي ضعف ونفاق، نظر المغشىّ عليه من الموت: أي كما ينظر المصروع الذي لا يطرف بصره جبنا منه وهلعا، أولى لهم: أي فويل لهم، وهو من الولي بمعنى القرب، والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه ويقرب منهم، عزم الأمر: أي جدّ أولو الأمر، عسى كلمة تدل على توقع حصول ما بعدها، توليتم أي توليتم أمور الناس. وتأمرتم عليهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر عزّ اسمه حال المنافقين والكافرين والمؤمنين حين استماع آيات التوحيد والحشر والبعث وغيرها من الأمور التي أوجب الدين علينا اعتقادها بقوله فيما سلف «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» وقوله: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» - أردف هذا فذكر حالهم فى الآيات العملية كآيات الجهاد والصلاة والزكاة ونحوها، فأبان أن المؤمنين كانوا ينتظرون مجيئها ويرجون نزولها، وإذا تأخرت كانوا يقولون: هلا أمرنا بشىء من ذلك، لينالوا ما يقرّبهم من ربهم ويحصلوا على رضوانه والزلفى إليه، وأن المنافقين كانوا إذا نزل شىء من تلك التكاليف شق عليهم ونظروا نظرة المصروع الذي يشخص بصره خوفا وهلعا. ثم ذكر نتيجة لما سلف، وفذلكة

الإيضاح

لما تقدم، فأعقب هذا بأن الله طرد المنافقين وأبعدهم من الخير، ومن قبل هذا أصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين، وأعمى أبصارهم فلا يسيرون على الصراط المستقيم، أما المؤمنون فقد رضى عنهم وأرضاهم، ونالوا محبته، ودخلوا جنته، فضلا منه ورحمة، والله ذو الفضل العظيم. الإيضاح (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي إن المؤمنين المخلصين فى إيمانهم يشتاقون للوحى، ونزول آيات الجهاد حرصا على ثوابه ويقولون: هلا أنزلت سورة تأمرنا به، فإذا أنزلت سورة واضحة الدلالة فى الأمر به فرحوا بها، وشق ذلك على المنافقين، وشخصت أبصارهم هلعا وجبنا من لقاء العدو ونظروا مغتاظين بتحديد وتحديق كمن يشخص بصره حين الموت. ونحو الآية قوله «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» . ثم هددهم وتوعدهم فقال: (فَأَوْلى لَهُمْ) أي فالموت أولى لمثل هؤلاء المنافقين، إذ حياتهم ليست فى طاعة الله، فالموت خير منها، وقد يكون المعنى على التهديد والوعيد والدعاء عليهم بالهلاك، فكأنه قيل: أهلكهم الله هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، فهو نحو قولهم فى الدعاء بعدا له وسحقا

قال الأصمعى معناه: قاربه ما يهلكه أي نزل به، وأنشد: فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث أي قارب أن يزيد. (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعة لله وقول معروف أمثل لهم وأحسن مما هم فيه من الهلع والجزع والجبن من لقاء العدو، فمتاع الحياة الدنيا متاع قليل، وظل زائل، والآخرة خير لمن اتقى. (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي فإذا حضر القتال كرهوه وتخلّفوا عنه خوفا وفرقا، ولو صدقوا فى إيمانهم واتباعهم للرسول، وأخلصوا النية فى القتال لكان خيرا لهم عند ربهم، إذ ينالون به الثواب والزلفى عنده ويعطيهم ما تقرّ به أعينهم، ويدخلهم جنات النعيم. ثم خاطب أولئك المنافقين خطاب توبيخ وتأنيب فقال: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي فلعلّكم لما عهد فيكم من الحرص على الدنيا وزخرفها إذ قد أمرتم بالجهاد الذي هو الوسيلة إلى الثواب فكرهتموه، وظهر عليكم ما ظهر من الخوف والهلع والتشبث بالبقاء فى هذه الحياة والتكالب على زينتها إن أنتم توليتم أمور الناس وصرتم عليهم أمراء أن تفسدوا فى الأرض بالبغي وسفك الدماء، وتقطعوا أرحامكم فتعودوا إلى تباغض الجاهلية من إغارة بعضكم على بعض ونهب الأموال وسفك الدماء. والخلاصة- إنه لاعجب بعد أن صدر منكم ما صدر من كراهة الدفاع عن حوزة الإسلام- أن تعيدوا أحوال الجاهلية جزعة إذا صرتم أمراء الناس وولاتهم. وبعد أن ذكر هناتهم بين سببها فقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي فهؤلاء هم الذين أبعدهم الله من رحمته، فأصمهم عن الانتفاع بما سمعوا، وأعمى أبصارهم عن الاستفادة مما

[سورة محمد (47) : الآيات 24 إلى 31]

شاهدوا من الآيات المنصوبة فى الأنفس والآفاق، فلم يكن سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار. عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال مه، قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ، وقد وردت أحاديث كثيرة فى صلة الرحم. [سورة محمد (47) : الآيات 24 الى 31] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)

تفسير المفردات

تفسير المفردات يتدبرون القرآن: أي يتصفحون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى يقلعوا عن الوقوع فى الموبقات، ارتدوا على أدبارهم: أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، سوّل لهم: أي سهّل لهم وزين، وأملى لهم: أي مدّ لهم فى الأمانى والآمال، يضربون وجوههم وأدبارهم: أي يتوفونهم وهم على أهوال الأحوال وأفظعها، والأضغان: واحدها ضغن، وهو الحقد الشديد، وتضاغن القوم واضطغنوا إذا أبطنوا الأحقاد، قال: قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وشيّد الأضغانا؟ لأريناكهم: أي لعرّفناكهم، والسيمى: العلامة، ولحن القول: أسلوبه بإمالته عن وجهه من التصريح إلى التعريض والتورية، ولنبلونّكم: أي لنختبرنّكم. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن أولئك المنافقين أبعدهم الله عن الخير، فأصمهم فلم ينتفعوا بما سمعوا وأعمى أبصارهم فلم يستفيدوا بما أبصروا- بين أن حالهم دائرة بين أمرين: إما أنهم لا يتدبرون القرآن إذا وصل إلى قلوبهم، أو أنهم يتدبرون ولكن لا تدخل معانيه فى قلوبهم لكونها مقفلة ثم ذكر أنهم رجعوا إلى الكفر بعد أن تبين لهم الهدى بالدلائل الواضحة، والمعجزات الباهرة، وقد زين لهم الشيطان ذلك وخدعهم بباطل الأمانى، ثم بين سبب ارتدادهم وهو قولهم لبنى قريظة والنّضير من اليهود: سنطيعكم فى بعض أحوالكم وهو ما حكى عنهم فى قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» والله يعلم ما يصدر عنهم من كل قبيح.

الإيضاح

ثم أردف هذا ذكر ما يصادفونه من الأهوال إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم بسبب اتباعهم أهواءهم وعمل ما يغضب ربّهم، ومن ثم أحبط أعمالهم، وهل يعتقد هؤلاء المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل إنه سيوضح ذلك لذوى البصائر، ولو نشاء لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا، ولكن لم نفعل ذلك، سترا منا على عبادنا، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، وردّا للسرائر إلى عالمها، وإنك لتعرفنّهم فيما يبدو من كلامهم الدالّ على مقاصدهم، بمغامز يضعونها أثناء حديثهم، وقد كان يفهمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويفهم مراميها فلا تخفى عليه. ثم ذكر أنه يبتلى عباده بالجهاد وغيره، ليعلم الصادق فى إيمانه، الصابر على مشاقّ التكاليف، من غيره، ويختبر أعمالهم حسناتهم وسيئاتهم فيجازيهم بما قدموا «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . الإيضاح (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟) أي أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي وعظ بها فى آي كتابه، ويتفكرون فى حججه التي بيّنها فى تنزيله فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون، أم هم قد أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل فى كتابه من العبر والمواعظ؟ والخلاصة- إنهم بين أمرين كلاهما شر، وكلاهما فيه الدمار، والمصير إلى النار، فإما أنهم يعقلون ولا يتدبرون، أو أنهم سلبوا العقول فهم لا يعون شيئا. ولما أخبر بإقفال قلوبهم بيّن منشأ ذلك فقال: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أي إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا من بعد ما تبين لهم الهدى

وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجج، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله- الشيطان زين لهم ذلك وخدعهم بالآمال، وحسّن لهم ما فى الدنيا من لذة يتمتعون بها إلى حين، ثم يعودون كما كانوا مؤمنين، إلى نحو ذلك من وساوسه التي لا تدخل تحت الحصر، ولا يبلغها العدّ. ثم ذكر كيف إنهم ضلوا فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي ذلك الضلال من قبل أنهم مالئوا اليهود من بنى قريظة والنضير وناصحوهم سرا على المؤمنين كما هو شأن المنافقين فى كل زمان، والله يعلم ما يسرون وما يخفون، وهو مطلع عليهم وعالم بهم. ولا يخفى ما فى ذلك من الوعيد وشديد التهديد. ونحو الآية قوله: «وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» . ثم ذكر أن هذه الحيل إن أجدت فى حياتهم فماذا هم فاعلون حين وفاتهم فقال: (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي فكيف يفعلون إذا جاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم على أقبح الوجوه وأفظعها، وقد مثل ذلك بحال يخافونها فى الدنيا، ويجبنون عن القتال من أجلها، وهو الضرب على الوجوه والأدبار، إذ فى يوم الوفاة لا نصرة لهم ولا مفرّ، فكيف يحترزون من الأذى، ويبتعدون من العذاب؟. ثم بين سبب التوفى على تلك الحال الشنيعة فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الهول الذي يرونه من أجل أنهم انهمكوا فى المعاصي، وزينت لهم الشهوات، وكرهوا ما يرضى الله من الإيمان به والعمل على طاعته والإخلاص له فى السر والعلن، فأحبط ما عملوه من البر والخير، كالصدقات، والأخذ بيد الضعيف، ومساعدة البائس الفقير،

وإغاثة الملهوف إلى نحو أولئك، إذ هم فعلوه وهم مشركون فلم تكن لله ولا بأمره، بل بأمر الشيطان للفخر وحسن الأحدوثة بين الناس. ثم بالغ فى توبيخ المنافقين، وإظهار خباياهم، وإعلان نواياهم فقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ) أي بل أحسب أولئك المنافقون الذين فى قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أن الله لا يكشف أستارهم ويبرز أحقادهم، بلى سيبرزها للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين فلا تبقى مستورة، وقد أنزل الله فى فضائحهم وما يبطنون من الأفعال سورة براءة، ولذا تسمى الفاضحة كقوله فيهم: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ» وقوله: «فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا» . ثم أكد ما فهم من سالف الكلام وأنه سيظهرها فقال: (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي ولو نشاء أيها الرسول لعرّفناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا بعلامات هى غالبة عليهم، ولكنه لم يفعل ذلك فى جميع المنافقين للستر على خلقه، وردّا للسرائر إلى عالمها، وحرصا على ألا يؤذى ذوى قرباهم من المخلصين. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي ولتعرفنهم فيما يداورونه من القول، فيعدلون عن التصريح بمقاصدهم إلى التعريض والإشارة، وإياه عنى القائل فى مدح محبوبته فقال: منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا يريد أنها تتكلم بشىء وتريد غيره وتعرّض فى حديثها فتزيله عن جهته، لفطنتها وذكائها. وقد كانوا يخاطبون الرسول صلّى الله عليه وسلّم بألفاظ ظاهرها الحسن وهم يعنون بها القبيح. قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلّى الله عليه وسلّم منافق

إلا عرفه، وقال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عرّفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه. وفى الحديث: «ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر» . وروى أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وقد ثبت فى الحديث تعيين جماعة من المنافقين، فقد روى أحمد عن عقبة ابن عامر قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن فيكم منافقين فمن سميت فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين رجلا، ثم قال: إن فيكم منافقين فاتقوا الله، قال فمرّ عمر رضى الله عنه برجل ممن سمى مقنّع قد كان يعرفه، فقال مالك؟ فحدّثه بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعدا لك سائر الدهر» . ثم وعد سبحانه وأوعد، وبشر وأنذر فقال: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم بما قدمتم من خير أو شر، إذ لا يضيع عمل عامل عدلا منه ورحمة. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي ولنختبرنكم بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة حتى يتميز المجاهد الصابر من غيره، ويعرف ذو البصيرة فى دينه من ذى الشك والحيرة فيه، والمؤمن من المنافق، ونبلو أخباركم فنعرف الصادق منكم فى إيمانه من الكاذب. قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلنا، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

[سورة محمد (47) : الآيات 32 إلى 35]

[سورة محمد (47) : الآيات 32 الى 35] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) تفسير المفردات شاقوا الرسول: أي عادوه وخالفوه، وأصله صاروا فى شقّ غير شقه، فلا تهنوا: أي فلا تضعفوا عن القتال، من الوهن وهو الضعف، وقد وهن الإنسان ووهّنه غيره، وتدعوا إلى السلم: أي تدعوا الكفار إلى الصلح خوفا وإظهارا للعجز، الأعلون: أي الغالبون، والله معكم: أي ناصركم، لن يتركم أعمالكم: أي لن ينقصكموها من وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو سلبت ماله وذهبت به، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو إضاعة شىء معتد به من الأنفس والأموال. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن المنافقين ستفضح أسرارهم، وأنهم سيلقون شديد الأهوال حين وفاتهم- أردف ذلك ذكر حال جماعة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة والنّضير كفروا بالله وصدوا الناس عن سبيل الله وعادوا الرسول بعد أن شاهدوا نعته فى التوراة، وما ظهر على يديه من المعجزات، فهؤلاء لن يضروا الله شيئا بكفرهم، بل يضرون أنفسهم وسيحبط الله مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه، ثم ذكر قصص بنى سعد

الإيضاح

وقد أسلموا وجاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلينا، منّا بذلك عليه، فنهاهم عن ذلك وبين لهم أن هذا مما يبطل أعمالهم، ثم أعقب هذا ببيان أن من كفروا وصدوا عن السبيل القويم ثم ماتوا وهم على هذه الحال فلن يغفر الله لهم، ثم أرشد إلى أن عمل الكافرين الذي له صورة الحسنات محبط وأن ذنبهم غير مغفور، وبعدئذ أردف هذا أن الله خاذلهم فى الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم، ولا تظهروا ضعفا أمامهم، فإن الله ناصركم، ولن يضيع أعمالكم. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله، وصدوا الناس عن دينه الذي بعث به رسوله، وخالفوا هذا الرسول وحاربوه وآذوه من بعد أن استبان لهم بالأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة أنه مرسل من عند ربه- لن يضروا الله شيئا، لأن الله بالغ أمره، وناصر رسوله، ومظهره على من عاداه وخالفه، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها، لإبطال دينه ومشاقة رسوله، ولا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون له من الغوائل، وستكون ثمرتها إما قتلهم أو جلاءهم عن أوطانهم. والمراد بصد الناس عن سبيل الله، منعهم إياهم عن الإسلام بشتى الوسائل، وعن متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والانضواء تحت لوائه. ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي يا أيها الذين صدقوا بوحدانية الله وقدرته وسائر صفات كماله، وصدقوا رسوله فيما جاء على لسانه من الشرائع- أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فى اتباع أوامرهما والانتهاء عن نواهيهما.

ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطل الكفار أعمالهم فقال: (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) أي ولا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي قاله الحسن، وقال الزهري بالكبائر. وقال مقاتل بالمنّ والأذى وقال عطاء بالنفاق والشرك والأولى أن يراد به النهى عن كل سبب من الأسباب التي تكون سببا فى إبطال الأعمال كائنا ما كان بلا تخصيص بنوع معين. وعن أبى العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت هذه الآية، فخافوا أن يبطل الذنب العمل وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نرى أنه ليس شىء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها، قلنا قد هلك حتى نزل «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» فكففنا عن القول فى ذلك، وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه، وإن لم يصب منها رجونا له. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال فى الآية: من استطاع منكم ألا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى. ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصرّين على الكفر والصدّ عن سبيل الله فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله وصدوا من أراد الإيمان بالله ورسوله عن ذلك، وحالوا بينهم وبين ما أرادوه، ثم ماتوا وهم على كفرهم فلن يعفو الله سبحانه عما صنعوا، بل يعاقبهم ويفضحهم به على رءوس الأشهاد.

[سورة محمد (47) : الآيات 36 إلى 38]

وقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر، لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حيا. ثم ذكر سبحانه أن لا حرمة للكافر فى الدنيا والآخرة، فأمر بقتالهم وأرشد إلى أن النصر حليف المؤمنين فقال: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي فلا تضعفوا أيها المؤمنون عن جهاد المشركين وتجبنوا عن قتالهم، وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة خورا وإظهارا للعجز، وأنتم العالون عليهم والله معكم بالنصر لكم عليهم، ولا يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها. [سورة محمد (47) : الآيات 36 الى 38] إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) تفسير المفردات كل ما اشتغلت به مما ليس فيه ضرر فى الحال ولا منفعة فى المآل ولم يمنعك عن مهامّ أمورك فهو لعب، فإن شغلك عنها فهو لهو، ومن ثم يقال آلات الملاهي، لأنها مشغلة عن غيرها، ويقال لما دون ذلك لعب كاللعب بالشّطرنج والنّرد والحمام، فيحفكم أي فيجهدكم بطلبها جميعا، والإلحاف والإحفاء بلوغ الغاية فى كل شىء يقال أحفاه فى المسألة: إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، أضغانكم: أي أحقادكم.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر المؤمنين بترك المعاصي لأنها محبطة لثواب الأعمال الصالحة، وأمرهم بالتشمير عن ساعد الجد للجهاد ومقاتلة الأعداء نصرة لدينه، ووعدهم بأن الله ناصرهم وهم الأعلون، فلا ينبغى لهم أن يطلبوا المهادنة من العدو خورا وجبنا خوفا على الحياة ولذاتها- أكد هذا المعنى فأبان أنه لا ينبغى لكم أيها المؤمنون الحرص على الدنيا، فإنها ظل زائل، وعرض غير باق، وما هى إلا لذات مؤقتة لا تلبث أن تزول، وهى مشغلة عن صالح الأعمال، فلا يليق بكم أن تعضّوا عليها بالنواجذ، بل اعملوا لما يرضى ربكم يؤتكم أجوركم وهو لا يسألكم من أموالكم إلا القليل النزر الذي فيه صلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة، دنيوية كانت أو دينية، وهو عليم بأنكم أشحة على أموالكم، فلو طلبها لبخلتم بها وظهرت أحقادكم على طالبيها، والله قد طلب إليكم الإنفاق فى سبيله، والقيام بما تحتاج إليه الدعوة، فإن بخلتم فضرر ذلك عائد إليكم، والله غنى عن معونتكم، وإن أعرضتم عن الإيمان والتقوى يأت الله بخلق غيركم يقيمون دينه، وينصرون الدعوة. الإيضاح (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) يقول سبحانه حاضّا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه والنفقة فى سبيله، وبذل مهجتهم فى قتال أهل الكفر به: قاتلوا أيها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعكم الرغبة فى الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو لا يلبث أن يضمحل ويذهب إلا ما كان منها من عمل فى سبيل الله وطلب رضاه. ثم رغبهم فى العمل للآخرة فقال: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي وإن تؤمنوا

بربكم وتتقوه حق تقاته، فتؤدوا فرائضه وتجتنبوا نواهيه- يؤتكم ثواب أعمالكم فيعوضكم عنها ما هو خير لكم يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم، وهو لا يأمركم بإخراجها جميعها فى الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل يأمركم بإخراج القليل منها وهو ربع العشر للزكاة مواساة لإخوانكم الفقراء، ونفع ذلك عائد إليكم. ثم بين شح الإنسان على ماله وشدة حرصه عليه فقال: (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي إن يسألكم ربكم أموالكم فيجهدكم بالمسألة ويلحف عليكم بطلبها- تبخلوا بها وتمنعوها إياه ضنا منكم بها، لكنه علم ذلك منكم فلم يسألكموها فيخرج ذلك السؤال أحقادكم لمزيد حبكم للمال. قال قتادة: قد علم الله أن فى سؤال المال خروج الأضغان للاسلام من حيث محبة المال بالجبلّة والطبيعة، ومن نوزع فى حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرّها. والخلاصة- قد علم الله شح الإنسان على المال فلم يطلب منه إلا النزر اليسير فى الصدقات، وبذل المال فى المرافق العامة لإصلاح شئون المجتمع الإسلامى كسدّ الثغور، وبناء القناطر والجسور. ثم أكد ما سلف وقرره بقوله: (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي هأنتم أيها المؤمنون تدعون إلى النفقة فى جهاد أعداء الله ونصرة دينه. (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي فمنكم من يبخل عن النفقة فى هذا السبيل، ومن يبخل فإنما ضرر ذلك عائد إلى نفسه، لأنه ينقصها أجرها من الثواب، ويبعدها من رضا الله والقرب منه فى جنات النعيم، والله لا حاجة إليه فى أموالكم ولا نفقاتكم، فهو الغنى عن خلقه، وخلقه فقراء إليه، وإنما حضكم على النفقة فى سبيله، لتنالوا بذلك الأجر والثواب. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي وإن تعرضوا

اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد

عن طاعة الله واتباع شرائعه، وترتدوا راجعين عنها، يهلككم ثم يجىء بقوم آخرين غيركم يصدقون بها، ويعملون بالشرائع التي أنزلها على رسوله، ويقومون بذلك كله على ما يؤمرون به، والمراد بهم على ما صح فى الحديث أهل فارس. أخرج عبد الرازق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي والترمذي عن أبى هريرة قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) إلخ فقالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونون أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منكب سلمان، ثم قال هذا وقومه، والذي نفسى بيده لو أن هذا الدين تعلق بالثريا لتناوله رجال من فارس» . وقد طعن بعض رواة الحديث فيه وجرّحوا بعض رواته، قال ابن كثير وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم. قال الكلبي: شرط فى الاستبدال توّليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم بهم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله، ونصر دينه بأتباعه المؤمنين، وجعلهم للعمل بنشره دائبين. اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد (1) وصف الكافرين والمؤمنين من أول السورة إلى قوله: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» . (2) جزاء الفريقين فى الدنيا والآخرة من خذلان ونصر ونار وجنة من قوله: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ- إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ» . (3) الوعد والتهديد للمنافقين والمرتدين من قوله: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» إلى آخر السورة.

سورة الفتح

سورة الفتح هى مدنية، وآيها تسع وعشرون، نزلت بعد سورة الجمعة. ووجه مناسبتها لما قبلها: (1) إن الفتح المراد به النصر مرتب على القتال. (2) إن فى كل منهما ذكرا للمؤمنين والمخلصين والمنافقين المشركين. (3) إن فى السورة السالفة أمرا بالاستغفار، وفى هذه ذكر وقوع المغفرة. [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) تفسير المفردات أصل الفتح: إزالة الأغلاق، وفتح البلد: دخله عنوة أو صلحا، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية (والحديبية بئر) على المشهور، وهو المروي عن ابن عباس وأنس والشعبي والزهري، وسمى هذا فتحا لأنه كان سببا لفتح مكة، قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم فى ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام، فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة فى عشرة آلاف ففتحوها والخلاصة- إنه كان من نتائج هذا الصلح الأمور الآتية:

المعنى الجملي

(1) تمّ فى هذا الصلح ما يسمونه فى العصر الحديث (جسّ النبض) لمعرفة قوة العدو ومقدار كفايته وإلى أىّ حد هى. (2) معرفة صادقى الإيمان من المنافقين كما علم ذلك من المخلفين فيما يأتى. (3) إن اختلاط المسلمين بالمشركين حبب الإسلام إلى قلوب كثير منهم فدخلوا فى دين الله أفواجا. مبينا: أي بيّنا ظاهر الأمر مكشوف الحال. المعنى الجملي نزلت هذه السورة الكريمة حين منصرفه صلى الله عليه وسلّم من الحديبية فى ذى القعدة من سنة ست من الهجرة، لما صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام وحالوا بينه وبين قضاء عمرته، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتى من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكرّه من جماعة من الصحابة كعمر ابن الخطاب رضى الله عنه، فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع أنزل الله تعالى هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل هذا الصلح فتحا لما فيه من المصلحة، ولما آل إليه أمره فقد روى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعدّ الفتح صلح الحديبية. وروى البخاري «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يسير فى بعض أسفاره وعمر بن الخطاب كان يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شىء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر، كررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات، كل ذلك لا يجيبك، قال عمر: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فىّ قرآن، فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت لقد خشيت أن يكون نزل فىّ قرآن، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلمت عليه فقال: لقد أنزلت علىّ سورة لهى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» .

الإيضاح

وفى صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً- إلى قوله: فَوْزاً عَظِيماً» مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة وقد نحروا الهدى بالحديبية، قال النبي صلّى الله عليه وسلم، لقد أنزلت علىّ آية هى أحب إلىّ من الدنيا جميعها» . هذا، ولما كان لكل عامل ثمرة يجنيها من عمله، وغاية يبتغيها منه- كان للنبوّة نهاية مطلوبة فى هذه الحياة وثمرة تتبع هذه النهاية، فنهاية أمر النبوة أن تلتئم الأمور ويجتمع شملها، وتكمل نظمها التي تبنى عليها الحياة الهنية حتى يعيش العالم فى طمأنينة وهدوء، ولن يتم ذلك إلا بعد بث الدعوة والجهاد العلمي والعملي بقتال الأعداء وخضد شوكتهم، ومتى تمّ هذا وأنقذ المستضعفون ودخل الناس فى دين الله أفواجا كرها ثم طوعا انتظم أمر النبوة، وأدى الرسول واجبه واستوجب أن يجنى ثمرة أعماله، وهى: (1) مغفرة ما فرط من ذنبه مما يعدّ ذنبا بالنظر إلى مقامه الشريف. (2) تمام النعمة باجتماع الملك والنبوة بعد أن كانت له النبوة وحدها. (3) الهداية إلى الصراط المستقيم فى تبليغ الرسالة، وإقامة مراسم الرياسة. (4) المنعة والعزة ونفاذ الكلمة ورهبة الجانب وحمى الذمار. فهذا الفتح كان كفيلا بهذه الشئون الأربعة، فكأنه سبحانه يقول لرسوله: لقد بلّغت الرسالة، ونصبت فى العمل، وجاهدت بلسانك وسيفك، وجمعت الرجال والكراع والسلاح، وتلطفت وأغلظت، وأخلصت فى عملك، وفعلت فى وجيز الزمن ما لم ينله مثلك فى طويله، حتى تمّ ماندبناك له، فلتجن ثمار عملك، ولتقرّ عينا بما آل إليه أمرك فى الدنيا والآخرة. الإيضاح (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أي إنا فتحنا لك فتحا ظاهرا لا يختلج فيه شك بذلك الصلح الذي تم على يديك فى الحديبية، إذ لم يمض إلا القليل من الزمن حتى

دخل الناس فى دين الله أفواجا، وكان هو السّلّم الذي فيه رقيت إلى فتح مكة، وتسابق العرب إلى الدخول فى الدين زرافات ووحدانا. (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي ليغفر لك ربك جميع ما فرط منك من الهفوات مما يصح أن يسمى ذنبا بالنظر إلى مقامك الشريف، وإن كان لا يسمى ذنبا بالنظر إلى سواك، ومن ثم قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. والمراد غفران الذنوب التي قبل الرسالة والتي بعدها، قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلى حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟» . قال صاحب الكشاف: فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة- قلت لم يجعله علة للمغفرة، ولكنه جعله علة لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة، وهى المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز، كأنه قيل: يسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك، لنجمع لك بين عز الدارين، وأغراض الآجل والعاجل اه. (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء شأن دينك، وانتشاره فى البلاد، ورفع ذكرك فى الدنيا والآخرة. (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويرشدك طريقا من الدين لا اعوجاج فيه، يستقيم بك إلى رضا ربك. (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي وينصرك على من ناوأك من أعدائك نصرا ذا عزّ بالغ، لا يدفعه دافع، لما يؤيدك به من بأس، وينيلك من ظفر.

[سورة الفتح (48) : الآيات 4 إلى 7]

[سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) تفسير المفردات أنزل السكينة: أي خلقها وأوجدها، قال الراغب: إنزال الله تعالى نعمته على عبد: إعطاؤه إياها، إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن، أو بإنزال أسبابه بالهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه اه. والسكينة: الطمأنينة والثبات من السكون، إيمانا مع إيمانهم: أي يقينا مع يقينهم، جنود السموات والأرض: أي الأسباب السماوية والأرضية، ويكفر عنهم سيئاتهم: أي يغطيها ولا يظهرها، والسوء: (بالضم والفتح) : المساءة، وظن السوء: أي ظن الأمر السوء فيقولون فى أنفسهم: لا ينصر الله رسوله والمؤمنين، عليهم دائرة السوء. الدائرة فى الأصل الحادثة التي تحيط بمن وقعت عليه، وكثر استعمالها فى المكروه، والسوء: العذاب والهزيمة والشر (وهو بالضم والفتح لغتان) وقال سيبويه: السوء هنا الفساد، أي عليهم ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين لا يتخطاهم، لعنهم: أي طردهم طردا نزلوا به إلى الحضيض، عزيزا: أي يغلب ولا يغلب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أخبر سبحانه بأنه سينصر رسله- بيّن سبيل النصر بأنه رزقهم ثبات أقدام ليزدادوا يقينا إلى يقينهم، ثم أخبر بأن من سننه أن يسلّط بعض عباده على بعض، وهو العليم بالمصالح واستعداد النفوس، وقد وعد المؤمنين جنات تجرى من تحتها الأنهار وأوعد عباده الكافرين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمؤمنين- بالعذاب الأليم، وغضب عليهم وطردهم من رحمته. روى أحمد عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لقد أنزلت علىّ آية أحب إلىّ مما على وجه الأرض» ثم قرأها عليهم، فقالوا هنيئا مريئا يا رسول الله، لقد بيّن لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه «لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ- حتى بلغ- فَوْزاً عَظِيماً» وأخرجه الشيخان من رواية قتادة. الإيضاح (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي هو الذي أنزل فى قلوب المؤمنين طمأنينة وثبات أقدام عند اللقاء ومقاتلة الأعداء (وهو المسمى فى العصر الحديث الروح المعنوية فى الجيوش) ليزدادوا يقينا فى دينهم إلى يقينهم برسوخ عقيدتهم واطمئنان نفوسهم بعد أن دهمهم من الحوادث ما من شأنه أن يزعج ذوى الأحلام، ويزلزل العقائد بصدّ الكفار لهم عن المسجد الحرام ورجوعهم دون بلوغ مقصدهم، ولكن لم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا زلزالا شديدا حتى إن عمر بن الخطاب لم يكن راضيا عن هذا الصلح وقال: ألسنا على الحق

وهم على الباطل؟ وكان للصديق من القدم الثابتة ورسوخ الإيمان ما دل على أنه لا يجارى ولا يبارى. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي يدبر أمر العالم، ويسلط بعض جنده على بعض، فيجعل جماعة يجاهدون لإعلاء كلمة الحق، ويجعل آخرين يقاتلون فى سبيل الشيطان، ولو شاء لأرسل عليهم جندا من السماء فأباد خضراءهم، لكنه سبحانه شرع الجهاد والقتال، لما فى ذلك من مصلحة هو عليم بها، وحكمة قد تغيب عنا، وهذا ما عناه بقوله: (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) فهو لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض. (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي وإنما دبر ذلك ليعرف المؤمنون نعمة الله ويشكروها فيدخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا، وليكفر عنهم سيئات أعمالهم بالحسنات التي يعملونها، شكرا لربهم على ما أنعم به عليهم، وكان ذلك ظفرا لهم بما كانوا يرجون ويسعون له، ونجاة مما كانوا يحذرونه من العذاب الأليم، وهذا منتهى ما يرون من منفعة مجلوبة، ومضرة مدفوعة. (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي وليعذب هؤلاء فى الدنيا بإيصال الهمّ والغمّ إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبما يشاهدونه من ظهور الإسلام وقهر المخالفين، وبتسليط النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا، وفى الآخرة بعذاب جهنم. وهم قد كانوا يظنون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سيغلب، وأن كلمة الكفر ستعلو كلمة الإسلام، ومما ظنوه ما حكاه الله بقوله: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً» . وإنما قدم المنافقين على المشركين، لأنهم كانوا أشد ضررا على المؤمنين من الكفار المجاهرين، لأن المؤمن كان يتوقى المجاهر، ويخالط المنافق لظنه إيمانه،

وكان يفشى سره إليه، وفى هذا دلالة على أنهم أشد منهم عذابا، وأحق منهم بما أوعدهم الله به. والخلاصة- إن الفريقين ظنوا أن الله لا ينصر رسوله ولا المؤمنين على الكافرين. وقد دعا سبحانه عليهم بأن ينزل بهم ما كانوا يظنونه بالمؤمنين من الدوائر وأحداث الزمان فقال: (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم تدور الدوائر، وسيحيق بهم ما كانوا يتربصونه بالمؤمنين من قتل وسبى وأسر لا يتخطاهم. ثم بين ما يستحقونه من الغضب واللعنة فقال: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي ونالهم غضب من الله وأبعدهم فأقصاهم من رحمته، وأعدّ لهم جهنم يصلونها يوم القيامة، وساءت منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والإنس والجن، والصيحة والرجفة والحجارة والزلازل والخسف والغرق ونحو ذلك- أنصارا على أعدائه إن أمرهم بإهلاكهم أهلكوهم وسارعوا مطيعين لذلك. وفائدة إعادة هذه الجملة- بيان أن لله جنودا للرحمة وجنودا للعذاب، فذكرهم أوّلا بيانا لإنزالهم للرحمة، وأنهم يدخلون الجنة مكرمين معظمين، وذكرهم ثانيا بيانا لإنزال العذاب على الكافرين فى نار جهنم كما قال: «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ» . روى أنه لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبىّ: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ، فأين فارس والروم- فبيّن سبحانه أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم. (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي وكان الله غالبا فلا يرد بأسه، حكيما فيما دبره لخلقه.

خلاصة ما سلف

خلاصة ما سلف إنه قد ترتب على هذا الفتح أربعة أشياء للنبى صلّى الله عليه وسلم: (1) مغفرة الذنوب. (2) اجتماع الملك والنبوّة. (3) الهداية إلى الصراط المستقيم. (4) العزة والمنعة. وفاز المؤمنون بأربعة أشياء: (1) الطمأنينة والوقار. (2) ازدياد الإيمان. (3) دخول الجنات. (4) تكفير السيئات. وجازى الكفار بأربعة أشياء: (1) العذاب. (2) الغضب. (3) اللعنة. (4) دخول جهنم. [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 10] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)

تفسير المفردات

تفسير المفردات شاهدا: أي على أمتك لقوله تعالى: «لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ» ومبشرا: أي بالثواب على الطاعة، ونذيرا: أي بالعذاب على المعصية، وتعزروه: أي تنصروه، وتوقروه: أي تعظموه، بكرة: أي أول النهار، وأصيلا: أي آخر النهار، والمراد جميع النهار، إذ من سنن العرب أن يذكروا طرفى الشيء ويريدوا جميعه، كما يقال شرقا وغربا لجميع الدنيا، يبايعونك: أي يوم الحديبية إذ بايعوه على الموت فى نصرته والذبّ عنه كما روى عن سلمة بن الأكوع وغيره، أو على ألا يفروا من قريش كما روى عن ابن عمر وجابر، إنما يبايعون الله، لأن المقصود من بيعة الرسول وطاعته طاعة الله وامتثال أوامره، يد الله فوق أيديهم: أي نصرته إياهم أعلى وأقوى من نصرتهم إياه، كما يقال اليد لفلان: أي الغلبة والنصرة له، نكث: أي نقض، يقال أوفى بالعهد ووفى به: إذا أتمه، وقرأ الجمهور (عليه) بكسر الهاء، وضمها حفص، لأنها هاء هو وهى مضمومة فاستصحب ذلك كما فى له وضربه. المعنى الجملي بعد أن أتم الكلام على ما لكلّ من النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من الثمرات التي ترتبت على عمله- أعقبه بما يعمهما معا، فذكر أنه أرسل رسوله شاهدا على أمته، ومبشرا لها بالثواب، ومنذرا إياها بالعقاب، ثم أبان أن فائدة هذا الإرسال هو الإيمان بالله وتعظيمه وتسبيحه غدوة وعشيا ونصرة دينه، ثم ذكر بيعة الحديبية (قرية صغيرة على أقل من مرحلة من مكة، سميت باسم بئر هناك) وأن الذين بايعوا هذه البيعة إنما بايعوا الله ونصروا دينه، وأن من نقض منهم العهد فوبال ذلك عائد إليه، ولا يضرنّ إلا نفسه، ومن أوفى بهذا العهد فسينال الأجر العظيم، والثواب الجزيل.

بيعة الرضوان - بيعة الشجرة

بيعة الرضوان- بيعة الشجرة سبب هذه البيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية، فبعثه إلى قريش بمكة ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا جمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش (واحدهم أحبوش، وهو الفوج من قبائل شتى) فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليبعثه، فقال إنى أخافهم على نفسى، لما أعرف من عداوتى إياهم وما بمكة عدوىّ (قبيلته بنو عدى) ولكنى أدلّك على رجل هو أعز بها منى وأحب إليهم- عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة فجعله فى جواره حتى فرغ من رسالته لعظماء قريش، ثم احتبسوه عندهم، فشاع بين المسلمين أن عثمان قد قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وبايعه القوم على ألا يفرّوا أبدا إلا جدّ بن قيس الأنصاري، فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا داعين إلى الموادعة والصلح، وكان قد أتى رسول الله أن الذي بلغه من أمر عثمان كذب، فتمّ الصلح ومشى بعضهم إلى بعض على أن يحج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى العام القابل ويدخل مكة. روى البخاري من حديث قتادة قلت لسعيد بن المسيّب: كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال خمس عشرة مائة، والمشهور الذي رواه غير واحد أنهم كانوا أربع عشرة مائة.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي إنا أرسلناك أيها الرسول شاهدا على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه مما أرسلتك به إليهم، مبشرا لهم بالجنة إن أجابوك إلى ما دعوتهم إليه من الدين القيم، ونذيرا لهم عذاب الله إن تولّوا وأعرضوا عما جئتهم به من عنده، فآمنوا بالله ورسوله وانصروا دينه وعظموه وسبحوه فى الغدوّ والعشىّ. (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) أصل البيعة العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للامام والوفاء بالعهد الذي التزمه له، والمراد بها هنا بيعة الرضوان بالحديبية، وقد بايعه جماعة من الصحابة على ألا يفروا، منهم معقل بن يسار، أي إن الذين يبايعونك بالحديبية من أصحابك على ألا يفروا عند لقاء العدو، ولا يولّوهم الأدبار، إنما يبايعون الله ببيعتهم إياك، وقد ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك. ثم أكد ما سلف بقوله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي نعمة الله عليهم بالهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ» . (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي فمن نقض العهد الذي عقده مع النبي صلى الله عليه وسلّم فإن ضرر ذلك راجع إليه ولا يضرّنّ إلا نفسه. (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن وفّى بعهد البيعة فله الأجر والثواب فى الآخرة، وسيدخله جنات يجد فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

[سورة الفتح (48) : الآيات 11 إلى 14]

[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 14] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) تفسير المفردات المخلفون: واحدهم مخلّف، وهو المتروك فى المكان خلف الخارجين منه، يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم: أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما فى القلب فهو كذب صراح، والملك: إمساك بقوة وضبط تقول ملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما، ومنه لا أملك رأس بعيري: إذا لم تستطع إمساكه إمساكا تاما، والمراد بالضر: ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما، وبالنفع: ما ينفع من حفظ المال والأهل، ينقلب: أي يرجع، إلى أهليهم: أي عشائرهم وذوى قرباهم، بورا: أي هالكين لفساد عقائدكم وسوء نياتكم، سعيرا: أي نارا مسعورة موقدة ملتهبة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حال المنافقين فيما سلف وبين أن الله غضب عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاب السعير- أردف ذلك ذكر قبائل من العرب جهينة ومزينة وغفار

الإيضاح

وأشجع والدّيل وأسلم- تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما استنفرهم عام الحديبية حين أراد السير إلى مكة معتمرا، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حربا، واعتلوا بأن أموالهم وأهليهم قد شغلتهم، لكنهم فى حقيقة أمرهم كانوا ضعاف الإيمان خائفين من مقاتلة قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش، وقالوا: كيف نذهب إلى قوم قد غزوه فى عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟ وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذا السفر، ففضحهم الله فى هذه الآية وأخبر بأنه أعدّ لهؤلاء وأمثالهم نارا موقدة تطّلع على الأفئدة، وأعدّ للمؤمنين جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وهو ذو مغفرة لمن أقلع من ذنبه، وأناب إلى ربه. الإيضاح (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) أي أيها الرسول سيقول لك الذين تخلفوا عن صحبتك والخروج معك فى سفرك حين سرت إلى مكة معتمرا زائرا بيت الله الحرام وعاقبتهم على التخلف: شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا وإصلاح معايشنا وأهلونا، إذ لم يكن لنا من يقوم بتدبير شئونهم وقضاء حاجهم، فاطلب لنا المغفرة من ربك، إذ لم يكن تخلفنا عن عصيان لك، ولا مخالفة لأمرك. فرد الله عليهم وكذبهم بقوله: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي إنهم لم يكونوا صادقين فى اعتذارهم بأن الامتناع كان لهذا السبب، لأنهم إنما تخلفوا اعتقادا منهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين يغلبون بدليل قوله بعد: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً» .

ثم أمر رسوله أن يرد عليهم حين اعتذروا بتلك الأباطيل فقال: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً؟) أي قل لهم: إنكم بعملكم هذا تحترسون من الضرّ وتتركون أمر الله ورسوله وتقعدون طلبا للسلامة، ولكن لو أراد الله بكم ضرا لا ينفعكم قعودكم شيئا، أو أراد بكم نفعا فلا رادّ له، إذ من ذا الذي يمنع من قضائه؟ وهذا ردّ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدفع عنهم الضر ويجلب لهم النفع. ثم أبان لهم أنه عليم بجميع نواياهم وأن ما أظهروه من العذر هو غير ما أبطنوه من الشك والنفاق فقال: (بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيعلم أن تخلفكم لم يكن لما أظهرتم من المعاذير، بل كان شكا ونفاقا كما فصل ذلك بقوله: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي إن تخلفكم لم يكن لما أبديتم من الأسباب، بل إنكم اعتقدتم أن الرسول والمؤمنين سيقتلون وتستأصل شأفتهم، فلا يرجعون إلى أهليهم أبدا، وزين لكم الشيطان ذلك الظن حتى قعدتم عن صحبته، وظننتم أن الله لن ينصر محمدا وصحبه المؤمنين على أعدائهم، بل سيغلبون ويقتلون، وبلغ الأمر بكم أن قلتم: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس (قليلو العدد) فأين يذهبون؟ وقد صرتم بما قلتم قوما هلكى لا تصلحون لشىء من الخير، مستوجبين سخط الله وشديد عقابه. ثم أخبر سبحانه عما أعدّه للكافرين به فقال: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) أي ومن لم يصدق بما أخبر الله به ويقرّ بصدق ما جاء به رسوله من الحق من عنده، فإنا أعتدنا له سعيرا من النار تستعر عليه فى جهنم إذا وردها يوم القيامة جزاء كفره.

[سورة الفتح (48) : آية 15]

ثم بين قدرته على ذلك وأنه يفعل ما يشاء لا رادّ لحكمه، ولا معقّب لقضائه فقال: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي ولله السلطان والتصرف فى السموات والأرض، فلا يقدر أحد أن يدفعه عما أراد بكم من تعذيب على نفاقكم إن أصررتم عليه، أو منعه من العفو عنكم إن أنتم تبتم من نفاقكم وكفركم. وهذا حسم لأطماعهم فى استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لهم وهم على هذه الحال. ثم أطمعهم فى مغفرته وعفوه إن تابوا وأنابوا إليه فقال: (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله كثير المغفرة والرحمة، يختص من يشاء بمغفرته ورحمته دون من عداهم من الكافرين فهم بمعزل عن ذلك. وفى الآية حثّ لهؤلاء المتخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التوبة والمراجعة إلى أمر الله فى طاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وطلب المبادرة بها، فإن الله يغفر للتائبين ويرحمهم إذا أنابوا إليه، وأخلصوا العمل له. [سورة الفتح (48) : آية 15] سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) تفسير المفردات المراد بالمغانم: مغانم خيبر، فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية فى ذى الحجة من سنة خمس وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية

المعنى الجملي

ففتحها وغنم أموالا كثيرة خصهم بها والمراد بتبديل كلام الله الشركة فى المغانم دون أن ينصروا دين الله ويعلوا كلمته، يفقهون: أي يفهمون والمراد بالفهم القليل فهمهم لأمور الدنيا دون أمور الدين. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه اعتذارهم عن التخلف فيما سلف بأنه إنما كان لمعالجة معايشهم وصلاح أموالهم، وما كان له من سبب آخر يقعدهم عن نصرته- أعقب ذلك بما يكذبهم فى هذه المعذرة، فإنهم قد طلبوا السير مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فى وقعة خيبر لما يتوقعونه من مغانم يأخذونها، ولو كانت التعلّة السالفة حقا ما طلبوا السير معه بحال. ثم أخبر بأن الله سبحانه رفض طلبهم الذهاب مع رسول الله إلى خيبر، فقالوا إن ذلك حسد من المؤمنين لهم أن ينالوا شيئا من الغنيمة، فرد الله عليهم ما قالوا، وأبان أنهم قوم ماديون لا يسعون إلا للدنيا، ولا يفهمون ما يعلى شأن الدين ويرفع قدره. الإيضاح (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي سيقول لك الذين تخلفوا عنك فى عمرة الحديبية واعتلوا بشغلهم بأموالهم وأهليهم: دعونا نتبعكم ونسر معكم إلى غزو خيبر، حين توقعوا ما سيكون فيها من مغانم. وفى هذا وعد للمبايعين الموافقين بالغنيمة، وللمتخلفين المخالفين بالحرمان. (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) فإنه تعالى وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب، فقد جاء فى صحيح الأخبار «إن الله وعد

أهل الحديبية أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئا. ثم أمر رسوله أن يقول لهم إقناطا وتيئيسا من الذهاب معه إلى خيبر. (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أي لا تأذن لهم فى الخروج معك معاقبة لهم من جنس ذنبهم فإن امتناعهم عن الخروج إلى الحديبية ما حصل إلا لأنهم كانوا يتوقعون المغرم وهو جلاد العدو ومصاولته، ولا يتوقعون المغنم، فلما انعكست الآية فى خيبر طلبوا ذلك فعاقبهم الله بطردهم من المغانم. ثم أكد هذا المنع بقوله: (كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) أي هكذا قال الله لنا من قبل مرجعنا من الحديبية إليكم: إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تتبعونا لأن غنيمتها لغيركم. ثم أخبر بأنهم سيردون عليك مقالك السابق «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ» فقال: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي إن الله ما قال ذلك من قبل، بل أنتم تحسدوننا أن نصيب معكم مغنما، ومن ثم منعتمونا. فردّ عليهم اتهام رسوله وصحبه بالحسد فقال: (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب من أنكم تمنعونهم عن اتباعكم حسدا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدو مغنما، بل إنما كان لأنهم لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، ولو فقهوا ما قالوا ذلك لرسوله وللمؤمنين، بعد أن أخبرهم بأن الله منعهم غنائم خيبر. وفى هذا إشارة إلى أن ردّهم حكم الله، وإثبات الحسد لرسوله والمؤمنين- ناشىء من الجهل وقلة التدبر.

[سورة الفتح (48) : الآيات 16 إلى 17]

[سورة الفتح (48) : الآيات 16 الى 17] قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) تفسير المفردات قال الزهري ومقاتل وجماعة: المراد بالقوم أولى البأس الشديد بنو حنيفه أصحاب مسيلمة الكذاب، وقال قتادة: هم هوازن وغطفان، وقال ابن عباس ومجاهد: هم أهل فارس، وقال الحسن: هم فارس والروم، قال ابن جرير: إنه لم يقم دليل من نقل ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين اه. والبأس: النجدة وشدة المراس فى القتال، والحرج: الإثم والذنب. المعنى الجملي بعد أن رفض سبحانه إشراك المتخلفين فى قتال خيبر عقابا لهم على تقاعدهم عن نصرة الله ورسوله فى الحديبية- أردف ذلك بيان أن باب القتال لا يزال مفتوحا أمامكم، فإن شئتم أن تبرهنوا على مالكم من بلاء فى ميدان القتال فاستعدوا فستندبون إلى مواجهة قوم أولى بأس ونجدة، فإما أن يسلموا وإما أن تبارزوهم حتى تبيدوا خضراءهم ولا تبقوا منهم ديّارا ولا نافخ نار، فإن أجبتم داعى الله أثابكم على ما فعلتم جزيل الأجر، وإن نكصتم على أعقابكم كما فعلتم من قبل فستجزون العذاب الأليم،

الإيضاح

ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد، ومنها ما هو لازم كالعمى والعرج، ومنها ما هو عارض يطرأ ويزول كالمرض، ثم أعقب ذلك بالترغيب فى الجهاد والوعيد بالعذاب الأليم من مذلة فى الدنيا، ونار موقدة فى الآخرة لمن نكل عنه وأقبل على الدنيا، وترك ما يقرّ به من ربه. الإيضاح (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي قل لهؤلاء المخلفين الذين تقدم ذكرهم- إنكم ستندبون إلى قتال قوم من أولى البأس والنجدة، فعليكم أن تخيّروهم بين أمرين: إما السيف، وإما الإسلام. وهذا حكم عام فى مشركى العرب والمرتدين يجب اتباعه. ثم وعدهم إذا أجابوا بقوله: (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً) أي فإن تستجيبوا وتنفروا للجهاد وتؤدوا ما طلب منكم أداؤه- يؤتكم ربكم الأجر الحسن، والثواب الجزيل، فتنالوا المغانم فى الدنيا، وتدخلوا الجنة فى الآخرة. كما أوعد من نكص على عقبه بقوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي وإن تعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته، وتخالفوا أمره، فتتركوا قتال أولى النجدة والبأس إذا دعيتم إلى قتالهم، كما عصيتموه فى أمره إياكم بالمسير مع رسوله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة يعذبكم العذاب الأليم بالمذلة فى الدنيا، والنار فى الآخرة. ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلف عن القتال فقال: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي لا إثم على ذوى الأعذار إذا تخلفوا عن الجهاد وشهود الحرب مع المؤمنين إذا هم لقوا عدوهم للعلل التي بهم، والأسباب التي تمنعهم من شهودها كالعمى والعرج والمرض

[سورة الفتح (48) : الآيات 18 إلى 19]

روى أنه لما نزل قوله «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ» الآية. قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ» الآية. وقال مقاتل: عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية. ثم رغّب سبحانه فى الجهاد وطاعة الله ورسوله، وأوعد على تركه بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) أي ومن يطع الله ورسوله فيجيب الداعي إلى حرب أعدائه أهل الشرك دفاعا عن دينه وإعلاء لكلمته- يدخله يوم القيامة جنات تجرى من تحتها الأنهار، ومن يعص الله ورسوله فيتخلف عن القتال إذا دعى إليه- يعذبه عذابا موجعا فى نار جهنم. [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) تفسير المفردات الرضا: ما يقابل السخط، يقال رضى عنه ورضى به ورضيته، والمراد بالمؤمنين أهل الحديبية، ورضاه عنهم لمبايعتهم رسوله صلّى الله عليه وسلم، والشجرة: سمرة (شجرة طلح- وهى المعروفة الآن بالسنط) بايع المؤمنون تحت ظلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما فى قلوبهم: أي من الصدق والإخلاص فى المبايعة، والسكينة: الطمأنينة والأمن وسكون النفس، فتحا قريبا: هو فتح خيبر عقب انصرافهم من

المعنى الجملي

الحديبية كما علمت، مغانم كثيرة: هى مغانم خيبر، وكانت خيبر أرضا ذات عقار وأموال قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقاتلة فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما، عزيزا: أي غالبا، حكيما: أي يفعل على مقتضى الحكمة فى تدبير خلقه. المعنى الجملي بعد أن بيّن حال المخلّفين فيما سلف- عاد إلى بيان حال المبايعين الذين ذكرهم فيما تقدم بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» فأبان رضاهم عنه لأجل تلك البيعة، لما علم من صدق إيمانهم، وإخلاصهم فى بيعتهم، وأنزل عليهم طمأنينة ورباطة جأش وجازاهم بمغانم كثيرة أخذوها من خيبر بعد عودتهم من الحديبية، وكان الله عزيزا: أي غالبا على أمره، موجدا أفعاله وأقواله على مقتضى الحكمة. عن سلمة بن الأكوع قال: «بينا نحن قائلون، إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيها الناس: البيعة البيعة، نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قوله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ» الآية. فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى، فقال الناس هنيئا لابن عفان، يطوف بالبيت ونحن هنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف» أخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه. وأخرج البخاري عن سلمة أيضا قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قيل على أىّ شىء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت» . وعن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.

الإيضاح

الإيضاح (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان، وقد عرفت أنهم كانوا أربع عشرة مائة، كما عرفت أسباب هذه البيعة. ولما أراد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعلّموا هذه الشجرة بعد ذلك كثر اختلافهم فيها، فلما اشتبهت عليهم وصار كل واحد يشير إلى شجرة غير التي يشير إليها الآخر، قال عمر: سيروا ذهبت الشجرة، وقال ابن عمر: ما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، وكانت رحمة من الله. وعن نافع قال: بلغ عمر أن أناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت أخرجه ابن أبى شيبة فى المصنّف. (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) أي فعلم ما فى قلوبهم من الصدق والسمع والطاعة، فأنزل عليهم الطمأنينة وسكون النفس ورباطة الجأش وأعطاهم جزاء ما وهبوه من الطاعة- فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما علمت. (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) أي وعوّضهم فى العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم- فتح خيبر، فأخذوا أموال يهودها وعقارهم وكان كثيرا، وخصهم بأهل بيعة الرضوان لا يشركهم فيه سواهم. (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) وكان الله ذا عزة فى انتقامه ممن انتقم من أعدائه، حكيما فى تدبير أمور خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء من قضائه.

[سورة الفتح (48) : الآيات 20 إلى 24]

[سورة الفتح (48) : الآيات 20 الى 24] وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) تفسير المفردات المغانم الكثيرة: ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة، فعجل لكم هذه: أي مغانم خيبر، أيدى الناس: أي أيدى اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول منها إلى الحديبية، آية: أي أمارة للمؤمنين يعرفون بها: (1) صدق الرسول صلّى الله عليه وسلم. (2) حياطة الله لرسوله وللمؤمنين وحراسته لهم فى مشهدهم ومغيبهم. (3) معرفة المؤمنين الذين سيأتون بعد أن كلاءته تعالى ستعمهم أيضا ماداموا على الجادّة، الصراط المستقيم: هو الثقة بفضل الله والتوكل عليه فيما تأتون وما تذرون، وأخرى: أي مغانم أخرى هى مغانم فارس والروم، أحاط الله بها: أي أعدها لكم وهى تحت قبضته يظهر عليها من أراد، لولّوا الأدبار: أي لانهزموا، والولىّ الحارس الحامى، والنصير: المعين والمساعد، سنة الله: أي سنّ سبحانه غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال: «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» أيديهم عنكم: أي أيدى كفار مكة، وأيديكم عنهم

المعنى الجملي

ببطن مكة، يعنى بالحديبية، أظفركم عليهم: أي على كلمته وجعلكم ذوى غلبة عليهم، فإن عكرمة بن أبى جهل خرج فى خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد. المعنى الجملي بعد أن وعدهم فيما سلف بمغانم خيبر- أردف ذلك بيان أن ما آتاهم من الفتح والمغانم ليس هو الثواب وحده، بل الجزاء أمامهم، وإنما عجل لهم هذه لتكون علامة على صدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم وحياطته له، وحراسته للمؤمنين وليثبتكم على الإسلام، وليزيدكم بصيرة، وسيؤتيكم مغانم أخرى من فارس والروم وغيرهما ما كنتم تقدرون عليها لولا الإسلام، فقد كانت بلاد العرب شبه مستعمرات لهذه الدول فأقدرهم الله عليها بعز الإسلام. ثم ذكر أنه لو قاتلكم أهل مكة ولم يصالحوكم لانهزموا ولم يجدوا وليّا ولا نصيرا يدافع عنهم، وتلك هى سنة الله من غلبة المؤمنين، وخذلان الكافرين، ثم امتنّ على عباده المؤمنين بأنه كفّ أيدى المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدى المؤمنين من المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، فصان كلّا من الفريقين عن الآخر، وأوجد صلحا فيه خيرة للمؤمنين، وعافية لهم فى الدنيا والآخرة الإيضاح (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي وعدكم الله مغانم كثيرة من غنائم أهل الشرك إلى يوم القيامة، ولكن عجل لكم مغانم خيبر، وكف أيدى اليهود عن

المدينة بعد خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الحديبية وخيبر قاله قتادة واختاره ابن جرير الطبري، لتشكروه ولتكون أمارة للمؤمنين يعلمون بها أن الله حافظهم وناصرهم على أعدائهم على قلة عددهم، وليهديكم صراطا مستقيما بانقيادكم لأمره، وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ويزيدكم يقينا بصلح الحديبية وفتح خيبر. روى إياس بن سلمة قال: حدثنى أبى قال: «خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجعل عمّى عامر يرتجز بالقوم ثم قال: تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبّت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من هذا؟ قال: أنا عامر، قال: غفر لك ربك (وما استغفر لأحد إلا استشهد) قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له، يا نبى الله لو أمتعتنا بعامر، فلما قدمنا خيبر خرج قائدهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: قد علمت خيبر أنى مرحب شاكى السلاح بطل مجرّب إذا الحرب أقبلت تلتهب فبرز له عامر بن عثمان فقال: قد علمت خيبر أنى عامر شاكى السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب فى ترس عامر، فرجع سيف عامر على نفسه، فقطع أكحله (الأكحل: عرق فى اليد) فكانت فيها نفسه، قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلّم وأنا أبكى فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر، فقال من قال ذلك؟ قلت ناس من أصحابك، قال من قال ذلك؟ بل له أجره مرتين، ثم أرسلنى إلى علىّ وهو أرمد وقال: لأعطينّ الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فأتيت

عليّا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتفل فى عينيه فبرىء وأعطاه الراية فخرج مرحب وقال: أنا الذي سمتنى أمي مرحب شاكى السلاح بطل مجرّب فقال علىّ كرم الله وجهه: أنا الذي سمتنى أمي حيدره كليث غابات كريه المنظرة أكيلكم بالسيف كيل السّندره «1» قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه» . (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها) أي ووعدكم الله فتح بلاد أخرى لم تقدروا عليها، قد حفظها لكم حتى تفتحوها، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها كفارس والروم، أقدركم عليهم بعز الإسلام وقد كنتم قبل ذلك مستضعفين أمامهم لا تستطيعون دفعهم عن أنفسكم. (وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي وكان الله على كل ما يشاء من الأشياء ذا قدرة لا يتعذر عليه شىء. (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) يقول سبحانه مبشرا عباده المؤمنين بأنه لوناجزهم المشركون لنصرهم عليهم ولا نهزم جيش الكفر فارّا مدبرا لا يجد وليّا يتولى رعايته ويكلؤه ويحرسه، ولا نصيرا يساعده، لأنه محارب لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين. (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) أي هذه هى سنة الله فى خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان فى موطن فيصل إلا نصر الله المؤمنين على الكافرين

_ (1) السندرة: مكيال واسع، وكيلهم بها: قتلهم قتلا واسعا ذريعا.

ورفع الحق ووضع الباطل كما نصر يوم بدر أولياءه المؤمنين على قلة عددهم وعددهم، وكثرة المشركين وكثرة عددهم. (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي إن الله كفّ أيدى المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية يلتمسون غرّتهم ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله سريّة، فأتى بهم أسرى، ثم خلى سبيلهم ولم يقتلهم منة منه وفضلا. روى أحمد وابن أبى شيبة وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي فى آخرين عن أنس قال: «لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة فى السلاح من جبل التنعيم (التنعيم: موضع بين مكة وسرف) فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية: «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ» إلخ. وروى أحمد عن عبد الله بن مغفل المزني رضى الله عنهما قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى أصل الشجرة التي قال الله فى القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان على بن أبى طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلىّ رضى الله عنه- اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فأخذ سهيل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب فى قضيتنا ما نعرف. قال اكتب باسمك اللهم- وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة، فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب فى قضيتنا ما نعرف، فقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابّا عليهم السلاح فثاروا فى وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. هل جئتم فى عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا؟

[سورة الفتح (48) : الآيات 25 إلى 26]

فقالوا لا، فخلّى سبيلهم فأنزل الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) الآية. (وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي وكان الله بأعمالكم وأعمالهم بصيرا لا يخفى عليه شىء منها، وهو مجازيكم ومجازيهم بها. [سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) تفسير المفردات الهدى: ما يقدّم قربانا لله حين أداء مناسك الحج أو العمرة، معكوفا: أي محبوسا تقول عكفت الرجل عن حاجته: إذا حبسته عنها، محله: أي المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو منى، والوطء: الدوس، والمراد به الإهلاك، وفى الحديث «اللهم اشدد وطأتك على مضر» ، والمعرة: المكروه والمشقة، من عرّه إذا عراه ودهاه بما يكره والتنزيل: التفرق والتميز، والحميّة: الأنفة، يقال حميت من كذا حميّة إذا أنفت منه وداخلك منه عار، والمراد بها ثوران القوة الغضبية، وحمية الجاهلية: حمية فى غير

المعنى الجملي

موضعها لا يؤيدها دليل ولا برهان، وكلمة التقوى هى: لا إله إلا الله، وأهلها: أي المستأهلين. المعنى الجملي بعد أن أبان فيما سلف أن الله كف أيدى المؤمنين عن الكافرين، وكف أيدى الكافرين عن المؤمنين- عيّن هنا مكان الكف وهو البيت الحرام الذي صدّوا المؤمنين عنه، ومنعوا الهدى معكوفا أن يبلغ محله، والسبب الذي لأجله كفوهم هو كفرهم بالله، ثم أخبرهم بأنه لولا أن يقتلوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لا علم لهم بهم فيلزمهم العار والإثم- لأذن لهم فى دخول مكة، ولقد كان الكف ومنع التعذيب عن أهل مكة ليدخل الله فى دين الإسلام من يشاء منهم بعد الصلح وقبل دخولها، وليمنعنّ الأذى عن المؤمنين منهم، ولو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما بالقتل والسبي حين جعلوا فى قلوبهم أنفة الجاهلية التي تمنع من الإذعان للحق، ولكن أنزل الله الثبات والوقار على رسوله وعلى المؤمنين فامتنعوا أن يبطشوا بهم، وألزمهم الوفاء بالعهد وكانوا أحق بذلك من غيرهم إذ اختارهم الله لدينه وصحبة نبيه. روى أنه لما همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتالهم بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى ومكرز بن حفص ليسألوه أن يرجع فى عامه على أن تخلى قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام فأجابهم وكتبوا بينهم كتابا، فقال عليه الصلاة السلام لعلىّ ورضى الله عنه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا لا نعرف هذا: اكتب باسمك الله، ثم قال عليه السلام: اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة، فقالوا كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة، فقال صلّى الله عليه وسلّم اكتب ما يريدون،

الإيضاح

فهمّ المؤمنون أن يأبوا ذلك وأن يبطشوا بهم، فأنزل الله السكينة عليهم فتوقّروا واحتملوا كل هذا ، وقد تقدم ذلك برواية أخرى. الإيضاح (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي هم الذين جحدوا توحيد الله وصدوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام وصدوا الهدى محبوسا أن يبلغ محلّ نحره وهو الحرم عنادا منهم وبغيا، وكان رسول الله ساق معه حين خرج إلى مكة فى سفرته تلك سبعين بدنة. (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولولا هؤلاء الذين يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم- وهم بين أظهرهم- لسلّطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات من لا تعرفونهم حين القتل، ولو قتلتموهم للحقتكم المعرة والمشقة، بما يلزمكم فى قتلهم من كفارة وعيب. والخلاصة- إنه لولا وجود مؤمنين مختلطين بالمشركين غير متميزين منهم- لوقع ما كان جزاءهم لصدهم وكفرهم، ولو حصل ذلك لزمكم العيب إذ يقول المشركون إن المسلمين قتلوا أهل دينهم. (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي وقد حال بينكم وبين قتالهم لدخول مكة: إخراج المؤمنين من بين أظهرهم، وليدخل فى ذينه من يشاء منهم قبل أن تدخلوها. عن أبى جمعة جنيد بن سبع قال: «قاتلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول النهار كافرا وقاتلت معه آخر النهار مسلما، وفينا نزلت: ولولا رجال إلخ. وكنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين» ، وفى رواية ابن أبى حاتم: «كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة» أخرجه الطبراني وأبو يعلى وابن مردويه.

[سورة الفتح (48) : الآيات 27 إلى 28]

(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم لسلّطناكم عليهم فقتلتموهم قتلا ذريعا. ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب بيّن وقته فقال: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي لعذبناهم حين جعلوا فى قلوبهم أنفة الجاهلية، فامتنع سهيل بن عمرو أن يكتب فى كتاب الصلح الذي بين رسول الله والمشركين (بسم الله الرحمن الرحيم) وأن يكتب فيه (محمد رسول الله) وامتنع هو وقومه أن يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامه هذا المسجد الحرام، فأنزل الله الصبر والطمأنينة على رسوله، ففهم عن الله مراده وجرى على ما يرضيه، وأنزله على المؤمنين فألزمهم أمره وقبلوه، وحماهم من همزات الشياطين، وألزمهم كلمة التوحيد والإخلاص لله فى العمل، وكانوا أحق بها، وكانوا أهلها، إذ هم أهل الخير والصلاح. (وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) سواءا كان من المؤمنين أم من الكفار فيجازى كلا بما عمل. [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الرؤيا: هى رؤيا منام وحلم، وصدق الله رسوله الرؤيا: أي صدقه فى رؤياه ولم يكذبه، محلقين رءوسكم ومقصرين: أي يحلق بعضكم ويقصّر بعض آخر بإزالة بعض الشعر، ليظهره على الدين كله: أي ليعليه على سائر الأديان حقها وباطلها، وأصل الإظهار جعل الشيء باديا ظاهرا للرائى ثم شاع استعماله فى الإعلاء. المعنى الجملي رأى عليه الصلاة والسلام فى المنام. وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين، منهم من يحلق ومنهم من يقصر، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلون مكة عامهم هذا، فلما انصرفوا لم يدخلوا شق ذلك عليهم، وقال المنافقون: أين رؤياه التي رآها؟ فأنزل الله هذه الآية ودخلوا فى العام المقبل. ومما روى «أن عمر بن الخطاب قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ألست نبى الله حقا؟ قال بلى، قلت فلم نعطى الدنية فى ديننا إذن؟ قال إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصرى، قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت ونطوف به؟ قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر: أليس هذا نبى الله حقا؟ قال بلى، قلت ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال بلى. قلت فلم نعطى الدنية فى ديننا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصى ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه (سر على نهجه) فو الله إنه لعلى الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنه سيأتى البيت ويطوف به؟ قال بلى. قال فأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت لا، قال فإنك تأتيه وتطوف به» .

الإيضاح

الإيضاح (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي لقد صدق الله رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه البيت الحرام آمنين لا يخافون أهل الشرك، محلقا بعضهم ومقصرا بعضهم الآخر، فعلم جل ثناؤه ما لم تعلموا، وذلك هو علمه تعالى بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها هذا العام لوطئوهم بالخيل والرّجل، فأصابتهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك، فجعل من دون دخولهم المسجد فتحا قريبا هو صلح الحديبية وفتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر اليوم الموعود. ثم أكد صدق الرسول فى الرؤيا بقوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الإسلام، ليبطل به المثل كلها بنسخ سائر الديانات، وإظهار فساد العقائد الزائفات، حتى لا يكون دين سواه. ولما كان هذا وعدا لا بد من تحققه أعقبه بقوله: (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) على أن ما وعده من إظهار دينه على جميع الأديان كائن لا محالة. وفى هذا تسلية له على ما وقع من سهيل بن عمرو، إذ لم يرض بكتابة «محمد رسول الله» وقال ما قال.

[سورة الفتح (48) : آية 29]

[سورة الفتح (48) : آية 29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) تفسير المفردات أشداء: واحدهم شديد، رحماء: واحدهم رحيم، فضلا: أي ثوابا، والسيماء والسيمياء من السومة (بالضم) وهى العلامة قال: غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر مثلهم: أي وصفهم العجيب الجاري مجرى الأمثال فى الغرابة، والشطء: فروخ الزرع، وهو ما خرج منه وتفرع فى شاطئيه: أي جانبيه وجمعه أشطاء، وشطأ الزرع وأشطأ: إذا أخرج فراخه، وهو فى الحنطة والشعير والنخل وغيرها، وآزره: أعانه وقوّاه وأصله من المؤازة وهى المعاونة، واستوى على سوقه: أي استقام على قصبه وأصوله، والسوق، واحدها ساق. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الإسلام، ليعلى شأنه على سائر الأديان أردف هذا بيان حال الرسول والمرسل إليهم، فوصفهم بأوصاف كلها مدائح لهم، وذكرى لمن بعدهم، وبها سادوا الأمم، وامتلكوا الدول، وقبضوا على ناصية العالم أجمع، وهى: (1) إنهم غلاظ على من خالف دينهم وناوأهم العداء، رحماء فيما بينهم. (2) إنهم جعلوا الصلاة والإخلاص لله ديدنهم فى أكثر أوقاتهم. (3) إنهم يرجون بعملهم الثواب من ربهم والزلفى إليه ورضاه عنهم.

الإيضاح

(4) إنّهم لهم سيمى يعرفون بها، فلهم نور فى وجوههم، وخشوع وخضوع يعرفه أولو الفطن. (5) إن الإنجيل ضرب بشأنهم المثل فقال: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ذاك أنهم فى بدء الإسلام كانوا قليلى العدد ثم كثروا واستحكموا وترقى أمرهم يوما قيوما حتى أعجب الناس بهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قوّاه الله بمن معه كما يقوّى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها مما يتوالد منها. الإيضاح (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) أي إن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله بلا شك ولا ريب مهما أنكر المنكرون، وافترى الجاحدون. (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي إن صحابته الذين معه غليظة قلوبهم على الكفار، رقيقة قلوب بعضهم على بعض، لينة أنفسهم لهم، هينة عليهم. ونحو الآية قوله: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» وفى الحديث «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر» وقوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه» وعلى هذا جاء قوله: حليم إذا ما الحلم زين أهله ... على أنه عند العدو مهيب

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً) أي تراهم دائبين على الصلاة مخلصين لله محتسبين فيها الأجر وجزيل الثواب عنده طالبين رضاه عنهم «ورضوان من الله أكبر» . (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي لهم سمت حسن وخشوع وخضوع يظهر أثره فى الوجوه، ومن ثم قيل: إن للحسنة نورا فى القلب، وضياء فى الوجه وسعة فى الرزق، ومحبة فى قلوب الناس. وقال عثمان بن عفان رضى الله عنه: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. روى عن عمر أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، وعن أبى سعيد رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لخرج عمله للناس كائنا ما كان» . والخلاصة- إن كل ما يفعله المرء أو يتصوره يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله عز وجل ظاهره للناس. ثم أخبر سبحانه أنه نوّه بفضلهم فى الكتب المنزلة والأخبار المتداولة فقال: (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) أي هذه الصفة التي وصفت لكم من صفات أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم هى صفتهم فى التوراة. (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم يكونون قليلين ثم يزدادون ويكثرون ويستغلظون كزرع أخرج فراخه التي تتفرع على جانبيه كما يشاهد فى الحنطة والشعير وغيرهما، فيقوى ويتحول من الدقة إلى الغلظ، ويستقيم على أصوله، فيعجب به الزراع لقوّته وكثافته وغلظه وحسن منظره. والخلاصة- إن هذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وترقيه فى الزيادة إلى أن قوى واستحكم وأعجب الناس.

روى أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أرحم أمتى أبو بكر، وأشدهم فى أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علىّ، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أبىّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح» . ثم بين أنه إنما جعلهم كذلك. (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي إنه تعالى نمّاهم وأكثر عددهم ليغيظ بهم الكفار، إذ يعتقدون أن الله متمّ بهم نوره ولو أبى الجاحدون. [تنبيه] هذه أوصاف الأمة الإسلامية أيام عزها، فانظر الآن وتأمل فى تخاذلها وجهلها حتى أصبحت مثلا فى الخمول والجهل، وأصبحت زرعا هشيما تذروه الرياح، فكيف يجتمع عصفه وتبنه؟ ولعل الله يبدل الحال غير الحال ويخضرّ الزرع بعد ذبوله، وتعود الأمة سيرتها الأولى مهيبة مرعية الجانب مخشية القوة. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) أي وعد سبحانه هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أن يغفر ذنوبهم ويجزل أجرهم بإدخالهم جنات النعيم، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل. وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو فى حكمهم، ولهم السبق والفضل والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد. روى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابى، فو الذي نفسى بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه (نصفه) » رضى الله عنهم وأرضاهم. [خاتمة] هذه السورة آخر القسم الأول من القرآن الكريم وهو المطول، وسيأتى القسم الثاني، وهو المفصل.

خلاصة مقاصد هذه السورة

خلاصة مقاصد هذه السورة (1) بشارة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالفتح وإعزاز دين الله. (2) وعد المؤمنين ووعيد الكافرين والمنافقين. (3) ذم المخلّفين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار. (4) رضوان الله على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة، ووعده إياهم بالنصر فى الدنيا، وبالجنة فى الآخرة. (5) البشرى بتحقق رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، وقد تمّ لهم ذلك فى العام المقبل. (6) وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا معه بالرحمة والشدة. (7) وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم.

سورة الحجرات

سورة الحجرات هى مدنية آيها ثمانى عشرة، نزلت بعد سورة المجادلة. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) ذكر فى هذه قتال البغاة، وفى تلك قتال الكفار. (2) إن السابقة ختمت بالذين آمنوا، وافتتحت هذه بهم. (3) إن كلا منهما تضمن تشريفا وتكريما للرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا سيما فى مطلعيهما. [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) تفسير المفردات لا تقدموا: أي لا تتقدموا، من قولهم مقدمة الجيش لمن تقدم منهم، قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا تقدّم بين يدى الإمام وبين يدى الأب: أي لا تعجل بالأمر دونه، وقيل إن المراد لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة، ورجّح هذا، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي: أي إذا كلمتموه ونطق ونطقتم فلا تبلغوا بأصواتكم وراء

المعنى الجملي

الحد الذي يبلغه بصوته، يغضون أصواتهم: أي يخفضونها ويلينونها، امتحن الله قلوبهم: أي طهّرها ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة والتنقية من كل غشّ. المعنى الجملي ذكرت سورة الفتح بعد سورة القتال لأن الأولى كالمقدمة والثانية كالنتيجة وذكرت هذه بعد الفتح، لأن الأمة إذا جاهدت ثم فتح الله عليها والنبي صلّى الله عليه وسلّم بينها، واستتبّ الأمر، وجب أن توضع القواعد التي تكون بين النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، وكيف يعاملونه؟ وكيف يعامل بعضهم بعضا؟ فطلب إليهم ألا يقطعوا أمرا دون أن يحكم الله ورسوله به ولا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن يجهروا له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض، لما فى ذلك من الاستخفاف الذي قد يؤدى إلى الكفر المحبط للأعمال. الإيضاح أدب الله المؤمنين إذا قابلوا الرسول بأدبين: أحدهما فعل، وثانيهما قول، وأشار إلى أولهما بقوله: (1) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يا أيها المؤمنون لا تعجلوا بالقضاء فى أمر قبل أن يقضى الله ورسوله لكم فيه، إذ ربما تقضون بغير قضائهما، وراقبوا الله أن تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به، إن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شىء من ضمائر صدوركم. وبنحو هذا أجاب معاذ بن جبل رضى الله عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن قال له «بم تحكم؟ قال بكتاب الله تعالى، قال صلّى الله عليه وسلّم فإن لم تجد، قال بسنة رسوله، قال صلّى الله عليه وسلّم فإن لم تجد، قال أجتهد رأيى،

فضرب فى صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى رسوله» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. فتراه قد أخر رأيه واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه لكان من المتقدمين بين يدى الله ورسوله. والخلاصة- إنه طلب إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه، ولا يعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول الرسول أو أن يفعل، فلا يذبحوا يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح، ولا يصوم أحد يوم الشك وقد نهى عنه. وأشار إلى ثانيهما بقوله: (2) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) أي إذا نطق ونطقتم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، ولا تبلغوا بها وراء الحد الذي يبلغه، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام. روى البخاري بسنده عن ابن أبى مليكة «أن عبد الله بن الزبير رضى الله عنه أخبره أنه قدم ركب من تميم على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال أبوبكر رضى الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر رضى الله عنه: ما أردت إلا خلافى، فقال عمر رضى الله عنه: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية. فكان أبوبكر بعدها لا يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا كأخى السرار، وما حدّث عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته» . وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي وإذا كلمتموه وهو صامت فإياكم أن تبلغوا به الجهر الذي يدور بينكم، أو أن تقولوا يا محمد، يا أحمد، بل خاطبوه بالنبوة مع الإجلال والتعظيم، خشية أن يؤدى ذلك إلى الاستخفاف بالمخاطب فتكفروا من حيث لا تشعرون.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 إلى 5]

ولما نزلت هذه الآية تخلف ثابت بن قيس عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدعاه إليه صلّى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: لقد أنزلت هذه الآية وإنى رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملى قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير، وإنك فى أهل الجنة، فقال: رضيت ببشرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لا أرفع صوتى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبدا، فأنزل الله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إن الذين ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة حتى طهرت وصفت بما كابدت من الصبر على المشاقّ، لهم مغفرة لذنوبهم، وأجر عظيم لغضهم أصواتهم ولسائر طاعاتهم. روى أحمد فى الزهد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر، يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهى المعصية ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهى المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضى الله عنه، إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) . [سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 5] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) تفسير المفردات من وراء الحجرات: أي من خارجها سواء كان من خلفها أو من قدامها، إذ أنها من المواراة وهى الاستتار، فما استتر عنك فهو وراء، خلفا كان أو قداما، فإذا رأيته

المعنى الجملي

لا يكون وراءك. ويرى بعض أهل اللغة أن وراء من الأضداد فتطلق تارة على ما أمامك، وأخرى على ما خلفك، والحجرات (بضم الجيم وفتحها وتسكينها) واحدها حجرة: وهى القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ونحوه، والمراد بها حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام، وكانت تسعة لكل منهن حجرة من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، وكانت غير مرتفعة يتناول سقفها باليد، وقد أدخلت فى عهد الوليد بن عبد الملك بأمره فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبكى الناس لذلك. وقال سعيد بن المسيّب يومئذ: لوددت أنهم تركوها على حالها لينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس فى التفاخر والتكاثر فيها. المعنى الجملي ذم الله تبارك وتعالى الذين ينادون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وراء الحجرات وهو فى بيوت نسائه كما يفعل أجلاف الأعراب، ثم أرشدهم إلى ما فيه الخير والمصلحة لهم فى دينهم ودنياهم، وهو أن ينتظروا حتى يخرج إليهم. روى ابن جرير بسنده عن زيد بن أرقم رضى الله عنه قال: «اجتمع ناس من العرب فقالوا انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا نعش بجناحه، قال: فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا ينادونه وهو فى حجرته يا محمد يا محمد، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قال. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأذنى فمدها وجعل يقول: لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد. لقد صدق الله قولك يا زيد» .

وقال قتادة: نزلت فى وفد تميم وكانوا سبعين رجلا منهم الزّبرقان بن بدر وعطارد ابن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم، جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم للمفاخرة، فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا لزين، وإن ذمنا لشين، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمه شين، فقالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله: ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه، فقال صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبي صلّى الله عليه وسلم، قم فأجبه فأجابه، وقام الزّبرقان بن بدر فقال: نحن الكرام فلا حىّ يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع إلى أن قال: فلا ترانا إلى حىّ يفاخرهم ... إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحسان بن ثابت أجبه فقال: إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بيّنوا سنة للناس تتّبع يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوهم ... أو حاولوا النفع فى أشياعهم نفعوا سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع فى قصيدة طويلة، فلما فرغ حسان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبى إن هذا الرجل لمؤتّى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم دنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أشهد

الإيضاح

أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يضرك ما كان من قبل هذا، ثم جوّزهم فأحسن جوائزهم. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي إن الذين ينادونك من وراء حجرات نسائك أكثرهم جهال بما يجب لك من الإجلال والتعظيم. والمراد بالحجرات موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه. (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولو أن هؤلاء الذين ينادونك من وراء الحجرات صبروا ولم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم عند الله، لأنه قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك. (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب إن هو تاب من معصيته بندائك كذلك، وراجع أمر الله فى ذلك وفى غيره، رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه. والخلاصة- إن الله سبحانه هجّن الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم فى حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه إلى فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول يكون صنيع مثل هؤلاء معه من المنكر الذي يبلغ من التفاحش مبلغا لا يقدر قدره. [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الفاسق: هو الخارج عن حدود الدين، من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره والتبين: طلب البيان، والنبأ: الخبر، قال الراغب: ولا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة وبه يحصل علم أو غلبة ظن بجهالة: أي جاهلين حالهم، فتصبحوا: أي فتصيروا، نادمين: أي مغتمّين غما لازما متمنين أنه لم يقع فإن الندم الغم على وقوع شىء مع تمنى عدم وقوعه، لعنتّم: أي لوقعتم فى الجهد والهلاك، والكفر: تغطية نعم الله تعالى بالجحود لها، الفسوق: الخروج عن الحد كما علمت، والعصيان: عدم الانقياد، من قولهم: عصت النواة: أي صلبت واشتدت، والرشاد: إصابة الحق واتباع الطريق السوىّ. المعنى الجملي أدب الله عباده المؤمنين بأدب نافع لهم فى دينهم ودنياهم- أنه إذا جاءهم الفاسق المجاهر بترك شعائر الدين بأيّ خبر، لا يصدقونه بادى ذى بدء حتى يتثبتوا، ويتطلبوا انكشاف الحقيقة ولا يعتمدوا على قوله، فإن من لا يبالى بالفسق لا يبالى بالكذب الذي هو من فصيلته- كراهة أن يصيبوا بأذى قوما هم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرط منكم، وتتمنوا أنه لو لم يكن قد وقع. روى عن ابن عباس «أن الآية نزلت فى الوليد بن عقبة بن أبى معيط، وكان قد بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بنى المصطلق ليأخذ الصدقات، فلما أتاهم الخبر فرحوا به وخرجوا يستقبلونه، فلما حدّث بذلك الوليد حسب أنهم جاءوا لقتاله،

الإيضاح

فرجع قبل أن يدركوه وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم منعوا الزكاة، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غضبا شديدا، وبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا يا رسول الله: إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أنه إنما رده كتاب جاء منك لغصب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم فى الكتاب فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية» . أخرجه أحمد وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه، وقال ابن كثير: وهذا من أحسن ما روى فى سبب نزول الآية. وقال الرازي: هذه الرواية ضعيفة لأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق فى أكثر المواضع يراد به من خرج من ربقة الإيمان لقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» اه. ثم بين أن صحبه كانوا يريدون أن يتبع رأيهم فى الحوادث، ولو فعل ذلك لوقعوا فى العنت والهلاك، ولكن الله حبب إلى بعضهم الإيمان وزينه فى قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وهؤلاء أهل الرشاد والسالكون الطريق السوىّ. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي يا أيها المؤمنون إن جاءكم الفاسق بأى نبإ فتوقفوا فيه وتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا على قوله، فإن من لا يبالى بالفسق فهو أجدر ألا يبالى بالكذب ولا يتحاماه- خشية إصابتكم بالأذى قوما أنتم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرط منكم وتتمنّوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك. ثم وعظهم سبحانه بعظة هم أحرى الناس باتباعها فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) أي واعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه

ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم كما قال تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . ثم بين أن رأيه أنفع لهم وأجدر بالرعاية فقال: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لو سارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر وأجاب ما أشرتم به عليه من الآراء لوقعتم فى الجهد والإثم، ولكنه لا يطيعكم فى غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه. عن أبى سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية وقال: هذا نبيكم يوحى إليه، وخيار أئمتكم لو أطاعهم فى كثير من الأمر لعنتوا، فكيف بكم اليوم، أخرجه الترمذي. ثم استدرك على ما سلف لبيان براءة بعضهم من أوصاف الأولين فقال: (وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) أي ولكنّ جمعا منكم براء مما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبرىء وإرادة أن يتبع الحق أهواءهم، لأن الله تعالى جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع فى الأخبار، وكرّه إليهم هذه الأمور الثلاثة: الكفر والفسوق والعصيان. والخلاصة- إن الإيمان الكامل إقرار باللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، فكراهة الكفر فى مقابلة محبة الإيمان، وتزيينه فى القلوب هو التصديق بالجنان، والفسوق وهو الكذب فى مقابلة الإقرار باللسان، والعصيان فى مقابلة العمل بالأركان. (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم السالكون طريق السعادة ولم يميلوا عن الاستقامة. (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) أي هذا العطاء الذي منحكموه تفضل منه عليكم وإنعام من لدنه

[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 إلى 10]

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بمن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية، حكيم فى تدبير شئون خلقه وصرفهم فيما شاء من قضائه. والخلاصة- إن رسول الله بين أظهركم وهو أعلم بمصالحكم، لو أطاعكم فى جميع ما تختارونه لأدّى ذلك إلى عنتكم ووقوعكم فى مهاوى الردى، ولكنّ بعضا منكم حبّب إليهم الإيمان فى قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأولئك هم الذين أصابوا الحق، وسلكوا سبيل الرشاد. [سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) تفسير المفردات الطائفة: الجماعة أقل من الفرقة بدليل قوله: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ» فأصلحوا بينهما: أي فكفوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب، بغت: أي تعدّت وجارت، تفيء: أي ترجع، وأمر الله: هو الصلح، لأنه مأمور به فى قوله: «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» فأصلحوا بينهما بالعدل: أي بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات بحيث يكون الحكم عادلا حتى لا يؤدى النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى، وأقسطوا: أي واعدلوا فى كل شأن من شئونكم وأصل الإقساط: إزالة القسط (بالفتح) وهو الجور، والقاسط: الجائز كما قال: َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً»

المعنى الجملي

والإخوة فى النسب، والإخوان فى الصداقة، واحدهم أخ، وقد جعلت الأخوّة فى الدين كالأخوّة فى النسب وكأن الإسلام أب لهم قال قائلهم: أبى الإسلام لا أب لى سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم المعنى الجملي بعد أن حذر سبحانه المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق- بين هنا ما ربما ترتب على خبره من النزاع بين فئتين وقد يئول الأمر إلى الاقتتال، فطلب من المؤمنين أن يزيلوا ما نتج من كلامه، وأن يصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى ترجع إلى الصلح بدفعها عن الظلم مباشرة إن أمكن، أو باستعداء الحاكم عليها، وإن كان الباغي هو الحاكم فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها بشرط ألا تثير فتنة أشدّ من الأولى. ثم تمم الإرشاد وأبان أن الصلح كما يلزم بين الفئتين- يجب بين الأخوين، ثم أمرهم بتقوى الله ووجوب اتباع حكمه وعدم الإهمال فيه رجاء أن يرحمهم إذا هم أطاعوه ولم يخالفوا أمره. روى قتادة أن الآية نزلت فى رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة فى حق، فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقى منك عنوة، لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى أن يتّبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدى والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف. الإيضاح (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي وإن اقتتلت طائفتان من أهل الإيمان، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم الله والرضا بما فيه، سواء كان لهما أو عليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم الله وتعدت ما جعله الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى فقاتلوا التي تعتدى وتأبى الإجابة إلى حكمه حتى ترجع إليه وتخضع طائعة له. (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياها إلى الرضا بحكم الله- فأصلحوا بينهما بالإنصاف والعدل حتى لا يتجدد بينهما القتال فى وقت آخر. ثم أمرهم سبحانه بالعدل فى كل أمورهم فقال: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي واعدلوا فى كل ما تأتون وما تذرون، إن الله يحب العادلين فى جميع أعمالهم ويجازيهم أحسن الجزاء. وفى الصحيح عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قلت: يا رسول الله: هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه» . (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للسعادة الأبدية، وفى الحديث «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يعيبه، ولا يخذله، ولا يتطاول عليه فى البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة، ولا يشترى لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها، ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل» وفى الصحيح أيضا: «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب: قال الملك: آمين ولك بمثله» . ولما كانت الأخوّة داعية إلى الإصلاح ولا بد- تسبب عن ذلك قوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فى الدين كما تصلحون بين أخويكم فى النسب.

[سورة الحجرات (49) : آية 11]

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) فى كل ما تأتون وما تذرون، ومن ذلك ما أمرتم به من إصلاح ذات البين. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي رجاء أن يرحمكم ربكم ويصفح عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه واتبعتم أمره ونهيه. [سورة الحجرات (49) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) تفسير المفردات السخرية: الاحتقار وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، يقال سخر به وسخر منه، وضحك به ومنه، وهزىء به ومنه والاسم السخرية والسخرى (بالضم والكسر) وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه إذا غلظ فيه، أو على صنعته، أو على قبح صورته. والقوم: شاع إطلاقه على الرجال دون النساء كما في الآية وكما قال زهير: وما أدرى وسوف إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء ولا تلمزوا أنفسكم: أي لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما، والمؤمنون كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه، والتنابز: التعاير والتداعي بما يكرهه الشخص من الألقاب، والاسم: الذكر والصيت، من قولهم: طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر ما ينبغى أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ومع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغى أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن، فذكر أنه لا ينبغى أن يسخر منه ولا أن يعيبه بالهمز واللمز، ولا أن يلقبه باللقب الذي يتأذى منه، فبئس العمل هذا، ومن لم يتب بعد ارتكابه فقد أساء إلى نفسه وارتكب جرما كبيرا. روى أن الآية نزلت فى وفد تميم إذ كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كعمار وصهيب وبلال وخبّاب وابن فهيرة وسلمان الفارسي وسالم مولى أبى حذيفة فى آخرين غيرهم لما رأوا من رثاثة حالهم. وروى أنها نزلت فى صفيّة بنت حيىّ بن أخطب رضى الله عنها: أتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: «إن النساء يقلن لى: يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: هلّا قلت: أبى هارون، وعمى موسى، وزوجى محمد» . الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) أي لا يهزأ ناس من المؤمنين بآخرين: ثم ذكر العلة فى ذلك فقال: (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي فقد يكون المسخور منهم خيرا عند الله من الساخرين كما جاء فى الأثر «فربّ أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله تعالى لأبرّه» . فينبغى ألا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تتقحمه عينه لرثاثة حاله، أو لكونه ذا عاهة فى بدنه، أو لكونه غير لبق فى محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله تعالى.

(وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) أي ولا يسخر نساء من نساء عسى أن يكون المسخور منهن خيرا من الساخرات، وأتى بالجمع فى الموضعين، من قبل أن الأغلب فى السخرية أن تكون فى مجامع الناس، وكم من متلذذ بها، وكم من متألم منها. روى الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبى صلّى الله عليه وسلّم رجلا فقال: «ما يسرنى أنى حكيت رجلا وأن لى كذا وكذا، قالت فقلت يا رسول الله إن صفية امرأة وقالت «1» بيدها هكذا تعنى أنها قصيرة، فقال: لقد مزحت بكلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» . وروى مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وفى هذا إيماء إلى أن المرء لا يقطع بمدح أحد أو عيبه كما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا منه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه، فالأعمال أمارات ظنية، لا أدلة قطعية. (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة على وجه الخفية. وفى قوله: «أنفسكم» تنبيه إلى أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغى أن يعيب غيره لأنه كنفسه، ومن ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» وقال عليه الصلاة والسلام: «يبصر أحدكم القذاة «2» فى عين أخيه ويدع الجذع فى عينه» .

_ (1) تطلق العرب القول على جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان توسعا فى الاستعمال. (2) ما يقع فى العين والماء والتراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.

وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر: لا تكشفن من مساوى الناس ما ستروا ... فيهتك الله سترا عن مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ... ولا تعب أحدا منهم بما فيكا (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب الذي يسوءه ويكرهه كأن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودى، أو يا نصرانى. قال قتادة وعكرمة عن أبى جبيرة بن الضحاك قال: فى بنى سلمة نزلت (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا واحدا باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكرهه فنزلت. أخرجه البخاري فى الأدب وأهل السنن وغيرهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب وراجع الحق، فنهى الله تعالى أن يعيّر بما سلف من عمله. أما الألقاب التي تكسب حمدا أو مدحا وتكون حقّا وصدقا فلا تكره كما قيل لأبى بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلى: أبو تراب، ولخالد سيف الله. (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم فى الإيمان واشتهارهم به. وفى هذا إيماء إلى استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول بئس الصبوة بعد الشيخوخة أي معها. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها عقاب الله بعصيانهم إياه.

[سورة الحجرات (49) : آية 12]

[سورة الحجرات (49) : آية 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) تفسير المفردات اجتنبوا: أي تباعدوا، وأصل اجتنبته: كنت منه على جانب، ثم شاع استعماله فى التباعد اللازم له، والإثم: الذنب، والتجسس: البحث عن العورات والمعايب والكشف عما ستره الناس، والغيبة: ذكر الإنسان بما يكره فى غيبته، فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت لو كان فى أخى ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» . المعنى الجملي أدب الله عباده المؤمنين بآداب إن تمسكوا بها دامت المودة والوئام بينهم: منها ما تقدم قبل هذا، ومنها ما ذكره هنا من الأمور العظام التي تزيد توثيق رباط المجتمع الإسلامى قوة وهى: (1) البعد عن سوء الظن بالناس وتخوّنهم فى كل ما يقولون وما يفعلون، لأن بعض ذلك قد يكون إثما محضا فليجتنب كثير منه، وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا، وأنت تجد لها فى الخير محملا. (2) البحث عن عورات الناس ومعايبهم. (3) عدم ذكر بعضهم بعضا بما يكرهون فى غيبتهم، وقد مثل الشارع المغتاب بآكل لحم الميتة استفظاعا له.

الإيضاح

قال قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة ممدودة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حىّ. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) أي يا أيها الذين آمنوا ابتعدوا عن كثير من الظن بالمؤمنين، بأن تظنوا بهم السوء ما وجدتم إلى ذلك سبيلا، ففى الحديث «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه، وأن يظن به ظن السوء» . ولا يحرم سوء الظن إلا ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة، أما من يجاهر بالفجور كمن يدخل إلى الخانات أو يصاحب الغواني الفواجر فلا يحرم سوء الظن به. أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن سعيد بن المسيّب قال: كتب إلىّ بعض إخوانى من أصحاب رسول صلّى الله عليه وسلم. أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظننّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها فى الخير محملا، ومن عرّض نفسه للتهم فلا يلومنّ إلا نفسه، ومن كتم سرّه كانت الخيرة فى يده، وما كافأت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وعليك بإخوان الصدق فكن فى اكتسابهم، فإنهم زينة فى الرخاء، وعدّة عند عظيم البلاء، ولا تتهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون، ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه، وعليك بالصدق وإن قتلك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشى الله، وشاور فى أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب. ثم علل الأمر باجتناب كثير من الظن بقوله: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي إن ظن المؤمن بالمؤمن الشرّ إثم، لأن الله قد نهاه عنه ففعله إثم. ونحو الآية قوله: «وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» .

قال ابن عباس فى الآية: نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءا اه. ثم لما أمرهم سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال: (وَلا تَجَسَّسُوا) أي ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره يبتغى بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما تعلمون من الخفايا. وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» التجسس: البحث عما يكتم عنك، والتحسس: طلب الأخبار والبحث عنها، والتناجش: البيع على بيع غيرك (الزيادة عليه) والتدابر: الهجر والقطيعة. وعن أبى برزة الأسلمى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه فى عقر بيته» . وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ثلاث لازمات لأمتى: الطّيرة والحسد وسوء الظن، فقال رجل وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلّى الله عليه وسلم: إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت فامض» . وقال عبد الرحمن بن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة، إذ تبين لنا سراج فى بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب، فما ترى؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى: «وَلا تَجَسَّسُوا» وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم.

وقال أبو قلابة: حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له فى بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس. فخرج عمر وتركه. (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي ولا يذكر بعضكم بعضا بما يكره فى غيبته، والمراد بالذكر الذكر صريحا أو إشارة أو نحو ذلك مما يؤدى مؤدى النطق، لما فى ذلك من أذى المغتاب، وإيغار الصدور وتفريق شمل الجماعات، فهى النار تشتعل فلا تبقى ولا تذر، والمراد بما يكره ما يكره فى دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو ملبسه أو غير ذلك مما يتعلق به. قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها فى كتاب الله: الغيبة، والإفك، والبهتان. (1) فأما الغيبة: فهى أن تقول فى أخيك ما هو فيه. (2) وأما الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه. (3) وأما البهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه. ولا خلاف بين العلماء فى أن الغيبة من الكبائر وأن على من اغتاب أحدا التوبة إلى الله أو الاستغفار لمن اغتابه أو الاستحلال منه. وعن شعبة قال: قال لى معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت هذا أقطع كان غيبة، قال شعبة فذكرته لأبى إسحاق فقال صدق. ثم ضرب سبحانه مثلا للغيبة للتنفير والتحذير منها فقال: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) أي أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته؟ فإذا كنتم لا تحبون ذلك بل تكرهونه لأن النفس تعافه، فكذلك فاكرهوا أن تغتابوه فى حياته. والخلاصة- إنكم كما تكرهون ذلك طبعا فاكرهوا ذلك شرعا لما فيه من شديد العقوبة.

وقد شبهت بأكل اللحم لما فيها من تمزيق الأعراض المشابه لأكل اللحم وتمزيقه، وقد جاء هذا على نهج العرب فى كلامهم. قال المقنّع الكندي: فإن أكلوا لحمى وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدى بنيت لهم مجدا وقد زادت الآية فجعلت اللحم لحم أخ ميت تصويرا له بصورة بشعة تستقذرها النفوس جميعا. سمع على بن الحسين رضى الله عنهما رجلا يغتاب آخر فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس، وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا. وقال رجل للحسن البصري: بلغني أنك تغتابنى، فقال: لم يبلغ قدرك عندى أن أحكمك فى حسناتى. وقد ثبت فى الصحيح من غير وجه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال حين خطب فى حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا» . (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي فاكرهوا الغيبة، واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وراقبوه واخشوه. ثم علل هذا بقوله: (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي إن الله يتوب على من تاب إليه عما فرط منه من الذنب، رحيم به أن يعذبه بعد توبته. ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه، بأن يقلع عنها ويندم على ما فرط منه، ويعزم عزما مؤكدا على ألا يعود إلى مثل ما فرط منه. ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا بها، وينحصر ذلك فى ستة أمور:

[سورة الحجرات (49) : آية 13]

(1) التظلم، فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه. (2) الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته. (3) الاستفتاء، فيجوز للمستفتى أن يقول للمفتى: ظلمنى فلان بكذا فهل يجوز له ذلك. (4) تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمتصدّين للافتاء مع عدم أهليتهم لذلك، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد التزوج أو مخالطة غيره فى أمر دينى أو دنيوى ويقتصر على ما يكفى، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين ذكر ذلك. (5) أن يجاهروا بالفسق كالمدمنين على شرب الخمور وارتياد محالّ الفجور، ويتباهوا بما يفعلون. (6) التعريف بلقب أو نحوه، كالأعور والأعمش ونحو ذلك إذا لم تمكن المعرفة بغيره. والأمة مجمعة على قبح الغيبة وعظم آثامها مع ولوع الناس بها حتى إن بعضهم ليقولون: هى صابون القلوب، وإن لها حلاوة كحلاوة التمر، وضراوة كضراوة الخمر. [سورة الحجرات (49) : آية 13] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) تفسير المفردات من ذكر وأنثى: أي من آدم وحواء، قال إسحاق الموصلي: الناس فى عالم التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأم حوّاء فإن يكن لهم فى أصلهم شرف ... يفاخرون به فالطين والماء

المعنى الجملي

والشعوب: واحدهم شعب (بفتح الشين وسكون العين) وهو الحي العظيم المنتسب إلى أصل واحد كربيعة ومضر، والقبيلة دونه كبكر من ربيعة، وتميم من مضر. وحكى أبو عبيدة أن طبقات النسل التي عليها العرب سبع: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، وكل واحد منها يدخل فيما قبله، فالقبائل تحت الشعوب، والعمائر تحت القبائل، والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة (بفتح العين وكسرها) وقصىّ بطن، وعبد مناف فخذ، وهاشم فصيلة، والعباس عشيرة، وسمى الشعب شعبا لتشعب القبائل منه كتشعب أغصان الشجرة. المعنى الجملي بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن السخرية بالناس والازدراء بهم، وعن اللمز والتنابز بالألقاب- ذكر هنا ما يؤكد النهى ويؤيد ذلك المنع، فبين أن الناس جميعا من أب واحد وأمّ واحدة، فكيف يسخر الأخ من أخيه؟ إلى أنه تعالى جعلهم شعوبا وقبائل مختلفة، ليحصل بينهم التعارف والتعاون فى مصالحهم المختلفة، ولا فضل لواحد على آخر إلا بالتقوى والصلاح وكمال النفس، لا بالأمور الدنيوية الزائلة. ذكر أبو داود أن الآية نزلت فى أبى هند وكان حجام النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بنى بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله عز وجل: «إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ» الآية.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي إنا أنشأناكم جميعا من آدم وحواء، فكيف يسخر بعضكم من بعض، ويلمز بعضكم بعضا وأنتم إخوة فى النسب، وبعيد أن يعيب الأخ أخاه أو يلمزه أو ينبزه. وعن أبى مليكة قال: لما كان يوم فتح مكة رقى بلال فأذّن على ظهر الكعبة فقال عتّاب بن أسيد بن أبى العيص: الحمد لله الذي قبض أبى حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره، فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله الآية زجرا لهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء، وبين أن الفضل بالتقوى. وروى الطبري قال: «خطب رسول الله بمنى فى وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ قالوا نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب» . وعن أبى مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم» . (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) أي للتعارف لا للتناكر، واللمز والسخرية والغيبة تفضى إلى ذلك.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 إلى 18]

ثم ذكر سبب النهى عن التفاخر بالأنساب بقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) أي إن الأكرم عند الله الأرفع منزلة لديه عز وجل فى الآخرة والدنيا هو الأتقى، فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى، فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها. روى ابن عمر رضى الله عنهما «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس يوم فتح مكة وهو على راحلته فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقى كريم على الله، ورجل فاجر شقى هيّن على الله تعالى، إن الله عز وجل يقول: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) ثم قال: أقول قولى هذا، وأستغفر الله لى ولكم. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن الله عليم بكم وبأعمالكم، خبير بباطن أحوالكم، فاجعلوا التقوى زادكم لدى معادكم. [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الأعراب: سكان البادية، آمنّا: أي صدقنا بما جئت به من الشرائع، وامتثلنا ما أمرنا به، فالإيمان هو التصديق بالقلب. أسلمنا: أي انقدنا لك، ودخلنا فى السّلم وهو ضد الحرب: أي فلسنا حربا للمؤمنين، ولا عونا للمشركين، لا يلتكم: أي لا ينقصكم، يقال: لاته يليته إذا نقصه، حكى الأصمعى عن أم هشام السلولية «الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمّه الأصوات» يمنون عليك: أي يذكرون ذلك ذكر من اصطنع لك صنيعة، وأسدى إليك نعمة. المعنى الجملي بعد أن حثّ الناس على التقوى- وبّخ من فى إيمانه ضعف من الأعراب الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم وغلة، لأنهم كانوا يريدون المغانم وعرض الدنيا، إذ جاءوا فى سنة مجدبة، وكانوا يقولون لرسوله صلّى الله عليه وسلم: جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون بذكر ذلك الصدقة والمنّ على النبي صلّى الله عليه وسلم، فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم، وأنهم لم يؤمنوا إيمانا حقيقيا، وهو الذي وافق القلب فيه اللسان، وأمرهم أن يقولوا: استسلمنا وخضعنا، ثم أخبرهم بأنهم إن اتقوا الله حق تقاته وفّاهم أجورهم كاملة غير منقوصة، ثم بين أن من علامة الإيمان الكامل التضحية بالنفس والمال فى سبيل الله ببذلهما فى تقوية دعائم الدين وإعلاء شأنه وخضد شوكة العدو بكل السبل الممكنة، ثم أعقب هذا بأن الله يعلم ما هم عليه من إيمان ضعيف

الإيضاح

أو قوى إذ لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء، وأنه لا ينبغى للمؤمن أن يمتنّ على الرسول بإيمانه، بل من حق الرسول أن يمتنّ عليه بأن وفّق للهداية على يديه إن كان صادق الإيمان. ثم ختم الآيات بالإخبار عن واسع علمه، وإحاطته بمكنون سرّ خلقه فى السموات والأرض لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما، وهو البصير بما يعمل عباده من خير أو شر، قال مجاهد: نزلت فى أعراب من بنى أسد بن خزيمة (وكانوا يجاورون المدينة) قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين حقّا. وقال السّدّىّ: نزلت فى الأعراب المذكورين فى سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا. الإيضاح (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) أي قالت الأعراب: صدقنا بالله ورسوله ونحن له مؤمنون فردّ الله عليهم مكذبا لهم مع عدم التصريح بذلك فقال: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي قل لهم: إن الإيمان هو التصديق مع طمأنينة القلب والوثوق بالله ولم يحصل لكم بعد، بدليل أنكم مننتم على الرسول بترك مقاتلته، ولكن قولوا: انقدنا لك واستسلمنا، ولا ندخل معك فى حرب، ولا نكون عونا لعدوك عليك. وجاءت الآية على هذا الأسلوب، ولم يقل لهم كذبتم، ولكن قولوا أسلمنا، حملا له عليه السلام على الأدب فى التخاطب ليتأسّى به أتباعه، فيلينوا لمن يخاطبونهم فى القول. (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي قولوا أسلمنا فحسب، لأنه لم يدخل الإيمان

فى قلوبكم بعد، إذ لم يوافق القلب ما جرى به اللسان، ولم يكن لشرائع الدين ولا آدابه أثر فى أعمالكم، فلم تتغذّ بها أرواحكم، ولم تصطبغ بهديها نفوسكم. قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلم وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك هو الإيمان وصاحبه المؤمن اه. (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي وإن تطيعوا الله ورسوله وتخلصوا له فى العمل وتتركوا النفاق لا ينقص سبحانه من أجوركم شيئا، بل يضاعف ذلك أضعافا كثيرة. ولما كان الإنسان كثير الهفوات مهما اجتهد- ذكر أنه غفور لزلاته فقال: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه ستار للهفوات، غفار لزلات من تاب وأناب وأخلص لربه، رحيم به أن يعذبه بعد التوبة، بل يزيد فى إكرامه، ويصفح عن آثامه. ثم بين سبحانه حقيقة الإيمان بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي إنما المؤمنون حق الإيمان الذين صدقوا الله ورسوله، ثم لم يشكوا ولم يتزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم فى طاعة الله ورضوانه- أولئك هم الصادقون فى قولهم: آمنا، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة، وقد دخلوا الملة خوفا من السيف، ليحقنوا دماءهم ويحفظوا أموالهم. ثم أكد ما سبق من قوله: لم تؤمنوا بقوله: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟) أي قل لهم: أتخبرون الله بما فى ضمائركم، وما تنطوى عليه جوانحكم من صادق الإيمان بقولكم: آمنا حقا.

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يخفى عليه مثقال ذرة فيهما. وفى هذا تجهيل وتوبيخ لهم لا يخفى أمره (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم فتنالكم عقوبته، إذ لا يخفى عليه شىء. (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعدّون إسلامهم ومتابعتهم لك ونصرتهم إياك منّة يطلبون منك أجرها، فقد قالوا جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بما يقوله لهم عند المنّ عليه بما يدّعونه من الإسلام فقال: (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي لا تعدوا إسلامكم الذي سميتموه إيمانا منة علىّ، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطلب موليها ثوابا لمن أنعم بها عليه، ومن ثم قال: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل الله هو الذي يمن عليكم، إذ أمدكم بتوفيقه وهدايته للإيمان إن كنتم صادقين فى إيمانكم. وفى هذا إيماء إلى أنهم كاذبون فى ادعائهم الإيمان. روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للأنصار يوم حنين «يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل» . والخلاصة- إن الله تعالى سمى ما كان منهم إسلاما وخضوعا لا إيمانا إظهارا لكذبهم فى قولهم آمنا، ثم لما منّوا على رسول الله بما كان منهم قال سبحانه لرسوله: أيعتدّون عليك بما ليس جديرا أن يعتد به من إسلامهم الذي سموه إيمانا وليس بذاك؟ بل الله هو الذي يعتد عليهم إيمانهم إن صدقوا، فهو قد أمدّهم بهديه وتوفيقه. ثم أعاد الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات فقال:

خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة

(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إن الله يعلم ما غاب فيهما، وهو بصير بسركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه ما فى ضمائركم. وفى ذلك رمز إلى أنهم كاذبون فى إيمانهم، وإعلان للنبى صلّى الله عليه وسلم وأتباعه من المؤمنين بما فى أنفسهم. خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة مباحث هذه السورة قسمان: قسم بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته، وقسم يخص أمته وهو إما ترك للرذائل وإما تحلية بالفضائل. والقسم الأول هو: (1) ألا يقضى المؤمنون فى أمر قبل أن يقضى الله ورسوله فيه. (2) الهيبة والإجلال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وألا تتجاوز أصواتهم صوته. (3) ألا يخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضهم بعضا، بل يخاطبونه بالنبي والرسول. (4) إن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله أولئك هم المتقون. (5) إن من نادوه من وراء الحجرات كعيينة بن حصن ومن معه أكثرهم لا يعقلون. (6) ذمّ المنّ على الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بالإيمان. والقسم الثاني هو: (1) ألا نسمع كلام الفاسق حتى نتثبّت منه وتظهر الحقيقة. (2) إذا بغت إحدى طائفتين من المؤمنين على أخرى وجب قتال الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. (3) حبب الله الصلح بين المؤمنين. (4) النهى عن السخرية واللمز والتنابز. (5) النهى عن سوء الظن بالمسلم وعن تتبع العورات المستورة وعن الغيبة والنميمة. (6) الناس جميعا سواسية مخلوقون من ذكر وأنثى، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.

سورة ق

سورة ق هى مكية إلا آية 38 فمدنية، وآيها خمس وأربعون، نزلت بعد المرسلات. ومناسبتها لما قبلها- أنه أشار فى آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا، وذلك يقتضى إنكار النبوة وإنكار البعث، وافتتح هذه السورة بما يتعلق بذلك. حدّث مسلم وغيره عن جابر بن سمرة أنه عليه الصلاة والسّلام كان يقرأ هذه السورة فى الركعة الأولى من صلاة الفجر. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبى واقد الليثي «أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ فى العيد بقاف واقتربت» . وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام ابنة حارثة قالت «ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا من فى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها فى كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس» . وكل ذلك دليل على أنه كان يقرأ بها فى المجامع الكبيرة كالعيدين والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب. [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المجيد من المجد، وهو كما قال الراغب: السعة فى الكرم من قولهم: مجدت الإبل إذا وقعت فى مرعى كثير واسع، وصف به القرآن لكثرة ما تضمنه من المكارم الدنيوية والأخروية، رجع بعيد: أي بعث بعد الموت بعيد عن الأوهام، ما تنقص الأرض: أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم، حفيظ: أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، بالحق: أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات، مريج: أي مضطرب من قولهم: مرج الخاتم فى إصبعه إذا قلق من الهزال. الإيضاح (ق) تقدم أن قلنا غير مرة إن الحروف المفردة. التي جاءت فى أوائل السور حروف لتنبيه السامع إلى ما يرد بعدها، وأكثر ما جاء ذلك إذا ورد بعدها وصف القرآن كما هنا. (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أقسم الله سبحانه بكتابه الكثير الخير والبركة- إنك أيها الرسول جئتهم منذرا بالبعث، يدل على ذلك قوله تعالى «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ- إلى أن قال- لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» . (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي إنك جئتهم منذرا بالبعث، فلم يقبلوا ولم يكتفوا بالشك فى أمرك وردّ رسالتك، بل جزموا بنفيها، وجعلوها من عجائب الأمور التي تستحق الدهشة، وكثير التأمل والاعتبار. ثم فسر تعجبهم وفصّل محل التعجب وهو إنذاره بالقرآن فقال: (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي فقال المكذبون بالله ورسوله من قريش إذ جاءهم منذر منهم: هذا شىء عجيب، أي إن مجىء رجل منا برسالة من الله إلينا

أمر عجيب، هلا أنزل إلينا ملكا فيكون لنا نذيرا، كما حكى عنهم من قولهم: «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ» وقوله حكاية عنهم «قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» . وبعد أن أظهروا التعجب من رسالته أظهروا استبعاد ما جاء به فقالوا: (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما يقول النذير؟ إن ذلك الرجوع بعد الموت لبعيد عن الأوهام، لا يصدّقه العقل وتحيله العادة. ثم أشار إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه فقال: (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي قد علمنا ما تأكل الأرض من لحوم موتاهم وعظامهم، ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان، وأين ذهبت، وإلى أين صارت؟ فلا يصعب علينا البعث ولا يستبعد. ثم أكد علمه بجميع الأشياء فقال: (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، وهذا تمثيل لحال علمه تعالى للكائنات جميعا علما كاملا بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شىء، فيضبط ما يعلم أتم الضبط ويحصيه أكمل الإحصاء. ثم حكى عنهم ما هو أفظع من تعجبهم وهو تكذيبهم بالنبوة الثابتة بالمعجزات من أول وهلة بلا تدبر ولا تفكر فقال: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي بل كذبوا، بالنبوة التي قامت الأدلة على صدقها وأيدتها المعجزات الباهرة، وهم إذا كذبوا بها فقد كذبوا بما أنبأ به الرسول من البعث وغيره، ولا شك أن هذا الإنكار أعظم جرما وأشد بلية من الإنكار بما جاء به الرسول، إذ به أنكروا الصلة الروحية بين الله ومن يصطفيه من خلقه من ذوى النفوس الصافية، وأرباب الأرواح العالية. (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي فهم فى قلق واضطراب، فتارة ينفون الرسالة عن البشر،

[سورة ق (50) : الآيات 6 إلى 11]

وأخرى يزعمون أنها لا تليق إلا بأهل الجاه والرياسة كما ينبئ بهذا قولهم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» وثالثة يقولون: إنها سحر أو كهانة، إذ قالوا للنبى صلّى الله عليه وسلم: ساحر أو كاهن إلى نحو ذلك من أقاويلهم التي تدل على اضطراب فى الأمر، وقلق فى الفكر، فهم لا يدرون ماذا يفعلون حين جاءهم النذير الذي أقضّ مضاجعهم، وجعلهم حيارى دهشين، إلام هم صائرون؟ وإلى أي منقلب ينقلبون؟ [سورة ق (50) : الآيات 6 الى 11] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) تفسير المفردات بنيناها: أي أحكمنا بناءها، فجعلناها بغير عمد، وزيناها: أي بالكواكب، فروج: أي شقوق، مددناها: أي بسطناها، رواسى: أي جبالا ثوابت تمنعها من الميد والاضطراب، زوج: أي صنف، بهيج: أي ذى بهجة وحسن، تبصرة وذكرى: أي تبصيرا وتذكيرا، منيب: من أناب إذا رجع وخضع، حب الحصيد: أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير، باسقات: أي طويلات، والطلع ما ينمو

المعنى الجملي

ويصير بلحا ثم رطبا ثم تمرا، ونضيد: أي منضود بعضه فوق بعض، الخروج: أي من القبور. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنهم استبعدوا البعث فقالوا رجع بعيد- أردف ذلك الدليل الذي يدحض كلامهم، فإن من خلق السماء وزينها بالكواكب، وبسط الأرض وجعل فيها رواسى وأنبت فيها صنوف النبات، وجعل ذلك تذكرة وتبصرة لأولى الألباب، ونزل من السماء ماء فأنبت به ناضر الجنان، والزرع المختلف الأصناف والألوان، والنخل الباسق ذا الطلع المتراكم بعضه فوق بعض رزقا لعباده، وأحيا به الأرض الموات- أفلا يستطيع من هذا شأنه أن يخرج الناس من قبورهم بعد بلاهم، وبعد أن يصيروا عظاما ورفاتا، وينشئهم خلقا آخر فى حياة أخرى وعالم غير هذا العالم؟ الإيضاح (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت، المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد البلى- إلى السماء فوقهم كيف رفعناها بلا عمد، وزيناها بالكواكب ومالها من فتوق، فهى ملساء متلاصقة الطباق، وهذا هو الرأى الحديث فى عالم السموات، إذ يقولون: إن هناك عالما لطيفا أرق من الهواء وألطف من كل ما نراه وهو مبدأ كل شىء وأول كل شىء وهو العالم المسمى بالأثير، وهذا العالم وإن لم يره الناس فقد عرفوه من وصول أضواء الكواكب إلينا، فإن من الكواكب ما لا يصل ضوءه إلينا إلا فيما يزيد على ألف ألف سنة، ونور الشمس (التي تبعد عنا مقدار سير القطار إليها لو أمكن فى نحو خمس ستين وثلاثمائة سنة) يصل إلينا فى مدة ثمان دقاق وثمانى عشرة ثانية.

فانظر كيف يكون بعد تلك الكواكب التي تحتاج بسير النور إلى مليون سنة ونصف مليون ألا يدل هذا على أن ذلك الضوء محمول على شىء موجود وهو الأثير فلو أن طبقة من الطبقات لم يكن فيها الأثير لا نقطع سير النور إلى الأرض ولم نره. وهذا ما يشير إليه الكتاب بقوله «وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ» فلو كان هناك فروج تتخلل السموات لا نقطع سير النور إلينا. وآراء الجهلة فى كل أمة أن كل سماء منفصلة عن الأخرى وبينهما فضاء كما يظن لأول وهلة فيما بيننا وبين السماء، فجاء الكتاب الكريم وعكس هذه القضية وقال لا فروج فى السماء أي لا خلاء فى العالم. (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي والأرض بسطناها وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تميد وتضطرب، وأنبتنا فيها من كل صنف من صنوف النبات ما حسن منظره، وراق مخبره. (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي فعلنا ذلك لتبصرة العبد المنيب وادكاره فإن رفعنا السماء، أو زيناها بالكواكب فلاستبصاره، وإن بسطنا الأرض أو أرسيناها بالجبال أو أنبتنا النبات زينة للأرض فلاعتباره. ثم شرع يبين كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج فقال: (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي ونزلنا من السماء ماء كثير المنافع، إذ أنبتنا به جنات غناء، وحدائق فيحاء، وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالشعير والقمح وغيرهما. (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي وأنبتنا به النخل الطوال التي لها طلع منضود متراكم بعضه فوق بعض، لأقوات العباد وأرزاقهم. عن قطبة قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فى الصبح ق فلما أتى على هذه الآية- والنّخل باسقات- فجعلت أقول ما بسوقها؟ قال طولها» أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه.

[سورة ق (50) : الآيات 12 إلى 15]

ولم يقيد هنا العباد بالإنابة كما قيد به فى قوله: «تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» لأن التذكرة لا تكون إلا لمنيب، والرزق يعم كل أحد، غير أن المنيب يأكل ذاكرا وشاكرا للإنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام، ومن ثم لم يخصص الرزق بقيد. (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي وأحيينا بذلك الماء الأرض المجدبة التي لا نبات فيها فتربو وتنبت من كل زوج بهيج. ثم جعل ما سلف كالدليل على البعث لأنه شبيه به فقال: (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي ومثل هذه الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور. وفى التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء، وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث: وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس، وتقريبه لأفهام الناس. [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 15] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) تفسير المفردات الرس: البئر التي لم تطو أي لم تبن، وأصحابه هم من بعث إليهم شعيب عليه الصلاة والسلام، والأيكة: الغيضة الملتفة الشجر، تبّع: هو تبع الحميرى، والعي

المعنى الجملي

عن الأمر. العجز عنه: قال الكسائي تقول أعييت من التعب، وعييت من العجز عن الأمر وانقطاع الحيلة، ولبس: أي شك شديد وحيرة واختلاط. المعنى الجملي بعد أن ذكر تكذيب المشركين للرسول صلّى الله عليه وسلم- أردف ذلك ذكر المكذبين للرسل من قبله وبيان ما آل إليه أمرهم، تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلم وعبرة لهم، وتنبيها إلى أن حاله معهم كحال من تقدمه من الرسل كذّبوا فصبروا فأهلك الله مكذبيهم ونصرهم وأعلى كلمتهم كما قال: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» وقال: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» . ثم ذكر الدليل على البعث الذي أنكرته الأمم التي كذبت رسلها بأن من خلق العالم بادىء ذى بدء فهو على إعادته أقدر. الإيضاح (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ. وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ. وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) هدد سبحانه كفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم من المكذبين قبلهم من النقم والعذاب الأليم فى الدنيا والآخرة، فقد أغرق قوم نوح بالطوفان، وأهلك جميع من ذكروا بعدهم من الأمم التي كذبت رسلها بضروب شتى من العذاب، وحق عليهم وعيده، ونصر رسله، وأعلى كلمتهم وكانت العاقبة لهم كما قال (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) وقد تقدمت هذه القصص فى مواضع متفرقة من الكتاب الكريم. ثم ذكر ما يؤكد صحة البعث فقال: (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أفأعجزنا ابتداء

[سورة ق (50) : الآيات 16 إلى 22]

الخلق حتى يشكّوا فى الإعادة؟ أي إن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل من الابتداء، فلا حق لهم فى تطرق الشبهة إليهم والشك فيه، كما قال: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقال: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» وجاء فى الحديث القدسي: «يقول الله تعالى: يؤذينى ابن آدم يقول لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون علىّ من إعادته» . [سورة ق (50) : الآيات 16 الى 22] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) تفسير المفردات الوسوسة: الصوت الخفىّ ومنه وسواس الحلي والمراد بها هنا حديث النفس وما يخطر بالبال من شتى الشئون، وحبل الوريد: عرق كبير فى العنق، وللانسان وريدان مكتنفان بصفحتى العنق فى مقدمهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه، وقعيد: بمعنى مقاعد كالجليس بمعنى المجالس، والرقيب: ملك يرقب قوله ويكتبه، فإن كان خيرا فهو صاحب اليمين، وإن كان شرا فهو صاحب الشمال، عتيد: أي مهيأ لكتابة ما يؤمر به من الخير والشر، سكرة الموت: شدته، بالحق: أي بحقيقة الحال، تحيد:

المعنى الجملي

أي تميل وتعدل، يوم الوعيد: أي يوم إنجاز الوعيد، السائق والشهيد: ملكان أحدهما يسوق النفس إلى أمر الله، والآخر: يشهد عليها بعملها، والغطاء: الحجاب المغطى لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك فى اللذات وقصر النظر عليها، حديد: أي نافذ، لزوال المانع للابصار. المعنى الجملي بعد أن استدل على إمكان البعث بقوله: أفعيينا بالخلق الأوّل- أردف ذلك دليلا آخر على إمكانه وهو علمه بما فى صدورهم وعدم خفاء شىء من أمرهم عليه، فإن من كان كذلك لا يبعد أن يعيدهم كرة أخرى، ثم أخبر بأنهم سيعلمون بعد الموت أن ما جاء به الدين حق لا شك فيه، وأنه يوم القيامة تأتى كل نفس ومعها ملكان أحدهما سائق لها إلى المحشر والثاني شهيد عليها، وأن الخزنة سيقولون لأهل النار: لقد كنتم فى غفلة عن حلول هذا اليوم الذي توفّى فيه كل نفس جزاء ما عملت، والآن أزلنا عنكم هذه الغفلة فأبصرتم عاقبة أمركم. الإيضاح (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي إنه تعالى قادر على بعث الإنسان، لأنه خالقه وعالم بجميع أموره حتى إنه ليعلم ما توسوس به نفسه من الخير والشر ولا عقاب على حديث النفس، وقد ثبت فى الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تجاوز لأمتى ما حدّثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل» . (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي ونحن أعلم به وبخفيات أحواله لا يخفى علينا شىء من أمره، من علمكم بحبل الوريد، لأن العرق تحجبه أجزاء من اللحم، وعلم الله لا يحجب عنه شىء.

أخرج ابن مردويه عن أبى سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «نزل الله من ابن آدم أربع منازل، هو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصية كل دابة، وهو معهم أينما كانوا» . قال القشيري: فى هذه الآية- هيبة وفزع وخوف لقوم، وروح وأنس وسكون قلب لقوم. ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاما للحجة فقال: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي نحن أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به، مع أننا أغنياء عن استحفاظ الملكين لشدة قربنا منه. (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد أي مقاعد ومجالس له يترصد ما يقول ويعمل، فالذى عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات. قال الحسن وقتادة: المتلقيان ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. ثم ذكر عملهما واستعدادهما لأدائه فقال: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي لا يلفظ بكلمة من فيه إلا لديه ملك حاضر معه مراقب لأعماله، يكتب ما فيه ثوابه أو عقابه. قال الحسن البصري وتلا هذه الآية: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ» يا بن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك وجعلت فى عنقك

معك فى قبرك حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» ثم قال: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك. وروى أبو أسامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر» . والحكمة فى هذا أن الله لم يخلق الناس لتعذيبهم، بل خلقهم لتربيتهم وتهذيبهم، فكل ألم فهو لرقىّ النفس. والعالم المادي من طبعه أن يكون نفعه أكثر من ضره، والله تعالى خلقنا لغاية شريفة لنا، والحسنات هى الأصل والسيئات عارضة كما أن المنافع فى الطبيعة هى الأصل والمضارّ عارضة، فالنار خلقت لنفعه، والماء لنفعه، والهواء لنفعه فإذا أحرق ثوب الناسك، أو أغرق رب صبية لا عائل لهم، فهذا عارض، والأصل فى ذلك المنافع، وهكذا خلق نوع الإنسان للخير، والشر عارض، ولفعل الحسنات، والسيئات عارضة. وبعد أن ذكر استبعادهم البعث للجزاء، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه، أعلمهم بأنهم يلاقون صدق ذلك حين الموت وحين قيام الساعة فقال: (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) أي وكشفت لك سكرة الموت عن اليقين الذي كنت تمترى فيه، وأن البعث لا شك فيه. (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي ذلك الحق الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص. ولما ثقل أبوبكر جاءت عائشة رضى الله عنها فتمثلت بقول حاتم: لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

[سورة ق (50) : الآيات 23 إلى 30]

فكشف رضى الله عنه عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولى: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» . وفى الصحيح «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: سبحان الله، إن للموت لسكرات» . (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي ونفخ فى الصور نفخة البعث، وذلك الزمان العظيم الأهوال هو اليوم الذي أوعد الله الكفار أن يعذبهم فيه. وفى الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له؟ قالوا يا رسول الله ماذا نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» . (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي وجاءت فى هذا اليوم كل نفس ربها ومعها سائق يسوقها إليه، وشهيد يشهد عليها بما عملت فى الدنيا من خير أو شر. (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي لقد كنت أيها الإنسان فى غفلة عن هذا الذي عاينت من الأهوال والشدائد، فجلّينا ذلك لك، وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته، فزالت عنك هذه الغفلة. وقد جعل سبحانه الغفلة غطاء غطّى به الجسد كله، أو غشاوة غشّى بها عينيه فلا يبصر شيئا، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها، فأبصر ما لم يكن يبصره من الحق. [سورة ق (50) : الآيات 23 الى 30] وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

تفسير المفردات

تفسير المفردات القرين: هو الملك الموكّل بالمرء، عتيد: أي معدّ محضر، عنيد: أي مبالغ فى العناد وترك الانقياد للحق، مناع للخير: أي كثير المنع للمال فى الحقوق المفروضة عليه، معتد: أي متجاوز للحق ظالم، مريب: أي شاكّ فى الله وفى دينه، القرين هنا: الشيطان المقيّض له، بعيد: أي من الحق، لا تختصموا لدىّ: أي لا يجادل بعضكم بعضا عندى، بالوعيد: أي على الطغيان فى دار الدنيا فى كتبى وعلى ألسنة رسلى، ما يبدل القول لدى: أي لا يقع فيه الخلف والتغيير فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي، مزيد: زيادة. الإيضاح (وَقالَ قَرِينُهُ: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي وقال الملك الموكل به: هذا الذي وكلتني به من بنى آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله. (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي قال تعالى للسائق والشهيد: ألقيا فى جهنم كل من كفر بالله، أو أشرك به معبودا سواه من خلقه أو كذب الحق وعارضه بالباطل، ومنع الحقوق المفروضة عليه، واعتدى الناس بلسانه بالبذاء والفحش، وبيده بالسطوة والبطش ظلما.

ثم كرر ما سلف توكيدا فقال: (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أي فألقياه فى النار ذات العذاب الشديد. (قالَ قَرِينُهُ: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي قال الكافر معتذرا: رب إن قرينى من الشياطين أطغانى، فقال الشيطان المقيّض له: ربنا ما أطغيته، ولكن كان طبعه وديدنه الضلال والبعد عن الحق، فسار على النهج الذي يشاكل أخلاقه. وخلاصة ذلك- إنه فى ضلال بعيد المدى لا يرجع عنه إلى الحق. ونحو الآية قوله: «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» . (قالَ: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي قال عز اسمه للإنسى وقرينه من الجن حين اختصما- فقال الإنسى: رب إن هذا أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى، وقال الشيطان: ربنا ما أطغيته ولكن كان فى ضلال بعيد عن منهج الحق- لا تختصموا عندى، فقد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل وأنزلت الكتب، وقامت عليكم الحجج. والخلاصة- إنهم اعتذروا بغير ما يصلح أن يكون عذرا، فأبطل الله حجتهم وردّ عليهم بقوله: (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي لا يغيّر قضائى الذي قضيته، ووعيدي الذي أوعدته بتخليد الكفار فى النار ومجازاة العصاة على قدر ما يستحقون. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا أعذب أحدا بغير جرم اجترمه، ولا ذنب جناه ولا أعذب أحدا مكان أحد. ثم ذكر مكان حلول الوعيد فقال: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟) أي وأنذر قومك يوم نقول لجهنم: هل امتلأت بما ألقى إليك فوجا بعد فوج؟ فتقول: لا مزيد بعد ذلك.

[سورة ق (50) : الآيات 31 إلى 35]

وفى هذا بيان لأنها مع اتساعها وتباعد أقطارها، يطرح فيها من الجنّة والناس جماعات بعد جماعات حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة. وهذا السؤال والجواب جىء بهما للتمثيل وتصوير المعنى بإبرازه فى لباس المحسوس ليتضح أمره. روى عن ابن عباس أنه قال: سبقت كلمته: لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين، فلما سيق أعداء الله إليها صارت لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شىء فتقول ألست قد أقسمت لتملأنّى؟ فيضع قدمه عليها فيقول: هل امتلأت؟ فتقول: قطّ قطّ (كفى كفى) قد امتلأت لا مزيد. [سورة ق (50) : الآيات 31 الى 35] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) تفسير المفردات أزلفت: أي أدنيت وقرّبت، غير بعيد: أي فى مكان غير بعيد منهم بل هو بمرأى منهم، هذا ما توعدون: أي هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل، أوّاب: أي رجاع عن المعصية إلى الطاعة، حفيظ: أي حافظ لحدود الله وشرائعه، خشى الرحمن بالغيب: أي خاف عقاب ربه وهو غائب عن الأعين حين لا يراه أحد، منيب: أي مخلص مقبل على طاعة الله، بسلام: أي سالمين من العذاب وزوال النعم، الخلود: أي فى الجنة إذ لا موت فيها، مزيد: أي مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر الحوار بين الكافر وقرينه من الشياطين، واعتذار الكافر وردّ القرين عليه، وأن الله سبحانه نهاهم عن الاختصام لديه، لأنه لا فائدة فيه بعد أن أوعدهم على ألسنة رسله- أردف هذا ذكر حال المتقين، فذكر أن الجنة تكون قريبة منهم بحيث يرونها رأى العين، فتطمئن إليها نفوسهم وتثلج لمرآها صدورهم، ويقال لهم هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الأنبياء والرسل، وهو دائم لا نفاد له ولا حصر، فكل ما يريدون من لذة ونعيم فهو حاضر، ولهم فوق هذا رضوان من ربهم «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» . الإيضاح (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي وأدنيت الجنة للذين اتقوا ربهم، واجتنبوا معاصيه، بحيث تكون بمرأى العين منهم، إكراما لهم، واطمئنانا لنفوسهم، فيرون ما أعدّ لهم من نعيم وحبور، ولذة وسرور، لا نفاد له ولا فناء. (هذا ما تُوعَدُونَ) أي وتقول لهم الملائكة: هذا هو النعيم الذي وعدكم به ربكم على ألسنة رسله، وجاءت به كتبه. ثم بين المستحق لهذا النعيم فقال: (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي هذا الثواب للمتقين الذين يرجعون من معصية الله إلى طاعته تائبين من ذنوبهم ويلقون الله بقلوب منيبة إليه، خاضعة له. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي وتقول لهم الملائكة تكرمة لهم: ادخلوا الجنة سالمين من العذاب والهموم والأكدار، فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. ثم يبشّرون ويقال لهم:

[سورة ق (50) : الآيات 36 إلى 45]

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي فاطمئنوا وقرّوا عينا، فهذا يوم الخلود الذي لا موت بعده، ولا ظعن ولا رحيل. ثم زاد فى البشرى فقال: (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي لهم إجابة لسؤالهم كل ما يشتهون، ثم نزيدهم فوق ما سألوا مما لم تره أعينهم ولم يدر بخلدهم. ونحو الآية قوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» . [سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) تفسير المفردات القرن: الجيل من الناس، بطشا: أي قوة، فنقبوا فى البلاد: أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمكاسب، ويقال لمن طوّف فى الأرض نقّب فيها، قال امرؤ القيس: فقد نقّبت فى الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب

المعنى الجملي

محيص: أي مهرب، لذكرى: أي لعبرة، قلب: أي لبّ يعى به، أو ألقى السمع: أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحى، شهيد: أي حاضر فهو من الشهود بمعنى الحضور، والمراد به الفطن، إذ غيره كأنه غائب، لغوب: أي تعب، سبح بحمد ربك: أي نزهه عن كل نقص، أدبار السجود: أي أعقاب الصلوات، واحدها دبر (بضم فسكون وبضمتين) واستمع أي لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة، يوم ينادى المنادى: أي يخرجون من القبور يوم ينادى المنادى، من مكان قريب: أي بحيث لا يخفى الصوت على أحد، والمنادى هو جبريل عليه السلام، على ما ورد فى الآثار، يقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزّقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. والصيحة: النفخة الثانية. بالحق: أي بالبعث والجزاء، يوم الخروج: أي من القبور، تشقق: أي تتصدع، بجبار: أي بمسيطر ومسلط، إنما أنت داع ومنذر. المعنى الجملي بعد أن أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم- أنذرهم بما يعجل لهم فى الدنيا من ضروب العذاب، سنة الله فيمن تقدمهم من المكذبين قبلهم ممن ساروا فى البلاد طولا وعرضا وكانوا ذوى قوة وأيد، ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئا، ووسط بين ذلك ذكر المتقين وما يلاقونه من النعيم، ليكون أمرهم بين الخوف والطمع، ومن ثم ذكر حال الكفور المعاند، وحال الشكور العابد، ثم ذكر أن هذا عظة وذكرى لكل ذى لبّ واع سميع لما يلقى إليه، ثم أعاد الدليل مرة أخرى على إمكان البعث، فأبان أنه قد خلق السموات والأرض فى ستة أطوار مختلفة وما أصابه تعب ولا لغوب كما قال: «أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟» ثم أمره بالصبر على ما يقولون، وتنزيه الله عن كلّ نقص آناء الليل وأطراف النهار، فها هو ذا قد اقترب يوم البعث والنشور، وسمع صوت الداعي لذلك بعد النفخ فى الصور، وتشققت الأرض سراعا وخرج الناس من

الإيضاح

القبور، وما ذلك بالصعب على رب العالمين، خالق السموات والأرضين، وإنا لنعلم ما يقول المشركون فى البعث والنشور، فدعهم فى غيّهم يعمهون، فما أنت عليهم بجبار تلزمهم الإيمان بهذا اليوم، وما فيه من هول، إن أنت إلا نذير، ولا يؤمن بك إلا من يخاف عقابى، وشديد وعيدي، ولا تنفع العظة إلا ذوى الأحلام الراجحة، والقلوب الواعية. الإيضاح (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟) أي وكثير من الأمم التي قبلك أهلكناهم وكانوا أشد من قومك بطشا، وأكثر منهم قوة، كعاد وثمود وتبّع، فتقلبوا فى البلاد وسلكوا كل طريق ابتغاء للرزق، ولم يجدوا لهم من أمر الله مهربا ولا ملجأ حين حمّ القضاء، وهكذا حالكم، فحذار أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب العاجل فى الدنيا، والآجل يوم القيامة. وبعد أن ذكر فى هذه السورة وما قبلها بارع الحكم ونفائس المعارف الإلهية جملة وتفصيلا، فمن أدب للأمة مع نبيها، إلى أدب للأمة بعضها مع بعض، إلى حفظ للسلام بين الناس والصلح بينهم، وصيانة اللسان من الهزؤ والسخرية والهمز واللمز، ثم إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض، وبذا يحل التواصل محل التقاطع، ويتعلم الجهال، ويجتمع الشمل، ويخيم الأمن فى ربوع البلاد، أبان أن تلك الزواجر لا ينتفع بها إلا ذوو الألباب فقال: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي إن فيما تقدم لتذكرة وعبرة لمن كان له قلب واع يتدبر به الحقائق، ويعى ما يقال له. ثم أعقب ذلك بذكر ما هو كالدليل على ما سلف فقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي قسما بربك إنا خلقنا السموات والأرض وملأناهما بالعجائب فى ستة أطوار مختلفة

وما مسنا تعب ولا إعياء، ولا تزال عجائبنا تترى كل يوم، فانظروا إليها، وناملوا فى محاسنها، فهى لا تحصى، ولا يبلغها الاستقصاء، وكذّبوا اليهود الذين قالوا: إن الله خلق السموات والأرض فى ستة أيام أوّلها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش، فنحن لا يمسنا لغوب ولا إعياء. ونحو الآية قوله: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي فاصبر على ما يقوله المشركون فى شأن البعث من الأباطيل التي لا مستند لها إلا الاستبعاد، فإن من خلق الخلق فى تلك المدة اليسيرة بلا إعياء- قادر على بعثهم وجزائهم على ما قدموا من الحسنات والسيئات. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أي ونزه ربك عن العجز عن كل ممكن كالبعث ونحوه، حامدا له أنعمه عليك، وقت الفجر ووقت العصر وبعض الليل، وفى أعقاب الصلوات. وقال ابن عباس: الصلاة قبل طلوع الشمس صلاة الفجر، وقبل الغروب الظهر والعصر، ومن الليل العشاءان، وأدبار السجود النوافل بعد الفرائض. روى البخاري عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يسبح فى أدبار الصلوات كلها، يعنى قوله: «وَأَدْبارَ السُّجُودِ» وفى حديث مسلم تحديد التسبيح بثلاث وثلاثين، والتحميد بثلاث وثلاثين، والتكبير بثلاث وثلاثين، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير، دبر كل صلاة. (وَاسْتَمِعْ) أيها الرسول لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة، وفى إبهام أمره، تعظيم لشأنه. ثم بين ذلك الخبر وزمانه بقوله: (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي يوم ينادى المنادى من موضع قريب

فيصل نداؤه إلى كل الخلائق على السوية، ويقول: هلموا إلى الحساب، فيخرجون من قبورهم ويقبلون. كأنهم جراد منتشر. ثم زاد الأمر تفصيلا فقال: (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ) أي يوم يسمعون النفخة الثانية منذرة بالبعث والجزاء على ما قدموا من الأعمال. ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ فقال: (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي هذا اليوم هو يوم الخروج من القبور. ثم لخص ما تقدم من أول السورة إلى هنا فقال: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي إنا نحن نحيى فى الدنيا ونميت فيها حين انقضاء الآجال، وإلينا الرجوع للحساب والجزاء فى الآخرة. (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي إلينا المصير فى ذلك اليوم الذي تتصدع فيه الأرض فتخرج الموتى من صدوعها مسرعة، وذلك جمع هين علينا، لا عسر فيه ولا مشقة. ثم سلى رسوله وهدد المشركين بقوله: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي نحن أعلم بما يقولون من فريتهم على ربهم وتكذيبهم بآياته، وإنكارهم قدرته على البعث بعد الموت. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي وما أنت بمسلّط عليهم تقسرهم على الإيمان وتسيرهم على ما تهوى وتريد، إنما أنت نذير، وما عليك إلا التبليغ وعلينا الحساب. ثم أكد أنه مذكّر لا مسيطر وأن التذكير لا ينفع إلا من خشى ربه فقال: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي فذكر أيها الرسول بهذا القرآن الذي أنزلته عليك من يخاف وعيدي الذي أوعدته من عصانى وخالف أمرى، أي بلغ رسالة ربك، وما يتذكر بها إلا من يخاف وعيد الله وشديد عذابه.

موجز لما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات

ونحو الآية قوله: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» . وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك، يا برّ يا رحيم. موجز لما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات (1) إنكار المشركين للنبوة والبعث. (2) الحث على النظر فى السماء وزينتها وبهجة بنائها، وفى الأرض وجبالها الشامخات، وزروعها النضرات، وأمطارها الثجّاجات. (3) العبرة بالدول الهالكات كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبّع وما استحقوا من وعيد وعذاب. (4) تقريع الإنسان على أعماله، وأنه مسئول عن دخائل نفسه، فى مجلس أنسه، وعند إخوته، وفى خلوته، وأنه محوط بالكرام الكاتبين، يحصون أعماله، ويرقبون أحواله حتى إذا جاءت سكرته، وحانت منيته، حوسب على كل قول وكل عمل، وشهدت عليه الشهود وكشفت له الحجب. (5) إنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا. (6) إن القرآن عظة وذكرى لمن كان له قلب واع يستمع ما يلقى إليه. (7) تسلية رسوله على ما يقول المشركون من إنكار البعث وتهديدهم على ذلك (8) أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالتسبيح آناء الليل وأطراف النهار. (9) أمر الرسول بالتذكير بالقرآن من يخاف وعيد الله ويخشى عقابه.

سورة الذاريات

سورة الذاريات هى مكية وآيها ستون، نزلت بعد الأحقاف، ومناسبتها لما قبلها: (1) إنه قد ذكر فى السورة السابقة البعث والجزاء والجنة والنار، وافتتح هذه بالقسم بأن ما وعدوا من ذلك صدق وأن الجزاء واقع. (2) إنه ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وهنا ذكر ذلك على وجه التفصيل. [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) تفسير المفردات الذاريات: الرياح تذرو التراب وغيره: أي تفرقه، والوقر: حمل البعير وجمعه أوقار: أي أثقال، والحاملات وقرا: هى الرياح الحاملات للسحاب المشبع ببخار الماء، واليسر: السهولة، والجاريات يسرا: هى الرياح الجارية فى مهابّها بسهولة، والمقسمات أمرا: هى الرياح التي تقسم الأمطار بتصريف السحاب، وما توعدون: هو البعث

المعنى الجملي

والحشر للحساب والجزاء، والدين: الجزاء، وواقع: أي حاصل، والحبك: الطرق واحدها حبيكة، مختلف: أي متناقض مضطرب فى شأن الله، فبينا تقولون إنه خالق السموات تقولون بصحة عبادة الأوثان معه، وفى شأن الرسول فتارة تقولون إنه مجنون وتارة تقولون إنه ساحر، وفى شأن الحشر فتارة تقولون لا حشر ولا بعث، وأخرى تقولون: الأصنام شفعاؤنا عند الله يوم القيامة، يؤفك عنه من أفك: أي يصرف عن القول المختلف: أي بسببه من صرف عن الإيمان، والخرّاصون: أي الكذابون من أصحاب القول المختلف، فى غمرة: أي فى جهل يشملهم ويغمرهم شمول الماء الغامر، ساهون: أي غافلون عما أمروا به، أيان يوم الدين: أي متى يوم الجزاء: أي متى حصوله، يفتنون: أي يحرقون، وأصل الفتن: إذابة الجوهر ليعرف غشه، فاستعمل فى الإحراق والتعذيب، فتنتكم: أي عذابكم المعدّ لكم. المعنى الجملي هاهنا أمور يجمل بك أن تتفهمها: (1) بعد أن بين الحشر بدلائله وقال: «ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ» ثم أصروا على ذلك غاية الإصرار لم يبق إلا اليمين فقال «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً- ... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ» . (2) إن الأيمان التي حلف بها الله تعالى فى كتابه كلها دلائل على قدرته أخرجها فى صورة الأيمان، كما يقول القائل للمنعم عليه: وحق نعمك الكثيرة إنى لا أزال أشكرك، فيذكر النعم وهى سبب لدوام الشكر ويسلك بها مسلك القسم، وجاءت الآية هكذا مصدّرة بالقسم، لأن المتكلم إذا بدأ كلامه به علم السامع أن هاهنا كلاما عظيما يجب أن يصغى إليه، فإذا وجّه همه لسماعه خرج له الدليل والبرهان المتين فى صورة اليمين.

الإيضاح

(3) فى السور التي أقسم الله فى ابتدائها بغير الحروف المقطعة كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والحشر وهى التي يتم بها الإيمان، فأقسم لإثبات الوحدانية فى سورة الصافات فقال: «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» وأقسم فى سورتى النجم والضحى لإثبات الرسالة فقال فى الأولى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» وقال فى الثانية: «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» وأقسم فى سور كثيرة على إثبات البعث والجزاء. (4) فى السورة التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات فقال: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا» وفى السور التي أقسم فيها لإثبات الحشر أقسم بالمتحركات فقال: «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً- وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً- وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً- وَالْعادِياتِ ضَبْحاً» لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وهو بالحركة أليق. (5) كانت العرب تحترز عن الأيمان الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع، وقد جرى النبي صلى الله عليه وسلّم على سننهم، فحلف بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا، وكانوا يعلمون أنه لا يحلف إلا صادقا، وإلا أصابه شؤم الأيمان، وناله المكروه فى بعض الأيمان. الإيضاح (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً، فَالْحامِلاتِ وِقْراً، فَالْجارِياتِ يُسْراً، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أقسم سبحانه بالرياح وذروها التراب، وحملها السحاب، وجريها فى الهواء بيسر وسهولة، وتقسيمها الأمطار، إن هذا البعث لحاصل، وإن هذا الجزاء لا بد منه فى ذلك اليوم، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وهنا أقسم سبحانه بالرياح وأفعالها، لما يشاهدون من آثارها ونفعها العظيم لهم فهى التي ترسل الأمطار مبشرات برحمته، ومنها تسقى الأنعام والزروع، وبها تنبت

البساتين والجنات وتصير الأرض القفر مروجا، وعليها يعتمدون فى معاشهم، فآثارها واضحة أمامهم، ولا عجب أن تكون لها المنزلة العظمى فى نفوسهم. وأفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية، فإن ما على الأرض منجذب إليها، واقع عليها، ولكن هذه الرياح تتصرف تصرفا عجيبا تابعا لسير الكواكب، فبجريها وجرى الشمس تؤثر فى أرضنا وهوائها بنظام محكم، فما ذرت الرياح التراب، ولا حملت السحاب، ولا قسمت المطر على البلاد إلا بحركات فلكية منتظمة، من أجل هذا جعل ذلك براهين على البعث والإعادة. (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي والسماء ذات الجمال والبهاء، والحسن والاستواء، إنكم أيها المشركون المكذبون للرسول، لفى قول مختلف مضطرب، لا يلتئم ولا يجتمع، ولا يروج إلا على من هو ضالّ فى نفسه، لأنه قول باطل يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبما جاء به. والخلاصة- قسما بالسماء وزينتها وجمالها، إن أمركم فى شأن محمد وكتابه لعجب عاجب، فهو متناقض مضطرب، فحينا تقولون هو شاعر، وحينا آخر تقولون هو ساحر، ومرة ثالثة تقولون هو مجنون، وبينا تقولون عن القرآن إنه سحر إذا بكم تقولون إنه شعر أو إنه كهانة. (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي قتل الكذابون من أصحاب القول المختلف الذين هم فى جهل عميق وغفلة عظيمة عما أمروا به. وهذا دعاء عليهم يراد به فى عرف التخاطب لعنهم، إذ من لعنه الله فهو بمنزلة الهالك المقتول، وقد جاء فى القاموس: قتل الإنسان ما أكفره: أي لعن، وقاتلهم الله، أي لعنهم (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يسألك المشركون استهزاء فيقولون: متى يوم الجزاء، وقد كان لهم من أنفسهم لو تدبروا ما يدفعهم إلى الاعتقاد بمجىء هذا

[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 إلى 23]

اليوم، فإن أحدا منهم لا يترك عبيده وأجراءه فى عمل دون أن يحاسبهم وينظر فى أحوالهم، ويحكم بينهم فى أقوالهم وأفعالهم، فكيف يترك أحكم الحاكمين عبيده الذين أبدع لهم هذا الكون وهيأ لهم كل ما يحتاجون إليه- سدى ويوجدهم عبثا؟. ثم أجاب عن هذا السؤال وذكر أنه يكون يوم القيامة فقال: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يوم الجزاء هو يوم نعذب الكفار وتقول لهم الخزنة: (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي ذوقوا هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون وقوعه استهزاء وتظنون أنه غير كائن. [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) تفسير المفردات فى جنات وعيون: أي فى بساتين تجرى من تحتها الأنهار، محسنين: أي مجوّدين لأعمالهم، والهجوع: النوم ليلا والهجعة النومة الخفيفة، والأسحار: واحدها سحر وهو السدس الأخير من الليل، حق: أي نصيب وافر يوجبونه على أنفسهم تقربا إلى ربهم وإشفاقا على عباده، والسائل: هو المستجدى الطالب العطاء، والمحروم: هو المتعفف

المعنى الجملي

الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس، آيات: أي دلائل على قدرته تعالى من وجود المعادن والنبات والحيوان، والدحو فى بعض المواضع والارتفاع فى بعضها الآخر عن الماء، واختلاف أجزائها فى الكيفيات والخواص. للموقنين: أي للموحدين الذين سلكوا الطريق الموصل إلى معرفة الله، فهم نظارون بعيون باصرة، وأفهام نافذة، وما توعدون: أي والذي توعدونه من خير أو شر. المعنى الجملي بعد أن ذكر حال المغترين الذين أنكروا يوم الدين، وكذبوا بالبعث والنشور، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وعبدوا مع الله غيره من وثن أو صنم- أردف ذلك ذكر حال المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار، جزاء إحسانهم فى أعمالهم، وقيامهم بالليل للصلاة، والاستغفار بالأسحار، وإنفاقهم أموالهم للفقراء والمساكين، ونظرهم فى دلائل التوحيد التي فى الآفاق والأنفس، وتفكيرهم فى ملكوت السموات والأرض مصدقين قوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ» . ثم أقسم برب السماء والأرض إن ما توعدون من البعث والجزاء حق لا شك فيه، كما لا شك فى نطقكم حين تنطقون. الإيضاح (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين اتقوا الله وأطاعوه واجتنبوا معاصيه، فى بساتين وجنات تجرى من تحتها الأنهار، قريرة أعينهم بما آتاهم ربهم، إذ فيه ما يرضيهم ويغنيهم ويفوق ما كانوا يؤملون. ثم ذكر الثمن الذي دفعوه لنيل هذا الأجر العظيم فقال: (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي إنهم كانوا فى دار الدنيا يفعلون صالح

الأعمال، خشية من ربهم وطلبا لرضاه، ومن ثم نالوا هذا الفوز العظيم، والمكرمة التي فاقت ما كانوا يؤملون ويرجون. ونحو الآية قوله: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» ، ثم فصل ما أحسنوا فيه فقال: (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون القليل من الليل ويتهجدون فى معظمه، قال ابن عباس: ما تأتى عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلون فيها شيئا إما من أولها أو من وسطها، وقال الحسن البصري: كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقله، وربما نشطوا فجدّوا إلى السحر. وعن أنس قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي فهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا فى الاستغفار كأنهم أسلفوا فى ليلهم الجرائم. ولما ذكر أنهم يقيمون الصلاة ثنى بوصفهم بأداء الزكاة والبر بالفقراء فقال: (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي وجعلوا فى أموالهم جزءا معينا ميزوه وعزلوه للطالب المحتاج، والمتعفف الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يسأل الناس، ولا يفطنون إليه ليتصدقوا عليه. أخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان، قيل فمن المسكين؟ قال الذي ليس له ما يغنيه، ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه، فذلك المحروم» . وبعد أن ذكر أوصاف المتقين بين أنه قد لاحت لهم الأدلة الأرضية والسماوية التي بها أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه فقال: (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي وفى الأرض دلائل على وجود الخالق وعظيم

قدرته، استبانت لمن فكر وتدبر فى هذا الكون وبديع صنعه، مما يشاهد من صنوف النبات والحيوان، والمهاد والجبال، والقفار والبحار إلى نحو أولئك مما بهر المخلوقات كما قال: «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ» . فالموقنون كلما رأوا آية عرفوا وجه تأويلها فازدادوا إيقانا، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرونه فينتفعون به. (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) أي أفلا تنظرون نظر من يعتبر فى اختلاف الألسنة والألوان، والتفاوت فى العقول والأفهام، واختلاف الأعضاء، وتعدد وظائف كل منها على وجه يحار فيه اللّبّ، ويدهش منه العقل؟ وخلاصة ما سلف- إنّ الله تعالى وصف المتقين بأنهم مجدّون فى العبادة البدنية وفى بذل المال للمستحقين من ذوى الحاجة والبائسين، والإيمان بالله والعلم بقدرته بالنظر فى الآفاق والأنفس. (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أي وفى السماء أسباب رزقكم من النيّرين (الشمس والقمر) والكواكب والمطالع والمغارب التي بها تختلف الفصول فتنبت الأرض أنواع النبات وتسقى بماء الأمطار التي تحملها السحب وتسوقها الرياح لأسباب فلكية وطبيعية أوضحها علماء الفلك وعلماء الطبيعة. وكذلك ما توعدون من خير وشر، قاله مجاهد. ثم أقسم ربنا بعزته وجلاله إن البعث لحق فقال: (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أقسم ربنا جلت قدرته بجلاله وكبريائه: إن ما وعدكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء حق لا مرية فيه، فلا تشكّوا فيه كما لا تشكون فى نطقكم حين تنطقون، وهذا كما يقول الناس: إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 إلى 30]

أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الحسن أنه قال فيها: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا» . عن الأصمعى قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابى على قعود فقال ممن الرجل؟ قلت من بنى أصمع، قال من أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرجل؟ قلت من بنى أصمع، قال من أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: اتل علىّ فتلوت والذّاريات فلما بلغت: وفى السّماء رزقكم قال حسبك، فقام إلىّ ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفتّ فإذا بالأعرابى قد نحل واصفر فسلم علىّ واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: فو ربّ السّماء والأرض إنّه لحقّ. فصاح وقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه حتى حلف (قالها ثلاثا) وخرجت معها نفسه. وإنما قصصت عليك هذا القصص لما فيه من أدب بارع وظرف وحسن فهم من ذلك الأعرابى لكتاب الله، ولك بعد ذلك أن تصدقه أو تتشكك فيه، فكم للأصمعى من مثله، فهو الأديب البارع، والراوية الحافظ، فلا يعجزه أن يصنعه ويصنع أمثاله. [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الضيف: لفظ يستعمل للواحد والكثير، المكرمين: أي عند إبراهيم إذ خدمهم هو وزوجه وعجل لهم القرى وأجلسهم فى أكرم موضع، قوم منكرون: أي قوم لا عهد لنا بكم من قبل، وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام للتعرف بهم كما تقول لمن لقيته وسلم عليك: أنا لا أعرفك، تريد عرّف لى نفسك وصفها، فراغ إلى أهله: أي ذهب إليهم خفية من ضيفه، سمين: أي ممتلىء بالشحم واللحم، فقربه إليهم: أي وضعه لديهم، فأوجس منهم خيفة: أي أضمر فى نفسه الخوف منهم، امرأته هى سارّة لما سمعت بشارتهم له، صرّة: أي صيحة، فصكت وجهها: أي ضربت بيدها على جبهتها وقالت: يا ويلتا، عجوز عقيم: أي أنا كبيرة السن لا ألد. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه إنكار قومه للبعث والنشور حتى أقسم لهم بعزته أنه كائن لا محالة- سلى رسوله فأبان له أنه ليس ببدع فى الرسل، وأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم، وأنهم إن تمادوا فى غيهم وأصروا على كفرهم ولم يقلعوا عماهم عليه، فسيحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية. وذكر إبراهيم من بين الأنبياء لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي صلّى الله عليه وسلّم على سننه كما قال تعالى: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ولأن العرب كانت تجلّه وتحترمه وتدعى أنها على دينه.

الإيضاح

وأتى بالقصص بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن الحديث كما تقول لمخاطبك هل بلغك كذا وكذا، وأنت تعلم أنه لم يبلغه، توجيها لأنظاره حتى يصغى إليه ويهتم بأمره، ولو جاء على صورة الخبر لم يكن له من الروعة والجلال مثل ما كان وهو بهذه الصورة، وتنبيها إلى أن الرسول لم يعلم به إلا من طريق الوحى. الإيضاح (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ؟) أي هل عندك نبأ بما حدث بين إبراهيم وضيوفه من الملائكة الذين وفدوا عليه وهم ذاهبون فى طريقهم إلى قوم لوط، فسلموا عليه فرد عليهم التحية بأحسن منها. ثم أراد أن يتعرف بهم فقال: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي إنكم قوم لا عهد لنا بكم من قبل فعرفونى أنفسكم- من أنتم؟ واستظهر بعض العلماء أن هذه مقالة أسرّها فى نفسه أو لمن كان معه من أتباعه وجلسائه من غير أن يشعرهم بذلك، لأن فى خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا له، إلى أنه لو كان أراد ذلك لكشفوا له أحوالهم، ولم يتصد لمقدمات الضيافة، ثم ذكر أنه أسرع فى قرى ضيوفه فقال: (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي فذهب خفية مسرعا وقدم لضيوفه عجلا سمينا أنضجه شيّا، كما جاء فى سورة هود «فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» أي مشوى على الرضف. (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي قال مستحثا لهم على الأكل: ألا تأكلون؟ وفى هذا تلطف منه فى العبارة وعرض حسن، وقد انتظم كلامه وعمله آداب الضيافة، إذ جاء بطعام من حيث لا يشعرون، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتىّ مشوى، ووضعه بين أيديهم، ولم يضعه بعيدا منهم حتى يذهبوا إليه، وتلطف فى العرض فقال: ألا تأكلون؟

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فأعرضوا عن طعامه ولم يأكلوا فأضمر فى نفسه الخوف منهم، ظنا منه أن امتناعهم إنما كان لشرّ يريدونه، فإنّ أكل الضيف أمنة ودليل على سروره وانشراح صدره، وللطعام حرمة، وفى الإعراض عنه وحشة موجبة لسوء الظن، وقد جاء فى سورة هود: «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» . ثم ذكر أنهم طمأنوه حينئذ فقال: (قالُوا لا تَخَفْ) منا إنا رسل ربك، وجاء فى الآية الأخرى: «قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ» . (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي فبشروه بإسحاق بن سارّة كما جاء فى سورة هود: «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» وجاءت البشارة بذكر لأنه أسرّ للنفس، وأقر للعين، ووصفه بالعلم لأنه الصفة التي يمتاز بها الإنسان الكامل، لا الصورة الجميلة ولا القوة ولا نحوهما. ثم أخبر عما حدث من امرأته حينئذ فقال: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي فأقبلت امرأته سارّة حين سمعت بشارتهم (كانت فى ناحية من البيت تنظر إليهم) وهى تصرخ صرخة عظيمة وضربت بيديها على جبيتها وقالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ وجاء فى الآية الأخرى: «قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» فأجابوها عما قالت: (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي قالوا لها: مثل الذي أخبرناك به قال ربك، فنحن نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين، وهو الحكيم فى أفعاله، العليم الذي لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء.

والخلاصة- إنها استبعدت الولادة لسببين: كبر السن والعقم، وقد كانت لا تلد فى عنفوان شبابها والآن قد عجزت وأيست، فأجدر بها الآن ألا تلد، فكأنها قالت: ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة، ظنا منها أن ذلك منهم كما يصدر من الضيف من الدعوات الطيبات كما يقول الداعي: أعطاك الله مالا، ورزقك ولدا، فردوا عليها بأن هذا ليس منا بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى. قد تمّ ما أردنا تصنيفه فى تفسير هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى اليوم العاشر من شهر ربيع الثاني من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 القرآن الكريم من عند الله، لا من عند محمد 9 الردّ على المشركين فى طعنهم فى النبوة 11 ما ينسب إلى بعض الأولياء من علمهم بشئون الغيب فهو فرية على الله 14 إسلام عبد الله بن سلام وحديثه مع قومه اليهود 15 الرد على المشركين فى أن القرآن ليس مفترى 17 الوصية بالوالدين 18 حوار بين علىّ وعثمان فى أقل مدة الحمل 19 لم يبعث الله نبيا قبل الأربعين إلا ابني الخالة عيسى ويحيى 20 الدعاء الذي كان يعلّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه فى التشهد 23 خطبة مروان فى المسجد دعاية ليزيد بن معاوية وردّ عبد الرحمن بن أبى بكر عليه 26 غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رأى على الحسن والحسين قلبين من فضة 31 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح يدعو بدعاء خاص 34 استماع الجن للقرآن 35 لا دليل من العقل على عالمى: الملائكة والجن، بل الدليل من السمع وأخبار الأنبياء 37 ورد أن الجن استمعت القرآن مرات كثيرة 39 ضرب القرآن للأمثال

الصفحة المبحث 49 الحرب ترقى الصناعات، وتوقظ الشعور، وتزيد عدد الأمم 50 سيأتى يوم تسعد فيه الأمم بسعادة أعدائها 52 يعرف أهل الجنة منازلهم فيها كما يعرفون منازلهم فى الدنيا 56 لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة مهاجرا التفت إليها وقال: أنت أحب بلاد الله إلىّ، أنت أحب بلاد الله إلىّ 58 صفة الجنة كما وصفها القرآن 63 فى الحديث: «إنى أستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة» 64 ما كان يقول المنافقون حين نزول آيات الجهاد؟ 70 ممالأة المنافقين لليهود من بنى قريظة 71 يعرف المنافقون من غيرهم بلحن القول والعدول عن التصريح إلى الإشارة 72 فى الحديث: «ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها» 75 المعاصي تبطل الحسنات 81 نتائج صلح الحديبية 86 من سنن الله أن يسلط بعض عباده على بعض 87 لله جنود للرحمة، وجنود للعذاب 90 بيعة الرضوان- بيعة الشجرة 92 معاذير بعض القبائل للتخلف عن الجهاد 99 الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد 101 نادى منادى رسول الله للبيعة وهو تحت الشجرة 102 أمر عمر بقطع الشجرة التي بويع عندها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رأى الناس يحجون إليها. 104 فتح خيبر ومغانمها ليست بشىء إذا قيست إلى ما بعدها 105 قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لأعطينّ الراية رجلا يحبه الله ورسوله»

الصفحة المبحث 107 كتاب الصلح الذي كتب بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم 111 ما دار من الحديث بين سهيل بن عمرو، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم 112 حوار بين أبى بكر وعمر 116 قال عمر: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته 124 ما أنشده الوفود أمام النبي صلّى الله عليه وسلم 128 رأى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنفع للمؤمنين من آرائهم لأنفسهم 131 وجوب قتال الفئة الباغية 131 المؤمنون بعضهم إخوة لبعض 133 النهى عن السخرية والهمز واللمز 137 من عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه 138 فى الحديث: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» 140 قال علىّ بن الحسين: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس 140 لا تحرم الغيبة فى ستة مواضع 144 خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة وهو على راحلته 146 القرآن علم المؤمنين الأدب فى التخاطب 147 الفرق بين الإسلام والإيمان 148 مقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للانصار يوم حنين 161 فى الحديث: «كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات» 171 الرسول صلّى الله عليه وسلّم مذكر وليس بمسيطر 176 أفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية 181 القصص الذي رواه الأصمعى عن أعرابى قابله 184 بشرى الملائكة لإبرهيم 185 استبعاد سارّة للولادة فى هذه السن

تتمة سورة الذاريات

الجزء السّابع والعشرون [تتمة سورة الذاريات] تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء السّابع والعشرون

[سورة الذاريات (51) : الآيات 31 إلى 37]

الجزء السابع والعشرون بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 37] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) تفسير المفردات الخطب: الشأن الخطير، أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة، إلى قوم مجرمين: هم قوم لوط، من طين: أي من طين متحجر وهو السجيل، مسومة: أي معلّمة من السّومة وهى العلامة، للمسرفين: أي المجاوزين الحد فى الفجور، من المؤمنين: أي ممن آمن بلوط، غير بيت: أي غير أهل بيت، والمراد بهم لوط وابنتاه آية: أي علامة دالة على ما أصابهم من العذاب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي تقدم أن قلنا غير مرة إن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين نظروا إلى العدّ اللفظي ولم يعنوا بالنظر إلى الترتيب المعنوي، ومن ثم تجد جزءا قد انتهى وبدىء بآخر أثناء القصة كما هنا. فبعد أن بشر الملائكة إبراهيم عليه السّلام بالغلام- سألهم ما شأنكم وما الذي جئتم لأجله؟ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط، لنهلكهم بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لإهلاكهم، ثم نأمر من كان فيها من المؤمنين بالخروج من القرية حتى لا يلحقهم العذاب الذي سيصيب الباقين، وسنترك فيها علامة تدل على ما أصابهم من الرجز، جزاء فسوقهم وخروجهم من طاعة ربهم. الإيضاح (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي قال إبراهيم لهؤلاء الملائكة: ما شأنكم؟ وفيم أرسلتم؟ وجاء فى سورة هود: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ» . فأجابوه عما سأل: (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي قالوا له: إنا أرسلنا إلى قوم لوط بالعذاب لإجرامهم، وسنلقى عليهم حجارة من طين مطبوخ كالآجرّ وهى فى الصلابة كالحجارة، وفيها علامات أعدت لهلاك المسرفين. ولما أراد سبحانه أن يهلك المجرمين ميّز عنهم المؤمنين وأبعدهم منهم كما قال: (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 إلى 46]

أي بعد أن ذهبت رسلنا إلى قوم لوط ووقعت بينهم وبينهم محاورات لم يدع الحال إلى ذكرها هنا- أخرجوا من كان فى القرى من المؤمنين تخليصا لهم من العذاب، ولم يجدوا فيها سوى بيت واحد أسلم وجهه لله ظاهرا وباطنا، وانقاد لأوامره واجتنب نواهيه، وهو بيت لوط ابن أخى إبراهيم عليه السّلام. عن سعيد بن جبير قال: كانوا ثلاثة عشر. قال أبو مسلم الأصفهانى: الإسلام الاستسلام لأمر الله والانقياد لحكمه، فكل مؤمن مسلم، ومن ذلك قوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا» . وقد أوضح الحديث الشريف الفرق بينهما، فجاء فى الصحيحين وغيرهما من طرق عدة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان. وسئل عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره» . (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي وجعلناها عبرة بما أنزلنا بها من العذاب والنكال وحجارة السجيل، وخسف الأرض بهم حتى صارت قريتهم بحيرة منتنة خبيثة وهى بحيرة طبرية، لتكون ذكرى لن يخشى الله ويخاف عذابه. وفى الآية إيماء إلى أن الكفر متى غلب، والفسق إذا انتشر، لا تنفع معه عبادة المؤمنين، أما إذا كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويفجرون، فإن الله لا يأخذ الكثرة الصالحة بذنب العدد القليل من الفاجرين. [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)

تفسير المفردات

تفسير المفردات بسلطان مبين: أي بحجة واضحة هى معجزاته الظاهرة كاليد والعصا، والركن: ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به، والمراد هنا جنوده وأعوانه ووزراؤه كما جاء فى سورة هود «أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» ، فأخذناه: أي أخذ غضب وانتقام، نبذناهم: أي طرحناهم، فى اليمّ: أي فى البحر، مليم: أي آت بما يلام عليه، والعقيم: أي التي لا خير فيها ولا بركة، فلا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، الرميم: البالي من عظم ونبات وغير ذلك، فعتوا: أي فاستكبروا عن الامتثال، والصاعقة: نار تنزل بالاحتكاكات الكهربية، منتصرين: أي ممتنعين من عذاب الله بغيرهم ممن أهلكهم، فاسقين: أي خارجين من طاعة الله، متجاوزين حدوده. المعنى الجملي بعد أن ذكر ما كان من قوم لوط من الفسوق والعصيان، وما أصابهم من الهلاك جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات تسلية لرسوله على ما يرى من قومه- عطف على ذلك قصص جمع آخرين من الأنبياء لقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لقى هذا الرسول الكريم، فحقت على أقوامهم كلمة ربهم ونزل بهم عذاب الاستئصال وصاروا

الإيضاح

كأمس الدابر عبرة ومثلا للآخرين، فذكر أنه أرسل موسى إلى فرعون بشيرا ونذيرا فأبى واستكبر واعتزّ بقوته وجنده، وقال أنا ربكم الأعلى، فأغرق هو وقومه فى البحر. وأرسل شعيبا إلى عاد فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. وأرسل صالحا إلى ثمود فكذبوه فأخذتهم الصاعقة ولم تبق منهم أحدا، وبعث نوحا إلى قومه فلم يستجيبوا لدعوته فأخذهم الطوفان وهم ظالمون. الإيضاح (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي وفى قصص موسى عبرة لقوم يعقلون، إذ أرسلناه إلى فرعون بحجج ظاهرة، وآيات باهرة، فأعرض ونأى، وكذب ما جاء به، معتزا بجنده وقوته وجبروته، وقال حينا تحقيرا لشأن موسى: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» وقال حينا آخر: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» . وما مقصده من هذا إلا صرفهم عن النظر والتأمل فيما جاء به من الآيات، خوفا على ملكه أن ينهار، وعلى دولته أن يلحقها الدمار، وإبقاء على ما له من النفوذ والسلطان فى البلاد. ثم ذكر جزاءه هو وقومه على ما صنع فقال: َأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فألقينا فرعون وجنوده فى البحر وهو آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان. وفى هذا إيماء إلى عظمة القدرة على إذلال الجبابرة وسوء عاقبتهم، جزاء عتوهم واستكبارهم وعصيانهم أمر خالقهم. ثم ذكر قصص عاد فقال: (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي وفى عاد آية لكل ذى لبّ، إذ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية

[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 إلى 51]

لم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار، ولا تركت شيئا من الأبنية والعروش إلا جعلته كالشىء الهالك البالي. وبعدئذ ذكر قصص ثمود فقال: (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، ... فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي وفى ثمود عظة لمن تدبر وفكر فى آيات ربه، إذ قال لهم نبيهم: «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» ثم يحل بكم من العذاب ما لا قبل لكم به، فكذبوه واستكبروا وعتوا عن أمر ربهم، فأرسل عليهم صاعقة من السماء أهلكتهم جميعا وهم ينظرون إليها- جزاء ما اكتسبت أيديهم من الآثام، وارتكاب الخطايا والأوزار. (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي فما استطاعوا هربا ولم يجدوا مفرّا ولا نصيرا يدفع عنهم عذاب الله. ثم ذكر موجزا لقصص قوم نوح فقال: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي وأهلكنا قوم نوح بالطوفان قبل هؤلاء، بسبب فسقهم وفجورهم وانتهاكهم حرمات الله. [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 51] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) تفسير المفردات الأيد والآد: القوة، لموسعون: أي لذو سعة يخلقها وخلق غيرها من الوسع بمعنى الطاقة، فرشناها: أي بسطناها ومهدناها من مهدت الفراش إذا بسطته ووطّأته،

المعنى الجملي

وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها، ومن كل شىء: أي ومن كل جنس من الحيوان، زوجين: أي ذكر وأنثى، ففروا إلى الله: أي اعتصموا بحبل الله وأقروا بوحدانيته، إنى لكم منه نذير مبين: أي إنى لكم من عقابه منذر ومخوّف. المعنى الجملي بعد أن أثبت الحشر وأقام الأدلة على أنه كائن لا محالة- أرشد إلى وحدانية الله وعظيم قدرته، فبين أنه خلق السماء بغير عمد، وبسط الأرض ودحاها، لتصلح لسكنى الإنسان والحيوان، وخلق من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين ذكرا وأنثى، ليستمر بقاء الأنواع إلى أن يشاء الله فناء العالم، ثم أمرهم أن يعتصموا بحبل الله وأنذرهم شديد عقابه، وحذرهم أن يجعلوا مع الله ندّا وشريكا. الإيضاح (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي ولقد بنينا السماء ببديع قدرتنا، وعظيم سلطاننا، وإنا لقادرون على ذلك لا يمسنا نصب ولا لغوب. وفى ذلك تعريض باليهود الذين قالوا: أن الله خلق السموات والأرض فى ستة أيام واستراح فى اليوم السابع مستلقيا على عرشه. (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي ومهدنا الأرض، وجعلناها صالحة لسكنى الإنسان والحيوان، وجعلنا فيها الأرزاق والأقوات، من الحيوان والنبات وغيرهما مما يكفل بقاءهما إلى حين، ووضعنا فيها من المعادن فى ظاهرها وباطنها ما فيه زينة لكم، فتبنون المساكن من حجارتها، وتتخذون الحلىّ من ذهبها وفضتها وأحجارها الكريمة، وتصنعون آلات الحرب والسفن والطائرات من حديدها ومعادنها الأخرى.

وفى الآية إشارة إلى أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء، لأن بناء البيت يكون قبل الفرش، وهذا ما يثبته العلم الحديث الآن، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة. ثم مدح سبحانه نفسه على ما صنع فقال: (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي فنعم ما فعلنا، وما أجمل ما خلقنا، مما فيه عظة لمن يتذكر ويتدبر. (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي وإنا خلقنا لكل ما خلقنا من الخلق ثانيا له، مخالفا له فى مبناه والمراد منه، وكل منهما زوج للآخر، فخلقنا السعادة والشقاوة، والهدى والضلال، والليل والنهار، والسماء والأرض، والسواد والبياض- لتتذكروا وتعتبروا فتعلموا أن الله ربكم الذي ينبغى لكم أن تعبدوه وحده لا شريك له- هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداع زوجين من كل شىء لا ما لا يقدر على ذلك. (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) أي فالجئوا إلى الله واعتمدوا عليه فى جميع أموركم، واتبعوا أوامره، واعملوا على طاعته، ثم علل الأمر بالفرار إليه بقوله: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنى لكم نذير من الله أنذركم عقابه، وأخوّفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم التي قص عليكم قصصها، وإنى مبيّن لكم ما يجب عليكم أن تحذروه. ثم ذكر أعظم ما يجب أن يفر المرء منه، وهو الشرك فقال: (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي ولا تجعلوا مع معبودكم الذي خلقكم معبودا آخر سواه، فإن العبادة لا تصلح لغيره. ثم علل هذا النهى بقوله: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنى لكم نذير ومخوف من عقابه على عبادتكم غيره.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 إلى 60]

ونحو الآية قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» . [سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 60] كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) تفسير المفردات فتول عنهم: أي أعرض عن جدلهم، وذكّر: أي دم على التذكير والموعظة، إلا ليعبدون: أي إلا لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجى إليهم، المتين: أي الشديد القوة، ذنوبا: أي نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب: الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أصحابهم: أي نظرائهم، فويل للذين كفروا: أي هلاك لهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن هؤلاء المشركين فى قول مختلف مضطرب لا يلتئم بعضه مع بعض فبينما هم يقولون: خالق السموات والأرض هو الله إذا بهم يعبدون الأصنام والأوثان، وطورا يقولون: محمد ساحر، وطورا آخر يقولون هو كاهن إلى نحو ذلك.

الإيضاح

قفىّ على ذلك بأن ذكر أن قومه ليسوا بدعا فى الأمم، فكما كذبت قريش نبيها فعلت الأمم التي كذبت رسلها، فأحل الله بهم نقمته كقوم نوح وعاد وثمود، ثم عجّب من حالهم وقال: أتواصى بعضهم مع بعض بذلك؟ ثم قال: لا بل هم قوم طغاة متعدّون حدود الله، لا يأتمرون بأمره ولا ينتهون بنهيه، ثم أمر رسوله أن يعرض عن جدلهم ومرائهم، فإنه قد بلّغ ما أمر به ولم يقصّر فيه، فلا يلام على ذلك، وأن يذكّر من تنفعه الذكرى ولديه استعداد لقبول الإرشاد والهداية، ثم أردف هذا أن ذكر أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم ويكلفهم بعبادته، لا لاحتياجه إليهم فى تحصيل رزق ولا إحضار طعام، فالله هو الرزاق ذو القوة. ثم ختم السورة بتهديد أهل مكة بأنه سيصيبهم من العذاب مثل ما أصاب من قبلهم من الأمم السالفة، فأولى لهم ألا يستعجلوه بقولهم: «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ، فقد حقت عليهم كلمة ربك فى اليوم الذي يوعدون، وسيقع عليهم من العذاب ما لا مردّ له، ولا يجدون له دافعا. الإيضاح (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي كما كذبك قومك من قريش وقالوا ساحر أو مجنون- فعلت الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم وقالوا مثل مقالتهم، فهم ليسوا ببدع فى الأمم، ولا أنت ببدع فى الرسل، فكلهم قد كذّبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله. وفى هذا تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم على احتمال الأذى والإعراض عن جدلهم، فإنهم قد أبطرتهم النعمة وغرّهم الإمهال، فلا تجدى فيهم العظة ولا تنفعهم الذكرى. ثم تعجب من إجماعهم على إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال:

(أَتَواصَوْا بِهِ؟) أي أأوصى أولهم آخرهم بتكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم فقبلوا ذلك منهم؟ ثم عدل عن أنّ الذي جمعهم على هذا القول هو التواصي، إلى أن الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان فقال: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي بل الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان وتجاوز حدود الدين والعقل، فقال متأخرهم مثل مقالة متقدمهم. ثم سلى رسوله بقوله: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي فأعرض عنهم أيها الرسول، ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام فإنك لم تأل جهدا فى الدعوة، وهم ما زادوا إلا عتوا واستكبارا، وطغيانا وإعراضا. (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي دم على العظة والنصح، فإن الذكرى تنفع من فى قلوبهم استعداد للهداية والرشاد. أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي وجماعة من طريق مجاهد عن على كرم الله وجهه قال: لما نزلت «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة، إذ أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتولى عنا، فنزلت «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» فطابت أنفسنا. وبعد أن بين حالهم فى التكذيب ذكر سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الذي خلقهم للعبادة بقوله: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي وما خلقتهم إلا ليعرفونى، إذ لولا خلقهم لم يعرفوا وجودى ولا توحيدى، يرشد إلى ذلك ما جاء فى الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبى عرفونى» قاله مجاهد، وروى عنه أيضا أن المعنى: إلا لآمرهم وأنهاهم، ويدل عليه قوله: «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» واختاره الزجاج،

ويرى جمع من المفسرين أن المعنى: إلا ليخضعوا لى ويتذللوا، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته، منقاد لما قدره عليه، خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا ولا ضرا. وهذه الجملة مؤكدة للأمر بالتذكير وفيها تعليل له، فإن خلقهم لما ذكر يدعوه إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ. ثم ذكر أن شأنه مع عبيده ليس كشأن السادة مع عبيدهم فقال: (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي إننى ما أريد أن أستعين بهم لجلب منفعة ولا دفع مضرة، فلا أصرّفهم فى تحصيل الأرزاق والمطاعم كما يفعل الموالي مع عبيدهم. ثم علل هذا بقوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي إنه تعالى غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه فى جميع أحوالهم، لأنه خالقهم ورازقهم، وهو ذو القدرة والقوة الغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. روى أحمد عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك» . ولما أقسم سبحانه على الصدق فى وعيدهم- أخبر بإيقاع هذا الوعيد بهم يوم القيامة فقال: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة، وإشراكهم بالله عز وجل وتكذيبهم رسوله نصيبا من العذاب مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة التي كذبت رسلها. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فلا يطلبوا منى أن أعجل بالإتيان به، فإنى لا أخاف

خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة

الفوت، ولا يلحقنى عجز، وهذا جواب عن قولهم: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . ونحو الآية قوله: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» . (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فويل لهم من حلول ذلك العذاب الذي وعدوه يوم القيامة حين لا تغنى نفس عن نفس شيئا ولا هم ينصرون. خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة (1) دلائل البعث من العجائب الطبيعية والعلوم النفسية. (2) جزاء المتقين بما يلقونه من النعيم يوم القيامة. (3) أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها. (4) تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من أذى قومه. (5) الفرار إلى الله من هذه الدنيا المحفوفة بالمخاطر. (6) النهى عن الإشراك بالله. (7) إخبار رسوله بأن قومه ليسوا ببدع فى التكذيب بك فقد كذب رسل من قبلك. (8) أمره صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين. (9) إخباره بأن الله ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه. (10) وعيد الكافرين بأن العذاب سيحل بهم يوم القيامة. (11) إن المشركين سينالهم نصيب من العذاب مثل نصيب نظرائهم من المكذبين.

سورة الطور

سورة الطور هى مكية وعدد آياتها تسع وأربعون، نزلت بعد السجدة. عن أم سلمة «أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور» أخرجه البخاري وغيره. ومناسبتها لما قبلها: (1) إن فى ابتداء كل منهما وصف حال المتقين. (2) إن فى نهاية كل منهما وعيد للكافرين. (3) إن كلا منهما بدئت بقسم بآية من آياته تعالى الكونية التي تتعلق بالمعاش أو المعاد، ففى الأولى أقسم بالرياح الذاريات التي تنفع الإنسان فى معاشه، وهنا أقسم بالطور الذي أنزل فيه التوراة النافعة للناس فى معادهم. (4) فى كل منهما أمر النبي بالتذكير والإعراض عما يقول الجاحدون من قول مختلف. (5) تضمنت كلتاهما الحجاج على التوحيد والبعث، إلى نحو ذلك من المعاني المتشابهة فى السورتين. [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الطور بالسريانية: الجبل، والمراد به طور سينين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، والمراد بالكتاب هنا: ما كتب من الكتب السماوية كالقرآن والتوراة والإنجيل، والمسطور: أي المكتوب على طريق منظم، والسطر ترتيب الحروف المكتوبة، والرّق: (بالفتح والكسر) جلد رقيق يكتب فيه، والمنشور: المفتوح الذي لا ختم عليه، والبيت المعمور: هو الكعبة المعمورة بالحجاج والمجاورين، والسقف المرفوع: هو السماء، والمسجور: أي الموقد المحمى، من سجر النار أي أوقدها وعنى به باطن الأرض وهو الذي دل عليه الكشف الحديث ولم تعرفه الأمم قديما، وقد أشارت إليه الأحاديث، فعن عبد الله بن عمر: «لا يركبنّ رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا، فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا» . وقد أثبت علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) أن الأرض كلها كبطيخة وقشرتها كقشرة البطيخة أي إن نسبة قشرة الأرض إلى النار التي فى باطنها كنسبة قشرة البطيخة إلى باطنها الذي يؤكل، فنحن الآن فوق نار عظيمة: أي فوق بحر مملوء نارا، وهذا البحر مغطى من جميع جهاته بالقشرة الأرضية المحكمة السد عليه، ومن حين إلى آخر تتصاعد من ذلك البحر نار تظهر فى الزلازل والبراكين كبركان فيزوف الذي هاج بإيطاليا سنة 1909 م وابتلع مدينة مسّينا، والزلزلة التي حدثت باليابان سنة 1925 م وخربت مدنا بأكملها.

المعنى الجملي

وتمور: أي تضطرب وترتجّ وهى فى مكانها، وأصل المور التردد فى الذهاب والمجيء، وقد يطلق على السير مطلقا كما قال الأعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل وأصل الخوض: السير فى الماء ثم استعمل فى الشروع فى كل شىء وغلب فى الخوض فى الباطل، كالإحضار فإنه عام فى كل شىء ثم غلب استعماله فى الإحضار للعذاب، يدعّون: أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغلّ أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعون إلى النار ويطرحون فيها. المعنى الجملي أقسم سبحانه بمخلوقاته العظيمة، الدالة على كمال قدرته، وبديع صنعته، وعدّ منها أماكن ثلاثة: الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور- لأنبياء ثلاثة كانوا ينفردون للخلوة بربهم، والخلاص من الخلق لمناجاة الخالق، فانتقل موسى إلى الطور وخاطب ربه وقال «أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا» وقال «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» وانتقل محمد إلى البيت المعمور وناجى ربه وقال «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ، وكلم يونس ربه فى البحر وقال: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» . وقرن الكتاب بالطور لأن موسى كان ينزل عليه الكتاب وهو به، وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد صلّى الله عليه وسلم، وأقسم بكل هذا على أن العذاب يوم القيامة نازل بأعدائه الذين يخوضون فى الباطل ويتخذون الدين هزوا ولعبا، فيدفعون إلى النار دفعا عنيفا ويقال لهم: هذه هى النار التي كنتم بها تكذبون، ادخلوها وقاسوا شدائدها، وسواء عليكم أجزعتم أم صبرتم مالكم منها مهرب ولا خلاص.

الإيضاح

الإيضاح (وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) أقسم سبحانه بهذا الجبل العظيم الشأن الذي كلم فوقه موسى، وأنزل عليه التوراة التي كتبت بنظام بديع، مرتب الحروف، فى رق منشور، يسهل على كل أحد أن يطلع على ما فيها من حكم وأحكام، وآداب وأخلاق. (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) أي والكعبة التي يعمرها عشرات الآلاف الذين يهرعون إليها كل عام من أرجاء المعمورة، وينسلون إليها من كل حدب، كما يعمرها المجاورون لها تبركا بالعبادة فيها، وطلبا لقبولها عند ربهم. (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) أي والعالم العلوي وما حوى من شموس وأقمار، وكواكب ثابتة وسيارات، وما فيه من عرشه وكرسيه وملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وما فيه من عوالم لا يحصى عدتها إلا هو، ومن جنود لا يعلم حقيقتها إلا من ذرأها كما قال «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» . (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي والبحر المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع ما على الأرض ولا يبقى ولا يذر من حيوان ونبات، فيفسد نظام العالم وتعدم الحكمة التي لأجلها خلق. وقد يكون المعنى- والبحر الموقد فى باطن الأرض بمنزلة التنّور المحمى، وقد بينا هذا فيما سبق. ثم ذكر ما أقسم عليه فقال: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي إن عذاب يوم القيامة لمحيط بالكافرين المكذبين بالرسل، لا يدفعه عنهم دافع، ولا يجدون من دونه مهربا، جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من الشرك والآثام، ودسّوا به أرواحهم من التكذيب بالرسل واليوم الآخر.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي ليس للعذاب دافع فى ذلك اليوم الذي ترتجّ فيه السماء وهى فى أماكنها، وتتحققون أنه لا مانع من عذاب الله ولا مهرب منه. (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي وتزول الجبال من أماكنها، وتسير عن مواضعها كسير السحاب، وتطير فى الهواء ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل ثم تصير كالعهن (الصوف المندوف) ثم تطيرها الرياح فتكون هباء منثورا كما دل على ذلك ما جاء فى سورة النمل والحكمة فى مور السماء وسير الجبال- الإعلام والإنذار بأن لا رجوع ولا عودة إلى الدنيا لخرابها وعمارة الآخرة. ثم بين من سيقع عليه العذاب حينئذ فقال: (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي فإذا حدث ما ذكر من مور السماء وسير الجبال فهلاك يومئذ للمكذبين الذين يخوضون فى الباطل، ويندفعون لاهين، لا يذكرون حسابا، ولا يخافون عقابا. (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يوم يدفعون ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفا. فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها تقريعا وتوبيخا: (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي هذه النار التي تشاهدونها هى التي كنتم بها تكذبون فى الدنيا، وتكذيبهم بها تكذيب للرسول الذي جاء بخبرها، وللوحى الناطق بها. ثم تهكم بهم وأنّبهم فقال: (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟) كان المشركون فى الدنيا ينسبون إلى محمد صلى الله عليه وسلّم أنه يسحر العقول ويغطى الأبصار، فأنبهم على ما قالوا مستهزئا بهم وقال لهم: هل ما ترونه بأعينكم مما كنتم تنبئون به فى الدنيا من العذاب- حق، أو سحرتم أيضا كما كان يفعل بكم محمد فى الدنيا، أو قد غطّيت أبصاركم فلا ترى شيئا؟ بلى إنه لحق فلم تسحر أعينكم ولم تغطّ أبصاركم.

[سورة الطور (52) : الآيات 17 إلى 20]

والخلاصة- هل فى المرئي شك أو فى أبصاركم علل؟ لا واحد منهما بموجود، فالذى ترونه حق. (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي إذا لم يمكنكم إنكارها، وتحقق أنها ليست بسحر، ولا خلل فى أبصاركم فاصلوها، وفى قوله: فاصبروا أو لا تصبروا بيان لعدم الخلاص، وانتفاء لعدم المناص فإن من لا يصبر على شىء يحاول دفعه عنه، إما بإبعاده عنه، وإما بمحقه وإزالته ولا شىء من ذلك بحاصل يوم القيامة- إلا أن عذاب الآخرة ليس كعذاب الدنيا، فإن المعذب فيها إن صبر انتفع بصبره إما بالجزاء فى الآخرة وإما بالحمد فى الدنيا فيقال ما أشجعه، وما أقوى قلبه، وإن جزع ذم وقيل فيه يجزع كالصبيان والنسوان، وأما فى الآخرة فلا مدح ولا ثواب على الصبر. ثم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنما تستوفون جزاء أعمالكم فى الدنيا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر «ولا يظلم ربّك أحدا» بل يجازى كل أحد بعمله، وإذا كان الجزاء واقعا حتما كان الصبر وعدمه سواء. والخلاصة- إن الجزاء محتم الوقوع، لسبق الوعيد به فى الدنيا على ألسنة الرسل، ولقضاء الله به بمقتضى عدله، فالصبر وعدمه سيان حينئذ. [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

تفسير المفردات

تفسير المفردات فاكهين: أي طيبة نفوسهم، مسرورة بما هى فيه، وقاهم: أي حفظهم، والطعام الهنيء: ما لا يلحق المرء فيه مشقة ولا يعقبه تخمة ولا سقم، وزوّجناهم: أي قرنّاهم، والحور: واحدتهن حوراء، والحور: اسوداد المقلة، والعين: واحدتهن عيناء: أي واسعة العينين. المعنى الجملي بعد أن أبان ما يصيب الكافرين من العذاب الأليم الذي لا دافع له ولا مهرب منه- ذكر ما يتمتع به المؤمنون فى ذلك اليوم من صنوف اللذات فى المساكن والمآكل والمشارب والفرش والأزواج، بحسب سنن القرآن من ذكر الثواب بعد العقاب، ليتم أمر الترغيب بعد الترهيب حتى يكون المرء بين عاملين، عاملى الرهبة من بطش ربه، والرغبة فى رحمته، وكلاهما لا غنى للمرء عنه، ليكمل صلاحه، ويرعوى عن غيه، ولا يقنط من رحمة ربه. الإيضاح (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين خافوا ربهم وأخلصوا له العبادة فى السر والعلن، وأدّوا فرائضه، وتحلّوا بآداب دينه، وانتهوا عن معاصيه، ولم يدنّسوا أنفسهم بالآثام، ولم يدسّوا أرواحهم بالذنوب، يجازيهم ربهم جزاء وفاقا بجنات يتنعمون فيها، ويجدون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال فى الدنيا، وما حرموا منه أنفسهم من لذاتها، وما صبروا عليه من مكارهها، ابتغاء رضوانه. وهم فيها قرير والأعين طيبو النفوس، لا يشغلهم شاغل، ولا يجدون هما ولا نصبا، ولا يكدّر صفو عيشهم مكدر.

وقوله فى جنات ونعيم لبيان أن حالهم كحال من يتمتع بالبستان، وكالناطور الذي يحرسه وقوله: فاكهين إشارة إلى أن قلوبهم لا يشغلها همّ ولا نصب، بل هم فى لذة، وسرور، وفرح وحبور. ثم ذكر أنهم تمتعوا بنعمة أخرى قبل هذه فقال: (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وقد نجاهم ربهم من عذاب النار، فلم يمسسهم لظاها، ولم يحسوا بأذاها، فهم قد لابسوا النعم، وجانبوا النقم، وذلك هو الفوز العظيم والنعيم المقيم. ثم ذكر أنه يقال لهم حينئذ: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي كلوا مما رزقكم ربكم من الطيبات، واشربوا مما لذ وطاب، هنيئا: أي لا تخافون أذى ولا غائلة كما تشاهدون مثل ذلك فى طعام الدنيا وشرابها، كفاء ما قدمتم من صالح الأعمال، وآثرتم من تعب الدنيا لراحة الآخرة. قيل للربيع بن خيثم وقد صلّى طوال الليل: أتبعت نفسك، فقال: راحتها أطلب. ونحو الآية قوله تعالى: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» . وفى قوله (هنيئا) إشارة إلى خلوّ المآكل والمشارب مما ينغصهما، فإن الآكل قد يخاف المرض فلا يهنأ له الطعام، أو يخاف النفاد فيحرص عليه، أو يتعب فى تحصيله وتهيئته بالطبخ والإنضاج، ولا يكون شىء من هذا فى الآخرة. وفى قوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إيماء إلى أن هذا إنجاز لما وعدهم ربهم به فى الدنيا، فلا منّ عليهم فيه، بل كان المن عليهم فى الدنيا، بهدايتهم للإيمان، وتوفيقهم لصالح الأعمال كما قال: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ» . ثم ذكر ما يتمتعون به من الفرش فقال:

[سورة الطور (52) : الآيات 21 إلى 28]

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي يجلسون على سرر مصفوف بعضها بجوار بعض جلسة المتكئ الذي لا كلفة عليه، ولا تكلف لديه، فإن من يكون عنده من يتكلف له يجلس ولا يتكىء، ومن يكون فى مهمّ لا يتفرغ للاتكاء، فحاله حال اطمئنان ورفع كلفة وخلوّ بال. ونحو الآية قوله «عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» . ثم ذكر ما يتمتعون به من الأزواج فقال: (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حسانا واسعات العيون. وهذا وصف يتمدح به العربي إذا ذكر جمال المرأة. [سورة الطور (52) : الآيات 21 الى 28] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) تفسير المفردات ألتناهم: أي أنقصناهم، رهين: أي مرهون بعمله عند الله، والعمل الصالح يفكّه، والعمل الطالح يوبقه، وأمددناهم: أي زدناهم، مما يشتهون: أي من صنوف النعماء، وضروب الآلاء، يتنازعون: أي يتجاذبون تجاذب ملاعبة وسرور، والكأس:

المعنى الجملي

الإناء بما فيه من الشراب قاله الراغب، وقد يسمى كل منهما على انفراد كأسا، لا لغو فيها: أي فى شرابها، فلا يتكلمون فى أثناء الشراب بلغو الحديث وسقط الكلام، ولا تأثيم: أي ولا يفحشون فى القول كما هو ديدن الندامى فى الدنيا، فإنهم كثير واللغو فعالون للآثام، غلمان: أي مماليك مختصون بهم، مكنون: أي مصون فى أصدافه لم تنله الأيدى فهو يكون أبيض صافى اللون، والسموم: النار، والبر: الواسع الإحسان. المعنى الجملي بعد أن ذكر ما يتمتع به أهل الجنة من المطاعم والمشارب والأزواج كرما منه وفضلا- أردف ذلك ذكر ما زاده لهم من الفضل والإكرام، وهو أن يلحق بهم ذريتهم المؤمنة فى المنازل والدرجات، وإن لم تبلغ بهم أعمالهم ذلك، لتقرّبهم أعينهم إذا رأوهم فى منازلهم على أحسن الأحوال، فيرفع الناقص فى عمله إلى الكامل فيه، ولا ينقص من عمله هو ولا منزلته. قال ابن عباس: إن الله ليرفع ذرية المؤمن فى درجته وإن كانوا دونه فى المنزلة، لتقرّبهم عينه، وقرأ الآية، ثم وصف حالهم إذ ذاك فى الطعام والشراب والفاكهة، فأبان أنه ما من فاكهة أو طعام يطلبونه إلا وجدوه ثم أتبع هذا ببيان عظيم حبورهم وسرورهم، فإنهم يتجاذبون الكؤوس، ويتندّرون بأطيب الأحاديث التي لا لغو فيها ولا يأثم بها قائلها لو كان فى الدنيا، وتخدمهم مماليك غاية فى الحسن والجمال، ويتحدثون بما كان لهم من شؤون وأحوال فى الدنيا كما هو شأن ناعمى البال قريرى الأعين. ثم ذكر أن من أحاديثهم أنهم كانوا فى دنياهم يخشون ربهم ويخافونه، ومن ثمّ وقاهم عذاب النار.

الإيضاح

الإيضاح (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي إن المؤمنين إذا اتبعتهم ذريتهم فى الإيمان يلحقهم ربهم بآبائهم فى المنزلة فضلا منه وكرما وإن لم يبلغوا بأعمالهم منزلتهم، لتقرّبهم أعينهم، ويكمل بهم فرحهم وحبورهم، لوجودهم بينهم. روى ابن مردويه والطبراني عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال له إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: رب قد عملت لى ولهم فيؤمر بإلحاقهم به» . (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما أنقصنا مثوبات الآباء وحططنا درجاتهم بل رفعنا منزلة الأبناء تفضلا منا وإحسانا. وبعد أن أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل لهم، أخبر عن مقام العدل وهو ألا يؤاخذ أحد بذنب أحد فقال: (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي كل امرئ مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أبا أو ابنا، وقد جعل العمل كأنه دين والمرء كأنه رهن به، والرهن لا ينفك ما لم يؤدّ الدين، فإن كان العمل صالحا فقد أدى الدين، لأن العمل الصالح يقبله الله ويصعد إليه، وإن كان غير صالح فلا أداء ولا خلاص، إذ لا يصعد إليه غير الطيب. ونحو الآية قوله «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» أي إن كل نفس رهن بعملها عند الله لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطاعوه من عملهم وكسبهم. وبعد أن ذكر وجوه النعيم فيما سلف ذكر أنه يزيدهم على ذلك حينا فحينا مما يشتهون من قنون النعماء فقال:

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وزدناهم على ما سلف فواكه ولحوما من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى، وإن لم يقترحوا ولم يطلبوا. وذكر الفاكهة واللحم دون أنواع الطعام الأخرى، لأنهما طعام المترفين فى الدنيا. وبعد أن ذكر طعامهم أردفه ذكر شرابهم وسرورهم لدى احتسائهم له فقال: (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي يتجاذبون الكؤوس فى الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل الندامى فيما بينهم لشدة سرورهم كما قال الأخطل: نازعته طيّب الرّاح الشّمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري وليس فى الشراب فى الآخرة ما فيه فى الدنيا من اللغو بسبب زوال العقل، ومن الفحش فى القول، كما يتكلم به الشّرب فيها، وقد أخبر سبحانه فى موضع آخر عن حسن منظرها، وطيب مطعمها فقال «بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» وقال: «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» . ثم ذكر مالهم من خدم وحشم فى الجنة فقال: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي يطوف عليهم بالكؤوس مماليك لهم، يتصرفون فيهم بالأمر والنهى والاستخدام كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون فى الأصداف فى الحسن والبهاء. ونحو الآية قوله تعالى: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» . أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: «بلغني أنه قيل يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسى بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» . وروى «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادى الخادم من خدامه فيجىء ألف ببابه لبّيك لبّيك» .

ثم بين أنهم فى الجنة يتذاكر بعضهم مع بعض فى أحوال الدنيا فقال: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقبلوا يسأل بعضهم بعضا فى الجنة عن حاله وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة، ثم يحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهم وما كانوا فيه من الكدر والنكد لطلب المعاش وتحصيل الأرزاق وما وصلوا إليه، تلذذ بالنعمة واعترافا بها. أخرج البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا دخل أهل الجنة الجنة، اشتاقوا إلى الإخوان، فيجىء سرير هذا حتى يحاذى سرير هذا فيتحدثان فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدثان بما كانوا فى الدنيا فيقول أحدهما لصاحبه يا فلان أتدرى أىّ يوم غفر الله لنا؟ اليوم الذي كنا فى موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا» . ثم فصل ما يجيب به بعضهم بعضا فقال: (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي قالوا: إنا كنا فى دار الدنيا ونحن بين أهلها خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه، فتفضل علينا وأجارنا مما نخاف. والمقصود إثبات خوفهم فى سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى، فإن وجودهم بين أهليهم مظنّة الأمن، فإذا خافوا فى تلك الحال فلأن يخافوا فى غيرها بالأولى. روى أن عائشة قالت: «لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها» . ثم تمموا العلة فى استحقاقهم للكرامة فى تلك الدار بقولهم: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أي إنا كنا نعبده ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجاب دعاءنا وأعطانا سؤلنا، لأنه هو المحسن الواسع الرحمة والفضل.

[سورة الطور (52) : الآيات 29 إلى 34]

وكل من المؤمن والكافر لا ينسى ما كان له فى الدنيا، وتزداد لذة المؤمن إذا رأى نفسه قد انتقلت من سجن الدنيا إلى نعيم الجنة، ومن الضيق إلى السعة وتزداد آلام الكافر إذا رأى نفسه انتقل من الترف إلى التلف، ومن النعيم إلى الجحيم. [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) تفسير المفردات فذكر: أي فاثبت على ما أنت عليه من التذكير، والكاهن: من يخبر بالأخبار الماضية الخفية بضرب من الظن، والعرّاف: من يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك قاله الراغب، ونتربص: أي ننتظر، والمنون: الدهر، وريبه: حوادثه وصروفه قال أبو ذؤيب: أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع وقال آخر: تربّص بها ريب المنون لعلها ... تطلّق يوما أو يموت حليلها الأحلام: العقول، والطغيان: تجاوز الحد فى المكابرة والعناد، تقوّله: أي اختلقه من تلقاء نفسه، إذ التقول لا يستعمل غالبا إلا فى الكذب.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أن العذاب واقع بالكافرين لا محالة، وأن الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيون بأعمالهم، وأن الرسول على الحق المبين الذي من كذبه باء بغضب من الله، ومن صدّقه استحق رضوانه ومغفرة من لدنه- أمر رسوله هنا بالثبات على التذكر والموعظة، وعدم المبالاة بما يكيد به أولئك الكائدون، فإنه هو الغالب حجة وسيفا فى هذه الدار، ومنزلة ورفعة فى دار القرار ثم ذكر تناقض أقوالهم لينبه إلى فساد آرائهم، وإلى أنهم ما أعرضوا عن الحق إلا اتباعا للهوى لا اتباعا للدليل والبرهان، وفى ذلك تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم كما لا يخفى، إذ ما أبعد حال من كان أرجحهم عقلا، وأبينهم قولا، منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد، من الجنون والكهانة، إلى ما فى هذا من التناقض والاضطراب، فإن الكهان كانوا من الكملة وكان قولهم مقنعا، فأين هذا من الجنون، ثم ترقّوا فى نسبته إلى الكذاب، فقالوا إنه شاعر، وأعذب الشعر أكذبه، ثم قالوا فلنصبر عليه، ولنتربص به صروف الدهر وأحداثه، فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر، ثم أمره بتهديدهم بمثل صنيعهم بقوله: «قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» ثم زاد فى تسفيه أحلامهم بأن مصدر هذا التكذيب إما كتاب أنزل عليهم بذلك وإما أن عقولهم تأمرهم بما يقولون، لا بل الحق أنهم قوم طاغون يفترون ويقولون ما لا دليل عليه لا من كتاب ولا مقتضى له من عقل، ثم زادوا فى الإنكار ونسبوه إلى التقول والافتراء، فإن صح ما يقولون فليأتوا بمثل أقصر سورة من مثل هذا المفترى إن كانوا صادقين، لا بل هم قوم جاحدون لا يؤمنون فليقولوا ما تسوّله لهم أنفسهم فإن الله قد أعمى بصائرهم، فهم لا أحلام لهم تميز الحق من الباطل، والغث من السمين فامض لشأنك، ولا تأبه لمقالهم فالله معك، ولن يترك شيئا من أعمالك.

الإيضاح

الإيضاح (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) أي فذكّر أيها الرسول من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم، وعظهم بالآيات والذكر الحكم، ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل، وقد انتفت عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك، وهذا كما يقول القائل: ما أنا بمعسر بحمد الله وغناه، والمراد بذلك الرد على القائلين بذلك وإبطاله، فإن ما أوتيه من رجاحة العقل، وعلو الهمة وكرم الفعال، وصدق النبوة، لكاف جد الكفاية فى دحض هذا وأشباهه. وممن قال إنه كاهن شيبة بن ربيعة، وممن قال إنه مجنون عقبة بن أبى معيط. ثم ذكر أنهم ترقّوا فى الإنكار عليه فقال: (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي بل هم يقولون: هو شاعر نتربص به أحداث الدهر ونكباته من موت أو حادثة متلفة. روى أن قريشا اجتمعت فى دار الندوة وذهبت مذاهب شتى فى صدّ دعوته صلى الله عليه وسلّم ومقابلة هذا الخطر الداهم عليهم، وماذا يفعلون فى الخلاص منه، فقال قائل من بنى عبد الدار: تربصوا به ريب المنون، فإنه شاعر وسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى، ثم افترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية. وخلاصة هذا- إنا نبتعد من إيذائه، ونتقى لسانه، مخافة أن يغلبنا بقوة شعره، وإنما سبيلنا معه أن نصبر عليه ونتربص موته كما مات الشعراء من قبله. فأمره الله أن يهددهم ويتهكم بهم بقوله: (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي قل لهم: انتظروا وتمهّلوا فى ريب المنون، فإنى متربص معكم منتظر قضاء الله فىّ وفيكم، وستعلمون لمن يكون حسن العاقبة، والظفر فى الدنيا والآخرة. (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) أي بل أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض فى القول،

[سورة الطور (52) : الآيات 35 إلى 43]

فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون، وفرق عظيم بين من زال عقله، ومن يقول الشعر الحكيم الرصين، ومن يجعل قوله حجة فى معرفة أخبار الغيب، ويعتقد أن الجن توحى إليه بما يقول: وقصارى هذا: إنهم لا أحلام لهم ولا عقول: ثم ذكر السبب الحق فى كل ما يعملون فقال: (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي بل الحق أن الذي حملهم على أن يقولوا ما قالوا، هو طغيانهم وعنادهم وضلالهم عن الحق. (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي أيقولون كاهن أم يقولون شاعر أم يقولون إنه افترى القرآن واختلقه من تلقاء نفسه؟. (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن كفرهم هو الذي حملهم على هذه المطاعن وزين لهم أن أن يقولوا ما قالوا. ثم رد عليهم جميع ما زعموا وتحداهم فى دحض ما قالوا فقال: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي إن كان شاعرا فلديكم الشعراء الفصحاء، أو كاهنا فلديكم الكهان الأذكياء، وإن كان قد تقوله فلديكم الخطباء الذين يحبّرون الخطب، ويجيدون القول فى كل فنون الكلام، فهلمّ فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون، فإن أسباب القول متوافرة لديهم كما هى متوافرة لديه، بل فيهم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحفظ أيام العرب ووقائعها أكثر من محمد صلّى الله عليه وسلم. [سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

تفسير المفردات

تفسير المفردات من غير شىء: أي من غير خالق، خزائن ربك: أي خزائن رزقه، المسيطرون: أي القاهرون المسلطون عليها، من قولهم: سيطر على كذا. إذا راقبه وأقام عليه، سلّم: أي مرتقى إلى السماء، بسلطان مبين: أي بحجة واضحة تصدق استماعه، مغرم: أي التزام غرامة تطلبها منهم، مثقلون: أي محملون ثقلا، الغيب: أي علم الغيب، كيدا: أي شرا، المكيدون: أي الذين يحيق بهم الشر ويعود إليهم وباله. المعنى الجملي بعد أن أثبت رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وردّ عليهم ما زعموه من أنه كاهن أو شاعر أو مجنون، وأمره أن يمضى لطيّته ويذكّر الناس ويبشرهم وينذرهم ولا يأبه لمقالتهم، فالله ناصره عليهم- انتقل إلى الرد عليهم فى إنكارهم للخالق كما هو شأن الدهريين أو لادعائهم لله شريكا كما هو شأن كثير من العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وقالوا: ما نعبد الأوثان والأصنام إلا ليقربونا إلى الله زلفى. وبعد أن أقام عليهم الحجة فى كل ذلك، وسد عليهم المسالك، طلب إليه أن يتوكل عليه، وأن يعلم أن كيدهم لا يضيره شيئا، فالله ناصره عليهم، وسيظهر دينه، ويتمّ له الغلبة والفلج عليهم.

الإيضاح

الإيضاح (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي كيف ينكرون الخالق الموجد؟، فهل هم خلقوا هذا الخلق البديع الصنع من غير خالق ولا موجد؟ والعقل يشهد بأن كل ما يوجد من العدم لا بد له من موجد. (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي بل أهم أوجدوا أنفسهم؟ والضرورة والعقل يكذبان ذلك، إذ يلزم من هذا أن الشيء يكون مقدما فى الوجود على نفسه، فهم باعتبار أنهم خالقون مقدّمون على أنفسهم فى الوجود باعتبار أنهم مخلوقون، وهذا بيّن البطلان. (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي لو فرض أنهم خلقوا أنفسهم، فهل هم يجرءون ويقولون إنهم خلقوا هذه الأجرام العظيمة التي تتوقف عليها حياتهم، وفيها أسباب معاشهم وهى السموات والأرض؟ - أظن أنهم لا يدّعون ذلك. (بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي ليس واحد مما تقدم يمكن أن يدّعوه، بل حقيقة أمرهم أنهم لا يوقنون بما يقولون إذا سئلوا: من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ فقالوا الله، إذ لو أيقنوا بذلك ما أعرضوا عن عبادته. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي بل أهم يتصرفون فى الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن؟ فيعطوا النبوة لمن يشاءون، ويصطفوا لها من يختارون. (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي أم هم الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر العالم ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم، والمراد أنه ليس الأمر كذلك، بل الله هو المالك المتصرف الفعال لما يريد. روى البخاري عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فى المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» كاد قلبى يطير، وكان جبير بن مطعم

قد قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وقعة بدر فى فداء الأسارى، وكان إذ ذاك مشركا، فكان سماعه هذه الآية من جملة ما حمله على الدخول فى الإسلام بعد ذلك. (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي أم لهم مرتقى إلى السماء يستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب، فهم لذلك مستمسكون بما هم عليه، فإن كانوا يدّعون ذلك فليأتوا بحجة تبين أنهم على الحق، كما أتى محمد صلى الله عليه وسلّم بالبرهان الدالّ على صدق قوله فيما جاءهم به من عند ربه. وبعد أن رد على الذين أنكروا الألوهية بتاتا ردّ على من قالوا: الملائكة بنات الله، وسفه أحلامهم إذ اختاروا له البنات ولأنفسهم البنين فقال: (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي بل ألربكم البنات ولكم البنون؟ «تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» . وفى هذا إيماء إلى أن من كان هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت، وسماع كلام رب العزة والجبروت. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسأل هؤلاء المشركين الذين أرسلناك إليهم على ما تدعوهم إليه من توحيد الله وطاعته- أجرا تأخذه من أموالهم فهم من ثقل ما حملتهم من المغرم لا يقدرون على إجابتك إلى ما تدعوهم إليه؟. (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟) أي أم عندهم علم فهم يكتبون ذلك للناس، فينبئونهم بما شاءوا ويخبرونهم بما أرادوا- ليس الأمر كذلك، إذ لا يعلم غيب السموات والأرض إلا الله. قال قتادة: وهذا جواب لقولهم: نتربص به ريب المنون، فيقول الله: أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يموت قبلهم. (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي بل يريد هؤلاء المشركون

[سورة الطور (52) : الآيات 44 إلى 49]

بقولهم هذا فى الرسول وفى الدين غرور الناس وكيد الرسول، فإن كان هذا ما يريدون فكيدهم راجع إليهم ووباله على أنفسهم، فثق بالله وامض لما أمرك به. قال فى فتح البيان: والظاهر أنه من الإخبار بالغيب، فإن السورة مكية، وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة، ثم أهلكهم الله تعالى ببدر عند انتهاء سنين عدتها عدة ما هنا من كلمة (أم) وهى خمس عشرة، فإن بدرا كانت فى الثانية من الهجرة وهى الخامسة عشرة من النبوة، وأذلهم فى غير موطن، ومكر سبحانه بهم (وَمَكَرُوا، وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) اه. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي بل ألهم إله غير الله يعينهم ويحرسهم من عذاب الله؟ تنزه ربنا عن الشريك وعما يعبدونه سواه. وفى هذا إنكار شديد على المشركين فى عبادتهم للأصنام والأنداد مع الله تعالى. [سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49] وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) تفسير المفردات كسفا: أي قطعة، مركوم: أي متراكم ملقى بعضه على بعض، يصعقون: أي يقتلون، دون ذلك: أي قبله، وهو ما أصابهم من القحط سبع سنين، بأعيننا: أي

المعنى الجملي

فى حفظنا وحراستنا، وإدبار النجوم: أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح. المعنى الجملي بعد أن ذكر مزاعمهم فى النبوة وبيّن فسادها بما لم يبق بعده وجه للعناد والمكابرة ثم أعقبه بالرد عليهم فى جحودهم للألوهية إما بإنكارها بتاتا، وإما بادعاء الشريك لله، أو باتخاذه الولد، سبحانه وتعالى عما يصفون- أردف هذا بيان أن هؤلاء قوم بلغوا حدا فى العناد أصبحوا به يكابرون فى المحسات فضلا عن المعقولات، فدعهم وشأنهم حتى يأتى اليوم الذي لا مرد له، يوم لا تنفعهم حبائلهم وشراكهم التي كانوا ينصبون مثلها فى الدنيا، ولا يجدون لهم إذ ذاك وليّا ولا نصيرا، وأن الله سيصيبهم بعذاب من عنده فى الدنيا قبل ذلك اليوم، وأنه ناصرك عليهم وكالئك بعين رعايته، واذكر ربك حين تقوم من منامك، ومن مجلسك، وحين تغيب النجوم، ويصبح الصباح، وتغرّد الأطيار مسبّحة منزهة خالق السموات والأرض، قائلة: سبّوح قدّوس، ربّ الملائكة والرّوح. الإيضاح (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي إن هؤلاء قوم ديدنهم العناد والمكابرة، فلو رأوا بعض ما سألوا من الآيات، فعاينوا كسفا من السماء ساقطا- لكذبوا وقالوا: سحاب بعضه فوق بعض، لأن الله قد ختم على قلوبهم، وأعمى أبصارهم، فأصبحوا ينكرون ما تبصره الأعين، وتسمعه الآذان. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» .

ثم أمر سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يتركهم وشأنهم فقال: (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي فدعهم وشأنهم، ولا تكترث بهم حتى يأتى اليوم الذي يجازون فيه بسيئات أعمالهم وهو يوم بدر، قاله البقاعي وهو الظاهر فى الآية. (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي وفى هذا اليوم لا تنفعهم الحيل التي دبروها لمناصبته صلّى الله عليه وسلّم العداء، ولا يجدون لهم نصيرا ولا معينا يدفع عنهم ما يحيق بهم من العذاب. (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي وإن لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي عذابا بالقحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر لأنه كان فى السنة الثانية للهجرة والقحط وقع لهم قبلها. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما سيصيرون إليه من عذاب الله، وما أعده لهم فى الدنيا والآخرة، وإنا سنبتليهم بالمصائب، لعلهم يرجعون وينيبون إلينا. ونحو الآية قوله: «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» . (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي واصبر على أذاهم ولا تبال بهم، وامض لأمر الله ونهيه، وبلّغ ما أرسلت به، فإنك بمرأى منا نراك ونرى أعمالك، ونحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك منهم أذى. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أي ونزّه ربك عما لا يليق به لإنعامه عليك، واعبده بالتلاوة والصلاة حين تقوم من مجلسك، قال عطاء وسعيد وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول: سبحان الله وبحمده أو سبحانك اللهم وبحمدك عند قيامه من كل مجلس يجلسه. وعن أبى برزة الأسلمى قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بآخر عمره إذا قام

خلاصة ما حوته السورة الكريمة

من المجلس يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقال رجل يا رسول الله: إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى، قال كفارة لما يكون فى المجلس» أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه وابن أبى شيبة. وروى «أن جبريل علّم النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» . (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي وسبحه فى صلاة الليل لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد من الرياء، وحين إدبار الليل بظهور ضوء الصبح، وقيل المراد من التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء، ومن إدبار النجوم ركعتا الفجر. وقد روى ذلك عن عمر وعلىّ وأبى هريرة والحسن رضى الله عنهم أجمعين. ونحو الآية قوله: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» . خلاصة ما حوته السورة الكريمة من العظات والزواجر (1) القسم بالعالم العلوي والسفلى أن العذاب آت لا محالة. (2) وصف عذاب النار وما يلاقيه المكذبون حينئذ من الذلة والمهانة. (3) وصف نعيم أهل الجنة وما يتمتعون به من اللذات فى مساكنهم ومطاعمهم ومشاربهم وأزواجهم وخدمهم وحشمهم. (4) أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالثبات على تبليغ الرسالة والإعراض عن سفاهتهم من نحو قولهم: هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، هو مفتر. (5) إثبات الألوهية بالبراهين التي لا تقبل جدلا.

(6) النعي على المشركين فى قولهم: الملائكة بنات الله. (7) بيان أنهم بلغوا فى عنادهم حدا ينكرون معه المحسوسات التي لا شك فيها. (8) أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يتركهم وشأنهم حتى يأتى اليوم الذي كانوا يوعدون. (9) الإخبار بأن الظالمين فى كل أمة وكل جيل يعذبون فى الدنيا قبل عذابهم فى الآخرة. (10) الإخبار بأن الله حارس نبيّه وكالئه، فلا يصل إليه أذى من خلقه كما قال سبحانه: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» . (11) أمره صلّى الله عليه وسلّم بالذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار، وفى كل موطن ومجلس يقوم فيه.

سورة النجم

سورة النجم هى مكية إلا آية 32 فمدنية، نزلت بعد سورة الإخلاص، وآيها ثنتان وستون. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) إن السورة قبلها ختمت بقوله: وإدبار النجوم، وبدئت هذه بقوله: والنجم إذا هوى. (2) إن السورة قبلها ذكر فيها تقوّل القرآن وافتراؤه، وذكر هذا فى مفتتح هذه السورة. (3) إنه ذكر فى التي قبلها أن ذرية المؤمنين تبع لآبائهم، وفى هذه ذكر ذرية اليهود فى قوله: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» . (4) إنه قال هناك فى المؤمنين: «أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» وقال هنا فى الكفار «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» . وهى كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلّى الله عليه وسلّم قراءتها، فقرأها فى الحرم والمشركون يسمعون، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي «أن أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) فسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف» . [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المراد بالنجم: جنس النجوم إذا غربت أو صعدت، يقال هوى النجم هويّا (بالفتح) أي سقط وغرب، وهويا: (بالضم) إذا علا وصعد، ما ضلّ: أي ما حاد عن الطريق المستقيم، صاحبكم: أي مصاحبكم، والتعبير عنه صلّى الله عليه وسلم بعنوان المصاحبة لهم إيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم خبرا ببراءته مما نسب إليه، وباتصافه بالهدى والرشاد، فإن طول صحبتهم له، ومشاهدتهم لشئونه العظيمة تقتضى ذلك، ففى هذا تأكيد لإقامة الحجة عليهم، وما غوى: أي وما اعتقد باطلا، والخطاب فى هذا لقريش، وما ينطق عن الهوى: أي ما يتكلم بالباطل، والمراد بشديد القوى جبريل عليه السّلام، ذو مرة: أي ذو حصافة عقل وقوة عارضة، قال قطرب: العرب تقول لكل من هو جزل الرأى حصيف العقل: هو ذو مرة. من قولهم أمررت الحبل: أي أحكمت فتله، فاستوى: أي فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها عند حراء فى مبادى النبوة، وهو بالأفق الأعلى: أي بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، ثم دنا: أي ثم قرب، فتدلى: أي فنزل من قولهم تدلت الثمرة،

المعنى الجملي

ومنه الدوالي وهى الثمر المعلق كعناقيد العنب، والقاب مقدار ما بين المقبض والسّية، ولكل قوس قابان، والعرب تقدر الأطوال بالقوس والرمح وبالذراع والباع والخطوة والشبر والإصبع، أو أدنى: أي أقرب من ذلك، والمراد بالفؤاد فؤاد محمد صلّى الله عليه وسلم، ما رأى أي ما رآه ببصره، أفتمارونه على ما يرى: أي أفتجادلونه على ما يراه معاينة، نزلة أخرى: أي مرة أخرى، سدرة المنتهى: هى شجرة نبق قالوا إنها فى السماء السابعة عن يمين العرش، جنة المأوى: أي الجنة التي يأوى إليها المتقون يوم القيامة، يغشى: يغطى، ما زاغ البصر: أي ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومسكّن منها وما مال يمينا ولا شمالا، وما طغى: أي ما جاوز ما أمر به، آيات ربه الكبرى: أي عجائبه الملكية والملكوتية فى ليلة المعراج. المعنى الجملي أقسم ربنا بخلق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتها إلا هو، وهى نجوم السماء التي تهدى الساري فى الفلوات، وترشده إلى البعيد من المسافات- إن محمدا صاحبكم نبىّ حقا، وما ضلّ عن طريق الرشاد، ولا اتبع الباطل، ولا يتكلم إلا بوحي يوحيه الله إليه، ويعلمه إياه جبريل شديد القوى، ولقد رآه مرتين على صورته التي خلقه الله عليها بأجنحته وأوصافه الملكية: مرة بغار حراء فى بدء النبوة، وأخرى ليلة المعراج حين عرج به إلى السماء، ورأى من عجائب صنع الله ما رأى، مما استطاع أن يخبركم به، ومما لم يستطع ذلك، فكيف بكم تجادلونه فيما أخبركم به، وتقولون طورا: إنه مجنون، وطورا آخر إنه كاهن، وطورا ثالثا إنه شاعر، وما كل هذا بالذي ينطبق على أوصافه، وهو صاحبكم وأنتم أعلم بحاله، فحق عليكم أن تسمعوا قوله، وأن تطيعوا أمره، فتفوزوا رضوان من ربه.

الإيضاح

الإيضاح (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) أي قسما بمخلوقاتى العظيمة وهى النجوم التي تسير فى مداراتها، ولا تعدو أفلاكها، والتي تهتدون بها فى الفيافي والقفار، فى حلكم وترحالكم، فى سفركم وحضركم، وفى البحار، ولها لديكم منزلة عظمى فى حياتكم المعيشية- إن محمدا نبى حقا، وما حاد عن سبيل الحق، ولا سلك سبيل الباطل. وقد خاطب سبحانه بهذا القسم العرب الذين يعرفون ما للنجوم من جزيل الفضل عليهم، فى تعيين المواسم والفصول، ليستعدوا للنّجعة، ويرتادوا الكلأ بعد سقوط المطر، ويزرعوا ما يتسنى لهم أن يزرعوه، وهم يتيامنون ببعضها ويتشاءمون ببعض آخر. إلى أن القسم بها ينبهنا إلى أن هناك عوالم وأجراما علويّة يجب علينا أن نتعرّف أمرها، لنستدل بها على عظيم قدرة مبدعها وبديع صنعه. ولقد أثبت العلم حديثا ما يدعو إلى العجب من أحوال هذه الأجرام، وسرعة سيرها، وكبير حجمها، فقد علم أن سير نور الكوكب 300 ألف كيلوم فى الثانية، ومثله سير الأمواج اللاسلكية، وكلاهما يجرى حول الأرض فى سبع ثانية مرة واحدة، ويجرى حول الكون كله فى نحو مائة مليون سنه، فنسبة محيط الكرة الأرضية إلى محيط ما عرف من الكون كنسبة سبع ثانية إلى مائة مليون سنة. والنظام الشمسى يشتمل على الشمس وتسعة سيارات تدور حول أكثرها أقمار، وهذه الشمس وعالمها جزء من عالم المجرّة، والمجرّة فيها نجوم تبلغ نحو 30 ألف مليون نجم كلهن شموس كشمسنا أو أكبر أو أصغر. ويقدرون عمر الشمس بنحو خمسة ملايين مليون سنة، وعمر الأرض بنحو ألفى مليون سنة، وعمر المياه عليها بنحو 300 مليون سنة، وعمر الإنسان بنحو 300 ألف سنة.

وإن شمسنا التي تزيد على أرضنا ألف ألف مرة وثلاثمائة ألف مرة هى كوكب له توابع وسيارات، وهذا الكواكب وتوابعه واحد من ثلاثين ألف مليون شمس، وهذه كلها تكوّن مجرتنا، وهذه المجرة لها نظائر، فسبحان الخلاق العليم الذي لا يعلم جنوده إلا هو. والخلاصة- إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم راشد مرشد تابع للحق، ليس بضالّ ولا هو بسالك للطريق بغير علم، ولا هو بغاو يعدل عن الحق قصدا إلى غيره، وبهذا نزه الله رسوله وشرعه عن مشايعة أهل الضلال من اليهود والنصارى الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، فهو فى غاية الاستقامة والاعتدال والسّداد. ثم بين السبب فى عدم ضلاله وغوايته فقال: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي كيف يضل ويغوى، وهو لا ينطق عن الهوى، وإنما يضل من كان كذلك، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» . ثم أكد هذا بقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي إنما يقول ما أمر أن يبلغه إلى الناس كاملا موفورا بلا زيادة ولا نقصان. روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: «كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أريد حفظه، فنهتنى قريش فقالوا: إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورسول الله بشر يتكلم فى الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: اكتب فو الذي نفسى بيده ما خرج منى إلا الحق» . وعن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا أقول إلا حقا» قال بعض أصحابه فإنك تداعبنا يا رسول الله، قال: «إنى لا أقول إلا حقا» . ويرى بعض المفسرين أن قوله: ما ضل صاحبكم- ردّ لقولهم: إنه مجنون،

وقوله: وما غوى- ردّ لقولهم إنه شاعر: أي ليس بينه وبين الغواية تعلق وارتباط، وقوله: والشعراء يتبعهم الغاوون، وقوله: وما ينطق عن الهوى- ردّ لقولهم كاهن، وقوله: إن هو إلا وحي يوحى تأكيد لما تقدم، أي فلا هو بقول كاهن، ولا هو بقول شاعر. (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) أي علّم صاحبكم جبريل عليه السّلام وهو شديد القوى العلمية والعملية، فيعلم ويعمل، ولا شك أن مدح المعلّم مدح للمتعلم. وفى هذا رد عليهم فى قولهم: إن هو إلا أساطير الأولين، سمعها وقت سفره إلى الشام. والخلاصة- إنه لم يعلمه أحد من الناس، بل علمه شديد القوى، والإنسان خلق ضعيفا لم يؤت من العلم إلا قليلا- إلى أنه موثوق بقوله، لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل، وكذلك هو موثوق بحفظه وأمانته، فلا ينسى ولا يحرّف. (ذُو مِرَّةٍ) أي ذو حصافة فى العقل، فالوصف الأول إشارة إلى قوة الفعل، وهذا وصف بقوة النظر وظهور الآثار البديعة منه. والخلاصة- إنه يجمع بين القوى النظرية والقوى الجسمية كما روى أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحيه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود فأصبحوا جاثمين. وإنا لنؤمن بهذا على أنه من عالم الغيب ونكتفى بما جاء فى كتابه تعالى ولا نزيد عليه. وإن علماء الأرواح فى أوروبا الآن أصبحوا يؤمنون بقوى عالم الروح وبما لها من خوارق العادات بالنظر إلى عالمنا. قال أوليفر لودج: إنى أصبحت موقنا بأنا محوطون بعالم نحن بالنسبة إليه كالنمل بالنسبة لنا، وهم يساعدوننا ويحافظون علينا، ثم قال: وقفت على هذا بطريق علمى (يريد تحضير الأرواح) ثم قال: فإذا ما قال القدّيسون إنهم رأوا الملائكة أو أنهم رأوا الله، فكل ذلك حق لا مرية فيه اه.

هذا ولا شك من عجائب القرآن، فإن ما جاء فيه مما يتعلق بعالم الأرواح أصبح علوما تدرس وتذاع بين الناس باعتبارها علوما روحية وكشفا حديثا، صدق ربنا «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» . فالقوى الجسمية والعقلية للعالم الروحي ظهرت بطريق استحضار الأرواح والتنويم المغناطيسى، إذ فيه انخلاع للنفس عن البدن انخلاعا جزئيا أو كليا وهى مربوطة به ولها اتصال بالعوالم الروحية. (فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي فاستقام جبريل على صورته التي خلقه الله عليها حين أحب رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يراه كذلك، فظهر له فى الأفق الأعلى وهو أفق الشمس، فملأه ثم أخذ يدنو من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتدلى: أي يزيد فى القرب والنزول حتى كان منه مقدار قوسين أو أقرب على تقديركم وعلى مقدار فهمكم، فأوحى إلى عبده ورسوله ما شاء أن يوحيه إليه من شئون الدين. ولا غرو فإن ظهور الأرواح فى صورة مرئية أصبح الآن معروفا، وقد قص علماء الروح عجائب وغرائب وأصبح فى طوقهم أن يظهروا الروح فى صور بشرية وصور نورية وتخاطبهم حين التنويم المغناطيسى، وإذا صح ذلك للعلة فليكن ذلك للقدّيسين والأنبياء بالأولى بطريق يشاكل مقامهم، ولا تتجلى الأرواح إلا بالمناسبة بين المتجلّى والمتجلّى عليه، وظهوره فى صورة مرئية يرجع إلى قوته وشدته، وقوله: فأوحى إلى عبده ما أوحى، يرجع إلى قوته العلمية. ولما كان الإنسان كثيرا ما يظن أنه قد تخيل ما رآه ويكذب قلبه ما ظهر له، حتى قال علماء الأرواح: إنهم لما خاطبوا الأرواح قالت لهم، إنكم كثيرا ما يظهر لكم عجائب روحية فتظنونها من الوهم وتنسبونها إلى خداع الحواس- أعقب سبحانه هذا بما يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يقم بنفسه أن هذا تخيل ولا أنه وهم فقال:

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي ما كذب فؤاده ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السّلام: أي إن فؤاده صلّى الله عليه وسلّم ما قال لما رآه ببصره لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره. والخلاصة- إنه لما قال: إن هو إلا وحي يوحى أكد هذا المعنى وفصله بقوله: علّمه شديد القوى، ليبين أنه ليس من الشعر ولا من الكهانة فى شىء، ولما قال: فاستوى وذكر قيامه بصورته الحقيقية أكد أن مجيئه بصورة دحية الكلبي لا يعمّى وصفه، إذ قد عرفه بشكله الحقيقي من قبل، فلا يشتبه عليه، وقوله: ثم دنا فتدلى تتميم لحديث نزوله عليه السّلام وإتيانه بالمنزّل، وقوله: ما كذب الفؤاد ما رأى، بين به أنه لما عرفه وحققه لم يكذّبه فؤاده بعد ذلك فى أنه جبريل، ولو تصور بغير تلك الصورة. (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى؟) أي أفتكذبونه وتجادلونه فيما رآه بعينه من صورة جبريل عليه السّلام له. (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي ولقد رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم جبريل فى صورته التي خلقه الله عليها عند شجرة النبق التي ينتهى إليها علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله قاله ابن عباس. وقد يكون المراد بالمنتهى الله عز وجل أي سدرة الله الذي إليه المنتهى كما قال سبحانه «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» وعند هذه السدرة الجنة التي يأوى إليها المتقون يوم القيامة قاله الحسن البصري. وعلينا أن نؤمن بهذه الشجرة كما وصفها الله، ولا نعين مكانها ولا نصفها بأوصاف أكثر مما وصفها به الكتاب الكريم، إلا إذا ورد عن المعصوم صلّى الله عليه وسلم ما يبين ذلك ويثبت لدينا بالتواتر، لأن ذلك من علم الغيب الذي لم يؤذن لنا بعلمه.

روى أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم أنها فى السماء السابعة، نبتها كقلال هجر، وأوراقها مثل آذان الفيلة، يسير الراكب فى ظلها سبعين خريفا لا يقطعها. والمشاهد فى الدنيا أن النبات يعيش إذا وجد التراب والماء والهواء، ولكن لاعجب فالله يخلقه فى أي مكان شاء، كما أخبر عن شجرة الزقوم أنها تنبت فى أصل الجحيم. وقصارى ما سلف- إن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل فى صورته الحقيقية مرتين: مرة وهو فى غار حراء فى بدء النبوة، والثانية فى ليلة المعراج ولم يكن ذلك فى الأرض بل كان عند شجرة نبق عن يمين العرش وهى فى منتهى الجنة: أي آخرها، وعلم الملائكة ينتهى إليها. وقد تقدم أن الصحيح أن الصعود إلى الملإ الأعلى كان روحيا لا جسمانيا كما روى عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم. (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) أي رآه حين غطى السدرة ما غطاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله، ومن الإشراق والحسن، ومن الملائكة وقد أبهم ذلك الكتاب الكريم، فعلينا أن نكتفى بهذا الإبهام ولا نزيده إيضاحا بلا دليل قاطع، ولا حجة بينة، ولو علم الله الخير لنا فى البيان لفعل. (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) أي ما مال بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكّن منها، وما جاوزها إلى رؤية ما لم يؤمر برؤيته. والخلاصة- إنه رأى رؤية المستيقن المحقق لما رأى. (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي ولقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه وعجائبه الملكوتية. روى البخاري وابن جرير وابن المنذر فى جماعة آخرين عن ابن مسعود أنه قال

[سورة النجم (53) : الآيات 19 إلى 26]

فى الآية: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق، وعن ابن زيد أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها. وعلينا ألا نحصر ما رآه فى شىء بعينه بعد أن أبهمه القرآن، إذ هو قد رأى من الآيات الكبرى ما يجل عنه الحصر والاستقصاء. [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 26] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) تفسير المفردات اللات والعزى ومناة: أصنام كانت تعبدها العرب فى جاهليتها، فاللات كانت لثقيف. وأصل ذلك أن رجلا كان يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه ثم صنعوا له صورة وعبدوها، والعزى: شجرة بغطفان كانوا يعبدونها، وبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد الإسلام خالد بن الوليد ليقطعها، فجعل يضربها بفأسه ويقول: يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إنى رأيت الله قد أهانك ومناة: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وكانت دماء النسائك تمنى عندها: أي تراق، والأخرى: أي المتأخرة الوضيعة القدر كما جاء فى قوله: «قالَتْ أُخْراهُمْ

المعنى الجملي

لِأُولاهُمْ» أي وقال وضعاؤهم لأشرافهم ورؤسائهم، وقد جاء لفظ (الأخرى) بهذا المعنى بين المصريين فيقول: هو الآخر وهى الأخرى، يريدون الضعة وتأخر القدر والشرف، ضيزى: من ضزته حقه (بالضم والكسر) أي نقصته، والمراد أنها قسمة جائرة غير عادلة، قال امرؤ القيس: ضازت بنو أسد بحكمهم ... إذ يجعلون الرأس كالذنب المعنى الجملي بعد أن بين ما رآه محمد صلّى الله عليه وسلّم من العجائب ليلة المعراج- قال للمشركين ماذا رأيتم فى هذه الأصنام؟ وكيف تحصرون أنفسكم فى العالم المادي وأصنامه، وتقطعون على أنفسكم طريق التقدم والارتقاء، وإن النفس لا ترقى إلا بما استعدت له، فإذا وقفت النفوس عند هذه المادة وتلك الأصنام لم يكن لها عروج إلى السماء، ولا سيما أن هذه الأصنام لا تشفع لهم عند ربهم ولا تجديهم نفعا. الإيضاح (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟) أي أفبعد أن سمعتم ما سمعتم من آثار كمال الله عز وجل وعظمته فى ملكه وملكوته، وجلاله وجبروته، وأحكام قدرته ونفاذ أمره، وأن الملائكة على رفعة مقامهم وعلوّ قدرهم ينتهون إلى السدرة ويقفون عندها- تجعلون هذه الأصنام على حقارة شأنها شركاء لله مع ما علمتم من عظمته. وفى هذا تقريع شديد، وتوبيخ عظيم، وتأنيب لا إلى غاية، وإن عاقلا لا ينبغى أن يخطر بباله مثل هذا، ويمتهن رأيه إلى هذا الحد. روى أن أبا سفيان قال يوم أحد: لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.

وبعد أن أنّبهم على سخف عقولهم، وسفاهة أحلامهم، بعبادتهم الأصنام التي كانوا يزعمون أنها هياكل للملائكة، والملائكة بنات الله- وبخهم على نسبة البنات إليه سبحانه وهم لا يرضونها لأنفسهم فقال: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟) أي أتجعلون له ولدا وتجعلون هذا الولد أنثى؟ وتختارون لأنفسكم الذكران، على علم منكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون، والله كامل العظمة، فكيف تنسبون إليه الناقص، وأنتم على نقصكم تنسبون إلى أنفسكم الكامل. (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي تلك قسمة جائرة غير مستوية، ناقصة غير تامة، لأنكم جعلتم لربكم ما تكرهونه لأنفسكم، وآثرتم أنفسكم بما ترضون لها. ثم أنكر عليهم ما ابتدعوه من الكذب والافتراء فى عبادة الأصنام وتسميتها آلهة فقال: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي إن هذه الأصنام التي تسمونها آلهة- هى أسماء فحسب وليس لها مسميات هى آلهة البتة، كما تزعمون وتعتقدون أنها تستحق أن يعكف على عبادتها وتقديم القرابين إليها، وليس لكم من حجة ولا برهان تؤيدون به ما تقولون، وإنما قلّد فيها الآخر الأول، وتبع فى ذلك الأبناء الآباء. ولا يخفى ما فى ذلك من التحقير، كما تقول: ما هو إلا اسم إذا لم يكن مشتملا على صفة معتبرة لها شأن وقدر. ونحو الآية قوله تعالى «ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً» الآية. ثم أكد ما سلف بقوله: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظوظ نفوسهم فى رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين.

والخلاصة- إنكم تعبدون هذه الأصنام توهما منكم أن ما عليه آباؤكم حق، وإشباعا لشهوات أنفسكم. ثم بين أنه ما كان ينبغى لهم ذلك، لأنه قد جاءهم ما ينبههم إلى سوء رأيهم وعظيم غفلتهم فقال: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي هم يتبعون ما كان عليه أسلافهم وينقادون إلى آرائهم، وقد أرسل الله إليهم الرسول بالحق المنير، والحجة الواضحة، وقد كان ينبغى أن يكون لهم فى ذلك مزدجر، لكنهم أعرضوا عنه وتولوا «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» . وبعد أن بين أن جعلهم الأصنام شركاء لله لا يستند إلى دليل، بل لا يستند إلا إلى التشهي والهوى واتباع الظن- ذكر أنها مع هذا لا تجديهم نفعا، فهى لا تشفع لهم عند الله، ولا يظفرون منها بجدوى فقال: (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي بل ألهم ما يتمنونه من شفاعة الآلهة يوم القيامة كلا إن هذا لن يكون، ولن يجديكم ذلك فتيلا ولا قطميرا، فإن كل ما فى الدنيا والآخرة فهو ملك له تعالى، ولا دخل لهذه الأصنام فى شىء منه. وهذا تيئيس لهم من أن ينالوا خيرا من عبادتها والتقرب إليها، ولا تكون وسيلة لهم عند ربهم. ثم حرمهم فائدة عبادتها من وجه آخر فقال: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) أي وكثير من الملائكة لا تفيد شفاعتهم شيئا إلا إذا أذن بها ربهم لمن يشاء ويرضى عنهم ممن أخلصوا له فى القول والعمل، وإذا كان هذا حال الملائكة وهم عالم روحى لهم القرب من ربهم والزلفى لديه، فما بالكم بأصنام أرضية ميتة لا روح فيها ولا حياة، فهى بعيدة كل البعد عن الذات الأقدس.

[سورة النجم (53) : الآيات 27 إلى 30]

وخلاصة ذلك- إنه لا مطمع لهم فى شفاعة هذه الأصنام، ولا تجديهم نفعا فى هذا اليوم. [سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 30] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) المعنى الجملي بعد أن عاب عليهم عبادتهم للأصنام والأوثان، وادعاءهم أن لله ولدا من الملائكة، ورد عليهم بأن هذه الأصنام التي جعلوها آلهة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، فما هى إلا أسماء ليس لها مسميات هى آلهة كما تدّعون، فلا هى تشفع لهم، ولا تجديهم فتيلا ولا قطميرا، فإن الملائكة الكرام لا يشفعون عند ربهم إلا إذا أذن لهم، ورضى عمن يشفعون له، فأجدر بمثل هؤلاء ألا يستطيعوا شفاعة عنده. عاد فعاب عليهم هنة أخرى، وهى تسميتهم الملائكة بنات الله، وأبان لهم أن هذه مقالة شنعاء لا تصدر إلا عمن لا يؤمن بالآخرة والحساب والعقاب، فمن أين أتاهم أن لله أولادا هن ملائكته؟ والولد إنما يطلب للمساعدة وقت الحاجة، ولحسن الأحدوثة، ولحفظ الصيت، والله غنى عن كل ذلك، ولو صح ما يقولون، فلم اختاروا له البنات دون البنين؟ أفلا يساوونه بأنفسهم ويجعلون له ولدا من الذكور لا من الإناث؟ فما هذا منهم إلا أباطيل لا تغنى عن الحق شيئا، وعليك أيها الرسول أن تعرض عن هؤلاء

الإيضاح

الذين لا همّ لهم إلا جمع حطام الدنيا، والتمتع بزخرفها، وإن ربك هو العليم بحالهم، وما تخفى صدورهم، وسيحاسبهم على النقير والقطمير، ويجازيهم بما يقولون ويعتقدون جزاء وفاقا. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) أي إن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث وما بعده من أحوال الدار الآخرة على الوجه الذي بيّنته الرسل يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء وجهالة جهلاء وهى قولهم: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإنما جعلها مقالة من لا يؤمن، للاشارة إلى أنها بلغت من الفظاعة حدا لا يمكن معه أن تصدر من موقن بالجزاء والحساب، فقد اشتملت على جريمتين أولاهما نسبة الولد إلى الله، ثانيتهما أن الولد أنثى تفضيلا لأنفسهم على بارئهم وموجدهم من العدم. (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي وليس لهم بذلك برهان، ولا أتى لهم به وحي حتى يقولوا ما قالوا. ثم أكد نفى علمهم الحق بذلك فقال: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي إن معرفة الشيء معرفة حقيقية يجب أن تكون عن يقين لا عن ظن وتوهم، وأنتم لا تتبعون فيما تقولون فى هذه التسمية إلا الظن والتوهم، وليس هذا من سبيل العلم فى شىء، وقد جاء فى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» . ونحو الآية قوله تعالى: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ» .

والخلاصة- إن مثل هذا الاعتقاد إما أن يكون عن دليل عقلى والعقل لا يركن إليه فى مثل هذا، وإما عن وحي ولم يصل إليهم شىء منه يخبرهم بما يقولون. ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم فقال: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي فأعرض عن مثل هؤلاء الذين أعرضوا عن كتابنا ولم يأخذوا بما فيه مما يوصل إلى سعادتهم فى المعاش والمعاد من المعتقدات الحقة وقصص الأولين المذكّرة بأمور الآخرة وما فيها من نعيم مقيم أو عذاب أليم، واقتصروا على شئون الدنيا ورضوا بزخرفها وجدّوا فى بلوغ أسمى المراتب فيها كما فعل النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة وأضرابهما. والخلاصة- لا تبالغ فى الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك فى أمور الدنيا، وجعلها منتهى همته، وأقصى أمنيته، وقصارى سعيه، فلا سبيل إلى إيمان مثله، فلا تبخع نفسك على مثله أسفا وحزنا كما قال: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» . ثم أكد ما مضى من أن همتهم مقصورة على الحياة الدنيا بقوله: (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي إن منتهى علمهم أن يتفهموا شئون الحياة الدنيا، ويتمتعوا باللذات، ويتصرفوا فى التجارات، ليحصلوا على ما يكون لهم فيها من بسطة فى المال، وسعة فى الرزق، ويكونوا ممن يشار إليهم بالبنان، وما به يذكرون لدى الناس، ولا يعنون بما وراء ذلك، فشئون الآخرة دبر أذنهم، ووراء ظهورهم، لا يعرفون منها قبيلا من دبير. روى أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» وفى الدعاء المأثور «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا» .

[سورة النجم (53) : الآيات 31 إلى 32]

ثم ذكر السبب فى الأمر بالإعراض عنهم فقال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي إن ربك هو العليم بمن واصل ليله بنهاره، وصباحه بمسائه، مفكرا فى آياته فى الكون، وفيما جاء على ألسنة رسله، حتى اهتدى إلى الحق الذي ينجيه فى آخرته، ويبلغه رضوان ربه، ويبلغه سعادة الدنيا بالسير على السنن التي وضعها فى خليقته، فاحتذى حذوها، وسار على إثرها- وبمن حاد عن طريق النجاة وجعل إلهه هواه وركب رأسه، فلم يلو على شىء مما جاء به الداعي الناصح الأمين، وإنه لمجاز كلّا بما كسب واكتسب، وسيجزيه على الجليل والحقير، والصغير والكبير، بحسب ما أحاط به واسع علمه، وبمقدار فضله على من أخبت إليه كما قال: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» ونكاله بمن دسّى نفسه واجترح السيئات، مصداقا لقوله: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» . والخلاصة- إن هؤلاء قوم لا تجدى فيهم الذكرى، ولا تؤثر فيهم العظة، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. [سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)

تفسير المفردات

تفسير المفردات بما عملوا: أي بالعقاب على عملهم، بالحسنى: أي بالمثوبة الحسنى وهى الجنة، كبائر الإثم: ما يكبر عقابه كالزنا وشرب الخمر، والفواحش: واحدها فاحشة وهى ما عظم قبحها من الكبائر، واللمم: ما صغر من الذنوب كالنظرة والقبلة، وهو فى اللغة اسم لما قلّ قدره ومنه لمّة الشعر، وقيل اللمم: الدنو من الشيء دون ارتكابه من قولهم ألممت بكذا: أي قاربت منه، وعليه فالمراد به الهمّ بالذنب وحديث النفس دون حدوث فعل، ومن ثم قال سعيد بن المسيّب: هو ما خطر على القلب، والأجنة: واحدها جنين، وهو الولد ما دام فى البطن. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه رسوله بالإعراض عن المشركين مع شدة ميله إلى إيمانهم، وتطلعه إلى هدايتهم، وتعلقه بصلاحهم وإرشادهم وهم قومه وعشيرته، وأبان له أن هؤلاء قوم انصرفوا عن النظر إلى الحق، ووجهوا همّهم إلى زخرف الدنيا، وأن منتهى علمهم التصرف فى شئونها، فهى قبلتهم التي إليها يحجون، ومطمح أنظارهم الذي إليه يرنون، وذكر أنه هو العليم باستعدادهم، وأنهم قوم ضالون لا يصل الحق إلى شغاف قلوبهم، ولا يلتفتون إليه بعيونهم. ذكر هنا أنه لا يهملهم، بل سيجزيهم بسوء صنيعهم، وهو العليم بما فى السموات والأرض، فلا يترك عباده هملا، بل يجازيهم بعدله، فيثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء على سوء صنيعهم بما هو أهله، ثم أردف ذلك ذكر أوصاف المحسنين وأنهم هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، ولا يقع منهم إلا اللمم من صغائر الذنوب الفينة بعد الفينة، ويتوبون منه ولا يصرّون عليه، ثم حذّر عباده بأنه لا تخفى عليه خافية من أمورهم من حين أن كانوا أجنة فى بطون أمهاتهم إلى أن يموتوا، فيعلم المطيع من المعاصي، فلا حاجة للعبد إذا إلى مدح نفسه بفعل الطاعات، واجتناب السيئات.

الإيضاح

الإيضاح (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن ما فى السموات وما فى الأرض تحت قبضته وسلطانه، وله التصرف فيه خلقا وملكا وتدبيرا، فهو العليم به لا تخفى عليه خافية من أمره، فلا تظنوا أنه يهمل أمركم، كلا، فإنه مجاز كل نفس بما كسبت من خير أو شر، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي فهو يجازى بحسب علمه المحيط بكل شىء- المحسن بالإحسان ويدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار، ويمتعه بنعيم لا يخطر على قلب بشر، والمسيء بصنيع ما أساء، وبما دسّى به نفسه من ضروب الشرك والمعاصي، وبما ران على قلبه من كبائر الذنوب والآثام، وقد أضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة. ثم ذكر أوصاف المحسنين فقال: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عما عظم شأنه من كبائر المعاصي كالشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله بغير حق والزنا، ولا تقع منهم إلا صغائرها، فيتوبون إلى ربهم ويندمون على ما فرط منهم. ونحو الآية قوله: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» . والمشهور أن الكبائر سبع وروى ذلك عن علىّ كرم الله وجهه واستدلوا عليه بما روى فى الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .

وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له: الكبائر سبع، فقال هى إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار اه. وقيل الكبيرة: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب أو حدّ فى الدنيا، أو أقدم صاحبه عليه من غير استشعار خوف أو ندم، أو ترتب عليه مفاسد كبيرة، ولو كان فى نظر الناس صغيرا، فمن أمسك إنسانا ليقتله ظالم، أو دل العدو على عورات البلاد فقد فعل أمرا عظيما، فيكون أكل مال اليتيم إذا قيس على هذين قليلا مع أنه من الكبائر. ثم ذكر ما يدفع اليأس عن صاحب الكبيرة فى غفران ذنبه فقال: (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فيغفر الصغائر باجتناب الكبائر، وله أن يغفر ما يشاء من الذنوب بعد التوبة الصادقة، والندم على ما فرط من مرتكبها إذا أخبت لربه وتجافى عن ذنبه. ونحوه قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . ثم أكد ما قبله وقرره بقوله: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي هو بصير بأحوالكم، عليم بأقوالكم وأفعالكم حين ابتدأ خلقكم من التراب، وحين صوّركم فى الأرحام، على أطوار مختلفة، وصور شتى. (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي فإذا علمتم ذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة من المعاصي، أو بزكاة العمل وزيادة الخير، بل اشكروا لله على فضله ومغفرته، فهو العليم بمن اتقى المعاصي، ومن ولغ فيها ودنّس نفسه باجتراحها.

[سورة النجم (53) : الآيات 33 إلى 54]

والنهى عن تزكية النفس إنما يكون إذا أريد بها الرياء أو الإعجاب بالعمل، وإلا فلا بأس بها ولا تكون منهيا عنها، ومن ثم قيل: المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر. ونحو الآية قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» . أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبى سلمة أنها سمّيت (برّة) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزكّوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرّ منكم، سمّوها زينب» . [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 54] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)

تفسير المفردات

تفسير المفردات تولى: أي أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه، وأكدى: أي قطع العطاء من قولهم: حفر فأكدى. أي بلغ إلى كدية أي صخرة تمنعه من إتمام العمل، ينبأ: أي يخبر، وصحف موسى هى التوراة، وصحف إبراهيم ما نزل عليه من الشرائع، ووفّى: أي أتم ما أمر به، أن لا تزر وازرة وزر أخرى: أي لا تحمل نفس حمل نفس أخرى، يرى: أي يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن، وتوبيخا للمسىء، يجزاه: أي يجزى سعيه يقال جزاه الله بعمله، وجزاه على عمله، وجزاه عمله، المنتهى: أي المعاد يوم القيامة والجزاء حين الحشر، تمنى: أي تدفع فى الرحم من قولهم: أمنى الرجل ومنى: أي صبّ المنىّ، والنشأة الأخرى: هى إعادة الأرواح إلى الأجساد حين البعث، أغنى وأقنى: أي أغنى من شاء وأفقر من شاء، والشعرى: هى الشعرى العبور وهى ذلك النجم الوضاء الذي يقال له مرزم الجوزاء وقد عبدته طائفة من العرب، وعاد الأولى: هم قوم هود وهم ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى: من ولد عاد الأولى، والمؤتفكة هى قرى قوم لوط، سميت بذلك، لأنّها ائتفكت بأهلها: أي انقلبت بهم، ومنه الإفك لأنه قلب الحق، أهوى: أي أسقط فى الأرض، غشاها: أي غطّاها. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه علمه وقدرته، وأن الجزاء واقع على الإساءة والإحسان، وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم، وهذا لا يعرف إلا بالوحى من الله تعالى. ذكر هنا أن من العجب العاجب بعد هذا أن يسمع سامع، ويرجو عاقل أن غيره يقوم مقامه

فى تحمل وزره ويعطيه جعلا، لكنه ما أعطاه إلا قليلا حتى وقف عن العطاء، ومن ثم وبخه على ذلك، بأن علم هذا لا يكون إلا بوحي، فهل علم منه صحة ما اعتقد؟ كلا فجميع الشرائع المعروفة لكم كشريعة موسى وإبراهيم على غير هذا، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فمن أين وصل له أن ذلك مجز له. قال مجاهد وابن زيد: إن الآية نزلت فى الوليد بن المغيرة، وكان قد سمع قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجلس إليه ووعظه فلان قلبه للإسلام فطمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأنا أتحمل عنك كل شىء تخافه فى الآخرة لكن على أن تعطينى كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عما همّ به من الإسلام، وضل ضلالا بعيدا، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح. وقد ذكر سبحانه ما تضمنته صحف إبراهيم وموسى: (1) ألا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره. (2) ألا يثاب امرؤ إلا بعمله. (3) إن العامل يرى عمله فى ميزانه، خيرا كان أو شرا. (4) إنه يجازى عليه الجزاء الأوفى فتضاعف له حسناته إلى سبعمائة ضعف، ويجازى بمثل سيئاته. (5) إن الخلائق كلهم راجعون يوم المعاد إلى ربهم، ومجازون بأعمالهم. (6) إنه تعالى خلق الضحك والبكاء والفرح والحزن. (7) إنه سبحانه خلق الذكر والأنثى من نطفة تصب فى الأرحام. (8) إنه تعالى خلق الموت والحياة. (9) إنه هو الذي أعطى الغنى والفقر، وكلاهما بيده وتحت قبضته.

الإيضاح

(10) إنه هو رب الشعرى، وكانت خزاعة تعبدها (11) إنه أهلك عادا الأولى، وقد كانوا أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح. (12) إنه أهلك ثمود فما أبقاهم، بل أخذهم بذنوبهم. (13) إنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود، وقد كانوا أظلم من الفريقين. (14) إنه أهلك المؤتفكة وهى قرى قوم لوط وقد انقلبت بأهلها، وغطّاها بحجارة من سجيل. الإيضاح (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى؟) أي أعلمت شأن هذا الكافر؟ وهل بلغك شأنه العجيب، فقد أشرف على الإيمان واتباع هدى الرسول، فوسوس له شيطان من شياطين الإنس بألا يقبل نصح الناصح، ويرجع إلى دين آبائه، ويتحمل ما عليه من وزر إذا هو أعطاه قليلا من المال، فقبل ذلك منه، لكنه ما أعطاه إلا قليلا حتى امتنع من إعطائه شيئا بعد ذلك، أفعنده علم بأمور الغيب، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ما يخاف من أوزاره يوم القيامة؟. وقصارى ذلك- أخبرنى بأمر هذا الكافر وحاله العجيبة، إذ قبل أن سواه يحمل أوزاره إذا أدّى له أجرا معلوما، أأنزل عليه وحي فرأى أن ما صنعه حق؟ ثم أكد هذا الإنكار فذكر أن الشرائع التي يعرفونها على غير هذا فقال: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي ألم يخبر بما نصت عليه التوراة، وما ذكر فى شرائع إبراهيم الذي وفّى بما عاهد الله عليه، وأتم ما أمر به، وأدى رسالته على الوجه المرضى، يدل على ذلك قوله: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» .

قال ابن عباس: وفّى بسهام الإسلام كلها وهى ثلاثون سهما لم يوفّها أحد غيره، منها عشرة فى براءة «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ» الآيات، وعشرة فى الأحزاب «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ» الآيات، وستة فى «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» الآيات، وأربعة فى سأل سائل «وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» الآيات. وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لم يحتمل غيره، وفى قصة الذبح ما فيه الغناء فى ذلك. وإنما ذكر ما جاء فى شريعتى هذين النبيين فحسب، لأن المشركين كانوا يدّعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم، وأهل الكتاب كانوا يدعون أنهم متبعون ما فى التوراة وصحفها قريبة العهد منهم. ثم فصل ما جاء فى هاتين الشريعتين فقال: (1) (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس ذنوب نفس أخرى، فكل نفس اكتسبت إثما بكفر أو معصية فعليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال: «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» ، (2) (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي كما لا يحمل على الإنسان وزر غيره، لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب لنفسه، ومن هذا استنبط مالك والشافعي ومن تبعهما أن القراءة لا يصح إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، وهكذا جميع العبادات البدنية كالصلاة والحج والتلاوة، ومن ثم لم يندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمته ولا حثهم عليها ولا أرشدهم إليها بنص ولا إيماء، ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، أما الصدقة فإنها تقبل وما رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم

انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعوله، وصدقة جارية من بعده، وعلم ينتفع به» فهى فى الحقيقة من سعيه وكدّه وعمله، كما جاء فى الحديث: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولد الرجل من كسبه» والصدقة الجارية كالوقف ونحوه على أعمال البرهى من آثار عمله، وقد قال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ» الآية، والعلم الذي نشره فى الناس فاقتدوا به واتبعوه- هو من سعيه، فقد ثبت فى الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من اتبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا» . ومذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء أن ثواب القراءة يصل إلى الموتى إن لم تكن القراءة بأجر، أما إذا كانت به كما يفعله الناس اليوم من إعطاء الأجر للحفاظ للقراءة على المقابر وغيرها- فلا يصل إلى الميت ثوابها، إذ لا ثواب لها حتى يصل إليهم، لحرمة أخذ الأجر على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه. (3) (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي إن عمله سيعرض يوم القيامة على أهل المحشر ويطلعون عليه، فيكون فى ذلك إشادة بفضل المحسنين، وتوبيخ للمسيئين. ونحو هذا قوله: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . (4) (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي ثم يجزى بعمله أوفى الجزاء وأوفره، فيضاعف الله له الحسنة ويبلغها سبعمائة ضعف، ويجازى بالسيئة مثلها أو يعفو عنها كما قال: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» . (5) (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي وأن مرجع الأمور يوم الميعاد إلى ربك، فيحاسبهم على النقير والقطمير، ويثيبهم أو يعاقبهم بالجنة أو النار. وفى هذا تهديد بليغ للمسىء، وحث شديد للمحسن، وتسلية لقلبه صلّى الله عليه وسلم، كأنه يقول له: لا تحزن أيها الرسول، فإن المنتهى إلى الله.

ونحو الآية قوله: «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» إلى أن قال فى آخر السورة «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» وأمثال ذلك كثيرة فى القرآن. (6) (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي وأنه خلق فى عباده الضحك والبكاء وسببهما، والمراد أنه خلق ما يسرّ وما يحزن من الأعمال الصالحة، والأعمال الطالحة. (7) (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي وأنه خلق الموت والحياة كما جاء فى قوله: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ» فهو يميت من يشاء موته، ويحيى من يشاء حياته، فينفخ الروح فى النطفة الميتة فيجعلها حية. (8) (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي وأنه خلق الذكر والأنثى من الإنسان وغيره من الحيوان من المنى الذي يدفق فى الأرحام. (9) (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي وأن عليه الإحياء بعد الإماتة، ليجازى كل من المحسن والمسيء على ما عمل. (10) (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي وأنه تعالى يغنى من يشاء من عباده، ويفقر من يشاء بحسب ما يرى من استعداد كل منهما ومقدرته على كسب المال بحسب السنن المعروفة فى هذه الحياة. وفى هذا تنبيه إلى كمال القدرة، فإن النطفة جسم متناسب الأجزاء فى الظاهر، ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة، وطباعا متباينة من ذكر وأنثى، ومن ثم لم يدّع أحد خلق ذلك، كما لم يدّع خلق السموات والأرض كما قال: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» . ونحو الآية قوله: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟» . (11) (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) أي وأنه تعالى رب هذا الكوكب الوهاج الذي تطلع خلف الجوزاء فى شدة الحر.

وإنما خصها بالذكر من بين الأجرام السماوية، وفيها ما هو أكبر منها جرما وأكثر ضوءا، لأنها عبدت من دون الله فى الجاهلية، فقد عبدتها حمير وخزاعة، وأول من سن عبادتها أبو كبشة وكان من أشراف العرب، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبى كبشة تشبيها له به، لمخالفته دينهم كما خالفهم أبو كبشة، وكان من أجداد النبي صلّى الله عليه وسلّم من قبل أمه، ومن ذلك قول أبى سفيان حين دخوله على هرقل: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة. ومن العرب من كانوا يعظمونها، ويعتقدون أن لها تأثيرا فى العالم ويتكلمون على المغيبات حين طلوعها. وهى شعريان إحداهما شامية، وثانيتهما يمانية وهى المرادة هنا وهى التي كانت تعبد من دون الله. (12) (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) وهى قوم هود عليه السلام، وعاد الأخرى هى إرم بن سام بن نوح كما قال: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ؟» وقد كانوا من أشد الأمم وأقواهم وأعتاهم على الله ورسوله، فأهلكهم «بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» أي متتابعة. وقال المبرد: وعاد الأخرى هى ثمود، وقيل عاد الأخرى من ولد عاد الأولى. (13) (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أي وأهلك ثمود فما أبقى عليهم، بل أخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر. ونحو الآية قوله: «فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» . (14) (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود، وكانوا أظلم من هذين، لأنهم بدءوا بالظلم، و «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» وأطغى منهما وأكثر تجاوزا للحد، لأنهم سمعوا المواعظ

[سورة النجم (53) : الآيات 55 إلى 62]

وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم بقوله: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» . وقد كان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه ويمشى إلى نوح يحذره منه ويقول يا بنى إن أبى مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ، فإياك أن تصدّقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه، لا يتأثر من دعائه له. (15) (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى، فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي وأهلك قوم لوط بانقلاب قريتهم عليهم وجعل عاليها سافلها ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود كما قال: «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» وهذا ما عناه سبحانه بقوله: فغشاها ما غشى. وفى هذا الأسلوب تهويل للأمر الذي غشاها به، وتعظيم له. [سورة النجم (53) : الآيات 55 الى 62] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) تفسير المفردات الآلاء: النعم واحدها ألى (بالفتح والكسر) وتتمارى: تمترى وتشك، والخطاب للانسان، هذا نذير من النذر: أي إن محمدا بعض من أنذر، أزفت: قربت، والآزفة: الساعة، وسميت بذلك لقرب قيامها، أو لدنوها من الناس كما جاء فى قوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» من دون الله: أي من غيره، كاشفة: أي نفس تكشف وقت وقوعها

المعنى الجملي

وتبينه، لأنها من أخفى المغيبات، والحديث: القرآن، سامدون: أي لاهون غافلون من سمد البعير فى سيره إذا رفع رأسه، فاسجدوا: أي اشكروا على الهداية، واعبدوا: أي اشتغلوا بالعبادة والطاعة. المعنى الجملي بعد أن ذكر قبل ما جاء فى صحف موسى وإبراهيم، من أن الإحياء والإماتة بيد الله، وأنه هو الذي يصرّف أمور العالم خلقا وتدبيرا وملكا، فيفقر قوما ويغنى آخرين، وأن أمر المعاد تحت قبضته، وأن الخلق إذ ذاك يرجعون إليه، وأن بعض الأمم كذبت رسلها وأنكرت الخالق فأصابها ما أصابها- قفى على هذا بالتعجيب من أمر الإنسان، وأنه كيف يتشكك فى هذا ويجادل فيه منكرا له، وقد جاء النذير به، فعليكم أن تصدّقوه وتؤمنوا به قبل أن يحل بكم عذاب يوم عظيم قد أزف، ولا يقدر على كشفه أحد إلا هو، فلا تعجبوا من القرآن منكرين، ولا تضحكوا منه مستهزئين، وابكوا حزنا على ما فرّطتم فى جنب الله، وعلى غفلتكم عن مواعظه وحكمه التي فيها سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم، واسجدوا شكرا لبارئ النسم، الذي أوجدها من العدم، واعبدوه بكرة وعشيا شكرا على آلائه، وتقلبكم فى نعمائه. الإيضاح (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي فبأى نعم ربك عليك أيها الإنسان تمترى وتشك؟ ونحو الآية قوله: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟» وقوله: «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» وقوله: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .

والمراد بالنعم ما عدده من قبل، وجعلت كلها نعما، وبعضها نقم، لما فى النقم من المواعظ والعبر للمعتبرين، من الأنبياء والمؤمنين. والخلاصة- إنها كلها دالة على وحدانية ربك وربوبيته، ففى أيها تتشكك على وضوحها للناظرين، ووجوه دلالتها للمعتبرين؟. (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم منذر من حاد عن طريق الهدى، وسلك طريق الضلال والهوى، بسىء العواقب، فى العاجل والآجل، وهو كمن قبله من الرسل الذين أرسلهم ربهم لهداية خلقه، فكذبوهم فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وحل بهم البوار والنكال، كفاء تكذيبهم وجحودهم آلاء ربهم، ونعمه التي تترى عليهم. ونحو الآية قوله: «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» وقوله صلّى الله عليه وسلم «أنا النذير العريان» أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا، وبادر إلى إنذار قومه وجاءهم مسرعا. (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت الساعة، ونصب الميزان، وستجازى كل نفس بما عملت من خير أو شر، فاحذروا أن تكونوا من الهالكين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون. ونحو الآية قوله: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» وفى الحديث «مثلى ومثل الساعة كهاتين» وفرق بين إصبعيه الوسطى والتي تلى الإبهام. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ) أي ليس هناك من يعرف وقت حلول الآزفة إلا هو، فاستعدوا لهذا اليوم قبل أن تأخذكم الساعة بغتة وأنتم لا تشعرون، فتندموا ولات ساعة مندم، وجدّوا للعمل قبل حلول الأجل. وقد أشار فى هذه الآيات إلى أصول الدين الثلاثة. (1) وحدانية الله بقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى؟) .

(2) إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بقوله: (هذا نذير) (3) إثبات الحشر والبعث بقوله: (أزفت الآزفة) . ثم أنكر على المشركين تعجبهم من القرآن واستهزاءهم به وإعراضهم عنه فقال: (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي أفينبغي لكم بعد ذلك أن تعجبوا من هذا القرآن وقد جاءكم بما فيه هدايتكم إلى سواء السبيل، وإرشادكم إلى الطريق المستقيم، وكيف تسخرون منه وتستهزئون به، ولا تكونوا كالموقنين الذين وصفهم الله بقوله: «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» وكيف تلهون عن استماع عبره، وتغفلون عن مواعظه، وتتلقونها تلقى اللاهي الساهي المعرض عما يسمع، غير المكترث بما يلقى إليه. أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن أبى هريرة قال: لما نزلت «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ» الآية بكى أصحاب الصّفّة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنينهم بكى معهم، فبكينا ببكائه، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» ثم بيّن ما يجب عند سماع القرآن من الإجلال والتعظيم فقال: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي فاخضعوا وأخلصوا له العمل حنفاء غير مشركين به، فهو الذي أنزله على عبده ورسوله هاديا وبشيرا لكم لعلكم ترحمون، ودعوا ما أنتم فيه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تغنى عنكم شيئا، فلا تدفع عنكم ضرّا، ولا تجديكم نفعا كما قال آمرا رسوله أن يقول لهم: «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ؟» .

ما تضمنته السورة الكريمة من الأسرار والأحكام

ما تضمنته السورة الكريمة من الأسرار والأحكام (1) إنزال الوحى على رسوله. (2) إن الذي علمه إياه هو جبريل شديد القوى. (3) قرب رسوله من ربه. (4) إن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل على صورته الملكية مرتين. (5) تقريع المشركين على عبادتهم للأصنام. (6) توبيخهم على جعل الملائكة إناثا وتسميتهم إياهم بنات الله. (7) مجازاة كل من المحسن والمسيء بعمله. (8) أوصاف المحسنين. (9) إحاطة علمه تعالى بما فى السموات والأرض. (10) النهى عن تزكية المرء نفسه. (11) الوصايا التي جاءت فى صحف إبراهيم وموسى. (12) النعي على المشركين فى إنكارهم الوحدانية والرسالة والبعث والنشور. (13) التعجب من استهزاء المشركين بالقرآن حين سماعه، وغفلتهم عن مواعظه. (14) أمر المؤمنين بالخضوع لله والإخلاص له فى العمل.

سورة القمر

سورة القمر هى مكية إلا قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) فمدنية. وآيها خمس وخمسون، نزلت بعد الطارق. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) مشاكلة آخر السورة السابقة لأول هذه فقد قال هناك: أزفت الآزفة، وقال هنا: اقتربت الساعة. (2) حسن التناسق بين النجم والقمر. (3) إن هذه قد فصلت ما جاء فى سابقتها، ففيها إيضاح أحوال الأمم التي كذبت رسلها، وتفصيل هلاكهم الذي أشار إليه فى السابقة بقوله: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى. وَثَمُودَ فَما أَبْقى. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) فما أشبهها مع سابقتها بالأعراف بعد الأنعام، والشعراء بعد الفرقان. [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

تفسير المفردات

تفسير المفردات اقتربت: أي دنت وقربت، وانشق القمر: أي انفصل بعضه من بعض وصار فرقتين، آية: أي دليلا على نبوتك، مستمر: أي مطرد دائم، أهواءهم: أي ما زينه لهم الشيطان من الوساوس والأوهام، مستقر: أي منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة، الأنباء أخبار القرون الماضية وما حاق بهم من العذاب جزاء تكذيبهم للرسل، واحدها نبأ، بالغة: أي واصلة غاية الإحكام والإبداع، تغنى: أي تفيد وتنفع، والنذر: واحدهم نذير بمعنى منذر، فتولّ عنهم: أي لا تجادلهم ولا تحاجهم، نكر: أي أمر تنكره النفوس إذ لا عهد لها بمثله، خشعا: واحدهم خاشع: أي ذليل، والأجداث: القبور، مهطعين: أي مسرعين منقادين، عسر: أي صعب شديد الهول. المعنى الجملي يخبر سبحانه باقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها وأن الأجرام العلوية يختل نظامها على نحو ما جاء فى قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) روى أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا سفّ يسير، فقال: والذي نفسى بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه» . وروى أحمد عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (بعثت أنا والساعة هكذا، وأشار بإصبعيه السبّابة والوسطى) . ثم ذكر أن الكافرين كلما رأوا علامة من علامات نبوتك أعرضوا وكذبوا بها وقالوا إن هذا إلا سحر منك يتلو بعضه بعضا ثم أخبر أن أمرهم سينتهى بعد حين

الإيضاح

وسيستقر أمرك، وسينصرك الله عليهم نصرا مؤزّرا، ثم أعقب هذا بأن عبر الماضين وإهلاك الله لهم بعد تكذيبهم أنبياءهم كانت جدّ كافية لهم لو أن لهم عقولا يفكرون بها فيما هم قادمون عليه، ولكن أنّى تغنى الآيات والنذر عن قوم قد أضلهم الله على علم وختم على قلوبهم وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة؟. ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم وسيخرجون من قبورهم أذلاء ناكسى الرءوس مسرعين إلى إجابة الداعي، يقول الكافرون منهم هذا يوم شديد حسابه، عسر عقابه. الإيضاح (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة، وقرب انتهاء الدنيا وهذا كقوله: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» وقوله: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» . (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي وسينشق القمر وينفصل بعضه من بعض حين يختل نظام هذا العالم وتبدل الأرض غير الأرض، ونحو هذا قوله: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» وقوله: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» وكثير غيرهما من الآيات الدالة على الأحداث الكبرى التي تكون حين خراب هذا العالم وقرب قيام الساعة. ويرى جمع من المفسرين أن هذا حدث قد حصل، وأن القمر صار فرقتين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل الهجرة بنحو خمس سنين، فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء (جبل بمكة) بينهما، وفى الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود: «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة على الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشهدوا» .

وجاء عنه أيضا: «انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت قريش: هذا سحر بن أبى كبشة، فقال رجل انتظروا ما يأتيكم به السفّار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس، فجاء السفار فأخبروهم بذلك» رواه أبو داود والطيالسي، وفى رواية البيهقي «فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا رأيناه، فأنزل الله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر» . والذي يدل على أن هذا إخبار عن حدث مستقبل لا عن انشقاق ماض- أمور: (1) إن الإخبار بالانشقاق أتى إثر الكلام على قرب مجىء الساعة، والظاهر تجانس الخبرين وأنهما خبران عن مستقبل لا عن ماض. (2) إن انشقاق القمر من الأحداث الكونية الهامة التي لو حصلت لرآها من الناس من لا يحصى كثرة من العرب وغيرهم، ولبلع حدا لا يمكن أحدا أن ينكره، وصار من المحسوسات التي لا تدفع، ولصار من المعجزات التي لا يسع مسلما ولا غيره إنكارها. (3) ما ادعى أحد من المسلمين إلا من شذ أن هذه معجزة بلغت حد التواتر، ولو كان قد حصل ذلك ما كان رواته آحادا، بل كانوا لا يعدّون كثرة. (4) إن حذيفة بن اليمان وهو ذلكم الصحابي الجليل خطب الناس يوم الجمعة فى المدائن حين فتح الله فارس فقال: ألا إن لله تبارك وتعالى يقول: اقتربت الساعة وانشق القمر، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة، فهذا الكلام من حذيفة فى معرض قرب مجىء الساعة وتوقع أحداثها، لا فى كلام عن أحداث قد حصلت تأييدا للرسول وإثباتا لنبوته، لأن ذلك كان فى معرض العظة والاعتبار. وبعد أن ذكر قرب مجىء الساعة وكان ذلك مما يستدعى انتباههم من غفلتهم، والتفكير فى مصيرهم، والنظر فيما جاءهم به الرسول من الأدلة المثبتة لنبوته، والمؤيدة

لصدقه، لكنهم مع كل هذا ما التفتوا إلى الداعي لهم إلى الرشاد، والهادي لهم إلى سواء السبيل، بل أعرضوا وتولوا مستكبرين كما قال: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي وإن ير المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوتك، وترشدهم إلى صدق ما جئت به من عند ربك، يعرضوا عنها ويولوا مكذبين بها، منكرين أن يكون ذلك حقا، ويقولوا تكذيبا منهم بها: هذا سحر سحرنا به محمد، وهو يفعل ذلك على مرّ الأيام. وفى هذا إيماء إلى ترادف الآيات، وتتابع المعجزات. وقال الكسائي والفرّاء واختاره النحاس: إن المراد بالمستمر الذاهب الزائل عن قرب، إذ هم قد عللوا أنفسهم ومنّوها بالأمانى الفارغة، وكأنهم قالوا: إن حاله عليه السلام وما ظهر من معجزاته إن هى إلا سحابة صيف عن قريب تقشع، ولكن أيهات أيهات، فقد غرّتهم الأمانى: «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» . ثم أكد ما سبق بقوله: (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أمرتهم به أهواؤهم، لجهلهم وسخف عقولهم. والخلاصة- إنهم كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وتركوا حججه وقالوا: هو كاهن يقول عن النجوم ويختار الأوقات للأفعال، وساحر يسترهب الناس بسحره، إلى أشباه هذا من مقالاتهم التي تدل على العناد وعدم قبول الحق. ثم سلّى رسوله وهدد المشركين بقوله: (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي وكل شىء ينتهى إلى غاية تشاكله، فأمرهم سينتهى إلى الخذلان فى الدنيا والعذاب الدائم فى الآخرة، وأمرك سينتهى إلى النصر فى الدنيا والجنة فى الآخرة.

وهذه قاعدة عامة تنضوى تحتها حركات الكواكب والأفلاك ونظم العمران وأعمال الأفراد والأمم. وقصارى ذلك- إن أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم سيصل إلى غاية يتبين عندها أنه الحق، وأن ما سواه هو الباطل، فقد جرت سنة الله بأن الحق يثبت، والباطل يزهق بحسب ما وضعه فى نظم الخليقة (البقاء للأصلح) . ثم ذكر أنهم فى ضلال بعيد، فإن ما جاء فى القرآن من أخبار الماضين قد كان فيه مزدجر لهم لو كانوا يعقلون، قال: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ولقد جاء هؤلاء المشركين الذين كذبوا بك واتبعوا أهواءهم- من الأخبار عن الماضين الذين كذبوا الرسل فأحل الله بهم من العقوبات ما قصه فى كتابه- ما يردعهم ويزجرهم عما هم فيه من القبائح، إذ أبادهم فى الدنيا وسيعذبهم يوم الدين جزاء وفاقا لما دنسوا به أنفسهم من الشرك بربهم وعصيان رسله، واجتراحهم للسيئات. ثم بين الذي جاءهم به فقال: (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي هذه الأنباء غاية الحكمة فى الهداية والإرشاد إلى طريق الحق لمن اتبع عقله وعصى هواه. (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) أي إن النذر لم يبعثوا ليلجئوا الناس إلى قبول الحق، وإنما أرسلوا مبلغين فحسب فليس عليك ولا على الأنبياء قبلك الإغناء والإلجاء إلى اتباع سبيل الهدى، فإذا بلّغت فقد أتيت بما عليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها فى نحو قوله «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» وتول عنهم بعدئذ. ونحو الآية قوله «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» . ثم أمر رسوله ألا يجادلهم ولا يناظرهم فإن ذلك لا يجدى نفعا فقال: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين المكذبين ولا تحاجهم،

فإنهم قد بلغوا حدا لا يقنعون معه بحجة ولا برهان، فأحرى بك ألا تلتفت إلى نصحهم وإرشادهم، فقد عييت بأمرهم، وبرمت بعنادهم. (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي واذكر حين ينادى الداعي إلى شىء فظيع تنكره نفوسهم، إذ لا عهد لها بمثله، وهو موقف الحساب وما فيه من أهوال. وقد جرت العادة أن من ينصح شخصا لا يؤثر فيه النصح أن يعرض عنه ويقول لسواه ما فيه نصح للمعرض عنه، وهدايته وإرشاده لو أراد. ثم ذكر حال الكافرين فى هذا اليوم فقال: (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي يخرجون من قبورهم ذليلة أبصارهم من هول ما يرون، كأنهم فى انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعى- جراد قد انتشر فى الآفاق. وجاء تشبيهم فى الآية الأخرى بالفراش فى قوله «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» . وهم يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين، لا يهتدون أين يتوجهون، لأن الفراش لا جهة لها تقصدها، ثم يكونون كالجراد المنتشر إذا توجهوا للحشر، فهما تشبيهان باعتبار وقتين، وحكى ذلك عن مكى بن أبى طالب. (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي مسرعين إلى الداعي لا يخالفون ولا يتأخرون، ويقولون هذا يوم شديد الهول سيىء المنقلب. ونحو الآية قوله: «فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» . وفى هذا إيماء إلى أنه هين على المؤمن لا عسر فيه ولا مشقة.

قصص بعض الأنبياء مع أممهم

قصص بعض الأنبياء مع أممهم (1) قصص قوم نوح [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) تفسير المفردات وازدجر: أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذى والتخويف، فانتصر: أي فانتقم لى منهم، منهمر: أي كثير كما قال: أعيناى جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معدّ وحاضر فالتقى الماء: أي ماء السماء وماء الأرض، على أمر: أي على حال، قد قدر: أي قد قدّره الله فى الأزل، ذات ألواح: أي ذات خشب عريضة، دسر: أي مسامير واحدها دسار ككتب وكتاب، بأعيننا: أي بمرأى منه والمراد بحراستنا وحفظنا، كفر: أي جحد به وهو نوح عليه السلام، تركناها: أي أبقينا السفينة، آية: أي علامة ودليلا، مدكر: أي متذكر ومعتبر، ونذر: واحدها نذير بمعنى إنذار، يسرنا: أي سهلنا، للذكر: أي للعظة والاعتبار، مدكر: أي متعظ بمواعظه. (6- مراغى- السابع والعشرون)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجر لهم لو تذكروا لكن لم تغنهم تلك الزواجر شيئا- أردف هذا ذكر قصص من قبلهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود، ليبين لرسوله أنهم ليسوا ببدع فى الأمم، بل كثير منهم فعلوا فعلهم بل كانوا أشد منهم عتوا واستكبارا، وأن الأنبياء قبله قد لاقوا منهم من البلاء ما لا قيت، فلا تأس على ما فرط منهم، ولا تبتئس بما كانوا يفعلون كما جاء فى قوله سبحانه: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» . وفى هذا وعيد للمشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم فسيحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم، وينجّى نبيه والمؤمنين كما نجّى من قبله من الرسل وأتباعهم من نقمه التي أحلها بأممهم. الإيضاح (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قبل قومك قوم نوح فكانوا أسوة لمن بعدهم من المكذبين للرسل. ثم فصّل هذا التكذيب بقوله: (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) أي فكذبوا عبدنا نوحا ونسبوه إلى الجنون، وزجروه وتوعدوه، لئن لم ينته ليكونن من المرجومين. وأضاف العبد إليه فى قوله «عبدنا» للاشارة إلى أنه لم يعبد سواه، فهو فى جميع أفعاله لله وإلى أنه صادق فى دعواه النبوة، فهو لا ينطق عن الهوى، فتكذيبهم له قبيح غاية القبح، بالغ نهاية العتوّ والإنكار. ثم بين أنه عيل بهم صبرا، وضاق بهم ذرعا فدعا عليهم فقال: (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي فدعا نوح ربه قائلا إن قومى قد غلبونى لتمردهم وعتوهم، ولا طاقة لى بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.

وقصارى ذلك- انتصر لك ولدينك، فإنى قد غلبت وعجزت عن الانتصار لهما. ثم أخبر سبحانه أنه قد أجاب دعاءه فقال: (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي فصببنا عليهم ماء ثجاجا من السماء، وتقول العرب فى المطر الوابل: جرت ميازيب السماء. روى أنهم طلبوا المطر سنين فأهلكهم الله بما طلبوا. وفى الآية إيماء إلى أن الله انتصر منهم، وانتقم بماء لا بجند أنزله. (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة. (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي فالتقى الماء أي ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله وهو هلاكهم بالطوفان. والخلاصة- إن الله أرسل ماء السحاب مدرارا، وأخرج من الأرض ماء ثجاجا فالتقى الماءان فأحدثا طوفانا على وجه الأرض، فأغرق به قوم نوح، ونجا نوح بركوب سفينته التي بناها كما أشار إلى ذلك فى هود بالتفصيل وأشار إليه هنا بقوله: (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي وأنقذناه من الطوفان، فحملناه على سفينة ذات خشب ومسامير. وجاء فى سورة العنكبوت «فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ» . وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى يوجد الأسباب لتحقيق ما يريد من المسببات، بحسب السنن التي وضعها فى الخليقة، وأنه يمهل الظالمين، ولا يهملهم كما جاء فى الحديث «إن ربك لا يهمل ولكن يمهل» . ثم أشار إلى أنه كان محروسا بعناية الله وكلاءته فقال: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي تجرى محفوظة بحراستنا، فقد كانت بمرأى منافنحن نكلؤها ونرعاها، كما يرعى المرء ما يراه بعينه، ويقع تحت سمعه وبصره، ويقول القائل إذا وصّى آخر بأمر وشدد عليه: اجعله نصب عينيك أي اهتمّ به، ولا تهمله.

ثم بين أن هذا هو الجزاء العادل على سوء صنيعهم، وكفرهم بربهم فقال: (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي فعلنا ذلك بهم جزاء كفرهم بآياتنا، وجحودهم بنعمائنا، وتكذيبهم برسولنا. ثم ذكر أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم على كر الدهور والأعوام فقال: (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي ولقد جعلنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن معه- عبرة لمن بعده من الأمم، ليدبروا ويتعظوا، ويرعووا أن يسلكوا مسلكهم وينهجوا نهجهم فى الكفر بالله وتكذيب رسله، فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة وقد رووا أن الله حفظها آمادا طويلة بأرض الجزيرة على جبل الجودىّ. وقال قتادة: أبقاها الله بباقر دى من أرض الجزيرة حتى أدركتها أوائل هذه الأمة. ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» . (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي فهل من معتبر بتلك الآية الحريّة بالاعتبار، الجديرة بطويل التفكير والتأمل فى عواقب المكذبين برسل الله، الجاحدين بوحدانيته، المتخذين له الأنداد والأوثان. ثم بين سبحانه شديد نكاله وعقابه فقال: (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) أي ما أشد ما أنزلته بهم من البوار والهلاك، وما أفظع إنذارى لهم بما أحللته بهم من النقمة بعد النعمة، وهكذا عاقبة كل مكذب جبار. ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد، وعظيم التهديد، لكل باغ عنيد، ساخط على الرسل، مكذب بربه. والخلاصة- انظر كيف كان عذابى لمن كفر بي، وكذب رسلى، وكيف انتصرت لهم، وأخذت أعداءهم بما يستحقون؟.

[سورة القمر (54) : الآيات 18 إلى 22]

ثم ذكر أن هذا القصص وأمثاله إنما ذكر فى القرآن للعبرة، لا ليكون قصصا تاريخيا يتلى، فقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي ولقد سهلنا لفظه، ويسرنا معناه، وملأناه بأنواع العبر والمواعظ، ليتعظ به من شاء، ويتدبر من أراد «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» . ونحو الآية قوله: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» وقوله: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» روى الضحاك عن ابن عباس قال: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي فهل من متعظ به، مزدجر عن معاصيه، أي ما أقل من تذكر به، واتعظ بأمره ونهيه. (2) قصص عاد قوم هود [سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22] كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) تفسير المفردات الريح الصرصر: الباردة أشد البرد، والنحس: الشؤم، منقعر: أي مقتلع من أصوله يقال قعرت النخلة: أي قلعتها من أصلها فانقعرت.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص قوم نوح وما فيه من العبرة لمن تدبر وفكر، أعقبه بقصص عاد قوم هود، ليبين للمكذبين أن عاقبة كل مكذب الهلاك والبوار وإن تعددت أسبابه. ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد فقد أرسل الله عليهم ريحا عاصفا، لصوتها صرير حين هبوطها فى يوم شؤم عليهم، واستمر بهم البلاء حتى حل بهم الدمار، وكانت الريح لشدتها تقتلع الناس من الأرض وترفعهم إلى السماء ثم ترمى بهم على رءوسهم، فتندقّ رقابهم، وتبين من أجسامهم، فانظروا أيها المكذبون إلى ما حل بهم من العذاب جزاء تكذيبهم لرسوله، كما هى سنة الله فى أمثالهم من المكذبين. الإيضاح (كَذَّبَتْ عادٌ) أي كذبت عاد نبيهم هودا فيما أتاهم به عن الله، كما كذبت قوم نوح من قبلهم نبيهم. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا معشر قريش، كيف كان عذابى إياهم، وعقابى لهم على كفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله هودا، وإنذارى من سلك سبيلهم وتمادى فى الغىّ والضلال بحلول مثل ذلك العقاب به. وفى هذا توجيه لقلوب السامعين إلى الإصغاء لما يلقى عليهم قبل ذكره، وتعجيب من حالهم بعد بيانه، كأنه قيل: كذبت عاد فانظروا كيف كان عذابى وإنذارى لهم به قبل نزوله. ثم فصّل ما أجمله أولا فقال:

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي إنا بعثنا إلى عاد إذ تمادوا فى طغيانهم وكفرهم بربهم ريحا شديدة العصوف فى برد، لصوتها صرير، فى زمن شؤم ونحس عليهم، إذ ما زالت مستمرة حتى أهلكتهم. ونحو الآية قوله: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ» وقوله: «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» أي متتابعة. وما روى من شؤم بعض الأيام فلا يصح شىء منه، فالأيام كلها لله، لا ضرر فيها لذاتها، ولا محذور منها، ولا سعد فيها ولا نحس، فما من يوم يمر إلا وهو سعد على قوم ونحس على آخرين، باعتبار ما يحدثه الله فيه من الخير والشر لهم، فكل منها يتصف بالأمرين: ألا إنما الأيام أبناء واحد ... وهذى الليالى كلها أخوات وتخصيص كل يوم بعمل كما يزعم بعض الناس وينسبون فى ذلك أبياتا إلى على كرم الله وجهه، لا يصح منه شىء، وإنما هو نزغات شيعيّة لا تستند إلى ركن من الدين ركين. (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي تقتلعهم حتى يصيروا كأنهم أعجاز نخل قد انقلع من مغارسه فى الأرض. وفى الآية إيماء إلى أن الريح كانت تقتلع رءوسهم فتبقى الأجسام ولا رءوس لها، وإلى أنهم كانوا ذوى جثث عظام طوال كالنخل، وإلى أنهم أعملوا أرجلهم فى الأرض وقصدوا بذلك مقاومة الريح، وإلى أن الريح جعلتهم كأنهم خشب يابسة لشدة بردها. ثم هوّل من أمر العذاب والإنذار بعد بيانهما فقال: (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا كيف كان عذابى وإنذارى، وقد كرره تعظيما لشأنه، وهذه سنة فى بليغ الكلام، فى باب النصح والإرشاد، وباب

[سورة القمر (54) : الآيات 23 إلى 32]

التهديد والوعيد، وقد يكون الأول إشارة إلى عذاب الدنيا، والثاني إلى عذاب الآخرة كما جاء فى قصصهم فى آية أخرى «لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» . (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الكلام فيه كسابقه فلا نعيده. (3) قصص ثمود [سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) تفسير المفردات بالنذر: أي بالرسل، وتكذيب صالح تكذيب لهم جميعا لاتفاقهم على أصول الشرائع، وسعر: أي جنون، ومنه ناقة مسعورة: إذا كانت تفرط فى سيرها كأنها مجنونة، والذكر: الوحى والمراد بالغد وقت نزول العذاب بهم، والأشر: شديد البطر، والبطر: دهش يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، فتنة: أي

المعنى الجملي

امتحانا واختبارا، فارتقبهم: أي فانتظرهم، واصطبر: أي واصبر على أذاهم، والشّرب: النصيب، محتضر: أي يحضره صاحبه فى نوبته، فتحضر الناقة مرة ويحضرون أخرى، صاحبهم: هو قدار بن سالف أحيمر ثمود، فتعاطى: أي فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم غير مكترث به، فعقر: أي فضرب قوائم الناقة بالسيف، صيحة واحدة: هى صيحة صاحها جبريل عليه السلام، والهشيم: ما تهشم وتفتت من الشجر، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة فتتساقط منه بعض أجزاء وتتفتت حال العمل. المعنى الجملي قص الله علينا قصص ثمود مع نبيها صالح، إذ قالوا: أنحن العدد الجمّ، والكثرة الساحقة، نتبع واحدا منا لا امتياز له عنا؟ إنا إذا فعلنا ذلك لفى ضلال وبعد عن محجة الصواب، وإنه لكاذب فيما يدّعيه من الوحى عن ربه، وما هو إلا بشر وليس بملك، فقال لهم ربهم، ستعلمون بعد حين قريب من الكذاب البطر؟ وقد جعلنا ناقته فتنة واختبارا لهم، فأمرناه أن يخبرهم بأن ماء البئر يقسم بينها وبينهم، فلها يوم ولهم آخر، فما ارتضوا هذا وقام فاسقهم قدا وعقر الناقة فخرت صريعة، فجازاهم الله فأرسل عليهم العذاب فصاروا كالهشيم الذي يتفتت حين بناء حظيرة الماشية. الإيضاح (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أي كذبت ثمود بنذر الله ورسله الذين بعثهم لخلقه، وهم وإن كذبوا صالحا فحسب، فإن تكذيبه تكذيب لهم جميعا، لاتفاقهم على الأصول العامة للتشريع، وهى التوحيد ومجىء الرسل واليوم الآخر. ثم فصل تكذيبهم وحكى عنهم مقالهم فقال: (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟) أي أنتبع واحدا من الدهماء، لا من علية

القوم ولا من أشرافهم، وليس له ميزة عن امرئ منا بعلم ظاهر، ولا ثروة وغنى، تجعله يدّعى أن يكون الزعيم لنا. ثم ذكروا وجه إصرارهم على تكذيبه بقولهم: (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إنا لو اتبعناه نكون قد ضللنا الصراط السوىّ، وجانبنا الصواب، وصرنا لا محالة إلى الجنون الذي لا يرضى به عاقل لنفسه. روى أن صالحا كان يقول لهم: إن لم تتبعونى كنتم فى ضلال عن الحق وسعر، فعكسوا عليه مقاله بعتوّهم واستكبارهم فقالوا: إنا إن اتبعناك كنا كما تقول: ثم بالغوا فى العتو والإنكار وتعجبوا من أمره ونسبوه إلى الاختلاق والكذب فقالوا: (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي أأنزل عليه الوحى من بيننا وأوتى النبوة وهو واحد منا؟ ولم اختصه الله بإنزال الشرائع عليه وهو ليس بملك مكرّم؟ الحق إنه لكذاب متجبر، يريد أن تكون له السيطرة والسلطان علينا، ويودّ أن يكون الرئيس المطاع، وما ذاك إلا بما زينته له نفسه، وأغواه به الشيطان، ولا يستند إلى وحي سماوى، ولا أمر إلهى. ثم حكى سبحانه ما قاله لصالح وعدا له ووعيدا لقومه فقالوا: (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ؟) أي سيعلمون عن قريب حين يحل بهم الهلاك الدنيوي- من الكذاب البطر الذي حمله بطره على ما فعل، أصالح فى دعواه الرسالة من ربه، وأنه أمره بالتبليغ لهداية قومه إلى الحق وإلى طريق مستقيم، أم هم فى تكذيبهم إياه ودعواهم عليه الاختلاق والكذب؟. وقصارى ذلك- سيتبين لهم أنهم هم الكذابون الأشرون. وأورد الكلام على طريق الإبهام للإشارة إلى أنه مما لا يخفى، جريا على أساليبهم كقوله تعالى آمرا رسوله أن يقول للمشركين: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» وقوله:

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن ... أيّى وأيك فارس الأحزاب ثم ذكر مقدمات العذاب الموعود به فقال: (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي إنا مخرجو الناقة من الهضبة التي طلبوا من نبيهم بعثها منها، لتكون آية لهم، وحجة على صدقه فى ادعائه النبوة، وتكون فتنة واختبارا لهم، أيؤمنون بالله ويتبعونه فيما أمرهم به من توحيد، أم يكذبونه ويكفرون به؟. (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي فانتظر ماذا يفعلون؟ وأبصر ماذا يصنعون؟ واصبر على أذاهم ولا تعجل حتى يأتى أمر الله، فإن الله ناصرك، ومهلك عدوك. (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي وأخبرهم أن ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، وكل حصة منه يحضر صاحبها ليأخذها فى نوبته، فتحضر الناقة تارة، ويحضرون هم أخرى. وقد جعلت القسمة على هذا الوجه لمنع الضرر، لأن حيوان القوم كانت تنفر منها، ولا ترد الماء وهى عليه، فصعب ذلك عليهم. (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) أي فملّت ثمود هذه القسمة، وأرادوا الخلاص منها، فنادوا قدار بن سالف وكان أشقاهم ليعقرها وحضّوه على ذلك، فلبّى طلبهم وتناولها بيده وأهوى بالسيف ضربا على قوائمها، فخرت صريعة. ثم ذكر عقابهم الفظيع فقال: (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) قد سبق تفسير هذا. ثم فصل هذا العذاب بقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي إنا أرسلنا جبريل فصاح بهم صيحة فصاروا كالحشيش البالي الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، وكأنهم هلكوا من أمد بعيد.

[سورة القمر (54) : الآيات 33 إلى 40]

وقصارى ذلك- إنهم بادوا عن آخرهم ولم تبق منهم باقية، وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) مرّ بيان هذا. (4) قصص قوم لوط [سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) تفسير المفردات حاصبا: أي ريحا ترميهم بالحصباء وهى الحصا، قال فى الصحاح: الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء، والحصب (بفتحتين) ما تحصب به النار: أي ترمى، وكل ما ألقيته فى النار فقد حصبتها به، والسحر: السدس الأخير من الليل، وقال الراغب: السحر والسّحرة: اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار، والبطش: الأخذ الشديد بالعذاب، فتماروا بالنذر: أي فشكوا فى الإنذارات ولم يصدقوها، راودوه عن ضيفه: أي صرفوه عن رأيه فيهم فطلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه ليفجروا بهم، فطمسنا أعينهم: أي فحجبناها عن الأبصار فلم تر شيئا، بكرة: أي أول النهار، مستقرّ: أي دائب بهم إلى أن يهلكوا

المعنى الجملي

المعنى الجملي ذكر هنا تكذيب قوم لوط لنبيهم ومخالفتهم إياه، واجتراحهم من السيئات ما لم يسبقهم به أحد من العالمين، بإتيانهم الذكران دون النساء، ثم أردفه ذكر عذابهم بإرسال حجارة من سجيل عليهم إلا من آمن منهم، فقد نجاهم بسحر، وما أهلكهم إلا بعد أن أنذرهم عذابه على لسان رسوله فكذبوه. الإيضاح (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) أي كذبت قوم لوط بآيات الله التي أنذرهم بها. ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب ونجاة من آمن منهم فقال: (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي إنا عاقبناهم بإرسال ريح تحمل الحصباء، وما زالت بهم حتى دمرتهم، إلا من آمن منهم، فإنا أمرناهم بالخروج آخر الليل لينجوا من الهلاك. ثم بين أن سبب إنجاء المؤمنين هو شكرانهم للنعمة فقال: (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي أنعمنا عليهم بالنجاة كرامة لهم منا، وهكذا نجزى من شكرنا على نعمتنا وأطاعنا فائتمر بأمرنا، وانتهى عما نهينا عنه. ثم ذكر أنه ما أهلك من أهلك إلا بعد أن أنذرهم عذابه وخوفهم بأسه فقال: (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي ولقد أنذرهم نبيهم بأس الله وعذابه، قبل حلوله بهم، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه، بل شكّوا فيه وتماروا به. ثم بين جرمهم الذي استحقوا به العذاب فقال: (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي طلبوا منه ضيوفه وهم الملائكة الذين جاءوا فى صورة شباب مرد حسان، محنة من الله لهم، إذ قد بعثت إليهم امرأته العجوز السوء

فأعلمتهم بأضيافه، فأقبلوا إليه يهرعون من كل مكان، فأغلق لوط عليهم الباب، فجعلوا يعالجونه ليكسروه، وهو يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ويقول لهم: هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم، فقالوا له: لقد علمت مالنا فى بناتك من أرب، وإنك لتعلم ما نريد، فلما اشتد بينهم الصراع وأبوا إلا الدخول- طمس الله أبصارهم فلم يروا شيئا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فجعل بعضهم يجول فى بعض ولا يرون شيئا، ويقولون: أين ضيوفك؟ وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة هود. (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقلنا لهم على ألسنة ملائكتنا: ذوقوا هذا العذاب عذاب طمس الأعين وما بعده بعد أن أنذرتكم على سوء أفعالكم، وقبيح خلالكم. ثم بين وقت مجىء العذاب فقال: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي ولقد نزل بهم العذاب وقت البكور وما زال ملحّا عليهم حتى أخمدهم، وبلغ غايته فى دمارهم وهلاكهم. ثم حكى ما قيل لهم بعد التصبيح من جهته تعالى تشديدا للعذاب فقال: (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فذوقوا جزاء أفعالكم من عذاب عاجل، وما لزم من إنذاركم من عذاب آجل. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) هذه الجملة القسمية وردت فى آخر كل قصة من القصص الأربع، تقريرا لمضمون ما سبق من قوله: (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وتنبيها إلى أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادّكار، كافية فى الازدجار، ولم يحصل بها مع هذا عظة واعتبار. وقد جاء هذا التكرير فيما سيأتى فى سورة الرحمن من قوله: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» وقوله فى سورة المرسلات: «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .

[سورة القمر (54) : الآيات 41 إلى 42]

وهذا كثير فى كلام العرب إذا أرادوا العناية بما فيه من هامّ الأمور، كقول مهلهل فى رثاء أخيه كليب حين قتل: قرّبا مربط النعامة منّى ... لقحت حرب وائل عن حيالى قرّبا مربط النعامة منّى ... شاب رأسى وأنكرتنى عيالى وهى طويلة جارية على هذا السنن، والنعامة فرسه، ولقحت: أي حملت. (5) قصص آل فرعون [سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42] وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) تفسير المفردات النذر: واحدها نذير بمعنى إنذار وهى الآيات التسع التي أنذرهم بها موسى صلوات الله عليه، عزيز: أي لا يغالب ولا يغلب، مقتدر: أي لا يعجزه شىء. الإيضاح (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) أي تالله لقد توالت عليهم الإنذارات، وجاءتهم الآية تلو الآية فكذبوا بها. ثم أبان ما فعلوه على توالى النذر فقال: (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) أي كذبوا بأدلتنا وبرهاناتنا التي أرسلناها إلى موسى، وقد تقدم ذكرها فى سورة الأعراف. ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال:

[سورة القمر (54) : الآيات 43 إلى 46]

(فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) أي فعاقبناهم بكفرهم بالله- عقوبة مقتدر على ما يشاء غير عاجز ولا ضعيف. توبيخ قريش على كفرهم بربهم [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 46] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) تفسير المفردات براءة: أي صك مكتوب بالنجاة من العذاب، والزبر: الكتب السماوية واحدها زبور، يولون: أي يرجعون، والدبر: أي الأدبار هار بين منهزمين، والساعة: هى القيامة، موعدهم: أي موعد عذابهم، أدهى: أي أعظم داهية وهى الأمر الفظيع الذي لا يهتدى الخلاص منه، يقال دهاه أمر كذا: أي أصابه، وأمرّ: أي أشد مرارة فى الذوق والمراد الشدة والهول. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه قصص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون، وفصّل ما أصيبوا به من عذاب الله الذي لا مرد له، بسبب كفرهم بآياته وتكذيبهم لرسله- أعقب هذا بتنبيه كفار قريش إلى أنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم فستحل بهم سنتنا، ويحيق بهم من البلاء مثل ما حل بأضرابهم من المكذبين من قبلهم، ولا يجدون عنه محيصا ولا مهربا، ثم خاطبهم خطاب إنكار

الإيضاح

وتوبيخ فقال لهم: علام تتكلون، وماذا تظنون؟ أأنتم خير ممن سبقكم عددا وكثرة مال وبطشا وقوة، أم لديكم صكّ من ربكم بأنه لن يعذبكم مهما أشركتم واجترحتم من السيئات؟ أم أنكم تظنون أنكم جمع كثير لا يمكن أن ينال بسوء، ولا تصل إلى أذاكم يد مهما أوتيت من القوة؟ كلا إن شيئا من هذا ليس بكائن، وإنكم ستهزمون وتولون الأدبار فى الدنيا وسيحل بكم قضاء الله الذي لا مفر منه، وما سترونه فى الآخرة أشد نكالا، وأعظم وبالا، فأفيقوا من غفلتكم، وأنيبوا إلى ربكم، عسى أن يرحمكم. الإيضاح (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) أي أكفاركم يا معشر قريش خير من أولئكم الذين أحللت بهم نقمى من قوم نوح وعاد وثمود؟ فيأملوا أن ينجوا من عذابى ونقمتى، على كفرهم بي وتكذيبهم رسولى. وتلخيص المعنى- ما كفاركم خير ممن سبقهم، فهم ليسوا بأكثر منهم قوة، ولا أوفر عددا، ولا ألين شكيمة فى الكفر والعصيان والضلال والطغيان، وقد أصاب من هم خير منهم ما أصابهم، فكيف يطمعون فى المهرب من مثل ذلك، فليثوبوا إلى رشدهم، وليرجعوا عن غيّهم قبل أن يندموا ولات ساعة مندم. ثم انتقل من توبيخهم الأول إلى توبيخ أشد منه فقال: (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي أم لكم صك بالبراءة من تبعات ما تجترحون من السيئات، وأن ربكم لن يعاقبكم على ما تدسّون به أنفسكم من الشرور والآثام؟ فأنتم على هذا الصك تعتمدون، وبهذا الوعد آمنون، حقا إنكم لتطمعون فى غير مطمع، وليس بين أيديكم ولا قلامة ظفر من هذا- فعلام تتكلون؟ وإلام تستندون؟

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي بل هم يقولون نحن واثقون بشوكتنا، فنحن قوم أمرنا مجتمع، لا نرام ولا نضام، وإنا منصورون على من قصدنا بسوء، أو أراد حربنا وتفريق جمعنا. وجماع القول- إنه تعالى سدّ عليهم المسالك، ونقض جميع المعاذير التي ربما تعللوا بها فى عدم تصديقهم بالرسول، وفى كفرهم بآيات ربهم، فقال لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم؟ أأنتم أقل كفرا وعنادا منهم، فيكون ذلك سبب الأمن من حلول مثل عذابهم بكم؟ أم أعطاكم الله براءة من عذابه؟ أم أنتم أعز منهم جندا فأنتم تنتصرون على جند الله؟ ثم رد عليهم مقالهم وأبان لهم أنهم يعيشون فى بحر من الأوهام، وأن قضاء الله سيحل بهم، وسيهزمون ويولون الأدبار متى جاء قضاؤه فقال: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق شملهم ويغلبون حين يلتقى جيشهم وجيش المؤمنين، وقد صدق الله وعده، فانهزموا وولوا الأدبار يوم بدر، وكان هذا دليلا من دلائل النبوة، فإن الآية نزلت بمكة ولم يكن له صلّى الله عليه وسلّم يومئذ جيش، بل كان أتباعه مشرّدين فى الآفاق، يلاقون العذاب من المشركين فى كل صوب، حتى لقد قال عمر رضى الله عنه: لما نزلت لم أعلم ما هى؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس الدرع ويقول: سيهزم الجمع فعلمته- ثم استمر انهزامهم بعد. روى البخاري عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال وهو فى قبّة له يوم بدر: أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم فى الأرض أبدا فأخذ أبو بكر رضى الله عنه بيده وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك، فخرج وهو يثب فى الدرع ويقول: « (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) » .

[سورة القمر (54) : الآيات 47 إلى 55]

ثم بين أن هذا عذاب الدنيا وسيلاقون يوم القيامة ما هو أشد منه نكالا فقال: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي إن ما سيلاقونه من العذاب فى الدنيا من الهزيمة والقتل والأسر- هيّن إذا قيس على ما سيلاقونه من العذاب فى الآخرة، فإن ذا أشد وآلم، فهو عذاب خالد دائم، وسيأتى بعد وصف ما فيه من فظاعة ونكر. [سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 55] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) تفسير المفردات المراد بالمجرمين: المشركون كما جاء فى قوله: «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ» . فى ضلال: أي فى الدنيا عن الحق، وسعر: أي نيران واحدها سعير، يسحبون: أي يجرّون، سقر: اسم لجهنم، ومسها: حرها، بقدر: أي مقدر مكتوب فى اللوح المحفوظ، أمرنا: أي شأننا، واحدة: أي كلمة واحدة وهى قوله (كن) كلمح البصر: أي فى اليسر والسرعة، أشياعكم: أي أشباهكم فى الكفر من الأمم السالفة، واحدهم شيعة، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع، مدكر: أي متعظ، فى الزبر: أي فى كتب الحفظة،

المعنى الجملي

مستطر: أي مسطور مكتوب فى اللوح بتفاصيله، نهر: أي أنهار، فى مقعد صدق: أي فى مكان مرضى، عند مليك مقتدر: أي عند ملك عظيم القدرة واسع السلطان. المعنى الجملي بعد أن ذكر تكذيب الأمم الماضية لرسلها كما كذبت قريش نبيها، وأعقبه بذكر ما أصابهم فى الدنيا من العذاب والهوان- أردف ذلك ذكر ما سينالهم من النكال والوبال فى الآخرة، فبين أنهم سيساقون على وجوههم إلى جهنم سوقا، إهانة وتحقيرا لهم، ويقال لهم حينئذ توبيخا وتعنيفا: ذوقوا عذاب النار وشديد حرها. ثم أعقبه ببيان أن كل شىء فهو بقضاء الله وقدره، وإذا أراد الله أمرا فإنما يقول له كن فيكون، ثم نبههم إلى ما كان يجب عليهم أن يتنبهوا له من هلاك أمثالهم من الأمم التي كذبت رسلها من قبل، وفعلت فعلها فأخذها أخذ عزيز مقتدر ثم ختم السورة بذكر ما يتمتع به المتقون فى جنات النعيم، من إجلال وتعظيم، ويرون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الإيضاح (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إن المشركين بالله المكذبين لرسله- فى ضلال عن الصراط المستقيم، وعماية عن الهدى فى الدنيا، وعذاب أليم فى نار جهنم يوم القيامة. ثم بين ما يلحقهم من الإهانة والإذلال حينئذ فقال: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي يعذبون ويهانون يوم يجرّون على وجوههم فى النار، ويقال لهم إيلاما وتعنيفا: ذوقوا حر النار وآلامها جزاء وفاقا لتكذيبكم رسل ربكم فى كل ما جاءوا به من الإنذار بهذا اليوم، والتحذير مما يقع فيه للكافرين من العذاب، والتبشير بما للمتقين فيه من ثواب.

ثم بين أن كل ما يوجد فى هذه الحياة فهو لا يحدث اتفاقا، وإنما يحصل بقضاء الله وقدره فقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي إن كل كائن فى هذه الحياة، فهو بتقدير الله وتكوينه على مقتضى الحكمة البالغة والنظام الشامل، وبحسب السنن التي وضعها فى الخليقة. ونحو الآية قوله: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» وقوله: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى» وفى الحديث الصحيح «استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو أنى فعلت لكان كذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان» وفى حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: « ... واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، جفت الأقلام، وطويت الصحف» . وبعد أن بين نفاذ قدره فى خلقه بين نفاذ مشيئته فيهم فقال: (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي إنا إذا أردنا أمرا قلنا له كن فإذا هو كائن ولا يحتاج إلى تأكيد الأمر بثانية ولا ثالثة، ولله در القائل: إذا أراد الله أمرا فإنما ... يقول له (كن) قولة فيكون وهذا تمثيل لسرعة نفاذ المشيئة فى إيجاد الخلق، فهى كلمح البصر أو هى أقرب. وجماع القول- ما أمرنا للشىء إذا أردنا إيجاده إلا قولة واحدة (كن) فيكون لا مراجعة فيها ولا ردّ، فهى فى السرعة كلمح البصر لا إبطاء ولا تأخير. ثم أنبهم على ما هم فيه من غفلة وعماية عن الحق بعد وضوحه فقال: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي ولقد أهلكنا أشباهكم يا معشر قريش من المكذبين لأنبيائهم من الأمم الخالية، واستأصلنا شأفتهم بحسب سنتنا فى أمثالهم، بشتى العقوبات، ومختلف الوسائل «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ.

وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» أفما كان لكم فى ذلك مزدجر تعتبرون به، فتنيبوا إلى ربكم وتسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون؟ ونحو الآية قوله: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ» ثم بين لهم أن كل أعمالهم محصاة عليهم وسيحاسبون على النقير والقطمير فقال: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي وكل شىء يفعلونه، فيدسون به أنفسهم من الكفر والمعاصي، ويدنسونها به من الأرجاس والآثام فهو مقيّد لدى الكرام الكاتبين كما قال: «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» فما من صغيرة ولا كبيرة إلا وهى مسطورة فى دواوينهم، وصحائف أعمالهم، فليحذروا ما هم عليه قادمون من الحساب العسير على الجليل والحقير، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. روى الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «يا عائشة إياك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا» . وقيل: لا تحقرنّ من الذنوب صغيرا ... إن الصغير غدا يعود كبيرا إن الصغير وإن تقادم عهده ... عند الإله مسطّر تسطيرا فاسأل هدايتك الإله فتتئد ... فكفى بربك هاديا ونصيرا وبعد أن ألمع إلى ما يصيب الكافرين من الإهانة فى ذلك اليوم- أردفه ما يناله المتقون من الكرامة عند ربهم، وما يحظون به من الشرف والزلفى، بحسب سنة القرآن من ذكر الثواب إثر العقاب والعكس بالعكس فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي إن الذين اتقوا عقاب ربهم فأطاعوه، وأدوا فرائضه واجتنبوا معاصيه، وأخلصوا له العمل فى السر والعلن، يثبهم بما عملوا جنات تجرى من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور

خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة

من ذهب، ويجلسون على فرش بطائنها من إستبرق، ويجدون فيها من النعيم ما لا يخطر على قلب بشر، كفاء ما بذلوا من الصبر على شاقّ الطاعات، وحرموا منه أنفسهم من اللذات، كما قيل للربيع بن خيثم وقد صلّى حتى ورمت قدماه، وتهجد حتى غارت عيناه: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب. كما ينالون الزلفى عند ربهم القادر على جزائهم بإحسانه وجوده، وفضله ومنته فكل شىء تحت قبضته وسلطانه، لا يمانع ولا يغالب، وهو العزيز الحكيم. اللهم احشرنا فى زمرتهم واجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، إنك أنت السميع المجيب، ذو الطّول العظيم. خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة (1) الإخبار بقرب مجىء الساعة. (2) تكذيب المشركين للرسول وقولهم فى معجزاته: إنها سحر مفترى. (3) غفلتهم عما فى القرآن من الزواجر. (4) أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى يأتى قضاء الله فيهم. (5) إنذارهم بأنهم سيحشرون أذلاء ناكسى الرءوس مسرعين كأنهم جراد منتشر. (6) قصص المكذبين من سالفى الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون، وما لا قوه من الجزاء على تكذيبهم. (7) توبيخ المشركين على ما هم فيه من الغفلة عن الاعتبار بهذه النذر. (8) ما يلاقونه من الجزاء فى الآخرة إهانة وتحقيرا لهم. (9) بيان أن كل ما فى الوجود فهو بقضاء الله وقدره. (10) نفاذ مشيئة الله وسلطانه فى الكون. (11) بيان أنّ كل أعمال المرء فى كتاب قد خطه الكرام الكاتبون. (12) ما أوتيه المتقون من الكرامة عند ربهم وما لهم من الزلفى لديه.

سورة الرحمن

سورة الرحمن هى مكية وآيها ثمان وسبعون، نزلت بعد سورة الرعد. ووجه صلتها بما قبلها: (1) إن فيها تفصيل أحوال المجرمين والمتقين التي أشير إليها فى السورة السابقة إجمالا فى قوله: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ» وقوله: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ» (2) إنه عدّد فى السورة السابقة ما نزل بالأمم التي قد خلت من ضروب النقم وبين عقب كل ضرب منها أن القرآن قد يسّر لتذكر الناس وإيقاظهم، ثم نعى عليهم إعراضهم- وهنا عدد ما أفاض الله على عباده من ضروب النعم الدينية والدنيوية فى الأنفس والآفاق، وأنكر عليهم إثر كل فن منها إخلالهم بموجب شكرها. (3) إن قوله: «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ» كأنه جواب سائل يقول: ماذا صنع المليك المقتدر، وما أفاد برحمته أهل الأرض؟. [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الرحمن: اسم من أسماء الله الحسنى، والإنسان هو هذا النوع، البيان: تعبير الإنسان عما فى ضميره وإفهامه لغيره، بحسبان: أي بحساب دقيق منظم، والنجم: ما لا ساق له من النبات كالحنطة والفول، والشجر: ما له ساق كالنخل والبرتقال، يسجدان: أي ينقادان لله طبعا كما ينقاد المكلفون اختيارا، رفعها: أي خلقها مرفوعة المحل والمرتبة، والميزان: العدل والنظام، وأقيموا الوزن بالقسط: أي قوّموا وزنكم بالعدل، ولا تخسروا الميزان: أي لا تنقصوه، للأنام: أي للخلق، والأكمام: واحدها كمّ (بالكسر) وعاء الثمر، والعصف: ورق النبات الذي على السنبلة، والريحان: كل مشموم طيب الرائحة من النبات، والآلاء: النعم واحدها إلى (بفتح الهمزة وكسرها) وإلى وإلو. المعنى الجملي بين سبحانه ما صنعه المليك المقتدر من النعم لعباده، رحمة بهم فأفاد: (1) أنه علم القرآن وأحكام الشرائع لهداية الخلق وإتمام سعادتهم فى معاشهم ومعادهم. (2) أنه خلق الإنسان على أحسن تقويم وكمله بالعقل والمعرفة. (3) أنه علمه النطق وإفهام غيره، ولا يتم هذا إلا بنفس وعقل. (4) أنه سخر له الشمس والقمر والنجوم على نظام بديع ووضع أنيق لحاجته إليها فى دنياه ودينه. (5) أنه سخر له النجم والشجر ليقتات منهما.

الإيضاح

(6) أنه رفع السماء وأقامها بالحكمة والنظام. (7) أنه أوجد الأرض وما فيها من نخل وفاكهة وحب ذى عصف وريحان. الإيضاح (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي الله سبحانه علم محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن، ومحمد علمه أمته. وهذه الآية نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا: «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» . ولما كانت هذه السورة لتعديد نعمه التي أنعم بها على عباده- قدّم النعمة التي هى أجلّها قدرا وأكثرها نفعا، وأتمها فائدة، وهى نعمة تعليم القرآن الكريم، فباتباعه تكون سعادة الدارين، وبالسير على نهجه تنال الرغائب فيهما وهو سنام الكتب السماوية، وقد نزل على خير البرية. ثم امتنّ بعد هذه النعم بنعمة الخلق التي هى مناط كل الأمور ومرجع جميع الأشياء فقال: (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي خلق هذا الجنس وعلمه التعبير عما يختلج بخاطره ويدور بخلده، ولولا ذلك ما علم محمد القرآن لأمته. ولما كان الإنسان مدنيا بطبعه لا يعيش إلا مجتمعا بسواه- كان لا بد له من لغة يتفاهم بها مع سواه من أبناء جنسه ويكتب إليه فى الأقطار النائية، والبلاد النازحة، ويحفظ علوم السلف، لينتفع بها الخلف، ويزيد فيها اللاحق، على ما فعل السابق. وهذه منة روحية كبرى لا تعدلها منة أخرى فى هذه الحياة، ومن ثم قدمها على النعم الأخرى الآتية. وقد بدأ أوّلا بما يتعلّم وهو القرآن الذي به السعادة، ثم ثنى بالتعلم، ثم ثلث بطريق التعلم وكيفيته، ثم انتقل إلى ذكر الأجرام العلوية التي ينتفع بها الناس فى معاشهم فقال:

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي إن الشمس والقمر وهما من أعظم الأجرام يجريان فى بروجهما ومنازلهما بحساب مقدر معلوم، وبهما تنتظم أمور المخلوقات الأرضية، وتختلف الفصول، وبهذا الحسبان انتفع بهما الناس فى شئون الزراعات كمواعيد البذر والحصاد، وما ينفع منها فى كل فصل من الفصول، وفى الأمور المالية من بيع وشراء لآجال محدودة من شهور وسنين، وفى تقدير الأعمار والآجال التي تقدمت، وجاءت فى أخبار الماضين، والتي ستكون للحاضرين. وبعد أن ذكر أن الشمس والقمر طوع قدرته وقد جعل لهما النظم الدقيقة فى الحسبان- أردفه انقياد العوالم الأرضية له فقال: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) أي والزرع والشجر ينقادان لله فيما أراد بهما طبعا كما ينقاد المكلف اختيارا، فما اختلاف ثمرهما فى الشكل والهيئة واللون والمقدار والطعم والرائحة، إلا انقياد للقدرة التي أرادت ذلك. (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي وجعل العالم العلوي رفيع القدر، إذ هو مبتدأ أحكامه، ومتنزّل أوامره ونواهيه لعباده، وسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحى على أنبيائه، وجعل نظم العالم الأرضى تسير على نهج العدل، فعدل فى الاعتقاد كالتوحيد، إذ هو وسط بين إنكار الإله والشرك به، وعدل فى العبادات والفضائل والآداب، وعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر عباده بتزكية نفوسهم وأباح لهم كثيرا من الطيبات لحفظ البدن، ونهى عن الغلوّ فى الدين والإسراف فى حب الدنيا، وهكذا ترى أن عدله شامل لكل ما فى هذا العالم لا يغادر الصغير ولا الكبير منه. (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي فعل ذلك لئلا تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغى من العدل والنّصفة وجرى الأمور وفق ما وضع لكم من سنن الميزان فى كل أمر، فترقى شئونكم، وتنتظم أعمالكم وأخلاقكم. ثم أكد هذا بقوله:

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي وقوّموا وزنكم بالعدل، ولا تنقصوه شيئا وفى هذا إشارة إلى مراعاته فى جميع أعمال الإنسان وأقواله. والتكرير للتوصية به، وتأكيد الأمر باستعماله والحث عليه، وقد أمر سبحانه أوّلا بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو مجاوزة الحد، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس. وقال قتادة فى الآية: اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن فى العدل صلاح الناس. وبعد أن ذكر نعمه الدالة على قدرته برفع السماء ذكر مقابلها وهو الأرض فقال: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي والأرض بسطها لسكنى الحيوان من كل ما له روح وفيه حياة، لينتفع بما فى ظاهرها وما فى باطنها فى معايشه على ضروب مختلفة وأشكال لا حصر لها. ثم فصل ما تقدم بقوله: (فِيها فاكِهَةٌ) أي فيها ما يتفكه به من ألوان الثمار طازجة ومطبوخة ومجففة على شتى الأشكال وضروب الألوان. (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي والنخل ذات الأوعية لثمرها حين ظهوره. وأفردها بالذكر لكثرتها بالبلاد العربية، وكثرة فوائدها، لأنه ينتفع بثمارها رطبة ويابسة، وينتفع بجميع أجزائها، فيتخذ من خوصها السلال والزنابيل، ومن ليفها الحبال، ومن جريدها سقف البيوت، ويؤكل جمّارها، ومن ثم ذكرها باسمها، وذكر الفاكهة دون أشجارها. (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) أي وجميع الحبوب التي يقتات بها كالحنطة والشعير، ولها عصف من الورق على سنابلها، وكل مشموم من النبات تطيب رائحته. وذكر أولا الفاكهة، لأنها للتفكهة فحسب، ثم النخل لأن ثمرها فاكهة وغذاء

ثم الحب الذي عليه المعول فى الغذاء فى جميع البلاد، فهو أتم نعمة لموافقته لمزاج الإنسان، ومن ثم خلقه الله فى سائر البلاد، وجعل النخل فى البلاد الحارة دون غيرها. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى النعم المتقدمة يا معشر الثقلين من الجن والإنس تكذبان؟ والمراد من تكذيب آلائه كفرهم بربهم، لأن إشراكهم آلهتهم به فى العبادة دليل على كفرانهم بها، إذ من حق النعم أن تشكر، والشكر إنما يكون بعبادة من أسداها إليهم. والتعبير (بالرب) للاشارة إلى أنها نعم صادرة من المالك المربّى لهما الذي ينميهما أجساما وعقولا، فهو الحقيق بالحمد والشكر على ما أولى وأنعم، والعبادة له دون سواه. وقد كررت هذه الآية فى واحد وثلاثين موضعا من السورة تقريرا للنعمة، وتأكيدا للتذكير بها، فتراه عدّد نعمه على الخلق وفصل بين كل نعمتين بما يذكرهم ويقررهم بها. وهذا أسلوب كثير الاستعمال فى كلام العرب، فترى الرجل يقول لمن أحسن إليه بنعمة وهو يكفر بها: ألم تكن فقيرا فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك؟ أفتنكر هذا، ألم تكن خاملا فرفعت قدرك، أفتنكر هذا؟. فكأنه سبحانه قال: ألم أخلق الإنسان. وأعلمه البيان. وأجعل الشمس والقمر بحسبان. وأنوّع الشجر. وأبدع الثمر. وأعممها فى البدو والحضر، لمن آمن بي وكفر. وأسقيها حينا بالمطر، وآونة بالجداول والنّهر. أفتنكران ذلك أيها الإنس والجن؟. وقد جاء مثل هذا فى أشعارهم: انظر قول مهلهل يرثى أخاه كليبا: على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خرجت مخبّأة الخدور على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما خار جأش المستجير

[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 إلى 25]

وهى قصيدة طويلة على هذا النسق، ولها نظائر أيضا فى رثائه، ولولا خشية التطويل لأوردنا شيئا منها. وعدلا أي مثلا ونظيرا. [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 25] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) تفسير المفردات الصلصال: الطين اليابس الذي له صلصلة وصوت إذا نقر، والفخار: الخزف وهو الطين المطبوخ، والجان: نوع من الجن، والمارج: اللهب الخالص الذي لا دخان فيه، رب المشرقين: أي مشرقى الشمس صيفا وشتاء، ورب المغربين: أي مغربيهما كذلك، مرج البحرين: أي أرسلهما وأجراهما من قولك مرجت الدابة فى المرعى: أي أرسلتها فيه، يلتقيان: أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما فى رأى العين، برزخ: أي حاجز، لا يبغيان: أي لا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال خاصته، واللؤلؤ: الدر المخلوق فى الأصداف، والمرجان: الخرز الأحمر، الجواري: السفن الكبار، المنشئات: أي المصنوعات، والأعلام: الجبال واحدها علم وهو الجبل العالي.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن عدد سبحانه كثيرا من النعم وكان بعضها يحتاج إلى زيادة إيضاح وبيان كخلق الإنسان، وحساب الشمس والقمر، وأسباب نمو الزرع والشجر- فصل أحوالها على الترتيب السابق. الإيضاح (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) أي خلق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام من طين يابس له صلصلة إذا نقر، وهو كالخزف المطبوخ فى صلابته. إيضاح هذا أن الطين المطبوخ مركب من الطين والحرارة التي أنضجته وسوّته لتحفظ كيانه وهكذا الإنسان له شهوة الطعام والشراب والتزاوج، لتبقى بنيته وتدوم حياته بالمادة الأرضية التي اجتذبها النبات من الأرض، وله قوة غضبية تورثه الشجاعة والقوة، ليحافظ على بقائه وحياته، ويمنع عن نفسه عاديات الكواسر، ومهاجمات الجيوش والأعداء المحيطة به من كل جانب، وهذه القوة فى الإنسان تقابل طبخ الطعام ليصير فخارا، فتتماسك أجزاؤه، ولولاها لما استطاع المحافظة على هيكله المنصوب، وجسمه المحبوب، من الكواسر وأهل القسوة من بنى الإنسان، ولأصبح قتيلا فى الفلوات تأكله الطير، أو تهوى بأجزائه الريح فى مكان سحيق، كما أن الطين إذا لم يطبخ يتفتت وتذروه الرياح أو يذوب فى أجزاء الأرض. وقد جاء فى الكتاب الكريم عبارات مختلفة فى خلق الإنسان باعتبار مراتب الخلق، فمرة قال إنه خلقه من تراب وأخرى قال إنه من طين لازب: أي لاصق باليد لما اختلط به من الماء، وهنا قال من صلصال.

(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أي وخلق الجن من النار الصافية المختلط بعضها ببعض، فمن لهب أصفر إلى أحمر إلى مشوب بالخضرة، فكما أن الإنسان من عناصر مختلفات، فالجانّ من أنواع من اللهب مختلطات. ولقد أظهر الكشف الحديث أن الضوء مركب من ألوان سبعة، ولفظ (المارج) يشير إلى ذلك، وإلى أن اللهب مضطرب دائما. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما أفاض عليكما فى تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم. روى نافع عن ابن عمر قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال: مالى أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم؟ قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ قال ما أتيت على قول الله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالت الجن: لا بشىء من نعمة ربنا نكذب» . ولما فرغ من إيضاح خلق الإنسان شرع يوضح خلق الشمس والقمر بحسبان قال: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي رب مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما، اللذين يترتب عليهما تقلب الفصول الأربعة، وتقلب الهواء وتنوعه، وما يلى ذلك من الأمطار والشجر والنبات والأنهار الجاريات. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى نعمة من هذه النعم تكذبان؟ أفتنكران الأمطار وفوائدها؟ أم تنكران ما لاختلاف الفصول من منافع، فبها تختلف صنوف المزروعات من صيفية إلى شتوية، أم تنكران ما لاختلاف الأجواء من مزايا فى تنظيم مزاج الإنسان والحيوان. ولما ذكر نعمه التي تترى على عباده فى البر أعقبها بنعمه عليهم فى البحر فقال: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا يبغى أحدهما على الآخر، فلا الملح يطغى على العذب فيجعله ملحا، ولا العذب يجعل البحر الملح مثله، فقد حجز بينهما ربهما بحاجز من

قدرته، أو بحاجز من الأجرام الأرضية، فترى نهر النيل بمصر يخرج من جبال الحبشة، ويجرى شمالا ختى يصب فى البحر الأبيض المتوسط، ولا يبغى أحدهما على الآخر. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأى هذه المنافع تكذبان؟ إذ لو بغى الملح على العذب لم نجد ماء للشرب ولا لسقى الحيوان والنبات ولم نجد ما نقتات به فنهلك جوعا، ولو بغى العذب على الملح لم نجد ما يصلح الهواء ويمنع عاديات الجراثيم التي فيه. (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وقد ثبت فى الكشف الحديث أن اللؤلؤ كما يستخرج من البحر الملح يستخرج من البحر العذب، وكذلك المرجان وإن كان الغالب أنه لا يستخرج إلا من الماء الملح. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى هذه النعم تكذبان؟ (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي وله السفن الكبار التي رفعت شرعها فى الهواء كالجبال الشاهفة، تجرى فى البحر بما ينفع الناس، فتنقل المتاجر من بلد إلى آخر، والأقوات من إقليم هى كثيرة فيه إلى آخر هو محروم منها، وبذا يتمّ تبادل السلع، وسدّ حاجات الأمم فى أقواتها ومشاربها. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى هذه النعم تكذبان- أبخلق موادّ السفن أم بكيفية تركيبها، أم بإجرائها فى البحر بأسباب لا يقدر عليها غيره سبحانه. أي عبادى، هل ظننتم أن مجرد الإيمان كاف لكم فى شكر هذه النعم، فهل خلقت الشمس والقمر والنجم والشجر والزرع والحب، والأنهار والبحار، والدّر والمرجان لقوم لا يعقلون، أو خلقتها لقوم يقبلون منى النعمة، وكيف يقبلونها دون أن يعرفوها؟ (8- مراغى- السابع والعشرون)

[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 إلى 30]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 30] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) تفسير المفردات فان: أي هالك، وجه ربك: أي ذاته، ذو الجلال والإكرام: أي ذو العظمة والكبرياء، يسأله من فى السموات والأرض: أي يطلبون منه ما يحتاجون إليه فى ذواتهم حدوثا وبقاء وفى سائر أحوالهم بلسان المقال أو بلسان الحال، هو فى شأن: أي فى أمر من الأمور، فيحدث أشخاصا ويجدد أحوالا. المعنى الجملي بعد أن ذكر النعم التي أنعم بها على عباده فى البر والبحر، فى السماء والأرض ردف ذلك بيان أن هذه النعم تفنى ولا تبقى، فكل شىء يفنى إلا ذاته تعالى، وكل من فى الوجود مفتقر إليه، فهو المدبر أمره، والمتصرف فيه، فهو يحيى قوما ويميت آخرين، ويرفع قوما ويخفض آخرين. الإيضاح (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي إن جميع أهل الأرض يذهبون ويموتون، وكذلك أهل السموات، ولا يبقى سوى وجه ربك الكريم، فإنه الحي الذي لا يموت أبدا. قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله فان، وقد ورد فى الدعاء المأثور يا حى يا قيّوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت،

برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك. ثم وصف سبحانه نفسه بالاستغناء المطلق، والفضل العام، وأنه ذو الجود والكبرياء، يعطى خلقه من النعم والإكرام ما يليق بحالهم، ولا يحجب فضله عن مخلوق خلقه. انظر إلى هذه النجوم الثواقب فى ظلمات الليل، ترها مشرقة ساطعة تتلألأ نورا تنشرح له الصدور، وتقرّ به العيون، فتتجلى لك عظمة الخالق وكبرياؤه، تموت الأحياء وتلك النجوم باقية، والأرض لم تتغير على ما نشاهد، وهذا مظهر الجلال والعظمة، جمال فى النجوم، بهجة فى الإشراق، مناظر باهرة، أنوار ساطعة، أجسام عظيمة أحوال تتقلب، وأهوال تتعاقب، والناس من بينها يخرون صعقين، فهذا لعمرك هو الجلال والعظمة، فسبحان الخلاق العظيم. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى هذه النعم تكذبان؟ فالفناء باب للبقاء وللحياة الأبدية، والنعم السرمدية، ولولا تحليل أجسامنا بالموت لتعطلت الحياة، إذ المادة الأرضية إذا بقيت على حال واحدة كانت قواها محدودة، لكن انبعاث الصور الكثيرة وتعاقبها جيلا بعد جيل يلبس المادة جميع الصور والأشكال ويجعل العالم فى تجدد مستمر. انظر إلى بنى الإنسان مثلا إذا توالدوا جيلا بعد جيل ولم يمت منهم أحد، فلا تمضى إلا أجيال معدودة حتى يكون على القدم ألف قدم، وتمتلئ الأرض بالآدميين، فلا يكفيهم حيوان أرضى ولا نبات مأكول ولا يجدون وسيلة للعيش إلا أن يأكل بعضهم بعضا، وتمتلىء الأرض رمما آدمية من السغب والمخمصة. والخلاصة- إن فى الفناء نعمتين: نعمة الرحمة بتعاقب الأجيال، ونعمة الخروج من سجن المادة إلى فسيح العالم الروحي وإلى التمتع بنعيم آخر بعد الموت.

ولما كان ما ذكر يتضمن الافتقار المتجدد إليه تعالى أوضحه بقوله: (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأن المادة دائما تلبس جديدا وتخلع قديما، فأجسامنا وأجسام الحيوان على هذا المنوال، فهما فى حاجة إلى بقاء الأجسام وتغذيتها وإذا انحل جسم افتقر إلى شىء يعوّض ما ذهب، فالتغيرات المستمرة افتقار، وهذا الافتقار مستمر فى كل لحظة، وذلك يدعو إلى السؤال من الواهب المعطى إما بالنطق وإما بتوجه النفس وطلبها العون والمدد والفيض من فضله. وجماع القول- أن المادة مفتقرة إلى بقاء ما يناسبها، فالنبات فى كل لحظة مفتقر إلى ما يبقيه من ماء وهواء وموادّ أخرى، والحيوان يطلب ما يحتاج إليه، والإنسان يسأل ما هو فى حاجة إليه: إما سؤال حال، وإما سؤال مقال فى كل وقت وآن. (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فمن شئونه أنه يحيى ويميت ويرزق، ويعزّ ويذل، ويمرض ويشفى، ويعطى ويمنع، ويغفر ويعاقب، ويرحم ويغضب، إلى نحو أولئك. ومن شئونه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبون منه على اختلاف حاجاتهم وتباين أغراضهم. عن عبد الله بن منيب قال: «تلا علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية فقلنا يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال: أن يغفر ذنبا، ويفرّج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين» أخرجه الحسن بن سفيان والبزار وابن جرير والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر. وقال ابن عيينة: الدهر عند الله يومان: يوم الدنيا وشأنه فيه الأمر والنهى، والإماتة والإحياء. ويوم القيامة وشأنه فيه الجزاء والحساب، وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية، وما صح من قوله صلّى الله عليه وسلم «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» فقال: شئون يبديها، لا شئون يبتديها. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى هذه النعم تكذبان؟ فكم من سؤال

[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 إلى 36]

أجبته، وكم من جديد أحدثته، وكم من ضعيف فى الحياة أرحته، إما بصحة تسعده، أو بموت من سجن المادة يخرجه. [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 36] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) تفسير المفردات سنفرغ لكم: أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، والمراد التوفر على الجزاء والانتقام منهما. قال الزجاج: الفراغ فى اللغة على ضربين: أحدهما الفراغ من الشغل، والآخر القصد للشىء والإقبال عليه كما هنا اه. والثقلان: الجن والإنس كما علمت، أن تنفذوا: أي تخرجوا، والأقطار: الجوانب واحدها قطر، والسلطان: القوة والقهر، والشواظ: اللهب الخالص، والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه، قال النابغة الذبياني: تضىء كضوء السراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا فلا تنتصران: أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكما منه ناصر. المعنى الجملي بعد أن عدّد سبحانه نعماءه على عباده فى البر والبحر وفى الأرض والسماء، ليشكروه على ما أنعم، ويعبدوه وحده على ما أعطى وتمم، وذكر أنهم مفتقرون إليه آناء الليل

الإيضاح

وأطراف النهار، ثم أرشد إلى أن هذه النعم لا تدوم، بل هى إلى زوال، فكل ما على وجه الأرض سيفنى، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات نبههم إلى أنه فى يوم القيامة سيلقى كل عامل جزاء ما عمل، وثواب ما اكتسب، ولا مهرب حينئذ من العقاب، ولا سبيل إلى الامتناع منه، وسيكون جزاء المشركين به العاصين لأوامره، نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كفر بربه وكذب برسله، فاستعدوا لهذا اليوم قبل أن تندموا، ولات ساعة مندم. الإيضاح (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنقصد لحسابكم ومجازاتكم على أعمالكم، وهذا وعيد شديد وتهديد من الله لعباده، كما يقول القائل لمن يهدده: إذا أتفرغ لك: أي أقصد قصدك. هذا، وإن شأن الآخرة ما هو إلا شأن من الشئون، فلا يشغله شأن عن شأن وهو القائل: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» والقائل: «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» . (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى نعم ربكما تكذبان يا معشر الثقلين، ومن جملتها التنبيه إلى ما ستلقونه من الجزاء فى هذا اليوم، تحذيرا مما سيؤدى إلى سوء الحساب، وشديد العقاب. ثم ذكر أنه لا مهرب فى هذا اليوم من جزاء كل عامل على عمله فقال: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من عقاب الله، فارّين من عذابه فافعلوا، والمراد أنكم لا تستطيعون ذلك، فهو محيط بكم لا تقدرون على الخلاص منه، فأينما ذهبتم أحيط بكم.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 إلى 45]

ثم بين السبب فى عدم إمكان المهرب فقال: (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي إن المهرب إنما يكون بالقوة والقهر، وأنّى لكم بهما؟ وممن تستمدونهما وأنتم لا تجدون إذ ذاك حولا ولا طولا؟ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ومن جملتها النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد، فإنها تزيد المحسن إحسانا، وتكف المسيء عن إساءته، مع أن من حذّركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم دون مهلة، والعفو عن المذنب مع كمال القدرة عليه من أجلّ النعم التي يسديها الله إلى عباده. ثم بين السبب فى طلب المهرب فقال: (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) أي يصب عليكما ألوان من النيران، فمن لهب خالص يضىء كضوء السراج، إلى نار مختلطة بالدخان، فلا تستطيعان المهرب منها، بل يسوقكم إلى الحشر سوقا. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأى هذه النعم تكذبان، فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالإنعام على الأول والانتقام من الثاني، من أجلّ نعم الإله القادر على جزاء عباده. [سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)

تفسير المفردات

تفسير المفردات انشقت: تصدعت، وردة: أي كالوردة فى الحمرة، والدهان: ما يدهن به: أي كانت مذابة كالدهان، والسيما: العلامة، والنواصي: واحدها ناصية وهى مقدم الرأس، والأقدام: واحدها قدم، وهى قدم الرجل المعروفة، والحميم: الماء الحارّ، وآن: أي متناه فى الحرارة لا يستطاع شر به من شدة حرارته. المعنى الجملي بعد أن عدد عزت قدرته نعماءه على عباده، وما يجب من شكرهم عليها، ثم أرشدهم إلى أن هذه النعم لا بقاء لها ولا ثبات، ثم ذكر أن الناس محاسبون على الصغير والكبير من أعمالهم، وسيلقون الجزاء عليها، ولا مهرب حينئذ منها، ولا نصير لهم ينقذهم مما سيحل بهم من العذاب- ذكر هنا أنه إذا جاء ذلك اليوم اختل نظام العالم، فتتصدع السموات، ويحمر لونها، وتصير مذابة غير متماسكة، كالزيت ونحوه مما يدّهن به، ويكون للمجرمين حينئذ علامات يمتازون بها عن سواهم، فيتعرفهم الرائي لهم دون حاجة إلى سؤال نكالا وخزيا لهم، ثم يجرّون إلى جهنم من نواصيهم وأرجلهم، ويقال لهم توبيخا وتقريعا: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها، وينتقل بهم من جهنم إلى ماء حار كالمهل يشوى الوجوه ومن عذاب إلى ما هو أشد منه. الإيضاح (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) أي فإذا جاء يوم القيامة تصدعت السموات واختلت نظمها، وتبعثرت أجرامها وكواكبها عن مداراتها، واحمر لونها وأذيبت حتى صارت كأنها الزيت ونحوه مما يدّهن به. ونحو الآية قوله: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» .

وقوله: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» وقوله: «وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» . والخلاصة- إنها تذوب كما يذوب دردئ الزيت والفضة حين السبك، وتتلوّن كما تتلون الأصباغ التي يدّهن بها، فتارة تكون حمراء وأخرى صفراء وثالثة زرقاء. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر، فهو لطف أىّ لطف، ونعمة أيّما نعمة. (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) لأنهم يعرفون بسيماهم حينما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف. ونحو الآية قوله تعالى: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» ثم يسألون بعدئذ كما يدل على ذلك قوله: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» . (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأى هذه النعم تكذبان، فإن تخويف المجرم نعمة عليه، حتى يرتدع عن ذنبه، ويثوب إلى رشده، ويتوب إلى ربه. ثم ذكر السبب فى عدم سؤال الإنس والجان عن ذنوبهم فقال: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يعرف المجرمون حينئذ بعلامات يمتازون بها عن سواهم، فلا حاجة حينئذ إلى السؤال والجواب، لأن السيما ميزت كل مجرم بنوع جرمه. ولقد اهتدى الإنسان بعقله إلى فوائد هذه العلامات فى الدنيا، فأنشأت الحكومات إدارات خاصة لعلامات المشتبه فى سلوكهم ومعتادى الأجرام، فتأخذ إبهاماتهم وتحفظها فى أضابير خصّيصى بهم، ولكل امرئ خطوط فى إبهامه لا تشابه خطوط غيره فيه ولا يحصل فيها التباس، فمتى أحدث أحدهم حدثا وجاء بجرم روجع ملفّه الخاص،

واستخرجت صورة إبهامه من ملفه، وطبقت على الصورة الخارجية ولاقى فى المحاكم ما يستحقه من عقاب. والخلاصة- إن لكل امرئ أحوالا تخصه فى جسمه وعقله وأخلاقه، يعرف الناس منها الآن قليلا، وبقية علمها عند الله يعلمها ملائكته يوم القيامة فيعرفون المجرمين بها. ثم تسحبهم الملائكة تارة بأخذ النواصي، وأخرى بأخذ الأقدام، روى عن الضحاك «أن الملك يجمع بين ناصية أحدهم وقدميه فى سلسلة من وراء ظهره، ثم يكسر ظهره ويلقيه فى النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية، وبعضهم سحبا بالقدم، ولا نجزم بشىء من ذلك إلا بالنص القاطع. وهذا الوضع معهم سبيل من سبل الإهانة والإذلال والنكال. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما سلف حذو القذّة بالقذّة. (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها فى الدنيا، فهأنتم الآن قد شاهدتموها ورأيتموها رأى العين، فذوقوا عذابها واشربوا من الحميم الذي يقطّع الأمعاء والأحشاء فأنتم بين الجحيم والحميم. والخلاصة- إنهم إذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآنى الذي صار كالمهل (دردىء الزيت: أي عكره) . ونحو الآية قوله: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» . (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما قيل فيما سلف.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 إلى 61]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) تفسير المفردات الخوف فى الأصل: توقع المكروه عند ظهور أمارة مظنونة أو محققة، وضده الأمن ويراد به هنا الكفّ عن المعاصي مع فعل الطاعات، ومقام ربه: أي قيامه عليه واطلاعه على أعماله، جنتان: أي جنة روحية لقلبه، وجنة جسمانية على شاكلة ما عمل فى الدنيا، وقيل إنهما منزلان ينتقل بينهما لتتوافر دواعى لذته، وتظهر آثار كرامته، ذواتا: مثنى ذات بمعنى صاحبة، والأفنان: الأنواع واحدها فنّ: أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، زوجان: أي صنفان رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه فى الفضل والطيب، والفرش: واحدها فراش، والبطائن: واحدها بطانة، والإستبرق: الديباج أي الحرير الثخين، والجنى: الثمر، دان: أي قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع، قاصرات الطرف: أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن

المعنى الجملي

لا ينظرن إلى غيرهم، لم يطمثهن: أي لم يمسسهن، وأصل الطمث: خروج الدم، ويراد به قربان النساء، كأنهن الياقوت: أي فى الصفاء، والمرجان: أي صغار اللؤلؤ فى البياض. المعنى الجملي بعد أن ذكر ما يراه المشركون بربهم، والعاصون لأوامره ونواهيه من الأهوال، من إرسال الشواظ من النار عليهم، ومن أخذهم بالنواصي والأقدام، إهانة لهم واحتقارا ومن التنقل بهم بين النار والحميم الآنى الذي يشوى الوجوه- ذكر هنا ما أعده من النعيم الروحي والجسماني لمن خشى ربه، وراقبه فى السر والعلن، فمن جنات متشابهة الثمار والفواكه تجرى من تحتها الأنهار، جناها دان لمن طلبه وأحب نيله، يجلس فيها على فرش بطائنها من الديباج، ومن نساء حسان لم يقرب منهن أحد لا من الإنس ولا من الجن، وهن كالياقوت صفاء واللؤلؤ بياضا، وذلك كفاء ما قدموا من صالح العمل، وما أسلفوا فى الأيام الخالية، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟. الإيضاح (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي ولمن خشى ربه وراقبه فى أعماله، وأيقن بأنه مجازيه عليها يوم العرض والحساب، يوم تجزى كل نفس بما كسبت، فإذا هو همّ بمعصية ذكر الله وأنه عليم بسره ونجواه، فتركها مخافة عقابه، وشديد حسابه، ففعل الخير وأحب الخير للناس- جنتان: جنة روحية تصل به إلى حظيرة القدس، وجمال الملكوت ورضا الله عنه «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» وجنة جسمانية بمقدار ما عمل فى الدنيا من خير، وقدم من صالح عمل، فبأى نعم ربكما

أيها الثقلان تكذبان، فإثابته المحسن منكم بما وصف، وعقابه العاصي بما عاقب من النعم العظمى، والمنن الكبرى. (ذَواتا أَفْنانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ذواتا أنواع وألوان من الأشجار والثمار من قولهم «افتن فلان فى حديثه إذا أخذ فى فنون منه وضروب مختلفة، والمتنوقون فى الدنيا يتنقلون من فاكهة إلى أخرى فيكون ذلك أدعى إلى زيادة اللذة، وأكثر شهوة للطعام، كما قال قائلهم: ومن كل أفنان اللذاذة والصّبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما عينان تسرحان وتسقيان تلك الأشجار والأغصان، إحداهما يقال لها التسنيم، والأخرى السلسبيل قاله الحسن البصري. وقال أبو بكر الوراق: تجريان لمن كانت عيناه فى الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل، فتجريان فى كل مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه، كما تصعد المياه فى الأشجار فى كل غصن منها وإن زاد علوها. (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما من كل فاكهة صنفان: رطب ويابس، لا ينقص أحدهما عن الآخر لذة وطيبا، بخلاف ثمار الدنيا فإن الطازج فيها ألذ طعما وأشهى مأكلا. وبعد أن ذكر طعامهم ذكر فراشهم فقال: (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي مضطجعين على فرش بطائنها من الديباج الغليظ، وإذا كانت هذه حال البطائن فما ظنكم بالظهائر؟ ومن ثم روى عن ابن مسعود أنه قال: أخبرتم بالبطائن، فكيف لو أخبرتم بالظهائر؟ وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله فيه «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» وبمثله قال ابن عباس.

وفى هذا دليل على شرف هذه الفرش، وتمتع أهلها بالثواب العظيم، والنعيم المقيم. وإنما ذكر الاتكاء، لأنه هيئة تدل على صحة الجسم، وفراغ القلب، إذ العليل لا يستطيع أن يستلقى أو يستند إلى شىء، وهو مشغول القلب يتحرك تحرك المحضر للعقاب. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وثمرهما قريب منهم متى شاءوا، ونحو الآية قوله: «قُطُوفُها دانِيَةٌ» وقوله: «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» فهى لا تمتنع ممن أرادها، بل تنحط إليه من أغصانها. ثم ذكر أوصاف النساء اللواتى يمتعون بهنّ فقال: (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فى تلك الجنات نساء غضيضات الطرف عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئا فيها أحسن منهم، وهن أبكار لم يمسسهن أحد قبل أزواجهن لا من الجن ولا من الإنس. (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي كأنهن الياقوت صفاء وصغار اللؤلؤ بياضا. أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فى الآية: فى صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ. ثم بين السبب فى هذا الجزاء فقال: (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ما جزاء الإحسان فى العمل إلا الإحسان فى المثوبة. ونحو الآية قوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» . وعن أنس بن مالك قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هل جزاء

[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 إلى 78]

الإحسان إلّا الإحسان، وقال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي، وروى عن ابن عباس «هل جزاء من قال: لا إله إلا الله فى الدنيا إلا الجنة فى الآخرة؟» . [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) تفسير المفردات ومن دونهما: أي من ورائهما وأقل منهما، مدهامتان: أي خضراوان بسواد لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري بالماء ونحوه، نضاختان: أي فوارتان بالماء، والنضخ: فوران الماء، حور واحدتهن حوراء: أي بيضاء. قال ابن الأثير: الحوراء هى الشديدة بياض العين والشديدة سوادها، خيرات: أي

المعنى الجملي

خيّرات بالتشديد فخفف كما جاء فى الحديث «هينون لينون» ، مقصورات فى الخيام: أي مخدّرات، يقال امرأة قصيرة ومقصورة: أي مخدرة ملازمة بيتها لا تطوف فى الطرق. قال قيس بن الأسلت: وتكسل عن جاراتها فيزرنها ... وتعتلّ من إتيانهن فتعذر والخيام: واحدها خيمة وهى أربعة أعواد تنصب وتسقف بشىء من نبات الأرض، وما يتخذ من شعر أو وبر فهو خباء، والرفرف واحده رفرفة: وهى الوسادة (المخدّة) أو ما تدلّى من الأسرّة من غالى الثياب، والعبقرىّ: منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد يسكنه الجن ويسندون إليه كل شىء عجيب، والمراد العجيب النادر الموشى من البسط، تبارك اسم ربك: أي تقدس وتنزه ربنا الذي أفاض على عباده نعمه. المعنى الجملي هذا تتميم لوصف الجنات بما يشوق الراغبين فيها، ليعملوا ما يوصلهم إليها، ويرضى ربهم عنهم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. الإيضاح (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مُدْهامَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ومن وراء هاتين الجنتين وأقل منهما فضلا جنتان تنبتان النبات والرياحين الخضراء التي تضرب إلى السواد من شدة خضرتها، لكثرة الري، وأما الجنتان السابقتان ففيهما أشجار وفواكه، وفرق ما بين الحالين، فبأى هذه النعم تكذبان وهى نعم واضحة لا تجحد ولا تنكر. قال الحسن: الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين لهم. وعن أبى أيوب الأنصاري قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله مدهامتان؟ قال: خضراوان» أخرجه الطبراني وابن مردويه.

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) النضح كالرش فهو دون الجري، ومن ثم قال البراء بن عازب فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبى حاتم: «العينان اللتان تجريان خير من النضاختين» . أي فيهما عينان تفوران بالماء. وقال مجاهد: نضاختان بالخير والبركة. (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) خص النخل والرمان مع دخولهما فى الفاكهة، تنبيها إلى ما لهما من ميزة عن غيرهما من الفواكه، لأنهما يوجدان فى الخريف والشتاء، ولأنهما فاكهة وإدام، وقد جاء مثل هذا فى قوله تعالى: «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» وقوله: «وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» . (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فى تلك الجنات نساء خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه. روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا رسول الله أخبرنى عن قوله تعالى خيرات حسان؟ قال: خيّرات الأخلاق حسان الوجوه» . وقال الرازي: فى باطنهن الخير، وفى ظاهرهن الحسن. وروى أن الحور يغنّين: نحن الخيّرات الحسان، خلقن لأزواج كرام. (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهؤلاء الخيّرات الحسان واسعات العيون مع صفاء البياض حول السواد، محبوسات فى الحجال، فلسن بطوّافات فى الطرقات، والعرب يمدحون النساء الملازمات للبيوت للدلالة على شدة الصيانة. (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم الكلام فى نظيره قبل. (9- مراغى- السابع والعشرون)

سورة الواقعة

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهم يتكئون على ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج، ووسائد عظيمة، وبسط لها أطراف فاخرة، غاية فى كمال الصنعة وحسن المنظر. (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي تعالى ربك ذو الجلال والعظمة والتكريم على ما أنعم به وتفضل من نعم غوال، ومنن عظام. وهذا تعليم منه لعباده بأن كل هذا من رحمته، فهو قد خلق السماء والأرض والجنة والنار، وعذّب العاصين، وأثاب المطيعين، وآتاهم من فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. سورة الواقعة هى مكية إلا قوله: «أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» فمدنية، وآيها ست وتسعون، نزلت بعد طه. ووجه مناسبتها ما قبلها: (1) أن فى كل منهما وصف القيامة والجنة والنار. (2) أنه ذكر فى السورة السابقة عذاب المجرمين ونعيم المتقين، وفاضل بين جنتى بعض المؤمنين وجنتى بعض آخر منهم، وبين هنا انقسام المكلفين إذ ذاك إلى أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين. (3) أنه ذكر فى سورة الرحمن انشقاق السماء، وذكر هنا رجّ الأرض، فكأنّ السورتين لتلازمهما واتحادهما موضوعا سورة واحدة مع عكس فى الترتيب، فقد ذكر فى أول هذه ما فى آخر تلك، وفى آخر هذه ما فى أول تلك.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 إلى 12]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) تفسير المفردات وقعت: حدثت، والواقعة القيامة، لوقعتها: أي لوقوعها، كاذبة: أي كذب، ورجت: زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبال، وبست: أي فتتت وصارت كالسويق الملتوت، من قولهم بس فلان السويق: أي لتّه، وهباء: أي غبارا، منبثا: أي متفرقا، أزواجا: أي أصنافا. قال الراغب: الزوج يكون لكل من القرينين الذكر والأنثى فى الحيوانات المتزاوجة، ولكل قرينين منها ومن غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا اه والميمنة ناحية اليمين، والمشأمة ناحية الشمال والعرب يتيمنون بالميامن ويتشاءمون بالشمائل، والمراد أصحاب المرتبة السنية الرفيعة القدر، والسابقون: هم الذين سبقوا إلى الخيرات فى الدنيا، والمقربون: هم أرباب الحظوة والكرامة عند ربهم. المعنى الجملي حين تقع الواقعة ويجىء يوم القيامة لا تكذب نفس على الله فتنكره، إذ تحقق بالمعاينة وشهده كل أحد، أما فى الدنيا فما أكثر النفوس المكذبة به، المنكرة له،

الإيضاح

لأنهم لم يذوقوا العذاب كما عاينه المعذبون فى الآخرة. ثم وصف هذه الواقعة بأنها تخفض أقواما وترفع آخرين، وأن الأرض حينئذ تزلزل فيندك ما عليها من جبال وأبنية، وأن الجبال تتفتت وتصير كالغبار المنتشر فى الجو، وأن الناس إذ ذاك ينقسمون أفواجا ثلاثة: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون. الإيضاح (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي إذا قامت القيامة لا يكون لوقعتها ارتداد ولا رجعة كالحملة الصادقة من ذى سطوة قاهر قاله الحسن وقتادة وقد يكون المعنى- ليس فى وقت وقوعها كذب، لأنه حق لا شبهة فيه. ثم هوّل شأنها وعظم أمرها فقال: (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي هى خافضة لأقوام ورافعة لآخرين قاله ابن عباس، إذ الوقائع العظيمة شأنها الخفض والرفع كما يشاهد فى تبدل الدول من ذل الأعزة وعزّ الأذلة. وفى هذا إيماء إلى ما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات، ورفع السعداء إلى درجات الجنات، ومن ثم قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: خفضت أعداء الله إلى النار، ورفعت أولياءه إلى الحنة. (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي إذا وقعت الواقعة تزلزل الأرض زلزالا وتضطرب اضطرابا شديدا طولا وعرضا، فتندكّ الحصون والجبال، وتهدم البيوت والصياصي. قال الربيع بن أنس: ترجّ بما فيها كرجّ الغربال بما فيه. ونحو الآية قوله تعالى: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» وقوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» .

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي وتفتت الجبال تفتتا، وصارت كثيبا مهيلا بعد أن كانت شامخة. (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي فصارت كالهباء المنبث الذي ذرته الريح وفرقته. وقال قتادة: صارت كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح. والخلاصة- إن الجبال تزول عن أماكنها حينئذ، وتنسف نسفا، وتكون كالعهن المنفوش. (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي وصرتم أصنافا ثلاثة، وكل صنف يذكر أو يوجد مع صنف آخر يسمى زوجا كالعينين والرجلين، فكل منهما يسمى زوجا، وهما معا زوجان، فهاهنا أزواج ثلاثة لا زوجان. ثم فصل هذه الأزواج فقال: (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي فأصحاب الميمنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، أىّ شىء هم فى حالهم وصفتهم وسعادتهم؟ والمراد أنهم فى حال هى الغاية فى الحسن والكمال. ولا يخفى ما فى هذا من تفخيم شأنهم، وتعظيم أمرهم، وأنهم بلغوا حدا لا يقدر قدره من السعادة. (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي وأصحاب المشأمة الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، أي شىء هم فى حالهم؟ والمراد أنهم بلغوا الغاية فى سوء الحال. وقال المبرد: أصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر، والعرب تقول اجعلنى فى يمينك، ولا تجعلنى فى شمالك، أي اجعلنى من المتقدمين ولا تجعلنى من المتأخرين اه. أخرج أحمد عن معاذ بن جبل «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية ثم قبض بيديه قبضتين وقال هذه فى الجنة ولا أبالى وهذه فى النار ولا أبالى» .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 إلى 26]

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي والسابقون الذين يتقدمون غيرهم إلى الطاعات- هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت فخامة أمورهم، وقد يكون المعنى والسابقون إلى طاعة الله تعالى هم السابقون إلى رحمته سبحانه، فمن سبق فى هذه الدنيا إلى فعل الخير كان فى الآخرة من السابقين إلى دار الكرامة، فالجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان. وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» أخرجه أحمد. (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي أولئك المتصفون بذلك الوصف الجليل (السبق) هم الذين نالوا حظوة عند ربهم، وهم فى جنات النعيم، يتمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 26] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)

تفسير المفردات

تفسير المفردات الثلة: الجماعة قلّت أو كثرت، وقيل الجماعة الكثيرة من الناس كما قال: وجاءت إليهم ثلّة خندفيّة ... بجيش كتيّار من السيل مزبد موضونة من الوضن وهو: النسج، والولدان: واحدهم ولد، مخلدون: أي مبقون أبدا على هذه الصفة، أكواب: أي آنية لا عرا لها ولا خراطيم، أباريق: واحدها إبريق وهو إناء له خرطوم. قال عدىّ بن الرّقاع: ودعوا بالصّبوح يوما فجاءت ... به قينة فى يمينها إبريق كأس من معين: أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة، والمراد أنها لم تعصر كخمر الدنيا، لا يصدّعون عنها، أي لا يلحقهم صداع بسببها كما يحدث ذلك فى خمر الدنيا، ولا ينزفون: أي ولا تذهب عقولهم بالسكر منها، يقال نزف الشارب إذا ذهب عقله، ويقال للسكران نزيف ومنزوف، يتخيرون: أي يختارون ويرضون، حور: واحدتهن حوراء: أي بيضاء، عين: واحدتهن عيناء: أي واسعة العينين، المكنون: المصون الذي لم تمسسه الأيدى وهو أصفى وأبعد من التغير قال: قامت تراءى بين سجفى كلّة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد أو درّة صدفيّة غوّاصها ... بهج متى يرها يهلّ ويسجد لغوا: أي هزاء لا خير فيه، ولا تأثيما: أي ما يقال حين سماعه وقعتم فى الإثم. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن الناس يوم القيامة أصناف ثلاثة: سابقون وأصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة- أعقب ذلك بذكر ما يتمتع به السابقون من النعيم فى فرشهم وطعامهم وشرابهم ونسائهم وأحاديثهم التي تدل على صفاء النفس، وأدب الخلق، وسمو العقل.

الإيضاح

الإيضاح (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي هم جماعة كثيرة من سالفى الأمم وقليل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويستأنس لهذا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» . (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي على سرر منسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت، قال الأعشى فى وصف الدرع: ومن نسج داود موضونة ... تسير مع الحىّ عيرا فعيرا (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) أي متكئين على السرر ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، فهم فى صفاء وعيش رغد وحسن معاشرة، لا يوجد فى نفوسهم من الشحناء والبغضاء ما يوجب الافتراق. ثم ذكر ما هم فيه من ترف ونعيم، وأنهم مخدومون فى شرابهم وطعامهم، مكفيون مئونة ما يريدون فقال: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف عليهم غلمان وخدم على صفة واحدة لا يكبرون ولا يتغيرون، فهم دائما على الصفة التي تسر المخدوم إذا رأى الخادم. (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي يطوفون عليهم بأداة الشراب كاملة من أكواب وأباريق وخمر تجرى من العيون ولا تعصر عصرا فهى صافية نقية لا تنقطع أبدا، وهم يطلبون منها ما يريدون، ولا صداع فى شرابها، ولا ذهاب منها للعقل كما فى خمور الدنيا. روى عن ابن عباس أن فى خمر الدنيا أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، نزه الله خمر الجنة عنها» . وبعد أن وصف الشراب وصف الطعام فقال: (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ويطوفون بألوان من الفاكهة

[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 إلى 40]

المختلفة المطاعم، يختارون منها ما تميل إليه نفوسهم، وبأنواع من لحوم الطير مما لذّ وطاب، فيأخذون منها ما يشتهون، وفيه يرغبون. وبعد أن ذكر طعامهم وشرابهم أعقبه بذكر نسائهم فقال: (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي ويتمتعون بنساء بيض مشرقات الوجوه تبدو عليهم نضرة النعيم، وكأنهن اللآلئ صفاء وبهجة. ثم ذكر السبب فى متعتهم بكل هذا النعيم فقال: (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جازاهم ربهم على ما عملوا، وأثابهم بما كسبوا فى الدنيا، وزكّوا به أنفسهم من صالح الأعمال، ونصبوا له بأداء فروض دينهم على أتم الوجوه وأكملها، فهم كانوا قوّامين لليل، صوّامين للنهار «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» وبعد أن وصف النساء وصف حديثهم حينئذ فقال: (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) أي لا يسمعون اللغو الهراء من الحديث، ولا هجر القول وما تتقزز منه النفوس الراقية، ذات الأخلاق العالية، ولكن يسمعون أطيب السلام، وسامى الكلام، مما يستساغ كما قال سبحانه: «تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» . [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

تفسير المفردات

تفسير المفردات السدر: شجر النبق، مخضود: أي خضد شوكه أي قطع، والطلح: شجر الموز، منضود: أي نضد حمله من أسفله إلى أعلاه فليست له سوق بارزة، ممدود: أي منبسط ممتد لا يتقلص ولا يتفاوت، مسكوب: أي مصبوب يسكب لهم كما يشاءون بلا نصب ولا تعب، فرش: واحدها فراش كسرج وسراج، مرفوعة: أي عالية منضدة، عربا: واحدتهنّ عروب كصبر وصبور، أترابا: أي متساويات فى السن واحدتهن ترب. المعنى الجملي بعد أن ذكر حال السابقين وبين مالهم من نعيم مقيم، فى جنات النعيم- أردف ذلك ذكر حال أصحاب اليمين، فبين أنهم فى جنات يتخللها السدر المخضود، والموز المنضّد بعضه فوق بعض، والفاكهة الكثيرة التي لا تنقطع أبدا، ولا تمتنع عنهم متى شاءوا، وفيها فرش وثيرة مرتفعة عالية، ونساء حسان أبكار فى سن واحدة. الإيضاح (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي وأصحاب اليمين هم الغاية فى فخامة شأنهم، ورفعة قدرهم، وعلوّ منزلتهم. وقد جاء هذا الأسلوب فى كلام العرب لإفادة المبالغة فى مدح أو ذم فيقولون فلان ما فلان.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 إلى 56]

ثم فصل ما أبهم من حالهم بقوله: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي هم يتمتعون بجنات فيها السدر الذي قطع شوكه لا كسدر البرية فى الدنيا، وفيها الموز الذي ملىء ثمرا، فلا تظهر له سيقان، وفيها ظل ظليل يقيهم شديد الحر ووهج الشمس، وفيها ماء مصبوب لا يحتاج أهلها إلى تعب ونصب للحصول عليه، وفيها ضروب من الفاكهة التي لا تنقطع أبدا، ولا تمتنع عنهم فى وقت، فهم يجدونها متى شاءوا وأحبوا. ثم ذكر ما يمتعون به من الفرش فقال: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي وهم يجلسون على فرش وثيرة عالية وطيئة لا تتعب الجالس عليها. وبعدئذ ذكر ما يمتعون به من النساء فقال: (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً. لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي إنا أعددناهن نساء أبكارا متحببات إلى أزواجهن، إذ هنّ يحسنّ التبعّل، كلهن فى سن واحدة، لا تمتاز واحدة عن أخرى، وأعطيناهن لأصحاب اليمين. وأعاد ذكر (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) للتأكيد والتحقيق. (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي أصحاب اليمين جماعة من مؤمنى الأمم السالفة، وجماعة من مؤمنى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنما لم يقل فى حق هؤلاء جزاء بما كانوا يعملون كما قال ذلك فى حق السابقين إشارة إلى أن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره. [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

تفسير المفردات

تفسير المفردات السموم: حر نار ينفذ فى المسامّ، والحميم: الماء الشديد الحرارة، واليحموم: دخان أسود كما قال ابن عباس وابن زيد، لا بارد ولا كريم: أي لا هو بارد كسائر الظلال، ولا دافع أذى الحر لمن يأوى إليه، مترفين: أي منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون على شىء مما جاء به الرسل، يصرون: أي يقيمون ولا يقلعون، والحنث العظيم: أي الذنب العظيم وهو الشرك بالله وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون الله، والميقات: ما وقت به الشيء والمراد به يوم القيامة، وسمى به لأنه وقتت به الدنيا، وشجر الزقوم: شجر ينبت فى أصل الجحيم، والهيم: واحدها أهيم وهو الجمل الذي يصيبه الهيام (بالضم) وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقما شديدا، والنزل: ما يقدم للضيف إذا نزل تكرمة له، ويوم الدين: يوم الجزاء. المعنى الجملي بعد أن ذكر زوجين من الأزواج الثلاثة، وبين ما يلقاه كل منهم من عز مقيم، وشرف عظيم، فى جنات ونعيم، فى جملة شئونهم، فى مآكلهم ومشاربهم وفرشهم

الإيضاح

وأزواجهم- أردف ذلك ذكر الزوج الثالث، وبين ما يلقاه من النكال والوبال وسوء الحال، فهو يتظلى فى السموم، ويشرب ماء كالمهل يشوى الوجوه، ثم أعقبه بذكر السبب فى هذا، بأنهم كانوا فى دنياهم مترفين غارقين فى ذنوبهم، منكرين هذا اليوم يوم الجزاء ثم أمره أن يخبرهم بأن هذا اليوم واقع حتما وأن مأكلهم سيكون من شجر الزقوم يملئون منه بطونهم، ثم يشربون ولا يرتوون كالإبل الهيم، وهذا ما أعد لهم من كرم وحسن وفادة فى هذا اليوم. الإيضاح (وَأَصْحابُ الشِّمالِ، ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي أصحاب الشمال فى حال لا يستطاع وصفها، ولا يقدر قدرها من نكال ووبال وسوء منقلب. ثم فسر هذا المبهم بقوله: (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي هم فى حرّ ينفذ فى المسامّ، وماء متناه فى الحرارة، وظل من دخان أسود، ليس بطيّب الهبوب، ولا حسن المنظر، لأنه دخان من سعير جهنم يؤلم من يستظل به. قال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة (الكريم) فى النفي فيقولون هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم، وهذا اللحم ليس بسمين ولا كريم، وهذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة اه. وذكر السموم والحميم ولم يذكر النار، إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فإن هواءهم إذا كان سموما، وماءهم الذي يستغيثون به حميما، مع أن الهواء والماء من أبرد الأشياء وأنفعها، فما ظنك بنارهم، فكأنه قال: إن أبرد الأشياء لديهم أحرها، فما بالك بحالهم مع أحرّها؟. ونحو الآية قوله تعالى: «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ.

كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» . والخلاصة- إن السموم تضربهم فيعطشون، وتلتهم تارة أحشاءهم، فيشربون الماء فيقطّع أمعاءهم، ويريدون الاستظلال بظل، فيكون ظل اليحموم. ثم ذكر السبب فى تعذيبهم فقال: (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) أي إنهم كانوا فى الدنيا منعمين بألوان من المآكل والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، مهمكين فى الشهوات، فلا جرم عذّبوا بنقائضها، إلى أنهم كانوا ينكرون هذا اليوم ويقولون: أنبعث نحن وآباؤنا الأولون ونعود كرّة أخرى، وقد صرنا أجسادا بالية، وعظاما نخرة؟. والخلاصة- إنهم كانوا يمتّعون بوافر النّعم وجزيل المنن، وهم مع ذلك أصروا على كفرانهم، ولم يشكروا أنعم الله عليهم، فاستحقوا عقاب ربهم، وكانوا مكذبين بهذا اليوم، مستبعدين وقوعه، وركبوا رءوسهم فلم يلووا على شىء، وهاموا فى أودية الضلالة، وساروا فى سبيل الغواية، لا رقيب ولا حسيب. وقد جرت سنة القرآن أن يذكر أسباب العقاب، ولا يذكر أسباب الثواب، لأن الثواب فضل، والعقاب عدل، والفضل إن ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم فى المتفضل به نقص ولا ظلم، أما العدل فإن لم يعلم سببه فربما يظن أنه ضرب من الظلم. وقد ذكروا لاستبعاد هذا البعث أسبابا: (1) الحياة بعد الموت. (2) طول العهد بعد الموت حتى صارت اللحوم ترابا والعظام رفاتا. (3) بلغ الأمر منهم أن قالوا متعجبين: أو يبعث آباؤنا الأولون؟ فرد الله عليهم كل هذا وأمر رسوله أن يجيبهم.

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي أجبهم أيها الرسول الكريم قائلا لهم: إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم أشد الاستبعاد، والآخرين الذين تظنون أن لن يبعثوا- ليجمعون فى صعيد واحد فى ذلك اليوم المعلوم، ولا شك أن اجتماع عدد لا يحصى كثرة أعجب من البعث نفسه. ونحو الآية قوله فى سورة الصافات: «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» . ثم بين ما يلقاه أولئك المكذبون من الجزاء فى مآكلهم ومشاربهم فقال: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي أيها الذين ضللتم فأصررتم على الذنب العظيم، إذ لم توحّدوا الله ولم تفعلوا ما يوجب تعظيمه، ثم كذبتم رسله، فأنكرتم البعث والجزاء فى هذا اليوم- إنكم لآكلون من شجر الزقوم، فمالئون منها بطونكم، فشاربون بعد ذلك من ماء حارّ لغلبة العطش عليكم، ولكنه شرب لا يشفى الغليل، ومن ثم تشربون ولا ترتوون، فكأنكم الإبل التي أصيبت بداء الهيام، فلا يروى لها الماء غليلا. وخلاصة ذلك- إنه لزيادة العذاب لا ترتوون من شرب هذا الماء المنتن الحار فلا تمسكوا عنه، بل يكون شربكم كشرب الإبل التي تشرب ولا تروى. ثم بين أنه ليس هذا كل العذاب بل هو أوله وقطعة منه فقال: (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الزقوم المأكول، والحميم المشروب، أول الضيافة التي تقدم لهم كما يقدم للنازل مما حضر، فما بالك بهم بعد ما يستقر بهم المقام فى النار؟. ولا يخفى ما فى هذا من التهكم بهم، والتوبيخ لهم كما قال: وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 إلى 74]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) تفسير المفردات تمنون: أي تقذفونه فى الأرحام من النطف، تخلقونه أي تقدرونه وتصوّرونه بشرا سويا تام الخلق، قدرنا: أي قسمنا ووقتنا موت كل أحد بوقت، نبدل أمثالكم: أي نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم، فيما لا تعلمون: أي من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها، فلولا تذكرون: أي فهلا تتذكرون ذلك، تحرثون: أي تبذرون حبه، وتعملون فى أرضه، تزرعونه: أي تنبتونه وتجعلونه نباتا يرفّ، حطاما: أي هشيما متكسرا متفتتا لشدة يبسه بعد ما أنبتناه، تفكهون: أي تتعجبون من سوء حاله، مغرمون: أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال: إن يعذّب يكن غراما وإن يقسط جزيلا فإنه لا يبالى

المعنى الجملي

محرومون: أي غير مجدودين، فليس لنا جدّ وحظ، المزن: السحاب واحدته مزنة، أجاجا: أي ملحا زعاقا لا يصلح لشرب ولا فى زرع، لولا: بمعنى هلا، وهى كلمة تفيد الحث على فعل ما بعدها، تورون: أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، تذكرة: تذكيرا بالبعث، ومتاعا: أي منفعة، للمقوين: أي للمسافرين الذين يسكنون القواء: أي القفر والمفاوز، فسبح: أي تعجب من أمرهم، وقل: سبحان الله العظيم. المعنى الجملي بعد أن ذكر الأزواج الثلاثة، وبين مآل كل منها، وفصل ما يلقاه السابقون وأصحاب الميمنة من نعيم مقيم، وذكر ما يلقاه أصحاب المشأمة من عذاب لازب فى حميم وغساق، وذكر أن ذلك إنما نالهم، لأنهم أشركوا بربهم وعبدوا معه غيره وكذبوا رسله، وأنكروا البعث والجزاء- أردف ذلك إقامة الأدلة على الألوهية من خلق ورزق لطعام وشراب، وأقام الدليل على البعث والجزاء، ثم أثبت الأصل الثالث وهو النبوة فيما بعد. الإيضاح (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ) أي نحن بدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى؟ فهلا تصدقون بالبعث. وفى هذا تقرير للمعاد، ورد على المكذبين به، المستبعدين له من أهل الزيغ والإلحاد، الذين قالوا: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟» . ثم أعاد الدليل فقال:

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟) أي أخبرونى عما قذفتم به فى الأرحام من النطف: ء أنتم تقدرونه بشرا سويا تام الخلق أم الله الخالق لذلك؟. ولا شك أنهم لا يجدون إلا جوابا واحدا لا ثانى له. والخلاصة- أخبرونى أيها المنكرون قدرة الله على إحيائكم بعد مماتكم- عن النطف التي تمنون فى أرحام نسائكم، ء أنتم تخلقونها أم نحن الخالقون لها؟. (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نحن قسمنا الموت بينكم، ووقتنا موت كل واحد بميقات معيّن لا يعدوه بحسب ما اقتضته مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة، وما نحن بعاجزين عن أن نذهبكم ونأتى بأشباهكم من الخلق، وننشئكم فيما لا تعلمون من الأطوار والأحوال التي لا تعهدونها. والخلاصة- نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم، ونجىء بآخرين من جنسكم، فنجن نميت طائفة ونبدلها بطائفة أخرى قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل. ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) أي لقد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهى البداية قادر على النشأة الأخرى وهى الإعادة بطريق الأولى كما قال: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» وقال: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟» . وفى الحديث «عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور» .

ثم أردف ذلك دليلا آخر فى الرزق فى المطعوم فقال: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي أخبرونى عن الحرث الذي تحرثونه، ء أنتم تنبتونه أم نحن الذين ننبته؟ أيء أنتم تصيرونه زرعا أم نحن الذين نصيّره كذلك؟. وروى عن حجر المنذرى أنه كان إذا قرأ (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وأمثالها يقول: بل أنت يا رب. (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا، وأبقيناه لكم، ولو شئنا لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده، فأصبح لا ينتفع به فى مطعم ولا فى غذاء، فصرتم تعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتم فيه من الخضرة والنضرة والبهجة والرّواء، وتقولون: حقا إنا لمعذبون مهلكون لهلاك أرزاقنا، لا بل هذا أمر قدر علينا لنحس طالعنا، وسوء حظنا. والخلاصة- لو نشاء لجعلناه هشيما متكسرا لشدة يبسه، فأقمتم تعجبون مما نزل بكم، ويعجّب بعضكم بعضا لذلك وتقولون إنا لمعذبون، لا بل نحن محرمون غير مجدودين، لنحس طالعنا، وسوء حظنا. ثم أعقبه بدليل آخر فى المشروب فقال: (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) أي أفرأيتم أيها الناس الماء العذب الذي تشربونه، ء أنتم أنزلتموه من السحاب الذي فوقكم إلى قرار الأرض أم نحن منزلوه لكم؟. (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) أي لو نشاء لجعلناه ملحا زعاقا لا تنتفعون به فى شرب ولا غرس ولا زرع، فهلا تشكرون ربكم على إنزاله المطر عذبا زلالا؟ «لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .

أخرج ابن أبى حاتم عن أبى جعفر رضى الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا شرب الماء قال: الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» . (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي أفرأيتم النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، ء أنتم أنشأتم شجرتها التي منها الزناد أم نحن المنشئون لها بقدرتنا؟. وكانت العرب توقد النار بطريق احتكاك المرخ بالعفار (نوعان من الشجر) فيأتون بعود من العفار وبقطعة عريضة من المرخ يحفرون فى وسطها حفرة ثم يضعون عود العفار فى هذه الفجوة، ويأتى فتى من فتيان القبيلة ويحرك عود العفار فيها بالتوالي، ويأتى بعده آخر ويصنع صنيع سابقه، ولا يزالون يفعلون هكذا حتى تشتعل النار من كثرة الاحتكاك. وهذه عملية شاقة عسرة، ومن ثم كان البيت فى القبيلة إذا رأى النار موقدة استعار جذوة منها، وإلى هذا أشار فى قوله سبحانه فى قصص موسى «إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» . ثم بين منافع هذه النار فقال: (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي نحن جعلنا النار تبصرة فى أمر البعث حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها، ويذكروا بها ما أوعدوا به لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضادّ لها فهو قادر على إعادة ما تفرقت مواده، ومنفعة لمن ينزلون القواء والمفاوز من المسافرين، فكم من قوم سافروا ثم أرملوا فأجّجوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها، وقد كان من لطف الله أن أودعها الأحجار، وخالص الحديد، فيتمكن المسافر من حملها فى متاعه وبين ثيابه، وإذا احتاج إليها فى منزله أخرج زنده وأورى، وأوقد نارا فطبخ بها واصطلى، واشتوى واستأنس بها، وانتفع بها فى وجوه المنافع المختلفة.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 إلى 82]

وفى الحديث «المسلمون شركاء فى ثلاثة: النار والكلإ والماء» . وقد يكون المعنى: وجعلناها تذكرة وأنموذجا من نار جهنم لما فى الصحيحين وغيرهما عن أبى هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» . (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الذي خلق هذه الأشياء بقدرته، فخلق الماء العذب البارد، ولو شاء لجعله ملحا كالبحار والمحيطات، وخلق النار وجعل فيها منافع للناس فى معايشهم، وجعلها تبصرة لهم فى معادهم. [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 82] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) تفسير المفردات لا أقسم: هذا قسم تستعمله العرب فى كلامها، ولا مزيدة للتأكيد مثلها فى قوله: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» ، ومواقع النجوم: مساقط كواكب السماء ومغاربها، مكنون: أي مصون عن التغيير والتبديل، المطهرون: أي المنزهون عن دنس الحظوظ النفسية، مدهنون: أي متهاونون كمن يدهن فى الأمر: أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه. المعنى الجملي بعد أن ذكر الأدلة على الألوهية والبعث والجزاء- أعقب هذا بذكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم، وأقسم على هذا بما يرونه فى مشاهداتهم من

الإيضاح

مساقط النجوم، إنه لكتاب كريم لا يمسه إلا المطهرون، وأنه نزل من لدن حضرة القدس على يد جبريل عليه السلام، فكيف تتهاونون فى اتباع أوامره، والانتهاء عن نواهيه، وتجعلون شكركم على هذا تكذيبكم بنعم الله وجزيل فضله عليكم؟. الإيضاح (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أي أقسم بمساقط النجوم ومغاربها، وإنما خص القسم بهذه الحال، لما فى غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم، ومن ثم استدل إبراهيم عليه السلام بالأفول على وجود الإله جلت قدرته. وقد أقسم سبحانه بكثير من مخلوقاته العظيمة، دلالة على عظم مبدعها، فأقسم بالشمس والقمر، والليل والنهار، ويوم القيامة، والتين والزيتون، كما أقسم بالأمكنة فأقسم بطور سينين ومكة المكرمة. ويرى أبو مسلم الأصفهانى وشرذمة من المفسرين: أنّ لا ليست مزيدة والكلام على ظاهره المتبادر منه، والمعنى: لا أقسم بهذه: إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما، فضلا عن هذا القسم العظيم. (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك. وفى هذا تفخيم للمقسم به، لما فيه من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته، ألا يترك عباده سدى. ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي إن هذا القرآن جم المنافع، كثير الفوائد، فقد اشتمل على ما فيه صلاح البشر فى دنياهم وآخرتهم. قال الأزهرى: الكريم اسم جامع لما يحمد، والقرآن كريم يحمد، لما فيه من الهدى والبينات، والعلم والحكمة، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه، والحكيم يستمد منه

ويحتج به، والأديب يستفيد منه ويتقوى به، فكل عالم يطلب أصل علمه منه اه. (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي فى لوح محفوظ مصون عن غير المقرّبين من الملائكة الكرام. (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي لا يمس هذا اللوح إلا المنزهون عن دنس الأرجاس والحظوظ النفسية وقد يكون المراد: لا ينزل به إلا المطهرون وهم الملائكة الكرام، أو لا يمس هذا القرآن إلا المطهرون من الحدث الأصغر والحدث الأكبر، والمراد بذلك النهى: أي لا ينبغى أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة. أخرج ابن أبى شيبة فى المصنف وابن المنذر والحاكم عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان الفارسي فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ثم خرج إلينا، فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن، فقال: سلونى فإنى لست أمسه، إنما يمسه المطهرون، ثم تلا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) . وقد ذهب جمهور العلماء إلى منع المحدث عن مس المصحف، وبذلك قال على وابن مسعود وسعد بن أبى وقاص وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. وروى عن ابن عباس والشعبي فى جماعة منهم أبو حنيفة أنه يجوز للمحدث مسه، يراجع شرح المنتقى للشوكانى. وقال الحسين بن الفضل: المراد أنه لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وهو منزل نجوما من لدن رب العالمين، فليس بالسحر ولا الكهانة ولا الشعر، وهو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه شىء نافع. وبعد أن بين مزاياه وأنه من لدن عليم خبير ذكر أنه لا ينبغى التهاون فى أوامره ونواهيه، بل ينبغى التمسك به فقال:

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي أفبهذا القرآن تتهاونون، وتمالثون من يتكلم منه، ولا تظهرون له المخالفة وعدم الرضا؟. قال البقاعي: فهو على هذا إنكار على من سمع أحدا يتكلم فى القرآن بما لا يليق به، ثم لا يجاهره بالعداوة. وابن العربي الطائي صاحب كتاب الفصوص، وابن الفارض صاحب التائية أول من صوّبت إليهما هذه الآية، فإنهما تكلما فى القرآن على وجه يبطل الدين أصلا ورأسا ويحلّه عروة عروة، فهما من أضر الناس على هذا الدين، ومن يتأول لهما أو ينافح عنهما أو يعتذر لهما أو يحسن الظن بهما مخالفا إجماع الأمة- فهو أعجب حالا منهما، فإن مراده إبقاء كلامهما الذي لا أفسد للاسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه اه بتصرف. (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون الشكر على هذا أنكم تكذبون بمن منح هذا الرزق، فتنسبونه إلى الأنواء وتقولون مطرنا بنوء كذا، دون أن تقولوا أفاض الله علينا الرزق من لدنه، ومنحنا الفضل برحمته. والخلاصة- إنكم تضعون الكذب مكان الشكر، وهذا على نحو ما جاء فى قوله تعالى: «وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً» أي لم يكونوا يصلون، لكنهم كانوا يصفرون ويصفّقون مكان الصلاة. قال القرطبي: وفى هذا بيان لأن ما يصيب العباد من خير فلا ينبغى أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا، بل ينبغى أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بالشكر إن كان نعمة، وبالصبر إن كان مكروها، تعبدا له وتذللا اه.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 إلى 96]

[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 96] فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) تفسير المفردات لولا: حرف يفيد الحث على حصول ما بعده على سبيل الاستحسان أو الوجوب، والحلقوم: مجرى الطعام، ونحن أقرب إليه منكم: أي علما وقدرة، مدينين: أي محاسبين مجزيين، أو مملوكين مقهورين من قولهم دان السلطان الرعية إذا استذلهم واستعبدهم، والروح: الاستراحة، ريحان: أي رزق، من المكذبين الضالين: هم أصحاب الشمال، فنزل: أي فجزاؤه نزل، وتصلية جحيم: أي إدخال فى النار، حق اليقين: أي حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه: المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه جحود الكافرين بآياته وتكذيبهم رسوله وكتابه، وقولهم فيه: إنه سحر أو افتراء، واعتقادهم أن رزقهم من الأنواء- أردف ذلك توبيخهم على ما يعتقدون، فإنه إذا كان لا بد للفعل من فاعل، وقد جحدتم الله وكذبتم رسوله فالفاعل لهذا كله أنتم، لأن الخالق إما الله وإما أنتم، فإذا نفيتم الله فأنتم الخالقون،

الإيضاح

وإذا فلماذا لا ترجعون الروح لميتكم وهو يعالج سكرات الموت، فإن كنتم صادقين فارجعوها، الحق أنكم لا تعقلون الدليل والبرهان، بل لا تفهمون إلا المحسوسات، فلمّا لم تروا الفاعل كذبتم به، وهذا من شيمة الجهال، إذ للعلم وسائل عديدة، فليس عدم رؤية الشيء دليلا على عدم وجوده. ثم بين حال المتوفى، ومن أىّ الأزواج الثلاثة هو، فإن كان من السابقين فله روح واطمئنان نفس، علما منه بما سيلقاه من الجزاء، ورزق طيب فى جنات النعيم فيرى فيها ما تلذ الأنفس، وتقرّ به الأعين، وإن كان من أصحاب اليمين فتسلم عليه الملائكة، وتعطيه أمانا من ربه، وإن كان من أصحاب الشمال فضيافته ماء حميم وعذاب فى النار أبدا. ثم بين لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن الخبر الذي أخبر به هو الحق اليقين، وعليه أن ينزّه ربه العظيم عن كل ما لا يليق به. الإيضاح (فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجساد موتاكم حلا قيمهم وأنتم ومن حضركم من أهليكم تنظرون إليهم، ورسلنا الذين يقبضون أرواحهم أقرب إليهم منكم ولكن لا تبصرون- وجواب لولا هو ما سيأتى بعد وهو (ترجعونها) . وخلاصة المعنى- إذا لم يكن لكم خالق وأنتم الخالقون، فهلا ترجعون النفوس إلى أجسادها حين خروجها من حلاقيمها؟ ثم كرر الحث والتحضيض مرة أخرى فقال: (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فهلا ترجعون النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الجسد، إن كنتم غير مصدقين أنكم تبعثون وتحاسبون وتجزون.

وبعد أن ذكر حال المحتضرين فى الدنيا أردفها ذكر حالهم بعد الوفاة وقسمهم أزواجا ثلاثة فقال: (1) (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي فإن كان المتوفّى من الذين قرّبهم ربهم من جواره فى جناته، لفعله ما أمر به، وتركه ما نهى عنه، فراحة واطمئنان لنفسه، ورزق واسع من عنده، وتبشره الملائكة بجنات النعيم، وقد جاء فى حديث البراء بن عازب: «إن ملائكة الرحمة تقول: أيتها الروح الطيبة فى الجسد الطيب، كنت تعمرينه، فاخرجى إلى روح وريحان، ورب غير غضبان» . (2) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وإن كان المتوفّى من أصحاب اليمين فتبشره الملائكة وتقول له: سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين. ونحو الآية قوله: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» . (3) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وإن كان المتوفى من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى، فيقدم ضيافة له ماء حميم يصهر به ما فى بطنه والجلود، ويدخل فى النار التي تغمره من جميع جهاته. (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي إن هذا الذي ذكر فى هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به، ومن قيام الأدلة عليه، ومن حال المقربين وأصحاب اليمين، وحال المكذبين الضالين- لهو حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه، لتظاهر الأدلة القاطعة عليه، كأنه مشاهد رأى العين. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فبعد أن استبان لك الحق، وظهر لك اليقين، فنزه ربك عما لا يليق به، مما ينسبه الكفار إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

خلاصة موضوعات هذه السورة

أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني قال: «لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسبّح باسم ربّك العظيم» قال اجعلوها فى ركوعكم ولما نزلت «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» قال اجعلوها فى سجودكم» . والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. خلاصة موضوعات هذه السورة (1) اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة. (2) إن الناس عند الحساب أزواج ثلاثة، وذكر مآل كل زوج منها. (3) اجتماع الأولين والآخرين فى هذا اليوم. (4) إقامة الأدلة على وجود الخالق. (5) إقامة البرهانات على البعث والنشور والحساب. (6) إثبات أن هذه الأخبار حق لا شك فيها. (7) تبكيت المكذبين على إنكار الخالق.

سورة الحديد

سورة الحديد هذه السورة مدنية، وآيها تسع وعشرون، نزلت بعد الزلزلة. ووجه مناسبتها لما قبلها: (1) إن هذه بدئت بالتسبيح، وتلك ختمت به. (2) إن أول هذه واقع موقع العلة لآخر ما قبلها من الأمر بالتسبيح فكأنه قيل: سبح باسم ربك العظيم، لأنه سبح له ما فى السموات والأرض. [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) تفسير المفردات جاء فى الكتاب الكريم سبّح ويسبّح وسبّح، ويقال: سبّحته وسبّحت له كما يقال: نصحته ونصحت له، وتسبيح العقلاء أن يقولوا ما يدل على تنزيهه من كل نقص،

وإبعاده عما لا يليق به من صفات المحدثات، كإثبات شريك له أو ندّ، وكون الملائكة بنات له، وكون عيسى ابنا له، وتسبيح غيرهم دلالة وجوده على عظم خالقه، وانقياده له فى كل آن. وما مثل هذا إلا مثل إشارتك لصاحبك على وضع خاص يفهم منها تأنّ واصبر، وإشارتك له على هيئة أخرى يفهم منها أنك لا تفعل هذا. فهذه الدلالة فى الحالين أفهمت صاحبك إفهاما كإفهام الكلام، بل أقوى وأبلغ أثرا، وكم للانسان فى حركاته من معان يفهمها الآخرون بطريق لا لبس فيها. وإذا كان هذا حال الإنسان المحدود العلم والإدراك، فما بالك بما أطلعنا الله عليه من بدائع القدرة والعلم والحكمة، وقد فهمنا منها ما لا نفهم بالقول، فلو أنك وقفت فى الخلوات، وراقبت المزارع والجنات، والأشجار مترنحات، وأنواع الكلأ متحركات، والأوراق تغنّى بموزون الأصوات، وقد أرخى الليل سدوله، وأرسل من الخافقين جحافل جنوده، تلمع من بينها الكواكب، فتضىء من بينها السباسب لتجلت لك العبر، وقرأت علوم المبتدإ والخبر، ولعلمت أنها تحت قبضة ذى الملك والملكوت، الحي الذي لا يموت، الفرد الصمد، المنزّه عن الصاحبة والولد، سبّوح قدوس، رب الملائكة والروح. العزيز: أي الذي لا ينازعه فى ملكه شىء، الحكيم: أي الذي يفعل أفعاله وفق الحكمة والصواب، يحيى ويميت: أي يحيى النطف فيجعلها أشخاصا عقلاء فاهمين ناطقين، ويميت الأحياء، وهو على كل من الإحياء والإماتة قدير، وهو الأول: أي السابق على سائر الموجودات، والآخر: أي الباقي بعد فنائها، والظاهر والباطن: أي وهو الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت، وخفيت عنا ذاته فلم ترها العيون، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وباطن بذاته، ومشرق بجماله وكماله، وهو ظاهر بغلبته على مخلوقاته وتسخيرها لإرادته وباطن بعلمه بما خفى منها، فلا تخفى عليه خافية، والمراد بستة الأيام ستة الأطوار، كما تقدم ذلك فى سورة الأعراف، والاستواء على العرش تقدم تفسيره

الإيضاح

فى سورتى يونس وهود، يلج فى الأرض: أي يدخل فيها من كنوز ومعادن وبذور، وما يخرج منها: كالزرع والمعادن لمنفعة الناس، وما ينزل من السماء: كالمطر والملائكة ونحوهما، وما يعرج فيها: كالأبخرة المتصاعدة والأعمال والدعوات، يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل تقدم تفسير هذا فيما تقدم، ذات الصدور: أي مكنونات النفوس وخفيات السرائر. الإيضاح (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن ما دونه من خلقه ينزّه عن كلّ نقص، تعظيما له وإقرارا بربوبيته، وإذعانا لطاعته كما قال: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» . (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو القادر الغالب الذي لا ينازعه شىء، الحكيم فى تدبير أمور خلقه، وتصريفها فيما شاء وأحب. (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف والسلطان فيهما، وهو نافذ الأمر، ماضى الحكم، فلا شىء فيهن يمتنع منه. (يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحيى ما يشاء من الخلق كيف شاء، فيحدث من النطفة الميتة حيوانا ينفخ فيه الروح، ويميت ما يشاء من الأحياء حين بلوغ أجله. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وهو ذو قدرة لا يتعذر عليه شىء أراده من إحياء وإماتة، وإعزاز وإذلال إلى نحو أولئك. (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) أي هو الأول قبل كل شىء بغير حدّ كما جاء فى الحديث القدسي: «كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى»

وهو الآخر بعد كل شىء بغير نهاية كما قال: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» . (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أي وهو العالي فوق كل شىء، فلا شىء أعلى منه، وهو الباطن بذاته، فلا تحوم حوله الظنون، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وباطن بعلمه بما بطن وخفى، فلا شىء إليه أقرب من شىء كما قال: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» . (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي وهو ذو علم تام بكل شىء، فلا يخفى عليه شىء ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبرهن وما فيهن فى ستة أطوار مختلفات، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه. (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل فى الأرض من خلقه، فلا تخفى عليه خافية منه، وما يخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن كما قال: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» . (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من شىء كالمطر والملائكة. (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي وما يصعد إليها من الأرض كالأبخرة المتصاعدة، والأعمال الصالحة كما قال: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» . (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) أي وهو مطلع على أعمالكم أينما كنتم، ويعلم متقلبكم ومثواكم. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي وهو رقيب عليكم، سميع لكلامكم، يعلم سركم ونجواكم كما قال: «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ

[سورة الحديد (57) : الآيات 7 إلى 11]

مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» وفى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وقال عمر: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: زوّدنى حكمة أعيش بها، فقال: استح الله كما تستحى رجلا من صالحى عشيرتك لا يفارقك» . وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علىّ رقيب ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أنّ ما تخفى عليه يغيب (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي هو المالك لما فيهما، والمدبر لأمورهما، والنافذ حكمه فيهما، وإليه مصير جميع خلقه، فيقضى بينهم بحكمه كما قال «وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى» وقال: «وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يقلب الليل والنهار ويقدّرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطوّل الليل ويقصر النهار والعكس بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وحينا يجعل الفصل شتاء أو ربيعا أو قيظا أو خريفا، وكل ذلك بتدبيره وفائدة خلقه. (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي وهو عليم بالسرائر وإن دقت وخفيت، فهو يعلم نوايا خلقه كما يعلم ظواهر أعمالهم من خير أو شر. وفى ذلك حث لنا على النظر والتأمل ثم الشكر على ما أولى وأنعم. [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 11] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

تفسير المفردات

تفسير المفردات مستخلفين فيه: أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه فى التصرف من غير أن تملكوه أخذ الميثاق: نصب الأدلة فى الأنفس والآفاق والتمكين من النظر فيها، والآيات البينات: هى القرآن، والفتح: هو فتح مكة، والحسنى: أي المثوبة الحسنى، وهى النصر والغنيمة فى الدنيا، والجنة فى الآخرة، يقرض الله: أي ينفق ماله فى سبيله رجاء ثوابه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنواعا من الأدلة تثبت وحدانيته وعلمه وقدرته، فبين أن كل ما فى السموات والأرض فهو فى قبضته يصرّفه كما يشاء على ما تقتضيه حكمته، ثم ذكر أنواعا من الظواهر فى الأنفس ترشد إلى هذا وأومأ إلى النظر والتأمل فيها، أعقب هذا بذكر التكاليف الدينية، فأمر بدوام الإيمان الكامل الذي له آثاره العملية من إخبات النفس لله، وإخلاص العمل له، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن،

الإيضاح

ثم طلب إنفاق المال فى سبيله، وأبان أن المال عارية مستردّة فهو ملك له وأنتم خلفاؤه فى تثميره فى الوجوه التي فيها خير لكم ولأمتكم ولدينكم، ولكم على ذلك الأجر الجزيل الذي يضاعفه إلى سبعمائة ضعف، ثم حث على ذلك بأن جعل هذا صفوة دعوة الرسول وقد أخذ عليكم العهد به، وآيات كتابه هادية لكم تخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، والله رءوف بكم إذ أنقذكم من هاوية الشرك وهداكم إلى طاعته، ثم ذكر فضل السابقين الأولين الذين أسلموا قبل فتح مكة، وبذلوا أنفسهم وأموالهم فى إعلاء كلمة الله حين عز النصير وقلّ المعين، فهؤلاء لا يستوون مع من فعل ذلك بعد الفتح وبعد أن دخل الناس فى دين الله أفواجا، وهؤلاء وأولئك لهم المثوبة الحسنى والأحر الكريم عند ربهم ثم حث على الإنفاق مرة أخرى وسماه قرضا له، وأنه سيردّ هذا القرض ويجازى به أجمل الأجر يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه. الإيضاح (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسوله فيما جاءكم به عن ربكم- تنالوا الفوز برضوانه، وتدخلوا فراديس جناته، وتسعدوا بما لم يدر لكم بخلد، ولم يخطر لكم ببال. (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي وأنفقوا مما هو معكم من المال على سبيل العارية، فإنه قد كان فى أيدى من قبلكم ثم صار إليكم، واستعملوه فى طاعته وإلا حاسبكم على ذلك حسابا عسيرا، ولله درّ لبيد إذ يقول: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن تردّ الودائع وفى هذا ترغيب أيّما ترغيب فى الإنفاق، لأن من علم أن المال لم يبق لمن قبله وانتقل إليه- علم أنه لا يدوم له بل ينتقل إلى غيره، وبذا يسهل عليه إنفاقه. قال شعبة: سمعت عن قتادة يحدّث عن مطرّف بن عبد الله عن أبيه قال:

«انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» يقول ابن آدم مالى مالى، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» رواه مسلم. ثم حث على ما تقدم من الإيمان والإنفاق فى سبيل الله فقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي فالذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله منكم، وأنفقوا مما خوّلهم الله عمن قبلهم- فى سبيل الله، لهم الثواب العظيم عند ربهم، وهناك يرون من الكرامة والمثوبة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ثم وبخهم على ترك الإيمان الذي أمروا به، وأبان أنه ليس لهم فى ذلك من عذر فقال: (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ؟) أي وأىّ شىء يمنعكم من الإيمان، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به؟. روى البخاري «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوما لأصحابه: أىّ المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا الملائكة، قال: وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم، قالوا فالأنبياء، قال: وما لهم لا يؤمنون والوحى ينزل عليهم، قالوا فنحن: قال: وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها» . (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وقد أخذ الله عليكم الميثاق بما نصب لكم من الأدلة على وحدانيته فى الكون، أرضه وسمائه، برّه وبحره، وفى الأنفس بما تشاهدون فيها من بديع صنعها، وعظيم خلقها، إن كنتم تؤمنون بالدليل العقلي والنقلى وصفوة القول: إن الأدلة تظاهرت على وجوب الإيمان بالله ورسوله، فقد نصب

فى الكون ما يرشد إلى وجوده، وأرسل الرسل يدعون إلى ذلك، وأقاموا البراهين على صدق ما يقولون، فما عذركم، وإلام تستندون فى رد هذا؟. الآن قد تبين الرشد من الغى، وأفصح الصبح لذى عينين، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فهل من مدّكر؟ ثم قطع عليهم الحجة وأزال معذرتهم فقال: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي هو الذي ينزل على رسوله دلائل واضحات، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن الضلالة إلى الهدى، ولرأفته بكم مكّن لكم من النظر فى الأنفس والآفاق، لتهتدوا إلى معرفته على أتم وجه، وأهون سبيل. وبعد أن وبخهم على ترك الإيمان، وبخهم على ترك الإنفاق، وأبان أنه لا معذرة لهم فى ذلك فقال: (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وما لكم أيها الناس لا تنفقون مما رزقكم الله فى سبيله؟ وأموالكم صائرة إليه إن لم تنفقوها فى حياتكم، لأن له ما فى السموات والأرض ميراثا. والخلاصة- أنفقوا أموالكم فى سبيل الله قبل أن تموتوا، ليكون ذلك ذخرا لكم عند ربكم، فبعد الموت لا تقدرون على ذلك، إذ تصير الأموال ميراثا لمن له السموات والأرض. ثم بين تفاوت درجات المنفقين بحسب تفاوت أحوالهم فى الإنفاق فقال: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي لا يستوى من آمن وهاجر وأنفق ماله فى سبيل الله قبل فتح مكة، ومن أنفق من بعد الفتح- ذاك أنه قبل فتحها كان الناس فى جهد وضيق ولم يؤمن إذ ذاك إلا الصديقون، أما بعد الفتح فقد انتشر الإسلام ودخل الناس فى دين الله أفواجا، ومن ثم قال: (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) .

قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك. (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) أي وكل من المنفقين قبل الفتح وبعده لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت فى مقدار الجزاء كما قال فى آية أخرى: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً» . أخرج أحمد عن أنس قال: «كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: دعوا لى أصحابى، فو الذي نفسى بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم» . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبى سعيد الخدرىّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا أصحابى، فو الذي نفس محمد بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» . ثم وعد وأوعد فقال: (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله عليم بظواهر أحوالكم وبواطنها، فيجازيكم بذلك، ولخبرته تعالى بكم فضّل أعمال من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق بعده وقاتل، وما ذاك إلا لعلمه بإخلاص الأول فى إنفاقه فى حال الجهد والضيق. ولأبى بكر الصديق الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيد من عمل بها، إذا أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله، ولم يكن لأحد عنده من نعمة يجزيه بها. ثم ندب إلى الإنفاق فى سبيله، ووبخ على تركه فقال: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي من هذا

[سورة الحديد (57) : الآيات 12 إلى 15]

الذي ينفق أمواله فى سبيل الله محتسبا أجره عند ربه، فيضاعف له ذلك القرض، فيجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة، وله بعد ذلك جزاء كريم بمثوبته بالجنة؟. وعن ابن مسعود قال «لما نزلت هذه الآية: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ؟» قال أبو الدّحداح الأنصاري يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال نعم يا أبا الدحداح، قال: أرنى يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: إنى أقرضت ربى حائطى (بستانى) وكان له حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح، قالت لبيك، قال اخرجى فقد أقرضته ربى عز وجل، قالت له: ريح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها فقال رسول الله: كم من عذق رداح فى الجنة لأبى الدحداح» وهذا الأسلوب يستعمل فى الأمر العزيز النادر فيقال: من ذا الذي يفعل كذا، إذا كان أمرا عظيما، وعلى هذا جاء قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» . [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

تفسير المفردات

تفسير المفردات المراد بالنور هنا: ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة من علم وعمل، بشراكم: أي ما تبشرون به، انظرونا: أي انتظرونا، وأصل الاقتباس طلب القبس: أي الجذوة من النار، والسور: الحاجز، من قبله: أي من جهته، بلى: أي كنتم معنا، فتنتم أنفسكم: أي أهلكتموها بالمعاصي والشهوات، وتربصتم: أي انتظرتم بالمؤمنين مصايب الزمان، وارتبتم: أي شككتم فى أمر البعث، والأمانى: الأباطيل من طول الآمال والطمع فى انتكاس الإسلام واحدها أمنية، والغرور (بالفتح) الشيطان، والفدية والفداء: ما يبذل لحفظ النفس أو المال من الهلاك، مأواكم: أي منزلكم الذي تأوون إليه، مولاكم: أي أولى بكم، والمصير: المآل والعاقبة. المعنى الجملي بعد أن أمر بالإيمان والإنفاق فى سبيل الله، وحث على كل منهما بوجود موجباته فحث على الإيمان بوجود الأسباب التي تساعد عليه وهى وجود الرسول بين أظهرهم، وكتابه الذي يتلى بين أيديهم، وحث على الإنفاق فأبان أن المال مال الله وهو عارية بين أيديهم ثم يردّ إليه، وأنهم ينالون على إنفاقه الأجر العظيم فى جنات النعيم، ثم ذكر أن المنفقين أول الإسلام لهم من الأجر أكثر ممن أنفقوا من بعد حين كثر النصير والمعين- ذكر هنا حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة، فبين أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة، وأنهم يبشرون بجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ثم أردفه ذكر حال المنافقين إذ ذاك، وأنهم يطلبون من المؤمنين

الإيضاح

شيئا من الضوء يستنيرون به ليهديهم سواء السبيل، فيتهكم بهم المؤمنون ويخيّبون آمالهم ويقولون لهم: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل العلوم والمعارف، فلا نور إلا منها ثم أرشد إلى أنه يضرب بين الفريقين حاجز باطنه مما يلى المؤمنين فيه الرحمة، ومما يلى المنافقين فيه العذاب، لأنه فى النار، ثم ذكر السبب فيما صاروا إليه، وهو أنهم أهلكوا أنفسهم بالنفاق والمعاصي، وانتظروا أن تدور على المؤمنين الدوائر، فينطفئ نور الإيمان، وشكّوا فى أمر البعث وغرهم الشيطان فأوقعهم فى مهاوى الردى، ثم أعقبه ببيان أنه لا أمل فى النجاة لهم إذ ذاك، فلا تجدى الفدية كما كانت تنفع فى الدنيا، فلا مأوى لهم إلا النار وبئس القرار. الإيضاح (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي لهم الأجر الكريم حين ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى بين أيديهم ما يكون السبب فى نجاتهم وهدايتهم إلى سبيل الجنة من العلوم التي كملوا بها أنفسهم فى الدنيا كالاعتقاد بالتوحيد وخلع الأنداد والأوثان، والأعمال الصالحة التي زكوا بها أنفسهم، وبها أخبتوا لربهم وأنابوا إليه مخلصين له الدين، وبأيمانهم تكون كتبهم كما جاء فى آية أخرى: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» . (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي وتقول لهم الملائكة: أبشروا بجنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال، وجاهدتم به أنفسكم فى ترك الشرك والآثام، وكنتم تذكرون الله بالليل والناس نيام، فطوبى لكم وهنيئا بما عملتم. ونحو الآية قوله: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» .

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الخلود فى الجنات التي سمعتم أوصافها هو النجح العظيم الذي كنتم تطلبونه بعد النجاة من عقاب الله. وبعد أن ذكر حال المؤمنين فى موقف القيامة أتبعه ببيان حال المنافقين فقال: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي فى هذا اليوم يقول المنافقون والمنافقات: أيها الذين نجوتم بإيمانكم بربكم وفزتم برضوانه حتى دخلتم فسيح جناته، انتظروا نلحق بكم ونقتبس من نوركم حتى نخرج من ذلك الظلام الدامس، والعذاب الأليم الذي نحن مقبلون عليه، فيجابون بما يخيّب آمالهم ويلحق بهم الحسرة والندامة كما قال: (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي ارجعوا من حيث أتيتم، واطلبوا لأنفسكم هناك نورا، فإنه لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا الذي كان بما قدمنا لأنفسنا وادّخرنا لها من عمل صالح، فأيهات أيهات أن تنالوا نورا، إذ لا ينفع المرء حينئذ إلا عمله، ولله در القائل: صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب ولا يخفى ما فى هذا من التهكم بهم، والاستهزاء بطلبهم، كما استهزءوا بالمؤمنين فى الدنيا حين قالوا آمنا، وما هم بمؤمنين، وذلك ما عناه سبحانه بقوله: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» أي حين يقال لهم: «ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً» . ثم ذكر ما يكون بعد هذه المقالة فقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي فضرب بين الفريقين حاجز جانبه الذي يلى مكان المؤمنين وهو الجنة فيه الرحمة، وجانبه الذي يلى المنافقين وهو النار فيه العذاب. ثم أرشد إلى ما يكون من المنافقين حينئذ فقال: (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي ينادى المنافقون المؤمنين:

[سورة الحديد (57) : الآيات 16 إلى 17]

أما كنا معكم فى الدار الدنيا نصلى معكم الجماعات، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم الغزوات، ونؤدى معكم سائر الواجبات؟ فيجيبهم المؤمنون قائلين لهم: بلى كنتم معنا، ولكنكم أهلكتم أنفسكم باللذات والمعاصي، وأخرتم التوبة، وشككتم فى أمر البعث بعد الموت، وغرتكم الأمانى، فقلتم سيغفر لنا، وما زلتم كذلك حتى حضركم الموت، وغركم الشيطان فقال لكم: إن الله عفوّ كريم لا يعذبكم. والخلاصة- إنكم كنتم معنا بأبدانكم لا بقلوبكم، وكنتم فى حيرة من أمركم، فلا تذكرون الله إلا قليلا. ثم أيأسوهم من عاقبة أمرهم، وأنهم هالكون لا محالة ولا سبيل إلى الخلاص من النار فقال: (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي فاليوم لو جاء أحدكم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدى به من عذاب الله ما قبل منه، فمصيركم إلى النار، وإليها متقلبكم ومثواكم، وهى أولى بكم من كل منزل آخر، لكفركم وارتيابكم، وساءت مصيرا ومآلا. والخلاصة- إنه لا مناص من النار، فلا فداء ولا فكاك منها. [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 17] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) تفسير المفردات ألم يأن: ألم يجىء وقت ذلك من قولهم أنى الأمر أنيا وأناء وإناء إذا جاء أناه أي وقته، والخشوع: الخشية والخوف، وذكر الله: مواعظه، والحق: هو القرآن، والذين أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، والأمد: الزمان، وطال عليهم الأمد:

المعنى الجملي

أي طال العهد بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم: أي صلبت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة، فاسقون: أي خارجون عن حدود دينهم، رافضون لما جاء فيه من أوامر ونواه، والأرض الميتة: هى التي لا تنبت شيئا، والآيات: هى البينات والحجج، تعقلون: أي تتدبرون. المعنى الجملي بعد أن ذكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، وأن الأولين لهم نور يهديهم إلى طريق الجنة، وأن الآخرين يطلبون منهم أن يأتوهم قبسا من نورهم يهديهم إلى سبيل النجاة، فيردونهم خائبين، ويقولون لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا- أردف هذا عتاب قوم من المؤمنين فترت هممهم عن القيام بما ندبوا له من الخشوع، ورقة القلوب بسماع المواعظ وسماع القرآن، ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب الذين طال العهد بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه، ثم أبان لهم بضرب المثل أن القلوب القاسية تحيا بالذكر وتلاوة القرآن كما تحيا الأرض الميتة بالغيث والمطر. روى عن ابن مسعود أنه قال: «لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد أن كانوا فى جهد جهيد، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت الآية» . وعن ابن عباس أنه قال: «إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا» الآية. الإيضاح (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) أي أما آن للمؤمنين أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن والمواعظ، فتفهمه وتنقاد له، وتطيع أوامره، وتنتهى عن نواهيه؟.

وإذا كان المؤمنون قد أصابهم الوهن ولم يمض على الإسلام أكثر من ثلاث عشرة سنة كما قال ابن عباس، فما بالهم اليوم وقد مضى عليهم أكثر من ثلاثة عشر قرنا، فتعبير الآية عن حالهم الآن بالأولى، فالوهن الآن أضعاف مضاعفة عما كان فى تلك الحقبة، ومن ثم أفرط الفرنجة فى إذلالهم واستعبادهم، وصاروا غرباء فى ديارهم، والأمر والنهى فيها لسواهم: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب قبلهم فقال: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي لا يتشبهوا بالذين حمّلوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى حين طال الأمد بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم ولم تقبل موعظة ولم يؤثر فيها وعد ولا وعيد، وبدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا فى دين دون دليل ولا برهان، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وكثير منهم خرج عن أوامر الدين فى الأعمال والأقوال كما قال: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» . أي فسدت قلوبهم فقست وصار سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، فتركوا الأعمال التي أمروا بها، واجترحوا ما نهوا عنه. والخلاصة- إن الله نهى المؤمنين أن يكونوا حين سماع القرآن غير متدبرين مواعظه كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم، لما طال العهد بينهم وبين أنبيائهم. ثم ضرب المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن فى القلوب فقال: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدى النفوس الحيارى بعد ضلّتها،

[سورة الحديد (57) : الآيات 18 إلى 19]

ويفرّج الكروب بعد شدتها، ببراهين القرآن ودلائله، وبالمواعظ والنصائح التي تلين الصخر الأصم، ويحييها بعد موتها كما يحيى الأرض الهامدة المجدبة بالغيث الوابل الهتّان، وقد ضرب لكم الأمثال كى تتدبروا وتكمل عقولكم فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، وهو الفعال لما يشاء الحكم العدل فى جميع الفعال، اللطيف الخبير المتعال. [سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19] إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) تفسير المفردات المصدقين: أي المتصدقين بأموالهم على البائسين وذوى الحاجة، والقرض الحسن: هو الدفع بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه، يضاعف لهم: أي يضاعف الله لهم ثواب أعمالهم، والصدّيق: من كثر منه الصدق وصار سجية له، والشهداء من قتلوا فى سبيل الله، واحدهم شهيد. المعنى الجملي بعد أن وازن بين المؤمنين والمنافقين فيما مضى، وأبان ما يكون بينهما من فارق يوم القيامة- ذكر هنا التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون جزاء ولا شكورا- يضاعف لهم ربهم ثواب إنفاقهم، فيقابل الحسنة الواحدة بعشر أمثالها، ويضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف، ولهم ثواب جزيل، ومرجع صالح. (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي والذين أقروا بوحدانية الله وصدقوا رسله، وآمنوا بما جاءوهم به من عند ربهم، أولئك هم فى حكم الله بمنزلة الصديقين. (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي والذين استشهدوا فى سبيل الله لهم أجر جزيل، ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم يتفاوتون فى ذلك بحسب ما كانوا فى الدار الدنيا من الأعمال والخلاصة- إن العاملين أقسام: فمنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ» . ولما ذكر السعداء ومآلهم أردف ذلك ذكر حال الأشقياء فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين كفروا بالله وكذبوا بحججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وصدق رسله أولئك هم أصحاب النار خالدين فيها أبدا لا يفارقونها.

[سورة الحديد (57) : الآيات 20 إلى 21]

[سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) تفسير المفردات اللعب: ما لا ثمرة له كلعب الصبيان، واللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، وزينة: أي كالملابس الفاخرة، وتفاخر: أي بالأنساب والعظام البالية، وتكاثر فى الأموال والأولاد: أي مباهاة بكثرة العدد والعدد، والغيث: المطر، والكفار: الزراع، يهيج: أي يبتدئ فى اليبس والجفاف بعد أن كان أخضر ناضرا، حطاما: أي هشيما متكسرا من يبسه، والغرور: الخديعة. المعنى الجملي بعد أن بشر المؤمنين بأن نورهم يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وحثهم على بذل الجهد وترك الغفلة، وذكر ثواب المتصدقين والمتصدقات- أردف ذلك وصف حال الدنيا وسرعة زوالها وتقضيها، وضرب لذلك مثل الأرض ينزل عليها المطر فتنبت الزرع البهيج الناضر الذي يعجب الزراع لنمائه وجودة غلته، وبينا هو على تلك الحال، إذا به يصفرّ بعد النضرة والخضرة ويجف ثم يتكسر ويتفتت، وما الحياة الدنيا إلا مزرعة للآخرة، فمن أجاد زرعه حصد وربح، ومن توان وكسل ندم ولات ساعة مندم.

الإيضاح

قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة. ثم حث على عمل ما يوصل إلى مغفرة الله ورضوانه، ويمهد إلى الدخول فى جنات عرضها السموات والأرض، أعدها لمن آمن به وبرسله فضلا منه ورحمة وهو المنعم عظيم الفضل. الإيضاح (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي اعلموا أيها الناس أن متاع الدنيا ما هو إلا لعب ولهو تتفكهون به، وزينة تتزينون بها، وبها يفخر بعضكم على بعض، وتتباهون فيها بكثرة الأموال والأولاد. ثم ضرب مثلا يبين أنها زهرة فانية، ونعمة زائلة فقال: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي ما مثل هذه الحياة فى سرعة فنائها وانقضائها على عجل إلا مثل أرض أصابها مطر وابل، فأنبتت من النبات ما أعجب الزراع وجعلهم فى غبطة وحبور، وبهجة وسرور، وبينا هو على تلك الحال إذا هو يصوح ويأخذ فى الجفاف واليبس، ثم يكون هشيما تذروه الرياح. ونحو الآية قوله: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» . ثم ذكر عاقبة المنهمكين فيها، الطالبين لتحصيل لذاتها، المتهالكين فى جمع حطامها والمعرضين عنها الطالبين لرضوان ربهم فقال:

(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ) أي وفى الآخرة إما عذاب شديد دائم لمن انهمك فى لذاتها، وأعرض عن صالح الأعمال، ودسّى نفسه بالشرك والآثام، وإما مغفرة من الله ورضوان من لدنه لمن زكّى نفسه وأخبت لربه وأناب إليه: قدّم لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقا عن غرّة زلجا (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وما هذه الحياة الدنيا إلا متاع فان زائل خادع، من ركن إليه، واغترّ به وأعجبه، حتى اعتقد أن لا دار سواها، ولا معاد وراءها. ولما أبان أن الآخرة قريبة، وفيها العذاب الأليم، والنعيم المقيم- حث على المبادرة إلى فعل الخيرات فقال: (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي سابقوا أقرانكم فى مضمار الأعمال الصالحة، وأدّوا ما كلفتم به من أوامر الشريعة، واتركوا نواهيها- يدخلكم ربكم بما قدّمتم لأنفسكم، جنة سعتها كسعة السموات والأرض. ثم بين المستحقين لها فقال: (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أي هيئت للذين اعترفوا بوحدانية الله وصدقوا رسله. ثم بين أن هذا فضل منه ورحمة فقال: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي هذا الذي أعده الله لهم هو من فضله ورحمته ومنته عليهم. وفى الصحيح «أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدّثور (الأموال) بالأجور، والدرجات العلى، والنعيم المقيم، قال وما ذاك؟ قالوا يصلون كما نصلى، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال:

[سورة الحديد (57) : الآيات 22 إلى 24]

أفلا أدلكم على شىء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، قال: فرجعوا فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» . (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي والله واسع العطاء، عظيم الفضل، فيعطى من يشاء ما شاء كرما منه وفضلا، ويبسط له الرزق فى الدنيا، ويهب لهم النعم، ويعرّفهم مواضع الشكر، ثم يجزيهم فى الآخرة ما أعده لهم مما وصفه قبل. [سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) تفسير المفردات فى الأرض: أي كالجدب والفاقة، واحتلال الأجانب الظالمين، واستيلاء الحكام الفاسقين، فى أنفسكم: أي كالمرض والفاقة، فى كتاب: هو اللوح المحفوظ، نبرأها: أي نخلقها، وتأسوا: أي تحزنوا، ما فاتكم: أي من نعيم الدنيا، ما آتاكم: أي ما أعطاكم، والمختال: المتكبر بسبب فضيلة تراءت له من نفسه، والفخور: هو المباهي بالأشياء العارضة كالمال والجاه.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أبان أن متاع هذه الدنيا زائل فان، وأن ما فيها من خير أو شر لا يدوم- أردف ذلك تهوين المصايب على المؤمنين، فذلك يكون مصدر سعادة نفوسهم واطمئنانها، وبدونه يكون شقاؤها وكآبتها، وآية ذلك أن لا يحزنوا على فائت، ولا يفرحوا بما يصل إليهم من لذاتها الفانية. ثم بين أن المختالين الذين يبخلون بأموالهم على ذوى الحاجة والبائسين، ويأمرون الناس بذلك، ويعرضون عن الإنفاق لا يجننّ إلا على أنفسهم، والله غنى عنهم، وهو المحمود على نعمه التي لا تدخل تحت حد. الإيضاح (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي ما أصابكم أيها الناس من مصايب فى آفاق الأرض كقحط وجدب وفساد زرع، أو فى أنفسكم من أوصاب وأسقام- إلا فى أم الكتاب من قبل أن نبرأ هذه الخليقة. (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي إن علمه بالأشياء قبل وجودها، وكتابته لها طبق ما توجد فى حينها- يسير عليه، لأنه يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون. أخرج الحاكم وصححه عن أبى حسان: أن رجلين دخلا على عائشة رضى الله عنها فقالا إن أبا هريرة يحدّث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنما الطّيرة فى المرأة والدابة والدار، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبى القاسم صلى الله عليه وسلم ما هكذا كان يقول، كان يقول «كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة فى المرأة والدابة والدار

ثم قرأ: وما أصابكم من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم إلّا فى كتاب من قبل أن نبرأها» . (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل وجودها، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تحزنوا على فائت، ولا تفرحوا بآت. والخلاصة- إن كل شىء قدّر فى الكتاب، فكيف نفرح أو نحزن؟ قال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح، ولكن اجعلوا الفرح شكرا، والحزن صبرا. وقال حكيم: الصبر مخرج من الشقاء، فلا سعادة إلا بالصبر، ووصول النفس إلى كمالها الخلقي، بحيث يمر المال والولد والقوة والعلم عليها، فيصيبها مرة ويخطئها أخرى وهى مطمئنة، لا يدخلها زهو ولا إعجاب بما نالت، ولا حزن على ما فاتها اه. وعلى الجملة فالحزن المذموم هو ما يخرج بصاحبه إلى ما يذهب عنه الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء الثواب، والفرح المنهي عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويلهيه عن الشكر. (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن المختال الفخور يبغضه الله ولا يرضى عنه. ثم بين أوصاف المختالين الفخورين فقال: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي إن المختالين بما أوتوا من المال يضنّون به لأنهم يرون عزتهم فى وجوده، ويعدهم الشيطان بالفقر إذا هم أنفقوه، وقد يبلغ الأمر بهم أن يأمروا سواهم بالبخل ويبدوا لهم النصائح التي تجعلهم يضنون به مدعين أن ذلك إشفاق عليهم ونصح لهم. (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي ومن يعرض عن الإنفاق فلا يضرّن بذلك إلا نفسه، فالله غنى عن ماله وعن نفقته، محمود إلى خلقه بما أنعم به عليهم من

[سورة الحديد (57) : آية 25]

نعمه، ولا يضيره الإعراض عن شكره كما قال موسى عليه السلام لقومه: «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» . [سورة الحديد (57) : آية 25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) تفسير المفردات البينات: المعجزات والحجج، والكتاب: أي كتب التشريع، والميزان: العدل، والقسط: الحق، وأنزلنا الحديد: أي خلقناه، والبأس: القوة، وليعلم الله: أي ليعلمه علم مشاهدة ووجود فى الخارج. الإيضاح (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ولقد أرسلنا الأنبياء إلى أممهم ومعهم البراهين الدالة على صدقهم، المؤيدة لبعثهم من عند ربهم، ومعهم كتب الشرائع التي فيها هداية البشر وصلاحهم فى دينهم ودنياهم، وأمرناهم بالعدل ليعملوا به فيما بينهم، ولا يظلم بعضهم بعضا. ولما كان الناس فريقين فريقا يقوده العلم والحكمة، وفريقا يقوده السيف والعصا، ولما كان ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن، وكان العدل والقانون لا بد له من حام يحميه وهو الدولة والملك وأعوانه والجند، وهؤلاء لا بد لهم من عدّة يحمون بها القانون والعدل فى داخل البلاد وفى خارجها أعقب هذا بقوله:

[سورة الحديد (57) : الآيات 26 إلى 27]

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي وخلقنا الحديد لتكون منه السيوف والرماح والدروع والسفن البحرية وما أشبه ذلك، وفيها القوة التي ترغم أنف الظالم، وتحمى المظلوم، وفيه منافع للناس فى حاجاتهم فى معايشهم كأدوات الصناعات، وحاجات البيوت، وقطر السكك الجديدية ونحوها. (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وإنما فعل ذلك ليراكم ناصرى دينه باستعمال السلاح والكراع لمجاهدة أعدائه، وناصرى رسله وهم غائبون عنكم لا يبصرونكم. روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقى تحت ظل رمحى، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمرى، ومن تشبه بقوم فهو منهم» . (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته، وهو غالب على أمره، لا يقدر أحد على دفع العقوبة متى أحلها بأحد من خلقه. [سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) تفسير المفردات قفاه: اتبعه بعد أن مضى، والإنجيل: الكتاب الذي أنزل على عيسى وفيه شريعته، والمراد من الرأفة: دفع الشر، ومن الرحمة: جلب الخير، وبذا يكون

المعنى الجملي

بينهم مودة، والرهبانية: ترهبهم فى الجبال فارّين بدينهم من الفتنة، مخلصين أنفسهم للعبادة، محتملين المشاق من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد فى الغيران والكهوف، وقوله ابتدعوها: استحدثوها ولم تكن فى دينهم، ابتغاء رضوان الله: أي طلبا لرضاه ومحبته، فما رعوها: أي ما حافظوا عليها. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات، وأنه أنزل الميزان والحديد، وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرة رسله- أتبع ذلك ببيان ما أنعم به على أنبيائه من النعم الجسام، فذكر أنه شرّف نوحا وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة، ثم جعل فى ذريتهما النبوة والكتاب، فما جاء أحد بعدهما بالنبوة إلا كان من سلائلهما. الإيضاح (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي ولقد بعثنا نوحا إلى طائفة من خلقنا، ثم بعثنا إبراهيم من بعده لقوم آخرين، ولم نرسل بعدهما رسلا بشرائع إلا من ذريتهما. ثم بين أن هذه الذرية افترقت فرقتين فقال: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فمن ذريتهما مهتد إلى الحق مستبصر، وكثير منهم ضلّال خارجون عن طاعة الله ذاهبون إلى طاعة الشيطان، مدسّون أنفسهم باجتراح الآثام. وفى الآية إيماء إلى أنهم خرجوا عن الطريق المستقيم بعد أن تمكنوا من الوصول إليه، وبعد أن عرفوه حق المعرفة، وهذا أبلغ فى الذم وأشد فى الاستهجان لعملهم. (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي ثم بعثنا بعدهم رسولا بعد رسول على توالى العصور ولأيام.

ثم خص من أولئك الرسل عيسى لشهرة شريعته فى عصر التنزيل ولوجود أتباعه فى جزيرة العرب وغيرها فقال: (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي ثم أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام، وأعطيناه الإنجيل الذي أوحيناه إليه، وفيه شريعته ووصاياه، وقد جاء ما فيه مكملا لما فى التوراة ومخففا بعض أحكامها التي شرعت تغليظا على بنى إسرائيل، لنقضهم العهد والميثاق كما جاء فى قوله: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» . ثم بين صفات أتباع عيسى فقال: (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أي إن أتباعه الذين ساروا على نهجه وشريعته اتصفوا بما يأتى: (1) الرأفة بين بعضهم وبعض، فيدفعون الشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ويصلحون ما فسد من أمورهم. (2) الرحمة فيجلب بعضهم الخير لبعض كما قال فى حق أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم: «رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» . (3) الرهبانية المبتدعة، فقد انقطعوا عن الناس فى الفلوات والصوامع معتزلين الخلق وحرّموا على أنفسهم النساء ولبسوا الملابس الخشنة، تبتلا إلى الله وإخباتا له. (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) أي ما فرضنا عليهم هذه الرهبانية، ولكنهم استحدثوها طلبا لمرضاة الله والزلفى إليه. ثم ذكر أنهم ما حافظوا عليها كما قال: (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي فما حافظوا على هذه الرهبانية المبتدعة، وما قاموا

مما التزموه حق القيام، بل ضيّعوها، وكفروا بدين عيسى بن مريم، فضموا إليه التثليث ودخلوا فى دين الملوك الذين غيروا وبدلوا. وفى هذا ذم لهم من وجهين: (1) أنهم ابتدعوا فى دين الله ما لم يأمر به. (2) أنهم لم يقوموا بما فرضوه على أنفسهم مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى ربهم، وقد كان ذلك كالنذر الذي يجب رعايته، والعهد الذي يجب الوفاء به. روى ابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال: «قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا ابن مسعود، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم، فرقة من الثلاث وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى بن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهرانى قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم صلوات الله عليه، فقتلتهم الملوك بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهرانى قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى صلوات الله عليه، فلحقوا بالبراري والجبال فترهبوا فيها فهو قول الله عز وجل «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» الآية، فمن آمن بي واتبعنى وصدقنى فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون» . (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا طبعت آثاره فى أعمالهم، فزكّوا أنفسهم، وأخبتوا لربهم، وأدّوا فرائضه- أجورهم التي استحقوها كفاء ما عملوا، وكثير منهم فسقوا عن أمر الله، واجترحوا الشرور والآثام، وظهر فسادهم فى البر والبحر بما كسبت أيديهم، فكبكبوا فى النار، وباءوا بغضب من الله، ولهم عذاب عظيم

[سورة الحديد (57) : الآيات 28 إلى 29]

[سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) تفسير المفردات قال المؤرّج السدوسي: الكفل: النصيب بلغة هذيل، وقال غيره بل بلغة الحبشة، وقال المفضل الضبي: أصل الكفل كساء يديره الراكب حول سنام البعير ليتمكن من القعود عليه، لئلا يعلم: أي لكى يعلم المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن من آمنوا من أهل الكتاب إيمانا صحيحا لهم أجرهم عند ربهم- ذكر هنا أن من آمنوا منهم بعيسى أولا وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم ثانيا يؤتيهم أجرهم مرتين، لإيمانهم بنبيهم، ثم بمحمد من بعده، ثم ذكر أن النبوة فضل من الله ورحمة منه لا يخص به قوما دون قوم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، لا كما يقول اليهود: إن الوحى والرسالة فينا لا تعدونا إلى سوانا، فنحن شعب الله المختار، ونحن أبناء الله وأحباؤه. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله من

أهل الكتابين التوراة والإنجيل- خافوا الله بأداء طاعته واجتناب معاصيه وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم- يعطكم ضعفين من الأجر، لإيمانكم بعيسى والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلّم ثم بإيمانكم بمحمد بعد أن بعث نبيا، ويجعل لكم هدى تستبصرون به من العمى والجهالة، ويغفر لكم ما أسلفتم من الذنوب وما فرطتم فى جنب الله، والله واسع المغفرة لمن يشاء، رحيم بعباده يقبل توبتهم- متى أنابوا إليه، وخشعت له قلوبهم. والخلاصة- إنه تعالى وعد المؤمنين برسوله بعد إيمانهم بالأنبياء قبله بأمور ثلاثة: (1) أنه يضاعف لهم الأجر والثواب. (2) أن يجعل لهم نورا بين أيديهم وعن شمائلهم يوم القيامه يهديهم إلى الصراط السوي ويوصلهم إلى الجنة. (3) أن يغفر لهم ما اجترحوا من الذنوب والآثام. روى الشعبي عن أبى بردة عن أبيه أبى موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» . رواه البخاري ومسلم. ثم رد على أهل الكتاب الذين خصوا فضل الرسالة بهم فقال: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي فعلنا ذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله من الأجرين ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم.

خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة

وخلاصة ذلك- إن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلم. أخرج ابن أبى حاتم قال لما نزلت «أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا» فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: لما أجران ولكم أجر، فاشتد ذلك على أصحابه فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور. (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي والله واسع الفضل كثير العطاء، يمنحه من شاء من عباده لا يخص به قوما دون آخرين ولا شعبا دون آخر. سبحانك قسمت حظوظك بين عبادك بمقتضى عدلك وفضلك، وآتيتهم فوق ما يستحقون بجودك وكرمك. فاللهم آتنا من لدنك الرشد والتوفيق، واهدنا لأقوم طريق. خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة (1) صفات الله وأسماؤه الحسنى، وظهور آثاره فى بدائع خلقه. (2) الحض على الإنفاق. (3) بشرى المؤمنين بالنور يوم القيامة. (4) ثواب المتصدقين الذين أقرضوا الله قرضا حسنا. (5) ذم الدنيا وأنها لهو ولعب. (6) الترغيب فى الآخرة وتشمير العزيمة للعمل لها. (7) التسلية على المصايب. (8) ذم الاختيال والفخر والبخل.

(9) الحث على العدل. (10) الاعتبار بالأمم السالفة. (11) قصص نوح وإبراهيم. (12) إن أهل الكتاب الذين آمنوا برسلهم وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم يضاعف لهم الأجر عند ربهم. (13) الله يصطفى من رسله من يشاء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته. وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى صبيحة يوم الجمعة لتسع بقين من رجب الأصم من سنة خمس وستين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة سيد ولد عدنان، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 5 الفرق بين الإسلام والإيمان 12 أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يعرض عن جدل المشركين ومرامهم 17 ما أثبته علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) حديثا 20 الحكمة فى مور السماء وسير الجبال 24 محاسن المرأة التي يتمدح بها العرب 28 ما قالته عائشة فى وصف عذاب النار 32 تحدى العرب فى الإتيان بمثل القرآن 35 أمر المشركين بإقامة الحجة على ما يدعون 44 ما أثبته علماء الفلك فى النجوم حديثا 45 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمزح ولا يقول إلا حقا 46 علينا أن نؤمن بما جاء فى القرآن عن عالم الأرواح 52 توبيخ المشركين على نسبة البنات إلى الله 59 المشهور أنّ الكبائر سبع 61 النهى عن تزكية النفس حين قصد الرياء 63 ما تضمنته صحف إبراهيم وموسى 65 يرى مالك والشافعي أنه لا يصح إهداء ثواب القراءة إلى الموتى 68 سبب تخصيص الشعرى بالذكر من بين الكواكب 73 ما تضمنته سورة النجم من الأسرار والأحكام

الصفحة المبحث 76 هل انشقاق القمر حدث أو سيحدث؟ 84 يقولون إن سفينة نوح لا تزال باقية إلى الآن فى موضعها 87 ما روى من شؤم بعض الأيام لا يصح منه شىء 89 كانت ناقة صالح فتنة لقومه 91 اتبع صالح مع قومه طريق المناوبة لناقته فى شرب ماء البئر 98 دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم على المشركين يوم بدر 102 فى الحديث: يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا 103 خلاصة موضوعات سورة القمر الكريمة 106 منة الله على عباده بالبيان والتبيين عما يجول فى النفس 109 حكمة تكرار (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) 111 كيف خلق الإنسان الأول 116 الدهر عند الله يومان 132 إذا وقعت الواقعة لا تكذب نفس على الله 133 ينقسم الناس يوم القيامة أزواجا ثلاثة 151 آراء العلماء فى تفسير قوله: لا يمسه إلا المطهرون 152 ابن العربي وابن الفارض أتيا بما هو بدع فى الدين فرده العلماء 161 فائدة اختلاف الفصول وتوالى الليل والنهار 172 عتاب المؤمنين الذين فترت هممهم عن القيام بشعائر الدين 179 ذهب أهل الدثور بالأجور- الحديث 184 ما أنعم الله به على أنبيائه من النعم الجسام 187 من آمن بعيسى ثم بمحمد يؤتهم أجرهم مرتين

سورة المجادلة

الجزء الثامن والعشرون سورة المجادلة هى مدنية وعدة آيها ثنتان وعشرون، نزلت بعد سورة المنافقين. ووجه اتصالها بما قبلها: (1) أن الأولى ختمت بفضل الله، وافتتحت هذه بما هو من هذا الوادي. (2) أنه ذكر فى مطلع الأولى صفاته الجليلة ومنها الظاهر والباطن- وذكر فى مطلع هذه أنه سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى. [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)

شرح المفردات

شرح المفردات سمع: أي أجاب وقبل، كما يقال سمع الله لمن حمده، والتي تجادلك فى زوجها: هى خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، وتجادلك: أي تراجعك الكلام فى أمره وفيما صدر منه فى شأنها، وتشتكى إلى الله: أي تبثّ إليه ما انطوت عليه نفسها من غمّ وهمّ وتضرع إليه أن يزيل كربها، وزوجها: هو أوس بن الصامت أخو عبادة ابن الصامت، والسمع: صفة تدرك بها الأصوات أثبتها الله تعالى لنفسه، والتحاور: المرادّة فى الكلام، والكلام المردّد، كما يقال كلمته فما رجع إلىّ حوارا: أي ماردّ علىّ بشىء، والظهار: لغة من ظاهر ويراد به معان مختلفة باختلاف الأغراض فيقال ظاهر فلان فلانا: أي نصره، وظاهر بين ثوبين: أي لبس أحدهما فوق الآخر، وظاهر من امرأته: أي قال لها أنت علىّ كظهر أمي، أي محرمة، وقد كان هذا أشدّ طلاق فى الجاهلية، والظهار شرعا: تشبيه المرأة أو عضو منها بامرأة محرمة نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم لا بقصد الكرامة، ولهذا المعنى نزلت الآية، «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» : أي ما أمهاتهم، والمنكر: ما ينكره الشرع والعقل والطبع، وزورا: أي كذبا، فتحرير رقبة: أي عتق عبد أو جارية، أن يتماسا: أي يجتمعا اجتماع الأزواج، متتابعين: أي متواليين، فمن لم يستطع: أي لم يقدر على ذلك لكبر سنّ أو ضعف أو شبق إلى النساء، حدود الله: أي أحكام شريعته، وللكافرين: أي للذين يتعدّون الأحكام ولا يعملون بها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي روى أن هذه الآيات الأربع نزلت فى خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت ومن حديث ذلك: «أن أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل على خولة يوما فراجعته بشىء فغضب، فقال لها: أنت علىّ كظهر أمي (وكان الرجل فى الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه) وكان هذا أول ظهار فى الإسلام، فندم لساعته، فدعاها (طلب ملامستها) فأبت، وقالت: والذي نفسى بيده لاتصل إلىّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله، فأتت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أوسا تزوجنى وأنا شابة مرغوب فىّ، فلما خلا سنى ونثرت بطني (كثر ولدي) جعلنى عليه كأمه إلى غير أحد، فإن كنت تجد لى رخصة تنعشنى بها وإياه فحدثنى بها، فقال عليه الصلاة والسلام: والله ما أمرت فى شأنك بشىء حتى الآن، وفى رواية ما أراك إلا قد حرمت، قالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا ثم قالت: اللهم إنى أشكو إليك شدة وحدتي، وما يشق علىّ من فراقه، وفى رواية أنها قالت: أشكو إلى الله فاقتى وشدة حالى، وإن لى صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلىّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إنى أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خولة أبشرى، قالت خيرا فقرأ عليها «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ» الآيات. روى البخاري فى تاريخه أنها استوقفت عمر يوما فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، فقال رضى الله عنه، وما يمنعنى أن أستمع إليها وهى التي استمع الله لها، فأنزل فيها ما أنزل «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ» الآيات. والشارع اعتبر الظهار يمينا وأوجب فيها الكفارة عند إرادة الملامسة بأحد أمور ثلاثة على الترتيب الآتي:

الإيضاح

(1) تحرير رقبة (عتق عبد أو جارية) . (2) صيام شهرين متواليين إن لم يجد ما يعتقه. (3) إطعام ستين مسكينا إن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله، لكل مسكين نصف صاع من بر (رطل وثلث) أو صاع من تمر أو شعير. الإيضاح (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي قد قبل الله شكوى التي جادلت رسوله صلى الله عليه وسلم فى شأن زوجها، وبثّت أمرها إلى ربها، وسمع ما سمع من تحاورها مع رسوله، والله سميع لما يقال، خبير بحال عباده، فأنزل فيها ما أزال غصّتها، وفرج كربتها، وأقرّ به عينها، وبلّ ريقها، وأرجع إلى كنفها صبيتها، الذين كانوا مصدر شقوتها، وبهم اعتلّت (تعلّلت واحتجت) على رسوله. وقد فصل ما أنزل من الحكم فى حادثتها وأمثالها فقال: (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) أي الذين يقع منهم الظهار من نسائهم، فيقول أحدهم لامرأته: أنت علىّ كظهر أمي، يريد أنك علىّ حرام، كما أن أمي علىّ حرام- مخطئون فيما صنعوا. (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فكيف يجعلونهن كذلك، ما أمهاتهم إلا من ولدنهم، فلا ينبغى تشبيههن بهن. ثم زاد الأمر إيضاحا وبالغ فى الاستهجان فقال: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أي وإنهم ليقولون قولا منكرا لا يجيزه شرع، ولا يرضى به عقل، ولا يوافق عليه ذو طبع سليم، فكيف تشبّه من يسكن إليها وتسكن إليه وجعل بينه وبينها مودة ورحمة، وصلة خاصة لا تكون لأم ولا لأخت، بمن جعل صلتها بابنها صلة الكرامة والحنوّ والإجلال والتعظيم، إلى

أن الرجل قوّام على المرأة له حق تأديبها إذا اعوجّت، وهجرانها فى المضاجع إذا جمحت ولم يعط ذلك لابن ليعامل به أمه، فهذا زور وبهتان عظيم. وغير خاف ما فى هذا من الاستهجان، وشديد التشنيع على صدور هذا القول منهم. (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لما سلف من الذنب متى تاب فاعله منه. ثم فصل حكم الظهار فقال: (1) (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي والذين يقولون هذا القول المنكر ثم يتدار كونه بنقضه ويرجعون عما قالوا فيريدون المسيس فعلى كل منهم عتق عبد أو أمة قبل التماسّ إن كان ذلك لديه. ثم بين السبب فى شرع هذا الحكم فقال: (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي إنه شرع لكم حكم الكفارة عند طلب العودة إلى المسيس، ليكون ذلك زاجرا لكم عن ارتكاب المنكر، فإن الكفارة تمنع من وقوع الجرم، والله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شىء منها، وهو مجازيكم بها، فانتهوا عن قول المنكر، وحافظوا على ما شرع لكم من الحدود، ولا تخلوا بشىء منها. (2) (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد رقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس، فإن أفطر يوما من الشهرين ولو اليوم الأخير لعذر أو مرض أو سفر لزمه الاستئناف بصوم جديد لزوال التتابع. (3) (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فمن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين لكبر سنّ أو مرض لا يرجى زواله- فعليه إطعام ستين مسكينا لكل منهم نصف صاع من برّ، أو صاع من شعير أو تمر قبل التماس أيضا. (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ذلك

[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 إلى 7]

الذي بيّناه لكم من وجوب الكفارة حين الظهار، لتقروا بتوحيد الله وتصدقوا رسوله وتنتهوا عن قول الزور والكذب، وتتبعوا ما حده الدين من حدود، وبينه لكم من فرائض، وللجاحدين بهذه الحدود وغيرها من فرائض الله عذاب مؤلم على كفرهم بها. وأطلق اسم (الكافر) على متعدّى هذه الحدود تغليظا للزجر كما قال فى المتهاون فى أداء فريضة الحج «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» . [سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) شرح المفردات يحادون: أي يشاقون ويعادون، وأصل المحادّة الممانعة ومنه قيل للبواب حداد، كبتوا: أي خذلوا، وقال المبرد: كبت الله فلانا إذا أذله، والمردود بالذل: مكبوت، آيات بينات: أي حججا وبراهين مبينة لحدود شرائعنا، مهين: أي يلحق بهم الهوان والذل، فينبئهم بما عملوا: أي يخبرهم بأعمالهم توبيخا وتقريعا لهم، أحضاه الله: أي أحاط به عدّا لم يغب عنه شىء منه، شهيد: أي مشاهد لا يخفى عليه شىء

المعنى الجملي

ألم تر: أي ألم تعلم، ما يكون: أي ما يوجد، والنجوى: التناجي والمسارّة كما قال: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ» وقد يستعمل فى المتناجين كما قال: «وَإِذْ هُمْ نَجْوى» أي أصحاب نجوى. المعنى الجملي بعد أن ذكر أحكام كفارة الظهار وبيّن أنه إنما شرعها تغليظا للناس حتى يتركوا الظهار، وقد كان ديدنهم فى الجاهلية، ويتبعوا أوامر الشريعة، ويلين قيادهم لها، ويخلصوا لله ربهم فى جميع أعمالهم، فتصفو نفوسهم، وتزكو بصالح الأعمال. أردف هذا ببيان أن من يشاقّ الله ورسوله ويعصى أوامره، يلحق به الخزي والهوان فى الدنيا وله فى الآخرة العذاب المهين فى نار جهنم ثم أعقب ذلك بالوعيد الشديد فبين أنه لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء، فهو عليم بمناجاة المتناجين، فإن كانوا ثلاثة فهو رابعهم، وإن كانوا خمسة فهو سادسهم، وإن كانوا أقل من ذلك أو أكثر فهو معهم أينما كانوا، فلا تظنوا أنه تخفى عليه أعمالكم، وسينبئكم بها عند العرض والحساب، وحين ينصب الميزان، فتلقون جزاء ما كسبت أيديكم، وتندمون ولات ساعة مندم. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إن الذين يختارون لأنفسهم حدودا غير ما حده الله ورسوله، ويضعون شرائع غير ما شرعه، سيلحقهم الخزي والنكال فى الدنيا كما لحق من قبلهم من كفار الأمم الماضية الذين حادوا الله ورسله، وقد تحقق ذلك يوم الخندق. وفى هذا بشارة للمؤمنين بظهورهم على عدوهم ونصر الله لهم.

كما أن فيه وعيدا عظيما للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا قوانين وشرائع وضعية غير ما شرع الله، وألزموا رعاياهم العمل بها، والجري على نهجها، وعينوا لذلك قضاة يحكمون بها، ونبذوا ما جاء فى شرعهم، والله يقول: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» . نعم إنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوى الآراء من أهل الحلّ والعقد على وجه يكون به انتظام شمل الجماعات، إذا كانت لا تخالف فى أحكامها روح التشريع الديني كتعيين مراتب التأديب للزجر على المعاصي، والجنايات التي لم ينص الشارع فيها على حد معين، بل فوض الأمر فيها للإمام، وليس فى ذلك محادة لله ورسوله، بل فيها استيفاء لحق الله على الوجه الأكمل. (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي وكيف يفعلون ذلك وقد أقمنا دلائل واضحات تبين معالم الشريعة وتوضح حدودها، وتفصل أحكامها وتبين سرّ تشريعها؟ فلا عذر لهم فى مخالفتها، والانحراف عن سننها. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي وللجاحدين بتلك الآيات عذاب يذهب بعزهم وكبريائهم. والخلاصة- إن لهؤلاء المحادين عذابا فى الدنيا بالخزي والهوان، وعذابا فى الآخرة فى جهنم وبئس القرار. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد، فيخبرهم بما كسبت أيديهم تشهيرا لهم وخزيا على رءوس الأشهاد، والله قد حفظه وضبطه وهم قد نسوه، والله شهيد على كل شىء، فلا يغيب عنه شىء، ولا ينسى شيئا. وفى هذا شديد الوعيد والتقريع العظيم والتنديم، ليعرفوا أن ما حاق بهم من العذاب، إنما كان من جراء أعمالهم وقبيح أفعالهم.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 إلى 10]

ثم أكد ما سبق من إحاطة علمه تعالى بكل شىء فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أي ألم تعلم أنه تعالى يعلم ما فى السموات وما فى الأرض، فلا يتناجى ثلاثة إلا والله معهم ويعلم ما يقولون وما يدبرون، ولا خمسة إلا وهو سادسهم يعلم ما به يتناجون، ولا نجوى أكثر من هذه الأعداد ولا أقل منها إلا وهو عليم بها، وعليم بزمانها ومكانها لا يخفى عليه شىء من أمرها. وإنما خص هذه الأعداد، لأن أقل ما لا بد منه فى المشاورة التي يكون الغرض منها تدبير المصالح العامة- ثلاثة فيكون الاثنان كالمتنازعين نفيا وإثباتا، والثالث كالحكم بينهما، وحينئذ تكمل المشورة ويتم الغرض، وهكذا فى كل جمع اجتمعوا المشورة لا بد من واحد يكون حكما مقبول القول، ومن ثم يكون عدد رجال المشورة فردا كما جاء فى الآية ونحوها قوله: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» وقوله: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» . (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ثم ينبئ هؤلاء المتناجين بما عملوا من عمل يحبه أو يسخطه يوم القيامة، وإنه لعليم بنجواهم وأسرارهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم. وقد علمت أن هذا الإنباء إنما هو للتنديم وزيادة التقريع والتوبيخ على مرأى ومسمع من أهل الموقف، فيكون ذلك أنكى وأشد إيلاما لهم. [سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

شرح المفردات

شرح المفردات الذين نهوا عن النجوى: هم اليهود والمنافقون، بالإثم: أي بما هو معصية وذنب، والعدوان: الاعتداء على غيرهم كمعصية الرسول ومخالفته، لولا يعذبنا الله: أي هلا يعذبنا بسبب ذلك، حسبهم جهنم: أي عذاب جهنم كاف لهم، يصلونها: أي يقاسون حرّها. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه عليم بالسر والنجوى، وأنه لا تخفى عليه خافية من أمرهم، فهو عليم بما يكون من التناجي بين الثلاثة والخمسة والأكثر والأقل، ومجازيهم على ما يكون من التناجي- خاطب رسوله معجّبا له من اليهود والمنافقين الذين نهوا عن التناجي دون المؤمنين، فعادوا لما نهوا عنه، وما كان تناجيهم إلا بما هو إثم وعدوان على غيرهم، ثم ذكر أنهم كانوا إذا جاءوا الرسول حيّوه بغير تحية الله، فيقولون له: السام عليك (يريدون الموت) ثم يقولون فى أنفسهم: لو كان رسولا لعذبنا الله للاستخفاف به، وإن جهنم لكافية جد الكفاية لعذابهم ثم نهى المؤمنين أن يفعلوا مثل فعلهم، بل يتناجون بالبر والتقوى ثم بين أن التناجي بالإثم والعدوان من الشيطان ولن يضيرهم شىء منه إلا بإذن الله، فعليه فليتوكلوا.

الإيضاح

الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) «روى أن اليهود كانوا إذا مر بهم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، حتى إذا رأى ذلك خشيهم، فترك طريقهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى فأنزل الله الآية» . ثم بيّن ما به يتناجون فقال: (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي وهم يتحدثون فيما بينهم بما هو إثم فى نفسه ووباله عليهم، وبما هو تعدّ على المؤمنين، وتواص بمخالفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه. ثم ذكر جرما آخر يقع منهم فقال: (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة «أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال عليه السلام: وعليكم، قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أو ما سمعت ما أقول: وعليكم؟ فأنزل الله تعالى (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ) الآية» . (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ) أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإبهام السلام وهم يريدون شتمه، ويحدّثون أنفسهم أنه لو كان نبيّا حقا لعذبنا الله بما نقول، لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان نبيا حقا لعاجلنا بالعقوبة فى الدنيا فردّ الله عليهم بقوله: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وإن جهنم وما فيها من العذاب الأليم لكافية لعقابهم ونكالهم، وقد أجّل عذابهم إلى هذا اليوم.

ثم قال تعالى مؤدبا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل اليهود والمنافقين فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي إذا حدث منكم أيها المؤمنون تناج ومسارّة فى أنديتكم وخلواتكم، فلا تفعلوا كما يفعل أولئك الكفار من أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين. (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وتناجوا بما هو خير واتقوا الله فيما تأتون وما تذرون، فإليه تحشرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها. ثم بين الباعث لهم على هذه النجوى والمزين لهم ذلك فقال: (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أي إنما التناجي بالإثم والعدوان من وسوسة الشيطان وتزيينه. ثم ذكر السبب الذي حداه إلى ذلك فقال: (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي إنما فعل ذلك يسوء الذين آمنوا بإيهامهم أن ذلك فى نكبة أصابتهم، وليس الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا إلا بإرادة الله ومشيئته. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن ما يتناجى به المنافقون مما يحزن المؤمنين إن وقع، فإنما يكون بإرادة الله ومشيئته، فلا يكترثنّ المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلنّ على الله ولا يحزننّ. وقد وردت السنة بالنهى عن التناجي إذا كان فى ذلك أذى لمؤمن. أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه» .

[سورة المجادلة (58) : آية 11]

[سورة المجادلة (58) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) شرح المفردات تفسحوا: أي توسعوا وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: افسح عنى أي تنحّ، يفسح الله لكم: أي فى رحمته ويوسع لكم فى أرزاقكم، انشزوا: أي انهضوا للتوسعة على المقبلين، فانشزوا أي فانهضوا ولا تتباطئوا، يرفع الله الذين آمنوا: أي يرفع منزلتهم يوم القيامة، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات، أي ويرفع العالمين منهم خاصة درجات فى الكرامة وعلوّ المنزلة. المعنى الجملي بعد أن نهى عباده المؤمنين عما يكون سببا للتباغض من التناجي بالإثم والعدوان- أمرهم بما يكون سبب التوادّ والتوافق بين بعض المؤمنين وبعض: من التوسع فى المجالس حين إقبال الوافد، والانصراف إذا طلب منكم ذلك. فإذا فعلتم ذلك رفع الله منازلكم فى جناته، وجعلكم من الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله، إذا قيل لكم توسعوا فى مجالس رسول الله أو فى مجالس القتال، فافسحوا يفسح الله فى منازلكم فى الجنة.

أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حبان قال: «كان صلى الله عليه وسلم يوم جمعة فى الصّفّة وفى المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس منهم ثابت بن قيس وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فلم يفسحوا لهم، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله: قم يا فلان، قم يا فلان، فأقام نفرا بمقدار من قدم، فشق ذلك عليهم، وعرفت كراهيته فى وجوههم، وطعن المنافقون وقالوا: والله ما عدل على هؤلاء، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه، أقامهم وأجلس من أبطأ عنه فنزلت الآية» . وقال الحسن: كان الصحابة يتشاحون فى مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة فى الشهادة، ومن الآية نعلم: (1) أن الصحابة كانوا يتنافسون فى القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه، لما فيه من الخير العميم، والفضل العظيم، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ليلينى منكم أولو الأحلام والنّهى» . (2) الأمر بالتفسح فى المجالس وعدم التضامّ فيها متى وجد إلى ذلك سبيل، لأن ذلك يدخل المحبة فى القلوب، والاشتراك فى سماع أحكام الدين. (3) إن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة. وعلى الجملة فالآية تشمل التوسع فى إيصال جميع أنواع الخير إلى المسلم وإدخال السرور عليه، ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام «لا يزال الله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه» .

[سورة المجادلة (58) : الآيات 12 إلى 13]

(وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي وإذا دعيتم إلى القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوموا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤثر الانفراد أحيانا لتدبير شئون الدين، أو لأداء وظائف تخصه لا تؤدى أو لا يكمل أداؤها إلا بالانفراد. وقد عمموا هذا الحكم فقالوا: إذا قال صاحب مجلس لمن فى مجلسه قوموا ينبغى أن يجاب. ولا ينبغى لقادم أن يقيم أحدا ليجلس فى مجلسه فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ولكن تفسحوا وتوسعوا» . (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة درجات كثيرة فى الثواب ومراتب الرضوان. والخلاصة- إنكم أيها المؤمنون إذا فسح أحدكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أمر بالخروج فخرج، فلا يظننّ أن ذلك نقص فى حقه، بل هو رفعة وزيادة قربى عند ربه، والله تعالى لا يضيع ذلك بل يجزى به فى الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره، ونشر ذكره. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله بأعمالكم ذو خبرة لا يخفى عليه المطيع منكم من العاصي، وهو مجازيكم جميعا بأعمالكم، فالمحسن بإحسانه، والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو. [سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)

شرح المفردات

شرح المفردات ناجيتم الرسول: أي أردتم مناجاته والحديث معه، فقدموا بين يدى نجواكم صدقة: أي فتصدقوا قبلها، أطهر: أي أزكى، لتعويد النفس بذل المال وعدم الضنّ به، أشفقتم: أي خفتم، تاب الله عليكم: أي رخص لكم فى المناجاة من غير تقديم صدقة. المعنى الجملي علمت من الآية السالفة أن المؤمنين كانوا يتنافسون فى القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع أحاديثه ولمناجاته فى أمور الدين، وأكثروا فى ذلك حتى شقّ عليه صلى الله عليه وسلم وشغلوا أوقاته التي يحب أن تكون موزعة بين إبلاغ الرسالة والعبادة، والقيام ببعض وظائفه الخاصة، فإنه بشر يحتاج إلى قسط من الراحة، وإلى التحنث إلى ربه فى خلواته. من أجل هذا نزلت هذه الآيات آمرة بوجوب تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه، لما فى ذلك من منافع ومزايا: (1) إعظام الرسول وإعظام مناجاته، فإن الشيء إذا نيل مع المشقة استعظم، وإن نيل بسهولة لم يكن له منزلة ورفعة شأن. (2) نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة. (3) تمييز المنافقين الذين يحبون المال ويريدون عرض الدنيا- من المؤمنين حقّ الإيمان الذين يريدون الآخرة وما عند الله من نعيم مقيم.

الإيضاح

قال ابن عباس: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه فأنزل هذه الآيات فكف كثير من الناس عن المناجاة. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي أيها المؤمنون إذا أراد أحد منكم أن يناحى الرسول ويسارّه فيما بينه وبينه- فليقدم صدقة قبل هذا، لما فى ذلك من تعظيم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونفع الفقراء والتمييز بين المؤمن حقا والمنافق، ومحب الآخرة ومحب الدنيا، ومن دفع التكاثر عليه صلى الله عليه وسلم من غير حاجة ملحّة إلى ذلك. ثم ذكر العلة فى هذا فقال: (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي إن فى هذا التقديم خيرا لكم لما فيه من الثواب العظيم عند ربكم، ومن تزكية النفوس وتطهيرها من الجشع فى جمع المال وحب ادخاره، وتعويدها بذله فى المصالح العامة كإغاثة ملهوف، ودفع خصاصة فقير، وإعانة ذى حاجة، والنفقة فى كل ما يرقّى شأن الأمة ويرفع من قدرها، ويعلى كلمتها، ويؤيد الدين وينشر دعوته. ثم أقام العذر للفقراء فقال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن لم تجدوا الصدقة أيها الفقراء وعجزتم عن ذلك فالله قد رخص لكم فى المناجاة بلا تقديم لها، لأنه ما أمر بها إلا من قدر عليها. وقد شرع هذا الحكم لتمييز المخلص من المنافق، فلما تم هذا الغرض انتهى ذلك الحكم ورخص فى المناجاة بدون تقديم صدقة، فقال:

[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 إلى 19]

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي أبخلتم وخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم الصدقات، ووسوس لكم الشيطان أن فى هذا الإنفاق ضياعا للمال؟ (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أي فحين لم تفعلوا ما أمرتم به، وشق ذلك عليكم، خفف عليكم ربكم فرخص فى المناجاة من غير تقديم صدقة، فتداركوا ذلك بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي فأدوا الصلاة وقوّموها بأدائها على أكمل الوجوه، لما فيها من الإخبات إلى الله والإنابة إليه والإخلاص له فى القول والعمل، ونهيها عن الفحشاء والمنكر، ولما فى الزكاة من تطهير النفوس وإزالة الشح بالمال المستحوذ على القلوب الدافع لها إلى ارتكاب الشرور والآثام. وأطيعوا الله فيما يأمركم به من الفرائض والواجبات، وينهاكم عنه من الموبقات. ثم وعد وأوعد فقال: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو محيط بنواياكم وأعمالكم، ومجازيكم بما قدمتم لأنفسكم من خير أو شر، كما قال «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» وقال: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» . [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 19] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)

شرح المفردات

شرح المفردات ألم تر: أي أخبرنى وهو أسلوب من الكلام يراد به التعجب وإظهار الغرابة المخاطب، والمراد من الذين تولوا: المنافقون، والتولي: من الموالاة وهى المودة والمحبة، والقوم: هم اليهود، وغضب الله: سخطه والطرد من رحمته، ما هم منكم ولا منهم: أي لأنهم مذبذبون، على الكذب: أي على أنهم معكم على الإيمان، جنة: أي وقاية وسترا عن المؤاخذة، على شىء: أي من جلب منفعة أو دفع مضرة، استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به قال المبرد ويقال حاوزت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها، قالت عائشة: كان عمر أحوذيا نسيج وحده: أي سائسا ضابطا للأمور لا نظير له، فأنساهم ذكر الله: أي لم يمكنهم من ذكره بما زين لهم من الشهوات، وحزب الشيطان: جنوده وأتباعه. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتنافسون فى القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلقى الدين عنه والاهتداء بهديه حتى كان يضيق بهم المجلس، فأمروا أن يتوسعوا ولا يتضاموا- ذكر هنا حال قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين، فهم عيون لهم عليهم، وإذا لاقوا المؤمنين قالوا لهم: إنا معكم نؤيدكم على أعدائكم بكل ما أوتينا من قوة وهم كاذبون

الإيضاح

فى كل ما يقولون وقد جعلوا الإيمان وقاية لستر ما يبطنون، فأمنوا من المؤاخذة وجاسوا خلال ضعفاء المؤمنين يصدونهم عن الدين ويذكرون لهم ما يبغضهم فيه ثم أبان أن الله قد أعد لمثل هؤلاء عذابا شديدا يوم القيامة، وما هم فيه من مال وولد فى الدنيا لن يغنى عنهم شيئا حينئذ ثم ذكر أن الذي جرأهم على ما فعلوا هو الشيطان، فقد استولى على عقولهم، وزين لهم قبيح أعمالهم، فأنساهم عذاب اليوم الآخر ثم ذكر أن أولئك هم جند الشيطان، وجنود الشيطان لن تفلح فى شىء، وسيرد الله عليهم كيدهم فى نحورهم، ويحبط سعيهم، ويظهر نور دينه ولو كره الكافرون. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي أخبرنى عن حال هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين إن حالهم لتستدعى العجب، يقابلون كل قوم بوجه، فهم مع اليهود نصحاء أمناء يبلغونهم ما يعرفونه من دخائل المؤمنين اكتسابا لصداقتهم وودهم، ومع المؤمنين مؤمنون مخلصون قد بلغ الإيمان قرارة نفوسهم، وملك عليهم مشاعرهم وحواسهم والحقيقة أنهم يخدعون الفئتين كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله: (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي فلا هم بالمؤمنين حقا بل هم مؤمنون من طرف اللسان مداراة للمؤمنين وخوفا من بطشهم، ولا هم مع اليهود، لأنهم لا يعتقدون أنهم على الدين الحق، ولكنهم يريدون أن ينتفعوا بما عندهم من عرض الدنيا، وأن يحتفظوا بمودتهم إذا احتاجوا إليها، فهم كما قال الله فيهم: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» وفى الخبر «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين» أي المترددة بين قطيعين «لا تدرى أيّهما تتبع» ثم ذكر أنهم يؤكدون إيمانهم وإخلاصهم بالأيمان الكاذبة فقال:

(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا إنا آمنا وإذا جاء الرسول حلفوا وقالوا له: نشهد إنك لرسول الله، والله يشهد إنهم لكاذبون فيما يقولون، لأنهم لا يعتقدون صدقه. ثم ذكر مآلهم وبيّن ما يلقون من النكال والوبال فقال: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أرصد الله لهم نكالا وعذابا أليما جزاء صنيعهم بغش المسلمين واطلاع أعدائهم على أسرارهم ونصحهم لهم. ثم ذكر ما جعلوه تكأة لهم على تصديقهم فقال: (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وتستروا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم أنهم صادقون وبهذه الوسيلة صدوا كثيرا من الناس عن سبيل الله بتثبيط من لقوا عن الدخول فى الإسلام بتحقير شأنه فى نظرهم. ثم بين ما كافأهم به على عملهم فقال: (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي فلهم عذاب يلحقهم به الذل والهوان فى النار جزاء ما امتهنوا اسمه الكريم بالحلف به كذبا. ثم أرشد إلى أن ما ظنوه منجيا لهم من عذاب الله من المال والأولاد- لبس بنافع لهم حينئذ فقال: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لن تغنى عن هؤلاء المنافقين الأموال فيفتدوا بها من عذاب الله، ولا الأولاد فينصروهم وينقدوهم من العذاب إذا هو عاقبهم، فأولئك هم أهل النار وهم خالدون فيها أبدا، وقد تقدم مثل هذا فى غير موضع من الكتاب الكريم. (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء كهيئتهم قبل مماتهم، فيحلفون له

[سورة المجادلة (58) : الآيات 20 إلى 22]

قائلين: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» كما كانوا يحلفون لكم فى الدنيا إنهم مؤمنون مثلكم. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي ويعتقدون أن ذلك نافع لهم، فيجلب لهم الخير، ويدفع عنهم الضّير، كما كان ذلك شأنهم فى الدنيا، إذ كانوا يدفعون بتلك الأيمان الفاجرة عن أرواحهم وأموالهم ويحصلون على فوائد دنيوية أخرى. ثم رد عليهم منكرا لهم فقال: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) فيما يحلفون عليه زعما منهم أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه تعالى، كما تروّجه لدى المؤمنين فى الدنيا. ونحو الآية قوله: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» . ثم بين السبب الذي أوقعهم فى الردى وأوصلهم إلى قرارة جهنم فقال: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه، فلم يمكنهم من ذكر الله واتباع أوامره وترك نواهيه، بما زين لهم من الشهوات فأوقعهم فى دركات جهنم، وبئس المصير. (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي أولئك هم جنود الشيطان وأعوانه، وإن جنده لهم الهالكون المغبونون فى صفتهم، إذ هم قد فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم، واستبدلوا به العذاب الأليم، وليس من دأب العاقل أن يقبل مثل هذا لنفسه. [سورة المجادلة (58) : الآيات 20 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

شرح المفردات

شرح المفردات يحادون: أي يعادون ويشاقون، فى الأذلين: أي فى جملة أذلّ خلق الله، لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر، كتب الله: أي قضى وحكم، لأغلبنّ: أي بالحجة والسيف، وأيدهم: أي قواهم، بروح من عنده: أي بنور يقذفه فى قلب من يشاء من عباده، لتحصل له الطمأنينة والسكينة. المعنى الجملي بعد أن ذكر حال أولئك المنافقين الذين يحلفون كذبا إنهم مؤمنون، ويمالئون المؤمنين طورا واليهود طورا آخر اكتسابا لرضا الفريقين، ثم بين أن الذي حملهم على ذلك هو الشيطان، إذ غلبهم على أمرهم حتى أنساهم ذكر الله وما يجب له من تعظيم ووجوب اعتقاد باليوم الآخر، ثم حكم عليهم بأن صفقتهم خاسرة، لأنهم باعوا الباقي بالفاني والزائل الذي لا دوام له بما هو دائم أبدا سرمدا- بين هنا سبب خسرانهم وهو أنهم شاقوا الله ورسوله وعصوا أمرهما، فكتب عليهم الذلة فى الدنيا والآخرة، إذ قد قضى بأن العزة والغلب له ولرسله، والذلة لأعدائه ثم ذكر أن الإيمان الحق لا يجتمع مع موالاة أعدائه مهما قرب بهم النسب بأن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا أو من ذى العشيرة، لأن المحادين كتبت عليهم الذلة، وأولئك كتبت لهم العزة، وقوّاهم ربهم بالطمأنينة والثبات على الإيمان، وهم جند الله وناصر ودينه،

الإيضاح

وحزب الله مفلح لا محالة وقد كتبت له السعادة فى الدارين كما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» . الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي إن الذين يخالفون أوامر الله ونواهيه، ويمتنعون عن أداء ما فرض عليهم من فرائضه، هم فى جملة أهل الذلة، لأن الغلبة لله ولرسوله، وذلهم فى الدنيا يكون بالقتل والأسر والإخراج من الديار كما حصل للمشركين واليهود، وفى الآخرة بالخزي والنكال والعذاب الأليم كما قال سبحانه: «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» . وفى هذا بشارة للمؤمنين بأنه سيظهرهم على عدوهم ويكتب لهم الفوز ويكونون هم الأعزاء وسواهم الأذلاء. ثم أكد ما سلف بقوله: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي قضى الله وحكم فى أم الكتاب بأن الغلبة بالحجة والسيف وما يجرى مجراهما تكون لله ورسله، فقد أهلك كثيرا من أعدائهم بأنواع من العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم (والحرب بين نبينا وبين المشركين، وإن كانت سجالا كانت العاقبة فيها له عليه الصلاة والسلام) ثم تكون لأتباعه من بعده ما داموا على سننه، محافظين على الحدود التي أمروا بها، وجاهدوا عدوهم جهادا خالصا لله على نحو جهاد الرسل، لا لطلب ملك وسلطان، ولا لطلب دنيا ومال. وعن مقاتل قال: لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها، قالوا نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبىّ رأس المنافقين: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» .

ونحو الآية قوله تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» . (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن الله الذي له الأمر كله- قوىّ على نصر رسله لا يغلب على مراده، فمتى أراد شيئا كان ولم يجد معارضا ولا ممانعا كما قال: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي لا تجد قوما يجمعون بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وموادّة أعداء الله ورسوله، لأن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين، إذ من كان مؤمنا حقا لا يوالى كافرا، فمن أحب أحدا امتنع أن يوالى عدوه، والمراد من موالاته مناصحته وإرادة الخير له فى الدين والدنيا، أما المخالطة والمعاشرة فليست بمحظورة ولقد أصاب المسلمين اليوم من ذلك بلاء شديد، فإنا نرى الأمم الإسلامية أصبحت فى أخريات الأمم، وأبناؤها فى شمال إفريقية وفى مصر وغيرها يوالون الإفربحة وينصرونهم على أبناء جنسهم، ولو كان فى هذا ذل لهم ولدينهم وأمتهم، ولن يزول هذا إلا بالاستشعار بالعزة والكرامة القومية والدفاع عن حوزة الدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ثم بالغ فى الزجر وأبان أنه لا ينبغى لمؤمن أن يفعل ذلك ولو مع الأقارب كالآباء الذين يجب طاعتهم ومصاحبتهم فى الدنيا بالمعروف، أو الأبناء الذين هم فلذات الأكباد أو الإخوان الذين هم الناصرون لهم، أو العشيرة الذين يعتمد عليهم بعد الإخوان. والخلاصة- إنه لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء الله، لأن من أحب أحدا امتنع من محبة عدوه، فإذا حصل فى القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإيمان الصحيح وكان صاحبه منافقا.

أخرج الطبراني والحاكم والترمذي مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى: وعزتى لا ينال رحمتى من لم يوال أوليائى، ويعاد أعدائى» وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاش علىّ يدا ولا نعمة فيودّه قلبى، فإنى وجدت فيما أوحيت إلىّ: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله» . قيل إن الآيات نزلت فى أبى بكر رضي الله عنه، أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدّثت أن أبا قحافة سبّ النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة سقط بها على وجهه، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ قال نعم، قال لا تعد، قال والله لو كان السيف قريبا منى لقتلته. وقيل نزلت فى أبى عبيدة بن عبد الله الجراح، أخرج ابن أبى حاتم والطبراني وأبو نعيم فى الحلية والبيهقي فى سننه عن ابن عباس قال: جعل والد أبى عبيدة يتصدى له يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت: (لا تَجِدُ قَوْماً) الآية. (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أولئك الذين سلفت أوصافهم أثبت الله فى قلوبهم الإيمان، والإيمان نعمة عظيمة لا تحصل لمن يوادّ من حادّ الله ورسوله. وفى هذا مبالغة فى الزجر عن موادة أعداء الله. ثم ذكر سببا آخر يمنع من موادتهم فقال: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي إنه قواهم بطمأنينة القلب والثبات على الحق، فلا يبالون بموادة أعداء الله ولا يأبهون لهم. ثم ذكر ما أعده لهم من النعيم المقيم فقال: (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا. ثم ذكر السبب فيما أفاض الله عليهم من نعمة فقال:

خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة

(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي أغدق عليهم من رحمته العاجلة والآجلة، فأدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، ورضوا عنه لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا، فإنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر فى الله تعالى- عوضهم الله بالرضا عنه، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم. ثم أشاد بتشريفهم فجعلهم جنده تعالى فقال: (أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي أولئك أنصار الله وجنده وأهل كرامته، وهم أهل لفلاح والسعادة والنصرة فى الدنيا والآخرة. خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة (1) ألفة الأزواج فى المنازل. (2) ألفة الأصحاب فى المجالس. (3) الأدب مع الحكام بترك مضايقتهم، لكثرة أعمالهم. (4) رفق الحكام بالمحكومين إذا رأوا أمرا يثقلهم. (5) مجانبة خيانة الأمة بموالاة أعدائها، وبالنفاق والشقاق، فإن ذلك يضعفها ويفرق جمعها ويذلها.

سورة الحشر

سورة الحشر هى مدنية، وعدة آيها أربع وعشرون نزلت بعد سورة البيّنة. ومناسبتها ما قبلها من وجوه: (1) إن فى آخر السالفة قال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وفى أول هذه قال: «فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» . (2) إن فى السابقة ذكر من حادّ الله ورسوله، وفى أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله. (3) إن فى السالفة ذكر حال المنافقين واليهود وتولى بعضهم بعضا، وفى هذه ذكر ما حل باليهود، وعدم غناء تولى المنافقين إياهم. «روى أن بنى النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبي الذي نعت فى التوراة، لا نردّ له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف فى أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم فى دية المسلمين من بنى عامر عند منصرفه من بئر معونة، إذ همّوا بطرح حجر عليه فعصمه الله. وبعد أن قتل كعب بأشهر تهيأ المسلمون لقتالهم وساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم حتى إذا نزل فى بنى النضير وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا ذرنا نبكى شجونا، ثم ائتمر أمرك، فقال: اخرجوا من المدينة، فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب، ودس المنافقون عبد الله بن أبىّ وأضرابه إليهم ألا يخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم،

[سورة الحشر (59) : الآيات 1 إلى 5]

وإن أخرجتم لنخرجنّ معكم، فحصنوا الأزقة وحاصروهم إحدى وعشرين ليلة، وقذف الله الرعب فى قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، فجلوا إلى الشام، إلى أريحا وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم هما آل أبى الحقيق وآل حيىّ بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة» . [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) شرح المفردات الذين كفروا: هم بنو النّضير (بزنة أمير) قبيلة عظيمة من اليهود كبنى قريظة، والحشر: إخراج جمع من مكان إلى آخر، ولأول الحشر: أي فى أول حشرهم،

المعنى الجملي

أي جمعهم وإخراجهم من جزيرة العرب ونفيهم إلى بلاد الشام، وآخر حشر: إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام، والحصون: واحدها حصن وهو القصر الشاهق والقلعة المشيدة، مانعتهم حصونهم من الله: أي مانعتهم من بأسه وعقابه، فأتاهم الله: أي جاءهم عذابه، من حيث لم يحتسبوا: أي من حيث لم يخطر لهم ببال، وقذف الشيء: رميه بقوة، والمراد هنا إثباته وركزه فى قلوبهم، والرعب: الخوف الذي يملأ الصدر يخربون: أي يهدمون، فاعتبروا: أي فاتعظوا، والاعتبار: النظر فى حقائق الأشياء وجهات دلالتها، ليعرف بالنظر فيها شىء آخر من جنسها، وأجليت القوم عن منازلهم: أي أخرجتهم منها، وجلوا: خرجوا، وقد فرقوا بين الإجلاء والإخراج من وجهين: أن الأول لا يكون إلا لجماعة، والثاني: يكون لواحد ولجماعة، وأن الأول ما كان مع الأهل والولد والثاني يكون مع بقائهما، واللينة: النخلة ما لم تكن عجوة. المعنى الجملي علمت مما سلف أن اليهود نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروا المشركين اتكالا على مساعدة المنافقين لهم ومناعة حصونهم، فتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقتالهم، فلما علموا بقدومه حصنوا الأزقة فحاصرهم عليه الصلاة والسلام عدة أيام وألقى الله الرعب فى قلوبهم، فطلبوا الصلح فأبى إلا الجلاء وأخرجهم من حصونهم بعد تخريبها بأيديهم وأيدى المؤمنين، ولولا جلاؤهم لعذبهم فى الدنيا بالقتل والأسر، ولهم فى الآخرة عذاب شديد، وما كان ذلك إلا بإذن الله وتقديره للأمور وفق الحكمة والمصلحة. الإيضاح (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن جميع ما فى السموات والأرض من الأشياء يقدسه سبحانه ويمجده، إما باللسان أو بالقلب أو بدلالة الحال لانقياده لتصريفه له كيف شاء لا معقّب لحكمه.

ونحو الآية قوله تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» . ثم بين بعض آثار عزته، وأحكام حكمته فقال: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي هو الذي أجلى بنى النضير من المدينة بقوة عزته، وعظيم سلطانه، وكان هذا أول مرة حشروا فيها وأخرجوا من جزيرة العرب لم يصبهم الذل قبلها، لأنهم كانوا أهل عزة ومنعة، وآخر حشر لهم إجلاء عمر رضى الله عنه لهم من خيبر إلى الشام. ثم بيّن فضل الله على المؤمنين، ونعمته عليهم فى إخراج عدوهم من ديارهم ولم يكن ذلك منتظرا فقال: (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي ما خطر لكم ذلك أيها المؤمنون ببال، لشدة بأسهم ومنعتهم، وقوة حصونهم، وكثرة عددهم وعددهم. وفى ذكر هذا تعظيم للنعمة، فإن النعمة إذا جاءت من حيث لا ترتقب كانت مكانتها فى النفوس أعظم، وكانت بها أشد سرورا وابتهاجا. والمسلمون ما ظنوا أن يبلغ الأمر بهم إلى إخراج اليهود من ديارهم، ويتخلصوا من مكايدهم وأشراكهم التي ما فتئوا ينصبونها للمؤمنين، وبذا قضى الله عليهم قضاءه الذي لا مردّ له، وصدق الله (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) . ثم ذكر ما جرّأهم على مشاكسة النبي صلى الله عليه وسلم وتأليب المشركين عليه فقال: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) أي وظن بنو النضير أن حصونهم المنيعة القوية تمنعهم من أن ينالهم عدو بسوء، فلا يستطيع جيش مهما أوتى من بأس أن يصل إليهم بأذى، فاطمأنوا إلى تلك القوة، وأوقدوا نار الفتنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمشركين، طمعا فى القضاء عليه، بعد أن أصبحت له الزعامة

الدينية والسياسية فى المدينة، وسيكون فى ذلك القضاء عليهم لو صبروا، وقد غبروا دهرا وهم أصحاب السلطان فيها، لأنهم من وجه أهل كتاب، ومن وجه آخر هم أرباب النفوذ المالى فيها، وأصحاب الثروة والجاه العريض. ثم أكد ما سلف وقرره بقوله: (فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي فجاءهم بأس الله وقدرته الذي لا تدفع من حيث لم يخطر ذلك لهم ببال، وصدق فيهم ما قيل: قد يؤتى الحذر من مأمنه. فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فذهبت طائفة منهم إلى أذرعات من أعالى الشام، وطائفة إلى خيبر على أن يأخذوا معهم ما حملت إبلهم. ثم بين أسباب هذا الاستسلام السريع، والنزول على حكم الرسول على مناعة الحصون وكثرة العدد والعدد فقال: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي بثّ فى قلوبهم الهلع والخوف حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليهم، فلم يستطيعوا إلى المقاومة سبيلا. ومما كان له بالغ الأثر فى هذا الخوف قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غيلة، وما رأوه من كذب وعد عبد الله بن أبىّ رأس المنافقين فى نصرتهم، وإرسال المدد إليهم، وتغريره بهم، وتوسيع مسافة الخلف بينهم وبين الرسول، فهم قد أوقدوا نارا كانوا هم حطب لهيبها، وفتحوا ثغرة برءوسهم قد سدّوها، ووقعوا فى حفرة هم الذين كانوا قد حفروها، فابتلعتهم لا إلى رجعة. ثم بين مدى ما لحقهم من الهلع والجزع، وكيف حاروا فى الدفاع عن أنفسهم فقال: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يخربون بيوتهم بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة حتى لا يدخلها العدو، وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المؤمنين بعد جلائهم، ولينقلوا بعض أدواتها التي تصلح للاستعمال فى جهات أخرى كالخشب والعمد والأبواب، ويخربها المؤمنون من خارج ليدخلوها

عليهم، ويزيلوا تحصنهم بها، وليتسع مجال القتال، ويكون فى ذلك عظيم التنكيل والغيظ لهم. ثم ذكر ما يجب أن يجعله العاقل نصب عينيه من عظة واعتبار فقال: (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فاتعظوا يا ذوى البصائر السليمة، والعقول الراجحة، بما جرى لهؤلاء من أمور عظام، وبلاء ما كان يخطر لهم ببال، بأسباب تحار فى فهمها العقول، ولا يصل إلى كنه حقيقتها ذوو الآراء الحصيفة، وابتعدوا عن الكفر والمعاصي التي أوقعتهم فى هذه المهالك، فالسعيد من وعظ بغيره، وإياكم والغدر، والاعتماد على غير الله، فما اعتمد أحد على غيره إلا ذلّ. ثم بين أن الجلاء الذي كتب عليهم كان أخف من القتل والأسر فقال: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أي ولولا أن الله قدّر جلاءهم من المدينة، وخروجهم من أوطانهم على هذا الوجه المهين، لعذبهم فى الدنيا بما هو أفظع منه من قتل وأسر كما فعل مع المشركين فى وقعة بدر، وكما فعل مع بنى قريظة فى سنة خمس للهجرة، كفاء غدرهم وخيانتهم، وتأليب المشركين على المؤمنين، والسعى فى إطفاء نور الإسلام حتى لا تقوم لهم قائمة- إلى ما أعد لهم من عذاب مقيم، ونكال وجحيم، حين تقوم الساعة، وتجازى كل نفس بما كسبت. ثم بين السبب فيما حل بهم وذكر علته فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه إنما فعل ذلك بهم، وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين، لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنزله على رسله المتقدمين من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ثم ذكر مآل من يعادى الله ورسوله فقال: (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يعاد الله فإن الله يعاقبه أشد العقاب، وينزل به الخزي والهوان فى الدنيا، والنكال السرمدي فى الآخرة.

[سورة الحشر (59) : الآيات 6 إلى 7]

ثم ذكر أن كل شىء بقضاء الله وقدره فقال: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي أىّ شىء قطعتموه من النخل أو أبقيتموه كما كان ولم تتعرضوا له بشىء فذلك بأمر الله الذي بلّغه إليكم رسوله لتطهر البلاد من شرورهم. روى أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر بقطع نخلهم وحرقه قالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد فى الأرض، فما بال قطع النخل وتحريقها، وكان فى أنفس المؤمنين من ذلك شىء فقالوا لنسألنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله الآية: (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي فعل ذلك ليعزّ المؤمنين، وليخزى الفاسقين، ويذلهم ويزيد غيظهم، ويضاعف حسرتهم، بنفاذ حكم أعدائهم فى أعزّ أموالهم. والخلاصة- إنكم بأمر الله قطعتم، ولم يكن ذلك فسادا بل نعمة من الله، ليخزيهم ويذلهم بسبب فسقهم وخروجهم من طاعة الله ومخالفة أمره ونهيه. [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 7] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)

شرح المفردات

شرح المفردات قال المبرد: يقال فاء يفىء إذا رجع، وأفاءه الله إليه: أي رده وصيره إليه، والفيء شرعا: ما أخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كأموال بنى النضير، ويقال وجف الفرس والبعير يجف وجفا ووجيفا: إذا أسرع، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع والركاب: ما يركب من الإبل، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها، والعرب لا تطلق لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارسا، يسلط رسله: أي على أعدائه من غير قتال ولا مصاولة بل بإلقاء الرعب فى القلوب، فيكون الفيء للرسول يصرفه فى مصارفه التي ستعلمها بعد، من أهل القرى: أي من أهل البلدان التي تفتح هكذا بلا قتال، ولذي القربى: أي بنى هاشم وبنى المطلب، قال المبرد: الدّولة (بالضم) الشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا أخرى، والدّولة (بالفتح) انتقال حال سارّة من قوم إلى قوم، أي فالأولى اسم لما يتداول من المال، والثانية اسم لما ينتقل من الحال، آتاكم: أي أعطاكم، وما نهاكم عنه. أي ما منعكم عن فعله. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه ما حلّ ببني النضير من العذاب العاجل كتخريب بيوتهم بأيديهم وتحريق نخيلهم وتقطيعها، ثم إجلائهم من بعد ذلك عن الديار إلى الشام دون أن يحملوا إلا القليل من المتاع- ذكر هنا حكم ما أخذ من أموالهم، فجعله فيئا لله ورسوله ينفق منه على أهله نفقة سنة ثم يجعل ما بقي فى السلاح والكراع عدّة فى سبيل الله، ولا يقسم بين المقاتلة كالغنيمة، لأنهم لم يقاتلوا لأجله. روى أن الصحابة رضى الله عنهم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة فى بدر وغيرها بينهم، فبين سبحانه الفرق بين

الإيضاح

الأمرين، بأن الغنيمة تكون فيما أتعبتم أنفسكم فى تحصيله وأوجفتم عليه الخيل والركاب، والفيء فيما لم تتحملوا فى تحصيله تعبا، وحينئذ يكون أمره مفوّضا إلى الرسول يضعه حيث يشاء. الإيضاح (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي ما صيره الله إلى رسوله من أموال بنى النضير فهو لله ورسوله، ولا يجعل غنيمة للجيش يقسم تقسيم الغنائم، لأنه لم تقاتل فيه الأعداء بالمبارزة والمصاولة، بل نزلوا على حكم الرسول فرقا ورعبا، ولهذا يصرف فى وجوه البر والمنافع العامة التي ذكرها الله فى هذه الآيات. أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال: «كانت أموال بنى النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي فى السلاح والكراع عدّة فى سبيل الله تعالى» . (وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي ولكن جرت سنة الله أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائه ويقذف الرعب فى قلوبهم، فيستسلمون لهم بلا قتال ولا مصاولة، كما سلط محمدا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء فنزلوا على حكمه دون اقتحام مضايق الخطوب، ولا مقاومة شدائد الحروب، فلا حق للمقاتلة فى الفيء بل يكون أمره مفوضا إلى الرسول يصرفه كيف شاء، ولا يقسمه تقسيم الغنائم. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء كما يشاء، تارة على ما يعهد من السنن وأخرى على غير ما يعهد منها كما جرى لبنى النضير من استسلامهم بلا قتال على

مناعة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم من سلاح وكراع، وما كان المسلمون يظنون أن هذا سيكون. وبعد أن أتمّ الكلام فى إجلاء بنى النضير وفيئهم أعقبه بالكلام فى حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الكفار عامة فقال: (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي ما رده الله إلى رسوله من كفار أهل القرى كقريظة والنّضير وفدك وخيبر، فيصرف فى وجوه البر والخير ولا يقسم تقسيم الغنائم، بل يعطى للرسول ولذوى قرباه من مؤمنى بنى هاشم وبنى المطلب، ولليتامى الفقراء، وللمساكين ذوى الحاجة والبؤس، ولابن السبيل الذي انقطع عنه ماله، ولا يمكن أن يصل إليه لبعد الشّقّة وانقطاع طرق المواصلات، وقد كان ذلك حين كانت طرق الوصول شاقة، لكنها الآن سهلة وهى على أساليب شتى، فيمكن المرء أن يطلب ما شاء بحوالة على أي مصرف فى أي بلد على سطح الكرة الأرضية، ومن ثم فهذا النوع لا يوجد الآن. ثم علل هذا التقسيم بقوله: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي وإنما حكمنا بذلك وجعلناه مقسما بين هؤلاء المذكورين، لئلا يأخذه الأغنياء ويتداولوه فيما بينهم، ويتكاثروا به، كما كان ذلك دأبهم فى الجاهلية، ولا يصيب الفقراء من ذلك شىء. (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي وما أعطاكم الرسول من الفيء وغيره فخذوه فهو لكم حلال، وما نهاكم عنه فابتعدوا عنه ولا تقربوه، فإن الرسول لا ينطق عن الهوى كما قال سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» . أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي فى جماعة عن ابن مسعود قال: «لعن الله

[سورة الحشر (59) : الآيات 8 إلى 10]

تعالى الواشمات «1» والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: ما لى لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحى المصحف فما وجدته، قال إن كنت قرأته فقد وجدته، أما قرأت قوله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» قالت بلى، قال: فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه» . وعن أبى رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى، ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه» . ثم حذرهم من مخالفة أوامر الله ونواهيه فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي واتقوا الله فامتثلوا أوامره، واتركوا نواهيه، فإنه شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه، ورسوله ترجمان عما يريده الله لخير عباده وسعادتهم فى الدنيا والآخرة. [سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 10] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

_ (1) الوشم: غرز الإبرة فى عضو من الجسم ثم حشوه بالكحل، والمستوشمة: التي تطلب فعل ذلك، والمتنمصة: هى التي تنتف الشعر من الوجه وغيره، والمتفلجة: هى التي تتكلف تفريج ما بين الثنايا بطرق صناعية.

شرح المفردات

شرح المفردات التبوّء: النزول فى المكان، ومنه المباءة للمنزل، والمراد من الدار المدينة، والمراد بالحاجة الحسد والغيظ، وأوتوا: أي أعطى المهاجرون دون الأنصار، ويؤثرون: أي يقدمون ويفضلون، والخصاصة: الحاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج وكذا كل خرق فى منخل أو باب أو سحاب أو برقع، والشح: اللؤم وهو أن تكون النفس كزّة حريصة على المنع، قال شاعرهم: يمارس نفسا بين جنبيه كزّة ... إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا قال الراغب: البخل: المنع، والشح: الحال النفسية التي تقتضى ذلك، وغلّا أي حسدا وبغضا. المعنى الجملي بعد أن بين مصارف الفيء فيما سلف، وذكر أنه لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين- ذكر هنا أنه أراد بهم فقراء المهاجرين الذين لهم هذه الصفات السامية، والمناقب الرفيعة، ثم مدح الأنصار ساكنى المدينة وبالغ فى مدحهم فذكر لهم هذه الفضائل: (1) إنهم يحبون المهاجرين. (2) إنهم ليس فى قلوبهم حقد ولا حسد لهم.

الإيضاح

(3) إنهم يفضلونهم على أنفسهم ويعطونهم ما هم فى أشد الحاجة إليه، وما ذاك إلا لأن الله عصمهم من الشح المردي والبخل المهلك، الذي يدسى النفوس ويمنعها من اكتساب الخير وعمل البر. ثم ذكر أن التابعين لهم بإحسان، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، يدعون لأنفسهم ومن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة، ويطلبون من الله ألا يجعل فى قلوبهم حقدا وحسدا لهم. الإيضاح (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه أراد بهؤلاء الأربعة السالفين فقراء المهاجرين الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج من ديارهم وترك أموالهم طلبا لمرضاة ربهم ونيلا لثوابه ونصرة لله ورسوله، وإعلاء لشأن دينه. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي هؤلاء هم الصادقون فى إيمانهم، إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم، فهم قد أخرجوا من ديارهم، وهى العزيزة على النفوس، المحببة إلى القلوب. بلادي وإن جارت علىّ عزيزة ... وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام وتركوا الأموال والمال شقيق الروح، وكثيرا ما يقتل المرء فى سبيل الذّود عنه، وانتزاعه من أيدى غاصبيه، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدين، ورفعة شأنه، وذيوع ذكره، فحقّ لهم من ربهم النعيم المقيم، وجزيل الثواب بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال، وعظيم الخلال. روى أن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ منهم الحفيرة فى الشتاء ماله دثار غيرها. وعن سعيد قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم «بشّروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود. ثم مدح سبحانه الأنصار وأثنى عليهم حين طابت نفوسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي والذين سكنوا المدينة، وأشربت قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك المهاجرين، لهم صفات كريمة، وشيم جليلة تدل على كرم النفس، ونبل الطباع، فهم: (1) يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم، وقد آخى رسول الله بينهم وبينهم، وأسكن المهاجرين فى دور الأنصار معهم، ونزل بعض الأنصار عن بعض نسائهم للمهاجرين، طيّبة بذلك نفوسهم، قريرة به أعينهم. روى أحمد عن أنس قال: «قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم حسن مواساة فى قليل، ولا حسن بذل فى كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا فى المهيأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم» . وقال عمر: وأوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصى بالأنصار خيرا، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم. (2) لا يطمحون إلى شىء مما أعطيه أولئك المهاجرون من الفيء وغيره. روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم، فقالوا أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك؟ قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر، فقالوا نعم يا رسول الله» .

(3) يقدمون ذوى الحاجة على أنفسهم، ويبدءون بسواهم قبلهم، حتى إن من كان عنده امرأتان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا من المهاجرين. أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبى هريرة قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصابنى الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته أكرمى ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت والله ما عندى إلا قوت الصبية، قال إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم، وتعالى فأطفئى السراج ونطوى الليلة لضيف رسول الله ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل فيهما (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) » . ثم بين سوء عاقبة الشح فقال: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه. أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا «لا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان نار جهنم فى جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الإيمان والشح فى قلب عبد أبدا» . وأخرج أحمد والبخاري فى الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» . وروى الأموى عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال: إنى أخاف أن أكون قد هلكت، قال وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وأنا رجل

شحيح لا أكاد أخرج من يدى شيئا فقال ابن مسعود: ليس ذاك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل- ففرق بين الشح والبخل. وليس المراد من تقوى الشحّ الجود بكل ما يملك فقد روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى فى النائبة» . (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي والتابعون للفريقين بالإحسان إلى يوم القيامة يقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لإخواننا فى الدين الذين سبقونا بالإيمان. قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاث منازل: المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل. وفى هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضى الله عنهم أجمعين، لأنه جعل لمن بعدهم حظا فى الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو أبغض واحدا منهم أو اعتقد فيهم شرا فلا حق له فى الفيء. وإنما بدءوا فى الدعاء بأنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» . (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي ويدعون الله ألا يجعل فى قلوبهم حسدا وحقدا للمؤمنين جميعا. والحقد والحسد هما رأس كل خطيئة، وينبوع كل معصية، فهما يوجبان سفك الدماء والبغي والظلم والسرقة، وسائر أنواع الفجور. ونحو الآية قوله فى سورة براءة «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ»

[سورة الحشر (59) : الآيات 11 إلى 17]

وفى الآية إيماء إلى وجوب محبة من تقدمهم من المؤمنين ومراعاة حقوقهم لإخوّتهم فى الدين والسبق بالإيمان. (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ربنا إنك عظيم الرأفة بعبادك، كثير الرحمة لهم، فأجب دعاءنا. وفى الآية حثّ على الدعاء للصحابة، وصفاء القلوب من بغض أحد منهم. وعن ابن عمر أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ» ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؟ قال لا، ثم قرأ عليه «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الآية، ثم قال هؤلاء الأنصار فأنت منهم؟ قال لا، ثم قرأ عليه: «وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ» الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء. [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)

شرح المفردات

شرح المفردات نافقوا: أي أظهروا غير ما أضمروا، وبالغوا فى إخفاء عقائدهم، والإخوان: الأصدقاء واحدهم أخ، والأخ من النسب جمعه إخوة، لننصرنكم: أي لنعاوننكم، ليولنّ الأدبار: أي ليفرّن هار بين، أشد رهبة فى صدورهم من الله: أي إنهم يخافونكم فى صدورهم أشد من خوفهم لله، لا يفقهون: أي لا يعلمون عظمته تعالى حتى يخشوه حق خشيته، جميعا: أي مجتمعين، محصنة: أي بالدروب والخنادق وغيرها، جدر: أي حيطان واحدها جدار، بأسهم: أي حربهم، وشتى: أي متفرقة، واحدها شتيت، وبال أمرهم: أي سوء عاقبتهم، من قولهم: كلأ وبيل: أي وخيم سيىء العاقبة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبنى النضير من الاستسلام خوفا ورهبة، لما قذفه فى قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت- أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين عبد الله بن أبىّ ابن سلول ورفقته لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم ومحاربتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قصه الله علينا وفصّله أتمّ تفصيل، ليكون فى ذلك عبرة لنا وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركونهم فى حيرة من أمرهم لا يجدون لهم مخلصا مما وقعوا فيه. أخرج ابن إسحق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس: أنها نزلت فى رهط من

الإيضاح

بنى عوف، منهم عبد الله بن أبىّ ابن سلول، ووديعة بن مالك، وسويد وداعس بعثوا إلى بنى النضير بما قصه الله علينا فى كتابه. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) . تقدم أن قلنا فى غير موضع إن مثل هذا الأسلوب (أَلَمْ تَرَ) يراد به التعجيب من حال المحدّث عنه، وأن أمره غاية فى الغرابة، وموضع للدهشة والحيرة. فهؤلاء قوم من منافقى المدينة لهم أقوال تخالف ما يبطنون، منهم عبد الله بن أبىّ وشيعته رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع يحاصر بنى النضير ويقاتلهم، فأرسلوا إليهم يقولون لهم: إنا قادمون لمساعدتكم بخيلنا ورجلنا، ولا نسلمكم لمحمد أبدا فجدّوا فى قتالهم، ولا تهنوا فى الدفاع عن دياركم وأموالكم، حتى إذا اشتد الحصار، وأوغل المسلمون فى الدخول فى ديارهم، وتحريق نخيلهم، وهدم بيوتهم رأى بنو النضير أن تلك الوعود كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وأنهم بين أمرين: (1) الاستسلام وقبول حكم محمد عليهم. (2) إفناؤهم وتخريب ديارهم. وقد أدخل الله الرعب فى قلوبهم، فاختاروا الدنيّة، وقبلوا الجلاء عن الديار واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لهم ولا وعود، كما هو دأبهم فى كل زمان ومكان. وبعد أن كذبهم على سبيل الإجمال كذبهم تفصيلا ليزيد تعجيب المخاطب حالهم، وليبين له مبلغ خبث طويّتهم، وشدة جبنهم، وفزعهم من القتال، وأن هذه الوعود أقوال كاذبة لا كتها ألسنتهم وقلوبهم منها براء فقال:

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي لئن أخرج بنو النضير من ديارهم فأجلوا عنها لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم بالخروج من ديارهم، ولئن قاتلهم محمد صلى الله عليه وسلم لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولّن الأدبار منهزمين عن محمد وأصحابه، هاربين منهم خاذلين لهم، ثم لا ينصر الله بنى النضير. وهذا إخبار بالغيب، ودليل من دلائل النبوة، ووجه من وجوه الإعجاز، فإنه قد كان الأمر كما أخبر الله قبل وقوعه. والخلاصة- إن بنى النضير أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فما نصروهم، ولو كانوا قد نصروهم لتركوا النصرة وانهزموا وتركوا أولئك اليهود فى أيدى الأعداء. ثم ذكر السبب فى عدم نصرتهم لليهود والدخول مع المؤمنين فى قتال فقال: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) أي إنهم يخافونكم أشد مما يخافون الله، ومن ثمّ لم يجرءوا على الدخول معكم فى قتال، وأسلموا اليهود يحكم عليهم الرسول بما يشاء. ثم ذكر سبب الرهبة لهم من دون الله فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي وكانت هذه الرهبة لكم فى صدورهم أشد من رهبتهم لله من أجل أنهم لا يفقهون قدر عظمته تعالى، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه ولا يرهبون عقابه قدر رهبتهم لكم. ونحو الآية قوله: «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً» . ثم أكد جبن اليهود والمنافقين وشديد خوفهم منهم فقال: (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي إن هؤلاء اليهود

والمنافقين قد ألقى الرعب فى قلوبهم، فلا يواجهونكم بقتال مجتمعين، لأن الخوف والهلع بلغا منهم كل مبلغ، بل يقاتلونكم فى قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها، ومن وراء الجدر والحيطان وهم محاصرون. ثم بين أن من أسباب هذا الجبن والخوف- التخاذل وعدم الاتحاد حين اشتداد الخطوب فقال: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي بعضهم عدوّ لبعض، فلا يمكن أن يقاتلوا عدوا لهم وهم فى تخاذل وانحلال، ومن ثم استكانوا وذلوا. وفى هذا عبرة للمسلمين فى كل زمان ومكان، فإن الدول الإسلامية ما هدّ كيانها، وأضعفها أمام أعدائها إلا تخاذلها أفرادا وجماعات، وانفراط عقد وحدتها، ومن ثم طمع الأعداء فى بلادهم ودخلوها فاتحين وأذاقوا أهلها كؤوس الذل والهوان وفرّقوهم شذر مذر، وجعلوهم عبيدا أذلاء فى بلادهم والتهموا ثرواتهم، ولم يبقوا لهم إلا النّفاية وفتات الموائد. ولله الأمر من قبل ومن بعد، وعسى الله أن يأتى بالفتح أو نصر من عنده، فيستيقظ المسلمون من سباتهم، ويثوبوا إلى رشدهم، فيستعيدوا سابق مجدهم، وتدول الدولة لهم: فيوما لنا ويوما علينا ... ويوما نساء ويوما نسرّ ثم زاد ما سلف توكيدا فقال: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي إنك أيها الرسول إذا رأيتهم مجتمعين خلتهم متفقين وهم مختلفون غاية الاختلاف، لما بينهم من إحن وعداوات، فهم لا يتعاضدون ولا يتساندون ولا يرمون عن قوس واحدة. وفى هذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم، وحثّ للعزائم الصادقة على حربهم، فإن المقاتل متى عرف ضعف خصمه ازداد نشاطا وازدادت حميّته وكان ذلك من أسباب نصرته عليه.

ثم بين أسباب النفرة وانحلال الوحدة فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك التفرق من جراء أن أفئدتهم هواء، فهم قوم لا يفقهون سر نظم هذه الحياة، ولا يعلمون أن الوحدة هى سر النجاح، ومن ثم تخاذلوا وتفرقت كلمتهم، واختلف جمعهم، واستهان بهم عدوهم، ودارت عليهم الدائرة. ثم أرشد إلى أن هؤلاء ليسوا ببدع فى الكافرين، بل قد سبقهم غيرهم ممن كان حقه أن يكون عبرة لهم فقال: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي مثل بنى النضير مثل اليهود من بنى قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم السبت فى شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وأجلاهم إلى أذرعات بالشام، وذاقوا سوء عاقبة كفرهم إثر عصيانهم قبل وقعة بنى النضير التي كانت سنة أربع للهجرة. والخلاصة- إنهم قد كانت لهم أسوة ببني قينقاع، فجروحهم لا تزال دامية، وآثار خذلانهم لا تزال بادية للعيان، وقد كان من حق ذلك أن يكون عبرة ماثلة لهم ولكنهم قوم لا يفقهون ولا يعتبرون بالمثلات التي يرونها رأى العين. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يقادر قدره، ولا يعرف كنهه سوى علام الغيوب. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا آخر أشد نكالا وأوجع إيلاما فقال: (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من بنى النضير النصرة إن قوتلوا، أو الخروج معهم إن أخرجوا، ومثل بنى النضير فى غرورهم بوعودهم وإسلامهم إياهم فى أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم- كمثل الشيطان الذي غرّ إنسانا ووعده النصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر بالله واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه وقال: إنى أخاف الله رب العالمين إذا أنا نصرتك، لئلا يشركنى معك فى العذاب.

[سورة الحشر (59) : الآيات 18 إلى 20]

والخلاصة- إن مثل اليهود فى اغترارهم بمن وعدوهم النصرة من المنافقين بقولهم لهم: لئن قوتلتم لننصرنكم، ولما جدّ الجدّ واشتد الحصار والقتال تخلّوا عنهم وأسلموهم للهلكة- كمثل الشيطان إذ سوّل للإنسان الكفر والعصيان، فلما دخل فيه تبرأ منه وتنصل وقال: «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» . ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس، ولا أنكى جرحا فى القلوب من هذا المثل، لمن اعتبر وادّكر، ولكنهم قوم لا يعقلون. ثم ذكر عاقبة الناصح والمنصوح فقال: (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والداخل فيه- الخلود فى النار أبدا، وهكذا جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر كيهود بنى النضير والمنافقين الذين وعدوهم بالنصرة. [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) شرح المفردات ما قدمت: أي أىّ شىء قدمت، وغد: هو يوم القيامة سمى بذلك لقربه، فكل آت قريب كما قال: وإن غدا لناظره قريب. نسوا الله: أي نسوا حقه فتركوا أوامره، ولم ينتهوا عن نواهيه، فأنساهم أنفسهم: أي أنساهم حظوظ أنفسهم فلم يقدموا لها خيرا ينفعها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر المضلين من المنافقين، وبيّن أن ما يقولون غير ما يبطنون، وأن مثلهم كمثل الشيطان فى الإغواء والإضلال، ثم أعقبه بذكر الضالين من بنى النضير وكيف خدعوا بتلك الوعود الخلّابة التي كانت عليهم وبالا ونكالا، وكان فيها سوء حالهم فى دنياهم ودينهم- شرع ينصح المؤمنين بلزوم التقوى، وأن يعملوا فى دنياهم ما ينفعهم فى أخراهم حتى ينالوا الثواب العظيم، والنعيم المقيم، وألا ينسوا حقوق الله، فيجعل الرين على قلوبهم، فلا يقدموا لأنفسهم ما به رشادهم وفلاحهم. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) فافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى وزجر (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي ولتنظروا ماذا قدمتم لآخرتكم مما ينفعكم يوم الحساب والجزاء، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من توقع العذاب حيارى. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) تكرير للتوكيد، لما يستدعيه الحال من التنبيه والحث على التقوى التي هى الزاد فى المعاد. ثم وعد وأوعد وبشر وأنذر فقال: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى عليم بأحوالكم لا يخفى عليه شىء من شئونكم، فراقبوه فى جليل أعمالكم وحقيرها، واعلموا أنه سبحانه سيحاسبكم على النقير والقطمير، والقليل والكثير، ولا يفوته شىء من ذلك. ثم ضرب لهم الأمثال تحذيرا وإنذارا فقال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق الله التي أوجبها على عباده، فران على قلوبهم وأنساهم العمل

الصالح الذي ينجيهم من عقابه، فضلوا ضلالا بعيدا، فجازاهم بما هم له أهل، وما هم مستحقون، جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم وأوقعوها فى المعاصي والآثام، ومن ثم حكم عليهم بالهلاك فقال: (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أولئك هم الذين خرجوا من طاعة الله فاستحقوا عقابه يوم القيامة. ونحو الآية قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» . خطب أبو بكر فقال: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن استطاع أن يقضى الأجل وهو فى عمل الله عزّ وجل فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بتوفيق الله عز وجل، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم فقال: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدّموا فى أيام سلفهم، وخلوا بالشّقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن، وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه. إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» لا خير فى قول لا يراد به وجه الله، ولا خير فى مال لا ينفق فى سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف فى الله لومة لائم. ثم وازن بين من يعمل الحسنات، ومن يجترم السيئات فقال: (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يستوى الذين نسوا الله فاستحقوا الخلود فى النار، والذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود فى الجنة.

[سورة الحشر (59) : الآيات 21 إلى 24]

ونحو الآية قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» وقوله: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟» . ثم بين عدم استوائهما فقال: (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي أصحاب الجنة هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه. وفى هذا تنبيه إلى أن الناس لفرط غفلتهم وقلة تفكرهم فى العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة، واتباعهم للشهوات الفانية، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، وشاسع البون بين أصحابهما، وأن الفوز لأصحاب الجنة، فمن حقهم أن يعلموا ذلك بعد أن نبّهوا له، كما تقول لمن عقّ أباه: هو أبوك- تجعله كأنه لا يعرف ذلك فتنبهه إلى حق الأبوة الذي يقتضى البر والعطف. [سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24] لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

تفسير المفردات

تفسير المفردات خاشعا: أي منقادا متذللا، متصدعا: أي متشققا، خشية الله: أي خوفه وشديد عقابه، الغيب: ما غاب عن الحسّ من العوالم التي لا نراها، والشهادة: ما حضر من الأجرام المادية التي نشاهدها، القدوس: أي المنزه عن النقص، السلام: أي الذي سلم الخلق من ظلمه، إذ جعلهم على نظم كفيلة برقيهم، المؤمن: أي واهب الأمن فكل مخلوق يعيش فى أمن فالطائر فى جوّه، والحية فى وكرها، والسمك فى البحر تعيش كذلك، ولا يعيش قوم على الأرض ما لم يكن هناك حراس يحرسون قراهم وإلا هلكوا، العزيز: أي الغالب على أمره، الجبار: أي الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه، المتكبر: أي البليغ الكبرياء والعظمة، سبحان الله عما يشركون: أي تنزه ربنا عما يصفه به المشركون، الخالق: أي المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة، والبارئ: أي المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها والغرض الذي خلقت له، المصوّر: أي الموجد للأشياء على صورها ومختلف أشكالها كما أراد، الأسماء الحسنى: أي الأسماء الدالة على محاسن المعاني التي تظهر فى مظاهر هذا الوجود، فنظم هذه الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته، وكمال الصفة يرشد إلى كمال الموصوف. المعنى الجملي بعد أن ذكر فرق المضلين من المنافقين، والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى، استعدادا ليوم القيامة- ذكر هنا أن لهم مرشدا عظيما وإماما هاديا هو القرآن الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة. لما فيه من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلا وفهمه وتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف بكم

الإيضاح

أيها البشر لا تلين قلوبكم، ولا تخشع وتتصدع من خشيته؟ وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه. وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المنزّل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما فى السموات والأرض وينقادون لحكمه، وأمره ونهيه. الإيضاح (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) أي لو جعل فى الجبل عقل كما جعل فيكم أيها البشر، ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية الله. وهذا تمثيل لعلوّ شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، وفيه توبيخ للانسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه حين قراءة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع التي تذل لها الجبال الراسيات. (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن وذكرناها فى مواضعها التي ضربت لأجلها، واقتضاها الحال من نحو قوله: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» وقوله: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» وقوله: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى» الآية- جعلناها تبصرة وذكري لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فمن الناس من وفقه الله واهتدى بها إلى سواء السبيل، وفاز بما يرضى ربه عنه، ومنهم من أعرض عنها ونأى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأدخله فى سقر، وما أدراك ما سقر، لا تبقى ولا تذر.

ثم وصف سبحانه نفسه بجليل الصفات، التي هى سر العظمة والجلال، لخالق الأرض والسموات فقال: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي إنه لا ربّ غيره، ولا إله فى الوجود سواه، فكل ما يعبد من دونه من شجر أو حجر أو صنم أو ملك فهو باطل، وهو يعلم جميع الكائنات الشاهدة لنا والغائبة عنا، ولا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السموات، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي هو الله المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة، المنزه عن كل عيب ونقص، الذي أمن خلقه أن يظلمهم، وهو الرقيب عليهم كما قال «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» وقال: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» والذي عز كل شىء فقهره، وغلب الأشياء بعظمته وجبروته، فلا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته كما ورد فى الصحيح: «العظمة إزارى، والكبرياء ردائى، فمن نازعنى واحدا منهما عذبته» تنزه ربنا عما يقوله المشركون من الصاحبة والولد فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. (هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي هو الله الخالق لجميع الأشياء المبرز لها إلى عالم الوجود على الصفة التي أرادها كما قال: «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» ، وله الصفات الحسنى التي وصف بها نفسه لا يشركه فيها أحد سواه. (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم الكلام فى هذا فى مثل قوله: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .

خلاصة ما حوته السورة الكريمة من المقاصد والأغراض

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو الشديد الانتقام من أعدائه، الحكيم فى تدبير خلقه، وصرفهم فيما فيه صلاحهم، فهو كامل القدرة كامل العلم. اللهم وفقنا للهدى والرشاد فى يوم المعاد. خلاصة ما حوته السورة الكريمة من المقاصد والأغراض (1) تنزيه الله لنفسه عن كل نقص. (2) ذكر غلبة الله ورسوله لأعدائه. (3) تقسيم الفيء الذي أخذ من بنى النضير مع ذكر المصارف التي يوضع فيها. (4) أخلاق المنافقين المضلين، وأخلاق أهل الكتاب الضالين مع ضرب المثل لهم (5) ذكر نصائح للمؤمنين. (6) إعظام شأن القرآن وإجلال قدره. (7) وصف الله سبحانه نفسه بأوصاف الجلال والكمال.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة هى مدينة، وآيها ثلاث عشرة، نزلت بعد الأحزاب. ومناسبتها لما قبلها. (1) إنه ذكر هناك موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكر هنا نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء، لئلا يشبهوا المنافقين. (2) إنه ذكر هناك المعاهدين من أهل الكتاب، وذكر هنا المعاهدين من المشركين. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) تفسير المفردات تلقون إليهم بالمودة: أي ترسلون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم، يخرجون الرسول وإياكم: أي من مكة، أن تؤمنوا بالله: أي لأجل

المعنى الجملي

إيمانكم بالله، ضل: أي أخطأ، وسواء السبيل: أي الطريق المستوي وهو طريق الحق، إن يثقفوكم: أي يظفروا بكم، وأصل الثقف: الحذق فى إدراك الشيء وفعله ومنه رجل ثقف لقف، بالسوء: أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم، وودّوا لو تكفرون: أي وتمنوا كفركم، أرحامكم: أي قراباتكم، يفصل بينكم: أي يفرق بينكم من شدة الهول. المعنى الجملي روى البخاري ومسلم وغيرهما «أن سارّة التي كانت مغنية ونائحة بمكة أتت المدينة تشكو الحاجة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى عبد المطلب أن يعطوها ما يدفع حاجتها، فأعطوها نفقة وكسوة وحملوها، فجاءها حاطب بن أبى بلتعة (مولى عبد الله بن حميد بن عبد العزّى) فأعطاها عشرة دنانير وكتب معها كتابا إلى أهل مكة، هذا صورته: من حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فأخبره جبريل به، فبعث إليها عليّا وعمارا وطلحة والزّبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرسانا. وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (موضع) فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهمّوا بالرجوع، فقال علىّ: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلّ سيفه وقال لها: أخرجى الكتاب، أو ألقى ما معك من الثياب، فأخرجته من عقاص شعرها، فأحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكنى كنت امرأ ملصقا فى قريش، ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتنى النسب فيهم

الإيضاح

أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتى، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن دينى، فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل عذره، فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فنزلت: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» الآية. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) أي لا تجعلوا الكفار أنصارا وأعوانا لكم. ثم فسر هذه الموالاة فقال: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تبلغونهم أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم التي لا ينبغى لأعدائه أن يطلعوا عليها من خطط حربية، أو أعمال نافعة فى نشر دينه وبثّ دعوته. بسبب ما بينكم وبينهم من مودة. ثم ذكر أن مما يمنع هذا الاتخاذ أمرين: (1) (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) أي وقد كفروا بالله ورسوله وكتابه الذي أنزله عليكم! فكيف بكم بعد هذا تجعلونهم أنصارا وتسرّون إليهم بما ينفعهم ويضر رسولكم، ويعوق نشر دينكم. (2) (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) أي يخرجون الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ولم يكن لهم جريرة ولا جرم سوى ذلك. ونحو الآية قوله: «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» وقوله «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» .

وفى هذا تهييج لهم على عداوتهم وعدم موالاتهم، ثم زادهم تهييجا بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إن كنتم خرجتم مجاهدين فى سبيلى، باغين مرضاتى عنكم، فلا توالوا أعدائى وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم حنقا عليكم وسخطا لدينكم. ثم توعد من يفعل ذلك وشدد النكير عليه وذكر ما فيه أعظم الزجر له فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي ومن يفعل هذه الموالاة ويبلغ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لأعدائه فقد جار عن قصد الطريق التي توصل إلى الجنة ورضوان الله تعالى. ثم ذكر أمورا أخرى تمنع موالاتهم فقال: (1) (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي إن يظفر بكم هؤلاء الذين تسرون إليهم بالمودة يكونوا حربا عليكم ويفعلوا بكم الأفاعيل. (2) (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي ويمدوا أيديهم وألسنتهم لقتالكم وأذاكم وسبّكم وشتمكم، فكيف ترونهم على هذه الحال وتتخذونهم أصدقاء وأولياء. (3) (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي وتمنوا لو تكفرون بربكم، لتكونوا على مثل الذي هم عليه، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة. والخلاصة- إن هؤلاء يودون لكم كل ضر وأذى فى دينكم ودنياكم، فكيف بكم بعد هذا تمدون إليهم حبال المودة، وتوثقون عرا الإخاء، فهذا مما لا يرشد إليه عقل، ولا يهدى إليه دين. ثم ذكر أن ما جعلوه سببا من المحافظة على الأهل والولد لا ينبغى أن يقدّم على شئون الدين فقال: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لن تنفعكم يوم القيامة أقاربكم

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 إلى 6]

ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم، وتتقربون إليهم محاماة عنهم- فتدفع عنكم عذاب الله إن عصيتموه فى الدنيا وكفرتم به. ثم بين السبب فى عدم نفعهم فقال: (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) أي يفرّق الله بينكم وبينهم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر كما قال: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» . ثم أوعد من يفعل ذلك فقال: (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي والله بأعمالكم ذو بصر بها، لا يخفى عليه شىء منها، فهو محيط بها جميعها، ومجازيكم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فاتقوا الله فى أنفسكم واحذروه. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 6] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)

شرح المفردات

شرح المفردات الأسوة: (بضم الهمزة وكسرها وبهما قرئ) من يؤتسى به، كالقدوة لمن يقتدى به والجمع أسى، برآء واحدهم برىء كظرفاء وظريف: أي متبرئون ومنكرون لما تعملون، وما تعبدون: أي الأصنام والكواكب وغيرها، البغضاء: أي البغض والكراهة، لا تجعلنا فتنة للذين كفروا: أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نحتمله، من قولهم: فتن الفضة: أي أذابها، يرجو الله: أي يؤمل ثوابه، واليوم الآخر، أي مجيئه، ومن يتولّ: أي ومن يعص النصيحة. المعنى الجملي بعد أن أنكر عليهم موالاتهم للكافرين، وذكر لهم الموانع التي تمنع من ذلك كإخراجهم من الديار، وتمنى الكفر لهم، وصدهم عن هداية الدين وكفرهم بالرسول وبما جاء به، وأنهم متى وجدوا سبيلا لأذاهم بقول أو فكر سلكوه غير آبهين لصلة رحم ولا قربى- أكد هنا ذلك فأمرهم أن يأتسوا بإبراهيم وأصحابه إذ تبرءوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم: إنا برآء منكم، قال الفراء: يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم حين تبرأ من أهله؟ لتعلم أن الحب فى الله والبغض فى الله من أوثق عرا الإيمان. الإيضاح (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي قد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة فى إبراهيم خليل الرحمن تقتدون به وبالذين معه من أتباعه المؤمنين حين قالوا لقومهم الذين

كفروا بالله وعبدوا الطاغوت: أيها القوم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد. ثم فسر هذه البراءة بقوله: (كَفَرْنا بِكُمْ) أي جحدنا ما أنتم عليه من الكفر، وأنكرنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله، فلا نعتدّ بكم ولا بآلهتكم، فإن ما أنتم عليه لا تقره العقول الراجحة، ولا الأحلام الحصيفة فما قيمة الأحجار والأصنام التي تتخذونها معبودات ترجون منها النفع والضر «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ» . (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) أي وها نحن أولاء قد أعلنّا الحرب عليكم، فلا هوادة بيننا وبينكم، وسيكون هذا دأبنا معكم، لا نترككم بحال حتى تتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فتنقلب العداوة ولاية، والبغضاء محبة. (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي لكم فى إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا فى استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدوّا لله تبرأ منه. وقد كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون: إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه فأنزل الله عز وجل: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» . والخلاصة- لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة وتستغفروا لهم، كما فعل إبراهيم لأبيه، لأنه إنما استغفر له قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فلما مات على الكفر تبين

له ذلك، فترك الاستغفار، وأنتم قد استبانت لكم عداواتهم بكفرهم بالرسول، وإخراجكم من الديار، فلا ينبغى أن تستغفروا لهم. (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي وليس فى وسعى إلا الاستغفار لك، ولا أستطيع أن أنفعك بأكثر من هذا، فإن أراد الله عقوبتك على كفرك فلا أدفعها عنك. ثم أخبر عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبوءوا منهم ولجئوا إلى الله وتضرعوا إليه. (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي ربنا اعتمدنا عليك فى قضاء أمورنا، ورجعنا إليك بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى، ومصيرنا إليك يوم تبعثنا من قبورنا، وتحشرنا إلى موقف العرض والحساب. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال قتادة: أي لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحقّ هم عليه. (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي واستر لنا ذنوبنا بعفوك عنها، إنك أنت الذي لا يضام من لاذ بجنابه، الحكيم فى تدبير خلقه، وصرفه إياهم فيما فيه صلاحهم. ثم أعاد ما تقدم مبالغة فى الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة فى إبراهيم ومن آمن معه من أتباعه المؤمنين، لمن كان منكم يرجو لقاء الله وجزيل ثوابه، والنجاة فى اليوم الآخر. وفى هذا تهييج إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، والعضّ عليهما بالنواجذ، وبيان أنهما ملاك الأمر كله يوم العرض والحساب. ثم أوعد على تركهما بقوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي ومن أعرض عما ندبه الله إليه منكم

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 7 إلى 9]

وأدبر واستكبر، ووالى أعداء الله، وألقى إليهم بالمودة فلا يضرنّ إلا نفسه، فإن الله غنى عن إيمانه وطاعته، بل عن جميع خلقه، محمود بأياديه وآلائه عليهم. ونحو الآية قوله تعالى: «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» . [سورة الممتحنة (60) : الآيات 7 الى 9] عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) شرح المفردات عسى: كلمة تفيد رجاء حصول ما بعدها، فإذا صدرت من الله فما بعدها واجب الوقوع، أن تبروهم: أي تفعلوا البر والخير لهم، وتقسطوا إليهم: أي تعدلوا فيهم بالبر والإحسان، المقسطين: أي العادلين، وظاهروا: أي ساعدوا، أن تولوهم: أي أن تكونوا أولياء وأنصارا لهم. المعنى الجملي لما نهاهم عن موالاة الكفار وإلقاء المودة إليهم، وضرب لهم المثل بإبراهيم وقومه- حملهم ذلك على أن يظهروا براعتهم من أقربائهم، والتشدد فى معاداتهم

الإيضاح

ومقاطعتهم، وكان ذلك عزيزا على نفوسهم، ويتمنون أن يجدوا المخلص منه- أردف ذلك سبحانه بأنه سيغير من طباع المشركين، ويغرس فى قلوبهم محبة الإسلام، فيتمّ التوادّ والتصافي بينكم وبينهم. وفى ذلك إزالة للوحشة من قلوب المؤمنين، وتطيب لقلوبهم، وقد أنجز الله وعده، فأتاح للمسلمين فتح مكة، فأسلم قومهم، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتوادّ، ثم رخص لهم فى صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم. روى أحمد فى جماعة آخرين عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبى بكر بهدايا- صناب (صباغ يتخذ من الخردل والزبيب) وأقط وسمن وهى مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة رضى الله عنها أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فسألت فأنزل الله «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ» الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها وقال الحسن وأبو صالح: نزلت الآية فى خزاعة وبنى الحرث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب، كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه. الإيضاح (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لعل الله يجعل بينكم وبين أعدائكم من كفار مكة محبة بعد البغض، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة، والله قدير على ما يشاء، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة، غفور لخطيئة من ألقى إليهم بالمودة إذا تابوا منها، رحيم بهم أن يعذبهم بعد التوبة.

وقد تمّ ذلك بفتح مكة حين دخل المشركون فى دين الله أفواجا، وثم بينهم التصافي والتصاهر، وكان بينهم أتم ما يكون من وثيق الصلات كما قال تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» وقال: «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . ثم أباح لهم صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي لا ينها كم الله عن الإحسان إلى الكفار الذين لم يقاتلوكم فى الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، ولم يعاونوا على إخراجكم، وهم خزاعة وغيرهم ممن كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك القتال والإخراج من الديار، فأمر الله رسوله بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم. ثم زاد الأمر إيضاحا وبيانا فقال: (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي إنما ينها كم عن موالاة الذين ناصبوكم العداوة فقاتلوكم وأخرجوكم أو عاونوا على إخراجكم كمشركى مكة، فإن بعضهم سعوا فى إخراج المؤمنين، وبعضهم أعان المخرجين. ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم تولوا غير الذين يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم فى غير موضعها، وخالفوا أمر الله فى ذلك.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 إلى 11]

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) شرح المفردات فامتحنوهن: أي فاختبروهن بما يغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنّهن فى الإيمان، علمتموهن: أي ظننتموهن، إلى الكفار: أي إلى أزواجهن الكفار أجورهن: أي مهورهن، وعصم: واحدها عصمة، وهى ما يعتصم به من عقد وسبب، والكوافر: واحدتهن كافرة: فعاقبتم: أي فكانت العقبى لكم، أي الغلبة والنصر لكم، حتى غنمتم منهم. المعنى الجملي الكافر المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة: (1) أن يستمر على عناده، وإلى مثله أشار بقوله: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ» الآية.

الإيضاح

(2) أن يرجى منه أن يترك العناد، وإلى مثله أشار بقوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً» . (3) أن يترك العناد ويستسلم، وإلى ذلك أشار بقوله: «إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ» الآية. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) أي إذا جاءكم أيها المؤمنون النساء اللاتي نطقن بالشهادة ولم يظهر منهن ما يخالف ذلك- مهاجرات من بين الكفار فاختبروا حالهن، وانظروا هل توافق قلوبهن ألسنتهن، أو هنّ منافقات، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للمتحنة: بالله الذي لا إله إلا هو، ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، بالله ما خرجت التماسا لدنيا، بالله ما خرجت إلا حبّا لله ورسوله. ثم ذكر جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها ليتبين أن الامتحان يفيد معرفة الظاهر فحسب فقال: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) منكم وهو يتولى السرائر، وفى هذا بيان أنه لا سبيل إلى ما تطمئن إليه النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر الله بعلمه. (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي فإن غلب على ظنكم إيمانهن بالحلف وغيره مما يورث اطمئنان قلوبكم على إسلامهن، فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين. ثم بيّن العلة فى النهى عن إرجاعهن بقوله: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أي لا المؤمنات حلّ للكفار، ولا الكفار يحلون للمؤمنات. (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي وأعطوا أزواجهن مثل ما أنفقوا من المهور.

روى أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أمر عليّا أن يكتب بالصلح فكتب: باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحوا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده إليه، ومن جاء قريشا من محمد لم يرده إليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأن من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا جندل بن سهيل، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلا ردّه فى مدة العهد، وإن كان مسلما، ثم جاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أولادهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط، فقدم أخواها عمار والوليد فكلماه فى أمرها ليردها إلى قريش فنزلت الآية، فلم يردها عليه الصلاة والسلام، ثم أنكحها زيد بن حارثة. وعن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحرث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفى بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلب ردّها فأنزل سبحانه الآية فلم يردها وأعطاه ما أنفق، وتزوجها عمر رضى الله عنه. ومن هذا تعلم أن الآية بيّنت أن العهد الذي أعطى كان فى الرجال دون النساء ومن ثم لم يردهن حين جئن مؤمنات. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي ولا إثم عليكم ولا حرج فى نكاح هؤلاء المؤمنات المهاجرات، بشرط أن تتعهدوا بالمهور، وتلتزموا بأدائها وإنما جاز هذا لأن الإسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار، فكان من المصلحة أن يكون لهن عائل من المؤمنين يكفل أمر أرزاقهن. (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي إنه لا ينبغى أن يكون علاقة من علاقات

[سورة الممتحنة (60) : آية 12]

الزوجية بين المؤمنين ونسائهم المشركات الباقيات فى دار الشرك، فلا يمنع نكاح إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها ما دامت فى العدة، لأنه لا عدة لهن. (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم إذا ارتددن ولحقن بهم. (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وليسألكم الكفار مهور نسائكم المهاجرات إليكم، والمراد أن عليكم أن تؤدوا لهم ذلك. (ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي ذلكم الذي ذكر هو حكم الله فاتبعوه، يحكم به بينكم فلا تخالفوه. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة. (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي وإن ذهبت أزواجكم مرتدات إلى دار الشرك ولم يعطوكم للهور اللاتي دفعت لهن، ثم ظفرتم بالمشركين وانتصرتم عليهم فأعطوا الذين ذهبت أزواجهن من الغنيمة مثل ما أنفقوا. روى عن ابن عباس أنه يعطى الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمّس أي قبل أن تقسم أخماسا، كما هى القاعدة فى تقسيم الغنائم كما تقدم فى سورة الأنفال. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي وخافوا الله الذي أنتم به مصدقون، فأدّوا فرائضه، واجتنبوا نواهيه. [سورة الممتحنة (60) : آية 12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

شرح المفردات

شرح المفردات يبايعنك: أي يلتزمن لك الطاعة، ولا يقتلن أولادهن: أي ولا يئدن البنات والمراد بالبهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن: الولد الذي كانت ألصقته بزوجها كذبا، والافتراء: الكذب، فى معروف: أي فى أمر برّ وتقوى، فبايعهن: أي فالتزم لهن ضمان الثواب إذا وفين بهذه الأشياء. المعنى الجملي روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضى الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه بهذه الآية: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ- إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ» . فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد بايعتك» كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة فى المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك. وروى أحمد عن أميمة بنت رقية التيمية قالت: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما فى القرآن: ألّا نشرك بالله شيئا- حتى بلغ- ولا يعصينك فى معروف فقال: فيما استطعتن وأطقتن، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال إنى لا أصافح النساء، إنما قولى لامرأة واحدة قولى لمائة امرأة» . الإيضاح أي أيها النبي إذا جاءك النساء المؤمنات مقدمات لك الطاعة، ملتزمات ألا يشركن بالله شيئا من صنم أو حجر، ولا يسرقن من مال الناس شيئا، ولا يزنين، ولا يئدن البنات كما كنّ يفعلن ذلك فى الجاهلية، ولا يلصقن أولاد

[سورة الممتحنة (60) : آية 13]

الأجانب بأزواجهن كذبا وبهتانا، ولا يعصينك فيما تأمرهن به أو تنهاهن عنه كالنّوح وتمزيق الثياب وجزّ الشعر وشق الجيوب وخمش الوجوه، وألا تخلو امرأة بغير ذى رحم محرم- فبايعهن على ذلك، والتزم لهن الوفاء بالثواب إن هن أطعنك فى كل ذلك، واطلب لهن المغفرة من الله، إنه هو الغفور الرحيم لهن إذا وفّين بما بايعن عليه. وعن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت: «جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها: ألّا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين» الآية، قال فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقرّى أيتها المرأة، فو الله ما بايعنا إلا على هذا، قالت فنعم، فبايعها بالآية» . [سورة الممتحنة (60) : آية 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) شرح المفردات غضب الله عليهم: أي طردهم من رحمته، من الآخرة: أي من ثوابها ونعيمها، من أصحاب القبور: أي من رجوع موتاهم إليهم، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور. المعنى الجملي نهى سبحانه أول السورة عن موالاة المشركين، وذكر الموانع التي تمنع من موالاتهم، ثم أوعد على ذلك، ولما كان الأمر فى ذلك جدّ خطير فى سياسة الدولة

الإيضاح

الإسلامية ونشر الملة- كرر النهى عن موالاة الكافرين مرة أخرى، يهودا كانوا أو نصارى، ليكون عظة وذكرى لحاطب بن أبى بلتعة ومن نحا نحوه ممن يفضلون توثيق الصلات الدنيوية على مصلحة الدعوة الدينية، ويجعلون شئون الدنيا مقدمة على شئون الدين. روى أن قوما من فقراء المؤمنين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين، ليصيبوا من ثمارهم فنزلت الآية. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم واستحقوا الطرد من رحمته- أولياء لكم وأصدقاء تسرون إليهم بما يضر نشر الدعوة، ويحول دون تقدم شئون الملة. ثم بيّن أوصافهم ومعتقداتهم فقال: (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها، لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشّر به فى كتابهم، المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الباهرات فهم قد أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم له وعلموا أن لا سبيل لهم لنيل نعيمها، كما يئس الكفار من بعث موتاهم، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة

خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة (1) النهى عن موالاة المشركين مع ذكر أسباب ذلك. (2) ضرب المثل بقصص إبراهيم وقومه. (3) امتحان النساء المؤمنات المهاجرات وعدم إرجاعهن إلى دار الكفر. (4) مبايعة النساء المؤمنات فى دار الإسلام. (5) تأكيد النهى عن موالاة المشركين، حرصا على شئون الملة، ونشر الدعوة.

سورة الصف

سورة الصف هى مدينة وعدد آيها أربع عشرة، نزلت بعد التغابن. ومناسبتها ما قبلها- أنها اشتملت على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفى ذلك تأكيد للنهى الذي تصمنته السورة السابقة من اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين. روى أحمد بسنده عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيّكم يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم منا أحد، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة: (الصف) كلها. [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) شرح المفردات (لِمَ) أي لأىّ شىء تقولون قد فعلنا كذا وكذا، وأنتم لم تفعلوا؟ والمراد بذلك التأنيب والتوبيخ على صدور هذا الكذب منهم، كبر: أي عظم، والمقت: أشد البغض وأعظمه، ورجل مقيت وممقوت إذا كان يبغضه كل أحد، والمرصوص:

المعنى الجملي

المحكم، قال المبرد: تقول رصصت البناء إذا لا أمت بين أجزائه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة. المعنى الجملي قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به، وإقرار برسالة نبيّه، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فأنزل الله الآية. الإيضاح (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي شهد له بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرهما من صفات الكمال جميع ما فى السموات والأرض، وهو الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، الحكيم فى تدبير خلقه وفق ما سنّه من السنن، وأرشد إليه من ضروب الهداية. وبعد أن وصف نفسه بصفات الكمال ذكر ما يلحق المخلوقين من صفات النقص فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟) أي لأى شىء ولأىّ غرض تقولون لوددنا أن نعمل كذا وكذا من أفعال الخير حتى إذا طلب منكم ذلك كرهتم ولم تفعلوا؟ والتوبيخ والإنكار موجه إلى عدم فعلهم ما وعدوا به، وإنما وجّه إلى القول لبيان أن معصيتهم مزدوجة، وأنهم عملوا جرمين. فهم تركوا فعل الخير. وقد وعدوا بفعله.

وبهذه الآية استدل السلف على وجوب الوفاء بالوعد، وبما ثبت فى السنة من قوله صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان» . ثم بين شدة قبح ذلك وأنه بلغ الغاية فى بغض الله له فقال: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم جرما عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. ذاك أن الوفاء بالوعد دليل على كريم الشيم، وجميل الخصال، وبه تكون الثقة بين الجماعات، فترتبط برباط المودة والمحبة حين يتعامل بعض أفرادها مع بعض، ويكونون يدا واحدة فيما انتووا من الأعمال، والعكس بالعكس، فإذا فشا فى أمة خلف الوعد قلّت الثقة بين أفرادها، وانحلت عرا الروابط بينهم، وأصبحوا عقدا متناثرا لا ينتفع به، ولا يخشى منهم عدوّ إذا اشتدت الأزمات، وعظمت الخطوب، لما يكون بينهم من التواكل، وعدم ائتمان بعضهم بعضا. وبعد أن ذمّ المخالفين فى أمر القتال وهم الذين وعدوا ولم يفعلوا، مدح الذين قاتلوا فى سبيله وبالغوا فيه فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي إن الله يحب الذين يصفّون أنفسهم حين القتال ولا يكون بينهم فرج فيه كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء، كأنه قطعة واحدة قد صبّت صبا، وعلى هذه الطريقة تسير الجيوش فى العصر الحاضر. وسر هذا أنهم إذا كانوا كذلك زادت قوتهم المعنوية، وتنافسوا فى الطعان والنزال، والكرّ والفرّ، إلى ما فى ذلك من إدخال الرّوع والفزع فى نفوس العدو، إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل بالدقة والإحكام، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف فى الصلاة، وألا يجلس المصلى فى صف خلفى إلا إذا اكتمل ما فى الصف

[سورة الصف (61) : الآيات 5 إلى 6]

الأمامى، وهكذا تراعى الأمم فى عصرنا الحاضر النظام فى كل أعمالها، فى أكلها ونومها ورياضتها وتربية أولادها، بحيث لا يطغى عمل على عمل، فللجدّ وقت لا يعدوه، وللرياضة وقت آخر، وللنوم كذلك، ولهذا لا يوجد تواكل ولا تراخ فى الأعمال، ولا تحاذل فيها، ومن ثم جاء فى الأثر. «أفضل الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ» . [سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 6] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) شرح المفردات تؤذوننى: أي تخالفون أمرى بترك القتال، زاغوا: أي أصرّوا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به موسى عليه السلام، أزاغ الله قلوبهم: أي صرفها عن قبول الحق، الفاسقين: أي الخارجين عن الطاعة ومنهاج الصدق المصرّين على الغواية، وأحمد: من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال حسان: صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه ... والطيّبون على المبارك أحمد المعنى الجملي بعد أن أنّب التاركين للقتال الهاربين منه بقوله: «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟» ذكر هنا أن حالهم يشبه حال بنى إسرائيل مع موسى حين ندبهم إلى قتال الجبارين

الإيضاح

بقوله: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» فلم يمتثلوا أمره وعصوه أشد العصيان، و «قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» وقالوا: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» وأصروا على ذلك وآذوه أشدّ الإيذاء، فوبخهم على ذلك بما جاء فى الآية الكريمة، وقد صرفهم الله عن قبول الحق وألحق بهم الضيم والذل فى الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى. ومثلهم أيضا فى عصيانهم مثل بنى إسرائيل حين قال لهم عيسى: إنى رسول الله: وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه وقال: إنى مبشر برسول سيأتى من بعدي يسمى أحمد، فعصوه وكذبوه ولم يمتثلوا أمره. الإيضاح (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ؟) أي واذكر لقومك خبر عبده ورسوله موسى بن عمران كليم الله حين قال لقومه: لم تؤذوننى وتخالفون أمرى فتتركوا القتال وأنتم تعلمون صدقى فيما جئتكم به من رسالة ربى؟ وفى هذا تسلية لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من قومه الكافرين ومن غيرهم، وأمر له بالصبر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «رحمة الله على موسى لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر» كما أن فيه نهيا للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يوصلوا إليه أذى كما جاء فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» . ثم بين عاقبة عصيانهم ومخالفة أمره بقوله: (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، وأصرّوا على ذلك، صرف الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الحيرة والشك، جزاء

وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من الذنوب والآثام، ومخالفة أوامر رسوله، وانهما كهم فى الطغيان والمعاصي، فران على قلوبهم، وطمس على أعينهم، فلم تنظر إلى ما تشاهد من دليل، ولا تبصر ما ترى من برهان كما قال: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» . ثم أكد إزاغته لقلوبهم وبيّن علتها بقوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي والله لا يوفق لإصابة الحق من اختار الكفر ونبذ طاعة الله ورسوله، بما يرين على قلبه من الضلالة، فيحرمه النظر إلى الأدلة التي نصبت فى الكون، وجعلت منارا للعقول، وشفاء للصدر. (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي واذكر لقومك ما قال عيسى ابن مريم لقومه: يا قوم إنى مرسل إليكم من الله، وإنى مصدق بالتوراة وبكتب الله وأنبيائه جميعا من تقدم منهم ومن تأخر. (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) أي وداعيا إلى التصديق بهذا الرسول الكريم الذي جاءت البشارة به فى التوراة. فقد جاء فى الفصل العشرين من السّفر الخامس منها: أقبل الله من سينا، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران، معه الربوات الأطهار عن يمينه. «سينا مهبط الوحى على موسى، وساعير مهبط الوحى على عيسى، وفاران جبال مكة مهبط الوحى على محمد صلى الله عليه وسلم» . وفيها فى الفصل الحادي عشر من هذا السفر: يا موسى إنى سأقيم لبنى إسرائيل نبيّا من إخوتهم مثلك، أجعل كلامى فى فيه، ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي، أنا أنتقم منه ومن سبطه.

[سورة الصف (61) : الآيات 7 إلى 9]

وكذلك جاء فى الإنجيل ما هو بشارة به- ففى إنجيل يوحنا فى الفصل الخامس عشر. قال يسوع المسيح: إن الفار قليط روح الحق الذي يرسله أبى، يعلمكم كل شىء. وفيه أيضا: قال المسيح من يحفظ كلمتى يحبنى، وأبى يحبه، وعنده يتخذ المنزلة، كلمتكم بهذا لأنى لست عندكم بمقيم، والفار قليط روح القدس الذي يرسله أبى هو يعلمكم كل شىء، وهو يذكركم كل ما قلت لكم، أستودعكم سلامى، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع، فإنى منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبونى تفرحون بمضيّى إلى الأب. وفيه أيضا: إن خيرا لكم أن أنطلق لأبى لأنى إن لم أذهب لم يأتكم الفار قليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء فهو يوبخ العالم على خطيئته، وإن لى كلاما كثيرا أريد قوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتى، ويعرفكم جميع ما للأب. (والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، فسره بعضهم بالحمّاد وبعضهم بالحامد، ففى مدلوله إشارة إلى اسمه عليه السلام أحمد) كما لا يخفى على من كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فحين جاءهم أحمد المبشّر به بالأدلة الواضحة، والمعجزات الباهرة، فاجئوه بالتكذيب والإعراض عنه استكبارا وعنادا وقالوا: إن ما جئت به ما هو إلا ترّهات وأباطيل، وسحر واضح لا شك فيه. ونحو الآية قوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» الآية. [سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 9] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

شرح المفردات

شرح المفردات الإسلام: الاستسلام والانقياد والخضوع لله عز وجل، والمراد من إبطال نور الله بأفواههم إرادتهم إبطال الإسلام، بنحو قولهم هذا سحر مفترى، والله متم نوره: أي والله متم الحق ومبلغه غايته، بالهدى: أي بالقرآن، ودين الحق: أي بالملة السمحة، ليظهره: أي ليعليه، على الدين كله: أي على سائر الأديان. المعنى الجملي بعد أن ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مفترى- أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح، والبرهان الساطع. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفمّ طعم الماء من سقم ثم بين أن السبب فى ذلك هو سوء استعدادهم وتدسيتهم لأنفسهم، وأن مثلهم فى صد الدعوة عن الدين مثل من يريد إطفاء نور الشمس بالنفخ بقية، وأنى له بذاك؟ فالله متم نوره، ومكمّل دينه مهما جدّ المشركون فى إطفائه فالرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم فى معاشهم ومعادهم، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنا فيه، ولا طريقا إلا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام.

الإيضاح

الإيضاح (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ؟) أي ومن أشد ظلما وعدوانا ممن اختلق على الله الكذب وجعل له أندادا وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص؟ وتلخيص المعنى- أىّ الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام والخضوع، فلا يجيب الداعي بل يفترى على الله الكذب بتكذيب رسوله وقسمية آياته سحرا؟ والمراد أنه أظلم من كل ظالم، لأنه قد أهدر عقله، وركب هواه، وألقى الأدلة وراءه ظهريا. ثم بين سبب ظلمهم وفساد عقائدهم فقال: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي والله لا يرشد الظالمين لأنفسهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم، لأنهم دسّوها باجتراح السيئات، وارتكاب الموبقات، فختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا تفهم الأدلة المنصوبة فى الكون، ولا تهتدى بهدى العقل، بل تسير فى عماية وتمشى فى ظلام دامس لا تلوى على شىء. ثم ذكر جدّهم واجتهادهم فى إبطال الدين، واستهزأ بما اتخذوه من الوسائل فقال: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي إن مثلهم فى مقاومتهم لدعوة الدين، وجدّهم فى إخماد نوره- مثل من ينفخ فى الشمس بفيه ليطفىء نورها، ويحجب ضياءها، وأنى له ذلك؟ فما هو إلا كمن يضرب فى حديد بارد، أو كمن يريد أن يضرم النار فى الرماد، أو كمن يريد أن يصطاد العنقاء. أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي والله معلن الحق ومظهر دينه، وناصر محمدا عليه الصلاة والسلام على من عاداه ولو كره ذلك الكافرون به.

[سورة الصف (61) : الآيات 10 إلى 14]

روى عن ابن عباس «أن الوحى أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا، أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره، فخزن الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت. «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ» الآية. ثم بين العلة فى إخماد دعوتهم، وأنه لا سبيل لقبولها لدى العقول فقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي هو الله الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والملة الحنيفة، ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، وقد أنجز الله وعده، فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام. وإنما قال أوّلا: ولو كره الكافرون، وقال ثانيا ولو كره المشركون، لأنه ذكر أولا النور وإطفاءه فاللائق به الكفر، لأنه ستر وتغطية، وذكر ثانيا الحاسدين للرسول وأكثرهم من قريش، فناسب ذكر المشركين. [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

شرح المفردات

شرح المفردات التجارة هنا: ما يقدمه المرء من عمل صالح، لينال به الثواب كما قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» طيبة: أي طاهرة مستلذة، جنات عدن: أي بساتين إقامة وخلود، قريب: أي عاجل وهو فتح مكة، وحوارىّ الرجل: صفيه وخليله، وأنصار الله: أي الناصرون لدينه، فأيدنا: أي قوّينا وساعدنا، على عدوهم: أي الكفار، ظاهرين: أي غالبين. المعنى الجملي بعد أن حث فى الآية السابقة على الجهاد فى سبيله، ونهاهم أن يكونوا مثل قوم موسى فى التواكل والتخاذل، إذ قالوا له: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، ونهاهم أيضا عن أن يكونوا مثل قوم عيسى فى العصيان بعد أن أتى لهم بالأدلة الباهرة على صدق نبوته- ذكر هنا أن الإيمان بالله والجهاد بالمال والنفس فى سبيله تجارة رابحة، فإن المجاهد ينال الفوز العاجل، والثواب الآجل، فيظفر بالنصرة فى الدنيا والغلبة على العدو وأخذ الغنائم وكرائم الأموال، ويحظى فى الآخرة بغفران الذنب، ورضوان الرب، والكرامة فى جنات الخلود والإقامة، ولا فوز أعظم من هذا. ثم ضرب لهم مثلا بقوم عيسى، فقد انقسموا فرقتين: فرقة آمنت به وهم حواريه، وفرقة كفرت به وهم البقية الباقية منهم، فأمد الله المؤمنين بروح من عنده، فتم لهم الفوز والنصر على الكافرين، وغلبوهم بإذن الله كما هى سنة الله فى البشر كما قال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» وقال: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» .

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله: ألا أدلكم على صفقة رابحة، وتجارة نافعة، تنالون بها الربح العظيم، والنجح الخالد الباقي. وهذا أسلوب يفيد التشويق والاهتمام بما يأتى بعده، كما تقول: هل أدلك على عالم عظيم ذى خلق حسن، وعلم فياض؟ هو فلان، فيكون ذلك أروع فى الخطاب وأجلب لقبوله. ثم بين هذه التجارة بقوله: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي اثبتوا على إيمانكم، وأخلصوا لله العمل، وجاهدوا بالأنفس والأموال فى سبيل الله بنشر دينه وإعلاء كلمته. والجهاد ضروب شتى: جهاد للعدو فى ميدان القتال لنصرة الدين، وجهاد للنفس بقهرها ومنعها عن شهواتها التي ترديها، وجهاد بين النفس والخلق بترك الطمع فى أموالهم والشفقة عليهم والرحمة بهم، وجهاد فيما بين المرء والدنيا بألا يتكالب على جمع حطامها، وألا ينفق المال إلا فيما تجيزه الشرائع، وتقره العقول السليمة. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي هذا الإيمان والجهاد خير لكم من كل شىء فى الدنيا من نفس ومال وولد، إن كنتم من أهل الإدراك والعلم بوجوه المنافع وفهم المقاصد، فإن الأمور إنما تتفاضل بغاياتها ونتائجها. ولهذه التجارة فوائد عاجلة وأخرى آجلة، وقد فصل كلا الأمرين وقدم الثانية فقال: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً

فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن فعلتم ذلك فآمنتم بالله وصدقتم رسوله، وجاهدتم فى سبيله- ستر لكم ذنوبكم ومحاها، وأدخلكم فراديس جناته وأسكنكم مساكن تطيب لدى النفوس، وتقرّ بها العيون فى دار الخلد الأبدى، وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من الفوز الذي لا فوز بعده. ثم ذكر الفوز العاجل فى الدنيا فقال: (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي ولكم على هذا فوز فى الدنيا بنصركم على عدوكم، وفتحكم للبلاد، وتمكينكم منها حتى تدين لكم مشارق الأرض ومغاربها. وقد أنجز الله وعده، فرفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من العالم فى زمن وجيز لم يعهد التاريخ نظيره، وامتلكوا بلاد القياصرة والأباطرة، وساسوا العالم سياسة شهد لهم بفضلها العدو قبل الصديق. ثم أمرهم بأن يكونوا أنصار الله فى كل حين، فلا يتخاذلوا ولا يتواكلوا، فيكتب لهم النصر على أعدائهم كما فعل حواريو عيسى فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) أي يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، فارفعوا شأن دينه، وأعلوا كلمته، كما فعل الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: من أنصارى إلى الله؟ قالوا له: نحن أنصار الله وأنصار دينه. وقصارى ذلك- كونوا أنصار الله فى جميع أعمالكم وأقوالكم، وأنفسكم وأموالكم، كما استجاب الحواريون لعيسى. (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) لما بلّغ عيسى عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه، ووازره من الحواريين من وازره، اهتدت طائفة من بنى إسرائيل بما جاءهم به، وضلت طائفة أخرى إما جحودا لرسالته ورميه هو وأمه بالعظائم كما فعل اليهود، وإما بالغلو وإعطائه فوق ما أعطاه الله من مرتبة النبوة

ما جاء فى أثناء السورة من موضوعات

فمن قائل إنه ابن الله، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة، الأب والابن وروح القدس، ومن قائل إنه الله. (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي فنصرنا للمؤمنين على من عداهم، وأمددناهم بروح من عندنا على مقتضى سنتنا «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» فغلبوا أعداءهم وظهروا عليهم كما قال «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» فله الحمد على ما أعطى، والمنة على ما أنعم، وصل ربنا على محمد وآله. ما جاء فى أثناء السورة من موضوعات (1) اللوم والتعنيف على مخالفة القول للعمل. (2) البشارة بمحمد على لسان عيسى. (3) محمد صلى الله عليه وسلم أرسل بالهدى والدين الحق. (4) التجارة الرابحة عند الله هى الإيمان والجهاد فى سبيله. (5) الأمر بنصرة الدين كما نصر الحواريون دينهم

سورة الجمعة

سورة الجمعة مدنية وعدد آيها إحدى عشرة، نزلت بعد الصف. ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) إنه ذكر فى السورة قبلها حال موسى مع قومه وأذاه لهم، ناعيا عليهم ذلك، وذكر فى هذه حال الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل أمته، تشريفا لهم، ليعلم الفرق بين الاثنين. (2) إنه حكى فى السورة قبلها قول عيسى: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» وذكر هنا: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) إشارة إلى أنه هو الذي بشر به عيسى. (3) لما ختم السورة قبلها بالأمر بالجهاد وسماه تجارة، ختم هذه السورة بالأمر بالجمعة، وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية. [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

شرح المفردات

شرح المفردات القدوس: المنزه عن النقائص المتصف بصفات الكمال، الأميين: هم العرب، واحدهم أمي نسبة إلى الأم التي ولدته، لأنه على الحال التي ولد عليها لم يتعلم الكتابة والحساب، فهو على الجبلة الأولى، يزكيهم: أي يطهرهم بتلاوة آياته، وآخرين واحدهم آخر بمعنى غير، لما يلحقوا بهم: أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون وهم من جاء بعد الصحابة إلى يوم الدين. الإيضاح (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كل ما فى السموات والأرض، إذا نظرت إليه دلك على وحدانية خالقه، وعظيم قدرته، كما قال سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» . (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) أي هو المالك لما فى السموات والأرض المتصرف فيهما بقدرته وحكمته، المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله. (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هو الغالب عباده المسخّر لهم بقدرته، الحكيم فى تدبير شئونهم فيما هو أعلم به من مصالحهم، ويوصلهم إلى سعادتهم فى معاشهم ومعادهم. ثم وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفات المدح والكمال فقال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي هو الذي أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب وهم العرب. أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب» . وهذا الرسول من جملتهم أي مثلهم، ومع ذلك يتلو عليهم آيات الكتاب،

ليجعلهم طاهرين من خبائث العقائد والأعمال، ويعلمهم الشرائع والأمور العقلية التي تكمل النفوس وتهذبها، وإلى ذلك أشار البوصيرى بقوله: كفاك بالعلم فى الأمىّ معجزة ... فى الجاهلية والتأديب فى اليتم وتخصيص الأميين بالذكر لا يدل على أنه لم يرسل إلى غيرهم فقد جاء العموم فى آيات أخرى كقوله: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» وقوله: «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» . ومن حكمته تعالى أنه أرسله عربيا مثلهم، ليفهموا ما أرسل به ويعرفوا صفاته وأخلاقه، ليسهل اقتناعهم بدعوته. وخلاصة ما سلف: أنه ذكر الغرض من بعثة هذا الرسول، وأجملها فى أمور: (1) أنه يتلو عليهم آيات القرآن التي فيها هدايتهم وإرشادهم لخير الدارين، مع كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ، لئلا يكون هناك مطعن فى نبوته، بأن يقولوا إنه نقله من كتب الأولين كما أشار إلى ذلك بقوله: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» . (2) أنه يطهرهم من أدناس الشرك وأخلاق الجاهلية، ويجعلهم منيبين إلى الله مخبتين إليه فى أعمالهم وأقوالهم، لا يخضعون لسلطة مخلوق غيره، من ملك أو بشر أو حجر. (3) أنه يعلمهم الكتاب والحكمة: أي يعلمهم الشرائع والأحكام وحكمتها وأسرارها، فلا يتلقون عنه شيئا إلا وهم يعلمون الغاية منه، والغرض الذي يفعله لأجله، فيقبلون إليه بشوق واطمئنان، وقد تقدم مثل هذا فى سورة آل عمران. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ذاك أن العرب قديما كانوا على دين إبراهيم، فبدلوا وغيروا واستبدلوا بالتوحيد شركا، وباليقين شكا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، فكان من الحكمة أن يبعث سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم

بشرع عظيم فيه هداية للبشر، وبيان ما هم فى حاجة إليه من أمور معاشهم ومعادهم، ودعوتهم إلى ما فيه رضوان ربهم، والتمتع بنعيم جناته، ونهيهم عما يوجب سخطه ويقربهم إلى النار. (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي وبعثه فى غيرهم من المؤمنين إلى يوم القيامة وهم من جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين من جميع الأمم كالفرس والروم وغيرهم، روى البخاري عن أبى هريرة قال: «كنا جلوسا عند النّبى صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» قال رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال وسلمان الفارسي فينا، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان وقال: «والذي نفسى بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» . وقد تكلم فى هذه الرواية جمع من المحدّثين. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو ذو العزة والسلطان، القادر أن يجعل هذه الأمة المستضعفة صاحبة النفوذ والقوة التي تنشر فى غيرها من الأمم روح العدل والنظام بإرسال رسول من أبنائها ينقذ الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، وهو الحكيم فيما يفعل من تدبير أمور الخلق لما فيه خيرهم وفلاحهم. ثم ذكر سبحانه أن إرسال هذا الرسول فضل منه ورحمة فقال: (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إرسال هذا الرسول إلى البشر مزكيا مطهرا لهم، هاديا معلما فضل من الله وإحسان منه إلى عباده، يعطيه من يشاء ممن يصطفيه من خلقه بحسب ما يعلمه من استعداده وصفاء نفسه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته. وهو سبحانه ذو الفضل العظيم عليهم فى جميع أمورهم فى دنياهم وآخرتهم، فى معاشهم ومعادهم، فلا يجعلهم فى حيرة من أمرهم تنتابهم الشكوك والأوهام، ولا يجدون للخلاص منها سبيلا، ولا يجعل قويهم يبطش بضعيفهم، ويغتصب أموالهم

[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 إلى 8]

ويسعى فى الأرض بالفساد، ويهلك الحرث والنسل، فيكون العالم ككرة تتقاذفها أكفّ اللاعبين، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم سدى هملا لا صلاح لهم فى دين ولا دنيا. [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) شرح المفردات حمّلوا التوراة: أي علّموها وكلّفوا العمل بها، لم يحملوها: أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فى تضاعيفها، والأسفار: واحدها سفر وهو الكتاب الكبير، هادوا: أي تهوّدوا وصاروا يهودا، أولياء لله: أي أحباء له، بما قدمت أيديهم: أي بسبب ما اجترحوه من الكفر والمعاصي. المعنى الجملي بعد أن أثبت سبحانه التوحيد والنبوة، وذكر أن الرسول بعث للأميين قال اليهود: إن الرسول لم يبعث لنا، فرد الله عليهم مقالهم بأنهم لو فهموا التوراة حق

الإيضاح

الفهم، وعملوا بما فيها، لرأوا فيها نعت الرسول والبشارة به، وأنه يجب عليهم اتباعه، وما مثلهم فى حملهم للتوراة وتركهم العمل بها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يجديه حملها نفعا. ثم رد عليهم مقالا آخر إذ قالوا نحن أحباء الله وأولياؤه وإنه لن يدخلنا النار إلا أياما معدودات- بأنه لو كان ما تقولونه حقا لتمنيتم الموت حتى تخلصوا من هذه الدار دار الأكدار، وتذهبوا إلى دار النعيم، وإنكم لن تفعلوا ذلك فأنتم كاذبون فيما تدّعون، ولم تفرون منه وهو ملاقيكم ولا محالة؟ وهناك ترجعون إلى ربكم فينبئكم بما قدمتم من عمل ويجازيكم عليه، إن خيرا وإن شرا. الإيضاح (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) يقول سبحانه ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها، ثم لم يعملوا بها: ما مثل هؤلاء إلا كمثل الحمار يحمل الكتب لا يدرى ما فيها، ولا كنه ما يحمل، بل هم أسوأ حالا من الحمر، لأن الحمر لا فهم لها، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها فيما ينفعهم، إذ حرّفوا التوراة فأوّلوها وبدّلوها، فهم كما قال فى الآية الأخرى: «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» . وصفوة القول: إن هذا النبي الذي تقولون إنه أرسل إلى العرب خاصة، هو ذلك النبي المنعوت فى التوراة والمبشّر به فيها فكيف تنكرون نبوته، وكتابكم يحض على الإيمان به؟ فما مثلكم فى حملكم للتوراة مع عدم العمل بما فيها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يدرى ما فيها، فأنتم إذ لم تعملوا بما فيها وهى حجة عليكم إلا مثل الحمار ليس له إلا ثقل الحمل من غير انتفاع له بما حمل. ثم بين قبح هذا المثل وشديد وقعه على من يعقله ويتدبره فقال:

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) أي ما أقبح هذا مثلا لهم، لتكذيبهم بآيات الله التي جاءت على لسان رسوله لو كانوا يتدبرون ويتفكرون، إذ لم يكن لهم ما يشبههم من ذوى العقول والحجا من ملك أو إنس، بل لا شبيه لهم إلا ما هو أحقر الحيوان وأذلّه وهو الحمار. ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلّان عير الحىّ والوتد هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثى له أحد (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم الذين دسّوها حتى أحاطت بهم الخطيئة وأعمت أبصارهم ورانت على قلوبهم، فلم تر نور الحق، ولم تشعر بحجة ولا برهان، بل هى فى ظلام دامس لا تهتدى لطريق، ولا تصل إلى غاية. ولما كان من شأن من يعمل بالكتاب الذي أنزل إليه أن يكون محبّا للحياة تاركا لكل ما ينفعه فى الآخرة قال آمرا رسوله أن يقول لهم: (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين، إن كنتم صادقين فيما تزعمون، وقد تقدم الكلام فى مثل هذه المباهلة (الملاعنة) لليهود فى سورة البقرة فى قوله: «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» كما تقدمت مباهلة النصارى فى آل عمران فى قوله: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» ومباهلة المشركين فى قوله: «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» . ثم أخبر بأنهم لن يتمنوه أبدا لما يعلمون من سوء أفعالهم وقبيح أعمالهم فقال:

[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 إلى 11]

(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ولا يتمنونه أبدا لعلمهم بسوء أعمالهم لكفرهم بآيات الله وتدسبتهم أنفسهم بالمعاصي والشرور والآثام. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «والذي نفسى بيده لا يقولها أحد منكم إلا غصّ بريقه» : فلم يتمنّ أحد لعلمهم بصدقه وأيقنوا أنهم لو تمنوه لماتوا لساعتهم، وحق عليهم الوعيد، وحل بهم العذاب الشديد. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ولا يخفى ما فى هذا من شديد التهديد والوعيد. (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي وماذا يجديكم الفرار من الموت؟ ولماذا تمتنعون من المباهلة خوفا على الحياة؟ فإنه سيلاقيكم البتة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، فإن كنتم على الحق فلا تحفلوا بالحياة، فإن أيام الحياة مهما طال أمدها لا بد من نفادها. (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم غيب السموات والأرض، فيخبركم بما كنتم تعملون فى الدنيا من حسن وسيىء، ثم يجازيكم على كلّ بما تستحقون. وغير خاف ما فى هذا من شديد التهديد وعظيم الوعيد لو كانوا يعقلون. [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

شرح المفردات

شرح المفردات نودى للصلاة: أي النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر، أما النداء الأول على الزوراء (أعلى دار بالمدينة حينئذ بقرب المسجد) فقد زاده عثمان لكثرة الناس، فاسعوا: أي فامشوا، وذكر الله: هو الصلاة، وذروا البيع: أي اتركوه، فانتشروا: أي فتفرقوا، من فضل الله: أي من رزقه، والمراد باللهو: الطبول والمزامير ونحوها، انفضّوا: أي انصرفوا، قائما: أي على المنبر وأنت تخطب. المعنى الجملي بعد أن نعى على اليهود فرارهم من الموت حبّا فى الدنيا والتمتع بطيباتها- ذكر هنا أن المؤمن لا يمنع من اجتناء ثمار الدنيا وخيراتها مع السعى لما ينفعه فى الآخرة كالصلاة يوم الجمعة فى المسجد مع الجماعة، فعليه أن يعمل للدنيا والآخرة معا، فما الدنيا إلا مزرعة الآخرة كما ورد فى الأثر «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» . ثم نعى على المسلمين فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تشاغلهم عن سماع عظاته وهو يخطب على المنبر بأمور الدنيا من تجارة وضرب دفّ وغناء بالمزامير ونحو ذلك، وأبان لهم أنّ ما عند الله من الثواب والنعيم المقيم خير لهم من خيرات الدنيا والتمتع بلذاتها الفانية. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي إذا أذّن المؤذن بين يدى الإمام وهو على المنبر فى يوم الجمعة للصلاة

فاتركوا البيع واسعوا لتسمعوا موعظة الإمام فى خطبته، وعليكم أن تمشوا الهوينى بسكينة ووقار حتى تصلوا إلى المسجد. روى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون (تسرعون) وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» . وعن أبى قتادة قال: «بينما نحن نصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» رواه البخاري ومسلم. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ذلكم السعى وترك البيع خير لكم من التشاغل بالبيع وابتغاء النفع الدنيوي فإن منافع الآخرة خير لكم وأبقى، فهى المنافع الباقية، أما منافع الدنيا فهى زائلة، وما عند الله خير لكم إن كنتم من ذوى العلم الصحيح بما يضر وما ينفع. ثم ذكر ما يفعلون بعد الصلاة فقال: (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فإذا أديتم الصلاة فتفرقوا لأداء مصالحكم الدنيوية بعد أن أديتم ما ينفعكم فى آخرتكم، واطلبوا الثواب من ربكم، واذكروا الله وراقبوه فى جميع شئونكم، فهو العليم بالسر والنجوى، لا تخفى عليه خافية من أموركم، لعلكم تفوزون بالفلاح فى دنياكم وآخرتكم. وفى هذا إيماء إلى شيئين: (1) مراقبة الله فى أعمال الدنيا حتى لا يطغى عليهم حبها بجمع حطامها بأيّ الوسائل من حلال وحرام.

(2) إن فى مراقبته تعالى الفوز والنجاح فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فلأن من راقبه لا يغشّ فى كيل ولا وزن ولا يغيّر سلعة بأخرى، ولا يكذب فى مساومة، ولا يحلف كذبا، ولا يخلف موعدا، ومتى كان كذلك شهر بين الناس بحسن المعاملة وأحبوه وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له الله به الرزق، وأما فى الآخرة فيفوز برضوان ربه «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» وبجنات تجرى من تحتها الأنهار، ونعم أجر العاملين. وعن عراك بن مالك رضى الله عنه أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال: «اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتنى، فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين» . ثم عاتب سبحانه عباده المؤمنين على ما كان منهم من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال: (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي وإذا رأى المؤمنون عير تجارة أو لهوا أسرعوا وتركوك قائما وأنت تخطب الناس. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي فى جماعة عن جابر بن عبد الله قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير (إبل محملة طعاما من دقيق وبرّ وزيت) فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى: «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً» إلى آخر السورة. والذي قدم بهذه التجارة دحية الكلبي من الشام، وكان إذا قدم لم تبق عاتق (الشابة حين أدركت) بالمدينة، إلا أتته ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فيخرجوا ليبتاعوا منه، وكان ذلك طريق الإعلان عن التجارة حينئذ. ثم رغبهم فى سماع العظات فقال: (قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) أي قل لهم مبينا خطأ ما عملوا:

خلاصة موضوعات السورة

ما عند الله مما ينفعكم فى الآخرة خير لكم مما يفيدكم فى الدنيا من التمتع بخيراتها، وكسب لذاتها، فتلك باقية، وهذه فانية. (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإليه سبحانه فاسعوا، ومنه فاطلبوا الرزق، ولن يفوتكم ذلك بسماع عظاته، فالله كفيل برزقكم، ولن ينقص بترككم البيع والشراء حين الصلاة، وحين سماع العظات والنصائح. ولله الحمد فى الآخرة والأولى، وله الحكم وإليه ترجعون. خلاصة موضوعات السورة (1) وصفه تعالى نفسه بصفات الكمال. (2) صفات النبي الأمىّ الذي بعثه الله رحمة للعالمين. (3) النعي على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة. (4) طلب مباهلة اليهود. (5) الحث على السعى للصلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام على المنبر. (6) الأمر بالسعي على الأرزاق بعد انقضاء الصلاة. (7) عتاب المؤمنين على تركهم النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قائما وتفرقهم لرؤية التجارة أو اللهو.

سورة المنافقين

سورة المنافقين هى مدنية وآياتها إحدى عشرة نزلت بعد الحج. ووجه اتصالها بما قبلها- أنه ذكر فى الأولى حال المؤمنين الذين بعث إليهم النبي الأميّ يتلو عليهم كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأمرهم بالصلاة وترك البيع حين أدائها، وفى هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون الذين يشهدون كذبا بأن محمدا رسول الله ويحلفون الأيمان المحرجة على ذلك، ومن ثم كان النبي يقرأ فى صلاة الجمعة فى الركعة الأولى بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين على العبادة، وفى الركعة الثانية بسورة المنافقين، فيقرّع بها المنافقين. [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) شرح المفردات المنافق: من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، جنّة: أي وقاية وسترا لدمائهم وأموالهم، آمنوا: أي بألسنتهم، كفروا: أي بقلوبهم، طبع: أي ختم عليها كما يختم

المعنى الجملي

بالطابع على ما يراد حفظه حتى لا يؤخذ منه شىء، لا يفقهون: أي لا يعلمون، تعجبك أجسامهم: أي لصباحتها وتناسب أعضائها، تسمع لقولهم: أي لفصاحتهم وحسن حديثهم، خشب: واحدها خشباء وهى الخشبة التي نخرجوفها، والصيحة: الصوت، قاتلهم الله: أي لعنهم وطردهم من رحمته، يؤفكون: أي يصرفون عما هم عليه. المعنى الجملي وصف الله تعالى المنافقين بأوصاف هى منتهى الشناعة والقبح: (1) أنهم كذابون يقولون غير ما يعتقدون. (2) أنهم لا يبالون بالحلف بالله كذبا، سترا لنفاقهم، وحقنا لدمائهم. (3) أنهم جبناء، فهم على ضخامة أجسامهم، وفصاحة ألسنتهم، يظنون أن كل مناد ينادى إنما يقصدهم للإيقاع بهم. الإيضاح (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أي إذا حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبىّ وصحبه قالوا نشهد شهادة لا نشك فى صدقها، إنك رسول من عند الله حقا، أوحى إليك وحيه، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده. ثم أنى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها، تحقيقا لرسالته فقال: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي والله يعلم إنك لرسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، لتنقذهم من الضلال إلى الهدى. ثم بيّن كذبهم فى مقالهم الذي حدّثوا به فقال: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فيما أخبروا به، لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون ولا تواطئ قلوبهم ألسنتهم فى هذه الشهادة.

ثم ذكر أنهم يحتالون على تصديق الناس لهم بكل يمين محرجة فقال: (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، فيحلفون بالله إنهم لمنكم، ويقولون نشهد إنك لرسول الله، حتى لا تجرى عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة. قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين، عصمة لدمائهم وأموالهم. وفى هذا تعداد لقبائح أفعالهم، وأن من عادتهم أن يستجنّوا بالأيمان الكاذبة، كما استجنوا بالشهادة الكاذبة. ثم حكى عنهم جريمة أخرى وهى إضلال الناس وصدهم عن الإسلام فقال: (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فمنعوا الناس عن الدخول فى الإسلام، وعن الإنفاق كما حكى عنهم سبحانه بعد. وقصارى ذلك- أنهم أجرموا جرمين: (1) أعدوا الأيمان الكاذبة وهيئوها لوقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة. (2) أنهم يمنعون الناس عن الدخول فى الإسلام وينفّرونهم منه متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ثم بين قبح مغبّة ما يعملون، ووبال ما يصنعون فقال: (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح فعلهم إذ آثروا الكفر على الإيمان، وأظهروا خلاف ما أضمروا، وسيلقون نكالا ووبالا فى الدنيا والآخرة. أما فى الدنيا فسيفضحهم الله على رءوس الأشهاد، ويظهر نفاقهم للمؤمنين بنحو قوله: «ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنّهم كفروا بالله ورسوله» .

وأما فى الآخرة فحسبهم جهنم وبئس المهاد. ثم ذكر ما جرأهم على الكذب والاستخفاف بالأيمان المحرجة فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الذي فعلوه لسوء سريرتهم، وقبح طويتهم، فاستهانوا بما يأتون وما يذرون، ولم يكن همهم إلا المحافظة على دمائهم وأموالهم، ومن ثم أظهروا للناس إيمانا وأبطنوا كفرا، وقد ختم على قلوبهم فلا تهتدى إلى حق، ولا يصل إليها خير، ومن جراء ذلك عموا عما نصب من الأدلة على صدق الرسول، وصمت الآذان عن سماع ما يوجب الإيمان، فهم صم بكم عمى فهم لا يعقلون. ثم ذكر ما لهم من جمال فى الصورة واعتدال فى القوام فقال: (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي لاستواء خلقهم، وجمال صورهم. كما وصفهم بالفصاحة وذرابة اللسان فقال: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لحلاوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم فإذا سمعهم سامع أحب أن يصفى إليهم، وأن يطول حديثهم جهد الاستطاعة. ثم وصفهم بأن أفئدتهم هواء لا عقول لهم ولا أحلام فقال: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي هم أشباح بلا أرواح، لهم جمال فى المنظر، وقبح فى المخبر، فسدت بواطنهم، وحسنت ظواهرهم، فكانت كالخشب الجوفاء التي نخرها السوس، فهى مع حسنها لا ينتفع فيها بعمل، ولا يستفاد منها خير، ولله در أبى نواس: لاتخذ عنك اللحى ولا الصّور ... تسعة أعشار من ترى بقر تراهم كالسراب منتشرا ... وليس فيه لطالب مطر فى شجر السّرو منهم مثل ... له رواه وما له ثمر ثم وصفهم بالجبن والذلة فقال:

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي كلما نادى مناد فى العسكر، أو انفلتت دابة أو نشدت ضالة- ظنوا أن العدو قد فجأهم، وأن أمرهم قد افتضح، وأنهم هالكون لا محالة، ولقد قالوا: يكاد المريب يقول خذونى، ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد: ضعوه فى يدى، لما ألقى من الرعب فى قلوبهم، فهم يخافون أن تهتك أستارهم، وتكشف أسرارهم، ويتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة. ونحو الآية قوله تعالى: «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» وقد نظر المتنبي إلى الآية فى قوله: وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم ... إذا رأى غير شىء ظنه رجلا (هُمُ الْعَدُوُّ) الذي بلغ الغاية فى العداوة. (فَاحْذَرْهُمْ) ولا تأمنهم على سر، ولا تلتفت إلى ظاهرهم، فقلوبهم متحرقة حسدا وبغضا، وأعدى الأعداء العدو المداجى الذي يكاشرك (يبتسم لك) وتحت ضلوعه الداء الدوىّ، والشر المستطير. ثم زاد سبحانه فى ذمهم وتوبيخهم، وعجّب من حالهم فقال: (قاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي لعنهم الله وطردهم من رحمته، فما أفظع حالهم، وما أشدهم غفلة عن مآلهم. وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم، فكأنه قال: قولوا قاتلهم الله. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وقد كان لهم مدّكر فيما حولهم، وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه. وإن تعجب من شىء فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق، فما أعظمها محنة، وأعجب بها نقمة، جازاهم الله بها على سوء أعمالهم، وقبح فعالهم

[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 إلى 8]

[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) شرح المفردات لوّوا رءوسهم: أي حوّلوها استهزاء، يصدون: أي يعرضون عن القائل، الفاسقين: أي الخارجين من طاعة الله وطاعة الرسول، المنهمكين فى أنواع الشرور والآثام، حتى ينفضّوا: أي حتى يتفرقوا، خزائن السموات والأرض: أي خزائن الأرزاق فيهما، لا يفقهون: أي لا يعلمون علما صادرا عن إدراك لجلال الله وقدرته، والأعزّ: أي المنافقون، والأذل فى زعمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، والعزة: الغلبة والنصر. المعنى الجملي بعد أن ذكر كذب المنافقين فى قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم: نشهد إنك لرسول الله، وبيّن شنيع أفعالهم، بترويجها بالأيمان الفاجرة، ثم أعقبه بذكر جبنهم وصلفهم، وأنهم أجسام البغال، وأحلام العصافير، ثم أردفه ببيان أنهم أعداء الله حقا أعقب هذا بذكر ما صدر منهم مما يثبت كذبهم ونفاقهم، بما لا يدع شبهة لمن يلتمس لهم المعاذير، ويبرئهم من النفاق فمن ذلك:

(1) أنهم إذا طلب منهم أن يتقدموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم على ما فرط منهم من الذنوب، أمالوا رءوسهم وأعرضوا استكبارا وأنفة أن يفعلوا. (2) أنهم قالوا: لئن رجعنا من وقعة بنى المصطلق (قبيلة من اليهود) إلى المدينة لنخرجن الأذلاء محمدا وصحبه منها. ثم نعى عليهم ما قالوا بأنهم قوم لا حلوم لهم، ولا هم يفقهون جليل قدرة الله وبديع صنعه. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غزا بنى المصطلق علا المريسيع (ماء لهم) وهزمهم وقتل وأسر- ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري، وكان أجيرا لعمر بن الخطاب، وسنان الجهني، وكان حليف عبد الله بن أبىّ، واقتتلا فصرخ جهجاه وقال: يا للمهاجرين، وصرخ سنان وقال: يا للأنصار، فأعان جهجاها رجل من المهاجرين ولطم سنانا فقال عبد الله بن أبىّ للمهاجرين: ما صحبنا محمدا إلا لنلطم، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، ثم قال لقومه: لو أمسكتم عن هذا وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق قال: إذا ترعد أنف كثيرة بيثرب (يريد صلى الله عليه وسلم أنه يهيج الشر) قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجر فأمر به أنصاريا، قال: فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟. ثم قال لعبد الله: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني، قال: والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا (يريد زيد بن أرقم الذي بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم) لكاذب، فنزلت هذه الآيات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: يا غلام إن الله صدّقك وكذب المنافقين، فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فأذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر

الإيضاح

لك فلوّى رأسه وقال: أمرتمونى أن أومن فآمنت، وأمر تمونى أن أزكّي فزكيت، وما بقي إلا أن أسجد لمحمد، ولم يلبث إلا أياما حتى اشتكى ومات. الإيضاح (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي وإذا قيل لجماعة المنافقين كعبد الله بن أبىّ: هلموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لكم من ربكم غفران ذنوبكم، صدوا وأعرضوا، استكبارا وعتوّا. قال الكلبي: لما نزل القرآن بصفة المنافقين مشى إليهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق، وأهلكتم أنفسكم، فائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا فى الاستغفار فنزلت الآية. وقال ابن عباس: لما رجع عبد الله بن أبىّ من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنّفوه وأسمعوه ما يكره فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك ويرضى عنك، قال: لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لى، وجعل يلوّى رأسه فنزلت: ثم أيأسهم من جدوى الاستغفار لهم فقال: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي الاستغفار لهم وعدمه سيان لا يجديانهم نفعا، لأن الله قد كتب عليهم الشقاء بما كسبت أيديهم، وبما اجترحت من الفسوق والآثام، وبما ران على قلوبهم من الجحود والطغيان ثم علل ذلك بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن الله لا يهدى من أحاطت به خطيئته فلم تجد الهداية إلى قلبه سبيلا تسلكه، ولا المواعظ والنصائح متسعا فى فؤاده،

فأنى للقلب أن يهتدى، وللعقل أن يرعوى، وماذا تفيد الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون؟ ثم ذكر هنة أخرى لهم فقال: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي هم الذين يقولون للأنصار: لا تطعموا محمدا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة، فيتركوا نبيهم حين يعضّهم الجوع بنابه. ثم رد عليهم وخطّأهم فيما يقولون فقال: (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله جميع ما فى السموات والأرض من شىء، وبيده مفاتيح أرزاق العباد، لا يقدر أحد أن يعطى أحدا شيئا إلا بمشيئته. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بسنن الله فى خلقه، وأن الله قد كفل الأرزاق لعباده فى أي مكان كانوا متى عملوا وجدوا فى الحصول عليها. ثم ذكر هنة ثالثة لهم وهى أعظمها فقال: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) أي يقول عبد الله ابن أبىّ ومن يلوذ به من صحبه: لئن عدنا إلى المدينة لنخرجنكم منها أيها المؤمنون فإننا الأقوياء الأشداء الأعزاء، وأنتم الضعفاء الأذلاء. ثم رد عليهم مقالهم فقال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولله الغلبة والقوّة، ولمن أعزه الله من الرسول والمؤمنين. روى «أن عبد الله بن عبد الله بن أبىّ، وكان مؤمنا مخلصا، سلّ سيفه على أبيه عند ما أشرفوا على المدينة وقال: لله علىّ ألا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل، فلم يبرح حتى قال ذلك» . وروى «أنه وقف واستل سيفه وجعل الناس يمرون عليه حتى جاء أبوه فقال: وراءك، قال مالك ويلك؟ قال والله لا تجوز من هنا حتى يأذن لك رسول الله

[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 إلى 11]

صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل، فرجع حتى لقى رسول الله، وكان إنما يسير ساقة (فى آخر الجيش) ، فشكا إليه ما صنع ابنه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن خلّ عنه يدخل ففعل» . (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله ينصر من ينصره كما قال «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وسنته تعالى لا تبديل فيها ولا تغيير، وهو لا بد جاعل عباده المؤمنين هم الأعزاء كما وعد، وجاعل مخالفيه هم الأذلاء. ولا دخل للمال والنشب، ولا للحسب والنسب، فى تلك القوّة التي يمد بها من يشاء، والنصرة التي يمنحها عباده المخلصين، وإن الله منجز وعده لنبيه، كما أنجزه لمن قبله من رسله، وقد تم لهم الظفر على أعدائهم الضالين. [سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) شرح المفردات لا تلهكم: أي لا تشغلكم، وذكر الله: العبادات المذكرة به، والمال والأولاد يراد بها زخرف الدنيا، الخاسرون فى تجارتهم: إذ باعوا العظيم بالحقير، لولا: كلمة تفيد تمنى حصول ما بعدها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن حكى مقال المنافقين من أنهم الأعزاء، وأن المؤمنين هم الأذلاء، اغترارا بما لهم من مال ونشب، وأن ذلك هو الذي صدهم عن طاعة الله، وجعلهم يعرضون عن الإيمان بالله إيمانا حقا، ويؤدون فرائضه، ويقومون بما يقربهم من رضوانه أردف ذلك بنهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم فى ذلك، بل عليهم أن يلهجوا بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، ويؤدوا ما فرض عليهم من العبادات، ولا يشغلهم عن ذلك زخرف هذه الحياة من مال ونشب وأولاد وجاه، فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل ثم أمرهم أن ينفقوا أموالهم فى أعمال البر والخير ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم، ويتمنوا أن يطيل الله أعمارهم ليعوضوا بعض ما فاتهم، ولكن أنّى لهم ذلك ولكل نفس أجل محدود لا تعدوه، والله خبير بما يعملون، وهو مجازيهم على أعمالهم، إن خيرا وإن شرّا. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي لا يشغلكم تدبير أموالكم، والعناية بشؤون أولادكم، عن القيام بحقوق ربكم، وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظا من اهتمامكم، وللآخرة مثله، وهذا ما عناه الحديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» . وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة، ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ

الرِّزْقِ» وقوله: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا» . ثم توعد من يفعل ذلك فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن تلهّ بالدنيا وشغلته عن حقوق الله فقد باء بغضب من ربه، وخسرت تجارته، إذ باع خالدا باقيا، واشترى فانيا زائلا وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة؟ ومن أهم ما يقرب العبد من ربه، ويجعله يفوز برضوانه- رحمة البائسين من عباده، وبذل المال فى الوجوه التي فيها سعادة الأمة، وإعلاء شأن الملة، وانتشار الدعوة، ومن ثم قال: (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأنفقوا بعض ما أعطيناكم من فضلنا من الأموال، شكرا على النعمة، ورحمة بالفقراء من عباده، وادخروا ذلك ليوم العرض والحساب، فتجنوا ثمار ما عملتم، ولا تدخروه فى صناديقكم، وتدعوه لوارثكم، فربما أضاعه فيما لا يكسبكم حمدا ولا مدحا، بل يكسبكم ذما وقدحا. وقد جاء فى الخبر: «أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» وجاء أيضا: «يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدّقت فأبقيت» . ولا تنتظروا حتى يحين وقت الاحتضار، وتروا الموت رأى العين، ثم تتمنون أن لو مدّ الله فى الأجل، وأطال العمر، لتتداركوا ما فات، وتحسنوا العمل، وتساعدوا البائسين وذوى الحاجة، فهيهات هيهات، فليس ذا وقت الندم. ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم فأتى للعمر أن يطول، وللحياة أن تزيد، ولكل نفس أجل لا تعدوه، وعمر

تضمنت هذه السورة شيئين

لا يزيد ولا ينقص فماذا يفيد التمني، وماذا ينفع الندم والحسرة؟ وذلك ما عناه سبحانه بقوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فعليكم أن تستعدوا قبل حلول الأجل، وتهيئوا الزاد ليوم المعاد «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ» . وفى هذا عبرة لمن اعتبر، ولم يفرّط فى أداء الحقوق والواجبات. ثم حذرهم وأنذرهم بأنه رقيب عليهم فى كل ما يأتون وما يذرون فقال: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجازيكم على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة إعراضا عنه وسخطا، وبعدا عن رضوانه: إنك لا تجنى من الشوك العنب. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله. تضمنت هذه السورة شيئين (1) وصف المنافقين وبيان سيىء خصالهم من الكذب والأيمان الفاجرة والجبن. (2) حث المؤمنين على الطاعة وإنفاق المال قبل انقضاء الأجل.

سورة التغابن

سورة التغابن هى مدينة، وآياتها ثمانى عشرة، نزلت بعد التحريم. ومناسبتها لما قبلها: (1) إنه فى السورة قبلها ذكر حال المنافقين، وخاطب بعد ذلك المؤمنين، وهنا قسم الناس قسمين مؤمن وكافر. (2) نهى هناك عن الاشتغال بالأولاد عن ذكر الله، وهنا ذكر أن الأموال والأولاد فتنة. (3) فى السورة السابقة حث على الإنفاق فى سبيل الله، وفى ذكر التغابن حث عليه أيضا. [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) الإيضاح (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن وجود ما فى السموات والأرض دالّ على تنزيه الله وكماله، وإن هذه المخلوقات مسخرة منقادة له.

(لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) فهو المتصرف فى جميع الكائنات، المحمود على جميع ما يخلق ويقدر، لأنه مصدر الخيرات، ومفيض البركات. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ لم يكن. ثم ذكر بعض مقدوراته تعالى فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي هو الذي أوجدكم كما شاء على ما شاء. ثم قسم هذا المخلوق فقال: (فَمِنْكُمْ كافِرٌ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تقتضيه فطرته، وبعضكم مختار للإيمان كاسب له بحسب ما تدعو إليه الفطرة كما جاء فى الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه» وقد كانت الأدلة الكونية فى الأنفس ولآفاق كفيلة أن تردكم إلى الحق، فتختاروا الإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتبعهما من سائر النعم، ولكنكم ما فعلتم ذلك، بل تفرقتم شيعا، وجحدتم الخالق، وكفرتم بأنعمه عليكم، بعد أن أفصح الصبح لذى عينين. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي وهو البصير بمن هو مستعد للهداية لصفاء نفسه، وزكاء روحه، فيعطيه ما هو له أهل ومن خبثت طويته، وفسدت سجيته، ودسّى نفسه بكبائر الذنوب والآثام، وسيجزى بما هو به حقيق من العذاب الأليم فى جهنم «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» . وبعد أن ذكر نعمة خلق الإنسان ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتم ما يكون من الحكمة والعدل فقال: (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي بالحكمة البالغة المتضمنة لمنافع الدين والدنيا (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث أودع فيكم القوى، والمشاعر الظاهرة والباطنة وجعلكم صفوة جميع مخلوقاته، وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته فالإنسان يضم روحا هو من عالم الأرواح، ويدنا هو من عالم الأشباح، وأنشدوا:

[سورة التغابن (64) : الآيات 5 إلى 6]

وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فى الحياة الآخرة، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب، فاصرفوا ما خلق لكم فى شكره، والوفاء بحق نعمة المتظاهرة عليكم، ظاهرة وباطنة. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو يدبرها بحسب علمه الواسع، وقدرته الشاملة «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . ثم خص بعض ما يعلمه، عناية بأمره، إذ عليه الثواب والعقاب فقال: (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) فاجعلوا أعمالكم ظاهرها وباطنها وفق ما يطلبه منكم الدين، لتنالوا الفوز برضوان الله وجميل مثوبته. ثم علل هذا بقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي لأنه تعالى محيط بجميع ما أضمره المرء فى صدره واستكنّ فى قلبه، فلا يخفى عليه ما يسرّ وما يعلن. [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 6] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) شرح المفردات ألم يأتكم: هذا الاستفهام للتعجب من حالهم، والنبأ: الخبر الهام وأصل الوبال: الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور، ومنه الطعام الوبيل أي الثقيل على المعدة، والوابل: للمطر الثقيل القطر، ثم استعمل فى الضر لأنه يثقل على الإنسان، والأمر:

المعنى الجملي

الكفر وعبر به للإيذان بأنه جناية عظيمة وأمر هائل، والبينات: المعجزات، وتولوا: أعرضوا، واستغنى الله: أي أظهر غناه عنهم إذ أهلكهم وقطع دابرهم. المعنى الجملي بعد أن بسط سبحانه الأدلة على عظيم قدرته وواسع علمه، وأنه خلق السموات والأرض، وأنه صورهم فأحسن صورهم، وأنه يعلم السر والنجوى- حذّر المشركين من كفار مكة على تماديهم فى الكفر، والجحود بآياته، وإنكار رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيّن لهم عاقبة ما يحل بهم من العذاب فى الدنيا والآخرة وضرب لهم الأمثال بالأمم المكذبة من قبلهم، فقد كذبوا رسلهم، وتمادوا فى عنادهم، وقالوا: أيرسل الله من البشر رسلا؟ فحلّت بهم نقمة ربهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر فاصبحت ديارهم خرابا يبابا، كأن لم يغنوا بالأمس، فهلا يكون ذلك عبرة لهم، فيثوبوا إلى رشدهم، ويرجعوا إلى ربهم لو كانوا من أرباب النّهى. الإيضاح (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ألم يبلغكم أيها المشركون من أهل مكة نبأ الذين كفروا بالرسل من قبلكم كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم التي أصرّت على الكفر والعناد، كيف حل بهم عقاب ربهم، وعظيم نقمته وأرسل عليهم ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها فمن صاعقة من السماء تجتاحهم، إلى رجفة فى الأرض تهلكهم، إلى صيحة تصم الآذان تبيدهم وتجعلهم كأمس الدابر، وتمحوهم من صفحة الوجود، إلى طوفان يعم الأرض ويبتلعهم فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وسيكون لهم عظيم النكال والوبال يوم تجزى كل نفس بما كسبت، إن الله سريع الحساب.

[سورة التغابن (64) : الآيات 7 إلى 10]

وفى هذا الأسلوب تعجيب من حالهم، وأنه قد كان لهم فى ذلك مدّكر، لو كانوا يستبصرون، وعبرة لو كانوا يعتبرون. ثم بيّن أسباب ما حل بهم من النقمة فقال: (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن ما حل بهم من سوء العذاب كان من جراء تكذيبهم بالرسل بعد أن جاءوهم بالأدلة الواضحة، والمعجزات الباهرة وقالوا: إن من العجب العاجب أن يكون هدينا على يدى بشر منا لا ميزة لهم عنا بعقل راجح، ولا بسلطان يتملكون به قيادنا. ويجعل لهم بسطة النفوذ علينا، كما قالت ثمود: «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ» وقد جهلوا أن النبوة رسالة يصطفى بها الله من يشاء من عباده كما قال: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» . وبعد أن أطال عنادهم وتمادوا فى غيّهم أهلكهم الله بسلطانه وجبروته، وقطع دابرهم، واستغنى عن إيمانهم، وهو الغنى عن العالمين جميعا، والغنى عن إيمانهم وطاعتهم، وهو الحقيق بالحمد على ما أنعم به على عباده من النعم المتظاهرة عليهم، ظاهرة وباطنة. [سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 10] زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

شرح المفردات

شرح المفردات زعم فلان كذا: أي ادعى علمه بحصوله، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل، بلى: كلمة للجواب تقع بعد النفي لإثبات ما بعده كما وقع فى الآية، لتبعثن: أي لتحاسبنّ وتجزونّ بأعمالكم، والنور: هو القرآن وسمى بذلك لأنه بيّن فى نفسه مبيّن لغيره، والخبير: هو العليم ببواطن الأشياء، يوم الجمع: هو يوم القيامة سمى بذلك لأن الله يجمع فيه الأولين والآخرين فى صعيد واحد، والتغابن، من قولهم: تغابن القوم فى التجارة: إذا غبن بعضهم بعضا كأن يبيع أحدهم الشيء بأقل من قيمته، فهذا غبن للبائع، أو يشتريه بأكثر من قيمته، وهذا غبن للمشترى. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف إنكار المشركين للألوهية، ثم إنكارهم للنبوة بقولهم: «أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا» ؟ ثم أعقبه بأنهم سيلقون الوبال والنكال جزاء ما فعلوا- أردف ذلك بذكر إنكارهم للبعث، ثم بإثبات تحققه وأنه كائن لا محالة، وأن كل امرئ سيجازى بما فعل يوم يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد حين يغبن الكفار فى شرائهم، لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، ويفوز المؤمنون فى تجارتهم بالصفقة الرابحة، لأن الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنة فضلا منه ورحمة. الإيضاح (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي ادعى المشركون أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء فقالوا: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» ؟ وقالوا: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» ؟.

فأمر رسوله بالرد عليهم وإبطال زعمهم بقوله: (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي قل لهم: إن البعث كائن لا محالة، وإنكم وربى الذي برأ الخلق وأنشأهم من العدم ستحاسبنّ على أعمالكم وتجزونّ على الكثير والقليل، والنقير والقطمير، وذلك هين عليه يسير. ونحو الآية قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» وقوله: «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» وقوله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» الآية. وبعد أن أبان لهم أدلة التوحيد والنبوة بما لا محال معه للإنكار- طالبهم بالإيمان بهما فقال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) أي فصدقوا بالله ورسوله وكتابه الهادي لكم إلى سواء السبيل إذا تراكمت ظلمات الشبهات، والمنقذ لكم من الضلالة إذا أحاطت بكم الخطيئات. ثم توعدهم على ما يأتون وما يذرون فقال: (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا تخفى عليه أعمالكم، وسيحاسبكم على ما كسبت أيديكم من خير أو اكتسبت من شر، فراقبوه وخافوا شديد عقابه. (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي وتذكروا يوم يجمع الله الأولين والآخرين للحساب والجزاء فى صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لتجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب. ونحو الآية قوله تعالى: «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» وقوله: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» .

[سورة التغابن (64) : الآيات 11 إلى 13]

(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) فالكافرون قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم ولم يربحوا فيها، والمؤمنون باعوا أنفسهم بالجنة فربحت صفقتهم وما كانوا خاسرين، وفى الصحيح «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة، ليزداد حسرة» . والخلاصة- إنه لا غبن أعظم من أن قوما ينعمون، وقوما يعذبون، وأن قوما مغبونين فى الدنيا أصبحوا فى الآخرة غابنين لمن غبنوهم فيها. ثم بين هذا التغابن وفصله بقوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ومن يصدق بالله ويعمل بطاعته وينته إلى أمره ونهيه- يمح عنه ذنوبه ويدخله جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها، وذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده، لا نطوائه على النجاة من أعظم المهالك، وأجلّ المخاطر. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بأدلته وآي كتابه الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم أولئك أصحاب النار خالدين فيها أبدا، وبئس النار مصيرا لهم. [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)

شرح المفردات

شرح المفردات المصيبة: ما ينال الإنسان ويصيبه من خير أو شر، بإذن الله: أي بقدرته ومشيئته، يهد قلبه: أي يشرحه لازدياد الخير والطاعة. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس قسمان: كافر بالله مكذب لرسوله لا يألو جهدا فى إيصال الأذى بهم، ومؤمن بالله مصدق لرسله وهو يعمل الصالحات- أردف ذلك ببيان أن ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره بحسب النّظم التي وضعها فى الكون، فعلى الإنسان أن يجدّ ويعمل، ثم لا يبالى بعد ذلك بما يأتى به القضاء، لعلمه بأن ما فوق ذلك ليس فى طاقته، ولن يهوله أمره، ولن يحزن عليه، ثم أمر بعد ذلك بطاعة الله وطاعة الرسول، وأبان أن تولّى الكافرين عن الرسول لن يضيره شيئا، فإنه قد أدى رسالته. وما على الرسول إلا البلاغ، وأن على المؤمن أن يتوكل على الله وحده، وهو يكفيه شر ما أهمه. الإيضاح (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي ما أصاب أحدا من خيرات الدنيا ولذاتها أو رزاياها وشرورها- فهو بقضاء الله وقدره بحسب ما وضع من السنن فى نظم الكون، فعلى المرء أن يعمل ويجدّ ويسعى لجلب الخير ودفع الضر عن نفسه أو عن غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ثم هو لا يحزن ولا يغتمّ لما يصيبه بعد ذلك، لأنه قد فعل ما هو فى طاقته وما هو داخل فى مقدوره، وما بعد ذلك فليس له من أمره شىء.

والخلاصة- إن على المؤمن واجبين: (1) السعى وبذل الجهد فى جلب الخير ودفع الضر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. (2) التوكل على الله بعد ذلك، اعتقادا منه أن كل شىء يحدث فإنما هو بقضائه وقدره، فلا يغتم ولا يحزن لدى حلول الشر، ولا يتمادى فى السرور عند مجىء الخير. ثم بين أن الإيمان يضىء القلب، ويشرح الصدر لخير العمل فقال: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ويشرح صدره، لازدياد الخير والمضي قدما فى طاعة الله، وأىّ نعمة أعظم من هذه النعمة؟ جدّ فى عمل الخير، واستراحة لدى الغم والحزن، واطمئنان للنفس، ووثوق بفضل الله. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي والله عليم بالأشياء كلها، فهو عليم بالقلوب وأحوالها ومطلع على سرها ونجواها، فاحذروه وراقبوه فى السر والعلن، كما جاء فى الأثر «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وأطيعوا الله فيما شرع، وأطيعوا رسوله فيما بلّغ، وافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى وزجر، فإن أعرضتم عن ذلك فإنما عليه أداء ما حمل من الرسالة، وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة، وهو قد أدى ما عليه، ولا يكلف شيئا بعد ذلك. (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي وحدوا الله وأخلصوا له العمل وتوكلوا عليه، ونحو الآية قوله: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» . وفى هذا إيماء إلى أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه، ولا يتقوّى إلا به، لأنه يعتقد أنه لا قادر فى الحقيقة إلا هو، وفيه حث لرسوله صلى الله عليه وسلم على التوكل

[سورة التغابن (64) : الآيات 14 إلى 18]

عليه. والتقوّى به فى أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه، وكأنها تشير إلى أن من لا يتوكل عليه فليس بمؤمن، وهى كالخاتمة والفذلكة لما تقدم. [سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) تفسير المفردات فتنة: أي بلاء ومحنة، ومن يوق: أي من يحفظ نفسه، والشح: البخل مع الحرص، والقرض الحسن: هو التصدق من الحلال بإخلاص وطيب نفس. المعنى الجملي بعد أن أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وذكر أن المؤمن ينبغى أن يتوكل على الله تعالى ولا يعتمد إلا عليه- ذكر هنا أن من الأولاد والزوجات أعداء لآبائهم وأزواجهم يثبطونهم عن الطاعة، ويصدونهم عن تلبية الدعوة لما فيه رفعة شأن الدين وإعلاء كلمته، فعليكم أن تحذروهم ولا تتبعوا أهواءهم حتى لا يكونوا إخوان

الإيضاح

الشياطين يزينون لكم المعاصي ويصدونكم عن الطاعة ثم أردف هذا ببيان أن الإنسان مفتون بماله وولده، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببهما، فغصب المال أو غيره لأجلهما، فعليه أن يتقى الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولينفق ذو سعة من سعته، فمن جاد بماله ووقى نفسه الشح فهو الفائز بخيرى الدنيا والآخرة، ومن أقرض الله قرضا حسنا فالله يضاعف له الحسنة بعشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف، وهو عالم بما يغيب عن الإنسان وما يشاهد، وهو العزيز الحكيم فى تدبير شئون عباده. أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ» فى قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا فى الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا» الآية. وفى رواية عنه أنه قال: كان الرجل يريد الهجرة فتحبسه امرأته فيقول: أما والله لئن جمع الله بينى وبينكم فى دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ، فجمع الله بينهم فى دار الهجرة فأنزل الله الآية. الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) أي أيها الذين صدّقوا الله ورسوله: إن من أزواجكم وأولادكم أعداء لكم يحولون بينكم وبين الطاعات التي تقربكم من ربكم، والأعمال الصالحة التي تنفعكم فى آخرتكم، وربما حملوكم على السعى فى اكتساب الحرام، واكتساب الآثام لمنفعة أنفسهم. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتى زمان على أمتى يكون فيه هلاك للرجل على يد زوجه وولده يعيّرانه بالفقر، فيركب مراكب السوء فيهلك» . ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم، ليكونوا فى عيش رغد فى حياته

وبعد مماته، فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك، وإن لم يطالبوه فيهلك. ومن المفسرين من حمل العداوة على العداوة الدنيوية وقالوا: إن الزوجات والأولاد ربما آذوا أزواجهم وآباءهم، وجرّعوهم الغصص والآلام، وربما جرّ ذلك إلى وضع السّم فى الدسم أو إلى قتلهم، وفى المشاهد أكبر عبرة لمن اعتبر. والخلاصة- إنه إما يراد بالعداوة، العداوة الأخروية، فإن الأزواج والأولاد ربما أضروا بأزواجهم وآبائهم فيها إذا منعوهم عن عمل الخير لها، وإما أن يراد العداوة فى الدنيا فتكون عداوة حقيقية بينهم لها آثارها الدنيوية. ثم أرشدهم إلى التجاوز عن بعض هناتهم فقال: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وإن تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة، وتصفحوا بالإعراض وترك التثريب عليها، وتغفروا بإخفائها، وتمهيد معذرتهم فيها، فهو خير لكم فإن الله رحيم بكم وبهم، ويعاملكم بمثل ما عاملتم ويتفضل عليكم. ثم أخبر سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي إنما حبكم لأموالكم وأولادكم ابتلاء واختبار، إذ كثيرا ما يترتب على ذلك الوقوع فى الآثام، وارتكاب كبير المحظورات. وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة كما قال: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» . أخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتى المال» . َ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر محبته وطاعته على محبة الأولاد وطاعتهم، فلا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم.

(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ابذلوا فى تقواه جهدكم وطاقتكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» . ونحو هذا ما جاء فى قوله: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي كونوا منقادين لما يأمركم الله ورسوله به، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا ترتكبوا ما نهيتم عنه. (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين وذوى الحاجات، وفى الوجوه التي يكون فيها صلاح الأمة والملة، وسعادة الدين والدنيا، وذلك خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وهذا حثّ على البذل، وبيان أن الامتثال خير لا محالة. ثم زاد فى الحث على الإنفاق فقال: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يبتعد عن البخل والحرص على المال- يكن من الفائزين بكل ما يرجو، ونيل كل ما يبغى فى دينه ودنياه، فيكون محببا إلى الناس، قرير العين برضاهم عنه وحنوّهم عليه، سعيدا فى الآخرة بالقرب من ربه ومحبته ورضوانه ودخول جناته. ثم بالغ فى الحث على الإنفاق أيضا فقال: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي إن تنفقوا فى طاعة الله متقرّبين إليه بإخلاص وطيب نفس- يضاعف لكم ذلك، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويستر لكم ما فرط من زلاتكم جاء فى الصحيحين: «إن الله يقول: من يقرض غير ظلوم ولا عديم» ؟ وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله: استقرضت عبدى فأبى أن يقرضنى، ويشتمنى عبدى وهو لا يدرى، يقول وا دهراه وا دهراه» وأنا الدهر ثم تلا أبو هريرة هذه الآية» أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه.

خلاصة ما حوته السورة

ونحو الآية ما جاء فى سورة البقرة: «فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» . ثم بيّن علة المضاعفة ورغّب فى النفقة فقال: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) فيثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه بعقوبته على كثرة الذنوب والخطايا. ثم ذكر ما يزيد فى الترغيب فى النفقة أيضا فقال: (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو العليم بما غاب عنكم وبما تشهدونه، فكل ما تعملون فهو محفوظ لديه فى أمّ الكتاب، لا يعزب عنه مثقال ذرة وسيثيبكم عليه ويجازيكم به أحسن الجزاء، وهو ذو العزة والقدرة، النافذ الإرادة، الحكيم فى تدبير خلقه على ما يعلم من المصلحة. خلاصة ما حوته السورة (1) صفات الله الحسنى. (2) إنذار المشركين بذكر ما حل بمن قبلهم من الأمم مع بيان السبب فيما نالهم من ذلك. (3) إنكار المشركين للبعث. (4) بيان أن ما يحدث فى الكون فهو بأمر الله وتقديره. (5) تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يضيره إصرارهم على الكفر. (6) إن من الأزواج والأولاد أعداء للمرء. (7) الأموال والأولاد فتنة وابتلاء. (8) الحث على التقوى والإنفاق فى سبيل الله.

سورة الطلاق

سورة الطلاق هى مدنية، وآيها ثنتا عشرة، نزلت بعد سورة الإنسان. ومناسبتها لما قبلها- أنه قال فى السورة السابقة: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ» وكانت هذه العداوة قد تفضى إلى الطلاق- أرشد هنا إلى أحكام الطلاق والانفصال عن الأزواج على أجمل وجه، فقال: [سورة الطلاق (65) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) شرح المفردات طلقتم النساء: أي أردتم طلاقهن كما جاء فى قوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» أي إذا أردت قراءته، لعدّتهن: أي مستقبلين عدتهن بأن تطلقوهن فى طهر لا قربان فيه، وأحصوا العدة: أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل، وأصل الإحصاء العدّ بالحصى كما كان يستعمل ذلك قديما ثم استعمل فى العدّ والضبط، والفاحشة المبينة: هى ارتكاب ما يوجب الحد، أو البذاء على الأحماء أو على الزوج، أو الخروج قبل انقضاء العدة، وحدود الله: شرائعه التي أمر بها ونهى عن تركها، ظلم نفسه: أي أضرّ بها، والأمر: هو الندم على طلاقها والميل إلى رجعتها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي أمر الله المؤمنين أن يطلقوا نساءهم فى الطهر الذي يحسب لهن من عدتهن، وهو الطهر الذي لا وقاع فيه، ولا يطلقوهن فى حيض لا يعتددن به من قروئهن، كما أمرهم بضبط العدة وحفظها، والخوف من تعدى حدود الله، وعدم إخراجهن من مساكنهن التي كنّ فيها قبل الطلاق حتى تنتهى عدتهن إلا أن يأتين بمعصية ظاهرة كالبذاء على الأحماء والأزواج، أو الخروج من الدار قبل انقضاء العدة، ومن يتعد هذه الحدود فقد ظلم نفسه وارتكب ما يضرها ويجعلها تندم على ما فعلت، ثم أبان حكمة الإبقاء فى البيوت، وهى سهولة مراجعتها لميل القلب إليها وتحوّله من بغض إلى محبة. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي أيها المؤمنون إذا أردتم طلاق نسائكم فطلقوهن لزمان محسوب من عدتهن، وهو طهر لا قربان فيه حتى لا يطول عليهن زمان العدة، فإن طلقتموهن فى زمان الحيض كان الطلاق طلاقا بدعيا حراما، والمراد بالنساء المدخول بهن من ذوات الأقراء، أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن، وذوات الأشهر سيأتى حكمهنّ فيما بعد. أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي فى آخرين عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهى حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» . وخص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، قاله فى الكشاف.

والخلاصة- إن السنة فى الطلاق أن تطلق المرأة وهى طاهرة دون أن يكون قد لامسها فى هذا الطهر، أو أن يطلقها وهى حامل حملا مستبينا، ومن هذا قسم الفقهاء الطلاق أقساما ثلاثة: (1) طلاق سنة، وهو أن يطلقها طاهرة من غير قربان، أو حاملا حملا قد استبان. (2) طلاق بدعة وهو أن يطلقها حين الحيض أو فى طهر قد واقعها فيه، فلا يدرى أحملت أم لا. والسر فى هذا أنه بعمله هذا أطال عليها العدة، لأن هذه الحيضة لا تحسب فى العدة، وكذا الطهر الذي بعدها، لأنها إنما تكون بثلاث حيضات كوامل. (3) طلاق لا هو بسنة ولا بدعة، وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها. وقد روى عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون ألا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضى العدة، وما كان أخسّ عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات. وقال مالك ابن أنس: لا أعرف طلاقا إلا واحدة، وكان يكره الثلاث متفرقة أو مجموعة. وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ما زاد على الواحدة فى طهر واحد. وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال: لا أعرف فى عدد الطلاق سنة ولا بدعة بل هو مباح. والخلاصة- أن مالكا يراعى فى طلاق السنة الواحدة والوقت، وأن أبا حنيفة يراعى التفريق والوقت، والشافعي يراعى الوقت وحده. (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي واحفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها لئلا تطول على المرأة. واحفظوا الأحكام والحقوق التي تجب فيها. وإنما خوطب الأزواج بذلك دون النساء، لأنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن المرتبة عليه.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) أي واخشوا الله ربكم، فلا تعصوه فيما أمركم به من الطلاق لعدتهن، وفى القيام بما للمعتدات من حقوق. وفى وصفه تعالى بالربوبية مبالغة فى وجوب الامتثال لأمره، لما فى لفظ الرب من التربية التي هى الإنعام والإكرام على ضروب لا حصر لها. ثم بيّن بعض هذه الحقوق فقال: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق، غضبا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لكم إلى المساكن، لأن تلك السكنى حق الله تعالى أوجبه للزوجات، فليس لكم أن تتعدوه إلا لضرورة، كانهدام المنزل أو الحريق أو السيل أو خوف الفتنة فى الدين. (وَلا يَخْرُجْنَ) أي لا تأذنوا لهن فى الخروج إذا طلبن ذلك، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن، إذ السكنى فى البيوت حق الشرع، فلا يسقط بالإذن، فإن خرجن ليلا أو نهارا كان ذلك الخروج حراما ولا تنتهى العدة. ثم استثنى من لزوم المكث فى البيوت ما إذا دعت الضرورة إلى الإخراج فقال: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا يخرجن إلا إذا فعلن ما يوجب حدّا من زنا أو سرقة أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيّب، أو يبذون على الأحماء أو الأزواج، فيحل إخراجهن من بيوتهن لبذائهن، وسوء خلقهن، أو خرجن متحولات عن منازلهن اللاتي يجب عليهن أن يكملن العدة فيها، فأىّ ذلك فعلن فللأزواج إخراجهن من البيوت، لإتيانهن بالفاحشة الواضحة التي ارتكبنها. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي هذه الأمور التي بينتها لكم من الطلاق للعدة، وإحصاء العدة، والأمر باتقاء الله، وألا تخرج المطلقة من بيتها إلا أن تأتى بفاحشة مبينة- هى حدود الله التي حدها لكم، فلا تتعدوها. ثم بين عاقبة تجاوز تلك الحدود فقال:

تنبيه

(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي ومن يتجاوز ما شرع الله لعباده من شرائع، وما أبيح له إلى ما لم يبح فقد ظلم نفسه وأضرّ بها من حيث لا يدرى. ثم بين علة هذا الضرر فقال: (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي لا تعلم أيها المرء أن الله يقلب القلوب، فيجعل فى قلبك محبة لها، فتندم على فراقها، وتود الرجعة إليها، فلا يتسنى لك ذلك، لأن الفرصة تكون قد ضاعت، وما جرّ ذلك عليك إلا تعدى حدود الله. والخلاصة- إن من يتعدّ حدود الله فقد أساء إلى نفسه، فإنه لا يدرى عاقبة ما هو فاعل، فلعل الله يحدث فى قلبه بعد ذلك الذي فعل من التعدي- أمرا يدعو إلى عكس ما فعل، فيبدّل البغض محبة، والإعراض إقبالا، ولا يتسنى له تلافى ذلك برجعة أو استئناف نكاح فتضيع الفرصة ويندم، ولات ساعة مندم. تنبيه الشريعة الإسلامية- وإن أباحت الطلاق- بغّضت فيه وقبحته وبينت أنه ضرورة لا يلجأ إليها إلا بعد استنفاد جميع الوسائل لبقاء رباط الزوجية الذي حبّبت فيه وجعلته من أجلّ النعم، فرغّبت فى إرسال حكم من أهله وحكم من أهلها قبل حدوث الطلاق، لعلهما يزيلان ما بين الزوجين من نفور، كما رغبت فى أن تكون الطلقات الثلاث متفرقات، لعل النفوس تصفو بعد الكدر، والقلوب ترعوى عن غيها، ولعلهما يندمان على ما فرط منهما فتكون الفرصة مواتية، ويمكن الرجوع إلى ما كانا عليه، بل قد يعودان إلى حال أحسن مما كانا. روى أبو داود عن محارب بن دثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .

[سورة الطلاق (65) : الآيات 2 إلى 3]

وعن أبى موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله عز وجل لا يحب الذوّافين ولا الذواقات» . وعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به، حرّم الله عليها رائحة الجنة» أخرجه أبو داود والترمذي. [سورة الطلاق (65) : الآيات 2 الى 3] فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) شرح المفردات فإذا بلغن أجلهن: أي قاربن انتهاء العدة، فأمسكوهن: أي فراجعوهن، بمعروف: أي مع حسن عشرة، أو فارقوهن بمعروف: أي مع إعطاء الحق واتقاء المضارة: كأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة، بالغ أمره: أي منفذ حكمه وقضاءه فى خلقه يفعل ما يشاء، قدرا: أي تقديرا وتوقيتا. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه بإيقاع الطلاق واحدة فواحدة ومنع الخروج من المنزل والإخراج منه إلا إذا أتين بفاحشة مبينة، ونهى عن تعدى تلك الحدود حتى لا يحصل الضرر والندم- خيّر الرجل إذا شارفت عدة امرأته على الانتهاء بين أمرين:

الإيضاح

(1) إما أن يراجعها ويعاشرها بإحسان. (2) وإما أن يفارقها مع أداء حقوقها التي لها مع التفضل والإكرام. فإذا اختار الرجعة فليشهد على ذلك شاهدين عدلين قطعا للنزاع، ودفعا للريبة. ثم أبان أن هذه الأحكام إنما شرعت للفائدة والمصلحة. وأرشد إلى أن تقوى الله تفتح السبل للمرء وتخرجه من كل ضيق، وتهديه إلى الطريق المستقيم فى دينه ودنياه، وأن من يتوكل على ربه، يكفيه ما أهمه، ويفرّج عنه كربه. ثم ذكر أن أمور الحياة جميعا بقضاء الله وقدره، فلا يجزع المؤمن مما يصيبه من النوائب، ولا يفرح ويبطر بما يناله من خيراتها. الإيضاح (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي فإذا قاربت العدة على الانتهاء، فإن شئتم فأمسكوهن وراجعوهن مع الإحسان فى الصحبة وحسن العشرة، وأداء الحقوق من النفقة والكسوة، وإن صممتم على المفارقة فلتكن بالمعروف وعلى وجه لا عنف فيه ولا مشاكسة، مع إيفاء ما لهنّ من حقوق لديكم كمؤخر صداق، وإعطاء متعة حسنة تذكركن بفصلها، ويتحدث الناس بحسن أحدوثتها، ويكون فيها جبر لخاطرهن، لما لحقن من ضرر بالفرق، وليكون فيها بعض السلوة لهن عما فقدنه من العشير والأنيس. ثم بين ما يحسن إذا أردوا الرجعة فقال: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي وأشهدوا على الرجعة إن اخترتموها شاهدين من ذوى العدالة، حسبما للنزاع فيما بعد، إذ ربما يموت الزوج فيدعى الورثة أن مورثهم

لم يراجع زوجته، ليمنعوها ميراثها، ودفعا للقيل والقال وتهمة الريبة، ومخافة أن تنكر المرأة الرجعة لتقضى عدتها، وتنكح زوجا غيره. وهذا الإشهاد واجب عند الشافعي حين الرجعة، مندوب حين الفرقة، ويرى أبو حنيفة أن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق. ثم خاطب الشهود زجرا لهم فقال: (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي واشهدوا على الحق إذا استشهدتم، وأدوا الشهادة على الصحة إذا أنتم دعيتم إلى أدائها. وإنما حث على أداء الشهادة، لما قد يكون فيه من العسر على الشهود، إذ ربما يؤدى ذلك إلى أن يترك الشاهد مهامّ أموره، ولما فيها من عسر لقاء الحاكم الذي تؤدّى عنده، وقد يبعد المكان، أو يكون للشاهد عوائق تحول بينه وبين أدائها. (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي هذا الذي أمرتكم به، وعرفتكم عنه من أمر الطلاق، والواجب لبعضكم على بعض حين الفراق أو الإمساك، عظة منا لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ليعمل على نهجها وطريقتها. ثم أتى بجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتى، لتأكيد ما سبق من الأحكام والخروج من مشاكلها بعد اتقاء الله فقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي ومن يخش الله فلا يطلق المرأة فى الحيض حتى لا تطول عدتها ولا يضارّ المعتدة فلا يخرجها من مسكنها، ويحتاط بالإشهاد حين الرجعة- يجعل الله له مخلصا مما عسى أن يقع فيه من الغم ويفرج عنه ما يعتريه من الكرب، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله ولا يحتسبها. والخلاصة- من اتقى الله جعل له مخلصا من غم الدنيا وهمّ الآخرة وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة.

روى عن ابن عباس أنه قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن ابني أسره العدو وجزعت أمه، فبم تأمرنى؟ قال آمرك وإياها أن تستكثرا من قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه، فنزلت هذه الآية» أخرجه ابن مردويه. وفى الآية إيماء إلى أن التقوى ملاك الأمر عند الله، وبها نيطت السعادة فى الدارين وإلى أن الطلاق من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى، إذ هو أبغض الحلال إلى الله لما يتضمنه من إيحاش الزوجة وقطع الألفة بينها وبين زوجها، ولما فى الاحتياط فى العدة من المحافظة على الأنساب وهى من أجّل مقاصد الدين، ومن ثم شدّد فى إحصاء العدة حتى لا تختلط ويكون أمرها فوضى. وروى عن ابن مسعود أنه قال: إن أجمع آية فى القرآن: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ» وإن أكبر آية فى القرآن فرجا: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» . (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي ومن يكل أمره إلى الله ويفوض إليه الخلاص منه- كفاه ما أهمه فى دنياه ودينه، والمراد بذلك أن العبد يأخذ فى الأسباب التي جعلها الله من سننه فى هذه الحياة، ويؤديها على أمثل الطرق، ثم يكل أمره إلى الله فيما لا يعلمه من أسباب لا يستطيع الوصول إلى علمها، وليس المراد أن يلقى الأمور على عواهنها، ويترك السعى والعمل ويفوض الأمر إلى الله، فما بهذا أمر الدين بدليل قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل» إلى نحو ذلك مما هو مستفيض فى الكتاب والسنة. وروى عن ابن عباس «أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال

[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 إلى 5]

له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام إنى معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك، لم ينغعوك إلا بشىء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشىء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف» . ثم ذكر السبب فى وجوب التوكل عليه فقال: (إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شىء قدرا) أي إن الله تعالى منفذ أحكامه فى خلقه بما يشاء، وقد جعل لكل شىء مقدارا ووقتا، فلا تحزن أيها المؤمن إذا فاتك شىء مما كنت تؤمل وترجو، فالأمور مرهونة بأوقاتها، ومقدرة بمقادير خاصة كما قال: «وكلّ شىء عنده بمقدار» . [سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) المعنى الجملي بعد أن ذكر أن الطلاق السنىّ إنما يكون فى طهر لا وقاع فيه، ولم يبين مقدار العدة وكان قد ذكر فى سورة البقرة التي نزلت قبل هذه أن عدة الحائض ثلاثة قروء ذكر هنا عدة الصغار اللاتي لم يحضن، والكبار اللائي يئسن من الحيض، وأنها ثلاثة

الإيضاح

أشهر، وعدة الحامل وأنها تكون بوضع الحمل سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها. أخرج الحاكم والبيهقي فى جماعة آخرين عن أبىّ بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت آية البقرة فى عدة النساء قالوا لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر فى القرآن، الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل فأنزل الله تعالى فى سورة النساء القصرى: «وَاللَّائِي يَئِسْنَ» الآية. وروى أن قوما منهم أبىّ بن كعب وخلاد بن النعمان «لما سمعوا قوله تعالى: «وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» قال: يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت: «وَاللَّائِي يَئِسْنَ» الآية. الإيضاح (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي واللائي بلغن سنّ اليأس فانقطع حيضهن لكبرهن بأن بلغن سن الخامسة والخمسين فما فوقها فعدتهن ثلاثة أشهر، وكذا الصغار اللواتى لم يحضن، إن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن وما قدرها. (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) أي وعدة الحوامل أن يضعن حملهنّ سواء كنّ مطلقات أو متوفى عنهنّ أزواجهنّ كما روى عن عمر وابنه، فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبى شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهى حامل فقال: إذا وضعت حملها فقد حلّت، فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن حلّت، وهكذا روى عن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه أنه قال: من شاء لا عنته أن الآية التي فى النساء القصرى «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ» الآية نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا، وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 إلى 7]

وروى أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفى عنها فى حجة الوداع وهى حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما، فاختضبت واكتحلت وتزينت تريد الزواج، فأنكر ذلك عليها، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن تفعل فقد خلا أجلها» . (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي ومن يخف الله ويرهبه، فيؤدى فرائضه ويجتنب نواهيه- يسهل عليه أموره، ويجعل له من كل ضيق فرجا، وينر له طريق الهدى فى كل ما يعرض له من المشكلات، فإن فى قلب المؤمن نورا يهديه إلى حلّ عويصات الأمور. وفى الآية إيماء إلى فضيلة التقوى فى أمور الدنيا والآخرة، وأنها المخرج من كل ضيق يعرض للمرء فيهما. (ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي هذا الذي شرع لكم من الأحكام السالفة فى الطلاق والسكنى والعدة- هو أمر الله الذي أمركم به وأنزله إليكم لتأتمروا به، وتعملوا وفق نهجه. ثم كرر الأمر بالتقوى لأنها ملاك الأمر وعماده فى الدنيا والآخرة فقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي ومن يخف الله فيؤدّ فرائضه ويجتنب نواهيه- يمح عنه ذنوبه كما وعد بذلك فى كتابه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» ويجزل له الثواب على يسير الأعمال. [سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7] أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

شرح المفردات

شرح المفردات من وجدكم: أي من وسعكم، وقال الفراء: أي على قدر طاقتكم، ولا تضاروهن: أي فى النفقة والسكنى، لتضيقوا عليهن: أي لتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه، ائتمروا: أي تآمروا وتشاوروا، بمعروف: أي بجميل فى الأجر والإرضاع، فلا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة، وإن تعاسرتم: أي ضيق بعضكم على بعض بالمشاقة فى الأجر أو يطلب الزيادة، قدر عليه: أي ضيق، آتاه الله: أي أعطاه، ما آتاها: أي إلا بقدر ما أعطاها من الأرزاق قلّ أو جلّ. المعنى الجملي بعد أن ذكر مقدار العدة للصغار والكبار والحوامل- أرشد إلى ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة، ثم أردف ذلك ببيان أن الحوامل لهنّ النفقة والسكنى مدة الحمل بالغة ما بلغت، فإذا هنّ ولدن وجب لهنّ الأجر على إرضاع المولود فإن لم يتفقا عليه أتى بمرضع أخرى يدفع الأب نفقتها، والأم أحق بالإرضاع إذا هى رضيت بمثل أجرتها، والنفقة لكل من الموسر والمعسر على قدر ما يستطيع، فالله لا يكلف نفسا إلا ما تطيق. الإيضاح (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) أي أسكنوا مطلقات نسائكم فى الموضع الذي تسكنون فيه على مقدار حالكم، فإن لم تجدوا إلا حجرة بجانب

حجرتكم فأسكنوها فيها، وإنما أمر الرجال بذلك، لأن السكنى نوع من النفقة وهى واجبة على الأزواج. ثم نهى عن مضارّة المطلقات فى السكنى فقال: (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) أي ولا تستعملوا معهن الضرار فى السكنى بشغل المكان أو بإسكان غيرهنّ معهنّ ممن لا يحببن السكنى معه، لتلجئوهنّ إلى الخروج من مساكنهن. ثم بيّن نفقة الحوامل فقال: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) لأنه بالوضع تنقضى العدة، وهذا حكم المطلقة طلقة بائنة، أما المطلقة طلقة رجعية فتستحق النفقة وإن لم تكن حاملا. وقال أبو حنيفة: تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة وإن لم تكن ذات حمل لما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى المبتوتة: «لها النفقة والسكنى» ، لأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحامل وغيرها. ثم بين حكم إرضاع الطفل بعد ولادته فقال: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي فإن أرضعن لكم وهنّ طوالق قد بنّ بانقضاء عدتهنّ، فلهنّ حينئذ أن يرضعن الأولاد ولهنّ أن يمتنعن، فإن أرضعن فلهنّ أجر المثل ويتفقن مع الآباء أو الأولياء عليه. وفى هذا إيماء إلى أن حق الرضاع والنفقة للأولاد على الأزواج، وحق الإمساك والحضانة على الزوجات. (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي وتشاوروا فيما بينكم أيها الآباء والأمهات فى شئون الأولاد بما هو أصلح لهم فى أمورهم الصحية والخلقية والثقافية، ولا تجعلوا المال عقبة

فى سبيل إصلاحهم، ولا يكن من الآباء مما كسة فى الأجر وسائر النفقات، ولا من الأمهات معاسرة وإحراج للآباء، فالأولادهم فلذات أكبادهم، فليحافظوا عليهم جهد المستطاع. ثم أرشد إلى ما يجب أن يعمل إذا لم يحصل الوفاق بين الأبوين فى الإنفاق فقال: (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي وإن ضيق بعضكم على بعض بأن شاحّ الأب فى الأجر، أو اشتطت الأم فى طلب زيادة لا يؤديها أمثاله، فليحضر الأب مرضعا أخرى تقوم بالإرضاع، فإن رضيت الأم بمثل ما استؤجرت به الأجنبية فهى أحق بولدها. وفى الآية إيماء إلى معاتبة الأم، فهو كقولك لمن تطلب منه حاجة فيتوانى فى قضائها: إن لم تقضها فسيقضيها غيرك، وكأنه قال له: إنها ستقضى وأنت ملوم. وإنما خص الأم بالعتاب، لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، وهو ليس بمال ولا مما يضنّ به فى العرف ولا سيما من الأم، والمبذول من جهة الأب هو المال وهو مضنون به فى العادة، فهى إذا أجدر باللوم وأحق بالعتب. هذا إذا قبل الولد ثدى مرضع أخرى، فإن لم يقبل إلا ثدى الأم وجب عليها الإرضاع. ثم بين مقدار الإنفاق بقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي لينفق الولد على المرضع التي طلّقت منه بقدر سعته وغناه. (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) أي ومن كان رزقه بمقدار القوت فحسب فلينفق على مقدار ذلك. (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي لا يكلف الله أحدا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم إلا بمقدار ما آتاه من الرزق، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنى.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 إلى 11]

ونحو الآية قوله: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» . ثم بين أن الأرزاق تتحول من عسر إلى يسر والعكس بالعكس فقال: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي سيجعل الله بعد شدة رخاء، ومن بعد ضيق سعة، ومن بعد فقر غنى، فالدنيا لا تدوم على حال كما قال سبحانه: «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» . وهذا كالبشرى للمؤمنين الذين كان يغلب عليهم الفقر والفاقة فى ذلك الحين. [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 11] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) شرح المفردات وكأين من قرية: أي كثير من أهل القرى، عتت: أي تجبرت وتكبرت، نكرا: أي منكرا عظيما، وبال أمرها: أي عاقبة عتوّها، خسرا: أي خسارة فى الآخرة، ذكرا: أي قرآنا، رسولا: أي وأرسل رسولا.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر بأن الطلاق لا يكون إلا فى أوقات خاصة، وبأنه يجب انقضاء العدة حتى تحل المرأة لزوج آخر، وذكر مدة العدة وما يجب للمعتدة من النفقة والكسوة، ونهى عن تجاوز حدود الله، وأن من يتجاوزها يكون قد ظلم نفسه توعد هنا من خالفوا أمره، وكذبوا رسله، وسلكوا غير ما شرعه، وأنذرهم بأن يحل بهم مثل ما حل بالأمم السالفة التي كذبت رسلها، فأخذها أخذ عزيز مقتدر، وأصبحت كأمس الدابر وصارت مثلا فى الآخرين. الإيضاح (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي وكثير من أهل القرى خالفوا أمر ربهم، فكذبوا الرسل الذين أرسلوا إليهم ولّجوا فى طغيانهم يعمهون، فحاسبناهم حسابا عسيرا، فاستقصينا عليهم ذنوبهم، وناقشناهم على النقير والقطمير، وعذبناهم عذابا نكرا فى الآخرة، وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق كما فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» . ثم بين أن هذا جزاء ما كسبت أيديهم فقال: (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي فجنت ثمار ما غرست أيديها ولا يجنى من الشر إلا الشر كما جاء فى أمثالهم: إنك لا تجنى من الشوك العنب. فكان عاقبة أمرها الخسران والنكال الذي لا يقدر قدره. ثم أكد هذا الوعيد بقوله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي هيأ الله لهم العذاب المرتقب، لتماديهم فى طغيانهم وإعراضهم عن اتباع الرسل فيما جاءوا به من عند ربهم. ثم نبه المؤمنين إلى تقوى الله حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم فقال:

[سورة الطلاق (65) : آية 12]

(فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي فخافوا أيها المؤمنون عقاب الله، فأنتم أصحاب العقول الراجحة، والفطر السليمة، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم، وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ثم بين ما يكون مذكرا لهم وداعيا لتقوى الله فقال: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي قد أنزل الله إليكم يا ذوى البصائر ذكرا لكم وهو القرآن الكريم يذكركم به، لتستمسكوا بحبله المتين وتعملوا بطاعته وأرسل إليكم رسولا يتلو عليكم آيات هذا الكتاب الذي أنزل عليه، وهى واضحات لمن تدبرها وعقلها، كى يخرج من لديه استعداد للهدى من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إذا هو أنعم فى النظر فيها، وأجال الفكر فى أسرارها ومغازيها، فهى النبراس الساطع، والضوء اللامع، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ثم بين جزاء الإيمان والعمل الصالح فقال. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً) أي ومن يصدق بالله وعظيم قدرته، وبديع حكمته، ويعمل بطاعته- يدخله بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها، وقد وسع الله لهم فيها الأرزاق من مطاعم ومشارب مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. [سورة الطلاق (65) : آية 12] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أنذر سبحانه مشركى مكة بأنهم إن لم يتبعوا أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم يحل بساحتهم مثل ما حل بسائر الأمم قبلهم ممن كذبوا رسلهم وعتوا عن أمر ربهم فاستؤصلوا وبادوا فى الدنيا، وسيحل بهم العذاب الذي لا مرد له فى الآخرة- ذكر هنا عظيم قدرته وسلطانه، وبديع خلقه للعالم العلوي والسفلى ليكون ذلك باعثا على اتباع ما شرع من الدين، واستجابة دعوة الرسول، والعمل بما أنزل عليه من تشريع فيه سعادة الدارين. الإيضاح (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي الله هو الذي خلق السموات السبع وخلق مثلهن فى العدد من الأرضين. وهذا الأسلوب فى اللغة لا يفيد الانحصار فى السبعة، وإنما يفيد الكثرة، فالعرب تعنى فى كلامها بذكر السبعة والسبعين والسبعمائة الكثرة فحسب ويؤيد هذا أن علماء الفلك فى العصر الحاضر قالوا: إن أقل عدد ممكن من الأرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نسميها نجوما لا يقل عن ثلاثمائة مليون أرض، ولا شك أن هذا قول هو بالظن أشبه منه باليقين. روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن فى الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة» . وروى عن مجاهد عن ابن عباس فى قوله تعالى: «سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» الآية قوله: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها.

ما تضمنته هذه السورة من الشئون

وهذا من الحبر دليل على أن هناك عوالم كثيرة لا يجدر بالعلماء أن يحدثوا عنها العامة، فإن عقولهم تضل فى فهمها، فلتبق فى صدور العلماء وأهل الذكر حتى لا يفتنوا بها. (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي يجرى أمر الله وقضاؤه وقدره بينهن، وينفذ حكمه فيهن، فهو يدبر ما فيها وفق علمه الواسع، وحكمته فى إقامة نظمها، بحسب العدل والمصلحة. أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة قال: «فى كل سماء وفى كل أرض خلق من خلقه تعالى، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه عز وجل» . (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) أي ينزل قضاء الله وأمره بين ذلك، كى تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه، وأنه لا يتعذر عليه شىء أراده، ولا يمتنع عليه أمر شاءه، فهو على ما يشاء قدير، ولتعلموا أن الله بكل شىء من خلقه محيط علما لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو قادر على ذلك، ومحيط بأعمالكم لا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم، ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس بما كسبت. ما تضمنته هذه السورة من الشئون اشتملت هذه السورة على أحكام شرعية، ومناهج دينية، وفتاوى إسلامية، وضعت لإقامة العدل بين الخلق وما أهل الأرض ولا أحكامهم ولا شرائعهم ولا دياناتهم إلا لمحة من نور العدل العام، وقبضة من فيضه، وزهرة من شجرته، فإن قضى القضاة على كراسى الحكم بين العباد، فأعطوا زيدا ما يجب على عمرو، وقالوا للحامل عدتك وضع الحمل، فكم بين السموات والأرض من قضاء فى هذا

الفضاء الواسع الصامت لفظا، الناطق معنى، وكم من حكم بيننا نرى أثره، ولا نسمع النطق به، نرى الشمس محكوما عليها أن تطلع من مواضع فى المشرق، وتغيب فى مواضع فى المغرب لا تجوزها، ونرى الرياح محكوما عليها، والسحب مأمورة، والأنهار جارية، والمزارع قد حكم عليها أن تكون فى زمن خاص، وأمكنة خاصة فليس للقطن أن ينبت فى البلاد الباردة، ولا أن يثمر فى زمن الشتاء، ولا للنخل أن يثمر إلا بعد عدد من السنين، وكل ذلك حكم لمصلحة الناس، وسعادتهم فى دنياهم. فانظر أىّ الحكمين أكثر منفعة؟ أحكم لمصلحة أشخاص متنازعين، أم حكم لسعادة هؤلاء المتنازعين من كل أهل ملة ودين؟.

سورة التحريم

سورة التحريم هى مدنية، وآيها ثنتا عشرة، نزلت بعد الحجرات. ومناسبتها لما قبلها: (1) أن سورة الطلاق فى حسن معاشرة النساء والقيام بحقوقهن، وهذه السورة فيما حصل منهن مع النبي صلى الله عليه وسلم تعليما لأمته أن يحذروا أمر النساء، وأن يعاملوهن بسياسة اللين كما عاملهن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن ينصحوهن نصححا مؤثّرا. (2) أن كلتيهما افتتحا بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. (3) أن تلك فى خصام نساء الأمة، وهذه فى خصومة نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أفردن بالذكر تعظيما لمكانتهن. [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)

شرح المفردات

شرح المفردات تحرّم: أي تمتنع، ما أحل الله لك: هو العسل، تبتغى: أي تطلب، فرض: أي شرع وبيّن كما جاء فى قوله: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها» ، وتحلة أيمانكم: أي تحليلها بالكفارة، وتحليلة القسم تستعمل على وجهين: (1) أحدهما تحليله بالكفارة كما فى الآية. (2) ثانيهما بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر كما جاء فى الحديث: «لن يلج النار إلا تحلة القسم» أي إلا زمنا يسيرا. مولاكم: أي وليكم وناصركم، بعض أزواجه: هى حفصة على المشهور، نبأت به: أي أخبرت عائشة به، وأظهره: أي أطلعه وأعلمه قول حفصة لعائشة، عرّف: أي أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته، وأعرض عن بعض: أي لم يخبرها به، إن تتوبا: أي حفصة وعائشة، صغت قلوبكما: أي عدلت ومالت إلى ما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال، وإن تظاهرا عليه: أي تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول، مولاه: اى وليه وناصره، ظهير: أي ظهراء معاونون، وأنصار مساعدون، مسلمات: أي خاضعات لله بالطاعة، مؤمنات: أي مصدّقات بتوحيد الله، مخلصات، قانتات: أي مواظبات على الطاعة، تائبات: أي مقلعات عن الذنوب، عابدات: أي متعبدات متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، سائحات. أي صائمات، وسمى الصائم بذلك من حيث إن السائح لا زاد معه، ولا يزال ممسكا حتى يجد الطعام كالصائم لا يزال كدلك حتى يجىء وقت الإفطار.

المعنى الجملي

المعنى الجملي روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، وكان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فلتقل له: إنى أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير (صمغ حلوله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط يكون بالحجاز) ، فقال لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا. وقد كانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال إن التي دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وحرّم على نفسه العسل أمامها هى حفصة فأخبرت عائشة بذلك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتمها الخبر كما استكتمها ما أسرّها به من الحديث الذي يسرّها ويسر عائشة، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتى من بعدي، فالسر كان لها بأمرين: (1) تحريم العسل الذي كان يبغيه عند زينب. (2) أمر الخلافة لأبويهما من بعده. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ؟) أي يا أيها النبي لم تمتنع عن شرب العسل الذي أحله الله لك، تلتمس بذلك رضا أزواجك؟ وهذا عتاب من الله على فعله ذلك، لأنه لم يكن عن باعث مرضى، بل كان طلبا لمرضاة الأزواج. وفى هذا تنبيه إلى أن ما صدر منه لم يكن مما ينبغى لمقامه الشريف أن يفعله.

وفى ندائه صلى الله عليه وسلم بيا أيها النبي فى مفتتح العتاب حسن تلطف، وتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام، على نحو ما جاء فى قوله: «عفا الله عنك لم أذنت لهم؟» . (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي والله غفور لذنوب التائبين من عباده، وقد غفر لك امتناعك عما أحله لك، رحيم بهم أن يعاقبهم على ما تابوا منه من الذنوب. وإنما عاتبه على الامتناع عن الحلال وهو مباح سواء كان مع اليمين أو بدونه، تعظيما لقدره الشريف، وإجلالا لمنصبه أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله به، وإيماء إلى أن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي يعدّ كالذنب وإن لم يكن فى نفسه كذلك. (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي قد شرع لكم تحليل أيمانكم بالكفارة عنها، فعليك أن تكفر عن يمينك. وقد روى «أنه عليه الصلاة والسلام كفر عن يمينه فأعتق رقبة (عبدا أو أمة) » . (وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ) أي والله متولى أموركم بنصركم على أعدائكم، ومسهل لكم سبل الفلاح فى دنياكم وآخرتكم، ومنير لكم طريق الهداية إلى ما فيه سعادتكم فى معاشكم ومعادكم. (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي وهو العليم بما يصلحكم فيشرعه لكم، الحكيم فى تدبير أموركم، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا وفق ما تقتضيه المصلحة. ثم ساق ما هو كالدليل على علمه فقال: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي واذكر حين أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة أنه كان يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، وقال لن أعود له وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا، فلما أخبرت عائشة بما استكتمها من السر، وأطلعه الله على ما دار بين حفصة وعائشة بما كان قد طلب من حفصة أن تكتمه- أخبر حفصة

ببعض الحديث الذي أفشته وهو قوله لها: كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود، وأعرض عن بعض الحديث وهو قوله وقد حلفت، فلم يخبرها به تكرما منه لما فيه من مزيد خجلتها، ولأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يود أن يشاع عنه اهتمامه بمرضاة أزواجه إلى حد امتناعه عن تناول ما أحل الله له. (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي فلما أخبر حفصة بما دار بينها وبين عائشة من الحديث، قالت من أنبأك بهذا؟ ظمّا منها أن عائشة قد فضحتها بإخبارها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخبرنى ربى العليم بالسر والنجوى الخبير بما فى الأرض والسماء لا يخفى عليه شىء فيهما. وفى الآية إيماء إلى أمور اجتماعية هامة: (1) أنه لا مانع من الإباحة بالأسرار إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق. (2) أنه يجب على من استكتم الحديث أن يكتمه. (3) أنه يحسن التلطّف مع الزوجات فى العتب والإعراض عن الاستقصاء فى الذنب. ثم وجه الخطاب لحفصة وعائشة مبالغة فى العتب فقال: (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي إن تتوبا من ذنبكما وتقلعا عن مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم فتخبّا ما أحب وتكرها ما كرهه- فقد مالت قلوبكما إلى الحق والخير، وأديتما ما يجب عليكما نحوه صلى الله عليه وسلم من إجلال وتكريم لمنصبه الشريف. روى عن ابن عباس أنه قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضى الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله لهما «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ» الآية. حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق نزل ليتوضأ فصببت على يديه، فقلت يا أمير المؤمنين: من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان

قال الله لهما «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ» الآية؟ فقال وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث. ثم ذكر سبحانه أنه حافظه وحارسه فلا يضره أذى مخلوق فقال: (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي وإن تتعاونا على العمل لما يؤذيه ويسوؤه من الإفراط فى الغيرة وإفشاء سره- فلن يضره ذلك شيئا، فإن الله ناصره فى أمر دينه وسائر شئونه على كل من يتصدى لما يكرهه، وجبريل والمؤمنون الصالحون والملائكة مظاهرون له ومعينون. وقد أعظم سبحانه شأن النصرة لنبيه على هاتين الضعيفتين، للإشارة إلى عظم مكر النساء، وللمبالغة فى قطع أطماعهما بأنه ربما شفع لهما مكانتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند المؤمنين لأمومتهما لهم، وكرامة له صلى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما، ولتوهين أمر تظاهرهما، ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره فى أمر النبوة، وقهر أعداء الدين، إذ قد جرت العادة بأن الشئون المنزلية تشغل بال الرجال وتضيع زمنا من تفكيرهم فيها، وقد كانوا أحق به فى التفكير فيما هو أجدى نفعا، وأجلّ فائدة. ثم حذرهما بما يلين من قناتهما، ويخفض من غلوائهما، ويطمئن من كبريائهما فقال: (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي عسى الله أن يعطيه (صلى الله عليه وسلم) بدلكن أزواجا خيرا منكنّ إسلاما وإيمانا، ومواظبة على العبادة، وإقلاعا عن الذنوب، وخضوعا لأوامر الرسول، بعضهنّ ثيبات وبعضهنّ أبكارا، إن هو قد طلقكنّ.

[سورة التحريم (66) : الآيات 6 إلى 8]

والخلاصة- احذرن أيتها الأزواج من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والتألب عليه، والعمل على ما يسوؤه، فإنه ربما أخرج صدره فطلقكنّ فأبدله الله من هو خير منكنّ فى الدين والصلاح والتقوى، وفى الشئون الزوجية. فأعطاه بعضهنّ أبكارا وبعضهنّ ثيبات. ولا شىء أشد على المرأة من الطلاق. ولا سيما إذا استبدل خير منها بها. روى البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فى الغيرة عليه، فقلت: عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ فنزلت هذه الآية. وروى عن أنس عن عمر قال: بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهنّ إياه، فاستقريتهنّ امرأة أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكنّ حتى أتيت على زينب، فقالت يا ابن الخطاب: أما فى رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأمسكت، فأنزل الله: «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» الآية. [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

شرح المفردات

شرح المفردات قوا أنفسكم: أي اجعلوا لها وقاية من النار بترك المعاصي، وأهليكم: أي بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب، والوقود (بفتح الواو) : ما توقد به النار، والحجارة: هى الأصنام التي تعبد لقوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» ملائكة: هم خزنتها التسعة عشر، غلاظ: أي غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا، شداد: أي أقوياء الأبدان، والتوبة النصوح: هى الندم على مافات والعزم على عدم العودة إلى مثله فيما هو آت. المعنى الجملي بعد أن أمر بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة عما فرط من الزلات، وأبان لهم أن الله كالئ رسوله وناصره، فلا يضره تظاهرهن عليه، ثم حذرهن من التمادي فى مخالفته صلى الله عليه وسلم خوفا من الطلاق وحرمانهم من الشرف العظيم بكونهنّ أمهات المؤمنين ومن استبدالهنّ بغيرهنّ من صالحات المؤمنات- أمر المؤمنين عامة بوقاية أنفسهم وأهليهم من نار وقودها الناس والحجارة يوم القيامة، يوم يقال للكافرين: لا تعتذروا فقد فات الأوان، وإنما تلقون جزاء ما عملتم فى الدنيا، ثم أمر المؤمنين أن يقلعوا عن زلاتهم، وأن يتوبوا توبة نصوحا، فيندموا على ما فرط منهم من الهفوات، ويعزموا على عدم العودة فيما هو آت، ليكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي أيها الذين صدّقوا الله ورسوله: ليعلم بعضكم بعضا ما تتقون به النار وتدفعونها عنكم، إنه طاعة الله تعالى وامتثال أوامره، ولتعلّموا أهليكم من العمل بطاعته ما يقون به أنفسهم منها، واحملوهم على ذلك بالنصح والتأديب. ونحو الآية قوله تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» وقوله: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» . روى أن عمر قال حين نزلت يا رسول الله: نقى أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ فقال عليه السلام «تنهونهن عما نهاكم الله عنه، وتأمرونهن بما أمركم الله به، فيكون ذلك وقاية بينهم وبين النار» . أخرج ابن المنذر والحاكم فى جماعة آخرين عن علىّ كرم الله وجهه أنه قال فى الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم. والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة. وفى الآية إيماء إلى أنه يجب على الرجل تعلّم ما يحب من فرائض الدين وتعليمها لهؤلاء، وقد جاء فى الحديث: «رحم الله رجلا قال يا أهلاه: صلاتكم، صيامكم، زكاتكم، مسكينكم، يتيمكم، جيرانكم، لعل الله يجمعكم معهم فى الجنة» . (عَلَيْها مَلائِكَةٌ) أي موكّل عليها ويلى أمرها وتعذيب أهلها تسعة عشر ملكا هم زبانيتها الذين سيأتى ذكرهم فى سورة المدثر فى قوله تعالى: «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» . (غِلاظٌ شِدادٌ) أي غلاظ على أهل النار أشداء عليهم.

ثم بين عظيم طاعتهم لربهم فقال: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي لا يخالفون أمره، بل يؤدون ما يؤمرون به فى وقته بلا تراخ، فلا يقدمونه عنه، ولا يؤخرونه. وقد أفادت الجملة الأولى نفى العناد والاستكبار عنهم فهى كقوله: «لا يستكبرون عن عبادته» وأفادت الجملة الثانية نفى الكسل عنهم فهى كقوله تعالى: «وَلا يَسْتَحْسِرُونَ» . وخلاصة ذلك- إنهم يمتثلون الأمر ولا يمتنعون عن تنفيذه، بل يؤدونه من غير تثاقل ولا توان. وبعد أن ذكر شدة العذاب فى النار واشتداد الملائكة فى الانتقام من أعداء الله الكافرين- بين أنه يقال للكافرين لا فائدة فى الاعتذار لأنه توبة، والتوبة غير مقبولة بعد الدخول فى النار فقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فقد فات الأوان، ولا يجدى رجاء ولا اعتذار، فلات ساعة مندم. ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم ثم بين السبب فى عدم فائدة الندم فقال: (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لأنكم إنما تثابون اليوم وتعطون جزاء أعمالكم التي عملتموها فى الدنيا، فلا تطلبوا المعاذير منها. والخلاصة- إن هذه الدار دار جزاء لا دار عمل، وأنتم قد دسّيتم أنفسكم فى الدنيا بالكفر والمعاصي بعد أن نهيتم عنها، فاجنوا ثمر ما غرستم، واشربوا من الكأس التي قد ملأتم. وبعد أن ذكر أن التوبة فى هذا اليوم لا تجدى نفعا- نبّه عباده المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة النصوح فقال:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله: ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة الله وإلى ما يرضيه عنكم- رجوعا لا تعودون فيه أبدا، عسى ربكم أن يمحوا سيئات أعمالكم التي سلفت منكم، ويدخلكم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار حين لا يخزى الله محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: التوبة النصوح أن يندم العبد على الذنب الذي أصابة، فيعتذر إلى الله ثم لا يعود أبدا، كما لا يعود اللبن إلى الضّرع، وهكذا روى عن عمرو بن مسعود وأبى بن كعب والحسن وغيرهم. وقال الإمام النووي: التوبة النصوح ما استجمعت ثلاثة أمور: (1) الإقلاع عن المعصية. (2) الندم على فعلها. (3) العزم الجازم على ألا يعود إلى مثلها أبدا. فإن كانت المعصية تتعلق بآدمى وجب رد الظلامة إلى صاحبها أو وارثه، أو تحصيل البراءة منه. والخلاصة- إن المعصية إن كانت فى خالص حق الله كفى فيها الندم كما فى الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف، وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم العزم على إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما فى الغصب والقتل العمد، والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما فى الغيبة إذا بلغته، ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش. وجىء بكلمة (عَسى) التي تفيد الطمع فى حصول العفو فحسب، مع أن الله سبحانه وعد بقبول التوبة- جريا على سنن الملوك فى التخاطب، فإنهم يقولون

[سورة التحريم (66) : آية 9]

إذا أرادوا فعلا: عسى أن نفعل كذا، وإشعارا بأن ذلك تفضل منه سبحانه، والتوبة غير موجبة له، وأن العبد ينبغى أن يكون بين خوف ورجاء، وإن بالغ فى إقامة وظائف العبادة. ثم بين ما يكون للنبى والذين آمنوا معه من علامات الظفر والفوز بالمطلوب فقال: (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي نورهم يسعى بين أيديهم حين يمشون وبأيمانهم حين الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير لهم. ثم بين ما يطلبونه من ربهم فقال: (يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا) أي يسألون ربهم أن يبقى لهم نورهم فلا يطفئه حتى يجوزوا الصراط، حين يقول لهم المنافقون والمنافقات: انظرونا نقتبس من نوركم، وقد تقدم نحو هذا فى سورة الحديد، ويطلبون أيضا منه أن يستر عليهم ذنوبهم، ولا يفضحهم بعقوبتهم عليها حين الحساب. ثم ذكروا ما يطمعهم فى إجابة الدعاء فقالوا: (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إنك على إتمام نورنا، وغفران ذنوبنا، وكل ما نرجو منك ونطمع- قدير يا ربنا، فاللهم أجب دعاءنا، ولا تخيب رجاءنا. وقد روى أن أدناهم منزلة من يكون نوره بقدر ما يبصر موطئ قدمه، لأن النور على قدر العمل وروى أن السابقين إلى الجنة يمرون على الصراط مثل البرق، ويمر بعضهم كالريح، وبعضهم يحبو حبوا ويزحف زحفا، وهم الذين يقولون: «ربّنا أتمم لنا نورنا» . [سورة التحريم (66) : آية 9] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

شرح المفردات

شرح المفردات الجهاد تارة يكون بالسيف وأخرى بالحجة والبرهان، واغلظ عليهم: أي شدّد، والمأوى: مكان الأبواء والإقامة. المعنى الجملي بعد أن أمر سبحانه المؤمنين بالتوبة النصوح والرجوع إلى الله والإخبات إليه. أمر رسوله بقتال الكفار الذين يقفون فى سبيل الدعوة إلى الإيمان بالله، وبوعيد المنافقين والغلظة عليهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، وذكر أن جزاءهم فى الآخرة جهنم وبئس المقيل والمأوى. الإيضاح (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي جاهد الكفار بالسيف وقاتلهم قتالا لا هوادة فيه، وجاهد المنافقين بالإنذار والوعيد وبيان سوء المنقلب، وعنّفهم بفضيحة عاجلة تبين قبح طواياهم وخبث نفوسهم، كما حدث منه صلى الله عليه وسلم فى المسجد الجامع لبعض المنافقين على ملأ من الناس فقال: اخرج يا فلان، اخرج يا فلان، وأخرج منهم عددا كثيرا. ثم بين سوء عاقبتهم فقال: (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وسيكون مسكنهم جهنم وبئس المثوى والمقيل. [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)

شرح المفردات

شرح المفردات ضرب المثل: ذكر حال غريبة لتعرف بها حال أحرى تشاكلها فى الغرابة، تحت عبدين: أي فى عصمتهما، فخانتاها: أي نافقتا فأخفتا الكفر وأظهرتا الإيمان، وكانت امرأة نوح تقول لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط نزل قومه على نزول أضيافه عليه، فلم يغنيا عنهما: أي لم يفيداهما ولم يجزيا عنهما من الله شيئا، امرأة فرعون: على ما قيل هى آسية بنت مزاحم، نجنى من فرعون وعمله: أي خلصنى منه فإنى أبرأ إليك منه ومن عمله، والقوم الظالمون: هم الوثنيون أقباط مصر، وأحصنت فرجها: أي حفظته وصانته، والفرج: شق جيب الدرع (القميص) إذ الفرج لغة كل فرجة بين الشيئين، ويراد بذلك عفتها، وكلمات ربها: أي شرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله، والقانتين: أي الطائعين المخبتين إلى الله الممتثلين أوامره. المعنى الجملي بعد أن أمر عباده المؤمنين بالتوبة النصوح بالندم على ما فات، وعدم العودة فيما هو آت، وأمر رسوله بجهاد الكافرين والمنافقين والغلظة لهم فى القول والعمل. ذكر هنا أن النفوس إن لم تكن مستعدة لقبول الإيمان، وفى جوهرها صفاء ونقاء

الإيضاح

فلا تجدى فيها العظة والعبرة ولا مخالطة المؤمنين المتقين، وضرب لذلك المثل بامرأة نوح وامرأة لوط فقد كانتا فى بيت النبوة ولم يلن قلبهما للإيمان والإسلام. كذلك إذا كان جوهر النفس نقيا خالصا من كدورة الكفر والنفاق فمجاورتها للكفرة وعشرتها إياهم لا تغير من حالها شيئا، ولا يؤثر فيها ضلال الضالين ولا عتوّ الظالمين، وضرب لذلك مثل امرأة فرعون التي ألحف عليها فرعون وقومه أن تعتنق الوثنية التي كانوا يدينون بها، وتعتقد ألوهيته هو فأبت وجاهدت فى الله حق جهاده حتى لاقت ربها وهى آمنة مطمئنة قريرة العين بما دخل فى قلبها من نور الإيمان، وكذلك مريم بنة عمران التي عفّت فآتاها الله الشرف والكرامة، وأنجبت نبى الله عيسى، وصدقت بجميع شرائعه وكتبه وكانت من العابدين القانتين. وفى هذا المثل إيماء إلى أن قرابة المشركين للنبى صلى الله عليه وسلم لا تجديهم نفعا بعد كفرهم وعداوتهم له وللمؤمنين، فإن الكفر قد قطع العلائق بينه وبينهم وجعلهم كالأجانب، بل أبعد منهم كحال امرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما، كما تضمن التعريض بأمى المؤمنين حفصة وعائشة لما فرط منهما، والتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده. الإيضاح (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي ضرب الله مثلا يبين به حال الكافرين الذين لم ينتفعوا بعظات المؤمنين الصادقين من النبيين والمرسلين لظلمة قلوبهم وسوء استعدادهم وفساد فطرتهم- امرأة نوح وامرأة لوط إذ كانتا فى عصمة نبيّين يمكنهما أن ينتفعا بهديهما ويحصّلا ما فيه سعادتهما فى معاشهما ومعادهما، لكنهما أبتا ذلك وعملتا ما يدل على الخيانة والكفر، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون، وكانت الثانية ترشد قوم لوط إلى ضيوفه لمآرب خبيثة،

فلم يدفع عنهما قربهما من ذينك السدين الصالحين شيئا، وحاق بهما سوء ما عملتا وسيحل بهما عقاب الله، وسيدخلان النار فى زمرة داخليها جزاء وفاقا لما اجترحتا من السيئات، وما دسّتا به أنفسهما من كبير الآثام، وعظيم المعاصي. وفى هذا تعريض بأمهات المؤمنين، وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهنّ- إن أتين بمعصية- اتصالهنّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وكونهنّ فى عصمته. وبعد أن ضرب مثلا يبين به أن وصلة الكافرين بالمؤمنين لا تفيدهم شيئا. أرشد إلى عكس هذا فأفاد أن اتصال المؤمنين بالكافرين لا يضرهم شيئا فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجعل الله حال امرأة فرعون مثلا يبين به أن وصلة المؤمنين بالكافرين لا تضرهم شيئا إذا كانت النفوس خالصة من الأكدار، فقد كانت تحت أعدى أعداء الله فى الدنيا، وطلبت النجاة منه ومن عمله، وقالت فى دعائها: رب اجعلنى قريبا من رحمتك، وابن لى بيتا فى الجنة، وخلصنى من أعمال فرعون الخبيثة، وأنقذنى من قومه الظالمين. وفى هذا دليل على أنها كانت مؤمنة مصدّقة بالبعث، ومن سنن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت. (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حال مريم وما أوتيت من كرامة الدنيا وكرامة الآخرة، فاصطفاها ربها مع أن أكثر قومها كانوا كفارا، من قبل أنها منعت جيب درعها جبريل عليه السلام وقالت له: «إنّى أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّا» فأثبتت بذلك عفتها وكمال طهارتها، فنفخ جبريل فى جيب درعها فحملت بنبي الله وكلمته عيسى صلوات الله عليه، وصدقت بشرائع الله وكتبه التي أنزلها على أنبيائه، وكانت فى عداد القانتين العابدين المخبتين لربهم المطيعين له.

ما تضمنته هذه السورة

روى أحمد فى مسنده: «سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم عائشة» وفى الصحيح «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة كفضل الثريد على سائر الطعام» . وإنما فضل الثريد لأنه مع اللحم غذاء جامع بين اللذة وسهولة التناول وقلة المئونة فى المضغ وسرعة المرور فى المريء، فضربه مثلا ليؤذن بأنها رضى الله عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق، وفصاحة الكلام، وجودة القريحة، ورزانة الرأى، ورصانة العقل، والتحبب للبعل، وبحسبك أنها عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء، وروت ما لم يرو مثله الرجال. ما تضمنته هذه السورة اشتملت هذه السورة على شيئين: (1) أخبار نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وحلفه صلى الله عليه وسلم ألا يشرب العسل إرضاء لبعضهنّ، واطلاع الله له على ما أفشين من سرّ أمرهنّ بكتمه، من أول السورة إلى قوله: «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» . (2) ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وكان الفراغ من مسودّة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى العشرين من شهر رمضان المعظم من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 5 ما قالته خولة بنت ثعلبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها. 7 أحكام الظهار والعقوبات التي شرعت لذلك. 9 من يشاقّ الله ورسوله يلحقه الخزي والهوان. 11 ما يتناجى ثلاثة إلا والله رابعهم ولا خمسة إلا والله سادسهم. 12 كان اليهود يحيون الرسول بغير تحية الله استهزاء به. 14 نهى المؤمنين عما سيكون سببا للتباغض من التناجي بالعدوان. 16 كان الصحابة يتنافسون فى القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه. 18 أمر المؤمنين بتقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه. 21 كان قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين. 25 المنافقون شاقوا الله ورسوله فكتب عليهم الذلة فى الدنيا والآخرة. 27 لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء الله. 28 اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاشّ علىّ يدا ولا نعمة فيوده قلبى. 32 نقض اليهود للعهد وإجلاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إلى بلاد الشام 34 قذف الله الرعب فى قلوب اليهود فلم يجدوا للمقاومة سبيلا. 37 حكم ما أخذ من أموال اليهود.

39 ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. 41 مدح الأنصار. 44 «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» . 47 مناصحة المنافقين كعبد الله بن أبىّ ورفقته لليهود. 49 نكوص المنافقين فى عهودهم لليهود. 53 نصح المؤمنين بلزوم التقوى والعمل بما ينفعهم فى دنياهم وأخراهم. 54 من مواعظ أبى بكر رضى الله تعالى عنه. 56 القرآن الكريم مرشد وهاد. 61 ما فعله حاطب بن أبى بلتعة من نصيحته للمشركين. 63 ذكر الموانع التي تمنع من مناصحة المشركين. 65 أمر الصحابة بأن يتأسوا بإبراهيم عليه السلام وأصحابه. 66 كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك. 69 وعد المؤمنين بأنه سيغير من طباع المشركين ويغرس فى قلوبهم محبة الإسلام. 71 الكافرون المعاندون أقسام ثلاثة. 73 كتاب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عام الحديبية. 75 مبايعة المؤمنات المهاجرات للنبى صلى الله عليه وسلم. 77 كان بعض فقراء المؤمنين يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ليصيبوا من ثمارهم. 80 أحب الأعمال إلى الله إيمان به، وجهاد لأهل معصيته. 81 أمر المؤمنين بالقتال صفا صفا كأنهم بنيان مرصوص. 84 ما جاء فى التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد عليه الصلاة والسلام.

87 الصادّ عن دعوة الدين كمن يريد إطفاء نور الشمس. 88 فرح اليهود ببطء نزول الوحى على النبي صلى الله عليه وسلم. 89 الإيمان بالله والجهاد بالنفس تجارة رابحة. 90 الجهاد على ضروب. 91 رفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من الأرض فى زمن وجيز 94 الحكمة فى إرسال الرسول عربيا إلى العرب. 96 «لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس» . 97 النعي على المشركين بأنهم لم يفهموا التوراة. 99 آية المباهلة. 101 نهى المؤمنين عن تشاغلهم عن عظات النبي صلى الله عليه وسلم. 102 أمر المؤمنين أن يأتوا إلى الصلاة وعليهم السكينة. 102 مراقبة الله تنيل الفوز والسعادة فى الدنيا والآخرة. 106 وصف الله سبحانه المنافقين بأقبح الصفات. 107 كأنت عدّة المنافقين الأيمان الكاذبة. 108 وصف المنافقين بحسن المنظر وقبح المخبر. 110 ذكر الأدلة على نفاق المنافقين. 113 ما فعله عبد الله بن عبد الله بن أبىّ المنافق. 115 نهى المؤمنين عن تشاغلهم بالدنيا. 119 الإنسان يضم روحا من عالم الأرواح وبدنا من عالم الأشباح. 121 تحذير المشركين من تماديهم فى الجحود وإنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

123 إقامة الأدلة على أن البعث حق لا شك فيه. 126 ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره. 127 على المؤمن واجبان: السعى فى جلب الخير ودفع الضر، ثم التوكل على الله 128 من الأولاد والزوجات أعداء للإنسان يثبطونهم عن الطاعة. 130 فى الحديث «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتى المال» . 131 من يقرض غير ظلوم ولا عديم؟ الحديث. 134 الأمر بالطلاق فى الطهر الذي يحسب للمرأة. 135 الطلاق أقسام ثلاثة. 136 أمر المطلقة بالمكث فى البيت إلا أن تأتى بفاحشة مبينة. 137 «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» الحديث. 141 قصص عوف بن مالك الأشجعى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 142 عدّة الصغار اللاتي لم يحضن والكبار اللائي يئسن من الحيض. 143 عدة الحامل وضع الحمل ولو بعد ساعة. 145 ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة. 146 نفقة الحوامل. 147 القدر الواجب فى النفقة. 149 لا تحل المطلقة لزوج آخر إلا بعد انقضاء عدتها. 152 ما تضمنته سورة الطلاق من الأحكام الشرعية والشئون الدينية. 156 فى الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل» 157 أسرّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة حديثا فأخبرت به عائشة.

158 لا حرج فى الإباحة بالسر إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق. 160 تحذير أمهات المؤمنين من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. 163 الآخرة دار جزاء لا دار عمل. 164 شروط التوبة النصوح. 166 الأمر بقتال المشركين الذين يقفون فى سبيل الدعوة إلى الإيمان. 167 النفوس إن لم يكن فى جوهرها صفاء لا تنفع فيها العظة. 169 ضرب المثل بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران. 170 فى الحديث «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع» .

الجزء التاسع والعشرون تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم احمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء التاسع والعشرون

الطبعة الثالثة 1394 هـ- 1974 م

سورة الملك

الجزء التاسع والعشرون سورة الملك هى مكية، وآيها ثلاثون، نزلت بعد سورة الطور. ومناسبتها لما قبلها- أنه لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين اللتين قدر لهما الشقاء وإن كانتا تحت عبدين صالحين، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وقد كتب لهما السعادة وإن كان أكثر قومهما كفارا- افتتح هذه السورة بما يدل على إحاطة علمه عز وجل وقهره وتصرفه فى ملكه على ما سبق به قضاؤه. [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)

شرح المفردات

شرح المفردات البركة: الزيادة حسية كانت أو عقلية، خلق: أي قدّر، ليبلوكم: أي ليختبركم والمراد ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم، أحسن عملا: أي أخلصه لله، العزيز: أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء، الغفور: أي كثير المغفرة والستر لذنوب عباده، طباقا: أي طبقة بعد طبقة، تفاوت: أي اختلاف وعدم تناسب، والفطور: الشقوق، واحدها فطر، يقال فطره فانفطر، كرتين: أي رجعتين أخريين فى ارتياد الخلل، والمراد بذلك التكرير والتكثير: أي رجعة بعد رجعة، ينقلب: أي يرجع، خاسئا: أي صاغرا ذليلا مبعدا لم ير ما يهوى من الخلل، حسير: أي كليل منقطع لم يدرك ما طلب، والحاسر: المعيا لنفاد قواه، والمصابيح: واحدها مصباح وهو السراج والمراد بها الكواكب، والرجوم: واحدها رجم (بِالْفَتْحِ) وهو ما يرجم ويرمى به، والشياطين: هم شياطين الإنس والجن، وأعتدنا: أي هيأنا، عذاب السعير: أي عذاب النار المسعّرة الموقدة. المعنى الجملي مجّد الله نفسه وأخبر أن بيده الملك والتصرف فى جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، لقهره وحكمته وعدله، وهو القدير على كل شىء ثم أخبر بأنه قدّر الموت والحياة ليبلوكم فينظر من منكم أخلص له عملا، وهو ذو العزة الغالب على أمره، الغفور لمن أذنب ثم تاب وأقلع عنه، ثم أردف ذلك بأنه خلق سبع سموات بعضها فوق بعض لا خلل فيها ولا عيب، فانظر أيها الرائي أترى فيها

الإيضاح

شقا أو عيبا؟ ثم أعد النظر وحدّق بالبصر، لتستيقن تمام تناسبها واستواء خلقها، وقد زيّنا أقرب السموات إليكم بكواكب يهتدى بها الساري، ويعلم بها عدد السنين والحساب، وعليها تتوقف حياة الحيوان والنبات، وهى أيضا سبب الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن، وهؤلاء قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة بوساطة الحرارة والضوء من الكواكب، وبذا أعد لهم عذاب السعير جزاء ما اقترفوا فى حياتهم الدنيا. الإيضاح (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي تعالى ربنا الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع أقواما ويخفض آخرين، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه مانع، ولا يحول بينه وبين ما يريد عجز، فله التصرف التام فى الموجودات على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ولا مدافع. والخلاصة- تعاظم عن صفات المخلوقين من بيده الملك والتصرف فى كل شىء، وهو قدير يتصرف فى ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام، ورفع ووضع، وإعطاء ومنع. ثم شرع يفصل بعض أحكام الملك وآثار القدرة، ويبين ابتناءهما على الحكم والمصالح، وأنهما يستتبعان غايات جليلة فقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي الذي قدر الموت وقدر الحياة وجعل لكل منهما مواقيت لا يعلمها إلا هو. (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي ليعاملكم معاملة من يختبر حاله، وينظر أيكم أخلص فى عمله، فيجازيكم بذلك بحسب تفاوت مراتبكم وأعمالكم، سواء أكانت أعمال القلب أم كانت أعمال الجوارح.

وقد روى فى تفسير الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع فى طاعته عز وجل» يعنى أيكم أتم فهما لما يصدر عن حضرة القدس، وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه، وأيكم أبعد عن ملابسة الكبائر، وأسرع فى إجابة داعى الله. وفيه ترغيب فى الطاعات وزجر عن المعاصي كما لا يخفى على ذوى الألباب. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أي وهو القوى الشديد الانتقام ممن عصاه وخالف أمره، الغفور لذنوب من أناب إليه وأقلع عنها. وقد قرن سبحانه الترهيب بالترغيب فى مواضع كثيرة من كتابه كقوله تعالى: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» . وإثبات العزة والغفران له يتضمن كونه قادرا على كل المقدورات، عالما بكل المعلومات، ليجازى المحسن والمسيء بالثواب والعقاب، ويعلم المطيع من العاصي، فلا يقع خطأ فى إيصال الحق إلى من يستحقه، ثوابا كان أو عقابا. ثم ذكر دلائل قدرته فقال: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي هو الذي أوجد سبع سموات بعضها فوق بعض فى جوّ الهواء بلا عماد، ولا رابط يربطها مع اختصاص كل منها بحيز معين ونظم ثابتة لا تتغير بل بنظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات، كما جاء فى قوله: «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» . ثم ذكر دلائل العلم فقال: (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي لا ترى أيها الرائي تفاوتا وعدم تناسب، فلا يتجاوز شىء منه الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا على نحو ما قيل:

تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى ... بهنّ اختلافا بل أتين على قدر فإن كنت فى ريب من هذا فارجع البصر حتى تتضح لك الحال، ولا يبقى لك شبهة فى تحقق ذلك التناسب والسلامة من الاختلاف والشقوق بينها. وإنما قال: (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) دون أن يقول: (فيها) تعظيما لخلقهنّ، وتنبيها إلى سبب سلامتهنّ من التفاوت بأنهنّ من خلق الرحمن، وأنه خلقهنّ بباهر قدرته وواسع رحمته تفضلا منه وإحسانا، وأن هذه الرحمة عامة فى هذه العوالم جميعا. ثم أمره بتكرير البصر فى خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع، هل يجد فيه عيبا وخللا فقال: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) أي إنك إذا كررت النظر لم يرجع إليك البصر بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل يرجع إليك صاغرا ذليلا لم ير ما يهوى منهما، حتى كأنه طرد وهو كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة. والمراد بقوله «كرتين» التكثير كقوله: لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم ... بيتا وأبعدهم من منزل الذّام وبعد أن بين خلوّ السموات من العيب ذكر أنها الغاية فى الحسن والبهاء فقال: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي ولقد زينا السماء القربى من الأرض وهى التي يراها الناس بكواكب مضيئة بالليل كما يزيّن الناس منازلهم ومساجدهم بالسّرج، ولكن أنّى لسرج الدنيا أن تكون كسرج الله؟ والخلاصة- أن نظام السموات لا خلل فيه، بل هو أعظم من ذلك، فقد زينت سماؤه القريبة منا بمصابيح، هى بهجة للناظرين، وعبرة للمعتبرين.

(وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي وهذه الكواكب لا تقف عند حد الزينة بل بضوئها يكون ما فى الأرض: من رزق وحياة وموت، بحسب الناموس الذي سنناه، والقدر الذي أمضيناه، ويكون فى العالم الإنسانى وعالم الجن نفوس تتقاذفها الأهواء، وتتجاذبها اللذات والشهوات التي تنجم من العناصر المتفاعلة بسبب الأضواء المشعّة النازلة من عالم الكواكب المشرقة فى السماء. وقصارى القول- إن هذه الكواكب كما هى زينة الدنيا، وأسباب لرزق ذوى الصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء، هى أيضا سبب لتكوّن الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن فهذا العالم قد اختلط فيه الضر بالنفع، وأعطى لكلّ ما استعدّ له فالنفوس الفاضلة، والنفوس الشريرة، استمدت من هذه المادة المسخّرة المقهورة، فصارت سببا لثواب النفوس الطيبة، وعذاب النفوس الخبيثة، وصار لهم فيها رجوم وظنون، إذ هم قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة الناشئة من الحرارة والضوء. ويرى بعض المفسرين أن المراد أن المصابيح التي زيّن الله بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها، بل ينفصل من الكواكب شهاب يقتل الجنىّ أو يخبله. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يهتدى بها فى البر والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم، وتعدى وظلم. (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي وهيأنا لهؤلاء الشياطين فى الآخرة عذاب النار الموقدة كفاء ما اكتسبوا من اللذات، وانجذبوا إليه من الشهوات، وغفلوا عن جمال هذه العوالم التي لم يعرفوا منها إلا شهواتهم، أما عقولهم فقد احتجبت عنها. والخلاصة- إن السماء قد أضاءت على البر والفاجر، فالفجار حصروا أنفسهم فى شهواتهم، فلم ينظروا إليها نظر فكر وعقل، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم

[سورة الملك (67) : الآيات 6 إلى 11]

حياتهم، وهؤلاء أعتدنا لهم عذاب السعير فى الآخرة، لأن هذا يشاكل حالهم فى الدنيا، إذ هم فيها قد حبسوا أنفسهم فى نيران البخل والحقد والطمع، فتحولت إلى نار مبصرة يرون عذابها فى الآخرة. [سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) شرح المفردات ألقوا فيها: أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب فى النار، والشهيق: تنفس كتنفس المتغيظ قاله المبرّد، تفور: أي تغلى بهم كغلى المرجل قاله ابن عباس، وقال الليث: كل شىء جاش فقد فار كفور القدر والماء من العين، تميز: أي ينفصل بعضها من بعض، والغيظ: شدة الغضب قاله الراغب، فوج: أي جماعة، خزنتها: واحدها خازن، وهم مالك وأعوانه، نذير: أي رسول ينذركم بأس الله وشديد عقابه، إن أنتم: أي ما أنتم، ضلال كبير: أي ضلال بعيد عن الحق والصواب، فسحقا لهم: أي فبعدا لهم من رحمة ربهم.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن شياطين الإنس والجن قد أعدّ لهم عذاب السعير، أردف ذلك ببيان أن هذه النار قد أعدها لكل جاحد بوحدانيته، مكذب برسله، منكر للبعث واليوم الآخر، ثم وصف هذه النار بأوصاف تشيب من هولها الولدان، وتصطك لسماعها الأسنان، منها: (1) أنه يسمع لها شهيق حين يلقى الكافرون فيها. (2) أنها تفوز بهم كما يفور ما فى المرجل حين يغلى. (3) أنها تكون شديدة الغيظ والحنق على من فيها. (4) أن خزنتها يسألون داخليها: ألم تأتكم الرسل فتبعدكم عن هذا العذاب؟ (5) أن أهلها يعترفون بأن الله ما عذبهم ظلما، بل قد جاءهم الرسل فكذبوهم وقالوا لهم: أنتم فى ضلال بعيد. (6) دعاء الملائكة عليهم بالبعد من رحمة الله وألطافه، وكرمه وإحسانه. الإيضاح (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي قد سبق قضاؤنا، وجرت سنتنا أن من أشرك بنا، وكذب رسلنا، فقد استحق عذاب جهنم، وبئس المآل والمنقلب. ثم ذكر فظائع أحوال هذه النار فقال: (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) أي إذا طرح المجرمون فيها سمعوا لها صياحا وصوتا كصوت المتغيظ من شدة الغضب، وهى تغلى بهم كغلى المرجل بما فيه: (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقال فلان يتميز غيظا، ويتعصف غيظا وغضبا

فطارت منه شعلة فى الأرض وشعلة فى السماء، إذا وصفوه بالإفراط فى الغضب، من قبل أن الغضب إنما يحدث حين غليان دم القلب، والدم حين الغليان يأخذ حجما أكبر من حجمه، فتتمدد الأوعية الدموية فى البدن، وكلما كان الغضب أشد كان تمددها أكثر حتى تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض. ثم بين سبحانه عدله فى خلقه وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة وإرسال الرسول إليه فقال: (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟) أي كلما طرح فى جهنم جماعة من الكفار سألهم مالك وأعوانه من الزبانية سؤال تقريع وتوبيخ: هل أتتكم رسل من ربكم تنذركم شديد بأسه، وعظيم عقابه لمن عصاه وخالف أمره. ونحو الآية قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» . حينئذ يجيبهم هؤلاء مع التحسر على ما فات والندم على ما كان. (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي بلى جاءنا الرسول وأنذرنا فكذبناه وقلنا له: إن الله لم يوح إليك بشىء ولم يبعثك رسولا، وما أنت إلا بشر مثلنا، فما أنت فيما تدّعى إلا مجانف للحق، بعيد عن جادّة الصدق. ونحو الآية قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» . ثم عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا ينفع الندم فقالوا: (وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي وقالوا: لو كانت لنا عقول ننتفع بها، أو آذان تسمع ما أنزل الله من الحق، ما كنا على ما نحن عليه من الكفر بالله، والاغترار باللذات التي كنا منهمكين بها فى دنيانا، فبؤنا بسخط ربنا وغضبه، وحلّ بنا عقابه الأليم.

[سورة الملك (67) : الآيات 12 إلى 15]

وقد نفوا عن أنفسهم السماع والعقل، تنزيلا لما عندهم منهما منزلة العدم، حين لم ينتفعوا بهما. وقصارى ما سلف- إنهم قالوا: لو كنا سمعنا كلام النذير وقبلناه، اعتمادا على ما لاح من صدقه، وفكرنا فيه تفكير المستبصر، وعملنا به ما كنا فى زمرة المعذّبين. ولكن هيهات هيهات، فلا يجدى الاعتراف بالذنب، ولا يفيد الندم، فقد فات أوانه، وسبق ما حمّ به القضاء. صاح هل ريت أو سمعت براع ... ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب ومن ثم أحل بهم سبحانه نقمته فقال: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي فاعترفوا بما كان منهم من تكذيب الرسل، وأنّى يفيدهم ذلك؟ فبعدا لهم من رحمتى، جحدوا أو اعترفوا، فهو ليس بمغن عنهم شيئا، فقد وقعت الواقعة، وحل بهم من بأسى ما ليس له من دافع. روى أحمد عن أبى البحتري الطائي قال: أخبرنى من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» ، وجاء فى حديث آخر: «لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة» . [سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

شرح المفردات

شرح المفردات بالغيب: أي غائبين عن أعين الناس، بذات الصدور: أي بما فى النفوس، واللطيف: هو العالم بالأشياء التي يخفى علمها على العالمين، ومن ثم يقال: إن لطف الله بعباده عجيب، ويراد به دقائق تدبيره لهم، الخبير: أي بظواهر الأشياء وبواطنها، ذلولا: أي سهلة منقادة يسهل عليكم السير فيها والانتفاع بها وفيما فيها، والمناكب: واحدها منكب، وهو مجتمع ما بين العضد والكتف، والمراد طرقها وفجاجها، النشور: أي المرجع بعد البعث. المعنى الجملي بعد أن أوعد الكفار بما أوعد، وبالغ فى ترهيبهم بما بالغ- وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكريم، ثم عاد إلى تهديد الكافرين بأنه عليم بما يصدر منهم فى السر والعلن، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق، فلا يخفى عليه شىء من أمرهم، بل يصل علمه إلى ظواهر أمورهم وبواطنها، ثم عدد نعماءه عليهم، فذكر أنه عبّد لهم الأرض وذللها لهم، وهيأ لهم فيها منافع من زروع وثمار ومعادن، فليتمتعوا بما أوتوا ثم إلى ربهم مرجعهم، وإليه بعثهم ونشورهم. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إن الذين يخافون مقام ربهم فيما بينهم وبينه إذا كانوا غائبين عن أعين الناس، فيكفون أنفسهم عن المعاصي، ويقومون بطاعته حيث لا يراهم إلا هو، مراقبين له فى السر والعلن، واضعين نصب أعينهم ما جاء فى الحديث: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» يكفر عنهم ما ألمّوا به من الذنوب والآثام، ويحزيهم جزيل

الثواب، ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كفاء ما أسلفوا فى الأيام الخالية. وقد ورد فى الحديث: «سبعة يظلهم الله فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله- وذكر منهم: ورجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف الله، ورجلا تصديق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» . ثم نبه إلى أنه مطلع على السرائر فقال: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إن عملكم وقولكم على أىّ سبيل وجد فالله عليم به، فدوموا أيها الخاشعون على خشيتكم، وأنيبوا أيها المفترون إلى ربكم، وكونوا على حذر من أمركم. روى عن ابن عباس أنه قال: «كان المشركون ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيوحى إليه بما قالوا فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع ربّ محمد فنزلت الآية» . وقدم السر على الجهر للايذان بافتضاح أمرهم ووقوع ما يحذرون على كل حال أسروا أو جهروا، ولأن مرتبة السر مقدمة على مرتبة الجهر فما من شىء يجهر به إلا وهو أو مبادئه مضمر فى النفس. وقوله «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» كالعلة والسبب لما قبله. والخلاصة- إنه تعالى محيط بمضمرات النفوس وأسرارها الخفية المستكنة فى الصدور، فكيف لا يعلم ما تسرون وما تجهرون به؟. ثم نصب الأدلة على إحاطة علمه بجميع الأشياء فقال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي كيف لا يعلم السر والجهر من أوجد بحكمته، وواسع علمه، وعظيم قدرته، جميع الأشياء وهو النافذ علمه إلى ما ظهر منها وما بطن. وكأنه سبحانه يقول: ألا يعلم سركم وجهركم، من يعلم الدقائق والخفايا، جملها وتفاصيلها؟.

ثم نبه إلى نعمه على عباده فقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي إن ربكم هو الذي سخر لكم الأرض وذللها لكم، فجعلها قارّة ساكنة، لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأوجد فيها من العيون، لسقيكم وسقى أنعامكم وزروعكم وثماركم، وسلك فيها السبل، فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا فى أرجائها، لأنواع المكاسب والتجارات، وكلوا مما أوجده لكم فيها بفضله من واسع الأرزاق- والسعى فى الأرزاق لا ينافى التوكل على الله. روى أحمد عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير. تغدو خماصا، وتروح بطانا» فأثبت لها غدوّا ورواحا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل وهو المسخّر الميسر المسبّب. وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: «مرّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقوم فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه فى بطن الأرض وتوكل على الله عز وجل» . وجاء فى الأثر: «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف» . وفى الآية إيماء إلى ندب التجارة والتكسب بجميع ضروبه، وفيها تهديد للكافرين كأنه قال لهم: إنى عالم بسركم وجهركم، فاحترسوا من عقابى، فهذه الأرض التي تمشون فى مناكبها، أنا الذي ذللتها لكم، وجعلتها سببا لنفعكم، وإن شئت خسفتها بكم، وأنزلت عليها ألوانا من المحن والبلاء. (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي وإليه المرجع يوم القيامة، فينبغى أن تعلموا أن مكثكم فى الأرض، وأكلكم مما رزقكم الله فيها، مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله، ويستيقن أن مصيره إليه، فاحذروا الكفر والمعاصي فى السر والعلن.

[سورة الملك (67) : الآيات 16 إلى 19]

[سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 19] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) شرح المفردات الأمن: ضد الخوف، من فى السماء: هو ربكم الأعلى، وخسف الله به الأرض غيّبه فيها، ومنه قوله: «فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ» وتمور: أي تهتز وتضطرب حاصبا: أي ريحا شديدة فيها حصباء تهلككم، نذير: أي إنذارى وتخويفى، نكير: أي إنكارى عليهم بإنزال العذاب بهم، صافّات: أي باسطات أجنحتهن فى الجوّ حين طيرانها تارة، ويقبضن: أي ويضممنها تارة أخرى. المعنى الجملي بعد أن ذكر ما أعده للكافرين من نار تلظى، ووصف هذه النار بما تشيب من هوله الولدان- أردف ذلك بترهيبهم وتخويفهم بأنهم لا يأمنون أن يحل بهم فى الدنيا مثل ما حل بالمكذبين بالرسل من قبلهم: من خسف عاجل تمور به الأرض مورا، أو ريح حاصب تهلك الحرث والنسل، ولا تبقى منهم ديّارا ولا نافخ نار ثم ضرب لهم المثل بما حل بالأمم قبلهم من ضروب المحن والبلاء، فقد أهلكت ثمود بصاعقة لم تبق ولم تذر، وأهلكت عاد بالريح الصرصر العاتية التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما- متتابعة- وأهلك فرعون وقومه بالغرق فى بحر القلزم (البحر الأحمر) ثم لفت أنظارهم إلى باهر قدرته، وعظيم منّته على عباده، فطلب منهم

الإيضاح

أن يروا الطير وهى تبسط أجنحتها فى الجو تارة، وتضمها أخرى بتسخير الله وتعليمه ما هى فى حاجة إليه. الإيضاح (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أيء أمنتم أن يخسف ربكم بكم الأرض كما خسفها بقارون، فإذا هى تتحرك بكم حين الخسف، وتبتلعكم وتمور فوقكم جيئة وذهابا. ثم انتقل من الوعيد بهذا إلى الوعيد بوجه آخر فقال: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي بل أمنتم أن يرسل عليكم ريحا فيها حصباء (حجارة صغار) كما فعل بقوم لوط، وحينئذ تعلمون كيف يكون عقابى إذا شاهدتموه، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ. والخلاصة- كيف تأمنون من فى السماء أن يصب عليكم العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، وقد ذلل لكم الأرض، وزين لكم السماء بمصابيح، فإذا لم تشكروا النعم، فأنتم حريّون بأن يرسل عليكم النقم. ونحو الآية قوله تعالى: «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» وقوله: «أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا» . ثم لفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم، لعله يكون فيه مزدجر لهم فقال: (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كذب من قبلهم من الأمم السالفة والقرون الغابرة من أرسلناهم من رسلنا فحاق بهم من سوء العذاب ما لا مردّ له، وحل بهم من البأس ما لم يجدوا له دافعا على شدة هو له وعظيم فظاعته. والخلاصة- إن الكفار قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم،

[سورة الملك (67) : الآيات 20 إلى 27]

وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، ثم ذكر الدلائل على قدرته على إيصال أنواع العذاب بهم فقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) أي أغفلوا عن قدرتنا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم وهى باسطات أجنحتهن فى الجو حين طيرانها تارة، وقابضات لها أخرى، وما يمسكهن فى الجو حين الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إلا واسع رحمة من برأهن على أشكال وخصائص هو العليم بها، وألهمهن حركات تساعد على الجري فى الهواء المسافات البعيدة لتحصيل أقواتهن، والبحث عن أرزاقهن؟. ثم بين غلة هذا فقال: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي إنه سبحانه عليم بدقيق الأشياء وجليلها، فيعلم كيف يبدع خلقها على السنن التي هو عليم بفائدتها لعباده. والخلاصة- إنكم رأيتم بعض العجائب التي أبرزناها، والحكم التي أظهرناها فهل أنتم آمنون أن ندبر بحكمتنا عذابا نصبّه عليكم صبّا، ولا معقّب لحكمنا، ولا دافع لقضائنا. [سورة الملك (67) : الآيات 20 الى 27] أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

شرح المفردات

شرح المفردات جند: أي عون، ينصركم: أي يساعدكم فيدفع العذاب عنكم، من دون الرحمن: أي من غيره، فى غرور: أي فى خداع من الشيطان الذي يغركم بأن لا عذاب ولا حساب، أمسك رزقه: أي بإمساك المطر وغيره من الأسباب التي ينشأ منها الرزق، لجّوا: أي تمادوا، فى عتوّ: أي تكبر وعناد عن قبول الحق، ونفور: أي إعراض وتباعد منه، مكبّا على وجهه: أي واقعا عليه، سويا: أي معتدلا منتصبا، والأفئدة: العقول واحدها فؤاد، ذرأكم: أي خلقكم، الوعد: أي الحشر الموعود، إنما العلم: أي العلم بوقته، زلفة: أي مزدلفا قريبا، سيئت وجوه الذين كفروا: أي تبين فيها السوء والقبح إذ علتها الكآبة والقترة، ويقال: ساء الشيء يسوء إذا قبح، تدّعون: أي تطلبونه وتستعجلونه استهزاء وإنكارا المعنى الجملي بعد أن أبان للمشركين عجائب قدرته فيما يشاهدونه من أحوال الطير، ووبخهم على ترك التأمل فيها- أردفه بتوبيخهم على عبادتهم غيره تعالى يبتغون منه نصرا ورزقا، منكرا عليهم ما اعتقدوه، مبينا لهم أنهم لا يصلون إلى ما أمّلوه، وإلا فليبينوا هذا الناصر والمعين والرازق إذا هو أمسك رزقه. أما وقد وضح الحق لذى عينين فهم فى لجاج وعناد بعد وضوح الحجة وتبين المحجة، ثم ضرب مثلا يبين حالى المشرك والموحّد، فمثّل حال الأول بحال من يمشى

الإيضاح

منحنيا إلى الأمام على وجهه، فلا يدرى أين يسلك، ولا كيف يذهب، فيكون حائرا ضالا، ومثّل حال الثاني بحال من يمشى منتصب القامة على الطريق الواضح، فيرى ما أمامه ويهتدى إلى ما يريد. ثم أعقب هذا بذكر الدلائل على تفرده بالألوهية بذكر خلق الإنسان فى الأرض وإعطائه نعمة السمع والبصر، وأرشد إلى أن القليل من الناس شكور لهذه النعم. ثم أردف هذا بذكر سؤال المشركين للرسول عن ميقات البعث استهزاء به، وإجابته إياهم بأن علمه عند الله وليس له من علمه شىء، وإنما هو نذير مبين، وذكر أنه حين تقوم القيامة ويعرف المشركون قرب وقوع ما كانوا ينكرون تعلو وجوههم غبرة، ترهقها قترة، ويقال لهم: إن ما كنتم تستعجلون قد وقع ولا مردّ له، فماذا أنتم فاعلون؟. الإيضاح (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ؟ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي بل من هذا الذي يعينكم فى دفع العذاب عنكم إذا أراد بكم سوءا؟ فما أنتم فى زعمكم أنكم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتكم لا بحفظ الله لكم إلا فى ضلال مبين، وقد أغواكم الشيطان، وغركم بهذه الأمانى الباطلة. وفى قوله: (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إشارة إلى أنه برحمته أبقى الناس فى الأرض مع ظلمهم وجهالتهم، إذ رحمته وسعت كل شىء، فوسعت البرّ والفاجر، والطير فى السماء، والأنعام فى الأرض. ثم انتقل من توبيخهم على دعوى ناصر سواه إلى توبيخهم على دعوى رازق غيره فقال: (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟) أي بل من ذا الذي يرزقكم إن

منع ربكم عنكم أسباب رزقه من الأمطار وغيرها، أو وقف الهواء فلم تجر الرياح، أو جعل ماء البحر غورا؟ والخلاصة- إنه لا جند لكم ينصركم إن هو عذبكم، ولا رازق يرزقكم إن هو حرمكم أرزاقكم. وبعد أن حصحص الحق قال مبينا عتوهم وطغيانهم: (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي إنهم يعلمون ذلك حق العلم ويعبدون غيره، فما هذا منهم إلا عناد واستكبار ونفور عن قبول الحق، وما جرأهم على هذا إلا الشيطان الذي غرهم بوسوسته، فظنوا أن آلهتهم تنفعهم وتدفع الضر عنهم وتقرّبهم إلى ربهم زلفى. ثم ضرب مثلا يبين به الفارق بين حالى المشرك والموحد، جعل فيه المعقول بصورة المحسوس، ليكون أبين للحجة، وأوضح لطريق المحجة فقال: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) أي أفمن يمشى وهو يتعثر فى كل ساعة، ويخر على وجهه فى كل خطوة، لتوعر طريقه، واختلاف أجزائها انخفاضا وارتفاعا- أهدى سبيلا وأرشد إلى المقصد الذي فؤمه، أم من يمشى سالما من التخبط والعثار على الطريق السوىّ الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ - فهذا المكب على وجهه هو المشرك الذي يمشى على وجهه فى النار يوم القيامة، والذي يمشى سويا هو الموحد الذي يحشر على قدميه إلى الجنة. وبعد أن امتنّ على عباده بما آتاهم من زينة السماء، وتذليل الأرض، وإمساك الطير فى الهواء- أخذ يذكر ما هو أقرب إلينا وهو خلق أنفسنا فقال آمرا رسوله أن يبين لهم ذلك: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي قل لهم: إن ربكم هو الذي برأكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به المواعظ، والأبصار لتنظروا

بها بدائع صنع الخالق، والأفئدة لتتفكروا فى كل هذا، وتستفيدوا منه الفوائد العقلية والمادية. ثم أبان أن الإنسان لنعمة ربه لكنود فقال: (قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم بها ربكم عليكم فى طاعته، وامتثال أوامره، وترك زواجره، وذلك هو شكرانها. ثم لخص هذا كله بقوله آمرا رسوله: (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي قل لهم منبها إلى خطئهم: إن ربكم هو الذي برأكم فى الأرض وبعثكم فى أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم، وأشكالكم وصوركم، ثم يجمعكم كما فرقكم، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء، فيجزى كل نفس بما كسبت، إنه سريع الحساب. وبعد أن ذكر أن إليه المرجع والمآب- أردفه بذكر مقالة الكافرين المنكرين لذلك فقال: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويسألون الرسول استهزاء وتهكما: متى يقع ما تعدنا به من الخسف والحاصب فى الدنيا، والحشر والعذاب فى الآخرة إن كنت صادقا فيما تدعى وتقول؟ فأمر رسوله أن يجيبهم بأن علم ذلك عند بارئ النسم فقال: (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي إنما علم ذلك على وجه التعيين عند ربى لا يعلمه إلا هو، وقد أمرنى أن أخبركم بأن ذلك كائن لا محالة فاحذروه. ونحو الآية قوله: «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» . ثم بين وظيفة الرسول فقال: (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وإنما أنا منذر من عند ربى أبين لكم شرائعه، ما حلل منها وما حرم، لتكونوا على بينة من أمركم، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم.

[سورة الملك (67) : الآيات 28 إلى 30]

ثم بين حالهم حين نزول ذلك الوعد الموعود فقال: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي فلما رأوا العذاب الموعود قريبا «وكل آت قريب وإن طال زمنه» ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والخسران، وغشيتها القترة والسواد، إذ جاءهم من أمر الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: هذا الذي كنتم تستعجلون وقوعه وتقولون لرسوله: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . ونحو الآية قوله: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . [سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) شرح المفردات أرأيتم: أي أخبرونى، غورا: أي غائرا فى الأرض لا تناله الدلاء، معين: أي جار سهل المأخذ تصل إليه الأيدى. المعنى الجملي روى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك كما حكى الله عنهم فى آية أخرى بقوله: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» وقوله: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى

الإيضاح

أَهْلِيهِمْ أَبَداً» فنزلت الآية، ثم أمره أن يقول لهم: إن هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب الله، ثم أمره أن يقول لهم: إنا آمنا بربنا وتوكلنا عليه، وستعلمون غدا من الهالك؟ ثم أمره أن يقول لهم: إن غار ماؤكم فى الأرض ولم تصل إليه الدلاء، فمن يأتيكم بماء عذب زلال تشربونه؟ الإيضاح أجاب سبحانه عن تمنى المشركين موته صلى الله عليه وسلم ومن معه بوجهين: (ا) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي قل لهم موبخا: أخبرونى عن فائدة موتى لكم: سواء أماتنى الله ومن معى، أو أخر أجلنا فأى راحة لكم فى ذلك، وأي منفعة لكم فيه، ومن ذا الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم، أتظنون أن الأصنام أو غيرها تجيركم وهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب، فتقروا بالتوحيد والنبوة والبعث؟. وخلاصة هذا- إنه لا مجير لكم من عذاب الله بسبب كفركم الموجب لهذا العذاب- سواء هلكنا كما تتمنون ففزنا برحمة الله، أو انتصرنا عليكم ورفعنا شأن الإسلام كما نرجو، فكلا الأمرين فيه ظفر بما ينبغى، ونيل لما نحب ونهوى. وفى هذا إيماء إلى أمرين: (1) حثهم على طلب الخلاص بالإيمان الخالص لله والإخبات إليه. (2) إنه كان ينبغى أن يكون ما هم فيه شاغلا لهم عن تمنى هلاك النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين. (ب) (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي قل لهم: آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه توكلنا فى جميع أمورنا كما قال: «فاعبده وتوكّل عليه» وهو سيجيرنا من عذاب الآخرة. وفى هذا تعريض بهم حيث اتكلوا على أولادهم وأموالهم «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ

ما حوته السورة من موضوعات

أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» وإشارة إلى أنهم لا يرحمون فى الدارين، لأنهم كفروا بالله وتوكلوا على غيره. ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما قبله فقال: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي فسيستبين لكم من الضالّ منا ومن المهتدى. ولمن تكون العاقبة فى الدنيا والآخرة؟. ولما ذكر أنه يجب التوكل عليه لا على غيره أقام الدليل على ذلك فقال آمرا رسوله أن يقول لهم. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهم: أخبرونى إن ذهب ماؤكم فى الأرض ولم تصل إليه الدلاء، فمن يأتيكم بماء جار تشربونه عذبا زلالا. ولا جواب لكم إلا أن تقولوا هو الله، وإذا فلم تجعلون ما لا يقدر على شىء شريكا فى العبادة لمن هو قادر على كل شىء. وفى هذا طلب إقرار منهم ببعض نعمه، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. وقصارى ذلك- إنه تعالى فضلا منه وكرما أنبع لكم المياه وأجراها فى سائر الأقطار بحسب حاجتكم إليها قلة وكثرة، فله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم. ما حوته السورة من موضوعات (1) وصف السموات (2) بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف. (3) وصف عذاب الكافرين فى الدنيا والآخرة. (4) التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك.

سورة القلم

سورة القلم هى مكية إلا من آية 17 إلى 33، ومن آية 48 إلى آية 50 فمدنية. وعدد آيها ثنتان وخمسون، نزلت بعد العلق. وهى من أوائل ما نزل من القرآن بمكة، فقد نزلت: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» ثم هذه، ثم المزمل، ثم المدثر كما روى عن ابن عباس. ومناسبتها لما قبلها: (1) إنه ذكر فى آخر (الملك) تهديد المشركين بتغوير الأرض، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك وهو ثمر البستان الذي طاف عليه طائف فأهلكه وأهلك أهله وهم نائمون. (2) إنه ذكر فيما قبل أحوال السعداء والأشقياء، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع، وأنه لو شاء لخسف بهم الأرض أو أرسل عليهم حاصبا، وكان ما أخبر به هو ما أوحى به إلى رسوله، وكان المشركون ينسبونه فى ذلك مرة إلى الشعر وأخرى إلى السحر وثالثة إلى الجنون- فبرأه الله فى هذه السورة مما نسبوه إليه، وأعظم أجره على صبره على أذاهم وأثنى على خلقه. [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

شرح المفردات

شرح المفردات يسطرون: أي يكتبون، ممنون: أي مقطوع يقال منّه السير إذا أضعفه، والمنين: الضعيف، المفتون: المجنون لأنه فتن، أي ابتلى بالجنون. المعنى الجملي أقسم ربنا بالقلم وما يسطّر به من الكتب: إن محمدا الذي أنعم عليه بنعمة النبوة ليس بالمجنون كما تدّعون، وكيف يكون مجنونا والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحى. وقد أقسم سبحانه بالقلم والكتب فتحا لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربنا إلا بالأمور العظام فإذا أقسم بالشمس والقمر، والليل والفجر فإنما ذلك لعظمة الخلق وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب فإنما ذاك ليعمّ العلم والعرفان، وبه تتهذب النفوس، وترقى شئوننا الاجتماعية والعمرانية، ونكون كما وصف الله «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ثم وعد رسوله بما سيكون له من جزيل الأجر على صبره على احتمال أذى المشركين، وأردف هذا بوصفه بحسن الخلق ورفقه بالناس امتثالا لأمره «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن. ثم هدد المشركين وتوعدهم بما سيتبين لهم من عاقبة أمره وأمرهم، وأنه سيكون العزيز المهيب فى القلوب وسيكونون الأذلاء، وأنه سيستولى عليهم ويأسر فريقا ويقتل آخر، وسيعلمون حينئذ من المجنون؟ والله هو العليم بالمجانين الذين ضلوا عن سبيله، والعقلاء الذين اهتدوا بهديه.

الإيضاح

الإيضاح (ن) تقدم أن قلنا غير مرة إن أرجح الآراء فى معنى الحروف المقطعة التي وقعت فى أوائل السور أنها حروف تنبيه نحو ألا، وأما. (وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) أي أقسم بالقلم وما يكتب به من الكتب. ثم ذكر المقسم عليه فقال: (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي إنك لست بالمجنون كما يزعمون، فقد أنعم الله عليك بالنبوة وحصافة العقل وحسن الخلق. ثم بين بعض نعمه عليه فقال: (1) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي وإن لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على الأذى ومقاساة الشدائد. (2) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فقد برأك الله على الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق كريم. روى الشيخان عن أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لى أفّ قط ولا قال لشىء فعلته لم فعلته؟ ولا لشىء لم أفعله ألّا فعلته؟» . وروى أحمد عن عائشة قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد فى سبيل الله ولا خيّر بين شيئين قط إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شىء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله» .

[سورة القلم (68) : الآيات 8 إلى 16]

وفى الآية رمز إلى أن الأخلاق الحسنة لا تكون مع الجنون، وكلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد من الجنون. ثم توعدهم بما يحل بهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة فقال: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ؟) أي فستعلم أيها الرسول وسيعلم مكذبوك من المفتون الضال منكم ومنهم؟ ونحو الآية قوله تعالى: «سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ» وقوله: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . والخلاصة- ستبصر ويبصرون غلبة الإسلام واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر وهيبتك فى أعين الناس أجمعين، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين. وهذا يشمل ما كان فى بدر وغيرها من الوقائع التي كان فيها النصر المبين للمؤمنين، والخزي والهوان وذهاب صولة المشركين مما كان عبرة ومثلا للآخرين. ثم أكد ما تضمنه الكلام السابق من الوعد والوعيد فقال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك سبحانه هو أعلم بمن حاد عن الطريق السوىّ المؤدى إلى سعادة الدارين، وهام فى تيه الضلالة، فلا يفرق بين ما ينفع وما يضر، بل يحسب الضر نفعا والنفع ضرا، وأعلم بالمهتدين إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل محذور، ويجازى كلّا من الفريقين بحسب ما يستحقون من العقاب والثواب. [سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

شرح المفردات

شرح المفردات قال الليث: الإدهان: اللين والمصانعة والمقاربة فى الكلام، وقال المبرد: يقال داهن الرجل فى دينه وداهن فى أمره إذا أظهر خلاف ما يضمر، والحلّاف: كثير الحلف فى الحق والباطل، والمهين: المحتقر الرأى والتمييز، والهماز: العياب الطعّان، والمشاء بالنميم: أي الذي يمشى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، والمنّاع للخير: البخيل، والمعتدى: الذي يتجاوز الحق ويسير فى الباطل، والأثيم: الكثير الآثام والذنوب، والعتلّ: الشديد الخصومة الفظّ الغليظ، والزنيم: الذي يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها (الجزء المسترخى من أذنها حين تشق ويبقى كالشىء المعلق) سنسمه: أي نجعل له سمة وعلامة، والخرطوم: الأنف. المعنى الجملي بعد أن ذكر مقالة المشركين فى الرسول بنسبته إلى الجنون، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال فى الدين والخلق- أردفه مما يقوى قلبه ويدعوه إلى التشدد مع قومه، مع قلة العدد وكثرة الكفار (إذ هذه السورة من أوائل ما نزل) فنهاه عن طاعتهم عامة، ثم أعاد النهى عن طاعة المكذبين الذين اتصفوا بالأخلاق الذميمة التي ذكرت فى هذه الآيات خاصة، دلالة على قبح سيرتهم، وضعة نفوسهم، وتدسيتهم لها بعظيم الذنوب والآثام. الإيضاح (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة المكذبين عامة وتشدد فى ذلك. وفى هذا إيماء إلى النهى عن مداراتهم ومداهنتهم، استجلابا لقلوبهم، وجذبا لهم إلى اتباعه.

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي ودّ المشركون لو تلين لهم فى دينك بالركون إلى آلهتهم، فيدينون لك فى عبادة إلهك. روى أن رؤساء مكة دعوة إلى دين آبائه فنهاه عن طاعتهم. وخلاصة ذلك- ودوا لو تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم، فيفعلون مثل ذلك، ويتركون بعض ما لا ترضى، فتلين لهم ويلينون لك، وترك بعض الدين كله كفر بواح. والمراد من هذا النهى التهييج والتشدد فى المخالفة والتصميم على معاداتهم. ونحو الآية قوله: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» . ثم خص من هؤلاء المكذبين أصنافا هانت عليهم نفوسهم فأفسدوا فطرتها، تشهيرا بهم فقال: (1) (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي ولا تطع المكثار من الحلف بالحق وبالباطل. والكاذب يتقى بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على الله- ضعفه ومهانته أمام الحق، وفيه دليل على عدم استشعاره الخوف من الله. والكذب أسّ كل شر، ومصدر كل معصية، وكفى مزجرة لمن اعتاد الحلف، أن جعله الولي فاتحة المثالب، وأسّ المعايب. (2) (مَهِينٍ) أي محتقر الرأى والتفكير. (3) (هَمَّازٍ) أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالمكروه، وينال من أعراضهم بذكر مثالبهم. (4) (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم. وأصل النميمة الحركة الخفيفة ومنه أسكت الله نأمنه أي ما ينمّ عليه من حركته.

(5) (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بماله ممسك له، لا يجود به لدى البأساء والضراء فهو لا يدفع عوز المعوزين، ولا يساعد المحتاجين البائسين، ولا ينجد الأمة إذا حزبها الأمر، وضاقت بها السبل، كدفع عدوّ يهاجم البلاد، أو دفع كارثة نزلت بها، تحتاج إلى بذل المال. (6) (مُعْتَدٍ) أي متجاوز لما حدّه الله من أوامر ونواه، فهو يخوض فى الباطل خوضه فى الحق، ولا يتحرّج عن ارتكاب المآثم والمظالم. (7) (أَثِيمٍ) أي كثير الآثام ديدنه ذلك، فهو لا يبالى بما ارتكب، ولا بما اجترح. (8) (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) أي وفوق ذلك هو فظ غليظ جاف، يعامل الناس بالغلظة والفظاظة. (9) (زَنِيمٍ) أي معروف بالشرور والآثام، كما تعرف الشاة بالزنمة روى عن ابن عباس أنه قال: هو الرجل يمرّ على القوم فيقولون رجل سوء. ثم ذكر بعض مار بما دعاه إلى طاعتهم فقال: (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطع من هذه مثالبه من جراء ماله، وكثرة أولاده وتقوّيه بهم، فإن ذلك لا يجديه نفعا عند ربه كما قال سبحانه: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» . ثم ذكر سبب النهى عن طاعته فقال: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا تلى عليه القرآن قال ما هو إلا من كلام البشر، ومن قصص الأولين التي دوّنت فى الكتب، وليس هو من عند الله. ونجو الآية قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ

[سورة القلم (68) : الآيات 17 إلى 33]

كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» . وبعد أن ذكر قبائح أفعاله توعّده فقال: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه والمراد أنا سنبين أمره بيانا واضحا حتى لا يخفى على أحد كما لا يخفى ذو السمة على الخرطوم. وفى هذا إذلال ومهانة له، لأن السمة على الوجه شين، فما بالك بها فى أكرم موضع، وهو الأنف الذي هو مكان العزّة والحميّة والأنفة، ومن ثم قالوا: الأنف فى الأنف، وقالوا حمى أنفه، وقالوا: هو شامخ العرنين، وعلى عكسه قالوا فى الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، قال جرير: لمّا وضعت على الفرزدق ميسمى ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل وفى التعبير بلفظ (الخرطوم) استخفاف به، لأنه لا يستعمل إلا فى الفيل والخنزير، وفى استعمال أعضاء الحيوان للانسان كالمشفر للشفة، والظّلف للقدم دلالة على التحقير كما لا يخفى. والخلاصة- سنذله فى الدنيا غاية الإذلال، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشر، ونسمه يوم القيامة على أنفه، ليعرف بذلك كفره وانحطاط قدره. [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)

شرح المفردات

شرح المفردات بلوناهم: أي امتحناهم بألوان من البلاء والآفات، والجنة: البستان، ليصر منّها: أي ليقطعنّ ثمار نخيلها، مصبحين: أي وقت الصباح، ولا يستثنون: أي ولا ينثنون عما همّوا به من منع المساكين، فطاف عليها طائف من ربك: أي طرقها طارق من عذاب ربك، إذ أرسل عليها صاعقة من السماء أحرقتها، كالصريم: أي كالليل البهيم فى السواد بعد أن احترقت، فتنادوا: أي نادى بعضهم بعضا، أن اغدوا: أي اخرجوا غدوة مبكّرين، حرثكم: أي بستانكم، صارمين: أي قاصدين الصّرم وقطع الثمار، يتخافتون: أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والمناجاة حتى لا يسمعهم أحد، على حرد: أي على منع، لضالون: أي قد ضللنا طريق جنتنا وما هذه هى، محرومون: أي حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا، أوسطهم: أي أرجحهم رأيا، تسبحون: أي تذكرون الله وتشكرونه على ما أنعم به عليكم، يتلاومون: أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين، طاغين: أي متجاوزين حدود الله.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن ذا المال والبنين كفر وعصى وتمرد لما آتاه الله من النعم- أردف هذا ببيان أن ما أوتيه إنما كان ابتلاء وامتحانا ليرى أيصرف ذلك فى طاعة الله وشكره، فيزيد له فى النعمة، أم يكفر بها فيقطعها عنه، ويصب عليه ألوان البلاء والعذاب؟ كما أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعاصي دمّر الله جنتهم، فما بالك بمن حادّ الله ورسوله وأصر على الكفر والمعصية. روى أن هذه الجنة كانت على فرسخين من صنعاء بأرض اليمن لرجل صالح وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما فى أسفل الأكداس، وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم من ذلك شىء كثير، فلما مات الرجل قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصرمنّها وقت الصباح خفية عن المساكين فجازاهم الله بما يستحقون وأحرق جنتهم، ولم يبق منها شيئا. الإيضاح (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي إنا امتحنا كفار مكة بما تظاهر عليهم من النعم والآلاء، وما رحمناهم به من واسع العطاء، لنرى حالهم، أيشكرون هذه النعم ويؤدون حقها، وينيبون إلى ربهم، ويتبعون الداعي لهم إلى سبيل الرشاد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثناه لهم هاديا وبشيرا ونذيرا، أم يكفرون به ويكذبونه، فيجحدون حق الله عليهم، فيبتليهم بعذاب من عنده ويبيد تلك النعم جزاء كفرانهم وجحودهم، كما اختبرنا أصحاب ذلك البستان الذين منعوا حق الله فيه، وعزموا على ألا يؤدوا زكاته لبائس ولا فقير، فحق عليهم من الجزاء ما هم له أهل، ودمره شر التدمير.

(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي حين حلفوا ليجذّنّ ثمرها غدوة حتى لا يعلم بهم سائل ولا فقير، فيتوافر لهم ما كان يأخذه هؤلاء الفقراء، ولم ينثنوا عما همّوا به. ثم أخبر عما جازاهم به لكفرانهم بهذه النعم ومنعهم حق الفقراء فقال: (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا وهم نيام، إذ أرسل عليها صاعقة فاحترقت وصارت تشبه الليل البهيم فى السواد. أخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيىء له، ثم تلا: فطاف عليها طائف الآية، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم» . وقد غفلوا عما قدر لهم فلم يدروا مما كان شيئا، ومن ثم أرادوا تنفيذ ما عزموا عليه. (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي فنادى بعضهم بعضا هلمّوا واذهبوا غدوة لقطع ثمار بستانكم إن كنتم فاعلين. وقد أحكموا التدبير وأخفوا الأمر جدّ الخفية حتى لا يتسمع لهم أحد كما قال: (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي فمضوا إلى حرثهم يتسارّون ويقول بعضهم لبعض: لا تمكّنوا اليوم مسكينا من الدخول فيها. (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وغدوا مصممين على منع المساكين وحرمانهم وهم قادرون على نفعهم، فهم قد تعجلوا الحرمان وكان أولى بهم أن تكون هممهم متوجهة إلى النفع الذي هم قادرون عليه.

ولكن وا خيبة أملاه، ووا ضياع مسعاهم، ويا هول ما رأوه مما لا تصدقه العين ولا يخطر لهم ببال، بستان كان بالأمس عامرا زاخرا بالخير والبركة أصبح قاعا صفصفا قد تغيرت معالمه، ودرست رسومه، حتى تشككوا فيه حين رأوه كما قال سبحانه: (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي فلما صاروا إلى بستانهم ورأوه محترقا أنكروه وشكّوا فيه وقالوا: أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه؟ ولكن بعد أن تبينت لهم معالمه واستيقنوها عادوا على أنفسهم بالملامة وقالوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لسنا بضالين، بل نحن قد حرمنا خيره بجنايتنا على أنفسنا، بشؤم عزمنا على البخل ومنع مساعدة البائسين والمعوزين، وندموا على ما فرط منهم حيث لا ينفع الندم، كما يرشد إلى ذلك قوله سبحانه حاكيا عنهم. (قالَ أَوْسَطُهُمْ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) أي قال أرجحهم رأيا، وأحسنهم تدبيرا: ألم أقل لكم: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أولاكم من النعم، فتؤدوا حق البائس الفقير، ليبارك لكم فيما أنعم وتفضل، لكنكم أعرضتم عما أدليت لكم به من الرأى وضربتم به عرض الحائط. وبعد اللّتيا والتي، وبعد ضياع الفرصة تبين لهم خطأ ما كانوا عزموا عليه، واعترفوا بذنوبهم كما حكى عنهم سبحانه بقوله: (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) أي تنزيها لربنا أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا. ثم أكدوا ندمهم واعترافهم بالذنب تحقيقا لتوبتهم وهضما لأنفسهم فقالوا: (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بحرماننا البائس الفقير، ولكن هيهات فقد ضاعت الفرصة، وحل مكانها الغصّة، وهكذا شأن الإنسان. وبعد أن حدث ما حدث ألقى كل منهم تبعة ما وقع على غيره وتشاحنوا، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله:

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) فيقول هذا لهذا: أنت الذي أشرت علينا بهذا الرأى، ويقول ذاك لهذا: أنت الذي خوفتنا الفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت الذي رغبتنى فى جمع المال. ثم نادوا على أنفسهم بالويل والثبور كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنهم: (قالُوا يا وَيْلَنا) أي قالوا: أقبل أيها الهلاك فلا نستحق غيرك، ثم بينوا علة هذا الدعاء بقولهم. (إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي إنا اعتدينا على ما حده الله لنا من الإحسان على الفقراء والمعوزين، وتركنا الشكر على نعمه علينا. ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم خيرا من جنتهم فقالوا: (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي لعل الله يعطينا بدلا هو خير منها، بتوبتنا من زلاتنا، ويكفر عنا سيئاتنا، إنا راجون عفوه، طالبون الخير منه. روى عن مجاهد أنهم تابوا فأبدلهم الله خيرا منها. (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي وهكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه وأنعم به عليه ومنع حق البائس الفقير. وإذا كانت هذه حال من فعل الذنب اليسير كأصحاب الجنة، فما بالكم بذنب من يعاند الرسول ويصرّ على الكفر والمعصية؟. وبعد أن أبان لهم أن عذاب الدنيا كما سمعتم ورأيتم أشار إلى عذاب الآخرة فقال: (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا، فما عذاب هذه إلا هلاك الأموال والثمرات، وعذاب تلك نار

[سورة القلم (68) : الآيات 34 إلى 43]

وقودها الناس والحجارة، فلو كانوا من ذوى العلم والمعرفة لارتدعوا عن غيّهم وثابوا إلى رشدهم. وفى هذا نعى عليهم بالغفلة، وأنهم ليسوا من أرباب النّهى والمعرفة. [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) شرح المفردات تدرسون: أي تقرءون، تخيرون: أي تختارون، أيمان: أي عهود، بالغة: أي متناهية فى التوكيد موثّقة، إلى يوم القيامة: أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم، أيهم بذلك زعيم: أي أيهم كفيل بذلك الحكم وأن لهم فى الآخرة ما للمسلمين فيها، كشف الساق: يراد به الشدة، وقد كانوا إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق. قد شمّرت عن ساقها فشدوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا روى عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال: إذا خفى عليكم شىء من القرآن فابتغوه فى الشعر فإنه ديوان العرب. أما سمعتم قول الراجز:

المعنى الجملي

صبرا عناق إنه شرّ باق قد سن لى قومك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب بنا على ساق خاشعة أبصارهم: أي ذليلة، سالمون: أي أصحاء. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوه وخالفوا أمره- أعقب هذا ببيان أن لمن اتقاه وأطاعه جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفنى فى الدار الآخرة، ثم ردّ على من قال من الكفار: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد وصحبه، لم يفضلونا بل نكون أحسن منهم حالا، لأن من أحسن إلينا فى الدنيا يحسن إلينا فى الآخرة- بأنكم كيف تسوّون بين المطيع والعاصي فضلا عن أن تفضلوا العاصي عليه، ثم أخذ يقطع عليهم الحجة فقال: أتلقيتم كتابا من السماء فقرأتم فيه أنكم تختارون ما تشاءون، وتكونون وأنتم مجرمون كالمسلمين الصالحين، أم أعطينا كم عهودا أكدناها بالأيمان فاستوثقتم بها فهى ثابتة لكم إلى يوم القيامة؟ أم لكم أناس يذهبون مذهبكم فى هذا القول، وإن صح أن لكم ذلك فلتأتوا بهم يوم يشتد الأمر، ويصعب الخطب. وتدعونهم حينئذ إلى السجود فلا يستطيعون، وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة، وقد كانوا يدعون فى الدنيا إلى السجود وهم سالمون أصحاء، فيأبون كل الإباء. الإيضاح (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي طن لمن اتقوا ربهم فأدّوا فرائضه، واجتنبوا نواهيه، جنات ينعمون فيها النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.

قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله فضلنا عليكم فى الدنيا فلا بدّ أن يفضلنا عليكم فى الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة، فرد الله عليهم ما قالوا وأكد فوز المتقين بقوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟) أي أفنحيف فى الحكم ونسوى بين هؤلاء وهؤلاء فى الجزاء، كلا ورب الأرض والسماء. ثم عجّب من حكمهم واستبعده، وبين أنه لا يصدر من عاقل فقال: (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟) أي ماذا حصل لكم من فساد الرأى وخبل العقل حتى قلتم ما قلتم؟ ثم سدّ عليهم طريق القول، وقطع عليهم كل حجة يستندون إليها فيما يدّعون فقال: (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي أفبأيديكم كتاب نزل من السماء تدرسونه وتتداولونه، ينقله الخلف عن السلف، يتضمن حكما مؤكدا كما تدّعون، أن لكم ما تختارون وتشتهون، وأن الأمر مفوض إليكم لا إلى غيركم؟ وخلاصة هذا- أفسدت عقولكم حتى حكمتم بهذا، أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم؟. (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أم معكم عهود منا مؤكدة لا نخرج من عهدتها إلى يوم القيامة أنه سيحصل لكم كل ما تهوون وتشتهون؟. وخلاصة ذلك- أم أقسمنا لكم قسما إن لكم كل ما تحبون؟. ثم طلب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم على طريق التوبيخ والتقريع فقال:

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) الزعيم عند العرب الضامن والمتكلم عن القوم، أي قل لهم من الكفيل بتنفيذ هذا؟ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي أم لهم ناس يشاركونهم فى هذا الرأى، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين؟ وإن كان كذلك فليأتوا بهم إن كانوا صادقين فى دعواهم. وقصارى هذا الحجاج- نفى جميع ما يمكن أن يتعلقوا به فى تحقيق دعواهم، فنبه أوّلا إلى نفى الدليل العقلي بقوله: «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ثم إلى نفى الدليل النقلى بقوله: «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ» ثم إلى نفى الوعد بذلك- ووعد الكريم دين عليه- بقوله: «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا» ثم إلى نفى التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ» . (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي فليأتوا بهؤلاء الشركاء ليعاونوهم إذا اشتد الهول وعظم الأمر يوم القيامة. وحينئذ يدعى هؤلاء الشركاء إلى السجود توبيخا لهم على تركهم إياه فى الدنيا فلا يستطيعون، فتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه فى الدنيا وهم سالمون أصحاء فلم يفعلوا. (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يدعون إلى السجود وتكون أبصارهم خاشعة وتغشاهم ذلة فى ذلك اليوم، وقد كانوا فى الدنيا متكبرين متجبرين، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه. (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي إنهم لما دعوا إلى السجود فى الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامة أبدانهم، عوقبوا فى الآخرة بعدم قدرتهم عليه، فإذا تجلى الرب سجد له المؤمنون، ولم يستطع أحد من الكافرين والمنافقين

[سورة القلم (68) : الآيات 44 إلى 52]

أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقا واحد، فكلما همّ بالسجود خرّ لقفاه بعكس السجود فى الدنيا. وقال النخعي والشعبي: المراد بالسجود الصلوات المفروضة، وقال آخرون: إن المراد جميع العبادات. [سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) شرح المفردات تقول: ذرنى وإياه: أي كله إلىّ فإنى أكفيكه ويقال استدرجه إلى كذا: إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورّطه فيه، وأملى لهم: أي أمهلهم وأطيل لهم المدة يقال أملى الله له: أي أطال له الملاوة وهى المدة من الزمن، والكيد هنا: الإحسان، والمغرم: الغرامة المالية، مثقلون: أي مكلفون أحمالا ثقالا فهم بسببها يعرضون عنك، الغيب: هو ما كتب فى اللوح واستأثر الله بعلمه، يكتبون: أي يحكمون على الله بما شاءوا وأرادوا، حكم ربك: هو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم،

المعنى الجملي

صاحب الحوت: هو يونس عليه السلام، مكظوم: أي مملوء غيظا، من قولهم: كظم السقاء إذا ملأه، والعراء: الأرض الخالية، فاجتباه: أي اصطفاه، يزلقونك: أي يزلون قدمك، يقولون: نظر إلىّ نظرة كاد يصرعنى، أو كاد يأكلنى: أي لو أمكنه بنظره أن يصرعنى أو يأكلنى لفعل، قال شاعرهم: يتقارضون إذا التقوا فى موطن ... نظرا يزل مواطن الأقدام والذكر: القرآن، ذكر: أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه. المعنى الجملي بعد أن خوف الكفار من هول يوم القيامة- خوّفهم مما فى قدرته من القهر فقال لرسوله مؤنّبا لهم وموبخا: خلّ بينى وبين من يكذب بهذا القرآن، فإنى عالم بما ينبغى أن أفعل بهم، فلا تشغل قلبك بهم، وتوكل علىّ فى الانتقام منهم، إنا سندنيهم من العذاب درجة فدرجة، ونورطهم فيه بما نوليهم من النعم، ونرزقهم من الصحة والعافية، فتزداد معاصيهم من حيث لا يشعرون، فكلما جدّدوا معصية جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم شكرها. ثم قال لرسوله: ماذا ينقمون منك؟ ء أنت تسألهم أجرا على تبليغ الرسالة ثقل عليهم فامتنعوا عن إجابة دعوتك؟ أم عندهم علم الغيب المكتوب فى اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به؟ كلا، لا هذا ولا ذاك، إذا فالقوم معاندون، فلم يبق إلا أن تصبر لحكم ربك، وقد حكم بإمهالهم وتأخير نصرتك، وهم إن أمهلوا فلن يهملوا. ثم نهى رسوله أن يكون كيونس عليه السلام حين غضب على قومه ففارقهم ونزل إلى السفينة فابتلعه الحوت ودعا ربه وقال: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» وهو مملوء غيظا وحنقا.

الإيضاح

ثم أخبر رسوله بأن الكافرين ينظرون إليه شذرا حين يسمعون منه القرآن، ويقولون حسدا على ما آتاه من النبوة: «إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» تنفيرا منه ومن دعوته، وما القرآن إلا عظة للجن والإنس جميعا، لا يفهمها إلا من كان أهلا لها. الإيضاح (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي كل أيها الرسول أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن إلىّ، ولا تشغل قلبك بشأنهم فأنا أكفيك أمرهم، وهذا كما يقول القائل لمن يتوعد رجلا: دعنى وإياه، وخلّنى وإياه، فأنا أعلم بمساءته والانتقام منه. وفى هذا تسلية لرسوله وتهديد للمشركين كما لا يخفى. وخلاصة ذلك- حسبك انتقاما منهم أن تكل أمرهم إلىّ وتخلّى بينى وبينهم. ثم بيّن كيف يكون ذلك التعذيب المستفاد إجمالا من الكلام السابق فقال: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة من حيث لا يعلمون أنه استدراج، بل يزعمون أنه إيثار وتفضيل لهم على المؤمنين، مع أنه سبب فى هلاكهم فى العاقبة. ونحو الآية قوله: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» وقوله: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» . (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأؤخرهم وأنسئ فى آجالهم ملاوة من الزمان على كفرهم وتمردهم علىّ لتتكامل حججى عليهم، وإن كيدى لأهل الكفر لقوى شديد. وسمى سبحانه إحسانه إليهم كيدا «والكيد ضرب من الاحتيال» لكونه فى صورته، من قبل أنه تعالى يفعل بهم ما هو نفع لهم ظاهرا وهو يريد بهم الضرر،

لما علم من خبث طويّتهم، وسوء استعدادهم وتماديهم فى الكفر وتدسيتهم أنفسهم بالآثام والمعاصي. وفى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إنّ أخذه أليم شديد» . ثم ذكر من الشبه ما ربما يكون هو المانع لهم عن قبول الحق فقال: (1) (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسأل أيها الرسول هؤلاء المشركين بالله على ما آتيتهم من النصيحة والدعوة إلى الحق أجرا دنيويا؟ فهم من غرم ذلك الأجر مثقلون بأدائه، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك، وتجنبوا لعظم ما أصابهم من الغرم الدخول فى الدين الذي دعوتهم إليه. وخلاصة ذلك- إن أمرهم لعجيب، فإنك لتدعوهم إلى الله بلا أجر تأخذه منهم، بل ترجو ثواب ذلك من ربك، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وعنادا. (2) (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه نبأ ما هو كائن، فهم يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم، ويخاصمونك بما يكتبون من ذلك، ويستغنون بذلك عن الإجابة لك، والامتثال لما تقول. ولما بالغ فى تزييف طريق الكافرين، وزجرهم عما هم عليه، أمر رسوله بالصبر على أذاهم فقال: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر على قضاء ربك وحكمه فيك وفى هؤلاء المشركين، وامض لما أمرك به، ولا يثنك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه- تكذيبهم وأذاهم لك.

روى أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض نفسه على القبائل بمكة فنزل قوله تعالى (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي ولا تكن كيونس ابن متّى حين ذهب مغاضبا لقومه، فكان من أمره ما كان من ركوب البحر والتقام الحوت له، وشروده به فى البحار، فنادى ربه فى الظلمات من بطن الحوت وهو مملوء غيظا من قومه إذ لم يؤمنوا حين دعاهم إلى الإيمان. وجاء فى الآية الأخرى: «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» . (لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لولا أن تداركته نعمة الله بتوفيقه للتوبة وقبولها منه، لطرح بالفضاء من بطن الحوت وهو مليم مطرود من الرحمة والكرامة. (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولكن تداركته نعمة من ربه فاصطفاه وأوحى إليه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، وجعله من المرسلين العاملين بما أمرهم به ربهم، المنتهين عما نهاهم عنه. ثم بيّن بالغ عداوتهم له، فذكر أنها سرت من القلب إلى النظر فقال: (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا، حتى ليكادون يزلون قدمك فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله، حسدا لك وبغضا. ويرى بعضهم أن المراد إنهم يكادون يصيبونك بالعين، وروى أنه كان فى بنى أسد عيّانون، فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمه الله وأنزل عليه هذه الآية.

ما تضمنته هذه السورة من موضوعات

وقد صح هذا الحديث من عدة طرق: «إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» . وروى أحمد عن أبى ذرّ مرفوعا: «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا ثم يتردّى منه» . والأحاديث فى هذا الباب كثيرة، وعن الحسن: رقية العين هذه الآية. وسر هذا أن من خصائص بعض النفوس أن تؤثر فى غيرها بوساطة العين، لما فيها من كهربية خاصة يكون بها تأثير فيما تنظر إليه، والله يخص ما شاء بما شاء. وشبيه بهذا تأثير بعض النفوس فى بعض بوساطة التنويم المغناطيسى الذي أصبح الآن فناله أساليب علمية لا يمكن إنكارها. (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي ويقولون لحيرتهم فى أمره، وجهلهم بما فى تضاعيف القرآن من عجائب الحكم، وبدائع العلوم: إنه لمجنون. (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي يقولون ما قالوا، وما هو إلا تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، أفيكون من أنزل عليه مثل هذا وهو مطلع على أسراره، محيط بجميع حقائقه خبرا، ممن ينطبق عليه مثل هذا الوصف الذي قالوه، أم يكون مثل هذا من أدل الدلائل على كمال الفضل والعقل؟ والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ما تضمنته هذه السورة من موضوعات (1) محاسن الأخلاق النبوية إلى قوله: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» . (2) سوء أخلاق بعض الكفار وجزاؤهم من قوله: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ» إلى قوله: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» . (3) ضرب المثل لهم بأصحاب الجنة من قوله: «إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (4) تقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجج عليهم. (5) تهديد المشركين المكذبين بالقرآن بقوله: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ» إلخ. (6) أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين حتى لا يكون كصاحب الحوت.

سورة الحاقة

سورة الحاقة هى مكية، وآيها ثنتان وخمسون، نزلت بعد سورة الملك. ومناسبتها لما قبلها: (1) إنه وقع فى ن ذكر يوم القيامة مجملا، وهنا فصّل نبأه وذكر شأنه العظيم. (2) إنه ذكر فيما قبلها من كذب بالقرآن وما توعده به، وهنا ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل وما جرى عليهم، ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام. [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)

شرح المفردات

شرح المفردات الحاقة: من حق الشيء، إذا ثبت ووجب، أي الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء وهى يوم القيامة، ما الحاقة: أي أىّ شىء هى؟ تفخيما لشأنها، وتعظيما لهولها، وما أدراك ما الحاقة: أي أىّ شىء أعلمك ما هى؟ فلا علم لك بحقيقتها، إذ بلغت من الشدة والهول أن لا يبلغها علم المخلوقين، والقارعة: هى الحاقة التي تقرع قلوب الناس بالمخافة والأهوال، وتقرع الأجرام بالانفطار والانتشار، وسميت قارعة لشدة هولها، إذ القرع ضرب شىء بشىء، والطاغية: هى الواقعة التي جاوزت الحد فى الشدة والقوة كما قال «إنّا لمّا طغى الماء» أي جاوز الحد، والمراد بها الصاعقة، والصرصر: الشديدة الصوت التي لها صرصرة، عانية: أي بالغة منتهى القوة والشدة، سخرها عليهم: أي سلطها عليهم، حسوما: أي متتابعة واحدها حاسم، والحسم: القطع والاستئصال وسمى السيف حساما لأنه يحسم العدو عما يريد من عداوته، وصرعى: واحدهم صريع أي ميت، وأعجاز: واحدها عجز، وهو الأصل، وخاوية: أي خالية الأجواف لا شىء فيها، والباقية: البقاء، والمؤتفكات: أي المنقلبات وهى قرى قوم لوط، جعل الله عاليها سافلها بالزلزلة، والخاطئة: الخطأ، رابية: من ربا الشيء إذا زاد أي الزائدة فى الشدة، وطغى الماء: تجاوز حده وارتفع، حملناكم: أي حملنا آباءكم وأنتم فى أصلابهم، والجارية: السفينة التي تجرى فى الماء، وتعيها: أي تحفظها، وتقول لكل ما حفظته فى نفسك: وعيته، وتقول لكل ما حفظته فى غير نفسك: أوعيته فيقال أوعيت المتاع فى الوعاء قال: «والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد» . المعنى الجملي ذكر سبحانه أن يوم القيامة حق لا شك فيه، وأن الأمم التي عصت رسلها وكذبتهم، أصابها الهلاك والاستئصال بألوان من العذاب، فثمود أهلكت بالصاعقة

الإيضاح

وعاد أهلكت بريح صرصر عانية سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة، فصاروا صرعى كأنهم أصول نخل جوفاء، لم يبق منهم ديّار، ولا نافخ نار وكذلك أهلك فرعون وقومه بالغرق، وقوم لوط بالزلزال الشديد الذي قلب قراهم وجعل عاليها سافلها، وأهلك قوم نوح بالطوفان. الإيضاح (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ؟) هذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة فى الغرض الذي يساق له، فكأنه قيل: أي شىء هى فى حالها وصفتها؟ فهى لا تحيط بها العبارة، ولا يبلغ حقيقتها الوصف. ثم زاد سبحانه فى تفظيع شأنها، وتفخيم أمرها، وتهويل حالها فقال: (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟) أي أىّ شىء أعلمك ما هى؟ فهى خارجة عن دائرة علوم المخلوقات، لعظم شأنها، ومدى هولها وشدتها، فلا تبلغها دراية أحد ولا وهمه، فكيفما قدرت حالها، فهى فوق ذلك وأعظم. قال سفيان بن عيينة: كل ما فى القرآن قال فيه: وما أدراك، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر به، وكل شىء قال فيه: وما يدريك، فإنه لم يخبر به. ثم ذكر بعض الأمم التي كذبت بها، وما حاق بها من العذاب فقال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي كذبت ثمود وعاد بالقيامة التي تقرع الناس بالفزع والهول، والسماء بالانفجار، والأرض والجبال بالنسف، والنجوم بالطمس والانكدار. ثم فصل ما نزل بكل أمة من العذاب فقال: (1) (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي فأما ثمود فأهلكهم الله بصيحة جاوزت الحد فى الشدة كما جاء فى هود «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» وهى الصاعقة التي جاءت فى حم السجدة، والرجفة والزلزلة التي جاءت فى سورة الأعراف، فلا تعارض

بين الآيات، لأن الهلاك فى بعضها نسب إلى السبب القريب، وفى بعضها نسب إلى السبب البعيد. (2) (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) أي وأما عاد فأهلكوا بريح مهلكة عتت عليهم بلا شفقة ولا رحمة، فما قدروا على الخلاص منها بحيلة: من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء فى حفرة، فقد كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم، وقد دامت سبع ليال وثمانية أيام بلا انقطاع ولا فتور. ثم ذكر نتائجها فقال: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ؟) أي فترى قوم عاد فى تلك السبع الليالى والثمانية الأيام المتتابعة صرعى هالكين، كأنهم أصول نخل متأكلة الأجواف لم يبق منهم ولا من نسلهم أحد، وجاء فى آية أخرى: «فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ» . (3) (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) أي وجاء فرعون ومن تقدمه من الأمم التي كفرت بآيات الله كقوم نوح وعاد وثمود والقرى التي ائتفكت بأهلها، وصار عاليها سافلها، بسبب خطيئتها ومعصيتها. ثم بيّن هذه الخطيئة بقوله: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي فعصى هؤلاء الذين تقدم ذكرهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأذاقهم وبال أمرهم بعقوبة زائدة على عقوبة سائر الكفار، كما زادت قبائحهم على قبائح غيرهم ونحو الآية قوله: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» . (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي إنا لما ارتفع الماء، وجاوز الحد،

[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 إلى 18]

وجاء الطوفان حملنا آباءكم من مؤمنى قوم نوح فى السفينة، لننجيهم من الغرق الذي عمّ هؤلاء الكافرين جميعا. والمشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته. ثم ذكر ما فى هذه النجاة من العبرة فقال: (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي لنجعل نجاة المؤمنين، وإغراق الكافرين عظة وعبرة، لدلالتها على كمال قدرة الصانع وحكمته، وسعة رحمته. (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي وتفهمها أذن حافظة سامعة عن الله، فتنتفع بما سمعت من كتابه ولا تضيع العمل بما فيه. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ: «إنى دعوت الله أن يجعلها أذنك يا علىّ» قال علىّ كرم الله وجهه: فما سمعت شيئا فنسيته، وما كان لى أن أنسى. [سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 18] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) شرح المفردات نفخة واحدة: هى النفخة الأولى، حملت الأرض والجبال: أي رفعت من أه كنها، فد كتادكة واحدة: أي ضرب بعضها ببعض حتى اندقت وصارت كثيبا مهيلا، الواقعة: النازلة وهى يوم القيامة، انشقت السماء: أي فتحت أبوابا، واهية: أي مسترخية ضعيفة القوة، من قولهم: وهى السقاء إذا انخرق، ومن أمثالهم قول الراجز: خلّ سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه

المعنى الجملي

أرجائها: أي جوانبها، واحدها رجا، ثمانية: أي ثمانية أشخاص، خافية: أي سريرة. المعنى الجملي بعد أن قص هذه القصص الثلاثة، ونبّه بها على ثبوت القدرة والحكمة، وبها ثبت إمكان وقوع يوم القيامة- شرع يذكر تفاصيل أحوال هذا اليوم وما يكون فيه من أهوال. الإيضاح (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) أي فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي عندها خراب العالم. (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي رفعت من أماكنها، ولا ندرى كيف رفعت فذلك من أنباء الغيب، فقد يكون ذلك بريح يبلغ من قوة عصفها أن تحملهما، أو أن ملكا يحملهما، أو بقدرة الله من غير سبب ظاهر، أو بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب، فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة، وترتفع الأرض من حيّزها. (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي فضرب بعضهما ببعض ضربة واحدة حتى تقطعت أوصالهما، وصارتا كثيبا مهيلا، وهباء منبثا لا يتميز شىء من أجزائهما عن الآخر. (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي فحينئذ تقوم القيامة. (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي وتصدعت السماء لأنها يومئذ ضعيفة المنّة كالعهن المنفوش، بعد أن كانت شديدة الأسر عظيمة القوة. (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي والملائكة على جوانب السماء ينظرون إلى أهل

[سورة الحاقة (69) : الآيات 19 إلى 24]

الأرض، ولا ندرى كيف ذلك، ولا الحكمة فيه، فندع تفصيل ذلك ونؤمن به كما جاء فى الكتاب ولا نزيد عليه. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ويحمل عرش ربك حينئذ فوق رءوسهم ثمانية من الملائكة. (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي فيومئذ تحاسبون وتسألون، لا يخفى على الله شىء من أموركم، فإنه تعالى عليم بكل شىء، لا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء، كما جاء فى آية أخرى: «لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ» . وفى هذا تهديد شديد، وزجر عظيم، ومبالغة لا تخفى، وفضيحة للكافرين، وسرور للمؤمنين بظهور ما كان خفيا عليهم من أعمالهم، وبذلك يتكامل حبورهم وسرورهم. والتعبير بالعرض تشبيه بعرض السلطان لعسكره، ليعرف أحوالهم، وفى هذا العرض إقامة للحجة، ومبالغة فى إظهار العدل. أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن مردويه عن أبى موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف فى الأيدى، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» . [سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 24] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)

شرح المفردات

شرح المفردات هاؤم: أي خذوا، ظننت: أي علمت، ملاق: أي معاين، راضية: أي يرضى بها صاحبها، عالية: أي مرتفعة المكان، والقطوف: ما يجتنى من الثمر، واحدها قطف (بكسر القاف وسكون الطاء) دانية: أي قريبة، هنيئا: أي بلا تنغيص ولا كدر، أسلفتم: أي قدمتم، الخالية: أي الماضية. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنهم يعرضون على الله ولا يخفى عليه شىء من أعمالهم- فصل أحكام هذا العرض، فأخبر بأن من يؤتى كتابه بيمينه يشتد فرحه حتى يقول لكل من لقيه: خذ كتابى واقرأه، لأنه يعلم ما فيه من خير وفضل من الله، ويقول: إنى كنت أعلم أن هذا اليوم آت لا ريب فيه، وإنى سأحاسب على ما أعمل، وحينئذ يكون جزاؤه عند ربه جنة عالية ذات ثمار دانية، ويقال له ولأمثاله: كلوا واشربوا هنيئا بما قدمتم لأنفسكم فى الدنيا. الإيضاح (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي فأما من أعطى كتابه بيمينه فيقول: تعالوا اقرءوا كتابى فرحا به، لأنه لما أوتيه باليمين علم أنه من الناجين الفائزين بالنعيم، فأحب أن يظهره لغيره حتى يفرحوا بما نال. ثم ذكر العلة فى حسن حاله فقال: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي إنى فرح مسرور، لأنى علمت أن ربى سيحاسبنى حسابا يسيرا، وقد حاسبنى كذلك، فالله عند ظن عبده به.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 إلى 37]

قال الضحاك: كل ظن فى القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شكّ وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك. وقال الحسن فى الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل للآخرة، وإن الكافر أساء الظن بربه فأساء العمل لها. ثم بيّن عاقبة أمره فقال: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي فهو يعيش عيشة مرضية خالية مما يكدر مع دوامها وما فيها من إجلال وتعظيم. ثم فصل ذلك فقال: (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي فهو يعيش فى بستان عال رفيع ذى ثمار دانية القطوف، يأخذها المرء كما يريد، إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له، وهو قائم وجالس أو مضطجع، وإن أحب أن تدنو إلى فيه دنت له. (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي ويقول لهم ربهم جل ثناؤه: كلوا يا معشر من رضيت عنه فأدخلته جنتى- من ثمارها وطيب ما فيها من الأطعمة، واشربوا من أشربتها، أكلا وشربا هنيئا لا تتأذون بما تأكلون وما تشربون جزاء من الله، وثوابا على ما قدمتم فى دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعتي. [سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 37] وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)

شرح المفردات

شرح المفردات القاضية: أي القاطعة للحياة فلم أبعث بعدها، ما أغنى عنى ماليه: أي لم يغن عنى مالى الذي تركته فى الدنيا، هلك: أي بطل، والسلطان: الحجة، غلّوه: أي شدّوه بالأغلال، والغلّ: القيد الذي يجمع بين اليدين والعنق، والجحيم: النار المتأججة المشتعلة، وصليته النار وأصليته: أي أوردته إياها، ذرعها: أي طولها، فاسلكوه: أي فاجعلوه فيها بحيث يكون كأنه السلك: أي الحبل الذي يدخل فى ثقب الخرزات بعسر لضيق ذلك الثقب، إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلفّ عليه، ويقال سلكته الطريق: إذا أدخلته فيه، حميم: أي قريب مشفق، والغسلين: الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحوم أهل النار قاله ابن عباس، وعن أبى سعيد الخدري مرفوعا: «لو أن دلوا من غسلين يهراق فى الدنيا لأنتن أهل الدنيا» أخرجه الحاكم وصححه، والخاطئون: أي الآثمون يقال خطئ الرجل: إذا تعمد الإثم والخطأ. المعنى الجملي بعد أن ذكر سرور السعداء بصحائف أعمالهم، ثم بيّن حسن أحوالهم فى معايشهم ومساكنهم- أردف ذلك بذكر غمّ الأشقياء الكافرين وحزنهم بوضع الأغلال والقيود فى أعناقهم وأيديهم، وإعطائهم الغسلين طعاما، ثم أعقبه بذكر سبب هذا، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحثون على مساعدة ذوى الحاجة والبائسين.

الإيضاح

الإيضاح (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) فإنه لما نظر فى صحيفة أعماله، وتذكر قبيح أفعاله، خجل منها وتمنى أن لو كان عذب فى النار ولم يخجل هذا الخجل. وفى هذا إيماء إلى أن العذاب الروحاني أشد ألما من العذاب الجسماني. (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ؟) أي ولم أعلم أىّ شىء حسابى الذي أحاسب به، إذ كله وبال ونكال. (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي ليت الموتة التي متها فى الدنيا كانت نهاية الحياة، لم أبعث بعدها ولم ألق ما أنا فيه من نكال وسوء منقلب. قال قتادة: تمنّى الموت ولم يكن فى الدنيا عنده شىء أكره من الموت اهـ، وشر من الموت ما يطيب له الموت، قال شاعرهم: وشرّ من الموت الذي إن لقيته ... تمنيت منه الموت والموت أعظم (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي لم يدفع عنى مالى الذي كنت أملكه فى الدنيا من عذاب الله ولا من بأسه شيئا. (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ذهب ملكى وتسلطى على الناس، وبقيت فقيرا ذليلا، ومراده التحسر والندم، إذ كان ينازع المحقين بسبب الملك والسلطان، فالآن ذهب ذلك وبقي الوبال. ثم ذكر سبحانه سوء منقلبه فقال: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي فيقال لزبانية جهنم: خذوه فضعوا الغلّ فى عنقه، ثم أدخلوه فى النار الموقدة لقاء كفره بالله واجتراحه عظيم الآثام. (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي ثم أدخلوه فى سلسلة طولها سبعون ذراعا تلفّ على جميع جسمه حتى لا يستطيع تحركا ولا انفلاتا.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 إلى 43]

والعرب إذا أرادت الكثرة عبرت بالسبعة والسبعين والسبعمائة، والمقصد إثبات أنها طويلة المدى. ثم بيّن سبب استحقاق هذا العذاب فقال: (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) أي افعلوا ذلك به جزاء له على كفره بالله فى الدنيا وإشراكه به سواه، وعدم القيام بحق عبادته وأداء فرائضه. (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث الناس على إطعام أهل المسكنة والحاجة، فضلا عن بذل المال لهم. (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي فليس له يوم القيامة من ينقذه من عذاب الله تعالى، لأنه يوم يفرّ فيه القريب من قريبه ويهرب الحبيب من حبيبه. وجاء فى آية أخرى: «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» وقال: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» . (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي وليس له طعام إلا ما يسيل من لحوم أهل النار من الدم والصديد الذي لا يأكله إلا من مرن على اجتراح السيئات، ودسّى نفسه وأحاطت به الخطايا. [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 43] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) شرح المفردات ما تبصرون: هى المشاهدات، وما لا تبصرون: هى المغيبات.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أقام الدليل على إمكان القيامة، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال المؤمنين السعداء، والكافرين الأشقياء- أردف ذلك بتعظيم القرآن والرسول المنزل عليه هذا القرآن. قال مقاتل: سبب نزول الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن. الإيضاح (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) أي أقسم بما تشاهدون من المخلوقات وبما غاب عنكم، قال قتادة: أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر، وقال عطاء: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون من أسرار القدرة. (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي إن هذا القرآن كلام الله ووحيه أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. (وما هو بقول شاعر) لأن محمدا لا يحسن قول الشعر. (قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ) أي تؤمنون بذلك القرآن إيمانا قليلا، والمراد أنهم لا يؤمنون أصلا، فالعرب تقول: قلما يأتينا، يريدون أنه لا يأتينا. وقد يكون المراد بالقلة أنهم قد يؤمنون فى قلوبهم ثم يرجعون عنه سريعا. (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) أي وليس بقول كاهن كما تزعمون، لأنه سبّ الشياطين وشتمهم، فلا يمكن أن يكون بإلهامهم، ولكنكم لما لم تستطيعوا فهم أسرار نظمه- قلتم: إنه من كلام الكهان.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 44 إلى 52]

ثم أكد ما تقدم بقوله: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي بل هو تنزيل من رب العالمين نزل به الروح الأمين على رسوله صلى الله عليه وسلم. [سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 52] وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) شرح المفردات التقوّل: الافتراء، وسمى بذلك لأنه قول متكلّف، والأقاويل: الأقوال المفتراة، واحدها قول على غير قياس، لأخذنا منه: أي لأمسكناه، باليمين: أي بيمينه، والوتين: عرق يخرج من القلب ويتصل بالرأس، حاجزين: أي ما نعين، حق اليقين: أي عين اليقين. المعنى الجملي بعد أن أثبت أن القرآن تنزيل من رب العالمين، وليس بشعر ولا كهانة- أكد هذا بأن محمدا لا يستطيع أن يفتعله، إذ لو فعل ذلك لأبطلنا حجته، وأمتنا دعوته، أو سلبناه قوة البيان فلا يتكلم بهذا الكذب، أو قتلناه فلم يستطع نشر الأكاذيب، وقد جرت سنتنا بأن كل متكلف للقول لا يقبل قوله، ولا يصغى

الإيضاح

السامعون إلى كلامه كما قال: «وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» ولا يستطيع أحد بعدئذ أن يدافع عنه. ثم ذكر أن القرآن عظة لمن يتقى الله ويخشى عقابه، وإنه حسرة على الكافرين حينما يرون ثواب المؤمنين، وإنه لحق لا ريب فيه. ثم أمر رسوله بأن يقدس ربه العظيم ويشكره على ما آتاه من النعم، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم. الإيضاح (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي ولو افترى محمد علينا بعض الأقوال الباطلة ونسبها إلينا لعاجلناه بالعقوبة، وانتقمنا منه أشد الانتقام. والأخذ باليمين يكون عند ضرب الرقبة وإزهاق الروح، وقد جرى ذكر هذا على التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم فإنهم لا يمهلونه، بل يضربون رقبته على الفور. (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الوتين: عرق غليظ تصادفه شفرة الناخر. قال الشماخ ابن ضرار: إذا بلّغتنى وحملت رحلى ... عرابة فاشرقى بدم الوتين والمراد- أنه لو كذب علينا لأزهقنا روحه، فكان كمن قطع وتينه، وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، إذ يأخذه القتّال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه. (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي فما أحد منكم يمنعنا عن عقوبته، والتنكيل به. وجمع «حاجِزِينَ» باعتبار أحد، إذ هو فى معنى الجماعة، ويقع على الواحد والجمع

ما تضمنته هذه السورة الكريمة

والمذكر والمؤنث كما جاء فى قوله: «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» وقوله: «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» . (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وإن هذا القرآن لعظة وذكرى لمن يخشى عقاب الله فيطيع أوامره، وينتهى عما نهى عنه، وخص (المتقين) بالتذكرة والعظة، لأنهم هم الذين ينتفعون بها. (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) له بسبب حبكم للدنيا وحسدكم للداعى، وإنا لنجازيكم على ذلك بما تستحقون إظهارا للعدل. والخلاصة- إن منكم من اتقى الله فتذكر بهذا القرآن وانتفع به، ومنكم من مال إلى الدنيا فكذب به وأعرض عنه. وفى هذا وعيد شديد لا يخفى. (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وإن هذا القرآن لحسرة عظيمة على الكافرين فى دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين، وفى الآخرة إذا رأوا ثواب المصدقين. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي وإنه للحق الذي لا شك فى أنه من عند الله لم يتقوّله محمد صلى الله عليه وسلم. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه، تنزيها له عن لرضا بالتقوّل عليه، وشكرا له على ما أوحى به إليك من هذا القرآن الجليل الشأن. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم. ما تضمنته هذه السورة الكريمة تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد: (1) هلاك الأمم المكذبة لرسلها فى الدنيا من أول السورة إلى قوله: «أُذُنٌ واعِيَةٌ» (2) عذاب الآخرة جزاء على التكذيب فى الدنيا. (3) إثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله وليس بقول شاعر ولا كاهن.

سورة المعارج

سورة المعارج هى مكية، وآياتها أربع وأربعون، نزلت بعد الحاقة، وهى كالتتمة لها فى وصف القيامة وعذاب النار. [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) شرح المفردات سأل سائل: أي دعا داع، من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، كما جاء فى قوله: «يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ» ليس له دافع: أي إنه واقع لا محالة، والمعارج: واحدها معرج، وهو المصعد (أسّنسير) كما قال: «وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ»

المعنى الجملي

والمراد بها النعم التي تكون درجات متفاضلة، تصل إلى الخلق على مراتب مختلفة، والروح: هو جبريل عليه السلام، والمهل: دردىء الزيت، وهو ما يكون فى قعر الإناء منه، والعهن: الصوف المصبوغ ألوانا، والحميم: القريب، يبصرونهم: أي يبصر الأحماء الأحماء ويرونهم، يود: أي يتمنى، والمجرم: المذنب، وصاحبته: زوجته، وفصيلته: هى عشيرته، تؤويه: أي تضمه ويأوى إليها، كلّا: هى كلمة تفيد الزجر عما يطلب، لظى: هى النار، والشوى: واحدها شواة، وهى جلدة الرأس تنتزعها النار انتزاعا فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت عليه، تدعو: أي تجذب وتحضر، تولى: أي أعرض عن الطاعة، جمع فأوعى: أي جمع المال فجعله فى وعاء. المعنى الجملي كان أهل مكة يقول بعضهم لبعض: إن محمدا يخوّفنا بالعذاب، فما هذا العذاب؟ ولمن هو؟ وكان النضر بن الحرث ومن لفّ لفّه يقولون إنكارا واستهزاء: «اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم» فنزلت هذه الآيات. الإيضاح (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي طلب طالب عذابا واقعا لا محالة، سواء طلب أم لم يطلب، لأنه نازل بالكافرين فى الآخرة لا يدفعه عنهم أحد، فلماذا هم يطلبونه استهزاء؟. (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته إذا جاء وقته، فإذا اقتضت الحكمة وقوعه امتنع ألا يفعله، وهو ذو النعم التي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، ودرجات متفاوتة.

والخلاصة- إن العذاب الذي طلبه السائلون واستبطئوه واقع لا محالة، وهو سبحانه لم يفعل ذلك إلا لحكمة، وهى وضعهم فى الدركات التي هم أهل لها بحسب استعدادهم، وما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال والخطايا التي أحاطت بهم من كل صوب. وقد نظم سبحانه العوالم فجعل منها مصاعد، ومنها دركات، فليكن هؤلاء فى الدركات، وليكن المؤمنون والملائكة فى الدرجات طبقا عن طبق على نظم ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة. ثم بيّن مقدار ارتفاع تلك الدرجات فقال: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي تصعد فى تلك المعارج الملائكة وجبريل عليه السلام إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقى فى ذلك الصعود خمسين ألف سنة، لكنهم يصعدون إليها فى الزمن القليل، وليس المراد من ذكر الخمسين تحديد العدد، بل المقصد أن مقام القدس الإلهى بعيد المدى عن مقام العباد، فهم فى المادة مغموسون، وهناك عوالم ألطف وألطف، درجات بعضها فوق بعض، وكل عالم ألطف مما قبله، وكلما لطف العالم العلوي كان أشد قوة وهكذا: «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» . (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا) أي إذا سألوا استعجال العذاب على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالوحى، وكان هذا يورث ضجرك أيها الرسول- فاصبر صبرا جميلا بلا جزع ولا شكوى، لأنه أمر محقق، وكل آت قريب. ثم بيّن أن هذا اليوم آت لا شك فيه فقال: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) أي إنهم يرون هذا اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة- بعيدا غير ممكن، ونحن نراه قريبا هيّنا غير بعيد علينا ولا متعذر. ثم ذكر وقت حدوثه فقال: (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي إن العذاب واقع بالكافرين يوم تكون السماء كأنها عكر الزيت، والمراد أنها تكون واهية ضعيفة غير متماسكة.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي وتكون الجبال هشّة غير متلاحمة كأنها الصوف المنفوش إذا طيرته الريح، روى عن الحسن: أنها تسير مع الرياح ثم تنهدّ، ثم تصير كالعهن، ثم تنهدّ فتصير هباء منثورا. (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي ولا يسأل قريب مشفق قريبا عن حاله، ولا يكلمه لابتلاء كل منهما بما يشغله كما جاء فى قوله: «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» وقوله: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (يُبَصَّرُونَهُمْ) من قولك بصّرته بالشيء إذا أو ضحته له حتى يبصره، أي يتعارفون ثم يفرّ بعضهم من بعض بعد ذلك ثم أرشد إلى هول ذلك اليوم فقال: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يتمنى الكافر لو ينفع أعز الناس إليه فدية، لينجيه من ذلك العذاب، فيؤدّ لو كان أبناؤه أو زوجته أو أخوه أو عشيرته التي تضمه إليها، أو أهل الأرض جميعا فداء له ليخلص من ذلك العذاب. والخلاصة- يتمنى الكافر لو كان هؤلاء جميعا فى قبضة يده ليبذلهم فدية عن نفسه، ثم ينجيه ذلك- هيهات. (كَلَّا) أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، أو بأعزّ ما يجده من مال ولو بملء الأرض ذهبا، أو بولده الذي كان حشاشة كبده فى الدنيا، أو بزوجته وعشيرته. (إِنَّها لَظى. نَزَّاعَةً لِلشَّوى. تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي إنها النار الشديدة الحرارة التي تنزع جلدة الرأس وتفرقها، ثم تعود إلى ما كانت عليه وأنشدوا قول الأعشى: قالت قتيلة ماله ... قد جلّلت شيبا شواته

[سورة المعارج (70) : الآيات 19 إلى 35]

وهذه النار تجذب إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدّر أنهم فى الدنيا يعلمون عملها، من بين أهل المحشر، فدسّوا أنفسهم إذ كذبوا بقلوبهم، وتركوا العمل بجوارحهم، وجمعوا المال بعضه على بعض وكنزوه ولم يؤدوا حق الله فيه، وتشاغلوا به عن فرائضه من أوامر ونواه. [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) شرح المفردات الهلع: سرعة الحزن عند مسّ المكروه، وسرعة المنع عند مسّ الخير، من قولهم: ناقة هلوع: إذا كانت سريعة السير. وسأل محمد بن طاهر ثعلبا عن الهلع فقال: قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه- يعنى قوله: «إِذا مَسَّهُ» الآية. والجزع: حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه،

المعنى الجملي

والخير: المال والغنى، حق معلوم: أي نصيب معين يوجبونه على أنفسهم تقرّبا إلى الله وإشفاقا على المحتاجين، المحروم: الفقير الذي لا يسأل الناس فيظن أنه غنىّ، يصدقون بيوم الدين: أي يصدقون به تصديقا يكون له الأثر فى نفوسهم، فيسخرونها ويسخرون أموالهم فى طاعة الله ومنفعة الناس، مشفقون: أي خائفون، حافظون: أي كافّون لها عن الحرام، راعون: أي لا يخلّون بشىء من حقوقها: المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه هو ذو المعارج والدرجات العالية، والنعم الوفيرة التي يسبغها على عباده الأخيار- أردف هذا بذكر المؤهّلات التي توصل إلى تلك المراتب وتبعد عن ظلمة المادة التي تدخل النفوس فى النار الموقدة التي تنزع الشوى، وبيّن أنها عشر خصال تفكّه من السلاسل التي تقيده بها غرائزه التي فطر عليها، وعاداته التي ألفها وركن إليها، وهى ترجع إلى شيئين: الحرص، والجزع. وهذه الخصال هى: (1) الصلاة. (2) المداومة عليها فى أوقاتها المعلومة. (3) إقامتها على الوجه الأكمل بحضور القلب، والخشوع للربّ، ومراعاة سننها وآدابها. (4) التصديق بيوم الجزاء بظهور أثر ذلك فى نفسه اعتقادا وعملا (5) إعطاء صدقات من أموالهم للفقراء والمحرومين. (6) مراعاة العهود والمواثيق. (7) أداء الأمانات إلى أهلها. (8) حفظ فروجهم عن الحرام. (9) أداء الشهادة على وجهها. (10) الخوف من عذاب الله.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) أي إن الإنسان جبل على الهلع، فهو قليل الصبر، شديد الحرص، فإذا افتقر أو مرض أخذ فى الشكاة والجزع، وإذا صار غنيّا أو سليما معافى منع معروفه وشح بماله، وما ذاك إلا لاشتغاله بأحواله الجسمانية العاجلة، وقد كان من الواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال الآخرة، فإذا مرض أو افتقر رضى بما قسم له، علما بأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وإذا وجد المال والصحة صرفهما فى طلب السعادة الأخروية، وقد استثنى من هذه الحال من اتصفوا بالصفات الآتية: (1) (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي إن الإنسان بطبعه متصف بصفات الذم، خليق بالمقت إلا من عصمهم الله ووفقهم، فهداهم إلى الخير ويسر لهم أسبابه، وهم المصلون الذين يحافظون على الصلوات فى أوقاتها، لا يشغلهم عنها شىء من الشواغل. وفى هذا إيماء إلى فضيلة المداومة على العبادة، أخرج بن حبّان عن أبى سلمة قال: حدثتنى عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملّوا، قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه وإن قلّ، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها، وقرأ أبو سلمة: الذين هم على صلاتهم دائمون (2) (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي والذين فى أموالهم نصيب معين لذوى الحاجات والبائسين، تقربا إلى الله وإشفاقا على خلقه، سواء سألوا واستجدوا، أو لم يسألوا تعففا منهم. والمراد بهذا الحق المعلوم: ما يوظفه الرجل على نفسه، فيؤديه كل جمعة أو كل شهر أو كلما جدت حاجة تدعو إلى بذل المال، كإغاثة فرد أو إغاثة أمة طرأ عليها

ما يستدعى البذل لمصلحة هامة لها، كالدفاع عن عدو أو دفع مجاعة أو ضرورة بلحّة مفاجئة. (3) (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي والذين يوقنون بالمعاد والحساب، فيعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب وتظهر آثار ذلك فى أفعالهم وأقوالهم ومعتقداتهم، فينيبون إلى الله ويخبتون إليه. (4) (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي والذين هم خائفون وجلون من تركهم للواجبات، وإقدامهم على المحظورات، ومن يدم به الخوف والإشفاق فيما كلف به يكن حذرا من التقصير، حريصا على القيام بما كلف به من علم وعمل. ونحو الآية قوله: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» وقوله: «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» . ثم ذكر الداعي لهم إلى هذا الخوف فقال: (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا ينبغى لأحد أن يأمن عذاب الله وإن بالغ فى الطاعة، ومن ثم أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا كثيرى الخوف والوجل كما يشعر بذلك قول بعضهم: ليت أمي لم تلدنى. وقول آخر: ليتنى شجرة تعضد، إلى أشباه ذلك مما يعبر عن شديد الوجل والخشية. (5) (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) راجع تفسير هذا بتوسّع فى سورة المؤمنين (6) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا. (7) (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي والذين يقومون بأداء الشهادة عند

[سورة المعارج (70) : الآيات 36 إلى 44]

الحكام، ولا يكتمونها ولا يغيرونها، والشهادة من جملة الأمانات، وخصها بالذكر لعظم شأنها، إذ بها تحيا الحقوق، وبتركها تموت. (8) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي والذين يحافظون على صلاتهم، ويراعون شرائطها، ويكملون فرائضها فيجتهدون قبل الدخول فيها فى تفريغ القلب من الوساوس والالتفات إلى ما سوى الله، مع حضور القلب حين القراءة، وفهم ما يتلى فيها من آي الذكر الحكيم. ثم وعد هؤلاء بحسن المآل فقال: (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال فى بساتين يكرمون فيها بأنواع اللذات والمسرات، وإلى ذلك أشار الحديث «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

شرح المفردات

شرح المفردات قبلك: أي فى الجهة التي تليك، مهطعين: أي مسرعين نحوك، مادّى أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك، ليظفروا بما يجعلونه هزوا، وأنشدوا: بمكة أهلها ولقد أراهم ... إليه مهطعين إلى السماع عزين: أي فرقا شتى حلقا حلقا، قال عبيد بن الأبرص. فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا واحدهم عزة، وأصلها عزوة، لأن كل فرقة تعتزى وتنتسب إلى غير من تعتزى إليه الأخرى، بمسبوقين: أي بمغلوبين، والأجداث: القبور، واحدها جدث، والسّراع: واحدهم سريع، والنصب (بضمتين) كل شىء منصوب كالعلم والراية وكذا ما ينصب للعبادة، وهو المراد هنا، ويوفضون: أي يسرعون، خاشعة أبصارهم: أي ذليلة، ترهقهم: أي تغشاهم. المعنى الجملي بعد أن وعد المؤمنين بجنات النعيم مع الكرامة والإجلال- أردف ذلك بذكر أحوال الكافرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبان لهم خطأهم فيما يرجون من جنات النعيم على ما هم عليه من كفر وجحود، ثم توعدهم بالهلاك، ولن يستطيع أحد دفعه عنهم، ثم أمر رسوله أن يدعهم وشأنهم حتى يوم البعث، يوم يخرجون من قبورهم مسرعين كأنهم ذاهبون إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان، (وقد كان من دأبهم أن يسرعوا حين الذهاب إليها) وهم فى هذا اليوم تكون أبصارهم ذليلة، وترهق وجوههم قترة، لما تحققوا من عذاب لا منجاة لهم منه، وقد أوعدوه فى الدنيا فكذبوا به.

الإيضاح

روى: أنه عليه السلام كان يصلى عند الكعبة ويقرأ القرآن، وكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون ويستهزئون ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنّ قبلهم، فنزلت هذه الآيات. الإيضاح (فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي فما بالهم يسرعون إليك، ويجلسون حواليك، عن يمينك وعن شمالك، جماعات متفرقة، نافرين منك، لا يلتفتون إلى ما تلقيه عليهم من رحمة الله وهديه، ونصحه وإرشاده، وما فيه سعادتهم فى معاشهم ومعادهم. ونحو الآية قوله: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» . أخرج مسلم وغيره عن جابر قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ونحن حلق متفرقون، فقال: «مالى أراكم عزين، ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الاول ويتراصّون فى الصف» وقد كانت عادتهم فى الجاهلية أن يجلسوا حلقا مجتمعين. قال شاعرهم: ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حلقا عزينا ثم أيأسهم من نيلهم للسعادة التي يفوز بها من يستمعون القول فيتبعون أحسنه فقال: (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟ كَلَّا) أي أيطمع هؤلاء وهم نافرون من الرسول صلى الله عليه وسلم، معرضون عن سماع الحق- أن يدخلوا جنتى كما يدخلها المؤمنون المخبتون الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا؟ كلا لا مطمع لهم فى ذلك مع ما هم عليه.

ثم ذكر السبب فى تيئيسهم منها فقال: (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يكملها بذلك فهو بمعزل عن أن يتبوأ متبوأ الذين أخلصوا لله وحده، وبعدت نفوسهم عن دنس الشرك والمعاصي. ثم توعدهم بأنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم أهلكهم واستبدل بهم قوما غيرهم خيرا منهم فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي أقسم برب الكواكب ومشارقها ومغاربها، إنا لقادرون على أن نخلق أمثل منهم يستمعون دعوة الداعي ونصح الناصح، ونهلك هؤلاء، ولن يعجزنا ذلك، لكن مشيئتنا اقتضت تأخير عقوبتهم. والخلاصة- إن هؤلاء المشركين فى تناقض واضطراب فى الرأى، فكيف ينكرون البعث ثم يطمعون فى دخول الجنة، وكيف ينكرون الخالق وقد خلقهم أوّلا مما يعلمون، وهو قادر على خلق مثلهم ثانيا. وفى هذا تهكم بهم وتنبيه إلى تناقضهم فى كلامهم، فإن الاستهزاء بالساعة ودخول الجنة مما لا يقبله إلا من عنده دخل فى العقل، ومجانفة لصواب الرأى. ثم سلّى رسوله عما يقولون ويفعلون فقال: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي دعهم فى تكذيبهم وعنادهم إلى يوم البعث، وحينئذ يعلمون عاقبة وبالهم، ويذوقون شديد نكالهم، حين يعرضون للحساب والجزاء، يوم تجزى كل نفس بما عملت، لا شفيع ولا نصير، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ثم فصل أحوالهم فى هذا اليوم فقال: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يوم يخرجون من قبورهم إذا دعاهم الداعي لموقف الحساب- سراعا

خلاصة ما جوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد:

يسابق بعضهم بعضا، كما كانوا فى الدنيا يهرولون إلى النّصب إذا عاينوه يبتدرون أيهم يستلمه قبل- مع خشوع الأبصار وذلتها لهول ما تحققوا من العذاب، تعلو وجوههم القترة، لما أصابهم من الكآبة والحزن. ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي وقعوا فيه، كانوا قد أنذروا به، ولم يأتهم بغتة فقال: (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي ذلك اليوم وما فيه من أهوال عظام كانوا قد أنذروا فى الدنيا أنهم ملاقوه وكانوا به يكذبون، فلا عذر لهم فيما سيموا به من سوء العذاب. خلاصة ما جوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد: (1) وصف يوم القيامة وأهواله. (2) وصف النار وعذابها. (3) صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم، وكيف يجتهد لإزالة ما به من النقص حتى يرتقى إلى المعارج، ويخرج من عالم المادة. (4) وعيد الكافرين على ما يلاقونه فى ذلك اليوم.

سورة نوح

سورة نوح هى مكية، وعدد آيها ثمان وعشرون، نزلت بعد سورة النحل. ووجه اتصالها بما قبلها: (1) أنه قال فى السورة السابقة: «إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ» وذكر هنا قصة نوح المشتملة على إغراقهم إلا من قد آمن، وإبدالهم بمن هم خير منهم، فكأنها وقعت موقع الاستدلال على تلك الدعوى. (2) تواخى مطلع السورتين فى ذكر العذاب الموعود به الكفار. [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) المعنى الجملي أخبر سبحانه أنه أرسل نوحا إلى قومه وأمره أن ينذرهم بأسه قبل حلوله بهم، فقال نوح: يا قوم إنى نذير لكم، فعليكم أن تعبدوا الله وحده وتطيعوه، فإن فعلتم ذلك غفر لكم ذنوبكم ومدّ فى أعماركم، ودرأ عنكم العذاب، وأمر الله إذا جاء لا يردّ ولا يدفع، فهو العظيم الذي قهر كل شىء، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إنا أرسلنا نوحا رسولا إلى قومه وقلنا له: أنذرهم بأس الله وعذابه، قبل أن يغرقهم الطوفان. ثم أخبر بأنه لما أمره بذلك امتثل الأمر. (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قال نوح لقومه: إنى أنذركم عذاب الله فاحذروا أن ينزل بكم على كفركم به. ثم فصل ما أنذرهم به، فذكر ثلاثة أشياء: (1) (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أي آمركم بعبادة الله وحده، والأمر بذلك يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح. (2) (وَاتَّقُوهُ) أي وآمركم بتقواه وخوف عذابه، بأن تتركوا محارمه، وتحتنبوا مآثمه. (3) (وَأَطِيعُونِ) أي وانتهوا إلى ما آمركم به واقبلوا نصيحتى لكم. ولما كلفهم بهذه الثلاثة الأشياء وعدهم عليها بشيئين: (1) (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي إذا فعلتم ما أمركم به، وصدقتم ما أرسلت به إليكم- غفر لكم ذنوبكم وسامحكم فيما فرط منكم من الزلات. وفى هذا وعد لهم بإزالة مضار الآخرة عنهم، وأمنهم من مخاوفها. (2) (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويمدّ فى أعماركم إلى الأمد الأقصى الذي قدره الله إذا آمنوا وأطاعوا وراء ما قدره لهم، على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان. واستدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها فى العمر

[سورة نوح (71) : الآيات 5 إلى 20]

حقيقة كما جاء فى الحديث: «صلة الرحم تزيد فى العمر» ولا ريب أن التقوى والطاعة تؤثر هذا الأثر، إذ طهارة الأرواح، ونقاء الأشباح تطيل العمر، فبها يحفظ الأمن، وتكتسب الفضائل، وتجتلب المنافع المادية. والخلاصة- إن الأجل أجلان على ما قاله الزمخشري وعبارته: فقد قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا: يؤخركم إلى أجل مسمى، أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه، وهو الوقت الأطول، وهو تمام الألف اه. ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول فلا بد من الموت فقال: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن أجل الله الذي كتبه على خلقه فى أم الكتاب إذا جاء لا يؤخر عن ميقاته لو كنتم من أهل العلم، لكنكم لستم من أهله، ولذا لم تسارعوا إلى العمل بما أمركم به. وفى قوله لو كنتم تعلمون: زجر لهم عن حب الدنيا والتهالك عليها، والإعراض عن أوامر الدين ونواهيه، وكأنهم قد بلغ بهم الأمر إلى أنهم شاكون فى الموت. [سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 20] قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)

شرح المفردات

شرح المفردات ليلا ونهارا: أي دائما، جعلوا أصابعهم فى آذانهم: أي سدوا مسامعهم، استغشوا ثيابهم: أي تغطوا بها لئلا يرونى كراهة النظر إلىّ، السماء: أي المطر كما جاء فى قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم ... فحلّوا حيثما نزل السماء مدرارا: أي متتابعا، جنات: أي بساتين، ترجون: أي تخافون، وقارا: أي عظمة وإجلالا، أطوارا: واحدها طور وهو الحال والهيئة، فطورا نطفة، وطورا علقة، وطورا عظاما، ثم تكسى العظام لحما، ثم تنشأ خلقا آخر، طباقا: أي بعضها فوق بعض، بساطا: أي منبسطة تتقلبون فيها، فجاجا: أي واسعة، واحدها فج، وهو الطريق الواسع قاله الفراء وغيره. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن نوحا أمر أن ينذر قومه قبل أن يحل بهم بأس ربهم، وعظيم بطشه، وأنه لبّى نداءه، فأنذرهم وأمرهم بتقواه وطاعته، ليغفر ذنوبهم، ويمدّ فى أعمارهم- أردف ذلك بمناجاته لربه وشكواه إليه، أنه أنذرهم بما امره به، فعصوه وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده، ولم يزدهم دعاؤه إلا إدبارا عنه، وهربا منه، وأنه كان يدعوهم تارة جهرة، وتارة سرّا، وأمرهم أن يطلبوا من ربهم

الإيضاح

مغفرة ذنوبهم، ليرسل المطر عليهم، ويمدهم بالأموال والبنين، ويجعل لهم الجنات والأنهار، ثم نبههم إلى عظمته تعالى، وواسع قدرته، ولفت أنظارهم إلى خلقه تعالى لهم أطوارا، وخلقه للسموات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا، وجعل الشمس سراجا، وجعل الأرض كالبساط يتنقلون فيها من واد إلى واد، ومن قطر إلى قطر. الإيضاح (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي قال رب إنى أنذرت قومى ولم أترك دعاءهم فى ليل ولا نهار امتثالا لأمرك، وكلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فرّوا منه، وحادوا عنه. ثم أخبر عن أحوال أخرى لهم تدل على الفظاظة وجفاء الطبع فقال: (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي وإنى كلما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك، والعمل لطاعتك، والبراءة من عبادة كل ما سواك، لتغفر لهم ذنوبهم- سدّوا مسامعهم حتى لا يسمعوا دعائى، وتغطّوا بثيابهم كراهة النظر إلىّ، وأكبّوا على الكفر والمعاصي، وتعاظموا عن الإذعان للحق، وقبول ما دعوتهم إليه من النصح. ثم بين أنه ما ترك وسيلة فى الدعوة إلا فعلها فقال: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي ثم إنى كنت أسرّ لهم بالدعوة تارة، وأجهر لهم بها تارة أخرى، وطورا كنت أجمع بين الإعلان والإسرار. والخلاصة- إنه عليه الصلاة والسلام لم يترك سبيلا للدعوة إلا فعلها، فاستعمل طرقا ثلاثة: (1) بدأهم بالمناصحة فى السر، فعاملوه بما ذكر فى الآية من سدّ الآذان

والاستغشاء بالثياب، والإصرار على الكفر، والاستعظام عن سماع الدعوة. (2) جاهرهم بالدعوة، وأعلنهم على وجه ظاهر لا خفاء فيه. (3) جمع بين الإعلان والإسرار. ثم بين ما كان يقول لهم فقال: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي فقلت لهم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، وتوبوا إليه من كفركم وعبادة ما سواه من الآلهة، ووحدوه وأخلصوا له العبادة. (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) لذنوب من أناب إليه وتاب منها، متى صدقت العزيمة، وخلصت النية، وصحت التوبة، فضلا منه وجودا، وإن كانت كزيد البحر. ولما كان الإنسان مجبولا على محبة الخيرات العاجلة كما قال: «وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» لا جرم أعلمهم أن إيمانهم بالله يجمع لهم إلى الحظ الأوفر فى الآخرة، الخصب والغنى وكثرة الأولاد فى الدنيا، ومن ثم وعدهم بخمسة أشياء: (1) (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يرسل المطر عليكم متتابعا، فتزرعون ما تحبون، ويكثر الخصب والغلات النافعة لكم فى معاشكم، من حبوب وثمار، وتحدث لكم طمأنينة وأمن وراحة لتوافر ما تشتهون، مما هو سبب السعادة والهدى. (2) (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ) أي ويكثر لكم الأموال والخيرات على سائر ضروبها واختلاف ألوانها. (3) (وَبَنِينَ) أي ويكثر لكم الأولاد فقد ثبت لدى علماء الاجتماع أن النسل لا يكثر فى أمة إلا إذا استتب فيها الأمن، وارتفع منها الظلم، وساد العدل بين الأفراد، وتوافرت لهم وسائل الرزق. وأصدق شاهد على هذا الأمة المصرية، فقد كانت فى عصر المماليك فى القرن السابع عشر الميلادى، أيام الظلم والعسف والجبروت، فى فقر وضنك، وسلب ونهب، فتدهور عدد سكانها حتى بلغ الثلاثة الملايين.

ولما اعتلى عرش مصر «محمد على» رأس الأسرة المالكة فى مصر فى أوائل القرن الثامن عشر، وساس البلاد بحكمته، وسعى جهد طاقته فى تنظيم مرافقها من زراعة وصناعة ومعارف وعلوم، تكاثر النسل وما زال يزيد، ونهج أبناؤه وحفدته نهجه حتى بلغ عدده فى عصرنا الحاضر نحو عشرين مليونا. (4) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي ويوجد لكم بساتين عامرة تأخذون من ثمارها ما به تنتفعون، ولن يطمع الناس فى الفاكهة إلا إذا وجدت لديهم الأقوات، وكثرت الغلات. (5) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) جارية بها يكثر الخصب والزرع بمختلف ألوانه وأشكاله. لا جرم أن الأمة الكثيرة البساتين والمزارع، يعمها الرخاء، وتسعد فى حياتها الدنيوية. وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر وقلّة النسل فقال له: استغفر الله، وشكا إليه ثالث جفاف بساتينه. فقال له: استغفر الله، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من نفسى شيئا، إنما اعتبرت قول الله عز وجل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» الآية. وبعد أن أدّبهم الأدب الخلقي بطلبه منهم تهذيب نفوسهم واتباعهم مكارم الأخلاق، شرع يؤدبهم الأدب العلمي بدراسة علم التشريح، وعلم النفس، ودراسة أحوال العوالم العلوية والسفلية فقال: (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي مالكم لا تخافون عظمة الله وقد خلقكم على أطوار مختلفة، فكنتم نطفة فى الأرحام، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسا عظامكم لحما، ثم أنشأكم خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وقد ذكرت هذه الأطوار فى سور كثيرة كسورة آل عمران وسورة المؤمنين وغيرهما. وبعد أن ذكر النظر فى الأنفس أتبعه بالنظر فى العالم العلوي والسفلى فقال: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي ألم تروا كيف خلق السموات متطابقة بعضها فوق بعض، وجعل للقمر بروجا ومنازل وفاوت نوره، فجعله يزداد حينا حتى يتناهى، ثم يبتدئ ينقص حتى يستسر ليدل ذلك على مضىّ الشهور والأعوام، وجعل الشمس كالسراج يزيل ظلمة الليل. ونحو الآية قوله: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» . (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أي والله أنبت أباكم آدم من الأرض كما قال: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» . وقد يكون المعنى- إنه أنبت كل البشر من الأرض، لأنه خلقهم من النطف وهى متوالدة من الأغذية المتوالدة من النبات المتوالد من الأرض. وجعلهم نباتا لأنهم ينمون كما ينمو النبات ويلدون ويموتون، وأيديهم وأرجلهم كأفرع النبات: وعروقهم المتشعبة فى الجسم والتي يجرى فيها الدم وينتشر فى الأطراف، تشبه ما فى الشجر، وأحوالهم مختلفة كأحوال النبات، فمنه الحلو والمرّ والطيب والخبيث، واستعدادهم مختلف كاستعداد النبات، فلكل امرئ خاصة كما لكل نوع من النبات خاصة. (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) أي ثم يعيدكم فى الأرض كما كنتم ترابا، ويخرجكم منها متى شاء أحياء كما كنتم بشرا.

[سورة نوح (71) : الآيات 21 إلى 24]

ثم أخذ يعدد النعم التي أعدها للإنسان فى الأرض، وذكر أن الأرض مهيأة مسخرة لأمره كتسخير البساط للرجل يتقلب عليه كما يشاء، ويظهر مواهبه لاستخراج ما فى بطنها من المعادن المختلفة، وخيراتها المنوعة فقال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي والله بسط لكم الأرض ومهّدها، وثبتها بالجبال الراسيات. ثم بين حكمة هذا فقال: (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) أي لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها، أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها المختلفة. وقصارى ما سلف- إن نوحا عليه السلام أمر قومه بالنظر فى علوم الأنفس والآفاق من معدن ونبات وحيوان وإنسان وسماء وأرض وشموس وأقمار. [سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 24] قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) شرح المفردات الخسار: الخسران، كبارا: أي كبيرا عظيما، لا تذرنّ: أي لا تتركنّ، ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر: أسماء أصنام كانوا يعبدونها: المعنى الجملي أخبر عن نوح أنه أعلم ربه وهو العليم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة أنه مع ما استعمله من الوسائل والأساليب المختلفة المشتملة على الترغيب طورا والترهيب طورا

الإيضاح

آخر- كذبوه وعصوه واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر ربه، ومتّع بمال وولد وقالوا: لا نترك آلهتنا التي عبدناها نحن وآباؤنا من قبل، ولا عجب فقد أضلت الأصنام خلقا كثيرا، فدعا عليهم: رب اخذل هؤلاء القوم الظالمين ولا تزدهم إلا ضلالا. الإيضاح (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي قال نوح: رب إنهم عصونى فيما أمرتهم به، وأنكروا ما دعوتهم إليه، واتبعوا رؤساءهم الذين بطروا بأموالهم، واغتروا بأولادهم، فكان ذلك زيادة فى خسرانهم وخروجا عن محجة الصواب، وبعدا من رحمة الله. (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) أي مكرا كبيرا، فاحتالوا فى الدين، وصدّوا الناس عنه بأساليب شتى، وأغروهم بأذى نوح عليه السلام. (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) أي وقال بعضهم لبعض: لا تتركوا عبادة آلهتكم وتعبدوا رب نوح، ولا سيما هذه الأصنام التي هى أكبر المعبودات وأعظمها. وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب فيما بعد. أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت هذه الأوثان فى العرب بعد فكان: ودّ: لكلب. سواع: لهذيل. يغوث: لغطيف بالجرف عند سبأ يعوق: لهمدان. نسر: لحمير آل ذى الكلاع. وهناك أصنام أخرى لأقوام آخرين:

[سورة نوح (71) : الآيات 25 إلى 28]

اللات: لثقيف بالطائف. العزّى: لسليم وغطفان وجشم. مناة: لخزاعة بقديد. أساف: لأهل مكة. نائلة: « «هبل: « «وهو أكبر الأصنام وأعظمها عندهم ومن ثم كان يوضع فوق الكعبة. وليس المراد أن أعيان هذه الأصنام صارت إليهم، بل المراد أنهم أخذوا هذه الأسماء وسموا بها أصنامهم. (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) أي وقد ضل بعبادة هذه الأصنام التي استحدثت على صور هؤلاء النفر، كثير من الناس، فقد استمرت عبادتها قرونا كثيرة كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام فى دعائه: «واجنبنى وبنىّ أن نعبد الأصنام. ربّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس» . ثم دعا على قومه لتمردهم وعنادهم فقال: (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا) أي ولا تزد الظالمين لكفرهم بآياتك إلا ضلالا وطبعا على قلوبهم حتى لا يهتدوا إلى حق، ولا يصلوا إلى رشد. وقصارى ما قاله عليه الصلاة والسلام- أن دعا عليهم بالخذلان، وأن دعا لنفسه بالنصر وظهور دينه كما جاء فى قوله: «رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» . [سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 28] مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)

شرح المفردات

شرح المفردات مما خطيئاتهم: أي من أجل ذنوبهم وآثامهم، أغرقوا: أي بالطوفان، نارا: أي عذابا فى القبر، ديّارا: أي أحدا، تبارا. أي هلاكا. المعنى الجملي بعد أن ذكر مقالة نوح وشكواه إليه- أردفه بما جازاهم به من الغرق والعذاب، وأنهم لم يجدوا من يدفعهما عنهم، ثم أخبر بدعاء نوح على قومه، وعلل هذا بأنهم يضلون الناس وأنهم لو نسلوا لم يلدوا إلا الكفرة الفجرة، ثم دعا لنفسه ولوالديه ولمن دخل سفينته من المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة، ودعا على قومه بالتبار والهلاك. الإيضاح (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً) أي من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقهم الله بالطوفان، وسيعذبهم فى قبورهم، ولا يجدون من آلهتهم أنصارا ولا أعوانا يدفعون عنهم ما كتب عليهم، وبذا ضلّ سعيهم، وخاب فألهم. (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي وقال نوح رب لا تدع على وجه الأرض منهم أحدا.

ثم بيّن علة هذا الدعاء بشيئين: (1) (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين آمنوا بك. (2) (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) أي وإنهم لا يلدون إلا الكفرة الفجرة. وقد كان دعاؤه عليهم بعد حبرته لهم، وتمرّسه بأحوالهم، ومكثه بين ظهرانيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. روى أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إليه ويقول له: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبى أوصانى بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك. وبعد أن دعا على الكفار، دعا لنفسه ولأبويه وللمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة فقال. (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي رب استر على ذنوبى وعلى والدىّ وعلى من دخل مسجدى ومصلاى مصدقا بنبوّتى وبما فرضته علىّ، وعلى المصدّقين بوحدانيتك، والمصدقات بذلك من كل أمة إلى يوم القيامة. ثم أعاد الدعاء على الكافرين مرة أخرى لغيظه منهم فقال: (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك إلا خسرانا وبعدا من رحمتك. وصلّ ربنا على محمد وآله، واغفر لي ولوالدىّ وللمؤمنين والمؤمنات.

مقاصد هذه السورة

مقاصد هذه السورة اشتملت هذه السورة على مقصدين: (1) دعوة نوح قومه إلى الإيمان وقد حوت: (ا) طلب تركهم للذنوب، وأنهم إذا فعلوا ذلك أكثر الله لهم المال والبنين. (ب) النظر فى خلق السموات والأرض والأنهار والبحار. (ح) النظر فى خلق الإنسان وأنه بخلق فى الأرض كما يخلق النبات، وأن الأرض مسخرة له يتصرف فيها كما يشاء. (2) كفر قومه وعقابهم فى الدنيا والآخرة:

سورة الجن

سورة الجن هى مكية، وآيها ثمان وعشرون، نزلت بعد سورة الأعراف. ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه: (1) أنه جاء فى السورة السابقة: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» وجاء فى هذه السورة: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» . (2) أنه ذكر فى هذه السورة شىء يتعلق بالسماء كالسورة التي قبلها. (3) أنه ذكر عذاب من يعصى الله فى قوله: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» وذكر هناك مثله فى قوله: «أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً» . [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)

شرح المفردات

شرح المفردات النفر: ما بين الثلاثة والعشرة، والجن: واحدهم جنىّ كروم ورومى، عجبا: أي عجيبا بديعا مباينا لكلام الناس فى حسن النظم ودقة المعنى، والجد: العظمة يقال جدّ فلان فى عينى: أي عظم، قال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا: أي جلّ قدره وعظم، والسفيه: الجاهل، شططا: أي غلوّا فى الكذب بنسبة الصاحبة والولد إليه، يعوذون: أي يلتجئون، وكان الرجل إذا أمسى يقفر قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، رهقا: أي تكبّرا، وأصل الرهق: الإثم وغشيان المحارم المعنى الجملي اعلم أن الله سبحانه سمى سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير، فسمى بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت وبما هو ألطف من ذلك كالنور، كما سمى ببعض الأنبياء، كيوسف ويونس وهود، وببعض الأخلاق كالتوبة، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى، وببعض المعادن كالحديد، وببعض الأماكن كالبلد، وببعض النبات كالتين وكل ذلك مما نراه. وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن، وهو عالم لم يعرف فى الإسلام إلا من طريق الوحى، وليس للعقل دليل عليه ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين، فصار علماء أوربا يدرسون عالم الملائكة وعالم الجن وعالم الأرواح، ويطلعون على غوامض هذه العوالم، فتحدث الناس مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا، واتصل العالم الإنسى بالعالم الجنى، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة وقد خطب السير أو ليفرلوذج من أشهر علماء الطبيعة فى هذا العصر،

فى بلاد الإنكليز فى مجمع من كبار العلماء قال: إنه حادث الأموات، وإن هناك عقولا أسمى من عقولنا فى عالم الأرواح، وإنهم يهتمون بنا، وإن إخوانى من رجال الجماعة الروحية الذين ماتوا- كلمتهم بعد موتهم، وبرهنوا بأدلة قاطعة أنهم هم الذين يكلموننى، وقال: إن كل ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله فهو حق بلا تأويل. وجاء فى كتاب «إخوان الصفا» إن أرواح الأحياء بعد الموت هم الموسوسون إن كانوا أشرارا، وهم الملهمون الناس الخير إن كانوا أخيارا. وقال شير محمد الهندي فى كتابه فى المجلس السابع: لقد جمعت بين ما جاء به الدين الإسلامى والكشف الحديث كقولهم: إن كل علم وكل خير وشر حاصل فى الأفئدة منشؤه الأرواح الفاضلة والأرواح الناقصة، وهو بعينه ما جاء فى الحديث: «فى القلب لمّتان لمّة من الملك ولمّة من الشيطان» وهذا مصداق لقوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ» . والعجب أن الفرنجة يكشفون هذا ولا يعلمون أنه مصداق دين الإسلام اه. واعلم أن ما جاء فى هذه السورة من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل قد بقي فى الإسلام حوالى أربعة عشر قرنا تتلقاه الأمة بالقبول جيلا بعد جيل دون بحث عن حقائقه حتى عنى علماء أوربا فى العصر الحديث بالبحث عنه، فظهر لهم أن الأرواح الناقصة تسمع كلام الناس وتهتدى به، وأنها لا تعرف ما فوق طاقتها، فلا تهتدى بهدى الأرواح العالية فالنبىّ صلى الله عليه وسلم مثلا قد ارتقى فى العلم إلى حد لا يمكن الأرواح الناقصة أن تتعلم منه فما أشبه حالهم بحال الجهال الذين يسمعون من أبنائهم المتعلمين العلم ولا يفهمونه، وما مثل حال الأرواح الناقصة بعد الموت إلا مثل حالها المشاهدة فى الدنيا، فإنا نرى الجهال لا يجلسون فى مجالس العلم إلا قليلا حين يتنزل العلماء لإصلاح حالهم، ولا يظهر لهم إلا القليل من ثمرات العلم، فهم فى الحياة الدنيا ممنوعون من السمع، وقد يشتد المنع إذا كان فى السماع مفسدة

الإيضاح

كمعرفة الأسرار الحربية، والخطط السياسية التي ينبغى أن تبقى سرا مكتوما بين الدول، وهذا المنع الذي نشاهده أشبه بالمنع من استراق السمع، لأنه إنما كان لحفظ الدرجات، وهى المعارج لأربابها. الإيضاح (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) أمر الله رسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى به إليه من قصص الجن، لما فى علمه من فوائد ومنافع للناس، منها: (1) أن يعلموا أنه كما بعث عليه الصلاة والسلام إلى الإنس فقد بعث إلى الجن. (2) أن يعلموا أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا. (3) أن يعلموا أن الجن مكلفون كالإنس. (4) أن يعلموا أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان. (5) أن تعلم قريش أن الجن على تمردها لما استمعت القرآن عرفت إعجازه وآمنت به. وظاهر الآية يدل على أنه عليه الصلاة والسلام علم استماعهم له بالوحى لا بالمشاهدة وفى الصحيحين من حديث ابن عباس، ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ، وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب، فقالوا: ما ذاك إلا لشىء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمرّ من ذهب منهم إلى تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى الفجر بأصحابه بنخلة، فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء، ورجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا إلخ، فأنزل الله عليه: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ» الآيات، وقد كان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين. وقد حكى الله عن الجن أشياء:

(1) (فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كما جاء فى قولهم: «فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» إنا سمعنا كتابا بديعا يهدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، فصدقنا به، ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك بالله. (2) (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) أي وإنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله نزهوا ربهم عن الزوجة والولد، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها، ولأنها من جنس الزوج كما قال: «خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» ، والولد للتكثر والاستئناس به، والحاجة إليه حين الكبر وبقاء الذكر والشهرة كما قال: وكم أب علا بابن ذر اشرف ... كما علت برسول الله عدنان والله سبحانه منزه عن ذلك، تعالى ربّنا علوا كبيرا. والخلاصة- علا ملك ربنا وسلطانه أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين يضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو ملامسة يكون منها الولد. (3) (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً) أي وإن الجهال من الجن كانوا يقولون قولا بعيدا عن الصواب، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى. (4) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي وأنا كنا نظن أن لن يكذب أحد على الله تعالى، فينسب إليه الصاحبة والولد، ومن ثم اعتقدنا صحة قول السفيه، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم كانوا كاذبين، وهذا منهم بإقرار بأنهم إنما وقعوا فى تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا منها الاستدلال والبحث. (5) (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون فى الفقر برجال من الجن، فزادوا الجن بذلك طغيانا وغيّا، بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم.

[سورة الجن (72) : الآيات 8 إلى 17]

وخلاصة ذلك- أنهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم ولم يستعيذوا بالله، استذلوهم واجترءوا عليهم وزادوهم ظلما. (6) (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً) أي وأن الجن ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه، يدعوهم إلى توحيده، والإيمان برسله واليوم الآخر. [سورة الجن (72) : الآيات 8 الى 17] وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) شرح المفردات لمسنا السماء: أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا، والحرس والحرس، واحدهم حارس، وهو الرقيب، شديدا: أي قويا، والسمع: الاستماع، والشهب: واحدها شهاب، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب، رصدا: أي أرصد له ليرمى به

الإيضاح

رشدا: أي خيرا وصلاحا، قددا: أي جماعات متفرقة وفرقا شتى، ويقال صار القوم قددا: إذا تفرقت أحوالهم، واحدها قدّة وهى القطعة من الشيء، هربا: أي هاربين إلى السماء، والمراد بالهدى القرآن، والبخس: النقص، والرهق الظلم والمكروه الذي يغشى المظلوم، القاسطون: أي الجائرون العادلون عن الحق، تحرّوا رشدا: أي قصدوا طريق الحق، حطبا: أي وقودا للنار، والطريقة: هى طريق الإسلام، غدقا: أي كثيرا، يسلكه: أي يدخله، صعدا: أي شاقا يعلو المعذب ويغلبه، يقال فلان فى صعد من أمره: أي فى مشقة، ومنه قول عمر: ما تصعّدنى شىء كما تصعّدنى فى خطبة النكاح، أي ما شقّ علىّ، وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما يكون فى الخاطب من أوصاف موروثة ومكتسبة، فكان يشق عليه أن يقول الصدق فى وجه الخاطب وعشيرته. الإيضاح (7) (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) يخبر سبحانه عن مقال الجن حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وحفظ منهم، إن السماء ملئت حراسا شدادا وشهبا تحرسها من سائر أرجائها وتمنعنا من استرق السمع كما كنا نفعل. أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان للشياطين مقاعد فى السماء يسمعون فيها الوحى، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث فى الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلى بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا هو الحدث الذي حدث فى الأرض.

(8) (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي وأنا كنا نقعد قبل ذلك فيها مقاعد خالية من الحرس والشهب، لنسترق السمع، فطردنا منها حتى لا نسترق شيئا من القرآن ونلقيه على ألسنة الكهان، فيلتبس الأمر ولا يدرى الصادق، فكان ذلك من لطف الله بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز. (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي فمن يرم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يهلكه ويمحقه. وإنا لنؤمن بما جاء فى الكتاب الكريم من أن الجن كانوا يسترقون السمع، ومنعوا من ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا نعرف كيف كانوا يسترقون السمع، ولا نعرف كنه الحرس الذين منعوهم، ولا المراد بالشهب التي كانت رصدا لهم والجن أجسام نارية فكيف تحترق من الشهب. ويرى قوم أن مقاعد السمع هى مواضع الشبه التي يوسوس بها الجن فى صدور الناس، ليصدوهم عن اتباع الحق، والحرس: هى الأدلة العقلية التي نصبها سبحانه لهداية عباده، والشهب الأدلة الكونية التي وضعها فى الأنفس والآفاق. وعلى هذا يكون المعنى: إن القرآن الكريم بما نصب من الأدلة العقلية والأدلة الكونية حرس للدين من تطرق الشبه التي كان الشياطين يوسوسون بها فى صدور الزائفين، ويحوكونها فى قلوب الضالين، ليمنعوهم من تقبل الدين والاهتداء بهديه، فمن يكفر فى إلقاء الشكوك والأوهام فى نفوس الناس بعدئذ يجد البراهين التي تقتلعها من جذورها. (9) (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أي وإن السماء لم تحرس إلا لأحد أمرين: (ا) إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة. (ب) وإما لنبىّ مرشد مصلح.

وكأنهم يقولون: أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا بالشهب، أم أراد بهم ربهم الهدى، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم؟. (10) (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي وأنا منا المسلمون العاملون بطاعة الله، ومنا قوم دون ذلك، وأنا كنا أهواء مختلفة وفرقا شتى، فمنا المؤمن والفاسق والكافر كما هى الحال فى الإنس. (11) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي وأنا علمنا أن لن نعجز الله فى الأرض أينما كنا فى أقطارها، ولن نعجزه هربا إن طلبنا، فلا نفوته بحال. والخلاصة- إن الله قادر علينا حيث كنا، فلا نفوته هربا. (12) (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) أي وأنا لما سمعنا القرآن الذي يهدى إلى الطريق المستقيم صدقنا به وأقررنا بأنه من عند الله، ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصا من حسناته، ولا ذنبا يحمل عليه من سيئات غيره قاله قتادة. وقصارى ذلك- أنه ينال جزاءه وافرا كاملا. (13) (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي وأنا منا المؤمنون الذين أطاعوا الله وأخبتوا إليه وعملوا صالح الأعمال، ومنا الجائرون عن النهج القويم وهو الإيمان بالله وطاعته، ومن آمن بالله وأطاعه فقد سلك الطريق الموصل إلى السعادة، وقصد ما ينجيه من العذاب. ثم ذم الجنّ الكافرين منهم فقالوا: َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أي وأما الجائرون عن سنن الإسلام فكانوا حطبا لجهنم توقد بهم، كما توقد بكفرة الإنس، وقد ذكر ثواب المؤمنين منهم بقوله: «فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» .

وإلى هنا انتهى كلام الجن ثم عاد إلى ذكر الموحى به إلى رسوله فقال: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي وأوحى إليه أنه لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام، لوسّعنا عليهم أرزاقهم، ولبسطنا لهم فى الدنيا. وإنما خص الماء الغدق بالذكر، لأنه أصل المعاش، وكثرته أصل السعة ومن ثم قيل حيثما كان الماء كان المال، وحيثما كان المال كانت الفتنة، ولندرة وجوده بين العرب، ومن ثمّ امتنّ الله على نبيّه بقوله: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» على تفسير الكوثر بالنهر الجاري، ونحو الآية قوله: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» . وسرّ هذا ما عرفت غير مرة من أن الخصب والسعة لا يوجدان إلا حيث نوجد الطمأنينة والعدل ويزول الظلم، وتكون الناس سواسية فى نيل الحقوق، فلا ظلم ولا إرهاق، ولا محاباة ولا رشا فى الأحكام. ثم ذكر سبب البسط حينئذ فقال: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر لنرى هل يشكروننا على هذه النعم، فإن وفّوها حقها كان لهم منى الجزاء الأوفى، وإن نكصوا على أعقابهم استدرجناهم وأمهلناهم، ثم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، كما قال: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» . (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي ومن يعرض عن القرآن وعظاته، فلا يتبع أوامره ولا ينتهى عن نواهيه- يدخله فى العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه، ولا يطيق له حملا.

[سورة الجن (72) : الآيات 18 إلى 24]

[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 24] وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) شرح المفردات المساجد: واحدها مسجد، موضع السجود للصلاة والعبادة، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين، فلا تدعوا: أي فلا تعبدوا، يدعوه: أي يعبده، لبدا: (بكسر اللام وفتح الباء) أي جماعات، واحدها لبدة، والمراد متراكمين متزاحمين، ولا رشدا: أي ولا نفعا، ملتحدا: أي ملجأ يركن إليه، قال: يا لهف نفسى ونفسى غير مجدية ... عنّى وما من قضاء الله ملتحد بلاغا من الله: أي تبليغا لرسالاته. الإيضاح (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) أي قل أوحى إلىّ أنه استمع نفر من الجن، وأن المساجد لله فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا ولا تشركوا به فيها شيئا. وعن قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله معبودات أخرى لهم، فأمرنا بهذه الآية أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد.

وقال الحسن: المراد بالمساجد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعدّ لذلك أم لا، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة. وكأنه أخذ ذلك مما فى الحديث الصحيح «جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا» . (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي ولما قام محمد صلى الله عليه وسلم يعبد الله، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض تعجبا مما شاهدوا من عبادته، وسمعوا من قراءته، واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا، إذ رأوا عالم يروا مثله، ولا سمعوا مثل ما سمعوا. وقال الحسن وقتادة: إنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو الله وحده مخالفا للمشركين فى عبادتهم الأوثان- كاد الكفار لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون متراكمين جماعات جماعات. قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا، فأنزل الله: (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قل لأولئك الذين كادوا يكونون عليك لبدا: إنما أعبد الله ربى ولا أشرك به فى العبادة أحدا، وذلك ليس ببدع ولا مستنكر يوجب العجب والإطباق على عداوتى. ثم بيّن أنه لا يملك من الأمر شيئا، فهو لا يستطيع هدايتهم ولا جلب الخير لهم فقال: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين ردوا عليك ما جئتهم به من النصيحة: إنى لا أملك لكم ضرا فى دينكم ولا دنياكم، ولا نفعا أجلبه لكم، وإنما الذي يملك ذلك كله هو الله الذي له ملك كل شىء، وهو القادر على ذلك وحده وكأنه عليه السلام أمر أن يقول: ما أردت إلا نفعكم فقابلتمونى بالإساءة، وليس فى استطاعتي النفع الذي أردت، ولا الضر الذي أكافئكم به، إنما ذان لله.

وفى هذا تهديد عظيم لهم وتوكل على الله عز وجل وأنه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه ويجزيهم بسوء صنيعهم، وفيه إيماء إلى أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم عليه. ثم بيّن عجزه عن شئون نفسه بعد عجزه عن شئون غيره فقال: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ) أي قل: إنى لن يجيرنى من الله أحد من خلقه إن أراد بي سوءا، ولن ينصرنى منه ناصر، ولا أجد من دونه ملجأ ولا معينا، لكن إن بلغت رسالته وأطعته أجارنى. والخلاصة- إنى لن يجيرنى من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته. وبعدئذ بيّن جزاء العاصين لله ورسوله فقال: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي ومن يعص الله فيما أمر به، ونهى عنه، ويكذب برسوله فإن له نارا يصلاها ما كثا فيها أبدا إلى غير نهاية، ولا محيد عنها ولا خروج منها. ثم سلى رسوله وسرّى عنه وعيّرهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطنة، وقلّة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء، بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء فقال. (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي ولا يزالون يستضعفون المؤمنين ويستهزئون بهم، حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب فيستبين لهم من المستضعفون؟ المؤمنون الموحدون لله تعالى، أم المشركون الذين لا ناصر لهم ولا معين؟. وقصارى ذلك- إن المشركين لا ناصر لهم، وهم أقلّ عددا من جنود الله عزّ وجل. ونظير الآية قوله: «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ» .

[سورة الجن (72) : الآيات 25 إلى 28]

[سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 28] قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) المعنى الجملي أمر سبحانه رسوله أن يقول للناس: إنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدرى أقريب وقتها أم بعيد، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب إلا إذا أعلمه الله به، وهو سبحانه يعلم أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، ويعلم جميع الأشياء إجمالا وتفصيلا. قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى: «قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ» إلى آخر الآيات. الإيضاح (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) ؟ أمر الله رسوله أن يقول للناس: إن الساعة آتية لا ريب فيها، ولكن وقتها غير معلوم، ولا يدرى أقريب أم يجعل له ربى أمدا بعيدا؟ وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها، «ولما تبدى له جبريل فى صورة أعرابى كان فيما سأله أن قال: يا محمد أخبرنى عن الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ولما ناداه ذلك الأعرابى بصوت جهورىّ فقال «يا محمد متى الساعة؟ قال ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟ قال أما إنى لم أعدّ لها

كثير صلاة ولا صيام، ولكنى أحب الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم فأنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرح المسلمون بشىء فرحهم بهذا الحديث. (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي عالم ما غاب عن أبصار خلقه فلم يروه، وهذا لا يعلم به أحد إلا من ارتضى من الرسل صلوات الله عليهم، فإنه يطلعهم على ما شاء منه. ونحو الآية قوله: «وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ» . وفى الآية إيماء إلى إبطال الكهانة والتنجيم والسحر، لأن أصحابها أبعد الناس عن الارتضاء وأدخلهم فى السخط وإلى أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بالقرآن، وفيها أيضا إبطال للكرامات، لأن من تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا رسلا، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب. وقال الرازي: المراد أنه لا يطلع على غيبه المخصوص وهو قيام الساعة، والذي يدل على ذلك أمور: (1) أن أرباب الأديان والملل مطبقون على صحة علم التعبير وتفسير الرؤيا، وأن المعبّر قد يخبر عن الوقائع الآتية فى المستقبل ويكون صادقا فيها. (2) أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن أحوال آتية، ذكرت أشياء ثم وقعت وفق كلامها. (3) أنا نشاهد فى أصحاب الإلهامات الصادقة (وليس ذلك مختصا بالأولياء بل قد يكون فى السحرة) من يكون صادقا فى كثير من أخباره، وكذلك الأحكام النجومية قد تكون مطابقة موافقة لما سيكون فى كثير من الأحيان، وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر إلى الطعن فى القرآن الكريم، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا اه بتصرف.

(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) الرصد القوم يرصدون كالحرس، والراصد للشىء الراقب له، والترصد الترقب، والمراد بهم هنا الملائكة الحفظة أي فإنه يسلك من بين يدى من ارتضى من رسله، ومن خلفهم حفظة من الملائكة يحفظونهم من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلغوا ما أوحى به إليهم، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونهم ولا يضرونهم. وعن الضحاك: ما بعث نبى إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين الذين يتشبهون بصورة الملك، فإذا جاء شيطان فى صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك. والخلاصة- أنه يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم. ثم علل هذا الحفظ بقوله: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أي إنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظوا ما ينزله إليهم من الوحى، ليعلم أن قد أبلغوا هذه الرسالات والمراد ليعلم الله ذلك منهم علم وقوع فى الخارج كما جاء نحو هذا فى قوله: «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» . (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي وهو سبحانه قد أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة، وأحصى ما كان وما سيكون فردا فردا، فهو عالم بجميع الأشياء منفرد بذلك على أتم وجه، فلا يشاركه فى ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم. والخلاصة- أن الرسول المرتضى يعلمه الله بوساطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق برسالته، وهو سبحانه محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط، وعالم بجميع الأشياء على وجه تفصيلى، فأين علم الوسائط من علمه؟

ما تضمنته هذه السورة

ما تضمنته هذه السورة اشتملت هذه السورة على مقصدين: (1) حكاية أقوال صدرت من الجن حين سمعوا القرآن كوصفهم له بأنه كتاب يهدى إلى الرشد، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون فى القفر برجال من الجن، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا، وأن الجن لا يدرون ماذا يحل بالأرض من هذا المنع، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق. (2) ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلى الخلق، ككونه لا يشرك بربه أحدا، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، وأنه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يدرى متى يكون وقت تعذيبهم، فالعلم لله وحده.

سورة المزمل

سورة المزمل هى مكية إلا قوله تعالى: «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» . وقوله: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» إلى آخر السورة فمدنية. وعدد آيها عشرون نزلت بعد سورة القلم. ووجه اتصالها بما قبلها: (1) أنه سبحانه ختم سورة الجن بذكر الرسل عليهم السلام، وافتتح هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه السلام. (2) أنه قال فى السورة السالفة: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ» وقال فى هذه: «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» . [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)

شرح المفردات

شرح المفردات المزمل: أصله المتزمل من قولهم تزمل بثيابه إذا تلفف بها، ورتل القرآن: أي اقرأه على تؤدة وتمهل مع تبيين حروفه، يقال ثغر رتل (بسكون التاء وكسرها) : إذا كان مفلجا لا تتصل أسنانه بعضها ببعض، سنلقى عليك: أي سنوحى إليك، قولا ثقيلا: المراد به القرآن لما فيه من التكاليف الشاقة على المكلفين عامة وعلى الرسول خاصة، لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته، ناشئة الليل: هى النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة: أي تنهض وترتفع من قولهم نشأت السحابة إذا ارتفعت وطأ: أي مواطأة وموافقة من قولهم واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه ومنه قوله تعالى: «لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» أي ليوافقوا، أقوم قليلا: أي أثبت قراءة، لحضور القلب وهدوء الأصوات، سبحا طويلا: أي تقلبا وتصرفا فى مهامّ أمورك، واشتغالا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة، فعليكها فى الليل، وأصل السبح: السير السريع فى الماء، واذكر اسم ربك: أي ودم على ذكره ليلا ونهارا، وتبتل إليه تبتيلا: أي انقطع عن كل شىء إلى أمر الله وطاعته، واتخذه وكيلا: أي وفوض كل أمر إليه. المعنى الجملي قال ابن عباس: أول ما جاء جبريل النبي صلى الله عليه وسلم خافه وظن أن به مسّا من الجن، فرجع من الجبل مرتعدا وقال: زمّلونى زمّلونى، فبينا هو كذلك إذ جاءه جبريل وناداه. «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ» ثم أمره بترتيل القرآن وقراءته بتؤدة وتأنّ، ثم أخبره بأنه سيلقى عليه قرآنا فيه التكاليف الشاقة على المكلفين، وأن النهوض للعبادة بالليل شديد الوطأة ولكنه أقوم لقراءة القرآن لحضور القلب، أما قراءته فى النهار فتكون مع اشتغال

الإيضاح

النفوس بأحوال الدنيا، ثم أمره بذكر ربه والانقطاع إليه بالعبادة، وتفويض أموره كلها إليه. الإيضاح (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) أي يا أيها النبي المتزمل بثيابه، المتهيئ للصلاة، دم عليها الليل كله إلا قليلا. ثم فسر هذا القليل بقوله: (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي إلا قليلا وهو النصف أو انقص من النصف أو زد على النصف إلى الثلثين، فهو قد خير بين الثلث والنصف والثلثين. وقصارى ذلك- أنه أمر أن يقوم نصف الليل أو يزيد عليه قليلا أو ينقص منه قليلا، ولا حرج عليه فى واحد من الثلاثة. وبعد أن أمره بقيام الليل للصلاة أمره بترتيل القرآن فقال: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) أي اقرأه على تمهل، فإنه أعون على فهمه وتدبره، وكذلك كان صلوات الله عليه، قالت عائشة رضى الله عنها: كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها، وجاء فى الحديث: «زيّنوا القرآن بأصواتكم، ولقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود، يعنى أبا موسى الأشعري، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتى لحبّرته لك تحبيرا» . وأخرج العسكري فى كتابه المواعظ عن على كرم الله وجهه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدّقل: (أردأ التمر) ولا تهذّه: (لا تسرع به) هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» . وعن عبد الله بن مغفل قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجّع فى قراءته» أخرجه الشيخان.

وعن جابر قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال: اقرءوا وكلّ حسن، وسيجيئ أقوام يقيمونه كما يقام القدح: (السهم) يتعجلونه ولا يتأجلونه، لا يجاوز تراقيهم» رواه أبو داود. قال فى فتح البيان: والمقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة لا مجرد إخراج الحروف من الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء كما يعتاده قرّاء هذا الزمان من أهل مصر وغيرها فى مكة المكرمة وغيرها، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكالون والحمقى الجاهلون بالشرائع وأدلتها الصادقة، وليس هذا بأول قارورة كسرت فى الإسلام اه. والحكمة فى الترتيل: التمكن من التأمل فى حقائق الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلاله، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ويستنير القلب بنور الله- وبعكس هذا فإن الإسراع فى القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، والنفس تبتهج بذكر الأمور الروحية، ومن سرّ بشىء أحب ذكره كما أن من أحب شيئا لا يحب أن يمر عليه مسرعا. ثم أتى بحملة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي ليبين سهولة ما كلّفه من القيام فقال: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) أي إنا سننزل عليك القرآن وفيه الأمور الشاقة عليك وعلى أتباعك من أوامر ونواه، فلا تبال بهذه المشقة وامرن عليها لما بعدها. وقال الحسن بن الفضل: ثقيلا أي لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد، وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل فى الدنيا يثقل فى الميزان يوم القيامة. وقد يكون المراد- إنه ثقيل فى الوحى فقد جاء فى حديث البخاري ومسلم: «إن الوحى كان يأتيه صلى الله عليه وسلم أحيانا فى مثل صلصلة الجرس، وهذا أشده

عليه، فيفصم عنه (يفارقه) وقد وعى ما قال. وأحيانا يتمثل له الملك رجلا فيكلمه فيعى ما يقول، وكان ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا» يجرى عرقه كما يجرى الدم من الفاصد. ثم علل الأمر بقيام الليل فقال: (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا) أي لأن قيام الليل أشد مواطأة وموافقة بين القلب واللسان، وأجمع للخاطر فى أداء القراءة وتفهمها، وهو أفرغ للقلب من النهار، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات والبحث عن أمور المعاش، ومن ثم قال: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا) أي إن لك فى النهار تقلّبا وتصرفا فى مهامّ أمورك واشتغالا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرغ فيه للعبادة، فعليك بالتهجد، فإن مناجاة الرب يعوزها الفراغ والتخلي عن العمل. ثم أمر رسوله بمداومة الذكر والإخلاص له فقال: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) أي ودم على ذكره ليلا ونهارا بالتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة وقراءة القرآن، وانقطع إليه بالعبادة، وجرد إليه نفسك وأعرض عما سواه. ونحو الآية قوله: «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ» أي فإذا فرغت من شئونك، فانصب فى طاعته وعبادته، لتكون فارغ القلب، خاليا من الهواجس والوساوس الدنيوية. ثم بين السبب فى الأمر بالذكر والتبتل فقال: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) أي هو المالك المتصرف فى المشارق والمغارب، لا إله إلا هو، فعليك أن تتوكل عليه فى جميع أمورك. ونحو الآية قوله: «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» . وقوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .

[سورة المزمل (73) : الآيات 10 إلى 18]

وجاء فى كلامهم: من رضى بالله وكيلا، وجد إلى كل خير سبيلا. وقد ذكروا أن مقام التوكل فوق مقام التبتل، لما فيه من الدلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا: هواى له فرض تعطّف أوجفا ... ومنهله عذب تكدر أو صفا وكلت إلى المعشوق أمرى كلّه ... فإن شاء أحيانى وإن شاء أتلفا [سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 18] وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) شرح المفردات الهجر الجميل: ما لا عتاب معه، والنعمة (بفتح النون) التنعم (وبكسر النون) الإنعام، مهّلهم: أي اتركهم برفق وتأنّ ولا تهتم بشأنهم، والأنكال: واحدها نكل (بكسر النون وفتحها) وهو القيد الثقيل، قالت الخنساء: دعاك فقطّعت أنكاله ... وقد كن قبلك لا تقطع والجحيم: النار الشديدة الإبقاد، ذا غصة: أي لا يستساغ فى الحلق فلا يدخل ولا يخرج، ترجف: أي تضطرب وتتزلزل، كثيبا: أي رملا مجتمعا، من قولهم: كثب

المعنى الجملي

الشيء إذا جمعه، مهيلا: أي رخوا ليّنا إذا وطئته القدم زل من تحتها، والوبيل: الثقيل الرديء العقبى، من قولهم: كلأ وبيل: أي وخيم لا يستمرأ لثقله، والشيب: واحدهم أشيب، منفطر: أي منشق. المعنى الجملي بعد أن ذكر معاملة العباد لبارئهم وخالقهم من العدم- أردف ذلك معاملة بعضهم بعضا، فبيّن أن ذلك يكون بأحد أمرين: (1) مخالطة فصبر جميل على الإيذاء والإيحاش. (2) هجر جميل بالمجانبة بالقلب والهوى، والمخالفة فى الأفعال مع المداراة والإغضاء وترك المكافأة. ثم أمر رسوله أن يترك أمر المشركين إليه، فهو الكفيل بمجازاتهم، ثم ذكر أنه سيعذبهم بالأنكال والنار المستعرة، والطعام ذى الغصة فى يوم القيامة حين تكون الجبال كثيبا مهيلا. وبعد أن خوّفهم عذاب يوم القيامة خوفهم أهوال الدنيا، وأنه سيكون لهم فيها مثل ما كان للأمم المكذبة قبلهم كقوم فرعون حين عصوا موسى فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ثم عاد إلى تخويفهم بالآخرة مرة أخرى، وأبان لهم أن أهوالها بلغت حدا تشيب من هوله الولدان، وأن السماء تتشقق منه. الإيضاح (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) أي واصبر على ما يقول فيك وفى ربك سفهاء قومك المكذبون لك، واهجرهم هجرا جميلا بأن تداريهم وتجانبهم وتغضى عن زلاتهم ولا تعاتهم. ونحو الآية قوله: «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ»

وقوله: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا» ، وقوله: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» . ثم تهدّدهم وتوعّدهم، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شىء فقال: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) أي ودعنى والمكذبين المترفين أصحاب الأموال، فإنى أكفيك أمرهم وأجازيهم بما هم له أهل، وتمهل عليهم قليلا حتى يبلغ الكتاب أجله، وسيذوقون العذاب الذي أعددته لهم. ونحو الآية قوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» والخلاصة- خلّ بينى وبينهم، فسأجازيهم بما يستحقون. روى أنها نزلت فى صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين وقالت عائشة رضى الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسير حتى كانت وقعة بدر. ثم ذكر من ألوان العذاب التي أعدها لهم أمورا أربعة: (1) (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا) أي إن لدينا لهؤلاء المكذبين بآياتنا قيودا ثقيلة توضع فى أرجلهم كما يفعل بالمجرمين فى الدنيا إذلالا لهم قال الشعبي: أترون أن الله جعل الأنكال فى أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله، ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم. (2) (وَجَحِيماً) أي نارا مستعرة تشوى الوجوه. (3) (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي طعاما لا يستساغ، فلا هو نازل فى الحلق، ولا هو خارج منه، كالزقوم والضريع كما قال تعالى: َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» وقال: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» . (4) (وَعَذاباً أَلِيماً) أي وألوانا أخرى من العذاب المؤلم الموجع الذي لا يعلم كنهه إلا علام الغيوب.

والخلاصة- إن لدينا فى الآخرة ما يضاد تنعمهم فى الدنيا، وهو النكال والجحيم والطعام الذي يغصّون به والعذاب الأليم. وعن الحسن أنه أمسى صائما فأتى بطعام فعرضت له هذه الآية فقال: ارفعه، ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البنّانى ويزيد الضبي ويحيى البكّاء، فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. وبعد أن وصف العذاب ذكر زمانه فقال: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا) أي ذلك العذاب فى يوم تضطرب فيه الأرض، وتزلزل الجبال وتتفرق أجزاؤها، وتصير كالعهن المنفوش، وكالكثيب المهيل بعد أن كانت حجاره صماء، ثم ينسفها ربى نسفا، فلا يبقى منها شىء. وبعد أن خوف المكذبين أولى النعمة بأهوال القيامة خوّفهم بأهوال الدنيا وما لاقته الأمم المكذبة من قبلهم فقال: (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا) أي إنا أرسلنا إليكم رسولا يشهد عليكم بإجابة من أجاب منكم دعوتى، وامتناع من امتنع من الإجابة يوم تلقوننى فى القيامة، كما أرسلنا إلى فرعون رسولا يدعوه إلى الحق، فعصى فرعون الرسول الذي أرسلناه إليه فأخذناه أخذا شديدا فأهلكناه ومن معه بالغرق، فاحذروا أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم مثل ما أصابه. وقصارى ذلك- كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه فأخذناه أخذا وبيلا، أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم، فاحذروا أن تعصوه فيصيبكم مثل ما أصابه. وبعد أن هددهم بعذاب الدنيا أعاد الكرّة بتخويفهم بعذاب الآخرة فقال: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ

[سورة المزمل (73) : الآيات 19 إلى 20]

مَفْعُولًا) أي كيف يحصل لكم أمان من يوم يحصل فيه هذا الفزع العظيم الذي تشيب من هوله الولدان، وتتشقق السماء وتنفطر بسبب شدائده وأهواله إن كفرتم، والعرب تضرب المثل فى الشدة فتقول: هذا يوم تشيب من هوله الولدان، وهذا يوم يشيب نواصى الأطفال، ذاك أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب كما قال المتنبي: والهمّ يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبىّ ويهرم فجعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة، فاحذروا هذا اليوم فإنه كائن لا محالة كما وعد الله. والخلاصة- كأنه قيل: هبوا أنكم لا تؤاخذون فى الدنيا إخذة فرعون وأضرابه، فكيف تقون أنفسكم أهوال القيامة وما أعدّ لكم من الأنكال إن دمتم على ما أنتم عليه من الكفر. [سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20] إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

شرح المفردات

شرح المفردات تذكرة: أي موعظة، سبيلا: أي طريقا توصله إلى الجنة، أدنى. أي أقلّ، والله يقدّر الليل والنهار. أي يعلم مقادير ساعاتهما، أن لن تحصوه. أي لا يمكنكم الإحصاء وضبط الساعات، فتاب عليكم. أي بالترخيص فى ذلك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم، فاقرءوا ما تيسر من القرءان. أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، يضربون فى الأرض. أي يسافرون للتجارة، وأقرضوا الله. أي أنفقوا فى سبل الخيرات. المعنى الجملي بعد أن بدأ السورة بشرح أحوال السعداء وبيّن معاملتهم للمولى ثم معاملتهم للخلق، ثم هدد الأشقياء بأنواع من العذاب فى الآخرة، ثم توعدهم بعذاب الدنيا، وبعدئذ وصف شدة يوم القيامة- ختم السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد فمن شاء أن يسلك سبيل ربه بالطاعة والبعد عن المعصية فليفعل، ثم أخبره بما يقوم به هو والمؤمنون للعبادة من ساعات الليل: ثلثيه أو نصفه أو ثلثه، ثم خفف ذلك عنهم للأعذار التي تحيط بهم من مرض أو سفر للتجارة ونحوها أو جهاد للعدوّ، فليصلوا قدر ما يستطيعون، وليؤتوا زكاة أموالهم، وليستغفروا الله فى جميع أحوالهم، فهو الغفور الرحيم. الإيضاح (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي إن ما تقدم من الآيات التي ذكر فيها يوم القيامة وأهوالها، وما هو فاعل فيها بأهل الكفر- عبرة لمن اعتبر وادّكر. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي فمن شاء اتعظ بها، واتخذ سبيلا إلى ربه

فآمن به وعمل بطاعته وأخبت إليه، وذلك هو النهج القويم، والطريق الموصل إلى مرضاته. ثم رخص لأمته فى ترك قيام الليل كله للمشقة التي تلحقهم إذا هم فعلوا ذلك فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي إن ربك لعليم بأنك تقوم أقلّ من ثلثى الليل وأكثر من النصف، وتقوم النصف، وتقوم الثلث أنت وطائفة من صحبك المؤمنين حين فرض عليكم قيام الليل. (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي ولا يعلم مقادير الليل والنهار إلا الله، وأما أنتم فلن تستطيعوا ضبط الأوقات ولا إحصاء الساعات، فتاب عليكم بالترخيص فى ترك القيام المقدر، وعفا عنكم ورفع هذه المشقة. قال مقاتل وغيره: لما نزلت «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدرى متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم فقال تعالى «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ» . والخلاصة- الله يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تامّا فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض، وإن نقصتم شق هذا عليكم، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر، وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسر بالليل كما أشار إلى ذلك بقوله: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل. قال الحسن. هو ما يقرأ فى صلاة المغرب والعشاء. وقال السدّى. ما تيسر منه هو مائة آية. وفى بعض الآثار. من قرأ مائة آية فى ليلة لم يحاجّه القرآن، وعن قيس بن حازم قال:

«صليت خلف ابن عباس فقرأ فى أول ركعة بالحمد لله رب العالمين وأول آية من البقرة ثم ركع، فلما انصرفنا أقبل علينا فقال: إن الله يقول: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» أخرجه الدار قطنى والبيهقي فى سننه. ثم ذكر أعذارا أخرى تسوّغ هذا التخفيف فقال: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي علم سبحانه أنه سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار لا يستطيعون معها القيام بالليل كمرض وضرب فى الأرض ابتغاء الرزق من فضل الله، وغزو فى سبيل الله فهؤلاء إذا لم يناموا فى الليل تتوالى عليهم أسباب المشقة ويظهر عليهم آثار الجهد، وفى هذا إيماء إلى أنه لا فرق بين الجهاد فى قتال العدوّ والجهاد فى التجارة لنفع المسلمين. قال ابن مسعود: أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن الإسلام صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه، كان عند الله من الشهداء، ثم قرأ قوله تعالى: «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وأخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن عمر رضى الله عنه قال: ما من حال يأتينى عليه الموت بعد الجهاد فى سبيل الله أحب إلىّ من أن يأتينى، وأنا بين شعبتى جبل ألتمس من فضل الله، وتلا: «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» . ولما ذكر سبحانه ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ورفع وجوب القيام عن هذه الأمة- ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن، والمراد صلّوا كما تقدم. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) أي وصلّوا الصلاة

المفروضة وقوّموها فلا تكون قلوبكم غافلة، ولا أفعالكم خارجة عما رسمه الدين، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم، وأقرضوا الله قرضا حسنا بالإنفاق فى سبل الخير للأفراد والجماعات مما هو نافع لها فى رقيّها المدني والاجتماعى، وسيبقى لكم جزاء ذلك عند ربكم. ونحو الآية قوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» . ثم حبّب فى الصدقة وفعل الخيرات فقال: (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي وما تقدموا لأنفسكم فى دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها فى سبيل الله، أو فعل طاعة من صلاة أو صيام أو حج أو غير ذلك، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة خيرا مما أبقيتم فى دار الدنيا، وأعظم منه عائدة لكم. (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أي وسلوا الله غفران ذنوبكم يصفح لكم عنها ويسترها يوم الحساب والجزاء. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن الله ستّار على أهل الذنوب والتقصير، ذو رحمة فلا يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها. نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ما فرط منا من الزلات، بحرمة سيد خليقته، وسند أهل صفوته. وصلّ ربنا على محمد وشيعته.

ما جاء فى هذه السورة من أوامر وأحكام

ما جاء فى هذه السورة من أوامر وأحكام أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأشياء: (1) أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه. (2) أن يقرأ القرآن بتؤدة وتمهّل. (3) أن يذكر ربه ليلا ونهارا بالتحميد والتسبيح والصلاة، وأن يجرد نفسه عما سواه. (4) أن يتخذه وكيلا يكل إليه أموره متى فعل ما يجب عليه نحوها. (5) أن يصبر على ما يقولون فيه: من أنه ساحر أو شاعر، وفى ربه من أن له صاحبة وولدا، وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم، وأن يكل أمرهم إلى ربهم فهو الذي يكافئهم، وسيرى عاقبة أمرهم وأمره. (6) أن يخفف القيام للصلاة بالليل بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة والاكتفاء بما تيسر من صلاة الليل، ففى الصلاة المفروضة غنية للأمة مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار.

سورة المدثر

سورة المدثر هى مكية، نزلت بعد سورة المزمل، وعدد آياتها ستّ وخمسون. وصلتها بما قبلها: (1) أنها متواخية مع السورة قبلها فى الافتتاح بنداء النبي صلى الله عليه وسلم. (2) أن صدر كلتيهما نازل فى قصة واحدة. (3) أن السابقة بدئت بالأمر بقيام الليل، وهو تكميل لنفسه صلى الله عليه وسلم بعبادة خاصة، وهذه بدئت بالإنذار لغيره، وهو تكميل لسواه. [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) شرح المفردات المدثر: أصله المتدثر، وهو الذي يتدثر بثيابه، أي يتغطى بها لينام أو ليستدفئ، والدثار: اسم لما يتدثر به، أنذر: أي حذّر قومك عذاب الله إن لم يؤمنوا، كبّر: أي عظم، فطهر: أي طهر نفسك مما تذم به من الأفعال، وهذّبها عما يستهجن من الأحوال، والرجز: العذاب كما قال: «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ» أي اهجر المآثم المؤدية إلى العذاب، ولا تمنن تستكثر: أي ولا تمنن بعملك على ربك تطلب

المعنى الجملي

كثرته، نقر: أي نفخ، الناقور: أي الصور، عسير. أي شديد، غير يسير. أي غير سهل. المعنى الجملي روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله، فنظرت عن يمينى وعن يسارى، فلم أر شيئا فنظرت فوقى فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض، فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثّرونى دثّرونى، وصبوا علىّ ماء باردا، فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ- إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) » وقد أمر الله رسوله بالإنذار وتطهير نفسه من دنىء الأخلاق والمآثم والصبر على أذى المشركين، فإنهم سيلقون جزاءهم يوم ينفخ فى الصور، وهو يوم شديد الأهوال على الكافرين ليس بالهيّن عليهم. الإيضاح (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ) أي أيها الذي تدثر بثيابه رعبا وفرقا من رؤية الملك عند نزول الوحى أول مرة: شمّر عن ساعد الجد وأنذر أهل مكة عذاب يوم عظيم، وادعهم إلى معرفة الحق لينجوا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت. والداعي إلى ربه الكبير المتعالي لا يتمّ له ذلك إلا إذا كان متخلقا بجميل الخلال وحميد الصفات، ومن ثم قال: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّم ربك ومالك أمورك بعبادته والرغبة إليه دون غيره من الآلهة والأنداد. ونحو الآية قوله: «أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» . (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) سئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا تلبسها على معصية

ولا عن غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن مسلمة الثقفي: فإنى بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنّع والعرب تقول عن الرجل إذا نكث العهد ولم يف به: إنه لدنس الثياب، وإذا وفى ولم يغدر، إنه لطاهر الثوب، قال السموأل بن عاديا اليهودي. إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل ولا تزال هذه المعاني مستعملة فى ديار مصر وغيرها فيقولون: فلان طاهر الذيل، يريدون أنه لا يلامس أجنبية. ويرى جمع من الأئمة أن المراد بطهارة الثياب: غسلها بالماء إن كانت نجسة، وروى هذا عن كثير من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب الشافعي فأوجب غسل النجاسة من ثياب المصلى. وقد استبان للمشتغلين بأصول التشريع وعلماء الاجتماع من الأوربيين أن أكثر الناس قذرا فى أجسامهم وثيابهم أكثرهم ذنوبا، وأطهرهم أبدانا وثيابا أبعدهم من الذنوب، ومن ثم أمروا المسجونين بكثرة الاستحمام ونظافة الثياب، فحسنت؟؟؟، وخرجوا من السجون، وهم أقرب إلى الأخلاق الفاضلة منهم إلى الرذائل. وقال الأستاذ (بتنام) فى كتابه أصول الشرائع: إن كثرة الطهارة فى دين الإسلام مما تدعو معتنقيه إلى رقىّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتباع أوامره خير قيام. ومن هذا تعلم السر فى قوله: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) . (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اهجر المعاصي والآثام الموصلة إلى العذاب فى الدنيا والآخرة فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة للإفاضة على غيرها، وأقبلت بإصغاء وشوق إلى سماع ما يقول الداعي.

وقد جرت العادة أن الداعي تصادفه عقبتان: (1) الغرور والفخر والعظمة، فيقول أنا مسد للنعم إليكم، ومفيض للخير عليكم. (2) الأعداء، وهؤلاء يؤذونه ويتربصون به الدوائر، ويتتبعونه فى كل مكان ويتألّبون عليه ليل نهار، وذلك من أكبر العوامل المثبطة للدّعاة التي تجعلهم يكرّون راجعين ويقولون: ما لنا ولقوم لا يسمعون قولنا، ولنبتعد عن الناس، فإنهم لا يعرفون قدر النعم، ولا يشكرون المنعمين، ومن ثم قال تعالى: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي ولا تمنن على أصحابك بما علّمتهم وبلغتهم من الوحى مستكثرا ذلك عليهم. وقد يكون المعنى: لا تضعف، من قولهم: حبل منين أي ضعيف، ومنّه السير: أي أضعفه، فالمراد لا تضعف أن تستكثر من الطاعات التي أمرت بها قبل هذه الآية. وقد يكون المراد كما قال ابن كيسان: لا تستكثر عملا فتراه من نفسك، إنما عملك منّه من الله عليك، إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته. (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) على طاعته وعبادته، وقال مقاتل ومجاهد: اصبر على الأذى والتكذيب. والخلاصة- لا تجزع من أذى من خالفك. ولما أتمّ إرشاد رسوله أردفه بوعيد الأشقياء فقال: (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي اصبر على أذاهم فإن بين أيديهم يوما عسيرا يذوقون فيه عاقبة كفرهم وأذاهم حين ينفخ فى الصور، ويومئذ تنال الجزاء الحسن والنعيم المقيم. ثم أكد هذا بقوله: (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي يومهم عسير لا يسر فيه ولا فيما بعده، على خلاف ما جرت به العادة من أن كل عسر بعده يسر، وعسره عليهم أنهم يناقشون

[سورة المدثر (74) : الآيات 11 إلى 30]

الحساب، ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسوّد وجوههم، وتتكلم جوارحهم، فيفتضحون على رءوس الأشهاد. وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لا يناقشون فيه حسابا، ويمشون بيض الوجوه. أخرج ابن أبى شيبة عن ابن عباس قال: لما نزلت «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» . [سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 30] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) شرح المفردات ذرنى ومن خلقت وحيدا: أي دعنى وإياه، فإنى أكفيكه، ممدودا: أي كثيرا، شهودا: أي حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم، ومهدت له تمهيدا: أي بسطت له الرياسة والجاه العريض، سأرهقه: أي سأكلفه، صعودا: أي عقبة

المعنى الجملي

شاقة لا تطاق، فقتل كيف قدر: أي لعنه الله كيف وصل بقوة خياله وسرعة خاطره إلى رميه الغرض الذي كانت تنتحيه قريش، عبس: أي قطب ما بين عينيه، بسر: أي كلح وجهه كما قال توبة بن الحميّر. وقد رابنى منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتى وبسورها لوّاحة، من لوّحته الشمس: إذا سودت ظاهره وأطرافه، قال: تقول ما لا حك يا مسافر ... يا بنة عمّى لا حنى الهواجر والبشر: واحدها بشرة، وهى ظاهر الجلد: المعنى الجملي روى «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فى المسجد يصلى والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، وهو يقرأ: «حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم إلى استماعه أعاد القراءة، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بنى مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبونّ قريش كلهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا، فقال الوليد: ما لى أراك حزينا يا ابن أخى؟ فقال: وما يمنعنى أن أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبى كبشة وابن أبى قحافة لتنال من فضل طعامهم؟ فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أنى من أكثرهم مالا وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون

الإيضاح

لهم فضل طعام؟ ثم أتى مجلس قومه مع أبى جهل فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهّن؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا: اللهم لا (وكان رسول الله يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه) ثم قالوا: (فما هو؟ قال:) ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فهو ساحر وما يقوله سحر يأثره عن مسيلمة وأهل بابل، فارتج النادي فرحا، وتفرقوا معجبين بقوله، متعجبين منه فنزلت هذه الآيات» . وقد كان الوليد يسمى الوحيد، لأنه وحيد فى قومه، فماله كثير فيه الزرع والصّرع والتجارة، وكان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم، وعبيد وجوار، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، وقد بسط الله له الرزق وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة فى قومه، وكان يسمى ريحانة قريش. الإيضاح (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي خلّ بينى وبين من أخرجته من بطن أمه وحيدا لا مال له ولا ولد، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض، فكفر بأنعم الله عليه. وقال مقاتل. خلّ بينى وبينه فأنا أنفرد بهلكته. وفى هذا وعيد شديد على تمرّده وعظيم عناده واستكباره لما أوتيه من بسطة المال والجاه، وكان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لى فى العرب نظير، ولا لأبى نظير، وقد تهكم الله به وبلقبه، وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناء عليه إلى ذمه وعيبه، فجعله وحيدا فى الشر والخبث.

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً) أي أعطيته مالا كثيرا، فكان له زرع وضرع وتجارة كثيرة، قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع ثمره شتاء ولا صيفا. وقال ابن عباس: كان له مال ممدود بين مكة والطائف من الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة التي لا تنقطع ثمارها صيفا ولا شتاء. (وَبَنِينَ شُهُوداً) أي وبنين حضورا معه بمكة لا يفارقونها لكسب عيش، ولا ابتغاء رزق، إذ كانوا فى غنى عن الضرب فى الأرض، بما لهم من واسع الثراء، فكان مستأنسا بهم، طيّب القلب بشهودهم. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) التمهيد عند العرب: التوطئة، ومنه مهد الصبى، والمراد وسعت له الأرزاق، وبسطت له الجاه، فكان من الحق عليه أن يشكر الله على ما أنعم عليه، ولكنه كان لربه كنودا، فأعرض عن الداعي واستكبر، وقابل النعمة بالكفران، والجود بالجحود والعصيان. ثم عجّب من حاله وطلبه الزيادة على ما هو فيه فقال: (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي ثم هو بعد ذلك يرجو أن يزيد ماله وولده. وفى هذا استنكار لشديد حرصه وتكالبه على جمع حطام الدنيا كما هو شأن الإنسان، فقد جاء فى الحديث «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا» وجاء فى الخبر «منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال» . وروى عن الحسن أنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لى. ثم أيأسه تعالى وقطع رجاءه فقال. (كَلَّا) أي لا أفعل ولا أزيد. قال مقاتل. ما زال الوليد بعد نزول الآية فى نقص من ماله وولده حتى هلك. ثم علل هذا بقوله: (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي إنه كان معاندا لآيات المنعم، وهى آيات القرآن

التي نزل بها الوحى على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قال فيها ما قال، ومعاندة الحق جديرة بزوال النعم. وفى الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد، فهو يعرف الحق بقلبه، وينكره بلسانه، وهذا أقبح أنواع الكفر. ثم بيّن ما يفعله به يوم القيامة فقال: (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه عقبة شاقة الصعود، والمراد أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق، وقد جعل الله ما يسوق إليه من المصايب وأنواع المشاق شبيها بمن يكلّف صعود الجبال الوعرة الشاقة. قال قتادة: سيكلف عذابا لا راحة فيه. ثم حكى كيفية عناده فقال: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي إنه فكر وزوّر فى نفسه كلاما فى الطعن فى القرآن، وما يختلق فيه من المقال، وقدره تقديرا، أصاب به ما فى نفوس قريش، وما به وافق غرضهم. والخلاصة- إنه فكر وتروّي ماذا يقول فيه، وبماذا يصفه به، حين سئل عن ذلك؟ ثم عجّب من تقديره وإصابته المحز فقال: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) هذا أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدّث عنه تقول العرب: فلان قاتله الله ما أشجعه! وأخزاه الله ما أشعره! يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» . وقصارى ذلك- إن هذا تعجيب من قوة خاطره، وإصابته الغرض الذي كانت ترمى إليه قريش من الطعن الشديد فى القرآن، فقوله جاء وفق ما كانوا يريدون، وطبق ما كانوا يتمنون من القدح فيه، وفيمن جاء به.

ثم كرر هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة فقال: (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي لعن وعذّب على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال فى الكلام: لأضربنه كيف صنع: أي على أي حال كانت منه. (ثُمَّ نَظَرَ) أي ثم نظر فى أمر القرآن مرة بعد أخرى، لعله يجول بخاطره ما يحبون، ويصل إلى ما يرجون. (ثُمَّ عَبَسَ) أي ثم قطّب وجهه حين ضاقت به الحيل ولم يدر ما يقول. ثم أكد ما قبله فقال: (وَبَسَرَ) أي كلح واسودّ وجهه، قال سعد بن عبادة: لما أسلمت راغمتنى أمي، فكانت تلقانى مرة بالبشر، ومرة بالبسر. وفى هذا إيماء إلى أنه كان مصدّقا بقلبه صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ينكره عنادا، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول لفرح باستنباط ما استنبط، وإدراك ما أدرك، وما ظهرت العبوسة على وجهه. (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي ثم صرف وجهه عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد له والإقرار به. ثم ذكر ما استنبطه من التّرّهات والأباطيل. (فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي فقال ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن غيره ممن كان قبله من السحرة كمسيلمة وأهل بابل ويحكيه عنهم. ثم أكد ما سلف بقوله: (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي إنه ملتقط من كلام غيره، وليس من كلام الله كما يدّعى، ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه، ففى العرب ذوو فصاحة وذرائة لسان، وفيهم الخطباء والمقاويل الذين لا يجارون ولا يبارون، ولم يعلم أن أحدا من أهل الزكانة والمعرفة سوّلت له نفسه أن يعارضه، بل التجئوا إلى السيف والسّنان، دون المعارضة بالحجة والبرهان، وقد رووا فى هذا

الباب مضحكات أغلبها لا يصح، لأنهم وهم المقاويل ذوو اللسن وقوة العارضة لا ينبغى أن ينسب إلى أحدهم مثل هذا الهذر كقول من نسب إليه أنه عارض سورة الفيل فقال: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب طويل، ومشفر وتيل إلخ. ثم ذكر ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه، وفظيع عمله فقال: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله جهنم وأغمره فيها من جميع جهاته. ثم بالغ فى وصف النار وتعظيم شأنها فقال: (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ؟) تقول العرب: ما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة والتهويل فى الأمر. أي وأىّ شىء أعلمك ما سقر؟ لأنها قد بلغت فى الوصف حدا لا يمكن معرفته، ولا يتوصل إلى إدراك حقيقته. ثم بيّن وصفها بقوله. (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقى لهم لحما ولا تذر عظما، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا فلا تذرهم، بل تعيد إحراقهم كرة أخرى، وهكذا دواليك كما جاء فى الآية الأخرى. «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» . (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي تلفح الجلد لفحة تدعه أشد سوادا من الليل، قال ابن عباس: تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه. (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها. عن البراء «أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر» رواه البيهقي وابن أبى حاتم وابن مردويه.

[سورة المدثر (74) : الآيات 31 إلى 37]

[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 37] وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) شرح المفردات فتنة. أي سبب ضلال، أوتوا الكتاب. هم اليهود والنصارى، مرض. أي نفاق، مثلا: أي حديثا، ومنه قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» أي حديثها والخبر عنها، جنود ربك: أي هم خلقه من الملائكة وغيرهم، ذكرى: أي تذكرة وموعظة للناس، كلا: أي حقا، أدبر: أي ولّى، أسفر: أي أضاء، الكبر: أي البلايا والدواهي، واحدها كبرى، أن يتقدم: أي إلى الخير، يتأخر: أي يتخلف عنه. المعنى الجملي روى ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس «أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: «عليها تسعة عشر» قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع أن ابن أبى كبشة، (يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم) : يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدّهم «الشجعان» أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، فقال له أبو الأشد

الإيضاح

ابن كلدة الجمحي- وكان شديد البطش- أيهولنّكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة- يقول ذلك مستهزئا» وفى رواية أن الحرث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله: «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» أي لم يجعلهم رجالا فيتعاطون مغالبتهم. الإيضاح (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي وما جعلنا المدبّرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم؟ وهؤلاء: هم النقباء والمدبرون لأمرها. وإنما كانوا ملائكة لأنهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأقومهم بحق الله والغضب له سبحانه، وليكونوا من غير جنس المعذّبين حتى لا يرقّوا لهم ويرحموهم. ثم ذكر الحكمة فى اختيار هذا العدد القليل فقال: (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي وما جعلنا عددهم هذا العدد إلا محنة وضلالة للكافرين، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم. وفتنتهم به أنهم استقلوه واستهزءوا به واستبعدوه وقالوا: كيف يتولى هذا العدد القليل تعذيب الثقلين. (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي إنه سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدة، ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما فى القرآن لكتبهم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم.

(وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي وليزداد إيمان المؤمنين حين يرون تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أن العدد كما قال: ثم أكد الاستيقان وزيادة الإيمان فقال: (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي ولا يشك أهل التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى حقيقة ذلك العدد. ولا ارتياب فى الحقيقة من المؤمنين، ولكنه تعريض بغيرهم ممن فى قلبه شك من المنافقين. (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) أي وليقول الذين فى قلوبهم شك فى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والقاطعون بكذبه: ما الذي أراد الله بهذا العدد القليل المستغرب استغراب المثل؟ ثم بين أن الاختلاف فى الدين سنة من سنن الله تعالى فقال: (كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين عن عدة خزنة جهنم: أىّ شىء أراد الله بهذا الخبر حتى يخوّفنا بعدتهم؟ - يضل الله من خلقه من يشاء، فيخذله عن إصابة الحق، ويهدى من يشاء منهم، فيوفقه لإصابة الصواب. والخلاصة- إن مثل هذا الإضلال يضل من يشاء إضلاله لسوء استعداده، وتدسيته نفسه، وتوجيهها إلى سيىء الأعمال، واجتراح السيئات حين مشاهدة الآيات الناطقة بالهدى- ويهدى من يشاء لتوجيه اختياره إلى الحسن من الأعمال، وتزكيته نفسه كلما لاح له سبيل الهدى. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي وما يعلم عدد خلقه، ومقدار جموعه التي من جملتها الملائكة على ما هم عليه إلا الله عز وجل.

وهذا ردّ على استهزائهم بكون الخزنة تسعة عشر، جهلا منهم وجه الحكمة فى ذلك. قال مقاتل: هو جواب لقول أبى جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر. وخلاصة ذلك- إن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه. (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر. (كَلَّا) أي كلا لا سبيل لكم إلى إنكارها لتظاهر الأدلة عليها. (وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي أقسم بالقمر الوضاح، والليل إذا ولى وذهب، والصبح إذا أشرق- إن جهنم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العظام لإنذار البشر. ثم بين أصحاب النذارة فقال: (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي لمن شاء أن يقبل النذارة أو يتولى عنها ويردّها. ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ» . وخلاصة ما سلف- هأنتم أولاء قد علمتم سقر وعذابها وملائكتها، فمن تقدم إلى الخير أطلقناه، ومن تأخر عنه سلكناه فيها. قال ابن عباس: هذا تهديد وإعلام بأن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزى بثواب لا ينقطع أبدا، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع أبدا. وقال الحسن: هذا وعيد وتهديد وإن أخرج مخرج الخبر كقوله: «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» .

[سورة المدثر (74) : الآيات 38 إلى 56]

[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) شرح المفردات رهينة: أي مرتهنة بعملها مأخوذة به إما خلّصها وإما أوبقها، أصحاب اليمين: هم من أعطوا كتبهم بأيمانهم، ما سلككم: أي ما أدخلكم تقول سلكت الخيط فى ثقب الإبرة: أي أدخلته فيه، نخوض مع الخائضين: أي نخالط أهل الباطل فى باطلهم فكلما غوى غاو غوينا معه، اليقين: هو الموت كما فى قوله: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» قاله ابن عباس، مستنفرة: أي نافرة، وقسورة: الرماة للصيد واحدهم قسور قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد، منشّرة: أي منشورة مبسوطة: تقرأ وتنشر.

الإيضاح

الإيضاح (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي كل نفس مرتهنة بكسبها عند الله غير مفكوكة عنه، كافرة كانت أو مؤمنة، عاصية أو طائعة. (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم فكوا رقابهم بحسن أعمالهم، كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحق الذي وجب عليه. ثم بين مآل أصحاب اليمين فقال: (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟) أي هم فى غرفات الجنات يسألون المجرمين وهم فى الدركات قائلين لهم: ما الذي أدخلكم فى سقر؟ فأجابوهم بأن هذا العذاب كان لأمور أربعة: (1) (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نكن فى الدنيا من المؤمنين الذين يصلون لله، لأنا لم نكن نعتقد بفرضيتها. (2) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي ولم نكن من المحسنين إلى خلقه الفقراء بفضل أموالنا، المتصدقين عليهم بما تجود به نفوسنا. (3) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي وكنا لا نبالى بالخوض فى الباطل مع من يخوض فيه. قال ابن زيد: نخوض مع الخائضين فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم فنقول إنه كاذب ساحر مجنون، وفى أمر القرآن فنقول إنه سحر وشعر وكهانة إلى نحو أولئك من الأباطيل. (4) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب. (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي حتى علمنا صحة ذلك عيانا بالرجوع إلى الله فى الدار الآخرة. (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي فهم بعد اتصافهم بهذه الصفات لا تنفعهم شفاعة شافع، لأن لهم النار خالدين فيها أبدا.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟) أي فأىّ شىء حصل لأهل مكة حتى أعرضوا عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى، والموعظة العظمى، قال مقاتل: إعراضهم عنه من وجهين: (1) جحودهم وإنكارهم له. (2) ترك العمل بما فيه. (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي كأن هؤلاء المشركين فى فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم حمر وحشية هاربة من رماة يرمونها ويتعقبونها لصيدها وافتراسها. وفى هذا إيماء إلى أنهم مع موجبات الإقبال إلى الداعي والاتعاظ بما جاء به يعرضون عنه بغير سبب ظاهر، فأى شىء حصل لهم حتى أعرضوا عنه؟ وفى تشبيههم فى إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ، وشرادهم عنه بحمر وحشية جدّت فى نفارها مما أفزعها- تهجين لحالهم، وشهادة عليهم بالبله، فلا ترى مثل نفار حمر الوحش، واطرادها فى العدو إذا هى خافت من شىء. ثم بين أنهم بلغوا فى العناد حدا لا يتقبله عقل، ولا يستسيغه ذو نفس حساسة فقال: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي هم قد بلغوا فى العناد حدا لا تجدى معهم فيه التذكرة، فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب مفتوح من السماء كما أنزل على نبيه، وجاء نحو هذا فى قوله تعالى حكاية عنهم: «لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» . روى أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتى كل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونومر فيه بأتباعك.

وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إن المشركين كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار. (كَلَّا) زجر لهم وتوبيخ على اقتراحهم لتلك الصحف المنشرة، أي فهم لا يؤتونها. ثم بين سبحانه سبب هذا التعنت والاقتراح فقال: (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي إنما دسّاهم وطبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة، ولا يخافون أهوالها ومن ثم أعرضوا عن التأمل فى تلك المعجزات الكثيرة، وقد كانت كافية لهم جدّ الكفاية فى الدلالة على صدق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة، فطلب الزيادة يكون من التعنت الذي لا مسوّغ له. ثم وبخهم على إعراضهم عن التذكرة فقال: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي ليس الأمر كما يقول المشركون فى هذا القرآن من أنه سحر يؤثر، بل هو تذكرة من الله لخلقه ذكّرهم به، فليس لأحد أن يعتذر بأنه لم يجد مذكّرا ولا معرّفا. ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال: (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن شاء من عباده أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينيه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه، وبه سعادته فى الدارين. ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال: (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما يذكرون هذا القرآن ولا يتعظون بعظاته ويعملون بما فيه إلا أن يشاء الله أن يذكروه، فلا يستطيع أحد أن يفعل شيئا إلا أن يعطيه الله القدرة على فعله، إذ لا يقع فى ملكه سبحانه إلا ما يشاء كما قال سبحانه: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» .

ثم ذكر ما هو كالعلة لما سلف فقال: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي فالله هو الحقيق بأن يتقيه عباده، ويخافوا عقابه، فيؤمنوا به ويطيعوه، وهو القمين بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا به وأطاعوه. عن أنس رضى الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: قال ربكم: أنا أهل أن أتّقى، فلا يجعل معى إله، فمن اتقاني فلم يجعل معى إلها فأنا أهل أن أغفر له» أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة فى خلق كثير غيرهم. والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله أجمعين.

سورة القيامة

سورة القيامة هى مكية، وعدد آيها أربعون، نزلت بعد سورة القارعة. ووجه اتصالها بما قبلها، أنه ذكر فى السورة السابقة قوله: «كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» وكان عدم خوفهم منها لإنكارهم للبعث، وذكر هنا الدليل عليه بأتمّ وجه، فوصف يوم القيامة وأهواله وأحواله، ثم ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن، ثم ما قبل ذلك من مبدإ الخلق. [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) شرح المفردات (لا أُقْسِمُ) تزيد العرب كلمة (لا) فى القسم كما قال امرؤ القيس: لا وأبيك ابنة العامرىّ لا يدّعى القوم أنى أفرّ ويرى قوم أن (لا) نافية ردّ لكلام كان قد تقدم وجواب لهم، وذلك هو

المعنى الجملي

المعروف فى كلام الناس فى محاوراتهم فإذا قال أحدهم: لا والله لا فعلت كذا- قصد بقوله (لا) رد الكلام السابق، وبقوله والله ابتداء يمين، فهم لما أنكروا البعث قيل لهم: ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: إن البعث حق لا شك فيه. ويرى جمع من المفسرين أنها للنفى على معنى أنى لا أعظمه بإقسامى به حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من هذا وهو يستأهل فوق ذلك. قال مجاهد: النفس اللوامة هى التي تلوم نفسها على مافات، وتندم على الشر لم فعلته؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه؟ فهى لم تزل لأئمة وإن اجتهدت فى الطاعات (بَلى) كلمة يجاب بها إذا كان الكلام منفيا، فالمراد بها هنا نعم نجمعها بعد تفرقها، والبنان واحده بنانة وهى الأصابع. قال النابغة: بمخضّب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد ليفجر أمامه: أي ليدوم على فجوره فى الحاضر والمستقبل لا ينزع عنه، برق تحير فزعا من قولهم: برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، قال ذو الرمة: ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت ... لعينيه مىّ سافرا كاد يبرق وخسف القمر: ذهب ضوءه، والمفر: الفرار، والوزر: الملجأ وأصله الجبل المنيع، ومنه قوله: لعمرك ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر ينبأ: أي يخبر، بصيرة: أي حجة شاهدة على ما صدر منه، والمعاذير: ما يعتذر به. المعنى الجملي أقسم تعالى بعظمة القيامة، وبالنفس الطموحة إلى الرقىّ، الجانحة إلى العلوّ، التي لا تصل إلى مرتبة إلا طلبت ما فوقها، ولا إلى حال إلا أحبت ما تلاها- إن

الإيضاح

هناك حالا أخرى للنفس تنال فيها رغائبها، فى عالم أكمل من هذا العالم، عالم السعادة الروحية للمطيعين، وعالم الشقاء للجاحدين المعاندين. وهذا القسم وأمثاله لم يطرق آذان العرب من قبل، فهم كانوا يقسمون بالأب والعمر والكعبة ونحو ذلك. روى أن عدىّ بن أبى ربيعة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة متى يكون وما حاله وأمره فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أومن بك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فنزلت هذه الآيات، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اكفنى شر جارى السوء» . الإيضاح (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أقسم سبحانه بيوم القيامة وعظيم أهواله، وبالنفس التواقة للمعالى التي تندم على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لم تستكثر منه، فهى لم تزل لائمة وإن اجتهدت فى الطاعة- لتبعثنّ ولتحاسبنّ على ما تفعلون. وقال الفرّاء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهى تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت هلّا ازددت، وإن كانت عملت سوءا قالت ليتنى لم أفعل، وعلى هذا فهو مدح للنفس، والقسم بها سائغ حسن اه. وقسمه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيم شأنه، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه. قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» قال: يقسم ربك بما شاء من خلقه. (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي أيظن ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها؟ بلى نحن قادرون على ذلك وأعظم منه، فنحن قادرون على أن نسوى بنانه وأطراف يديه ورجليه، ونجعلهما

شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار، فلا يستطيع أن يعمل بها شيئا مما يعمله بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل والأنامل، من فنون الأعمال التي تحتاج إلى القبض والبسط، والتأنى فى عمل ما يراد من الشئون كالغزل والنسج والضرب على الأوتار والعيدان، إلى نحو أولئك. والخلاصة- إنا لقادرون على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى مثل التركيب الأول بعد تفرقها وصيرورتها عظاما ورفاتا فى بطون البحار، وفسيح القفار، وحيثما كانت، وعلى أن نسوّى أطراف يديه ورجليه ونجعلهما شيئا واحدا فيكون كالجمل والحمار ونحوهما، فيأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب، وفى ذلك خسران كبير له، وتشويه لخلقه، وإفساد لوظيفته التي أعدّ لها فى الحياة. (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظامه، لكنه يريد أن يمضى قدما فى المعاصي لا يثنيه عنها شىء، ولا يتوب منها، بل يسوّف بالتوبة فيقول: أعمل ثم أتوب بعد ذلك. والخلاصة- إنه انتقل من إنكار الحسبان، إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب، ليكون ذلك أشد فى لومه وتوبيخه كأنه قيل: دع تعنيفه على ذلك، فإنه قد بلغ من أمره أنه يريد أن يداوم على فجوره فيما يستأنف من الزمان ولا يتخلى عنه. ثم علل إرادته دوام الفجور بقوله: (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟) أي يسأل سؤال متعنت مستبعد، متى يكون هذا اليوم؟ ومن أنكر البعث أشد الإنكار، ارتكب أعظم الآثام، وخبّ فيها ووضع غير عابىّ بعاقبة ما يصنع، ولا مقدّر نتائج ما يكتسب. ونحو الآية قوله: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» ، وقوله: «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» .

وقصارى ما سلف أنهم أنكروا البعث لوجهين: (1) شبهة تعترض الخاطر: كقولهم إن أجزاء الجسم إذا تفرقت واختلطت بالتراب، وسارت فى مشارق الأرض ومغاربها، كيف يمكن تمييزها وإعادتها على النحو الذي كانت عليه أوّلا، ولهؤلاء جاء الردّ بقوله: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» . (2) حبّ الاسترسال فى اللذات، والاستكثار من الشهوات، فلا يود أن يقرّ بحشر ولا بعث حتى لا تتنغص عليه لذاته، ولمثل هؤلاء قال: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ» . وقد ذكر سبحانه من علامات يوم القيامة أمورا ثلاثة فقال: (1) (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي إذا تحير البصر ودهش فلم يطرف من شدة الهول ومن عظم ما يشاهد، قال الفرّاء: تقول العرب للإنسان المتحير المبهوت: قد برق، وأنشد: فنفسك فانع ولا تنعنى ... ودار الكلوم ولا تبرق أي لا تفزع من كثرة الكلوم والجروح التي أصابتك. ونحو الآية قوله: «لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ» . (2) (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب ضوءه، كما نعقله من حاله فى الدنيا، إلا أن الخسوف فى الدنيا إلى انجلاء، وفى الآخرة لا يعود ضوءه. (3) (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي أدرك كل واحد منهما صاحبه وطلعا من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين على ما روى عن ابن مسعود، وقد كان هذا مستحيلا فى الدنيا كما جاء فى قوله سبحانه: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» .

(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟) أي يقول الإنسان حينئذ لدهشته وحيرته: أين المفرّ من جهنم؟ وهل من ملجأ منها؟ فأجيبوا حينئذ: (كَلَّا لا وَزَرَ) أي كلا لا شىء يعتصم به من أمر الله، فلا حصن ولا جبل ولا سلاح يقيكم شيئا من أمره، قال السّدى: كانوا إذا فزعوا فى الدنيا تحصنوا بالجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم منى. ونحو الآية قوله: «ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» . ثم كشف عن حقيقة الحال وبيّنها بقوله: (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي إلى ربك مرجعك فى جنة أو نار، وأمر ذلك مفوّض إلى مشيئته، فمن شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار. ونحو الآية قوله: «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» . ثم ذكر أن مآله رهن بما عمل فقال: (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يخبر الإنسان حين العرض والحساب ووزن الأعمال- بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها كما قال: «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . قال القشيري: وهذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبع يجرى أجرها للعبد بعد موته وهو فى قبره، من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس ظلا، أو بنى مسجدا، أو ورّق مصحفا، أو ترك وليّا يستغفر له بعد موته» . ثم بيّن أن أعظم شاهد على المرء نفسه، فهى نعم الشاهد عليه فقال: (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) بل الإنسان حجة بيّنة على نفسه، فلا يحتاج إلى أن ينبئه غيره، لأن نفسه شاهدة على ما فعل، فسمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه، وسيحاسب عليه مهما أنى بالمعاذير وجادل

[سورة القيامة (75) : الآيات 16 إلى 25]

عنها كما قال: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» . وقال الفراء فى الآية: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة، وأنشا: كأن على ذى العقل عينا بصيرة ... بمجلسه أو منظر هو ناظرة يحاذر حتى يحسب الناس كلّهم ... من الخوف لا يخفى عليهم سرائرة [سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25] لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) شرح المفردات لتعجل به: أي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك، وقرءانه: أي قراءته أي إثباتها فى لسانك، قرأناه: أي قرأه جبريل عليك، فاتّبع قرءانه: أي فاستمع قراءته، وكررها حتى يرسخ فى نفسك، بيانه: أي تفسير ما فيه من الحلال والحرام وبيان ما أشكل من معانيه، والعاجلة: دار الدنيا، ناضرة: أي متهللة بشرا بما ترى من النعيم، ناظرة: أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب، باسرة: أي شديدة العبوس كالحة متغيرة مسودة، تظن: أي تستيقن، فاقرة: أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن المنكر للقيامة والبعث معرض عن آيات الله، منكر لعظيم قدرته، وأنه سائر فى غلوائه، غير مكترث بما يصدر منه- أردفه بذكر حال من

الإيضاح

يثابر على تعلّم آيات الله وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها، رجاء قبوله إياها، ليظهر بذلك تباين حال الفريقين: من يرغب فى تحصيل آيات الله، ومن يرغب عنها «وبضدها تتبين الأشياء» ثم عاد إلى ذكر السبب فى إنكار البعث وهو حبّ بنى آدم للعاجلة، وتركهم للآخرة، ثم ذكر ما يكون فى ذلك اليوم من استبشار المؤمنين وبسور المشركين وملاقاتهم للشدائد والأهوال، وظنهم أن ستتراكم عليهم الدواهي التي تكسر فقار ظهورهم. الإيضاح علّم الله رسوله كيف يتلقى الوحى من الملك، إذ كان يسابقه فى قراءته فأمره أن يستمع إليه إذا جاء وقد كفل له: (1) أن يحفظه له. (2) أن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه. (3) أن يبينه ويفسره له. وقد أشار إلى الأول بقوله: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أي لا تحرك أيها الرسول الكريم بالقرءان لسانك وشفتيك، لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلّت منك، فإن علينا أن نجمعه لك حتى تثبته فى قلبك. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه ويعرف ذلك فى تحريكه شفتيه حتى نزلت الآية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما أمره الله. عن ابن جبير عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة بتحريك شفتيه، فقال لى ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ» رواه مسلم.

وأشار إلى الثاني بقوله: (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي فإذا تلى عليك فاعمل بما فيه من شرائع وأحكام وقد يكون المراد- فإذا تلاه عليك الملك فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك. وأشار إلى الثالث بقوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي ثم إنا بعد حفظه وتلاوته، نبيّنه لك ونلهمك معناه على ما أردنا وشرحنا. ثم أعاد القول فى توبيخ المشركين على إنكارهم للبعث فقال: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي ليس الأمر كما تقولون أيها المشركون: من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم، ولا تجازون بأعمالكم، ولكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم للدنيا العاجلة، وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة ونعيمها، فأنتم تؤمنون بالعاجلة وتكذبون بالآجلة. قال قتادة- اختار أكثر الناس العاجلة إلا من رحم الله وعصم. والخلاصة- إنكم يا بنى آدم خلقتم من عجل وطبعتم عليه، فتعجلون فى كل شىء، ومن ثمّ تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة. ثم بيّن ما يكون من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين فقال: (1) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي فوجوه المؤمنين المخلصين حين تقوم القيامة مضيئة مشرقة، تشاهد عليها نضرة النعيم. (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب، قال جمهور أهل العلم: المراد بذلك ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر. قال ابن كثير: وهذا بحمد الله مجمع عليه من الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام اه.

[سورة القيامة (75) : الآيات 26 إلى 40]

روى البخاري فى صحيحه «إنكم سترون ربكم عيانا» وروى الشيخان عن أبى سعيد وأبى هريرة «أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون فى رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا لا، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك» . وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، قال الأزهرى: قد أخطأ مجاهد لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى انتظر، فإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، وأشعار العرب وكلماتهم فى هذا كثيرة جدا اه. (2) (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي ووجوه الفجار تكون يوم القيامة: عابسة كالحة مستيقنة أنها ستصاب بداهية عظيمة تقصم فقار ظهرها وتهلكها. ونحو الآية قوله: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» وقوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» . [سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)

شرح المفردات

شرح المفردات التراقى: العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال، واحدها ترقوة، من راق: أي من يرقيه وينجيه مما هو فيه على نحو ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام الذي يعدّ لذلك والمراد هل من طبيب يشفى بالقول أو بالفعل، الفراق: أي من الدنيا حبيبته، التفّت الساق بالساق: أي التوت عليها حين هلع الموت وقلقه والمراد أنه اشتد عليه الخطب، المساق: المرجع والمآب، فلا صدّق ولا صلى: أي فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه، يتمطى: أي يتبختر افتخارا، أولى لك: أي ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره، فأولى: أي فهو أولى بك من غيرك، فدلت الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره، سدى: أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف فى الدنيا ولا يحاسب، نطفة: أي ماء قليلا وجمعها نطاف ونطف، يمنى: أي يراق ويصب فى الرحم، علقة: أي قطعة دم جامد. المعنى الجملي بعد أن ذكر أحوال يوم القيامة وما يرى فيها من عظيم الأهوال، ووصف سعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء بيّن أن الدنيا لها نهاية ونفاد ثم تكون مرارة الموت وآلامه، وأن الكافر قد أضاع الفرصة فى الدنيا، فلا هو صدّق بأوامر دينه ولا هو أدّى فرائضه ثم أقام الدليل على صحة البعث من وجهين:

الإيضاح

(1) أنه لا بد من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وثواب كل عامل بما يستحق وإلا تساوى المطيع والعاصي، وذلك لا يليق بالحكيم العادل جل وعلا. (2) أنه كما قدر على الخلق الأول وأوجد الإنسان من منىّ يمنى، فأهون عليه أن يعيده خلقا آخر! الإيضاح (كَلَّا) ردع وزجر: أي ازدجروا وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت، فأقلموا عن إيثار الدنيا على الآخرة، فستنقطع الصلة بينكم وبينها وتنتقلون إلى الدار الآخرة التي ستكونون فيها مخلّدين أبدا. ثم وصف الحال التي تفارق فيها الروح الجسد فقال: (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي إذا بلغت الروح أعالى الصدر، وأشرفت النفس على الموت، قال دريد بن الصّمّة: وربّ عظيمة دافعت عنها ... وقد بلغت نفوسهم التراقى والعرب تحذف من الكلام ما يدل عليه يقولون أرسلت: يريدون أرسلت السماء المطر، ولا تكاد تسمعهم يقولون: أرسلت السماء، قال حاتم يخاطب زوجه: أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ونحو الآية قوله: «فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ» . (وَقِيلَ مَنْ راقٍ؟) أي وقال أهله: من يرقيه ليشفيه مما نزل به؟ قال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا، وقال أبو قلابة: ومنه قول الشاعر: هل للفتى من بنات الموت من واقى ... أم هل له من حمام الموت من راقى (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي وأيقن المحتضر أن ما نزل به نذير الفراق من الدنيا والمال والأهل والولد، وسمى هذا اليقين ظنّا لأن المرء مادامت روحه معلقة ببدنه

يطمع فى الحياة لشدة حبه لهذه العاجلة كما قال: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة. (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما، قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال ابن عباس: المراد التفّت شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة واختلطتا، فالتفّ بلاء ببلاء، والعرب تقول لكل أمر اشتد، شمّر عن ساقه، وكشف عن ساقه، قال النابغة الجعدي: أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع والمآب، والمراد إنك صائر إلى جنة أو نار. وجواب إذا وتمام الجملة يقدر بنحو قولنا- انكشفت للمرء حقيقة الأمر، أو وجد ما عمله من خير أو شر حاضرا بين يديه. ثم ذكر ما كان قد فرط منه فى الدنيا فقال: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي فما صدّق بالله ووحدانيته، بل اتخذ الشركاء والأنداء وجحد كتبه التي أنزلها على أنبيائه، وما صلى وأدّى فرائضه التي أوجبها عليه، بل أعرض وتولى عن الطاعة. (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي ليته اقتصر على الإعراض والتولّى عن الطاعة بل هو قد ذهب إلى أهله جذلان فرحا، يمشى الخيلاء متبخترا. والخلاصة- إن هذا الكافر كان فى الدنيا مكذبا للحق بقلمه، متوليا عن العمل بجوارحه، معجبا بما فعل، فلا خير فيه لا باطنا ولا ظاهرا ثم هدده وتوعده فقال: (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي ويل لك مرة بعد أحرى، وأهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر وهلاك

ويرى قوم أن معنى أولى أجمل وأمرى، فيكون المراد- النار أولى بك وأجمل. ثم كرر هذا الوعيد فقال: (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي يتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى، فأنت جدير بهذا. روى قتادة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد أبى جهل فقال: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد، والله ما تستطيع لى أنت ولا ربك شيئا، والله لأنا أعز من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقتل إذ ذاك شرّ قتله» . وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» أشيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه أم أمره الله تعالى به؟ قال بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله تعالى» . ثم أقام الدليل على البعث من وجهين: (1) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي لا يترك الإنسان فى الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك فى قبره مهملا لا يحاسب، بل هو مأمور منهى محشور إلى ربه، فخالق الخلق لا يساوى الصالح المزكّى نفسه بصالح الأعمال، والطالح المدسّى نفسه باجتراح السيئات والآثام كما قال: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» وقال: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» . وإذا فلا بد من دار للثواب والعقاب والبعث والقيامة. (2) (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى؟) أي أما كان هذا المنكر قدرة الله على إحيائه بعد مماته وإيجاده بعد فنائه- نطفة فى صلب أبيه، ثم كان علقة ثم سواه بشرا ناطقا سميعا بصيرا، ثم جعل منه أولادا ذكورا وإناثا بإذنه وتقديره؟

(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أليس الذي أنشأ هذا الخلق السوىّ من هذه النطفة المذرة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ فذلك أهون من البدء فى قياس العقل كما قال: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» . وقد جاء من طرق عدة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: سبحانك اللهمّ وبلى وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ منكم: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» فليقل: بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» فليقل بلى، ومن قرأ المرسلات فبلغ «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» فليقل آمنا بالله» والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين.

سورة الإنسان

سورة الإنسان هى مدنية، وآياتها إحدى وثلاثون، نزلت بعد سورة الرحمن. وصلتها بما قبلها، أنه ذكر فى السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار يوم القيامة، وذكر فى هذه ما يلقاه الأبرار من النعيم المقيم فى تلك الدار. [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) شرح المفردات هل: أي قد، حين: أي طائفة محدودة من الزمان، والدهر: الزمان غير المحدود، أمشاج: أي أخلاط واحدها مشج (بفتحتين) ومشيج، نبتليه: أي نختبره، السبيل: الطريق، أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات. المعنى الجملي أخبر سبحانه أنه قد جاء على الإنسان حين من الزمان لم يكن شيئا يذكر ويعرف، ثم ذكر أن أبناء آدم كانوا نطفا فى الأصلاب، ثم علقا، ثم مضغا فى الأرحام، ثم أوضح لهم السبيل، وبيّن لهم طريقى الخير والشر، فمنهم الشاكر ومنهم الكفور. الإيضاح (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أي قد أتى على هذا النوع نوع الإنسان زمن لم يكن موجودا حتى يعرف ويذكر.

قال الفراء وثعلب: المراد أنه كان جسدا مصوّرا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. وفى الآية ما يشير إلى ما قاله علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) من أن الإنسان لم بوجد على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال، فقد كانت الأرض أوّلا ملتهبة بعد أن انفصلت من الشمس، ثم أخذت قشرتها تبرد بالتدريج، وأمكن أن ينبت فيها النبات، ثم بعض الطيور، ثم بعض الحيوان الداجن، ثم الإنسان وقد بينا ذلك عند تفسير قوله تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» وذكرنا هناك أن الأيام هى الأطوار التي مر عليها خلق السموات والأرض إلى آخر ما قلنا هناك. ثم أتبع ذلك بذكر العناصر الداخلة فى تكوين الإنسان فقال: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) أي إنا خلقنا الإنسان من نطفة اختلط فيها ماء الرجل بماء المرأة، مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد إذا شبّ وبلغ الحلم. قال الحسن: نختبر شكره فى السراء، وصبره فى الضراء. وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: الأمشاج الحمرة فى البياض والبياض فى الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة، قال الهذلي يصف سهما: كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النّصل سيط به مشيج وقال قتادة: هى أطوار الخلق، طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا مضغة، وطورا عظاما، ثم تكسى العظام لحما كما قال فى سورة المؤمنين: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» الآية. ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء والامتحان، وهو السمع والبصر فقال: (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي جعلناه كذلك ليتمكن من استماع الآيات ومشاهدة الدلائل والتعقل والتفكر.

وهذه من عالم أشرف من عالم المادة التي هى فى أسفل درجات النقص، والكمال إنما نزل إليه من عالم أرقى منها وهو العالم الروحي الإلهى. فهو إما أن يرجع إلى حب المادة والاستكانة لهذه المشاهدات، وإما أن يتفكر ويجدّ بالعلم والعمل، ليصل إلى عالم الكمال والجمال، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: «نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» . والخلاصة- نحن نعامله معاملة المختبر له، أيميل إلى أصله الأرضى، فيكون حيوانا نباتيا معدنيا شهوانيا، أم يكون إلهيّا معتبرا بالسمع والبصر والفكر، وهى من عوالم أرقى من عالم المادة التي تكوّن منها. ثم ذكر أنه بعد أن ركّبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال فقال: (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي فأعطيناه السمع والبصر والفؤاد، ونصبنا له الدلائل فى الأنفس والآفاق، لتكون مسرحا لفكره، ومغنما لعقله. ثم بين أن الناس انقسموا فى ذلك فريقين فقال: (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي فبعض اهتدى وعرف حق النعمة فشكر، وبعض أعرض فكفر. وإجمال ذلك- إنا هديناه السبيل ليتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته. ونحو الآية قوله: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» وقوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» . وروى مسلم عن أبى مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها» .

[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 إلى 12]

[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 12] إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) شرح المفردات أعتدنا: أي هيأنا وأعددنا، والأغلال: واحدها غلّ (بالضم) وهو القيد، والسعير: النار الموقدة، والأبرار: واحدهم برّ. قال فى الصحاح: جمع البر الأبرار، وجمع البارّ البررة، والأبرار هم أهل الطاعة والإخلاص والصدق وقال قتادة: هم الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر، وقيل هم الصادقون فى إيمانهم، المطيعون لربهم، الذين سمت همتهم عن المحقرات، فظهرت فى قلوبهم ينابيع الحكمة، والكأس: هى الإناء الذي فيه الشراب، وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو للمراد كما قال أبو نواس: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها وقال عمرو بن كلثوم: صبنت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا

المعنى الجملي

والمزاج: ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، أي يكون شوبها وخلطها بماء الكافور كما قال: كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء وجعلت كالكافور لما فيه من البياض وطيب الرائحة والبرودة، بها: أي منها، يفجرونها: أي يجرونها إلى منازلهم وقصورهم حيث شاءوا، يوفون بالنذر: أي يؤدون ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات، شره: أي شدائده، مستطيرا: أي فاشيا منتشرا فى الأقطار من قولهم: استطار الحريق والفجر إذا انتشر، عبوسا: أي تعبس فيه الوجوه، قمطريرا: أي شديد العبوس، تقول العرب يوم قمطرير وقماطر، وأنشد الفراء: بنى عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذ وقاهم: أي دفع عنهم، لقّاهم: أي أعطاهم، نضرة: أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: نضرة فى وجوههم، وسرورا فى قلوبهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه هدى الإنسان لطريق الخير وطريق الشر فى قوله: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» ثم أردفه ببيان أن الناس انقسموا فى ذلك فريقين: فريق وقفه الله واعتدى وشكر، وفريق أضله الله وكفر أعقب ذلك بما أعده لكل منهما يوم القيامة، فأعد للأولين جنات ونعيما، فهم يشربون الخمر (وهى ألذ شراب لديهم) ممزوجة بماء عذب زلال، طيب الرائحة، تأتيهم إلى غرفهم متى شاءوا وكيف أرادوا، ويلبسون الحرير ويجلسون على الأرائك لا يرون فيها حرّا ولا قرّا، ثم ذكر ما أعدوه فى الدنيا لنيلهم هذا الثواب العظيم، فبين أنهم يطعمون الطعام للفقراء البائسين واليتامى والأسارى، ويؤدون ما وجب عليهم لربهم، ويخافون عذاب يوم القيامة وأعد للآخرين سلاسل وقيودا ونارا تشوى الوجوه والأجسام.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً) أي إنا هيأنا لمن كفروا بنعمتنا وخالفوا أمرنا- سلاسل بها يقادون إلى الجحيم، وأغلالا بها تشد أيديهم إلى أعناقهم كما يفعل بالمجرمين فى الدنيا، ونارا بها يحرقون. ونحو الآية قوله: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» وبعد أن ذكر ما أعده للكافرين بين ما أعده للشاكرين من شراب شهىّ ولباس بهيّ فقال: (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي إن الذين بروا بطاعتهم ربهم فأدّوا فرائضه واجتنبوا معاصيه- يشربون من خمر كان مزاج ما فيها من الشراب كالكافور طيب رائحة وبردا وبياضا. وهذا المراج من عين يشرب منها عباد الله المتقون وهم فى غرف الجنات، يسوقونها إليهم سوقا سهلا إلى حيث يريدون، وينتفعون بها كما يشاءون، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يحبون وصوله إليه. قال مجاهد: يقودونها حيث شاءوا، وتتبعهم حيث مالوا. ثم ذكر ما لأجله استحقوا الكرامة فقال: (1) (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي يوفون بما أوجبوه على أنفسهم، ومن أوفى بما أوجبه على نفسه فهو على الوفاء بما أوجبه الله عليه أولى. وقضارى ذلك- إنهم يؤدونه ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع، وبما أوجبوه على أنفسهم بالنذر.

(2) (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي ويتركون المحرمات التي نهاهم ربهم عنها خيفة سوء الحساب يوم المعاد، حين يستطير العذاب ويفشو بين الناس إلا من رحم الله. (3) (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أي ويطعمون الطعام وهم فى محبة له وشغف به- المسكين العاجز عن الاكتساب، واليتيم: الذي مات كاسبه، والأسير: المأخوذ من قومه، المملوكة رقبته، الذي لا يملك لنفسه قوة ولا حيلة. والمراد من إطعام الطعام الإحسان إلى المحتاجين ومواساتهم بأى وجه كان، وإنما خص الطعام لكونه أشرف أنواع الإحسان، لا جرم أن عبر به عن جميع وجوه المنافع. ونحو الآية قوله: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» . وقد وصّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقّاء حتى كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» . وبعد أن ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين- بيّن أن لهم فى ذلك غرضين: (1) رضا الله عنهم، وإلى ذلك أشار بقوله: (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) فلا نمنّ عليكم ولا نتوقع منكم مكافأة ولا غيرها مما ينقص الأجر، وقد كانت عائشة رضى الله عنها تبعث الصدقة إلى أهل بيت من البيوت ثم تسأل المبعوث، فإن ذكر دعاء دعت بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله. ثم أكد هذا ووضحه بقوله: (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها،

[سورة الإنسان (76) : الآيات 13 إلى 22]

ولا أن تشكرونا لدى الناس: قال مجاهد وسعيد بن جبير: أما والله ما قالوه بألسنتهم ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به، ليرغب فى ذلك راغب (2) خوف يوم القيامة، وإلى ذلك أشار بقوله: (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا ويتلقانا بلطفه فى ذلك اليوم العبوس القمطرير. وبعد أن حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعة لغرضين: طلب رضا الله، والخوف من يوم القيامة- بيّن أنه أعطاهم الغرضين فأشار إلى الثاني بقوله: (فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي فدفع الله عنهم ما كانوا فى الدنيا يحذرون من شر ذلك اليوم العبوس بما كانوا يعملون مما يرضى ربهم عنهم. وأشار إلى الأول بقوله: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي وأعطاهم نضرة فى وجوههم وسرورا فى قلوبهم ونحو الآية قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ» . وقد جرت العادة أن القلب إذا سرّ استنار الوجه، قال كعب بن مالك: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر، وقالت عائشة رضى الله عنها: دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه- الحديث. (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدى إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكول هنى، وحريرا منه ملبس بهى، ونحو الآية قوله: «وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» [سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22] مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)

شرح المفردات

شرح المفردات الأرائك: واحدتها أريكة، وهو السرير فى الحجلة (الناموسية) والزمهرير: البرد الشديد، دانية: أي قريبة، ظلالها: أي ضلال أشجارها، وذلّلت: أي سخرت ثمارها وسهل أخذها وتناولها، والقطوف: الثمار، واحدها قطف (بكسر القاف) وآنية: واحدها إناء، وهو ما يوضع فيه الشراب، والأكواب: واحدها كوب، وهو كوز لا عروة له، والقوارير: واحدتها قارورة، وهى إناء رقيق من الزجاج، قدّروها تقديرا: أي قدرها السقاة على قدر رىّ شاربها، كأسا: أي خمرا، والزنجبيل: نبت فى أرض عمّان وهو عروق تسرى فى الأرض وليس بشجر، ومنه ما يأتى من بلاد الزنج والصين وهو الأجود، قاله أبو حنيفة الدينوري، وكانت العرب تحبه فى الشراب، لأنه يحدث لذعا فى اللسان إذا مزج بالشراب، قال الأعشى. كأن القرنفل والزنجبيل باتا بفيها وأريا مشورا والسلسبيل: الشراب اللذيذ، تقول العرب: هذا شراب سلسل وسلسال وسلسبيل: أي طيب الطعم لذيذه، وتسلسل الماء فى الحلق: جرى، مخلدون: أي دائمون على

المعنى الجملي

البهاء والحسن لا يهرمون ولا يتغيرون، نمّ: أي هناك، والسندس: ما رقّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، والأساور: واحدها سوار. المعنى الجملي بعد أن ذكر طعام أهل الجنة ولباسهم- أردفه وصف مساكنهم، ثم وصف شرابهم وأوانيه وسقاته، ثم أعاد الكلام مرة أخرى بذكر ما تفضل به عليهم من فاخر اللباس والحلي، ثم ألمع إلى أن هذا كان جزاء لهم على ما عملوا، وما زكوا به أنفسهم من جميل الخصال، وبديع الخلال. الإيضاح (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي متكئين فى الجنة على السرر فى الحجال، ليس لديهم حرّ مزعج ولا برد مؤلم، بل جوّ واحد معتدل دائم سرمدى، فهم لا يبغون عنها حولا. والخلاصة- إنهم لا يرون فى الجنة حر الشمس، ولا برد الزمهرير، ومنه قول الأعشى: منعّمة طفلة كالمها ... لم تر شمسا ولا زمهريرا وفى الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ» . (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي إن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار، مظلة عليهم زيادة فى نعيمهم. (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) أي سخرت للقائم والقاعد والمتكئ، قال مجاهد: إن قام ارتفعت منه بقدر، وإن قعد تدلّت له حتى ينالها، وكذلك إذا اضطجع، لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك.

وعن البراء بن عازب قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا. وبعد أن وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم- وصف شرابهم وأوانيه فقال: (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي يدير عليهم خدمهم كؤوس السراب والأكواب من الفضة. وقد تكوّنت وهى جامعة لصفاء الزجاجة وشفيفها، وبياض الفضة ولينها، وقد قدّرها لهم السقاة الذين يطوفون عليهم للسقيا على قدر كفايتهم وريهم، وذلك ألذّ لهم وأخف عليهم، فهى ليست بالملأى التي تفيض، ولا بالناقصة التي تغيض. والخلاصة- إن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء فى صفاء الزجاج، فيرى ما فى باطنها من ظاهرها. أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال: «ليس فى الجنة شىء إلا قد أعطيتم فى الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة» . ولا منافاة بين كون الأوانى من الفضة، وبين كونها من الذهب كما ذكر فى قوله: «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ» لأنهم تارة يسقون بهذه، وتارة يسقون بتلك. وبعد أن وصف أوانى مشروبهم وصف المشروب نفسه فقال: (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا) أي ويسقى الأبرار فى الجنة خمر ممزوجة بالزنجبيل، وقد كانوا يحبون ذلك ويستطيبونه، كما قال المسيّب بن علس يصف رضّاب امرأة: وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته بسلاقة الخمر (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا) أي ويسقون من عين فى الجنة غاية فى السلاسة وسهولة الانحدار فى الحلق، قال ابن الأعرابى: لم أسمع السلسبيل إلا فى القرآن، وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها اه، ومنه قول حسان بن ثابت: يسقون من ورد البريص عليهم ... كأسا يصفّق بالرحيق السلسل

وقال مقاتل: هو عين يتسلسل عليهم ماؤها فى مجالسهم كيف شاءوا اه. وهذا كله ما هو إلا أسماء لما هو شبيه بما فى الدنيا، وهناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، فالمعانى غير ما نعهد، والألفاظ لمجرد تخيل شىء مما نراه كما قال ابن عباس. ثم ذكر أوصاف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب فقال: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة يأتون على ما هم عليه: من الشباب والطراوة والنضارة، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة. (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي إذا رأيت هؤلاء الولدان خلتهم لحسن ألوانهم، ونضارة وجوههم وانتشارهم فى قضاء حوائج سادتهم- كأنهم اللؤلؤ المنثور «واللؤلؤ المنثور أجمل فى النظر من اللؤلؤ المنظوم» ولأنهم إذا كانوا كذلك كانوا سراعا فى الخدمة. وعن المأمون أنه قال ليلة زفّت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو على بساط منسوج من الذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، ونظر إليه فاستحسن ذلك المنظر: لله درّ أبى نواس كأنه أبصر هذا حيث قال: كأن صغرى وكبرى من قواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب ولما ذكر نعيم أهل الجنة بما تقدم ذكر أن هناك أمورا أعلى وأعظم من ذلك فقال: (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) أي وإذا نظرت فى الجنة رأيت نعيما عظيما وملكا كبيرا لا يحيط به الوصف. وقد اختلفوا فى المراد من هذا الملك الكبير، فقيل إن أدناهم منزلة من ينظر

ملكه فى مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل هو استئذان الملائكة عليهم، فلا يدخلون إلا بإذنهم، وقيل هو الملك الدائم الذي لا زوال له. ولم يجىء فى الأخبار الصحيحة ما يفسر هذا الملك الكبير، فأولى بنا أن نؤمن به ونترك تفصيله إلى علام الغيوب. وبعد أن وصف شرابهم وآنيته وما هم فيه من النعيم، وصف ملابسهم فقال: (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) أي إن لباس أهل الجنة فى الجنة الحرير، ومنه سندس، وهو رفيع الديباج للقمصان والغلائل ونحوها مما يلى أبدانهم، وإستبرق: وهو غليظ الديباج لا معه مما يلى الظاهر كما هو المعهود فى لباس الدنيا. وبعدئذ ذكر حليّهم فقال: (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي وقد حلوا أساور من فضة، وجاء هنا «مِنْ فِضَّةٍ» وفى سورة فاطر «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ» لأنهم قد يجمعون بينهما، أو يلبسون الذهب تارة والفضة أخرى. وقال سعيد بن المسيّب: لا أحد من أهل الجنة إلا وفى يده ثلاثة أسورة واحدة من ذهب، وأخرى من فضة، وثالثة من لؤلؤ. والتحلّي مما يختلف باختلاف العادات والطبائع، ونشأة الآخرة غير هذه النشأة، ومن المشاهد فى الدنيا أن بعض الملوك يتحلّون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي، ولا يرون فى ذلك بأسا لمكان الإلف والعادة فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة فى الجنة حبّ التحلي دائما. ثم ذكر أنهم يسقون شرابا آخر يفوق النوعين السابقين، وهما ما يمزج بالكافور وما يمزج بالزنجبيل فقال: (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي وسقاهم ربهم غير ما سلف شرابا يطهّر شاربه من الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، والتلذذ بلقائه، وهذا منتهى درجات الصديقين.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 إلى 31]

قال أبو فلابة: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان فى آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فتطهر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك. ولم يذكر الكتاب ما يبين نوع ذلك الشراب، فلندع أمره إلى الله ونؤمن به كما أخبر به فى كتابه. وبعد أن شرح أحوال السعداء وما يلقونه من وافر النعيم الذي يتجلى فى مشربهم وملبسهم ومسكنهم بيّن أن هذا جزاء لهم على ما قدموا من صالح الأعمال، وما زكّوا به أنفسهم من صفات الكمال فقال: (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي ويقال لهؤلاء الأبرار حينئذ: إن هذا الذي أعطيناكم من الكرامة كان لكم ثوابا على ما كنتم تعملون من الصالحات، وكان عملكم فيها مشكورا، حمدكم عليه ربكم ورضيه لكم، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة. والغرض من ذكر هذا القول لهم زيادة سرورهم، فإنه إذا قيل للمعاقب: هذا بعملك الرديء ازداد غمه وألم قلبه، وإذا قيل للمثاب: هذا بطاعتك وعملك الحسن، ازداد سروره وكان تهنئة له: ونحو الآية قوله: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» وقوله: «وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . [سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)

شرح المفردات

شرح المفردات نزّلنا عليك القرآن تنزيلا: أي أنزلناه عليك مفرقا منجما، حكم ربك: هو أخير نصرك على الكفار إلى حين، والآثم: هو الفاجر المجاهر بالمعاصي، والكفور: هو المشرك المجاهر بكفره، بكرة وأصيلا: أي أول النهار وآخره، والمراد بذلك جميع الأوقات، أسجد: أي صلّ، سبحه: أي تهجد، وراءهم: أي أمامهم، شددنا أسرهم: أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق، بدّلنا أمثالهم: أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم فى شدة الخلق. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أحوال الآخرة وبيّن عذاب الكفار على سبيل الاختصار وثواب المطيعين على سبيل الاستقصاء، إرشادا لنا إلى أن جانب الرحمة مقدم على جانب العقاب- أردف ذلك ذكر أحوال الدنيا، وقدّم أحوال الطيعين، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته على أحوال المتمردين والمشركين: وقبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من الأمر والنهى أمره بالصبر على ما يناله من أذى قومه إزالة لوحشته، وتقوية لقلبه، حتى يتم فراغ قلبه، ويشتغل بطاعة ربه وهو على أتمّ ما يكون سرورا ونشاطا.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) أي إنا أنزلنا عليك القرآن مفرقا منجما فى مدى ثلاث وعشرين سنة ليكون أسهل لحفظه وتفهّمه ودراسته، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجدّ فى الكون، فتكون تثبيتا لايمان المؤمنين، وزيادة فى تقوى المتقين. وقد يكون المعنى: نزلنا عليك ولم تأت به من عندك كما يدعيه المشركون، ويراد من ذلك تثبيت قلب رسوله صلى الله عليه وسلم وشرح صدره، وأن الذي أنزل عليه وحي لا كهانة ولا سحر، وبذا تزول الوحشة من قول الكفار: إنه كهانة أو سحر. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر لما ابتلاك به ربك وامتحنك به من تأخير نصرك على المشركين، ومقاساة الشدائد فى تبليغ رسالته ووحيه الذي أنزله عليك، فإن لذلك عاقبة حميدة، وغاية يثلج لها فؤادك. (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي ولا تطع كلا من مرتكب الإثم والمتجاوز الحد فى الكفر، فإذا قال لك الآثم كعتبة بن ربيعة: اترك الصلاة وأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بلا مهر، أو قال لك الكفور الوليد بن المغيرة: أنا أعطيك من المال حتى ترضى إذا رجعت عن هذا الأمر، فلا تطع واحدا منهما ولا من غيرهما، فقد أعددنا لك النصر فى الدنيا، والجنة فى الآخرة. وقصارى ذلك- لا تتبع أحدا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم، ولا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر، وهذا ما يفهم من قولك: لا تطع الظالم- من أن المعنى- لا تتبعه فى الظلم إذا دعاك إليه. ونهيه صلى الله عليه وسلم عن طاعة الآثم والكفور وهو لا يطيع واحدا منهما، إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد، لما ركب فى طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيئات، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان

أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم، ومن ثم وجب على كل مسلم ان يرغب إلى الله ويتضرع إليه فى أن يصونه عن اتباع الشهوات، ويعصمه عن ارتكاب المحرمات، لينجو من الآفات، ويسلم من الزلات، ليلقى ربه أبيض الصحائف من السيئات. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي ودم على ذكره فى جميع الأوقات بقلبك ولسانك. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي وصلّ بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء. (وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) أي وتهجد له طائفة من الليل، ونحو هذا ما جاء فى قوله: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» وقوله: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» . ثم قال منكرا على الكفار وأشباههم حب الدنيا والإقبال عليها، وترك الآخرة وراءهم ظهريّا. (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا) أي إن هؤلاء المشركين بالله يحبون الدنيا وتعجبهم زينتها، وينهمكون فى لذاتها الفانية، ويدعون خلف ظهورهم العمل لليوم الآخر وما لهم فيه النجاة من أهواله وشدائده. والخلاصة- لا تطع الكافرين واشتغل بالعبادة، لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا، فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة. ثم بغى عليهم تركهم للعبادة، وعفلتهم عن طاعة بارئهم وموجدهم من العدم فقال: (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي كيف يغفلون عنا ونحن الذين خلقناهم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالعروق والأعصاب، أفبعد هذا نتركهم سدى؟.

ثم توعّدهم وهدّدهم فقال: (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا) أي وإذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم. ونحو الآية قوله: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً» وقوله: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» وقوله: «عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ» . وقد جرت سنة الله بأن يزيل ما لا يصلح للرقى من خلقه، فهو يهلك هؤلاء ويبدل أمثالهم فيجعلهم مكانهم، كما هى قاعدة بقاء الصلاح والأصلح، وإهلاك ما لا يصلح للبقاء. وبعد أن ذكر أحوال السعداء والأشقياء أرشد إلى أن فى هذا الذكر تذكرة وموعظة للخلق، وفوائد جمة لمن ألقى سمعه، وأحضر قلبه، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه، فقال: (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي إن هذه السورة بما فيها من ترتيب بديع، ونسق عجيب، ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب، تذكرة للمتأملين، وتبصرة للمستبصرين، فمن شاء الخير لنفسه فى الدنيا والآخرة، فليتقرب إلى ربه بالطاعة، ويتبع ما أمره به، وينته عما نهاه عنه، ليحظى بثوابه، ويبتعد عن عقابه. (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما تشاءون اتخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة ولا تقدرون على تحصيلها إلا إذا وفقكم الله لاكتسابها، وأعدّكم لنيلها، إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا فى الكسب، وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز وجل، فمشيئة العبد وحدها لا نأتى بخير، ولا تدفع شرا، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الحير كما فى حديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .

ما تضمنته السورة من المقاصد

(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إن الله عليم بمن يستحق الهداية فييسّرها له، ويقيّض له أسبابها، ومن هو أهل للغواية، فيصرفه عن الهدى، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة. (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) فيهديه ويوفقه للطاعة بحسب استعداده. (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي والذين ظلموا أنفسهم فماتوا على شركهم، أعدّ لهم فى الآخرة عذابا مؤلما موجعا، هو عذاب جهنم وبئس المصير. نسأل الله أن يجعلنا من الأبرار، والمقربين الأخيار، ويجعل سعينا مشكورا لديه. ما تضمنته السورة من المقاصد اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد: (1) خلق الإنسان. (2) جزاء الشاكرين والجاحدين. (3) وصف الجنة والنار. (4) أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر وذكر الله والتهجد بالليل.

سورة المرسلات

سورة المرسلات هى مكية إلا آية: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ» فمدنية. وعدد آيها خمسون، نزلت بعد سورة الهمزة. ومناسبتها لما قبلها- أنه هنا أقسم على تحقيق ما تضمنته السورة قبلها من وعيد الفجار، ووعد المؤمنين الأبرار. [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) شرح المفردات المرسلات: هم الملائكة الذين أرسلهم الله لإيصال النعمة إلى قوم، والنقمة إلى آخرين، عرفا: أي للمعروف والإحسان، والعاصفات: أي المبعدات للباطل كما تبعد العواصف التراب والتبن والهباء، والناشرات: أي الناشرات لأجنحتهنّ عند نزولهنّ إلى الأرض، فالفارقات فرقا: أي فالفارقات بين الحق والباطل، فالملقيات ذكرا: أي فالملقيات العلم والحكمة إلى الأنبياء، عذرا أو نذرا: أي للإعذار والإنذار،

المعنى الجملي

من قولهم: عذره إذا أزال الإساءة، وأنذر إذا خوّف، طمست: أي محقت وذهب نورها، فرجت: أي فتحت وشقت، نسفت: أي اقتلعت من أماكنها بسرعة من قولهم: انتسفت الشيء إذا اختطفته، أقّتت: أي عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على أممها، أجّلت: أي أخرت وأمهلت، الفصل: أي الفصل بين الخلائق بأعمالهم: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، ويل: أي عذاب وخزى. المعنى الجملي أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة، منهم المرسلون إلى الأنبياء بالإحسان والمعروف ليبلغوه للناس، ومنهم الذين يعصفون ما سوى الحق ويبعدونه كما تبعد العواصف التراب وغيره، ومنهم الذين ينشرون آثار رحمته فى النفوس الحية، ومنهم الذين يفرقون بين الحق والباطل، ومنهم الملقون العلم والحكمة للإعذار والإنذار من الله- إن يوم القيامة لا ريب فيه، وحين تمحق أنوار النجوم، وتشقق السماء، وتنسف الجبال، ويعين للرسل الوقت الذي يشهدون فيه على أممهم، ويفصل بين الخلائق إبّان العرض والحساب يكون الخزي والعذاب للكافرين المكذبين. الإيضاح (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) أي أقسم بملائكتى الذين أرسلتهم بالإحسان والمعروف، ليبلغوه أنبيائى ورسلى. (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) أي فالملائكة المبعدين للباطل بسرعة كما تعصف الريح التراب والهباء. (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي والملائكة الذين ينشرون آثارهم فى الأمم والنفوس الحية.

(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) أي فالملائكة النازلين بأمر الله للفرق بين الحق والباطل، والهدى والغىّ. (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً) أي فالملائكة الملقيات إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم بعقاب الله إن هم خالفوا أمره. (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) أي أقسم بهذه الأقسام إن ما وعدتم به من قيام الساعة لكائن لا محالة. (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي فإذا ذهب ضوء النجوم، ونحو الآية قوله: «وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» . (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي وإذا السماء انفطرت وتشققت، وهذا كقوله: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» وقوله: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» وقوله: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي وإذا الجبال فرقتها الرياح، فلم يبق لها عين ولا أثر، وهذا كقوله: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» . (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي وإذا جعل للرسل وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، وهذا كقوله: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» . (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟) أي ويقال حينئذ: لأى يوم أخّرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفار وإهانتهم، وتنعيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور ما كانت الرسل تذكره من أمور الآخرة وأحوالها، وفظاعة أهوالها. والمراد بهذا تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه كأنه قيل: أي يوم هذا الذي أجّل اجتماع الرسل إليه؟ إنه ليوم عظيم. ثم بين ذلك اليوم فقال:

[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 إلى 28]

(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي ليوم يفصل الله فيه بين الخلائق، وهو اليوم الذي أجّل اجتماع الرسل له. (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟) أي وما أعلمك بيوم الفصل وشدته وعظيم أهواله؟ ثم صرح بالمراد وأبان من سيقع عليهم النكال والوبال حينئذ فقال: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب وخزى لمن كذب بالله ورسله وكتبه وبكل ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به. [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 28] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) شرح المفردات من ماء مهين: أي من نطفة قذرة حقيرة، فى قرار مكين: أي فى الرحم، إلى قدر معلوم: أي إلى مقدار معيّن من الوقت عند الله، فقدرنا: أي على خلقه وتصويره كيف شئنا، والكفات: ما يكفت، أي يضم ويجمع، من كفت الشيء. إذا ضمه وجمعه، وأنشد سيبويه: كرام حين تنكفت الأفاعى ... إلى أجحارهنّ من الصقيع رواسى: أي جبالا ثوابت، شامخات: أي مرتفعات، فراتا: أي عذبا.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن حذر الكافرين وخوّفهم بأن يوم الفصل كائن لا محالة، وأقسم لهم بملائكته المقربين ورسله الطاهرين بأنه يوم سيكون، وأن فيه من الأهوال ما لا يدرك كنهه إلا علّام الغيوب- أردف ذلك بتخويفهم بأنه أهلك الكفار قبلهم بكفرهم فإذا سلكتم سبيلهم فستكون عاقبتكم كعاقبتهم، وستعذبون فى الدنيا والآخرة، ثم أعقبه بتخويفهم بنكران إحسانه إليهم، فإنه قد خلقهم من ماء مهين فى قرار مكين إلى زمن معلوم، ثم أنشأهم خلقا آخر، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، ليشكروا نعم الله عليهم، فكفروا بها وأنكروا وحدانيته وعبدوا الأصنام والأوثان، ثم ذكرهم بنعمه فى الآفاق إذ خلق لهم الأرض وجعلها تضمهم أحياء وأمواتا، وجعل فيها الجبال لئلا تميد بهم وجعل فيها الأنهار والعيون، ليشربوا منها ماء عذبا زلالا، فويل لمن كفر بهذه النعم العظام. الإيضاح (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ؟) أي ألم نهلك من كذب الرسل قبلكم، ونعذبهم فى الدنيا بشتى أنواع العذاب، فتارة بالغرق كما حدث لقوم نوح، وأخرى بالزلزال كما كان لقوم لوط إلى أشباه ذلك من المثلاث التي حلت بالأمم قبلكم، جزاء لهم على قبيح أعمالهم وسيئ أفعالهم، وإن سنننا فى المكذبين لا تبديل فيها ولا تغيير، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وتندموا، ولات ساعة مندم. (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم فعلوا مثل أفعالهم. وفى هذا من شديد الوعيد لأهل مكة ما لا يخفى.

ثم ذكر الحكمة فى إلحاقهم بهم فقال: (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن سنتنا فى جميع المجرمين واحدة، فكما أهلكنا المتقدمين لإجرامهم وتكذيبهم- نفعل بالمتأخرين الذين حذوا حذوهم، واستنوا سنتهم، فسنننا تجرى على وتيرة واحدة. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي هؤلاء وإن عذبوا فى الدنيا بأنواع من العذاب، فالطامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة، والتكرير للتوكيد شائع فى كلام العرب كما تقدم فى سورة الرحمن. وقال القرطبي: كرر الويل فى هذه السورة عند كل آية لمن كذب بشىء لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فجعل لكل مكذب بشىء عذابا سوى عذابه بتكذيب شىء آخر اه. ثم ذكّرهم بجزيل نعمه عليهم فى خلقهم وإيجادهم مما يستدعى جزيل شكرانهم فقال: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ؟) أي ألا تعترفون بأنكم خلقتم من نطفة مذرة منتنة وضعت فى الأرحام إلى حين الولادة، ونحن قد قدرنا ذلك فنعم المقدرون، إذ خلقناكم فى أحسن الصور والهيئات- أفلا يستحق ذلك الخالق منكم الشكران لا الكفران والاعتراف بوحدانيته وإرساله للرسل والإقرار بالبعث؟ لكنكم كفرتم أنعمه، ونكلتم عن الاعتراف بوحدانيته، وعبدتم الأصنام والأوثان، وأنكرتم يوم الفصل والجزاء، فسترون فى هذا اليوم عاقبة ما اجترحتم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي خزى وعذاب لمن كذب بهذه المنن العوالي. وبعد أن ذكّرهم بالنعم التي أنعم بها عليهم فى الأنفس- ذكرهم بما أنعم عليهم فى الآفاق، وأرشد إلى أمور ثلاثة:

[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 إلى 40]

(1) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً؟) أي ألم نجعل الأرض مهادا لكم، فتكفتكم وتجمعكم فيها أحياء على ظهرها، وأمواتا فى بطنها، فالأحياء يسكنون فى منازلهم، والأموات يدفنون فى قبورهم. خرج الشعبي فى جنازة فنظر إلى الجبّان فقال: هذه كفات الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء. وكانوا يسمون بقيع الغرقد (مقبرة المدينة) كفتة لأنه مقبرة تضم الموتى. (2) (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي وجعلنا جبالا ثوابت عاليات على ظهرها، لئلا تميد بكم. وهذه الجبال متصلة بالطبقة الصوّانية التي هى أبعد طبقات الأرض عن سطحها وتلك الطبقة تضم فى جوفها كرة النار المشتعلة التي فى باطنها، وظاهرها هذه القشرة التي نحن عليها. (3) (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي وأسقيناكم ماء عذبا فراتا تشربون منه، إما آتيا من السحاب الذي حفظته الجبال بارتفاعها، وإما من العيون النابعات منها ويمدها الثلج الذي يذوب شيئا فشيئا فوق ظهر الأرض متنزلا إلى بطنها، متجها إلى عيونها الجارية. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب عظيم فى الآخرة لمن كفر بهذه النعم. [سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 40] انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

شرح المفردات

شرح المفردات لا ظليل: أي لا بقي من حر الشمس، والشرر: ما يتطاير من النار، كالقصر: أي كالدار الكبيرة المشيدة، جمالة: واحدها جمل، فكيدون: أي فاحتالوا علىّ يقال: كدت فلانا إذا احتلت عليه. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن للمكذبين بالله وأنبيائه واليوم الآخر العذاب فى يوم الفصل والجزاء- بين هنا نوع ذلك العذاب بما يحار فيه أولو الألباب، ويخرّ من هوله كل مخبت أوّاب، فأخبر بأنهم يؤمرون بالانطلاق إلى ما كانوا يكذبون به فى الدنيا، إلى ظلّ دخان جهنم المتشعب لكثرته وتفرّقه إلى ثلاث شعب عظيمة، وهو لا يظلّهم ولا يمنع عنهم حر اللهب المتكوّن من نار ترمى بشرر، كأنه القصر المشيد علوّا وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر انبساطا وتفرقا عن غير أعداد محصورة، وحركة غير معينة. ولا شك أن هذا تشبيه على ما تعهده العرب إذا وصفت الأشياء بالعظم، ألا تراهم يشبهون الناقة العظيمة بالقصر كما قال: فوقفت فيها ناقتى وكأنها ... فدن لأقضى حاجة المتلوّم ثم أخبر بأن الويل للمكذبين بهذا اليوم، يوم لا ينطقون من شدة الدهشة والحيرة، ولا يؤذن لهم فى الاعتذار فيعتذرون، يوم يجمع الله الأولين والآخرين

الإيضاح

فى صعيد واحد، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتقريع: إن كنتم تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم شيئا من العذاب فهلمّوا. الإيضاح (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقول لهم خزنة جهنم حينئذ: اذهبوا إلى ما كنتم تكذبون به من العذاب فى الدنيا. ثم بين هذا العذاب ووصفه بجملة صفات: (1) (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي انطلقوا إلى ظل دخان جهنم المتشعب إلى ثلاث شعب: شعبة عن يمينهم، وشعبة عن شمالهم، وشعبة من فوقهم والمراد أنه محيط بهم من كل جانب كما جاء فى الآية الأخرى: «أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» . (2) (لا ظَلِيلٍ) أي ليس بمظلّ فلا يقى من حر ذلك اليوم. وفى هذا تهكم بهم، ونفى لأن يكون فيه راحة لهم، وإيذان بأن ظلهم غير ظل المؤمنين. (3) (وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) أي ولا يدفع من حر النار شيئا، لأنه فى جهنم فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها كما قال فى سورة الواقعة: «فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» . ثم وصف النار التي تحدث هذا الظل من الدخان فقال: (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) أي إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق فى جهات كثيرة كأنه القصر عظما وارتفاعا، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا اليوم الذي لا يجدون فيه لدفع العذاب عنهم محيصا.

[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 إلى 50]

ثم وصف اليوم الذي فيه العذاب فقال: (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي هذا يوم لا يتكلمون من الحيرة والدهشة، ولا يؤذن لهم فى الاعتذار، لأنه ليس لديهم عذر صحيح، ولا جواب مستقيم. وقد يكون المراد- إنهم لا ينطقون بما يفيد فكأنهم لا ينطقون، وتقول العرب لمن ذكر ما لا يفيد: ما قلت شيئا. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بما دعتهم إليه الرسل، فأنذرتهم عاقبته. (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي هذا يوم يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، فيؤتى كل عامل جزاء عمله من ثواب وعقاب، ويفصل بين العباد بعضهم مع بعض، فيقتص من الظالم للمظلوم، وترد له حقوقه ثم بين كيف يكون الفصل فقال: (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) أي جمعنا بينكم وبين من تقدمكم من الأمم فى صعيد واحد ليمكن الفصل بينكم، فيقضى بهذا على هذا، ولولا ذلك ما أمكن إذ لا يقضى على غائب. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي فإن كان لكم حيلة فى دفع العذاب عنكم فاحتالوا، لتخلصوا أنفسكم من العذاب. وفى هذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين فى الدنيا، وإظهار لعجزهم وقصورهم حينئذ. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالبعث لأنه قد ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه فى الدنيا. [سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 50] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

شرح المفردات

شرح المفردات ظلال: واحدها ظل، وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة، ولكن موضع لم تصل إليه الشمس ظل، ولا يقال فئ إلا لما زالت عنه الشمس، ويعبر بالظل أيضا عن الرفاهية، وعن العزة، وعيون: أي أنهار، اركعوا: أي صلوا، حديث: أي كلام. المعنى الجملي بعد أن بيّن سبحانه ما يحلّ بالكفار من الخزي والنكال يوم القيامة- أعقبه بذكر ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة حينئذ، فهم يكونون فى ترف ونعيم ويأكلون فواكه مما يشتهون، ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئا بما قدمتم فى الأيام الخالية، وهذا جزاء كل محسن لعمله. ثم خاطب المكذبين مهدّدا لهم فقال: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا» ولا نصيب لكم فى الآخرة، لأنكم كافرون. ثم ذكر أن الكفار إذا أمروا بطاعة الله والخشوع له أبوا وأصروا على ما هم عليه من الاستكبار فويل لهم مما يعملون، وإذا لم يؤمنوا بالقرآن والنبي الذي جاء به مع تظاهر الأدلة على صدقه. فبأى كلام بعده يصدقون؟

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) أي إن المتقين فى ظلال ظليلة، وكنّ كنين، وعيون وأنهار، أي فى ظلال الأشجار وظلال القصور، فلا يصيبهم أذى حرّ ولا قرّ، بخلاف الكافرين فإنهم فى ظل ذى ثلاث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب كما تقدم. ونحو الآية قوله فى سورة يس: «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ» . (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ولديهم فواكه يأكلون منها كلما اشتهت نفوسهم لا يخافون ضرها ولا عاقبة مكروهها. (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويقال لهم: كلوا أيها الأبرار من هذه الفواكه، واشربوا من هذه العيون كلما شئتم أكلا هنيئا خالص اللذة، لا يشوبه سقم ولا يكدره تنغيص، وهو دائم لكم لا يزول ولا يورثكم أذى فى أبدانكم حزاء بما عملتم فى الدنيا من طاعة الله، واجتهدتم فيما يقربكم من رضوانه. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنا كما جزينا هؤلاء المتقين بما وصفنا من الجزاء على طاعتهم إيّانا فى الدنيا- نجزى أهل الإحسان لطاعتهم وعبادتهم لنا، فلا نضيع لهم أجرا، كما قال: «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» . (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل للذين يكذبون ما أخبر الله به من تكريم هؤلاء المتقين بما أكرمهم به يوم القيامة. ثم خاطب المكذبين مهددا لهم فقال: (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي كلوا بقية آجالكم، وتمتعوا بقية أعماركم

وهى قليلة المدى، وسنستنّ بكم سنة من قبلكم من مجرمى الأمم الخالية التي متعت إلى حين، ثم انتقمنا منهم بكفرهم وتكذيبهم لرسلنا. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل، وكذبوا بما أخبرهم الله أنه فاعل بهم. (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين اعبدوا الله وأطيعوه واخشوا يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، استكبروا وأصروا على عنادهم. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثقيفا بالصلاة، فقالوا لا نحبوا (لا نركع) فإنها سبّة علينا، فقال عليه السلام «لا خير فى دين ليس فيه ركوع ولا سجود» . وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: إنما يقال هذا فى الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون، من جراء أنهم لم يكونوا يسجدون فى الدنيا. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأوامر الله ونواهيه. وبعد أن بالغ فى زجر الكفار بما تقدم ذكره، وحث على الانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجيب من هؤلاء المشركين الذين لم يسمعوا نصيحة الداعي، ولم يتبعوا عظاته، وما فيه رشدهم وصلاحهم فى آخرتهم ودنياهم فقال: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟) أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها، فبأىّ كلام بعد هذا يصدقون؟ فالقرآن الكريم جامع لأخبار الدارين، مبين لأحوال النشأتين على نمط بديع تؤيده الحجج القاطعة، وتدعمه البراهين الناطقة. وقصارى ذلك- إن القرآن قد اشتمل على البيان الشافي والحق الواضح، فما بالهم لا يبادرون إلى الإيمان به قبل الفوت وحلول الموت، وعدم الانتفاع بعسى ولعلّ وليت. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله أجمعين.

ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد

ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد حوت هذه السورة المقاصد الآتية: (1) الإخبار بأن يوم الفصل آت لا شك فيه، وقد أكد ذلك بالقسم بملائكته الكرام. (2) وعيد الكافرين بأنه سيستن بهم سنة الأولين من المكذبين. (3) توبيخ المكذبين على نكران نعم الله عليهم فى الأنفس والآفاق. (4) وصف عذاب الكافرين بما تشيب من هوله الولدان. (5) وصف نعيم المتقين وما يلقونه من الكرامة فى جنات النعيم، ويتخلل ذلك وصف خلق الإنسان والأرض والجبال، وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته. وصل ربنا على عبدك ورسولك محمد النبي الأمى وعلى آله وسلم. وكان الفراغ من مسودّة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية فى الثاني من ذى القعدة من السنة الخامسة والستين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبوية المباركة، فلله الحمد والمنة.

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 4 تمجيد الله نفسه وبيان أنه خالق الخلق والمتصرف فى الملك. 6 نظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات. 8 الكواكب زينة للسماء الدنيا وسبب لتكوّن الأرزاق. 10 وصف النار بما تشيب من هوله الولدان. 11 سؤال الزبانية للمشركين بقولهم: ألم يأتكم رسل ينذرونكم؟. 13 تهديد المشركين بأنه عليم بما يصدر منهم فى السرّ والعلن. 15 تنبيه العباد على نعمه المتظاهرة عليهم. فى الحديث «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف» . 16 تخويف المشركين بحلول العذاب بهم كما حل بمن قبلهم. 19 ضرب المثل المبين لحالى المشرك والموحد. 22 الإنسان كنود لنعمة ربه. 24 أمره صلى الله عليه وسلم أن يقول للكافرين: هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب الله. 25 خلاصة ما حوته هذه السورة. 27 الإقسام بالقلم وما يسطر به من الكتب. 28 ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما ولا امرأة. 30 تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى التشدد مع قومه المشركين. 31 الكذب أسّ المعايب. 33 وعيد الكذاب النمام. 35 فى أىّ أرض كانت الجنة التي ذكرت فى الكتاب الكريم؟. 37 جزاء أصحاب الجنة على حرمانهم للفقراء. 41 كيف يسوّى بين المطيع والعاصي؟. 42 سدّ طرق الحجاج على المشركين. 44 تخويف المشركين بما فى قدرته تعالى من القهر. 46 ذكر الشبه التي ربما تكون مانعة لهم من قبول الحق. 48 ما جاء من الأحاديث فى الإصابة بالعين.

48 ما تضمنته هذه السورة من موضوعات. 50 بيان أن يوم القيامة حق لا شك فيه. 51 تفصيل ما نزل بكل أمة من العذاب. 53 المشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته. 54 تفاصيل أحوال يوم القيامة. 56 ما أعده الله لمن أعطى كتابه بيمينه. 59 ما يتمناه من أوتى كتابه بشماله وجزاؤهم. 60 العرب تكنى بالسبعة والسبعين والسبعمائة عن الكثرة. 61 تعظيم القرآن والرسول المنزل عليه. 62 محمد صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يفتعل القرآن. 64 ما تضمنته هذه السورة الكريمة. 66 كان المشركون يقولون: ما هذا العذاب الذي يخوّفنا به محمد؟. 67 مقام القدس الإلهى بعيد المدى عن مقام العباد. بيان أن يوم القيامة آت بأهواله لا شك فيه. 68 تمنى الكافر الفداء بالعزيز لديه من مال وولد. 70 المؤهلات التي توصل المرء إلى المراتب العلى. 72 أثر عن السلف أنهم كانوا كثيرى الوجل والخوف من يوم القيامة. 74 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدع المشركين وشأنهم حتى يأتى اليوم الموعود. 76 يخرج الكافرون من الأجداث سراعا يسابق بعضهم بعضا. 77 خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة. 78 إنذار نوح لقومه وتخويفهم بحلول العذاب بهم. 79 تفصيل ما أنذرهم به. 80 صلة الرحم تزيد فى العمر. 81 شكوى نوح لربه أنه أنذر قومه فعصوه. 83 وعد نوح لقومه بسعادة الدنيا والدين إذا آمنوا 85 توجيه أنظارهم إلى بدء خلقهم. 86 تعداد النعم التي أنعم بها على الإنسان. 87 الأصنام التي كانت تعبدها العرب. 89 جزاء قوم نوح بالغرق على عصيانهم. 91 مقاصد هذه السورة.

93 تسمية السور بأسماء تدعو إلى النظر والاعتبار. 94 ما جاء عن الجن من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل. 96 الصاحبة تتخذ للحاجة إليها. 98 مقال الجن حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم 101 الخصب والسعة فى الرزق لا توجد إلا إذا وجدت الطمأنينة والعدل ويزول الظلم. 105 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس لا علم له بقيام الساعة. 106 الآية: فلا يظهر على غيبه أحدا، تدل على إبطال الكهانة والتنجيم والسحر. 107 الرسول المرتضى يعلم بعض الغيوب بالوحى. 108 ما تضمنته هذه السورة. 110 أول ما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم خافه وظن أن به مسا من الجن 111 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وبترتيل القرآن. 112 كيفية مجىء الوحى. 113 أمره صلى الله عليه وسلم بمداومة الذكر والإخلاص فى العبادة. 115 حسن معاملة الناس. 116 ألوان العذاب التي أعدت للمكذبين. 119 التخفيف من قيام الليل للأعذار التي تحيط بهم. 121 ما يفعل بعد الترخيص. 123 ما جاء فى هذه السورة من أوامر وأحكام. 125 خوف النبي صلى الله عليه وسلم من الملك عند بدء الوحى. 126 ما قاله علماء الاجتماع فى حكمة النظافة فى البدن والثوب 127 ما يصادف الداعي للخير من العقبات. 129 ما قاله الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. 130 تهديد الوليد بن المغيرة. 132 ذكر ما سيفعل به يوم القيامة. 133 ما استنبطه الوليد من الترّهات والأباطيل. 135 ما قاله أبو جهل حين سمع قوله تعالى عليها تسعة عشر. 137 ما يعلم جنود ربك إلا هو. 138 قال أبو جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر؟. 141 أسباب إعراض المشركين عن القرآن 143 ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءته لآية: هو أهل التقوى وأهل المغفرة.

146 ما قاله عدى بن ربيعة لما أخبر بيوم القيامة. قال الفرّاء: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا تلوم نفسها. دليل القدرة على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى الوضع الأول. 148 علامات يوم القيامة. 149 يخبر المرء يوم القيامة بجميع ما عمل. 151 تعليم الله رسوله كيف يتلقى الوحى. 152 تواترت الأحاديث الصحيحة برؤية المولى يوم القيامة. 154 الدليل على صحة البعث. 155 العرب تحذف من الكلام ما يدل عليه. 157 ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبى جهل. 158 كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إذا قرأ: أليس ذلك بقادر: سبحانك اللهم وبلى 161 ما قاله علماء طبقات الأرض فى وجود الإنسان على ظهر البسيطة. الناس فريقان شاكر وكفور. 161 الهداية لطريقى الخير والشر. 163 ما أعده الله للشاكرين من شراب شهى ولباس بهى. 165 وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء. 166 القلب إذا سر استنار الوجه. 169 وصف شراب المتقين وأوانيهم. 170 ما قاله المأمون ليلة زفافه ببوران بنت الحسن بن سهل. 171 التحلي يختلف باختلاف العادات والطبائع. 172 ما يلقاه السعداء من الكرامة كان جزاء لهم على أعمالهم. 174 أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه. نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع الآثمين والكافرين. 176 جرت سنة الله ببقاء الأصلح وإهلاك ما عداه. تخويف الكفار بما حصل لمن قبلهم من الكفار المكذبين للرسل. 177 ما تضمنته السورة من المقاصد. 179 أقسم الله سبحانه بطوائف من الملائكة إن ما وعدتم به حق. 183 تذكير الإنسان بالنعم التي تترى عليه. 186 وصف العذاب الذي يكون للمكذبين يوم القيامة. 189 وصف ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة فى هذا اليوم. 190 ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لثقيف حين أمرهم بالصلاة. القرآن الكريم اشتمل على البيان الشافي والحق الواضح. 191 ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد.

الجزء الثّلاثون تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثلاثون

الطبعة الرابعة مزيدة ومنقحة 1390 هـ- 1970 م حقوق الطبع محفوظة للناشر

سورة النبأ

الجزء الثّلاثون سورة النبأ هى مكية وعدد آيها أربعون، نزلت بعد سورة المعارج ومناسبتها لما قبلها من وجوه: (1) اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي ذكر فى السورة السالفة أن الكافرين كذبوا به. (2) أن فى هذه وما قبلها تأنيبا وتقريعا للمكذبين، فهناك قال: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» وهنا قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً» . (3) أن فى كل منهما وصف الجنة والنار وما ينعم به المتقون، ويعذب به المكذبون. (4) أن فى هذه تفصيل ما أجمل فى تلك عن يوم الفصل، فهناك قال: «لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ» وهنا قال: «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً» إلى آخر السورة.

[سورة النبإ (78) : الآيات 1 إلى 16]

[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) شرح المفردات عمّ: أي عن أىّ شىء، يتساءلون: أي يسأل بعضهم بعضا، والنبأ: الخبر الذي يعنى به ويهتم بشأنه: والمراد به خبر البعث من القبور والعرض على مالك يوم الدين، كلا: كلمة تعيد ردّ ما تقدم من الكلام ونفيه، والمهاد: (بكسر الميم) والمهد فى نحو قوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» : المكان الممهد المذلل، والأوتاد: واحدها وتد وهو ما يدق فى الأرض ليربط إليه الحبل الذي تشد به الخيمة، والأزواج واحدها زوج ويطلق على الذكر والأنثى، والسبات: (بضم السين) قطع الحركة لتحصيل الراحة، واللباس: ما يلبسه الإنسان ليستر به جسمه ويغطيه، معاشا: أي وقتا لتحصيل أسباب المعاش والحياة، سبعا شدادا: أي سبع سموات قوية محكمة لا فطور فيها ولا تصدّع، والسراج: ما يضىء وينير، والوهاج: المتلألئ، والمراد به الشمس، والمعصرات: السحائب والغيوم إذا أعصرت: أي حان وقت أن تعصر

المعنى الجملي

الماء فيسقط منها، والثجاج: كثير الانصباب عظيم السيلان والمراد به المطر، والثج: سيلان دم الهدى، وفى الحديث «أحب العمل إلى الله العجّ والثّجّ» والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دم الهدى، والحب: ما يقتات به الإنسان كالحنطة والشعير، والنبات: ما تقتات به الدواب من التبن والحشيش، والجنات: واحدها جنة، وهى الحديقة والبستان فيه الشجر أو النخل، والجنات الألفاف: الملتفة الأغصان، لتقاربها وطول أفنانها، ولا واحد لها كالأوزاع والأخياف، وقيل واحدها لف (بكسر اللام وفتحها) وقال أبو عبيدة: واحدها لفيف كشريف وأشرف. المعنى الجملي كان المشركون كلما اجتمعوا فى نادمن أنديتهم أخذوا يتحدثون فى شأن الرسول وفيما جاء به ويسأل بعضهم بعضا، ويسألون غيرهم فيقولون: أساحر هو أم شاعر أم كاهن أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء؟، ويتحدثون فى شأن القرآن: أسحر هو أم شعر أم كهانة؟ ويقول كل واحد ما شاء له هواه، والرسول سائر قدما فى تبليغ رسالته، وأمامه مصباحه المنير الذي يضىء للناس سبيل الرشاد، وهو كتابه الكريم، كما كانوا يتحدثون فى شأن البعث، ويأخذ الجدل بينهم كل مأخذ فمنهم من ينكرونه البتة، ويزعمون أنهم إذا ماتوا انتهى أمرهم، وما هى إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر ومنهم من كانوا يزعمون أنهم إنما تبعث أرواحهم لا أجسامهم بعد أن تأكلها الأرض، وتعبث بها يد البلى. وربما لقى أحدهم بعض من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسائله عن ذلك استهزاء وسخرية. وفى هؤلاء وأشباههم نزلت هذه السورة ردّا عليهم وتكذيبا لهم، وإقامة للحجة على أن الله قادر على أن يبعثهم بعد موتهم وإن صاروا ترابا، أو أكلتهم السباع،

الإيضاح

أو احتوتهم البحار فكانوا طعاما للسماك، أو أحرقتهم النيران فطاروا مع الريح. وقد ذكر لهم من مظاهر قدرته أمورا تسعة يشاهدونها بأعينهم لا يخفى عليهم شىء منها: (1) انبساط الأرض وتمهيدها لتصلح لسير الناس والأنعام. (2) سموق الجبال صاعدة فى الجوّ. (3) تنوّع الآدميين إلى ذكور وإناث. (4) جعل النوم راحة للإنسان من عناء الأعمال التي يزاولها عامة نهاره. (5) جعل الليل ساترا للخلق. (6) جعل النهار وقتا لشئون الحياة والمعاش. (7) ارتفاع السموات فوقنا مع إحكام الوضع ودقة الصنع. (8) وجود الشمس المنيرة المتوهجة. (9) نزول المطر وما ينشأ عنه من النبات. فكل ذلك داع لهم أن يعترفوا أن من قدر على كل هذا فلا تعجزه إعادتهم إلى النشأة الآخرة. الإيضاح (عَمَّ يَتَساءَلُونَ؟) أي عن أي شىء يتساءل المشركون من أهل مكة وغيرهم؟ روى عن ابن عباس قال: كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به، فنزلت: عمّ يتساءلون. ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله: (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) أي عن الخبر العظيم الشأن الذي اختلفوا فى أمره، فمن قائل إنه مستحيل كما حكى الله عنهم بقوله: «إِنْ هِيَ إِلَّا

حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا» ومن شاكّ فيه بقوله: «ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» . وإيراد الكلام بصورة السؤال والجواب أقرب إلى التفهيم والإيضاح، وتثبيت الجواب فى نفس السائل كما جاء فى قوله: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» . ثم أخذ سبحانه يردّ عليهم متوعدا لهم فقال: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) أي ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون الذين يذكرون البعث بعد الموت، ثم توعدهم بأنهم سيعلمون إذا ما عاينوا بأنفسهم حقيقة ما كانوا ينكرون، وتنقطع عنهم الريبة، حين يسأل كل عامل عما عمل، ويفصل بين الخلائق. وقصارى ذلك- فليزدجروا عما هم فيه، فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال، إذا حلّ بهم العذاب والنكال، وأن ما يتساءلون عنه، ويضحكون منه حق لا شك فيه ولا ريب. ثم أكد هذا الوعيد بقوله: (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وفى تكرير الزجر مع الوعيد إيماء إلى غاية التهديد. ثم شرع يبين عظيم قدرته وآيات رحمته التي غفل عنها هؤلاء المنكرون، مع أنها بين أعينهم فى كل حين فقال: (1) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) أي كيف تنكرون أو تشكون فى البعث، وقد عاينتم ما يدل عليه من قدرة تامة، وعلم محيط، وحكمة باهرة تقتضى ألا يكون ما خلق من الخلق عبثا، فمن ينعم بهذه النعم لا يهملها سدى. انظروا إلى الأرض التي جعلت ممهدة موطأة للناس والدواب، يقيمون عليها ويفترشونها وينتفعون بخيراتها الظاهرة والباطنة. (2) (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي وجعلنا الجبال لها كالأوتاد كى لا تميل بأهلها،

وتضطرب بسكانها، ولولاها لكانت دائمة الاضطراب لما فى جوفها من المواد الدائمة الجيشان، فلا تتم الحكمة فى كونها مهادا لهم. (3) (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي وجعلناكم أصنافا ذكورا وإناثا، ليتم الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة، وحفظ النسل وتكميله بالتربية والتعليم. ونحو الآية قوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» . (4) (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي وجعلنا نومكم فى الليل قطعا للمتاعب التي تكابدونها فى النهار، سعيا فى تحصيل أمور المعاش، فالمشاهد أن فى نوم بضع ساعات فى الليل راحة للقوى من تعبها، ونشاطا لها من كسلها، وإعادة لما فقد منها، ولولا ذلك لنفدت القوى، وانقطع المرء عن العمل فى شئون الحياة المختلفة. (5) (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي وجعلنا الليل بظلامه ساترا للأجسام ومغطيا لها كاللباس الذي يغطى الجسم ويستره. ووجه المنة فى ذلك- أن ظلمته تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدوه أو إخفاء لما لا يحب أن يطلع عليه غيره، ولله درّ المتنبي: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أنّ المانويّة تكذب «1» (6) (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي وجعلناه وقتا لتحصيل أسباب المعاش، لأن الناس يتقلبون فيه فى حوائجهم ومكاسبهم. (7) (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) أي سبع سموات قوية الأسر، محكمة النسج والوضع، لا يؤثر فيها كرّ الغداة ولا مر العشى، ليس بها تصدّع ولا فطور. (8) (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) أي وأنشأنا الشمس سراجا متلألئا بالغا الغاية فى الضوء والحرارة.

_ (1) المانوية: طائفة تعتقد أن الخير من النهار والشر من الليل.

[سورة النبإ (78) : الآيات 17 إلى 30]

وقد جعل الله فى هذا الكوكب سر الحياة فالحرارة والضوء يطردان الأمراض وينعشان كل حى، ولا أدلّ على هذا مما نشاهد من فتك الأمراض بمن يكون بمنأى عن ضوئها وحرارتها، والجراثيم لا تتوالد إلا حيث يحتجب عنهما السكان، ويبتعدان عن المكان. (9) (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) أي وأنزلنا من السحائب والغيوم التي تتحلب بالمطر ماء كثير السيلان، عظيم الانصباب. ثم بين عظيم نفع الماء وجليل فائدته فقال: (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي لنبدل بوساطته جدب الأرض خصبا، فنخرج من الأرض حبّا يقتات به الناس كالحنطة والشعير، ونباتا تقتات به الدواب، وحدائق ذات أغصان ملتفة. وقد جمع الله فى هذه الآية جميع أنواع ما تنبته الأرض، فإن ما يخرج منها إما أن يكون ذا ساق أولا والأول إذا اجتمع بعضه إلى بعض وكثر حتى التف فهو الحديقة والثاني إما أن يكون له أكمام فيها حب، وإما أن يكون بغير ذلك وهو النبات، وقدّم الحب لأنه غذاء أشرف أنواع الحيوان وهو الإنسان، وأعقبه بذكر النبات، لأنه غذاء بقية أنواع الحيوان، وأخر الحدائق لأن الفاكهة مما يستغنى عنها الكثير من الناس. وقال الفرّاء: الجنة ما فيه النخيل، والفردوس ما فيه الكرم. [سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 30] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)

شرح المفردات

شرح المفردات يوم الفصل: هو يوم القيامة، وسمى بذلك لأن الله يفصل فيه بحكمه بين الخلائق، ميقاتا: أي حدّا تنتهى عنده الدنيا، والصور فى الأصل: البوق الذي ينفخ فيه فيحدث صوتا، وقد جرت عادة الناس إذا سمعوه أن يهرعوا إليه ويجتمعوا عند النافخ، والأفواج: واحدها فوج وهو الجماعة، وفتحت السماء: أي انشقت وتصدعت، وسيرت الجبال: أي زالت من أماكنها وتفتت صخورها، سرابا أي كالسراب، فهى بعد تفتتها ترى كأنها جبال وليست بجبال، بل غبارا متراكما، المرصاد: موضع يرتقب فيه خزنتها المستحقين لها، للطاغين: أي للذين طغوا فى مخالفة ربهم ومعارضة أوامره، والمآب: المرجع، لابثين: أي مقيمين، أحقابا، واحدها حقب، وواحد الحقب حقبة: وهى مدة مبهمة من الزمان. قال متمم ابن نويرة: وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا فلما تفرّقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا والبرد: برد الهواء، وقد يراد به النوم، ومن أمثالهم «منع البرد البرد» أي أصابه من شدة البرد ما منعه النوم، ولا شرابا: أي شرابا يسكن عطشهم ويزيل الحرقة عن بواطنهم، والحميم: الماء الحار المغلى، غساقا: أي قيحا وصديدا وعرقا دائم السيلان من أجسادهم، وفاقا: أي وفق أعمالهم السيئة، لا يرجون: أي لا يتوقعون

المعنى الجملي

حسابا: أي محاسبة على أعمالهم، أو ثواب حساب، كذّابا: أي تكذبنا، وقرئ بالتخفيف بمعنى كذبا، وعليه قول الأعشى: فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه كتابا: أي إحصاء بالكتابة. المعنى الجملي بعد أن نبه عباده إلى هذه الظواهر الباهرة، ولفت أنظارهم إلى آياته القاهرة، أخذ يبين ما اختلفوا فيه ونازعوا فى إمكان حصوله وهو يوم الفصل، ويذكر لهم بعض ما يكون فيه تخويفا لهم من الاستمرار على التكذيب بعد ما وضحت الأدلة واستبان الحق، ثم أبان لهم أن هذا يوم شأنه عظيم وأمر الكائنات فيه على غير ما تعهدون، ثم ذكر منزلة المكذبين الذين جحدوا آيات الله واتخذوها هزوا، وأن جهنم مرجعهم الذي ينتهون إليه، وأنهم سيقيمون فيها أحقابا طوالا لا يجدون شيئا من النعيم والراحة، ولا يذوقون فيها روحا ينفّس عنهم حر النار، ولا يذوقون من الشراب إلا الماء الحارّ والصديد الذي يسيل من أجسادهم، جزاء سيىء أعمالهم، إذ هم كانوا لا ينتظرون يوم الحساب، ومن ثم اقترفوا السيئات، وارتكبوا مختلف المعاصي، وكذبوا الدلائل التي أقامها الله على صدق رسوله أشد التكذيب، وقد أحصى الله كل شىء فى كتاب علمه، فلم يغب عنه شىء صدر منهم، وسيوفيهم جزاء ما صنعوا، وستكون له كلمة الفصل، فيقول لهم: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» . الإيضاح (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) أي إن يوم القيامة وقت وميعاد للأولين والآخرين يثابون فيه أو يعاقبون، ويتمايزون فيه ويكونون مرات ودرجات بحسب أعمالهم كما قال: «وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» .

وقد جعله الله حدا تنتهى عنده الدنيا، وتجتمع فيه الخلائق، ليرى كل امرئ ما قدمت يداه، فيجازى المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته. ثم بين هذا اليوم وزاد فى تفخيمه وتهويله فقال: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) أي يوم ينفخ فى الصور فتحيون وتبعثون من قبوركم وتأتون إلى الموقف من غير تلبث، وإمام كل أمة رسولها كما قال سبحانه «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» . (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) أي وانشقت السماء وتصدعت. وقد جاء نحو هذا فى آيات كثيرة كقوله: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» . وقوله: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» . وقوله: «يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» . ذاك أنه يحصل اضطراب فى نظام الكواكب، فيذهب التماسك بينها، ولا يكون فيما يسمى سماء إلا مسالك وأبواب، لا يلتقى فيها شىء بشىء، وذلك هو خراب العالم العلوي كما يخرب الكون السفلى. (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي إن الجبال لا تكون فى ذلك اليوم على ثباتها المعروف. بل يذهب ما كان لها من قرار وتعود كأنها سراب يرى من بعد. فإذا قربت منه لم تجد شيئا. لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها. والخلاصة- إنه سبحانه ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة. فذكر أول أحوالها وهو الاندكاك بقوله: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» ثم ذكر أنها تصير كالعهن المنفوش كما قال: «وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» . ثم ذكر أنها تصير هباء كما قال: «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» ثم ذكر أنها تنسف وتحملها الرياح كما جاء فى قوله: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» ، ثم ذكر أنها تصير سرابا، أي لا شىء كما فى هذه الآية.

وبعد أن عدّد وجوه إحسانه، ودلائل قدرته على إرساله رسوله، وذكر أن يوم الفصل بين الرسول ومعانديه سيكون يوم القيامة، وبيّن أهوال هذا اليوم، وامتياز شئونه وأحواله عن شئون أيام الدنيا وأحوالها- ذكر وعيد المكذبين وبيان ما يلاقونه فقال: (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) أي إن دار العذاب وهى جهنم مكان يرتقب فيه خزنتها من يستحقها بسوء أعماله، وخبث عقيدته وفعاله. وروى ابن جرير وابن المنذر عن الحسن أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا احتبس. (لِلطَّاغِينَ مَآباً) أي إنها مرجع للذين طغوا وتكبروا ولم يستمعوا إلى الداعي الذي جاءهم بالهدى ونور الحق. وبعد أن ذكر أن جهنم مستقرهم بيّن مدة ذلك فقال: (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي إنهم سيمكثون فيها دهورا متلاحقة يتبع بعضها بعضا فكلما انقضى زمن تجدد لهم زمن آخر كما قال: «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» . ثم بين أحوالهم فيها فقال: (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) أي لا يذقون فى جهنم بردا يبرد حر السعير عنهم إلا الغساق، ولا شرابا يرويهم من شدة العطش إلا الحميم، فهم لا يذوقون مع شدة الحرما يكون فيه راحة من ريح باردة، أو ظل يمنع من نار، ولا يجدون شرابا فيسكن عطشهم، ويزيل الحرقة من بواطنهم، ولكن يجدون الماء الحار المغلى، وما يسيل من جلودهم من الصديد والقيح والعرق، وسائر الرطوبات المستقذرة. والخلاصة- إنهم لا يذوقون فيها شرابا إلا الحميم البالغ الغاية فى السخونة، أو الصديد المنتن، ولا بردا إلا الماء الحار المغلى.

(جَزاءً وِفاقاً) أي إنه تعالى ينزل بهم شديد عقابه من جزاء أنهم أتوا بفظيع المعاصي، فيكون العقاب وفق الذنب ومقداره كما قال: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» . قال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله ما يسوءهم. وبعد أن بين على طريق الإجمال أن هذا الجزاء الذي أعد لهم كان وفق جرمهم- فصل أنواع جرائمهم فذكر أنها نوعان فقال: (1) (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي إنهم فعلوا من القبائح ما فعلوا، واجترحوا من السيئات ما شاءت لهم أهواؤهم، لأنهم ما كانوا ينتظرون يوم الحساب ولا يتوقعونه. ورغبة المرء فى فعل الخيرات، وترك المحظورات، إنما تكون غالبا لاعتقاده أنه ينتفع بذلك فى الآخرة، فمن كان منكرا لها لا يقدم على شىء مما يحسن عمله، ولا يحجم عن أمر مما يقبح. (2) (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي وكذبوا لجميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد وبجميع ما جاء فى القرآن. والخلاصة- إنهم أقدموا على جميع المنكرات، ولم يرعووا عن فعل السيئات وأنكروا بقلوبهم الحق واتبعوا الباطل. وبعد أن بين فساد أحوالهم العملية والاعتقادية- أرشد إلى أنها فى مقدارها وكيفيتها معلومة له تعالى لا يغيب عنه شىء منها فقال: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) أي إنا علمنا جميع ما عملوا علما ثابتا لا يعتريه تغيير ولا تحريف، فلا يمكنهم أن يجحدوا شيئا مما كانوا يصنعون فى الحياة الدنيا حين يرون ما أعد لهم من أنواع العقوبات، لأنا قد أحصينا ما فعلوه إحصاء لا يزول منه شىء ولا يغيب، وإن غاب عن أذهانهم ونسوه كما قال: «أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ»

[سورة النبإ (78) : الآيات 31 إلى 36]

وإنما قيل (كِتاباً) دون أن يقال (إحصاء) لأن الكتابة هى النهاية فى قوة العلم بالشيء، فإن من يريد أن يحصى كلام متكلم حتى لا يغيب منه شىء عمد إلى كتابته، فكأنه تعالى يقول: «وكل شيء أحصيناه إحصاء يساوى فى ثباته وضبطه ما يكتب» . وبعد أن بين قبائح أفعالهم لكفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات- رتب عليه هذا الجزاء فقال: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي فذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه كما قال: «وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ» . روى قتادة عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» . ذاك أن فيها تقريعا وتوبيخا لهم فى يوم الفصل، وغضبا من أرحم الراحمين، وتيئيسا لهم من الغفران. [سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 36] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) شرح المفردات مفازا: أي فوزا بالنعيم والثواب، حدائق: أي بساتين فيها أنواع الثمر والشجر وأعنابا. واحدها عنب، وكواعب: واحدها كاعب، وهى التي نهد ثدياها وتكعبا، والأتراب: واحدهنّ ترب، وهى التي سنها من سن صاحبتها، والكأس: إناء من بلور للشراب، دهاقا: أي ممتلئة، يقال أدهق الحوض: أي ملأه. قال خداش ابن زهير:

المعنى الجملي

أتاتا عامر يبغى قرانا ... فأقرعنا له كأسا دهاقا واللغو: الباطل من الكلام، والكذّاب: التكذيب، عطاء: أي تفضلا منه وإحسانا، حسابا: أي كافيا لهم، تقول أعطانى فلان حتى أحسبنى: أي حتى كفانى بعطائه. قال: فلما حللت به ضمّنى ... فأولى جميلا وأعطى حسابا أي أعطى ما كفى. المعنى الجملي بعد أن بين حال المكذبين، أردفه ما يفوز به المتقون من الجنات التي وصفها ووصف ما فيها، وذكر أنها عطاء من الله تعالى، وفى هذا استنهاض لعوالى الهمم، بدعوتهم إلى المثابرة على أعمال الخير، وازديادهم من القربات والطاعات، كما أن فيها إبلاما لأنفس الضالين المكذبين. الإيضاح (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي إن لمن اتقى محارم الله وخاف عقابه فوزا بالكرامة والثواب العظيم، فى جنات النعيم. ثم فسر هذا الفوز وفصله فقال: (حَدائِقَ وَأَعْناباً) أي بساتين من النخيل والأعناب ومختلف الأشجار لها أسوار محيطة بها، وفيها الأعناب اللذيذة الطعم، مما تشتهيها النفوس، وتقرّ به العيون. وقد أفردت بالذكر وهى مما يكون فى الحدائق عناية بأمرها كما جاء فى قوله: «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ» . ثم وصف ما فى الحدائق والجنات فقال:

[سورة النبإ (78) : الآيات 37 إلى 40]

(وَكَواعِبَ أَتْراباً) أي وحورا كواعب لم تتدلّ ثديهن، وهنّ أبكار عرب أتراب. والتمتع بالنساء على هذه الشاكلة مما يتمثله المرء فى الدنيا على نحو من اللذة، وإن كنا لا نعلم كنهه فى الآخرة، وعلينا أن نؤمن به، وأنه تمتع يفوق به ما هو مثله من لذات هذه الحياة، وأنه يشاكل أحوال العالم الأخروى. (وَكَأْساً دِهاقاً) أي وكأسا من الخمر مترعة ملأى متتابعة على شاربيها. (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) أي لا يجرى بينهم حين يشربون- لغو الكلام ولا يكذب بعضهم بعضا، كما يجرى بين الشّرب فى الدنيا، لأنهم إذا شربوا لم تفتر أعصابهم، ولم تتغير عقولهم كما قال تعالى: «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» ، واللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين المخلصين. ولما ذكر أنواع النعيم بيّن أن هذا جزاء لهم على ما عملوا، وتفضل منه سبحانه فقال: (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) أي جازاهم الله به وأعطاهموه بفضله وإحسانه عطاء كافيا وافيا. [سورة النبإ (78) : الآيات 37 الى 40] رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

شرح المفردات

شرح المفردات الخطاب: المخاطبة والمكالمة، الروح: جبريل عليه الصلاة والسلام، والمآرب: المرجع، والإنذار: الإخبار بالمكروه قبل وقوعه، والمرء الإنسان ذكرا كان أو أنثى، ما قدمت يداه: أي ما صنعه فى حياته الأولى. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن يوم القيامة موعد للفصل بين الخلائق، وتنتهى به أيام الدنيا، وأن دار العذاب معدة للكافرين، وأن الفوز بالنعيم للمتقين أعقب ذلك بأن هذا يوم يقوم فيه جبريل والملائكة صفّا صفا لا يتكلمون إلا إذا أذن لهم ربهم وقالوا قولا صحيحا. ثم أتبعه بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه، وأن الناس فيه فريقان: فريق بعيد من الله ومرجعه إلى النار، وفريق مآبه القرب من الله ومنازل الكرامة، فمن كانت له مشيئة صادقة، فليتخذ مآبا إلى ربه، وليعمل عملا صالحا يقرّبه منه، ويحلّه محل كرامته. ثم عاد إلى تهديد المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم، وأنهم سيعلمون غدا ما قدمته أيديهم ويرونه حاضرا لديهم، وحينئذ يندمون، ولات ساعة مندم، ويبلغ من أمرهم أن يقولوا: ليتنا كنا ترابا لم نصب حظا من الحياة. الإيضاح (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أي إنه سبحانه المالك لشئونهما، المدبر لأمورهما، ولا يملك أحد من أهلهما مخاطبته تعالى بالشفاعة إلا بإذنه. ثم أكد هذا وقرره بقوله:

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) أي إن الملائكة على جلالة أقدارهم، ورفيع درجاتهم لا يستطيعون أن يتكلموا فى هذا اليوم، إجلالا لربهم، ووقوفا عند أقدارهم، إلا إذا أذن لهم ربهم، وقالوا قولا صدقا وصوابا. وفى الآية دلالة على أنهم مع قربهم من ربهم لا يستطيع أحد منهم أن يشفع لأحد أو يطلب منحة إلا بعد أن يأذن له ربه، ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب، لأنه يقول الصواب، وإنما يكون الكلام ضربا من التكريم لمن يأذن له ويختص به، ولا أثر له فيما أراده البتة. والملائكة مخلوقات غيّبها الله عنا، ولم يجعل لنا قدرة على رؤيتها. فعلينا أن نؤمن بها وإن لم نرها، ونصدّق بما جاء فى كتابه من أوصافها غير باحثين عن حقيقتها. وبعد أن ذكر أحوال المكلفين فى درجات الثواب والعقاب، وبيّن عظمة يوم القيامة- أردف ذلك بيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه فقال: (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) أي ذلك اليوم متحقق لا ريب فيه ولا مفر منه، وأنه يوم تبلى فيه السرائر، وتنكشف فيه الضمائر، أما أيام الدنيا فأحوال الخلق فيها مكتوبة، وضمائرهم غير معلومة. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي فمن شاء عمل صالحا يقربه من ربه، ويدنيه من كرامته وثوابه، ويباعد بينه وبين عقابه. ثم زاد فى تخويف الكفار وإنذارهم فقال: ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) أي إنا نحذركم عذاب يوم القيامة وهو قريب، لأن كل ما هو آت قريب كما قال: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» .

ما اشتملت عليه هذه السورة

وإنهم ليجدون مقدماته إذا فارقت الروح البدن، فإنه يتكشف لهم ما كان ينتظرهم، ولا يزالون منه فى ألم إلى أن يلاقوا ربهم. َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي هذا العذاب القريب يوم ينظر المرء ما صنعه فى حياته الأولى من الأعمال، فإن كان قد آمن بربه وعمل عمل الأبرار فطوبى له وحسن مآب، وإن كان قد كذب به وبرسوله فله الويل وأليم العذاب. ونحو الآية قوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» . َ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي ويقول الكافر من شدة ما يلقى ومن هول ما يرى: ليتنى كنت ترابا، يريد: ليتنى لم أكن من المكلفين، بل كنت حجرا أو ترابا لا يجرى عليه تكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب. وفى الآية إيماء إلى ما يكون عليه المؤمنون من الاستبشار والسرور بما رأوه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ما اشتملت عليه هذه السورة اشتملت هذه السورة الكريمة على الموضوعات الآتية: (1) سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام. (2) تهديد المشركين على إنكارهم إياه. (3) إقامة الأدلة على إمكان حصوله. (4) أحداث يوم القيامة. (5) ما يلاقيه المكذبون من العذاب. (6) فوز المتقين بجنات النعيم. (7) إن هذا اليوم حق لا ريب فيه. (8) إنذار الكافرين بالعذاب الأليم وتمنيهم فى ذلك اليوم أن لو كانوا ترابا.

سورة النازعات

سورة النازعات هى مكية، وآيها ست وأربعون، نزلت بعد سورة النبأ. ووجه اتصالها بما قبلها أنه هناك أنذر بالعذاب يوم القيامة- وهنا أقسم على أن البعث حق لا ريب فيه. [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) شرح المفردات والنازعات: أي الكواكب الجاريات على نظام معين فى سيرها كالشمس والقمر، يقال نزعت الخيل: إذا جرت، غرقا: أي مجدّة مسرعة فى جريها، لتقطع مسافة فلكها حتى تصل إلى أقصى المغرب، والناشطات نشطا: أي الخارجات من برج إلى برج، من قولهم: نشط النور إذا خرج، والسابحات سبحا: أي السائرات فى أفلاكها سيرا هادئا لا اضطراب فيه ولا اختلال، وقد جعل مرورها فى جوائها كالسبح فى الماء كما جاء فى قوله: «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» والسابقات سبقا:

المعنى الجملي

أي المسرعات عن غيرها فى سبحها، فتتم دورتها حول ما تدور عليه فى مدة أسرع مما يتم غيرها كالقمر فإنه يتم دورته فى شهر قمرى، والأرض تتم دورتها فى سنة شمسية، وهكذا غيرها من السيارات السريعة، ومنها ما لا يتم دورته إلا فى سنين، فالمدبرات أمرا: أي فالكواكب التي تدبر بعض الأمور الكونية فى عالمنا الأرضى بظهور بعض آثارها، فسبق القمر علّمنا حساب شهوره، وله الأثر العظيم فى السحاب والمطر وفى البحر من المدّ والجزر، ولضيائه حين امتلائه فوائد فى تصريف منافع الناس والحيوان، وسبق الشمس فى أبراجها علّمنا حساب الشهور، وسبقها إلى تتميم دورتها السنوية علمنا حساب السنين، وخالف بين فصول السنة، واختلاف الفصول من أسباب حياة النبات والحيوان، وقد نسب إليها التدبير، لأنها أسباب ما نستفيده منها، والمدبر الحكيم: هو الله تعالى جل شأنه. وترجف: أي تضطرب وتتحرك، والراجفة: الأرض بمن عليها، والرادفة: السماء وما فيها تردفها وتتبعها، فإنها تنشق وتنثر كواكبها، الواجفة: أي الشديدة الاضطراب خاشعة: أي ذليلة، الحافرة: الحياة الأولى، أي الحياة بعد الموت وقد ظنوها حياتهم الأولى، يقال رجع فى حافرته: أي فى طريقه التي جاء فيها، والنخرة: البالية الجوفاء التي تمر فيها الرياح، والكرّة: الرجعة من الكرّ، وهو الرجوع، والخاسرة: هى التي يخسر أصحابها ولا يربحون، والزجرة: الصيحة، والمراد بها النفخة الثانية يبعث بها الأموات، والساهرة: الأرض البيضاء المستوية، لأن السراب يجرى فيها، وسميت بذلك لأن شدة الخوف التي تعترى من عليها تطير النوم من أعينهم فلا يذوقون نوما، فهى ساهرة: أي ساهر من عليها. المعنى الجملي بدأ سبحانه هذه السورة بالجلف بأصناف من مخلوقاته- إن ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر البعث وعرض الخلائق على ربهم، لينال كل عامل جزاء

عمله- حق لا ريب فيه فى يوم تعظم فيه الأهوال، وتضطرب القلوب، وتخشع الأبصار، ويعجب المبعوثون من عودتهم إلى حياتهم الأولى بعد أن كانوا عظاما نخرة تمر فيها الرياح، ويتحققون أن صفقتهم كانت خاسرة، إذا أنهم أنكروا فى الدنيا معادهم، ويجابون على تعجبهم بألا يحسبوا أن الإحياء صعب على الله، فما الأمر عنده إلا صيحة واحدة، فإذا الناس جميعا ظاهرون فى أرض المعاد. لو تدبرنا أمر القسم ببعض المخلوقات فى الكتاب الكريم لوجدناه يرجع إلى أحد أمرين: (1) أن تكون هذه المخلوقات قد عظمت فى أعين بعض الناس، وقوى سلطانها فى نفوسهم، حتى عبدوها واتخذوها آلهة من دون الله كالشمس والقمر فى نحو قوله: «وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها» وقد ذكر سبحانه بجانب ذلك بعض صفاتها الدالة على أنها مخلوقة له كتغيرها من حال إلى حال، وما يطرأ عليها من الأفول والزوال، مما لا يكون من شأن الآلهة المستحقة للعبادة. (2) أن تكون مما احتقره الناس لغفلتهم عن فائدته، وذهولهم عن موضع العبرة فيه، ولو أنهم تدبروا فيما هو عليه من جليل الصنعة، وبديع الحكمة لاهتدو إلى معرفة خالقة، ونعتوه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال. فأقسم سبحانه على التوحيد فى قوله: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» . وأقسم على أن الرسول حق بقوله: «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . وأقسم إن القرآن حق فى قوله: «فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ» .

الإيضاح

وحلف إن الجزاء حق، وإن الناس سيبعثون إلى ربهم، وإن كلا منهم سيلاقى جزاء عمله كما قال: «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً. فَالْحامِلاتِ وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ» . الإيضاح (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) افتتح سبحانه هذه السورة بالقسم بالكواكب والنجوم والشموس والأقمار، إظهارا لعظم شأنها، وإتقان نظامها، وغزارة فوائدها، وأنها مسخرة لبارئها، خاضعة لأمره- لتبثنّ بعد الموت، ويدل على هذا ما حكاه عنهم بعد من قولهم: «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً؟» أي أنبعث إذا صرنا كذلك؟. (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي حين تتحرك الأرض وتضطرب الجبال، فيسمع لها صوت شديد. ونحو الآية قوله: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» . (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي تتلوها السماء بما فيها من كواكب، إذ تنشق وتنثر كواكبها إثر اضطراب الأرض وميدانها. عن أبىّ بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال: أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه» أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم. وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترجف الأرض رجفا وتزلزل بأهلها، وهى التي يقول الله فيها- يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» . (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي قلوب يومئذ مضطربة قلقة خائفة، والمراد بها

قلوب الكفار، ذاك أنهم بعد أن عاينوا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكره لهم ويشاهدونه فى دنياهم ولم يؤمنوا به، تضطرب نفوسهم، مخافة أن يحل بهم ما أنذروا به، كما هى حال من تهدده بعقوبة إن لم يقلع عن جرائره- يهلع قلبه إن شاهد بوادر التنفيذ. (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي أبصار أصحابها خاشعة تظهر فيها الذلة والخوف. وقد حكى الله عنهم أقوالا ثلاثة استبعدوا بها أمر البعث، واستهزءوا فيها بالرسول والمؤمنين. (1) (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟) أي يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركى قريش إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت: أإنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات، فراجعون أحياء كما كنا قبل مماتنا. وتقول العرب لكل من كان فى أمر ثم خرج منه ثم عاد إليه: قد رجع إلى حافرته: أي إلى أمره الذي كان فيه أوّلا. (2) (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً؟) أي أنردّ إلى الحياة بعد أن نصير عظاما بالية لو لمست لتفتّت؟ (3) و (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي إن صح ما قلتم من البعث يوم القيامة بعد أن نصير عظاما نخرة، فنحن إذا خاسرون، لأنا كذبنا به ولم نأخذ العدّة له، فياويلنا فى هذا اليوم! وهذا منهم استهزاء وتهكم، اعتقادا منهم أن ذلك لن يكون. وقد ردّ الله عليهم مقالتهم بقوله: (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي لا تستبعدوا ذلك وتظنوه عسيرا شاقّا علينا، فإنما هى صيحة واحدة، وهى النفخة الثانية التي يبعث الله بها الموتى فإذا الناس كلهم على سطح الأرض أحياء.

[سورة النازعات (79) : الآيات 15 إلى 26]

ونحو الآية قوله: «وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ» . وخلاصة هذا- لا تحسبوا أن هذه الرجعة عسيرة شاقة علينا، فما إعادتكم التي ظننتموها صعبة إلا أن نأمر ملكا من ملائكتنا أن يصيح صيحة واحدة، فإذا أنتم جميعا لدينا محضرون، لا يتخلف منكم أحد، ولا يستطيع التخلف إن أراد. [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) شرح المفردات المقدس: أي المبارك المطهر، والوادي المقدس: هو واد بأسفل جبل طور سينا من برّية الشام، طوى: واد بين أيلة ومصر، طغى: أي تجاوز الحد فتكبر على الله وكفر به، هل لك إلى كذا: أي هل ترغب فيه، وتزكى: أي تتزكى وتتطهر من العيوب، وأهديك: أي أدلك، فتخشى: أي فتخاف، والآية الكبرى: أي العلامة الدالة على صدقه فى دعواه النبوة، وهى انقلاب العصا حية، أدبر: أي ترك

المعنى الجملي

موسى، يسعى: أي فى مكايدته. فحشر: أي فجمع السحرة الذين فى بلاده، والنكال: العذاب، والآخرة: يوم القيامة، والأولى: الدنيا. المعنى الجملي بعد أن حكى عن كفار مكة إصرارهم على إنكارهم البعث وتماديهم فى العتو والطغيان واستهزاءهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك يشق عليه، ويصعب على نفسه، ذكر له قصص موسى مع فرعون طاغية مصر، وبين له أنه قد بلغ فى الجبروت حدّا لم يبلغه قومك، فقد ادعى الألوهية وألبّ قومه على موسى، وكان موسى مع هذا كله يحتمل المشاق العظام فى دعوته إلى الإيمان- ليكون ذلك تسلية لرسوله عما لاقيه من قومه من شديد العناد وعظيم الإعراض، يرشد إلى ذلك قوله: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» . وفى ذلك عبرة أخرى لقومه- وهى أن فرعون مع أنه كان أقوى منهم شكيمة أشد شوكة وأعظم سلطانا، لما تمرد على موسى وعصا أمر ربه أخذه الله نكال لآخرة والأولى، ولم يعجزه أن يهلكه ويجعله لمن خلفه آية، فأنتم أيها القوم مهما عظمت حالكم وقوى سلطانكم لم تبلغوا مبلغ فرعون، فأخذكم أهون على الله منه. وفى هذا تهديد لهم وإنذار بأنهم إن لم يؤمنوا بالله ورسوله، فسيصيبهم مثل ما أصاب فرعون وقومه كما قال فى آية أخرى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» .

الإيضاح

الإيضاح (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي ألم يبلغك حديث موسى مع فرعون وقومه، وقد أمره الله بالتلطف فى القول، واللين فى الدعوة إلى الحق إقامة للحجة والوصول من أقرب محجة كما جاء فى سورة طه «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» . فاتبع نهجه واسلك سبيله يكن ذلك أقرب للفوز ببغيتك وبلوغ مطلبك كما فاز موسى وانتصر. وكان ذلك حين ناداه ربه بالوادي المطهر المبارك من طور سيناء من برّية الشام بعد مضى وقت من الليل. ثم فصل هذه المناجاة بقوله: (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي اذهب له وعظه، فإنه تجاوز الحد وتكبر على الله وكفر به، وتجبّر على بنى إسرائيل، واستعبدهم حتى بلغ من أمره أن ذبح أبناءهم واستحيا نساءهم. ثم طلب إلى موسى أن يلين له القول ليكون ذلك أنجع فى الدعوة فقال: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) أي فقل له: هل ترغب أن تطهّر نفسك من الآثام التي انغمست فيها، وتعمل بما أدلك عليه من طرق الخير، وتبعد عما أنت فيه من اجتراح السيئات، وتخشى عاقبة مخالفة أمر ربك، حتى تأمن من عقابه، إذا أديت ما ألزمك به من فرائضه، واجتنبت ما نهاك عنه من معاصيه. ثم ذكر أنه لم يخضع للدليل والبرهان، ولم يقنع بما أدلى إليه موسى من حجة، فاضطر إلى أن يظهر له دليلا يراه ويشاهده فقال: (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي فلما لم يقنع بالدليل القولى أظهر له آية ودليلا يراه بعينه، وهو انقلاب العصا حية، ومع ذلك كذب الداعي، وعصى سلطان البرهان وأظهر تمرده عليه، كما أشار إلى ذلك بقوله:

[سورة النازعات (79) : الآيات 27 إلى 33]

(فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) أي فكذب موسى ثم ولى معرضا عما دعاه إليه من طاعة ربه وخشيته، وطفق يخبّ فى المعاصي ويضع، غير متدبر فى عاقبة أمره، ولا مفكر فى غده. (فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي فجمع السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه كما جاء فى قوله: «وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» فقام فيهم يقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» فلا سلطان يعلو سلطانى، ولم يزل فى عتوّه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر (بحر القلزم) عند خروجهم من مصر فأغرق فيه هو وجنوده، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي فنكل الله به ولم يكن ذلك النكال مقصورا على ما عذب به فى الدنيا من الغرق فى البحر، بل عذبه فى الآخرة أيضا فى جهنم وبئس القرار. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي إن فيما ذكر لموعظة لمن له عقل يتدبر به فى عواقب الأمور ومصايرها، فينظر فى حوادث الماضين، ويقيس بها أحوال الحاضرين ليتعظ بها. [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) شرح المفردات أشد خلقا: أي أصعب إنشاء، والبناء: ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بنية واحدة، والسمك: قامة كل شىء،

المعنى الجملي

فسواها: أي جعل كل جزء موضوع فى موضعه، أغطش ليلها: أي أظلمه، ضحاها: أي نورها وضياء شمسها، دحاها: أي مهدها وجعلها قابلة للسكنى، قال زيد بن عمرو ابن نفيل: وأسلمت وجهى لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا مرعاها: أي نباتها، متاعا لكم: أي متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم. المعنى الجملي بعد أن قص على المشركين قصص موسي عليه السلام مع فرعون وأومأ بهذا القصص إلى أنهم لا يعجزون الذي أخذ من فرعون ونكل به وجعله عبرة للباقين، وسلى به رسوله حتى لا يحزن لتكذيب قومه له، وعدم إيمانهم بما جاءهم به، أخذ يخاطب منكرى البعث، وينبههم إلى أنه لا ينبغى لهم أن يجحدوه فإن بعثهم هين إذا أضيف إلى خلق السموات التي تدل بحسن نظامها وجلالها، على حكمة مبدعها وعظيم قدرته، وواسع حكمته، وإلى خلق الأرض التي دحاها بعدها وجعلها معدة للسكنى، وهيأ فيها وسائل المعيشة للإنسان والحيوان، فأخرج منها الماء الذي به حياة كل شيء وأنبت فيها النبات الذي به قوام الإنسان والحيوان. الإيضاح (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ؟) أي أأنتم أيها الناس وقد خلقتم من ماء مهين ضعافا عاجزين لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة- أصعب إبداعا وإنشاء أم هذه السماء التي ترون خلقها، وبديع تركيبها وعظمة شأنها؟ إنكم لا تنازعون فى أنها أشد منكم خلقا، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها، فكيف تظنون أنا نعجز عن إعادتكم بعد موتكم، يرشد إلى ذلك قوله: «لَخَلْقُ

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» . وقوله: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟» . وفى هذا من التقريع والتوبيخ ما لا يخفى. وبعد أن أشار إلى عظم خلق السموات إجمالا شرع يبين ذلك تفصيلا فقال: (بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) أي ضم أجزاءها المتفرقة وربطها بما يمسكها حتى حصل عن جميعها بنية واحدة، فقد أبدع فى خلق الكواكب وجعل كل كوكب منها على نسبة من الآخر، وجعل لكل منها ما يمسكه فى مداره حتى كان من مجموعها ما يشبه البناء وهو ما نسميه بالسماء. وقد جعلها ذاهبة فى العلوّ صعدا، وعدّ لها فوضع كل جزء منها فى موضعه الذي يستحقه ويحسن أن يكون فيه. (وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي وجعل ليلها مظلما بمغيب كواكبها، وأبرز نهارها، وعبر عن النهار بالضحى، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس فى سائرها. وتعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول التابع لحركة بعض السيارات يهيىء الأرض للسكنى ومن ثم قال: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي ومهد الأرض بعد ذلك وبسطها للسكنى، وسير الناس والأنعام عليها، وقد كانت مخلوقة غير مدحوّة قبل ذلك، فلا تخالف هذه الآية ما جاء فى سورة السجدة من قوله: «أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» .

فإن هذه الآية تدل على أن خلق السموات كان بعد خلق الأرض، والآية التي نحن بصددها تشير إلى أن الله تعالى دحا الأرض ومهدها لسكنى الناس بعد أن خلق السماء. فالآيتان ترشدان إلى أن الله تعالى خلق الأرض أوّلا ثم خلق السموات بعد ذلك، ثم عاد إلى الأرض فمهدها ودحاها، فآية السجدة حكاية للخلق الأول ومبدئه وهذه الآية حكاية للإصلاح الذي كان بعد الخلق. ثم فسر التمهيد بما لا بد منه فى تأتى سكناها من أمر المآكل والمشارب وإمكان القرار عليها فقال: (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) أي فجّر منها العيون والينابيع والأنهار، وأنبت فيها النبات سواء أكان قوتا لبنى آدم كالحب والثمر، أم قوتا للأنعام والماشية كالعشب والحشيش. (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي وثبت الجبال فى أماكنها وجعلها كالأوتاد، لئلا تميد بأهلها وتضطرب بهم. ثم بين الحكمة فى ذلك فقال: (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي إنما جعلنا ذلك كله، ليتمتع به الناس والأنعام من الإبل والغنم والبقر. ونحو الآية قوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» . أفلا يكون خالقكم وواهبكم ما به تحيون، ورافع السماء فوقكم، وممهد الأرض تحتكم- قادر على بعثكم؟ وهل يليق به أن يترككم سدى بعد أن دبر أمركم هذا التدبير المحكم، ووفّر لكم هذا الخير الكثير.

[سورة النازعات (79) : الآيات 34 إلى 41]

[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 41] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) شرح المفردات الطامة الكبرى: أي الداهية العظمى التي تطمّ على الدواهي أي تغلب وتعلو، وهى النفخة الثانية التي يكون معها البعث قاله ابن عباس، وبرّزت الجحيم: أي كانت فى مكان بارز يراها كل من له عينان، طغى: أي تكبر وتجاوز الحد، آثر: أي قدّم وفضل، المأوى: المستقر، مقام ربه: أي جلاله وعظمته، ونهى النفس عن الهوى: أي زجرها وكفها عن هواها المردي لها بميلها إلى الشهوات. المعنى الجملي بعد أن بيّن أنه تعالى قادر على نشر الأموات كما قدر على خلق الأكوان، بين صدق ما أوحى به إلى نبيه من أن ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، كائن لا بد منه، فإذا جاءت طامته الكبرى التي تفوق كل طامة حين تعرض الأعمال على العاملين، فيتذكر كل امرئ ما عمل، ويظهر الله الجحيم وهى دار العذاب للعيان فيراها كل ذى بصر، فى ذلك اليوم يوزع الجزاء على العاملين فأما من جاوز الحدود التي حدها الله فى شرائعه، وفضل لذائذ الدنيا على ثواب الآخرة فدار العذاب مستقره ومأواه وأما من خاف مقامه بين يدى ربه فى ذلك اليوم،

الإيضاح

وزجر نفسه عن هواها، فلم تجر وراء شهواتها فالجنة منزله ومأواه، جزاء ما قدمت يداه. الإيضاح (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أي فإذا حل ذلك اليوم الذي تشيب من هوله الولدان، وتشاهد فيه النار، فينسى المرء كل هول دونها- فصل الله بين الخلائق، فأدخل الطائعين الأبرار الجنة، وأدخل المتمردين العصاة النار. وقد وصف هذا اليوم بوصفين: (1) (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي حين يرى الإنسان أعماله مدوّنة فى كتابه وكان قد نسيها فتعاوده الذكرى، كما قال سبحانه: «أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ» . (2) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) أي وأظهرت النار حتى يراها كل ذى عينين سواء منهم المؤمن والكافر، سوى أنها تكون مقرّا للكافرين، وينجى الله المؤمنين. والخلاصة- إذا جاء ذلك اليوم فصل الله بين الخلائق كما فصّله بعد بقوله: (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أي فأما من تكبر وتجاوز الحد وآثر لذات الحياة الدنيا، وشهواتها على ثواب الآخرة، فالنار مثواه ومستقره. (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي وأما من حذر وقوفه بين يدى ربه يوم القيامة، وأدرك مقدار عظمته وقهره، وغلبة جبروته وسطوته، وجنب نفسه الوقوع فى محارمه، فالجنة مثواه وقراره. وقد ذكر سبحانه من أوصاف السعداء شيئين يضادان أوصاف الأشقياء: (1) فقوله: «خافَ مَقامَ رَبِّهِ» يقابل قوله: «طَغى» وقوله: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» يضاد قوله: «وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا» وقد مدح الحكماء مخالفة

[سورة النازعات (79) : الآيات 42 إلى 46]

الهوي فقالوا: إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه. وقيل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصدّيقين. وقيل: فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه تنزع به كل منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به فى مصرع أىّ مصرع [سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) شرح المفردات الساعة: هى ساعة يبعث الله الخلائق من قبورهم، وهى يوم القيامة، أيان: أي متى، مرساها: أي إرساؤها، وإقامتها: أي حصولها، فيم أنت من ذكراها: أي فى أىّ شىء أنت من أن تذكر لهم وقت حصولها، وتبين لهم الزمان المعين لوقوعها، إلى ربك منتهاها: أي إن منتهى علم حصولها عند ربك لم يؤته أحدا من خلقه، واللبث: الإقامة، والعشية طرف النهار من آخره، والضحى: طرفه من أول. المعنى الجملي كان المشركون يسألون الرسول عنادا واستهزاء عن الساعة، ويطلبون إليه أن يعجل بها كما يرشد إلى ذلك قوله: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» وربما سألوه عن تحديد وقتها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد فى نفسه ما يقولون، ويتمنى لو أمكن أن يجيب عما يسألون، كما هو شأن الحريص على الهداية، المجدّ فى الإقناع- فهاه الله عن تمنى ما لا يرجى، وأبان له أنه لا حاجة لك إلى ذلك،

الإيضاح

فإن علمها عند ربك، وإنما شأنك أن تنذر من يخافها فتنبهه من غفلته، حتى يستعد لما يلقاه حينئذ، أما هؤلاء المعاندون فدعهم فى غوايتهم، ولا تشغل نفسك بالجواب عما يسألون، فإذا جاء هذا اليوم خيل إليهم أنهم لم يلبثوا من يوم خلقوا إلى يوم البعث إلا طرفا من نهار أوله أو آخره، ولم يلبثوا نهارا كاملا لمفاجأتهم لهم على غير استعداد لوقوعها. الإيضاح (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟) أي يسألك أيها الرسول هؤلاء المكذبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتى من قبورهم، متى قيامها وظهورها؟ (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي ما هذه الذكرى الدائمة لها، وما هذا الاهتمام الذي جعلك لا تألو جهدا فى السؤال عنها؟. روى عن عائشة رضى الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآية» . وتلخيص المعنى- لا تشغل نفسك بهذا الأمر، ولا تكلفها عناء البحث عنه، واستكناه أسراره، ومعرفة ما حجبه الله عن خلقه من شأنه. (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي إلى ربك ينتهى علم الساعة، فلا يعلم وقت قيامها غيره، ولم يعطه لملك مكرم، ولا لنبى مرسل. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي إنما أنت رسول مبعوث للإنذار والتخويف، وتحذير الناس من المعاصي والقبائح، ولم تكلف علم وقتها، فدع علم ما لم تكلف به، واعمل ما أمرت به من إنذار من أمرت بإنذاره. ونحو الآية قوله: «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» وقوله: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» ثم قرر ما دل عليه الإنذار من سرعة مجىء المنذر به، فقال:

موضوعات السورة الكريمة

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي إن هذا اليوم الذي لجوا فى إنكاره سيقع البتة، ويرونه بأعينهم، فإذا عاينوه حسبوا أنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا ساعة من نهار ثم انقضت. والخلاصة- إنهم ظنوا أنهم لم يلبثوا إلا عشية يوم أو ضحى تلك العشية، وتقول العرب: آتيك العشية أو غداتها، وآتيك الغداة أو عشيتها، والمراد أنهم يستقصرون مدة لبثهم، ويزعمون أنهم لم يلبثوا إلا قدر آخر نهار أو أوله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. موضوعات السورة الكريمة (1) إثبات البعث. (2) مقالة المشركين فى إنكاره والردّ عليهم (3) قصص موسى مع فرعون، وفيه تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم. (4) إقامة البرهان على إثبات البعث. (5) أهوال يوم القيامة. (6) الناس فى هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء بحسب أعمالهم فى الدنيا. (7) سؤال المشركين عن الساعة وميقاتها. (8) نهى الرسول عن البحث عنها واشتغاله بأمرها. (9) ذهول المشركين من شدة الهول عن مقدار ما يلبثوا فى الدنيا.

سورة عبس

سورة عبس هى مكية، وآياتها ثنتان وأربعون، نزلت بعد سورة النجم. ومناسبتها- لما قبلها- أنه ذكر هناك أنه منذر من يخشاها- وذكر هنا من ينفعه الإنذار. [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) شرح المفردات عبس: أي قطب وجهه من ضيق الصدر، وتولى: أي أعرض، أن جاءه الأعمى: أي لأجل أن جاءه، وما يدريك: أي أىّ شىء يعرّفك حال هذا الأعمى؟ يزكى: أي يتطهر بما يلقن من الشرائع، يذّكر: أي يتعظ، استغنى: أي بماله وقوته عن سماع القرآن، تصدى: أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه، يسعى أي يسرع، يخشى: أي يخاف من الغواية، تلهى: أي تتلهى وتتغافل. المعنى الجملي نزلت هذه السورة فى ابن أم مكتوم عمرو بن قيس ابن خال خديجة، وكان أعمى وهو من المهاجرين الأولين. استخلفه صلى الله عليه وسلم على المدينة يصلى بالناس مرارا، وكان يؤذن بعد بلال.

وكان من حديثه أن أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ومعه صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم للإسلام، ويذكّرهم بأيام الله، ويحذرهم بطشه وجبروته، ويعدهم أحسن المثوبة إن أسلموا، وهو شديد الحرص على أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، لأنه يعلم أن سيسلم بإسلامهم خلق كثير، إذ بيدهم مقادة العرب. فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله أقرئنى وعلمنى مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره الرسول قطعه لكلامه، وظهرت فى وجهه الكراهة، فعبس وأعرض عنه. وقد عاتب الله نبيّه بأن ضعف ذلك الأعمى وفقره لا ينبغى أن يكون باعثا على كراهة كلامه والإعراض عنه، لأن ذلك يورث انكسار قلوب الفقراء، وهو مطالب بتأليف قلوبهم كما قال: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» وقال: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» . ولأنه كان ذكىّ الفؤاد إذا سمع الحكمة وعاها، فيتطهر بها من أو ضار الآثام، وتصفو بها نفسه، أو يذكّر بها ويتعظ فتنفعه العظة فى مستأنف أيامه. أما أولئك الأغنياء فأكثرهم جحدة أغبياء، فلا ينبغى التصدي لهم، طمعا فى إقبالهم على الإسلام، ليتبعهم غيرهم. وقوّة الإنسان إنما هى فى ذكاء لبّه، وحياة قلبه، وإذعانه للحق متى لا حت له أماراته، أما المال والنشب، والحشم والأعوان فهى عوار تجىء وترتحل، وتفرّ حينا ثم تنتقل.

الإيضاح

والخلاصة- إنه سبحانه عاتب نبيه وأمره بأن يقبل على ذى العقل الذكي، ونهاه أن ينصرف عنه إلى ذى الجاه القوى، فإن الأول حىّ بطبعه والثاني غائب عن حسّه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن أم مكتوم ويقبل عليه ويتفقده، ويقول له إذا رآه: أهلا بمن عاتبنى فيه ربى، ويسأله هل لك حاجة؟ الإيضاح (عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) أي قطب الرسول صلى الله عليه وسلم وجهه وأعرض، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه. وفى التعبير عنه بالأعمى إشعار بعذره فى الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم حين تشاغله بالقوم، وقد يكون ذلك لذكر العلة التي اقتضت الإعراض عنه، والتعبيس فى وجهه، فكأنه قيل: إنه بسبب عماه كان يستحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك أن تخصه بالغلظة. وهذا كما تقول لرجل جاءه فقير فانتهره وآذاه: أتؤذي هذا المسكين الذي يستحق منك الشفقة ومزيد الحنان والعطف؟ (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى؟) أي وأىّ شىء يعلمك حال هذا الأعمى؟ لعله يتطهر بما يسمعه منك، ويتلقاه عنك، فتزول عنه أو ضار الآثام، أو يتعظ فتنفعه ذكراك وموعظتك. والخلاصة- إنك لا تدرى ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر، ولو دريت لما كان الذي كان. وفى هذا إيماء إلى أن من تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين لا يرجى منهم التزكى ولا التذكر.

[سورة عبس (80) : الآيات 11 إلى 16]

ثم ذكر أن أمره مع الحاضرين مجلسه انحصر فى شيئين: (1) (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي أما من استغنى بماله وقوّته عن الإيمان، وعما عندك من المعارف التي يشتمل عليها الكتاب المنزّل عليك، فأنت تقبل عليه، حرصا على إسلامه، ومزيد الرغبة فى إيمانه. (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟) أي وأىّ عيب عليك فى بقائه كذلك، وألا يتطهر من وسخ الجهالة؟ فما أنت إلا رسول مبلغ عن الله، وقد أديت ما يجب عليك، فما بالك يشتد بك الحرص على إسلامه. وقصارى ذلك- لا يبلغنّ بك الحرص على إسلامهم، والاشتغال بدعوتهم، أن تعرض عن الذين سبقت لهم منا الحسنى. (2) (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي وأما من جاءك مسرعا فى طلب الهداية والقرب من ربه، وهو يخشاه ويحذر الوقوع فى الغواية، فأنت تتلهى عنه، وتتغافل عن إجابته إلى مطلبه. [سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 16] كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) شرح المفردات كلا: كلمة يقصد بها زجر المخاطب عن الأمر الذي يعاتب عليه، لئلا يعاوده، وهنا هو التصدي للمستغنى والتلهي عن المستهدى، تذكرة: أي موعظة، ذكره: أي اتعظ به، فى صحف مكرمة: أي مودعة فى صحف شريفة، مرفوعة: أي عالية القدر، مطهرة: أي من النقص لا تشوبها الضلالات، سفرة: واحدهم سافر، من سفر بين القوم إذا نصب نفسه وسيطا ليصلح من أمورهم ما فسد.

المعنى الجملي

قال شاعرهم: فما أدع السفارة بين قومى ... ولا أمشى بغشّ إن مشيت والمراد هنا الملائكة والأنبياء، لأنهم وسائط بين الله وخلقه فى البيان عما يريد، كرام: واحدهم كريم، بررة: واحدهم بارّ، والمراد أنهم كرام على الله، أطهار لا يقارفون ذنبا. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حادث ابن أم مكتوم وعتبه على رسوله فيما كان منه معه، أردف ذلك ببيان أن الهداية التي يسوقها الله إلى البشر على ألسنة رسله، ليست من الأمور التي يحتال لتقريرها فى النفوس وتثبيتها فى القلوب، وإنما هى تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل إلى ما جبل الخلق عليه من معرفة توحيده فمن أعرض عن ذلك فإنه معاند يقاوم ما يدعوه إليه حسه، وتنازعه إليه نفسه. فما عليك إلا أن تبلغ ما عرفت عن ربك، لتذكر به الناس، وتنبه الغافل، أما أن تحابى القوىّ المعاند، ظنا منك أن مداجاته ترده عن عناده، فذلك ليس من شأنك، «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» . وهذه الهداية أودعها سبحانه فى الصحف الإلهية الشريفة القدر، المطهرة من النقائص والعيوب، وأنزلها على الناس بوساطة ملائكته الكرام البررة. الإيضاح (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي ما الأمر كما تفعل أيها الرسول، بأن تعبس فى وجه من جاءك يسعى وهو يخشى، وتقبل على من استغنى، بل الهداية المودعة فى الكتب الإلهية وأجلّها القرآن، تذكير ووعظ وتنبيه لمن غفل عن آيات ربه. وقد وصف سبحانه تلك التذكرة بأوصاف تدل على ما لها من عظيم الشأن فقال:

[سورة عبس (80) : الآيات 17 إلى 23]

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي إن هذه التذكرة بينة ظاهرة، فلو أن إنسانا أراد أن يتدبرها، ويتفهم معناها، ويتعظ بها، ويعمل بموجبها- لقدر على ذلك واستطاعه، ولا يمنعه عن الاهتداء بها إلا عدم المشيئة عنادا واستكبارا. (2) (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي وقد أودعت هذه التذكرة فى الكتب الإلهية ذات الشرف والرفعة، المطهرة من النقائص ولا تشوبها شوائب الضلالات، تنزّل بوساطة الملائكة على الأنبياء، وهم يبلغونها للناس. وكل من الملك والنبي سفير، وكل منهما رسول، والملائكة كرام على الله كما قال: «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» وأبرار أطهار لا يقارفون ذنبا، ولا يجترحون إثما، كما قال سبحانه: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» . [سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 23] قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) شرح المفردات قدره: أي أنشأه فى أطوار وأحوال مختلفة، طورا بعد طور، وحالا بعد حال، والسبيل: الطريق، يسره: أي سهل له سلوك سبل الخير والشر، فأقبره: أي جعل له قبرا يوارى فيه، أنشره: أي بعثه بعد الموت، كلا: زجر له عن ترفعه وتكبره. المعنى الجملي بعد أن بين حال القرآن وذكر أنه كتاب الذكرى والموعظة، وأن فى استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد- أردف هذا ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما

الإيضاح

كثر ماله، ونبه شأنه، أن يتكبر ويتعاظم ويعطى نفسه ما تهواه، ولا يفكر فى منتهاه، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد، وصوّره فى أحسن الصور، فى أطوار مختلفة، وأشكال متعددة، ثم لا يلبث إلا قليلا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان، ويوضع فى لحده، إلى أمد قدره الله فى علمه، ثم يبعثه من قبره، ويحاسبه على ما عمل فى الدار الأولى، ويستوفى جزاءه إن خيرا وإن شرا، لكنه ما أكفره بنعمة ربه، وما أبعده عن اتباع أوامره، واجتناب نواهيه! الإيضاح (قُتِلَ الْإِنْسانُ) هذا دعاء عليه بأشنع الدعوات على ما هو المعروف فى لسانهم. يقولون إذا تعجبوا من إنسان: قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه! والمراد بيان قبح حاله، وأنه بلغ حدا من العتوّ والكبر لا يستحق معه أن يبقى حيا. (ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفرانه للنعم التي يتقلب فيها، وأكثر ذهوله عن مسديها، وعمن غمره بها من حين إيجاده، إلى ساعة معاده! ثم شرع يفصل ما أجمله، ويبين ما أفاض عليه من النعم فى مراتب ثلاث: المبدأ والوسط والمنتهى، وأشار إلى الأولى بقوله: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟) أي من شىء حقير، فلا ينبغى له التجبر ولا التكبر. وقد أجاب عن هذا الاستفهام بقوله: (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي خلقه من ماء مهين، وقدره أطوارا وأحوالا، طورا بعد طور وحالا بعد حال، وأتم خلقه بأعضاء تلائم حاجاته مدة بقائه، وأودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت لأجله، وجعل كل ذلك بمقدار محدود بحسب ما يقتضيه كمال نوعه.

وقد أثر عن بعضهم: كيف يتكبر الإنسان، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حمّال عذرة. وروى عن علىّ كرم الله وجهه قوله: كيف يفخر الإنسان وقد خرج من موضع البول مرتين. وأشار إلى المرتبة الوسطى بقوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي ثم جعله متمكنا من سلوك سبيلى الخير والشر، فآتاه قدرة العمل، ووهبه العقل الذي يميز به بين الأعمال، وعرّفه عاقبة كل عمل ونتيجته كما قال «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» وبعث إليه الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ والدعوة إلى أنواع البر، والتحذير من الشر، والحاوية لما فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم. وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله: (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي ثم قبض روحه ولم يتركه مطروحا على الأرض جزرا للسباع، بل تفضل عليه وجعل فى غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمة له، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء فى الوقت الذي قدّره فى علمه. وفى قوله: «إِذا شاءَ» إشعار بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو، فهو الذي استأثر بعلمه، وهو القادر على تقديمه وتأخيره، وهو القاهر فوق عباده، وذو السلطان عليهم فى إحيائهم وإماتتهم. وبعثهم وحشرهم. وحسابهم على ما قدموا من عمل. خيرا كان أو شرا. ثم أكد كفرانه بالنعم فقال: (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي حقا إن حال الإنسان لتدعو إلى العجب. فإنه بعد أن رأى فى نفسه مما عددناه من عظيم الآيات، وشاهد من جلائل الآثار.

[سورة عبس (80) : الآيات 24 إلى 32]

ما يحرك الأنظار، ويسير بها إلى صواب الآراء، وصحيح الأفكار- لم يقض ما أمره به من التأمل فى دلائل قدرته، والتدبر فى معالم هذا الكون المنبئة بوحدانية خالقه، الناطقة بأن لها موجدا يستحق أن يقصده وحده دون سواه، ويتوجه إليه بالعبادة والامتثال إلى ما يأمره به. والخلاصة- إن الإنسان قد بلغ فى جحده آيات خالقه مبلغا لا ينتهى منه العجب إذ قد رأى فى نفسه وفى السموات والأرض وسائر ما يحيط به من العوالم، الآيات الناطقة بوحدانية الخالق، الدالة على عظيم قدرته، ثم هو لا يزال مستمرا فى نكران نعمته عليه، فإذا ذكّر لا يتذكر، وإذا أرشد إلى الهدى لم يسلك سبيله الأقوم ولا يزال يرتكب ما نهى عنه، ويترك ما أمر به. [سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 32] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) شرح المفردات القضب: الرطبة، وهى ما يؤكل من النبات غضا طريا وسمى قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد أخرى، غلبا: واحدها غلباء أي ضخمة عظيمة، والأبّ: المرعى لأنه يؤب: أي يؤم وينتجع، متاعا لكم ولأنعامكم: أي أنبتناه لكم لتتمتعوا به وتننفعوا وتنتفع أنعامكم.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر الدلائل على قدرته تعالى وهى كامنة فى نفسه، يراها فى يومه بعد أمسه- أردفها ذكر الآيات المنبثة فى الآفاق الناطقة ببديع صنعه، وباهر حكمته. الإيضاح (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أي فليتدبر الإنسان شأن نفسه، وليفكر فى أمر طعامه وتدبيره وتهيئته حتى يكون غذاء صالحا تقوم به بنيته، ويجد فى تناوله لذة تدفعه إليه، ليحفظ بذلك قوّته مدى الحياة التي قدرت له. وقد فصل ذلك بقوله: (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من المزن إنزالا بعد أن بقي حينا فى جو السماء مع ثقله. (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي ثم شققنا الأرض شقا مشاهدا مرئيا لمن نظر إليها بعد أن كانت متماسكة الأجزاء. وقد اقتضت حكمته ذلك، ليدخل الهواء والضياء فى جوفها، ويهيئانها لتغذية النبات. ثم ذكر سبحانه ثمانية أنواع من النبات: (1) (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) كالحنطة والشعير والأرز وهو الأصل فى الغذاء. (2) (وَعِنَباً) وهو من وجه غذاء، وفاكهة من وجه آخر. (3) (وَقَضْباً) وهو كما قال ابن عباس والضحاك ومقاتل واختاره الفراء وأبو عبيدة والأصمعى- الرطبة: هى ما يؤكل من النبات غضّا طريا. (4، 5) (وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا) وقد تقدم بيان منافعهما، وسيأتى أيضا.

[سورة عبس (80) : الآيات 33 إلى 42]

(6) (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي وبساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة ذات حوائط تحيط بها، وعظم الحدائق إما بالتفاف أشجارها وكثرتها، وإما بعظم كل شجرة وغلظها وكبرها. وفى ذكرها بهذا الوصف إيماء إلى أن النعمة فى الأشجار بجملتها، وليست فى ثمرها خاصة، فمن خشبها يتخذ أرقى أنواع الأثاث وأدوات العمل وآلاته لمختلف الحرف والصناعات، وكذا الوقود لتدبير الطعام والخبز على ضروب شتى، وتستعمل فى صهر الحديد وأنواع المعادن المختلفة. (7) (وَفاكِهَةً) يتمتع بلذتها الإنسان خاصة كالتين والتفاح والخوخ وغيرها. (8) (وَأَبًّا) أي مرعى للحيوان خاصة. ثم ذكر الحكمة فى خلق هذه الأشياء فقال: (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي أنبتنا ذلك، لتتمتعوا به وتنتفعوا به أنتم وأنعامكم، منه ما ينتفع به الإنسان، ومنه ما يأكله الحيوان. [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) شرح المفردات الصخّ: الضرب بالحديد على الحديد، وبالعصا الصّلبة على شىء مصمت، فيسمع إذ ذاك صوت شديد والمراد هنا بالصاخة هو المراد بالقارعة فى سورتها،

المعنى الجملي

وهى الطامة الكبرى، ويكون نذيرها ذلك الصوت الهائل الذي يحدث من تخريب الكون ووقع بعض أجرامه على بعض، ومن ثمّ سميت صاخة وقارعة، شأن: أي شغل، يغنيه: أي يصرفه ويصده عن مساعدة ذوى قرابته، قال شاعرهم: سيغنيك حرب بنى مالك ... عن الفحش والجهل فى المحفل مسفرة: أي مضيئة مشرقة يقال: أسفر الصبح إذا أضاء، مستبشرة: أي فرحة بما نالت، والغبرة: ما يصيب الإنسان من الغبار، ترهقها: أي تغشاها، والقترة: سواد كالدخان، والفجرة: واحدهم فاجر، وهو الخارج عن حدود الله المنتهك لحرماته. المعنى الجملي بعد أن عدد سبحانه آلاءه على عباده، وذكّرهم بإحسانه إليهم فى هذه الحياة، وبين أنه لا ينبغى للعاقل بعد كل ما رأى أن يتمرد عن طاعة صاحب هذه النعم الجسام- أعقب هذا بتفصيل بعض أحوال يوم القيامة وأهوالها التي توجب الفزع والخوف منه، ليدعوه ذلك إلى التأمل فيما مضى من الدلائل التي ترشد إلى وحدانيته وقدرته، وصحة البعث وأخبار يوم القيامة التي جاءت على ألسنة رسله، ويتزوّد بصالح الأعمال التي تكون نبراسا يضىء أمامه فى ظلمات هذا اليوم. وذكر أن الناس حينئذ فريقان: فريق ضاحك مستبشر، فرح فرح المحب يلقى حبيبه، وهو من كان يعتقد الحق ويعمل للحق، وفريق تعلو وجهه الغبرة، وترهقه القترة، وهو الذي تمرد على الله ورسوله، وأعرض عن قبول ما جاءه من الحقّ، ولم يعمل بما أمر به من صالح الأعمال. الإيضاح (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي فإذا جاء يوم القيامة حين يحدث ذلك للصوت الهائل الذي يصخّ الأسماع ويصكها بشدته- فما أعظم أسف الكافرين، وما أشد ندمهم.

ثم فصل بعض أهوال هذا اليوم فقال: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي يوم يشغل كلّ امرئ ما يصيبه من الأهوال، فيفر ممن يتوهم أنه يتعلق به، ويطلب معونته، على ما هو فيه، فيتوارى من أخيه، بل من أمه وأبيه، بل من زوجه التي هى ألصق الناس به، وقد كان فى الدنيا يبذل النفس والنفيس فى الدفاع عنها، بل من بنيه وهم فلذات كبده، وقد كان فى الحياة الأولى يفديهم بماله وروحه، وهم ريحانة الدنيا ونور الحياة أمام عينه. ونحو الآية قوله: «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً» . وإنما كان الأمر كذلك، لأن لكل امرئ منهم من الرهب، وما يرهب من الهول، وما يخشى من مناقشة الحساب- شأنا يغنيه، ويصدّه عن ذوى قرابته، فليس لديه فضل فكر ولا قوة يمدّ بها غيره. وقد يكون المعنى- يغنيه ذلك الهم الذي ركبه بسبب نفسه، وشغله حتى ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر. وبعد أن ذكر الأهوال التي تعرض للناس فى ذلك اليوم، وأنها لا تسعف أحدا بمواساة أحد ولا الالتفات إليه مهما يكن عطفه واتصاله به- أردفه بيان أن الناس فى ذلك اليوم سعداء وأشقياء، وأشار إلى الأولين بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي وجوه يومئذ متهللة ضاحكة فرحة بما تجد من برد اليقين بأنها ستوفّى ما وعدت به جزاء إيمانها وما قدمت من عمل صالح، وبشكرها لنعم ربها وآلائه، وإيثارها ما أمرها به على ما تهواه. وأشار إلى الآخرين بقوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي ووجوه يعلوها غبار الذل وسواد الغم والحزن، وهى وجوه الكفار الذين لم يؤمنوا

ما جاء فى هذه السورة الكريمة من مقاصد

بالله، وبما جاء به أنبياؤه، وخرجوا عن حدود شرائعه، واجترحوا السيئات، واقترفوا المعاصي. وقصارى ما سلف- إن الناس إذ ذاك فريقان: (1) فريق كان فى دنياه يطلب الحق وينظر فى الحجة، ويعمل ما استقام عليه الدليل، لا يثنيه عن الأخذ به قلة الآخذين، ولا قوة المعاندين، وهؤلاء سيطمئنون إلى ما أدركوا، ويفرحون بما نالوا، وتظهر على أسارير وجوههم علامات البشر والسرور. (2) فريق احتقر عقله، وأهمل النظر فى نعم الله عليه، وارتضى الجهل، وانصرف عن الاستدلال إلى اقتفاء آثار الآباء والأجداد، وظل يخبّ ويضع فى أهوائه الباطلة، وعقائده الزائفة- وهؤلاء سيجدون كل شىء على غير ما كانوا يعرفون، فتظهر عليهم آثار الخيبة والفشل، وتعلو وجوههم الغبرة، وترهقها القترة، لأنهم كانوا فى حياتهم الدنيا كفرة فجرة. اللهم احشرنا يوم القيامة ووجوهنا مسفرة ضاحكة مستبشرة، وصلّ ربنا على نبيك وآله وصحبه. ما جاء فى هذه السورة الكريمة من مقاصد (1) عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى. (2) أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبّر. (3) إقامة الأدلة على وحدانية الله بخلق الإنسان والنظر فى طعامه وشرابه. (4) أهوال يوم القيامة. (5) الناس فى هذا اليوم فريقان: سعداء وأشقياء، وذكر حال كل منهما حينئذ.

سورة التكوير

سورة التكوير هى مكية، وآيها تسع وعشرون، نزلت بعد المسد. ومناسبتها لما قبلها- أن كلتيهما تشرح أحوال يوم القيامة وأهوالها. أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) » . [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) شرح المفردات تكوير الشمس: لفها كتكوير العمامة والمراد منه اختفاؤها عن الأعين وذهاب ضوئها، وانكدار النجوم: انتثارها وتساقطها حتى تذهب ويمحى ضوؤها، وتسيير الجبال يكون حين الرجفة التي تزلزل الأرض، فتقطّع أوصالها وتفصل منها أجبالها، وتقذفها فى الفضاء والعشار: واحدها عشراء (بضم العين

المعنى الجملي

وفتح الشين) وهى الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر، وهى أكرم مال لدى المخاطبين وقت التنزيل، قال الأعشى فى المدح: هو الواهب المائة المصطفا ... ة إما مخاضا وإما عشارا وتعطيلها: إهمالها وذهابها حيث تشاء، لعظم الهول وشدة الكرب، حشرت: أي ماتت وهلكت، وتسجير البحار: تفجير الزلزال ما بينها حتى تختلط وتعود بحرا واحدا، زوّجت: أي قرنت الأرواح بأجسادها، الموءودة: هى التي دفنت وهى صغيرة، وقد كان ذلك عادة فاشية فيهم فى الجاهلية، وكان ذوو الشرف منهم يمنعون من هذا حتى افتخر بذلك الفرزدق فقال: ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توءد يريد جدّه صعصعة، وكان يشتريهن من آبائهن، فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة، والمراد بالصحف صحف الأعمال التي تنشر على العباد حين يقفون للحساب، كشطت: أي كشفت وأزيلت عما فوقها كما يكشط جلد الذبيحة عنها، سعرت: أي أوقدت إيقادا شديدا، أزلفت: أي أدنيت من أهلها وقربت منهم، ما أحضرت: أي ما أعدّ لها من خير أو شر. المعنى الجملي بدأ سبحانه هذه السورة الكريمة بذكر يوم القيامة، وما يكون فيه من حوادث عظام، ليفخّم شأنه، وبين أنه حين تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدمت من عمل خير أو شر، ووجدت ذلك أمامها مائلا، ورأت ما أعدّ لها من جزاء وتمنت إن كانت من أهل الخير أن لو كانت زادت منه، وإن كانت من أهل الشر أن لو لم تكن فعلته، واستبان لها أن الوعيد الذي جاء على ألسنة الرسل كان وعيدا صادقا، لا تهويل فيه ولا تضليل.

الإيضاح

الإيضاح (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي إذا كورت الشمس وأمحى ضوؤها وسقطت حين خراب العالم الذي يعيش فيه الحىّ فى حياته الدنيا، ولا يبقى فى عالمه الآخر الذي ينقلب إليه شىء من هذه الأجرام. (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي وإذا النجوم تناثرت وذهب لألاؤها كما جاء فى قوله: «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» . (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي وإذا الجبال قلعت عن الأرض وسيرت فى الهواء حين زلزلة الأرض، فتقطع أوصالها وتقذف فى الفضاء، وتمر على الرءوس مرّ السحاب ونحو الآية قوله: «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» وقوله: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» . (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) أي وإذا النوق العشار وهى أكرم الأموال لديهم، وأعزها عندهم- أهملت ولم يعن بشأنها لاشتداد الخطب، وفداحة الهول. وهذا على وجه المثل، لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء، ولكن مثّل هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه قاله القرطبي. (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي ماتت وهلكت، تقول العرب إذا أضرّت السنة بالناس وأصابتهم بالقحط والجدب، حشرتهم السنة: أي أهلكتهم، وهلاكها يكون من هول ذلك الحادث العظيم. (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي فجر الزلزال ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرا واحدا وهذا على نحو ما جاء فى قوله: «وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» . وقد يكون المراد من تسجيرها إضرامها نارا. فإن ما فى باطن الأرض من النار يظهر بتشققها وتمزّق طبقاتها العليا، وحينئذ يصير الماء بخارا، ولا يبقى إلا النار.

وقد أثبت البحث العلمي غليان البراكين، وهى جبال النار التي فى باطن الأرض، وتشهد لذلك الزلازل الشديدة التي تشق الأرض والجبال فى بعض الأطراف كما حدث فى مسّينا بإيطاليا سنة 1909 م، وحدث فى اليابان بعد ذلك. وجاء فى بعض الأخبار «إن البحر غطاء جهنم» . وبعد أن عدد ما يحدث من مقدمات الفناء وبطلان الحياة فى الأرض وامتناع المعيشة فيها- أخذ يذكر ما يكون بعد ذلك من البعث والنشور فقال: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي وإذا زوجت الأرواح بأبدانها حين النشأة الآخرة، قاله عكرمة والضحاك والشعبي. وفى هذا إيماء إلى أن النفوس كانت باقية من حين الموت إلى حين المعاد، فبعد أن كانت منفردة عن البدن تعود إليه. (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؟) أي وإذا سئلت الموءودة بين يدى وائدها عن السبب الذي لأجله قتلت، ليكون جوابها أشد وقعا على الوائد، فإنها ستجيب أنها قتلت بلا ذنب جنته. وقد افتنّ العرب فى الوأد، فمنهم من كان إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها ولا يقتلها، أمسكها مهانة إلى أن تقدر على الرعي، ثم ألبسها جبة من صوف أو شعر وأرسلها فى البادية ترعى إبله، وإن أراد أن يقتلها تركها حتى إذا كانت سداسية قال لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرا فى الصحراء حتى إذا بلغها قال لها انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تسوى البئر بالأرض، ومنهم من كان يفعل ما هو أنكى وأقسى من ذلك. فيالله، ما أعظم هذه القسوة بقتل البريئات بغير جرم سوى خوف الفقر أو العار، وكيف استبدلت الرحمة بالفظاظة، والرأفة بالغلظة، بعد أن خالط الإسلام قلوبهم، ومحا وصمة هذا الخزي عنهم.

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي وإذا صحف الأعمال ظهرت للعاملين فى موقف الحساب حتى لا يرتابوا فيها، ولا ينبغى أن نبحث عن تلك الصحف، لنعلم أهي على مثال الأوراق التي نكتب فيها فى الدنيا، أم تشبه الألواح أو نحو ذلك مما جرى استعماله فى الكتابة، فإن ذلك مما لا يصل إليه علمنا، ولم يجئ نص قاطع عن المعصوم صلى الله عليه وسلم يفسر ذلك. (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) فلم يبق غطاء ولا سماء، ولم يوجد ما يطلق عليه اسم الأعلى والأسفل. (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي وإذا جهنم التي يعاقب فيها أهل الكفر والطغيان أوقدت إيقادا شديدا، فيكون ألم من يدخل فيها من أشد الآلام التي تحدث عن مسّ النيران للأجسام الحية، وقد جاء فى سورة البقرة: «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» . (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي وإذا الجنة أدنيت من أهلها: أي أعدت لنزولهم. ونحو الآية قوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» . (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث السالفة، تعلم كل نفس ما كان من عملها متقبلا وما كان منه مردودا عليها، فكثير من الناس كانوا فى الحياة الدنيا مغرورين بما تزينه لهم الشياطين، وسيجدون أعمالهم يوم القيامة غير مقبولة ولا مرضىّ عنها، بل هى مبعدة من الله مستحقة لغضبه فالذين يعملون أعمالهم رئاء الناس ليس لهم من عملهم إلا الجهد والمشقة، ولا تكون متقبلة عند ربهم، فعلينا أن ننظر إلى الأعمال بمنظار الشرع، ونزنها بميزانه الصحيح. والله لا يتقبل من الأعمال إلا ما صدر عن قلب ملىء بالإيمان، عامر بحبه والرغبة فى رضاه، والحرص على أداء واجباته التي فرضها عليه.

[سورة التكوير (81) : الآيات 15 إلى 29]

[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) تفسير المفردات الخنس: واحدها خانس، وهو المنقبض المستخفى يقال خنس فلان بين القوم إذا انقبض واختفى، والكنّس واحدها كانس أو كانسة من قولهم: كنس الظبى إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر والمراد بالخنس الجوار الكنس: جميع الكواكب، وخنوسها: غيبوبتها عن البصر نهارا، وكنوسها: ظهورها للبصر ليلا، فهى تظهر فى أفلاكها، كما تظهر الظباء فى كنسها. وعسعس: أي أدبر، وتنفس: أسفر وظهر نوره، قال علقمة بن قرط: حتى إذا الصبح لها تنفّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا والرسول: هو جبريل عليه السلام، وكريم: أي عزيز على الله، ذى قوة: أي فى حفظه، مكين: أي ذى مكانة وجاه عند ربه يعطيه ما سأله يقال مكن فلان لدى فلان إذا كانت له عنده حظوة ومنزلة، ثمّ (بفتح الثاء) أي هناك، أمين: أي على وحيه ورسالاته، صاحبكم: هو محمد صلى الله عليه وسلم، بالأفق المبين:

المعنى الجملي

أي بالأفق الواضح، وضنين: أي بخيل، رجيم: أي مرجوم مطرود من رحمة الله، فأين تذهبون: أي أىّ مسلك تسلكون وقد قامت عليكم الحجة، أن يستقيم: أي على الطريق الواضح. المعنى الجملي بعد أن ذكر من أحوال يوم القيامة وأهوالها ما ذكر، وبيّن أن الناس حينئذ يقفون على حقائق أعمالهم فى النشأة الأولى، ويستبين لهم ما هو مقبول منها وما هو مردود عليهم- أردف ذلك بيان أن ما يحدّثهم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن الذي أنزل عليه وهو آيات بينات من الهدى، وأن ما رميتموه به من المعايب كقولكم: إنه ساحر أو مجنون، أو كذاب، أو شاعر ما هو إلا محض افتراء، وأن لجاجكم فى عداوته وتألّبكم عليه ما هو إلا عناد واستكبار، وأنكم فى قرارة نفوسكم عالمون حقيقة أمره، ودخيلة دعوته. الإيضاح (فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا إن هذه عبارة للعرب فى القسم تريد بها تأكيد الخبر كأنه فى ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم، وكأنه يقول: أنا لا أقسم بكذا وكذا على إثبات ما أذكره، ولا على وجوده فهو واضح جلىّ ليس فى حاجة إلى الحلف والمراد به القسم المؤكد. (بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي بالكواكب جميعها، وهى تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل: أي تطلع فى أماكنها كالوحش فى كنسها وقد أقسم بها سبحانه، لما فى حركاتها وظهورها طورا واختفائها طورا آخر من الدلائل على قدرة مصرّفها، وبديع صنعه، وإحكام نظامه.

ويرى بعض العلماء أن المراد بها الدرارىّ الخمسة وهى: عطارد، والزّهرة، والمرّيخ، والمشترى، وزحل، لأنها تجرى مع الشمس، ثم ترى راجعة حتى تختفى فى ضوئها، فرجوعها فى رأى العين هو خنوسها، واختفاؤها هو كنوسها. (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي والليل إذا أدبر وولى، وفى إدباره زوال الغمّة التي تغمر الأحياء، بانسدال الظلمة وانحسارها. (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي والصبح إذا أسفر وظهر نوره، وفى ذلك بشرى للأنفس بحياة جديدة فى نهار جديد، إذ تنطلق الإرادات، لتحصيل الرغبات، وسدّ الحاجات، واستدراك ما فات، والاستعداد لما هو آت. ثم ذكر المحلوف عليه فقال: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ) أي إن ما أخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الساعة ليس بكهانة ولا اختلاق، بل هو قول نزل به جبريل وحيا من ربه، وإنما كان قوله لأنه هو الذي حمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: وقد وصف هذا الرسول بخمسة أوصاف: (1) (كَرِيمٍ) أي عزيز على ربه، إذ أعطاه أفضل العطايا، وهى الهداية والإرشاد، وأمره أن يوصلها إلى أنبيائه ليبلغوها لعباده. (2) (ذِي قُوَّةٍ) فى الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ، وقد جاء فى آية أخرى: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى» . (3) (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي ذى جاه ومنزلة عند ربه يعطيه ما سأل. (4) (مُطاعٍ ثَمَّ) أي هو مطاع عند الله فى ملائكته المقربين، فهم يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه. (5) (أَمِينٍ) على وحي ربه ورسالاته، قد عصمه من الخيانة فيما يأمره به، وجنّبه الزلل فيما يقوم به من الأعمال. وبعد أن وصف الرسول وصف المرسل إليه فقال:

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي وليس محمد صلى الله عليه وسلم بالمجنون كما كانت ترميه قريش بذلك حين كانت تسمع منه غريب الأخبار عن اليوم الآخر مما لم يكن معروفا لهم كما حكى عنهم فى قوله: «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» وقوله: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» وقوله: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» . وفى التعبير (بِصاحِبِكُمْ) استدلال عليهم، وإقامة للحجة على كذبهم فى دعواهم، فإنه إذا كان صاحبهم، وكانوا قد خالطوه وعاشروه، وعرفوا عنه ما لم يعرفه سواهم من استقامة، وصدق لهجة، وكمال عقل، ووفور حلم، وتفوّق على جميع الأنداد والأتراب فى صفات الخير- لم يكن ادّعاؤهم عليه ما يناقض ذلك إلا باطلا من القول وزورا. (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي وإن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى، وقد تمثل له جبريل فى مثال يظهر ويبصر، فتجلى لعينيه، وأعلم أنه جبريل فعرفه. وقد ذكرت هذه الرؤية فى سورة النجم فى قوله: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى» . (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وليس محمد بالمتهم على القرآن وما فيه من قصص وأنباء وأحكام، بل هو ثقة أمين لا يأتى به من عند نفسه، ولا يبدل منه حرفا بحرف، ولا معنى بمعنى، إذ لم يعرف عنه الكذب فى ماضى حياته، فهو غير متّهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل وسماع الشرائع منه. ثم نفى عنه فرية أخرى كانوا يتقوّلونها عليه فقال: (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وما هذا الذي يتكلم به محمد بقول ألقاه

الشيطان على لسانه حين خالط عقله كما تزعمون، فإنه قد عرف بصحة العقل، وبالأمانة على الغيب، فلا يكون ما يحدّث به من خبر الآخرة والجنة والنار من قول الشياطين. وقد حكى الله سبحانه عن الأمم جميعا أنهم رموا أنبياءهم بالجنون فقال: «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» . ثم ذكر أنهم قوم قد ضلوا طريق التدبر، وجهلوا سبيل الحكمة فقال: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأىّ سبيل تسلكونها وقد سدّت عليكم السبل، وأحاط بكم الحق من جميع جوانبكم، وبطلت مفتريانكم، فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها. ثم بيّن حقيقة القرآن فقال: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي وما هذا القرآن إلا عظة للخلق كافة يتذكرون بها ما غرز فى طباعهم من حب الخير، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ عليهم بمقتضى الإلف والعادة من ملكات السوء التي تحدثها أمراض البيئة والمجتمع، والقدوة السيئة. ثم بيّن أنه لا ينتفع بهذه النظم كل العالمين فقال: (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي إنه ذكر يتذكر به من وجّه إرادته للاستقامة على جادّة الحق والصواب أما من انحرف عن ذلك فلا يؤثر فيه هذا الذكر ولا يخرجه من غفلته. والخلاصة- إن على مشيئة المكلف تتوقف الهداية، وقد فرض عليه أن يوجه فكره نحو الحق ويطلبه، ويجدّ فى كسب الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ثم دفع توهم أن إرادة الإنسان مستقلة فى فعل ما يريد، وله الاختيار التام فيما يفعل، وهو منقطع العلاقة فى إرادته من سلطان ربه فقال: (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي إن إرادتكم الخير لا تحصل لديكم إلا بعد أن يخلقها الله فيكم بقدرته، الموافقة لإرادته، فهو الذي يودع فيكم

موضوعات هذه السورة الكريمة

إرادة فعل الخير فتنصرف هممكم إليه، ولو شاء لسلبكم هذه الإرادة وجعلكم كالحيوانات لا إرادة لها. وفى قوله: «رَبُّ الْعالَمِينَ» بيان لعلة هذا، فإنه لما كان رب العالمين، وهو الذي منحكم كل ما تتمتعون به من القوى كالإرادة وغيرها، وهو صاحب السلطان عليكم- كانت إرادتكم مستندة إلى إرادته، وخاضعة لسلطانه، فلو شاء أن يوجهها إلى غير ما وجهت له توجهت، ولو شاء أن يمحوها محيت، فله الأمر وله الحكم وهو على كل شىء قدير. موضوعات هذه السورة الكريمة (1) أهوال يوم القيامة. (2) الإقسام بالنجوم وبالليل وبالصبح إن القرآن منزل من عند الله بوساطة ملائكته. (3) إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. (4) بيان أن القرآن عظة وذكرى لمن أراد الهداية، وتوجهت نفسه إلى فعل الخير. (5) مشيئة العبد تابعة لمشيئة الربّ سبحانه، وليس لها استقلال بالعمل.

سورة الانفطار

سورة الانفطار هى مكية، وآياتها تسع عشرة، نزلت بعد سورة النازعات. وهى كسابقتها مبدوءة بوصف أهوال يوم القيامة. [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) شرح المفردات انفطرت: أي انشقت، انتثرت: أي تساقطت متفرقة، فجرت: أي فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من الحواجز واختاط عذبها بملحها، بعثرت: أي قلب ترابها الذي حثى على موتاها، وأزيل وأخرج من دفن فيها، ما قدمت: أي من أعمال الخير، وما أخرت: أي منها بالكسل والتسويف. المعنى الجملي افتتح سبحانه هذه السورة بمثل ما افتتح به سابقتها من ذكر أمور تحدث حين خراب هذا العالم، وتكون مقدمة ليوم العرض والحساب والجزاء، وهو يوم القيامة منها أمران علويان هما: انفطار السماء وانتثار الكواكب، وأمران سفليان هما تفجير البحار وبعثرة القبور. ثم أبان أنه فى ذلك اليوم تتجلى للنفوس أعمالها على حقيقتها. فلا ترى خيرا فى صورة شر، ولا تتخيل شرا فى مثال خير، كما يقع فى الدنيا لأغلب

الإيضاح

النفوس. فيعرف أهل الخير أنهم- وإن نجوا- مقصرون، فيأسفون على ما تركوا ويستبشرون بما عملوا، ويعضّ أهل السوء بنان الندم، ويوقنون بسوء المنقلب، ويتمنون أن لو كانوا ترابا. الإيضاح (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي إذا انشقت السماء وتغير نظامها، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى، عند خراب هذا العالم بأسره. وجاء نحو الآية قوله: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» وقوله: «فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» وقوله: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» . (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي سقطت وتفرقت. وهذا يجىء تاليا لما قبله. إذ متى انشقت السماء وانتقض تركيبها، واختل نظامها- انتثرت كواكبها. (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي أزيل ما بينها من حواجز فاختلط عذبها بملحها. وفاضت على سطح الأرض حينا من الدهر كما قال: «وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» أي ملئت وفاض ماؤها، لاضطراب الأرض وزلزالها الشديد، ووقوع الخلل فى جميع أجزائها. والخلاصة- إن هذا العالم تزول صفاته. وتتبدل أحواله. فتكون الأرض غير الأرض. والسماء غير السماء كما قال: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» . (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي أثيرت وقلب أسفلها أعلاها. وباطنها ظاهرها. ليخرج من فيها من الموتى أحياء.

[سورة الانفطار (82) : الآيات 6 إلى 8]

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي علم كل أحد ما قدم لنفسه من عمل ولم يقصر فيه وعلم ما أخره وتكاسل عن أدائه. وفى هذا ترغيب فى الطاعة، وزجر عن المعصية. [سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) شرح المفردات ما غرك: أي أىّ شىء خدعك وجرّأك على العصيان؟ الكريم: أي العلى العظيم فسواك: أي جعل أعضاءك سويّة سليمة معدّة لمنافعها، فعدلك: أي جعلك معتدلا متناسب الخلق، فى أي صورة ما شاء ركبك: أي ركبك فى صورة هى من أعجب الصور وأحكمها، وكلمة (ما) جاءت زائدة لتفخيم المعنى وتعظيمه، وهى طريقة متبعة فى كلامهم عند إرادة التهويل، وسلوك سبيل التعظيم. المعنى الجملي بعد أن ذكر فى صدر السورة أنه فى يوم القيامة يبدّل نظام هذا العالم، ويسأل الخلائق عما قدمت أيديهم، ويحاسبهم على ما اقترفوا من آثام، ويقرّعهم على تكاسلهم فى أداء ما أمروا به، ويجزيهم أحسن الجزاء على ما قدموا من عمل صالح- أردف هذا بخطاب الإنسان واستفساره عما دعاه إلى مخالفة خالقه، وتماديه فى فجوره وطغيانه، واسترساله مع دواعى النفس الأمارة بالسوء مع أنه لو تدبر فى نفسه وفى خلقه لوجد من شواهد ربوبية خالقه ما هو جدير بشكرانه، ومداومته على

الإيضاح

طاعته وهو للذى خلقه فسواه وجعله على أحسن صورة. وكمله بالعقل والفهم والتدبر فى عواقب الأمور ومصايرها. الإيضاح (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي أيها الإنسان العاقل الذي أوتى من قوة الفكر، وبسطة القدرة ما أوتى حتى صار بذلك أفضل المخلوقات- أىّ شىء خدعك وجرأك على عصيان ربك الكريم الذي أنعم عليك بنعمة الوجود والعقل والتدبر. ولا تزال أياديه تتوالى عليك، ونعمه تترى لديك؟ ألا تشكر من برأك وصورك فأحسن صورتك، وجعلك معتدل القامة، تامّ الخلق. ووصف نفسه بالكريم دون القهار، إيذانا بأن ذلك مما لا يصلح أن يكون مدارا لاغتراره، وإغواء الشيطان له بنحو قوله: افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك فى الدنيا وسيفعل مثل ذلك فى الآخرة، بل هذا يصلح للمبالغة فى الإقبال على الإيمان والطاعة. والخلاصة- كأنه قيل ما حملك على عصيان ربك الذي من صفاته الكرم، الزاجر لك عن عصيانه ومخالفة أمره؟ قال عمر بن الخطاب وقد تلا الآية: غرّه جهله وقرأ: «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» وقال قتادة: غرّه عدوه المسلّط عليه. ثم أجمل ما فصله أوّلا بقوله: (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي ركبك فى صورة هى من أبهى الصور وأجملها، وأدّ لها على بقائك الأبدى فى نشأة أخرى بعد هذه النشأة. فإن الكريم يوفّى كل مرتبة من الوجود حقها، فمن خص بهذه المنزلة الرفيعة لا ينبغى أن يعيش

[سورة الانفطار (82) : الآيات 9 إلى 19]

كما يعيش سائر الحيوان، ويموت كما يموت الوحش وصغار الذرّ، وإنما الذي يليق بعقله وقوة نفسه أن تكون له حياة أبدية لا حد لها، ولا فناء بعدها، يوفّى فيها كل ذى حق حقه، وكل عامل جزاء عمله. [سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 19] كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) شرح المفردات كلا: كلمة تفيد نفى شىء قد تقدم وتحقيق غيره، والدين: الجزاء، حافظين أي يحصون أعمالكم خيرا كانت أو شرا، والأبرار: واحدهم برّ، وهو من يفعل البر (بكسر الباء) ويتقى الله فى كل أفعاله، والفجار: واحدهم فاجر، وهو التارك لما شرعه الله وحدّه لعباده، يصلونها: أي يقاسون حرها، يوم الدين: أي يوم الجزاء، ما أدراك: أي ما أعلمك وعرفك. المعنى الجملي بعد أن ذكر أن من دلائل نعمه على الإنسان خلقه على أحسن صورة. وأن ذلك يدل على أن له حياة أخرى غير هذه الحياة: فيها يجازى بما عمل من خير أو شر- أعقب هذا بيان أنه لا شىء يمنعه عن التصديق بهذا اليوم إلا العناد

الإيضاح

والتكذيب، فالشعور النفسي يوحى به، والدليل النقلى الذي أتى به الرسول يصدقه، والله لم يترك عملا لعباده إلا أحصاه وحفظه، ليوفى كل عامل أجره، فقد وكل الكرام الكاتبين المطهرين عن الغرض والنسيان بكتابته وضبطه. ثم ذكر أن الناس فى هذا اليوم فريقان، بررة مطيعون لربهم فيما به أمر وعنه نهى، وهؤلاء يتقلبون فى النعيم، وفجرة يتركون أوامر الدين، وأولئك يكونون فى دار العذاب والهوان يقاسون حر النار، وأنه فى هذا اليوم لا يجد المرء ما يعوّل عليه سوى ما قدمت يداه، فيجفوه الأولياء، ويخذله الشفعاء، ويتبرأ منه الأقرباء فلا شفيع ولا نصير، ولا وزير ولا مشير، والحكم لله وحده، وهو المهيمن على عباده، وبيده تصريف أمورهم، وهو الصادق فى وعده، العدل الحكيم فى وعيده، فلا مهرب لعامل مما أعدّ له من الجزاء على عمله. الإيضاح (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أي ارتدعوا عن الاغترار بكرمى لكم. فإنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمى عليكم، ويدعوه إرشادى لكم، بل تجترئون على ما هو أعظم منه. فتكذبون بيوم الجزاء والحساب على القليل والكثير، يوم تبعثون للفصل بينكم، فتجازى كل نفس بما عملت، وما قدمت وأخرت. ثم حذرهم من تماديهم فى غيهم ببيان أن أعمالهم محصاة عليهم فقال: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) أي إن أعمالكم محصاة عليكم، فقد وكل بكم ملائكة حفظة، كرام كاتبون يحصون كل ما تعملون من خير وشر. وقد ذكر ذلك فى غير موضع من الكتاب الكريم كقوله: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» وقوله: «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» .

وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة، ولا أن نعرف من أي شىء خلقوا وما عملهم، وكيف يحفظون الأعمال، وهل عندهم أوراق وأقلام، أو هناك ألواح ترسم فيها الأعمال، أو هم أرواح تتجلى فيها تلك الأعمال، فتبقى فيها بقاء المداد فى القرطاس. كل ذلك لم نكلّف العلم به، وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر، وتفويض الأمر فى حقيقته إلى الله. ثم ذكر نتيجة الحفظ والكتابة من الثواب والعقاب، وبين أن العاملين فى ذلك اليوم فريقان، وبين مآل كل منهما فقال: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي وإن أهل الثواب وهم الأبرار يكونون فى دار النعيم. وإن أهل العقاب وهم الفجار يكونون فى دار الجحيم، دار العذاب الأليم يقاسون أهوالها. ثم بين أن هذا العذاب حتم لا منجاة لهم منه ولا مهرب فقال: (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي إنهم لا يغيبون عن الجحيم، ولا ينفكون عن عذابها، بل هم ملازمون لها. ثم عاد إلى تفخيم ذلك اليوم وتهويل أمره فقال: (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أي إن أمرك أيها الإنسان لعجيب، فأنت لاه عن هذا اليوم غير مبال به، وقد كنت خليقا أن تتعرف حقيقة حاله، لتأخذ لنفسك الحيطة، وتتدبر أمرك، ولا تركن إلى عفو ربك وكرمه وصفحه، فإنك لا تدرى ما قدّر لك. ثم زاده توكيدا وتعظيما فقال: (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟) أي ثم عجيب منك أن تتهاون بنبإ هذا اليوم. كأنك قد أدركت كنهه. وعرفت وجه الخلاص مما يلقاك فيه من الأهوال. ولو عرفته حق معرفته للانت قناتك. ورجعت إلى ربك تائبا. وعدت إليه مستغفرا. طالبا الصفح عما قدمت يداك.

ما فى هذه السورة من مقاصد

ثم بين حقيقة أمره فقال: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي يوم لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه ولا أمر إلا الله وحده. فكل امرئ مشغول بما هو فيه، كما قال: «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» وقال: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» . ثم أكد ما سبق بقوله: (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وحده، فلا أحد يحمى أحدا، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا. وقد استأثر الله بالأمر كله، فبيده تصريفه، وإليه المرجع والمآب. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد. ما فى هذه السورة من مقاصد (1) وصف بعض أهوال يوم القيامة. (2) تقصير الإنسان فى مقابلة الإحسان بالشكران. (3) بيان أن أعمال الإنسان موكل بها كرام كاتبون. (4) بيان أن الناس فى هذا اليوم: إما بررة منعمون، وإما فجرة معذبون.

سورة المطففين

سورة المطففين آياتها ست وثلاثون، نزلت بعد سورة العنكبوت، وهى آخر سورة نزلت بمكة. ومناسبتها لما قبلها. أنه قال هناك: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» وذكر هنا ما يكتبه الحافظون: «كِتابٌ مَرْقُومٌ» يجعل فى عليين أو فى سجّين. [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) شرح المفردات ويل: أي هلاك عظيم، والتطفيف: البخس فى الكيل والوزن وسمى بذلك لأن ما يبخس شىء حقير طفيف، اكتالوا على الناس: أي اكتالوا من الناس حقوقهم، يستوفون: أي يأخذونها وافية كاملة، كالوهم: أي كالوا لهم، يخسرون: أي ينقصون الكيل والميزان، يقوم الناس لرب العالمين: أي يقف الناس للعرض على خالقهم، ويطول بهم الموقف إجلالا لعظمة ربهم. المعنى الجملي فصل سبحانه فى هذه السورة ما أجمله فى سابقتها، فذكر فيها نوعا من أنواع الفجور وهو التطفيف فى المكيال والميزان، ثم نوعا آخر وهو التكذيب بيوم الدين ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب وتوبيخهم عليه.

الإيضاح

الإيضاح (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) أي عذاب وخزى شديد يوم القيامة لمن يطفف فى المكيال والميزان. وقد خص سبحانه المطففين بهذا الوعيد، من قبل أنه كان فاشيا منتشرا بمكة والمدينة، فكانوا يطففون المكيال ويبخسونه ولا يوفون حق المشترى. روى أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة له كيلان أحدهما كبير والثاني صغير، فكان إذا أراد أن يشترى من أصحاب الزروع والحبوب والثمار اشترى بالكيل الكبير، وإذا باع للناس كال للمشترى بالكيل الصغير. هذا الرجل وأمثاله ممن امتلأت نفوسهم بالطمع، واستولى على نفوسهم الجثع- هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد، وهم الذين توعّدهم النبي صلى الله عليه وسلم وتهددهم بقوله: «خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلا منعوا النبات، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر» . وقد بين سبحانه عمل المطففين الذي استحقوا عليه هذا الوعيد بقوله: (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي إذا كان لهم عند الناس حق فى شىء من المكيلات لم يقبلوا أن يأخذوه إلا وافيا كاملا، وإذا كان لأحد عندهم شىء وأرادوا أن يؤدوه له أعطوه ناقصا غير واف. واقتصر النظم على الاكتيال حين الاستيفاء، وذكر الكيل والميزان فيه حين الإخساء، لأن التطفيف فى الكيل يكون بشىء قليل لا يعبأ به فى الأغلب، دون التطفيف فى الوزن، فإن أدنى حيلة فيه يفضى إلى شىء كثير، ولأن ما يوزن أكثر

قيمة فى كثير من الأحوال مما يكال، فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم، علم أنهم لا يبقون عليهم والكثير الذي لا يتسامح فيه إلا نادرا بالطريق الأولى. وكما يكون التطفيف فى الكيل والميزان يكون فى أشياء أخرى، فمن استأجر عاملا ووقف أمامه يراقبه ويطالبه بتجويد عمله، ثم إذا كان هو عاملا أجيرا لم يراقب ربه فى العمل ولم يقم به على الوجه الذي ينبغى أن يقوم به- يكون واقعا تحت طائلة هذا الوعيد، مستوجبا لأليم العذاب، مهما يكن عمله، جلّ أو حقر وإذا كان هذا الإنذار للمطففين الراضين بالقليل من السحت فما ظنك بأولئك الذين يأكلون أموال الناس بلا كيل ولا وزن، بل يسلبونهم ما بأيديهم، ويغلبونهم على ثمار أعمالهم، فيحرمونهم التمتع بها، اعتمادا على قوة الملك أو نفوذ السلطان أو باستعمال الحيل المختلفة. لا جرم أن هؤلاء لا يحسبون إلا فى عداد الجاحدين المنكرين ليوم الدين، وإن زعموا بألسنتهم أنهم من المؤمنين المخبتين. ثم هوّل فى شأن هذا العمل فقال: (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إن تطفيف الكيل والميزان واختلاس أموال الناس بهذه الوسيلة- لا يصدر إلا عن شخص لا يظن أنه سيبعث يوم القيامة ويحاسب على عمله، إذ لو ظن ذلك لما طفف الكيل ولا بخس الميزان. والخلاصة- إنه لا يجسر على فعل هذه القبائح من كان يظن بوجود يوم يحاسب الله فيه عباده على أعمالهم، فما بالك بمن يستيقن ذلك. ثم وصف هذا اليوم فقال: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي هذا اليوم هو اليوم الذي يقف فيه الناس للعرض والحساب، ويطول بهم الموقف إعظاما لجلاله تعالى.

[سورة المطففين (83) : الآيات 7 إلى 13]

ولا يخفى ما فى الوصف برب العالمين من الدلالة على عظم الذنب وتفاقم الإثم فى التطفيف، إذ أن الميزان هو قانون العدل الذي قامت به السموات والأرض. وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول: اتق الله تعالى وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن، حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة أنه قال: أشهد أن كل كيال ووزان فى النار، فقيل له: إن ابنك كيال، فقال: أشهد إنه فى النار، وكأنه أراد المبالغة وبيان أن الغالب فيهم التطفيف. [سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 13] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) شرح المفردات سجين: اسم للكتاب الذي دوّنت فيه أعمال الفجرة من الثقلين، مرقوم: من رقم الكتاب إذا جعل له علامة، والعلامة تسمى رقما، معتد: أي متجاوز منهج الحق، أثيم: أي يكثر من ارتكاب الآثام: وهى المعاصي، أساطير الأولين: أي أخبار الأولين أخذها محمد عن بعض السابقين. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنه لا يقيم على التطفيف إلا من ينكر ما أوعد الله به من العرض والحساب وعذاب الكفار والعصاة- أمرهم بالكف عما هم فيه، وذكر أن الفجار

الإيضاح

قد أعدّ لهم كتاب أحصيت فيه جميع أعمالهم ليحاسبوا بها، فويل للمكذبين بيوم الجزاء، وما يكذب به إلا كل من تجاوز حدود الدين وانتهك حرماته، وإذا تليت عليهم آيات القرآن قالوا ما هى إلا أقاصيص الأولين نقلها محمد عن السابقين، وليست وحيا يوحى كما يدعى. الإيضاح (كَلَّا) أي ازدجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن الحساب. ثم علل هذا بقوله: (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) أي كفوا عما أنتم عليه، فإن الفجار سيحاسبون على أعمالهم، وقد أعد الله لهم كتابا أحصى فيه أعمالهم يسمى (سجّينا) . (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟) أي ليس ذلك مما تعلمه أنت ولا قومك. ثم فسره له فقال: (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي كتاب قد جعلت له علامة بها يعرف من رآه أنه لا خير فيه. وقصارى ما سلف- إن للشر سجلا دونت فيه أعمال الفجار وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة، وهذا السجل يشتمل عليه السجل الكبير المسمى بسجين. كما تقول: إن كتاب حساب قرية كذا فى السجل الفلاني المشتمل على حسابها وحساب غيرها من القرى فلكل فاجر من الفجار صحيفة. وهذه الصحائف فى السجل العظيم، المسمى بسجين. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي شدة وعذاب لمن يكذب بيوم الجزاء، سواء كان بجحد أخباره أو بعدم المبالاة بما يكون فيه من عقاب وعذاب.

وأعظم دليل على عدم المبالاة هو الإصرار على الجرائم، والمداومة على اقتراف السيئات. ثم بين أوصاف من يكذب بهذا اليوم فقال: (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي وما يكذب بهذا اليوم إلا من اعتدى على الحق، وعمى عن الإنصاف، واعتاد ارتكاب الجرائم، إذ يصعب عليه الإذعان بأخبار الآخرة، لأنه يأبى النظر فى أدلتها، وتدبر البينات المرشدة إلى صدقها، إلى أنه يعلل نفسه بالإنكار، ويهوّن عليها الأمر بالتغافل، أو التعلق بالأمانى من نصرة الأولياء، أو توسط الشفعاء. أما من كان ميالا إلى العدل، واقفا عند ما حدّ الله لعباده فى شرائعه وسننه فى نظام الكون. فأيسر شىء التصديق باليوم الآخر، وهو أعون له على ما تميل إليه نفسه. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإذا قرئ عليه القرآن أنكر كونه منزلا من عند الله، وزعم أنه أخبار الأولين، أخذها محمد من غيره من السابقين. ونحو الآية قوله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» . وقد يكون المعنى- إنها أباطيل ألقيت على آبائهم الأولين فكذبوها ولم تجز عليهم، فلسنا أول من يكذب بها حتى تزعمون أن تكذيبنا بها يعتبر عجلة منا، فإنا إنما تأسّينا فى تكذيبنا بها بآبائنا الأولين الذين سبقونا.

[سورة المطففين (83) : الآيات 14 إلى 17]

[سورة المطففين (83) : الآيات 14 الى 17] كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) شرح المفردات ران على قبله: أي غطى عليه، قال الزجاج: الرين كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق. وقال أبو عبيدة: ران على قلوبهم غلب عليها، قال الفرّاء: كثرت منهم المعاصي والذنوب، فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها، لمحجوبون: أي لمطرودون عن أبواب الكرامة، لصالوا الجحيم: أي لداخلوا النار وملازموها. المعنى الجملي بعد أن ذكر أنهم قالوا: إن القرآن أساطير الأولين وليس وحيا من عند الله- أردف ذلك بيان أن الذي جرأهم على ذلك هى أفعالهم القبيحة التي مرنوا عليها، فعمّيت عليهم وجوه الآراء حتى صاروا لا يميزون بين الأسطورة والحجة الدامغة. ثم ردّ عليهم فرية كانوا يقولونها، ويكثرون من تردادها- وهى إن كان ما يحدّث به محمد صحيحا فنحن سنكون فى منزلة الكرامة عند ربنا، فأبان لهم أنهم كاذبون، فإنهم سيطردون من رحمته ولا ينالون رضاه، ثم يؤمر بهم إلى النار فيدخلونها ويصلون سعيرها، ويقال لهم هذا العذاب جزاء ما كنتم به تكذبون مما أوعدكم به الرسول. الإيضاح (كَلَّا) زجر لكل معتد أثيم يقول الزور ويزعم أن القرآن أساطير الأولين.

ثم بين سبب الذي حملهم على ذلك فقال: (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليس الأمر كما يقولون من أنه أساطير الأولين، بل الذي جرأهم على ذلك هو أفعالهم التي دربوا عليها واعتادوها فصارت سببا لحصول الرين على قلوبهم، فالتبست عليهم الأمور ولم يدركوا الفرق بين الكذب الفاضح، والصدق الواضح، والدليل اللائح. وبعد أن بين منزلة الفجار والمكذبين بيوم الدين- دحض ما كانوا يقولون من أن لهم الكرامة والمنزلة الرفيعة يوم القيامة فقال: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي ارتدعوا عما تقولون من أنكم يوم القيامة تكونون مقربين إلى الله، فإنكم ستطردون من رحمته ولا تنالون رضاه، ولا تدركون ما زعمتم من القرب والزلفى عنده كما قال: «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» . ثم ذكر ما يكون لهم فوق ذلك فقال: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي وبعد أن يحجبوا فى عرصات القيامة عن الدنو من ربهم، وإدراك أمانيهم التي كانوا يتمنونها- يقذف بهم فى النار ويصلون سعيرها ويقاسون حرها. ثم أرشد إلى أنهم حينئذ يبكّتون ويوبخون فوق ما بهم من الآلام فقال: (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا الذي عوقبتم به- هو جزاء ما كنتم تكذبون به من أخبار الرسول الصادق، كزعمكم أنكم لن تبعثوا، وأن القرآن أساطير الأولين، وأن محمدا ساحر أو كذاب، إلى نحو ذلك من مقالاتكم، والآن قد تبين لكم حقيقة أمركم، وعاينتم بأنفسكم أن ما كان يقوله نبيكم هو الحق الذي لا شك فيه.

[سورة المطففين (83) : الآيات 18 إلى 28]

وما أشد على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يذكّر وهو يتألم، بأن وسائل نجاته من مصابه كانت فى متناول يديه وقد أهملها وألقى بها وراءه ظهريّا. [سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) شرح المفردات عليين: أي فى مكان عال وقد تقدم أن سجينا مكان فى نهاية السفلى، فهما مكانان أودع فيهما أعمال الناجين وأعمال الخاسرين، وليس علينا أن نعرف ما هما؟ أمن أوراق أو أخشاب أو معادن أخرى، والأرائك. هى الأسرّة فى الحجال (والحجال واحدها حجلة وهى مثل القبة) وحجلة العروس بيت: أي خيمة تزين بالثياب والأسرّة والستور، ونضرة النعيم: بهجته ورونقه، ورحيق: أي شراب خالص لا غش فيه، مختوم: أي ختمت أوانيه وسدت، ختامه مسك: أي ما يختم به رأس قارورته هو المسك مكان الطين، وأصل التنافس: التشاجر على الشيء والتنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه، والمراد فليستبق المتسابقون وليجاهدوا النفوس، ليلحقوا بالعاملين، والمزاج والمزج: الشيء الذي يمزج بغيره، والمزج: خاط أحد الشيئين بالآخر، والتسنيم: عين من ماء تجرى من أعلى

المعنى الجملي

إلى أسفل، وهو أشرف شراب فى الجنة، ويكون صرفا للمقرّبين ممزوجا لأصحاب اليمين وسائر أهل الجنة، والمقربون: هم الأبرار الذين سلف ذكرهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه حال الفجار وحال المطففين، وبين منزلتهم عند الله يوم القيامة- أتبعه ذكر حال الأبرار الذين آمنوا بربهم وصدّقوا رسولهم فيما جاء به عن خالقهم، وعملوا الخير فى الحياة الدنيا، فذكر أن الله قد أحصى أعمالهم فى كتاب مرقوم اسمه عليون يشهده المقربون من الملائكة. وبعدئذ عدّد ما ينالون من الجزاء على البر والإحسان. وفى ذلك ترغيب فى الطاعة، وحفر لعزائم المحسنين، ليزدادوا إحسانا، ويدعو الطرق المشتبهة الملتبسة ويقيموا على الطريق المستقيم. الإيضاح (كَلَّا) أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث، ومن أن كتاب الله أساطير الأولين. (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أي إن كتاب أعمال الأبرار مودع فى أعلى الأمكنة، بحيث يشهده المقربون من الملائكة، تشريفا لهم وتعظيما لشأنهم. كما أن الغرض من وضع كتاب الفجار فى أسفل سافلين- إذلالهم وتحقير شأنهم، وبيان أنه لا يؤبه بهم ولا يعنى بأمرهم. ثم عظم شأن عليين وفخم أمره فقال: (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) أي وما أعلمك أي شىء هو؟ ثم فسره وبين المراد منه فقال:

(كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي إن كتابهم فى هذا السجلّ الكبير الذي يشهده المقربون من الملائكة، فكما وكل سبحانه أمر اللوح المحفوظ إليهم، وكل إليهم حفظ كتاب الأبرار. وقد يكون المراد- إنهم ينقلون ما فى تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار. وبعد أن بين منزلة كتاب الأبرار- أخذ يفصل حال الأبرار فقال: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي إن البررة المطيعين لربهم، الذين يؤمنون بالبعث والحساب، ويصدقون بما جاء على لسان رسوله- لفى لذة، وخفض عيش، وراحة بال، واطمئنان فس. ثم ذكر أوصاف هذا النعيم وفخم شأنه فقال: (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي على الأسرة فى حجالها ينظرون إلى أنواع نعيمهم فى الجنة من الحور العين والولدان وأنواع الأطعمة والأشربة والمراكب الفارهة إلى نحو ذلك. ثم بين أثر هذا النعيم على أهل الجنة فقال: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي إنك إذا نظرت إليهم أدركت أنهم أهل نعمة، لما ترى فى وجوههم من الأمارات الدالة على ذلك فمن ضحك، إلى هدوء بال، إلى استبشار كما قال: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ» . (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ) أي يسقون خمرا لا غش فيها، ولا يصيب شاربها خمار ولا يناله منها أذى كما قال تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» . وقد ختمت أوانيها بختام من مسك بدل الطين، تكريما وصونا لها عن الابتذال على ما جرت به العادة من ختم الإنسان على ما يكرّم ويصان.

وهذا النوع من الخمر غير النوع الآخر الذي يجرى فى الأنهار الذي أشار إليه سبحانه بقوله: «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» . ثم رغب فى العمل لذلك النعيم فقال: (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي وفى ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون، وليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة ربهم باتباع أوامره، واجتناب نواهيه. وفى هذا إيماء إلى أن التنافس يجب أن يكون فى مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا فى النعيم الذي يشوبه الكدر وهو سريع الفناء. (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي ومزاج هذا الرحيق ينصبّ عليهم من الأعالى. وقد سئل ابن عباس عن هذا فقال: هذا مما قال الله. «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» . ثم بين هذا التسنيم فقال: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي أمدح عينا يشرب منها الأبرار الرحيق مزاجا إذا أرادوا، وقد وصفهم الله بالمقربين تكريما لهم وزيادة فى مدحهم. وقد اعتاد أهل الدنيا إذا شربوا الخمر أن يمزجوها بالماء ونحوه، فبين لهم أنهم فى الآخرة يشربون رحيقا قد وصف بما يجعل النفوس تتشوق إليه، وأنهم يمزجونه بماء تجيئهم به العين العالية القدر، إذا شاءوا أن يمزجوه. وقصارى ما سلف- أنه سبحانه وصف النعيم الذي أعده للأبرار فى دار كرامته بما تتطلع إليه النفوس، وبما يشوّقها إليه، ليكون حضا للذين يعملون الصالحات على الاسترادة من العمل والاستدامة عليه، وحثا لهمم المقصرين، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد منه ليكون لهم مثل ما لأولئك. إلى ما فيه من تحزين العصاة المصرّين على عصيانهم، وبلوغ الغاية فى إيلامهم، فإن العدو يسوءه أن يرى عدوه فى نعمة، أو يسمع أن النعمة تنتظره.

[سورة المطففين (83) : الآيات 29 إلى 36]

[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) شرح المفردات الغمز: الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء وسخرية، وقد يراد به العيب فيقال غمز فلان فلانا إذا عابه وذكره بسوء. ويقال فلان لا مغمز فيه: أي ليس فيه ما يعاب به، فكهين: أي معجبين بما هم فيه من الشرك والضلالة والعصيان، حافظين: أي رقباء يتفقدونهم ويهيمنون على أعمالهم، والتثويب والإثابة: المجازاة. يقال ثوّبه وأثابه إذا جازاه كما قال: سأجزيك أو يجزيك عنى مثوّب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه النعيم الذي هيأه للذين آمنوا به وبرسوله، وعملوا بما كلفهم به من أعمال البر، وأرشد إلى ما أعده للفجار جزاء ما اجترحوا من السيئات أخذ يبين ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين فى الحياة الدنيا، وما سيقابل به المؤمنون الكفار يوم القيامة كفاء ما صنعوا معهم فى الحياة الأولى. روى أن صناديد قريش كأبى جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وأضرابهم، كانوا يؤذون رسول الله

الإيضاح

صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويستهزئون بهم ويحرضون عليهم سفهاءهم وغلمانهم. وهم الذين قال الله فيهم: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» . وروى أن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه جاء فى نفر من المسلمين فرآه بعض هؤلاء الكفار فسخروا منه وممن معه وضحكوا منهم وتغامزوا بهم، ثم رجعوا إلى بقية شيعتهم من أهل الشرك فحدثوهم بما صنعوا به وبأصحابه. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي إن المعتدين الأئمة الذين ضريت نفوسهم على الشر، وصمّت آذانهم عن سماع دعوة الحق- كانوا فى الدنيا يضحكون من الذين آمنوا. ذاك أنه حين رحم الله العالم ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأى الدهماء من عبادة الأوثان والأصنام، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه الصلاة والسلام، ثم يهمس بها بعض من يلبى دعوته من الضعفاء فيسرّ بها إلى من يرجو الخير فيه ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه. ومن شأن القوى المعتزّ بقوته وكثرة ماله وعزة نفره أن يضحك ممن يخالفه فى المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرف، كما كان ذلك شأن جماعة من قريش كأبى جهل وشيعته، وأمثالهم كثيرون فى كل زمان ومكان، متى عمت البدع وخفى طريق الحق، وتحكمت الشهوات، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل، وإذا صار الناس إلى هذه الحال، ضعف صوت الحق، وازدرى السامعون منهم، بالداعي إليه. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) أي وإذا مر المؤمنون بهم يعيبونهم ويذكرونهم بالسوء، ويشيرون إليهم مستهزئين.

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي وإذا رجعوا إلى ذوى قرابتهم وبنى جلدتهم وأشياعهم من أهل الشرك والضلالة- رجعوا معجبين بما فعلوا من العيب على أهل الإيمان ورميهم بالسّخف وقلة العقل، ويقولون: عجبا لهم، إذ يقولون لا تدعوا إلا إلها واحدا، ولا تتوجهوا بالطلب إلا إليه، فأين الأولياء والشفعاء، فكم ضرّوا وكم نفعوا- إلى نحو ذلك مما يتندرون به ويعدونه فكاهة ويتلذذون بحكايته. (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي وإذا رأوا المؤمنين قالوا إن هؤلاء لضالون، إذ نبذوا ما عليه الكافة، وذهبوا يعيبون العقائد الموروثة والمناسك التي نقلها الخلف عن السلف، كابرا عن كابر، وجيلا بعد جيل. فرد سبحانه على هؤلاء الكفار فقال: (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي إن الله لم يرسل الكفار رقباء على المؤمنين، ولم يؤتهم سلطة محاسبتهم على أفعالهم، وتعريف باطلها من صحيحها، فلا يسوغ لهم أن يعيبوا عليهم ما يعتقدونه ضلالا بعقولهم الفاسدة، وإنما كلفهم أن ينظروا شئون أنفسهم، فيعدّلوا منها ما اعوجّ، فإذا فعلوا ذلك قاموا بما يجب عليهم فى هذه الحياة. ثم شرع يذكر معاملة المؤمنين لهم يوم القيامة، تسلية لهم على ما ينالهم منهم من أذى وتقوية لقلوبهم، وشدّا لعزائمهم على التذرع بالصبر فقال: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) أي إنهم فى يوم الدين يضحك المؤمنون ضحك من وصل به يقينه إلى مشاهدة الحق فسرّ به، وينكشف لهم ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم وخذلان أعدائهم، فضحكوا من أولئك المغرورين الجحدة الذين تجلت لهم عاقبة أعمالهم، وظهر لهم سفه عقولهم وفساد أقوالهم. (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إلى ما صنع الله بأعدائهم، وتنكيله بمن كانوا يفخرون عليهم ويهزءون بهم.

مقاصد هذه السورة

ثم ذكر ما ينظرون إليه ليستيقنوا من حصوله فقال: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي إنهم ينظرون ليتحققوا: هل جوزى الكفار بما كانوا يفعلون بهم فى الدنيا. وإنما سمى الجزاء على العمل ثوابا، لأنه يرجع إلى صاحبه نظير ما عمله من خير أو شر. ولله الحمد على إنعامه، والشكر على إحسانه وإفضاله. مقاصد هذه السورة (1) وعيد المطففين. (2) بيان أن صحائف أعمال الفجار فى أسفل سافلين. (3) الإرشاد إلى أن صحائف أعمال الأبرار فى أعلى عليين. (4) وصف نعيم الأبرار فى مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم. (5) استهزاء المجرمين بالمؤمنين فى الدنيا وتغامزهم بهم وحكمهم عليهم بالضلال. (6) تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة. (7) نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النكال.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق هى مكية، وآياتها خمس وعشرون، نزلت بعد سورة الانفطار. ومناسبتها لما قبلها- أنه فى السابقة ذكر مقر كتب الحفظة، وفى هذه ذكر عرضها يوم القيامة. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) شرح المفردات انشقت: أي تشقّقت بالغمام كما جاء فى قوله: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» وأذنت لربها: أي استمعت له كما قال: صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا وحقّت: أي وحق لها أن تمتثل ذلك أي يجدر بها أن تكون كذلك، قال كثير:

المعنى الجملي

فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقّت لها العتبى لدينا وقلّت مدت: أي بسطت بزوال جبالها ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وألقت ما فيها: أي ألقت ما فى جوفها من الموتى والكنوز، وتخلت: أي خلت مما فيها فلم يبق فيها شىء، كادح: أي جاهد مجدّ. قال شاعرهم: ومضت بشاشة كلّ عيش ... وبقيت أكدح للحياة وأنصب فملاقيه: أي فملاق له عقب ذلك، ينقلب: أي يرجع، أهله: أي عشيرته المؤمنين، وراء ظهره: أي بؤتاه بشماله من وراء ظهره، والثبور: الهلاك أي ينادى ويقول: وا ثبوراه أقبل فهذا أوانك، ويصلى: أي يقاسى، وسعيرا: أي نارا مستعرة، مسرورا: أي فرحا، يحور: أي يرجع قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع والمراد أنه لن يرجع إلى الله، بلى: أي بلى يحور ويرجع. المعنى الجملي بين سبحانه فى أوائل هذه السورة أهوال يوم القيامة، فذكر أنه حين انشقاق السماء واختلال نظام العالم، وانبساط الأرض بنسف ما فيها من جبال، وتخليها عما فى جوفها- يلاقى المرء ربه فيوفيه حسابه، وينقسم الناس حينئذ فريقين: (1) فريق الصالحين البررة، وهؤلاء يحاسبون حسابا يسيرا ويرجعون مسرورين إلى أهلهم. (2) فريق الكفرة والعصاة، وهؤلاء يؤتون كتبهم وراء ظهورهم، ثم يصلون حر النار لأنهم كانوا فرحين بما يتمتعون به من اللذات والجري وراء الشهوات، إذ كانوا يظنون أن لا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب.

الإيضاح

الإيضاح (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) لفساد تركيبها واختلال نظامها، حينما يريد الله خراب هذا العالم بحدث من الأحداث، كأن يمر كوكب فى سيره بالقرب من كوكب آخر، فيتجاذبان ويتصادمان، فيضطرب نظام العالم العلوي بأسره، ويحدث من ذلك غمام يظهر فى مواضع متفرقة من هذا الفضاء الواسع. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي استمعت وانقادت لتأثير قدرته، وفعلت فعل المطواع الذي إذا أمر أنصت وأذعن وامتثل ما أمر به، وفى الحديث: «ما أذن الله لشىء إذنه لنبىّ يتغنى بالقرآن» . (وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تمتثل لأنها مخلوقة من مخلوقاته وهى فى قبضته، فإن أراد تبديد نظامها فعل ولم يكن لها أن تعصى إرادته. (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي وإذا اضطربت الأرض ودكت جبالها، وتقطعت أوصالها، وفقدت ما بينها من التماسك، فليس لها هذا الاندماج المشاهد الآن بل تمدّ مدّ الأديم العكاظىّ كما روى عن ابن عباس (والأديم: الجلد، والعكاظي: المدبوغ فى عكاظ) والمراد أنه لا انشقاق فيها ولا اعوجاج. (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي رمت ما فى جوفها من الناس والمعادن، وأخرجت كل ذلك إلى ظاهرها. ونحو هذا قوله: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» وقوله: «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» وقوله «إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ» . (وَتَخَلَّتْ) أي خلت من جميع ما فى جوفها، وربما قذفته الحركة العنيفة إلى ما يبعد عن سطحها، فيخلو منه باطن الأرض وظاهرها، وهى فى ذلك خاضعة لأوامر ربها، منقادة لمشيئته.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي واستمعت وأطاعت أوامره لأنها فى قبضة القدرة الإلهية تصرّفها فى الفناء، كما صرفتها فى الابتداء. وجواب «إِذَا» الذي صدّرت به السورة محذوف لإرادة التهويل على المخاطبين، فكأنه قيل: إذا كان الأمر كذا وكذا مما تقدم ذكره- ترون ما عملتم من خير أو شر فاكدحوا لذلك اليوم، تفوزوا بالنعيم. وقصارى ذلك- وصف أحوال العالم يوم القيامة «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» وأنه يكون على غير حاله التي هو عليها فى هذه الحياة، فتبدل الأرض غير الأرض والسموات غير السموات، ويبرز الناس للحساب على ما قدموا فى حياتهم من عمل فيجازيهم على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة السوءى، وعلينا أن نؤمن بذلك كله، ونكل علم حقيقته، ومعرفة كنهه إلى الله تعالى الذي لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) أي أيها الإنسان، إنك عامل فى هذه الحياة ومجدّ فى عملك، ومبالغ فى إدراك الغاية إلى أن تنتهى حياتك، وإن كنت لا تشعر بجدك، أو تشعر به وتلهو عنه، وكل خطوة فى عملك فهى فى الحقيقة خطوة إلى أجلك، وهناك لقاء الله، فالموت يكشف عن الروح غطاء الغفلة ويجلو لها وجه الحق، فتعرف من الله ما كانت تنكره، ويوم البعث يرتفع الالتباس. ويعرف كل عامل ما جرّ إليه عمله. والناس حينئذ صنفان: (1) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي فأما من عرض عليه سجلّ أعماله وتناوله بيمينه، فإنه يحاسب أيسر الحساب، إذ تعرض عليه أعماله فيعرّف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية.

وقد روى عن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم حاسبنى حسابا يسيرا، قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: ينظر فى كتابه ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نوقش الحساب فقد هلك» . ومن حوسب هذا الحساب اليسير رجع إلى أهله المؤمنين مسرورا مبتهجا قائلا: «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» . (2) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلى سَعِيراً) أي وأما الذين أكثروا من ارتكاب الجرائم، واجتراح المعاصي، فيؤتون كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم، ومدّ اليسار إلى الكتاب دليل الكراهة، وأظهر فى الدلالة على الكراهة والنفور أن يستدبره ويعرض عنه فيكون من وراء ظهره. وقصارى ما سلف- إن من عرض عليه كتابه وقدم إليه ليأخذه، فاندفع إليه بعزيمة صادقة، لشعوره بأنه مستودع الصالحات، وسجلّ البر والكرامات، فشأنه كذا وكذا. ومن قدّم إليه كتابه وعرض عليه عمله، فخزيت نفسه وخارت عزيمته، فمد إليه يساره أو أعرض عنه فولاه ظهره لشعوره بأنه ديوان السيئات، وسجّين المخازي فأمره كيت وكيت. يرشد إلى ذلك ما ورد من التفصيل فى سورة الحاقة «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» ودعوة الناس إلى القراءة علامة الفرح والنشاط وقوة العزيمة. «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» . ولا شك أن هذا قول المخذول الكاره لما عرض عليه.

والخلاصة- إن إيتاء الكتاب باليمين، أو باليسار أو من وراء الظهر تصوير لحال المطلع على أعماله فى ذلك اليوم، فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر وتناول كتابه بيمينه، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر وأعرض عنها وأدبر، وتمنى لو لم تكشف له، وتناولها باليسار أو من وراء الظهر، وحينئذ يدعو وا ثبوراه، أي يا هلاك أقبل فإنى لا أريد أن أبقى حيا، علما منه بأن ذلك داع إلى طول العذاب، وأنه سيدخل النار ويقاسى سعيرها. ثم ذكر سبحانه سببين فى استحقاقه للعذاب فى الآخرة فقال: (1) (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي لأنه كان فى حياته الدنيا فرحا بطرا لا يفكر فى أمور الآخرة، ويقدم على المعاصي ظنا منه أن لذاتها لا توجب الحسرة، ولا تورث التردي فى نار الجحيم، ومن ثم أبدله الله بهذا النعيم الزائل عذابا لا ينقطع، وآلاما لا تنفد. (2) (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي إنه ظن أن لن يرجع إلى ربه، وأنه لن يبعث الخلق لحسابهم على ما قدموا، ولو علم أن الله سيبدل سروره هما، وفرحه حزنا وغما- لأقلع عما هو فيه، ولترك هذا السرور العاجل السريع الفناء وطلب من السرور ما يبقى ما بقيت الجنة التي لا يفنى نعيمها ولا يزول سرور أهلها. وفى الآية إيماء إلى أن المسخرين لشهواتهم، الساعين وراء لذاتهم ليسوا بظانين فضلا عن أن يكونوا مستيقنين بأنهم يرجعون إلى ربهم ليحاسبهم، بل الراجح عندهم أنهم لا يحاسبون، وأن الله مخلف وعده، وهذا هو الذي ينسيهم ذكره عند كل جرم يجرمونه، فهم وإن كانوا يزعمون الإيمان بالله وبوعده ووعيده، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم. ثم رد عليه ظنه الخاطئ فقال: (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي بلى ليحورنّ وليرجعنّ إلى ربه، وليحاسبنه على عمله، فيجزى على الخير خيرا وعلى الشر شرا، فإن الذي يخلق الإنسان مستعدّا

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 إلى 25]

لما لا يتناهى من الكمال، بما وهبه من العقل، لا ينشئه هذه النشأة الرفيعة لتكون غايته غاية سائر الحيوان، بل تقضى حكمته أن يجعل له حياة بعد هذه الحياة يثمر فيها أعماله، ويوافى فيها كماله. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) شرح المفردات الشفق: هو الحمرة التي تشاهد فى الأفق الغربي بعد الغروب، وأصله رقة الشيء، يقال ثوب شفق: أي لا يتماسك لرقته، ومنه أشفق عليه: أي رق له قلبه قال: تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم وسق: أي ضم وجمع، يقال وسقه فاتسق واستوسق: أي جمعه فاجتمع، وإبل مستوسقة: أي مجتمعة قال: إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لم يجدن سائقا واتسق أي اجتمع نوره وصار بدرا، لتركبنّ: أي لتلاقنّ، والطبق: الحال المطابقة لغيرها، قال الأقرع بن حابس: إنى امرؤ حلبت الدهر أشطره ... وساقنى طبق منه إلى طبق والمراد لتركبن أحوالا بعد أحوال هى طبقات فى الشدة بعضها أرفع من بعض

المعنى الجملي

وهى الموت وما بعده، لا يسجدون: أي لا يخضعون ولا يستكينون، يوعون: أي يجمعون فى صدورهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي، والبشارة: الإخبار بما يسر، واستعملت فى العذاب تهكما، وممنون: أي مقطوع من قولهم منّ فلان الحبل إذا قطعه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أن الإنسان راجع إلى ربه فملاقيه ومحاسبه، إما حسابا يسيرا إن كان قد عمل الصالحات، أو حسابا عسيرا إن كان قد اجترح السيئات، أقسم بآيات له فى الكائنات، ظاهرات باهرات، إن البعث كائن لا محالة، وإن الناس يلقون شدائد الأهوال حتى يفرغوا من حسابهم، فيصير كل أحد إلى ما أعد له من جنة أو نار. ونحو الآية قوله: «بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ» وقوله: «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» فمن عجيب أمرهم أنهم لا يؤمنون به، وأعجب منه أنه إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون له ولا يستكينون، لأن العناد صدهم عن الإيمان، ومنعهم من الإذعان، والله أعلم بما تكنه صدورهم، وسيجازيهم بشديد العذاب. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم ثواب عند ربهم لا ينقطع. الإيضاح (فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا: إن العرب اعتادت أن تأتى بمثل هذا القسم حين يكون المقسم عليه أمرا ظاهرا لا يحتاج إلى التوكيد، فكأنه سبحانه يقول: لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات ما أذكره لكم لأن أمره ظاهر، وثبوته غير محتاج إلى الحلف عليه. ويرى بعض العلماء أنه إنما يستعمل حين يكون الحلف على أمر جليل القدر. عظ الشأن لا يكفى القسم لإثباته. فكأنه سبحانه يقول: لا أقسم بهذه الأشياء

على إثبات ما أريد، لأن إثباته أعظم وأجلّ من أن يقسم عليه بهذه الأمور الهينة والغرض على هذا الوجه تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه. (بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي أقسم بهذه الأشياء التي إذا تدبر الإنسان أمرها، استدل بجلالها وعظمة شأنها على قدرة مبدعها. (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي لتلاقنّ أيها الناس أمورا بعد أمور وأحوالا بعد أحوال، إلى أن تصيروا إلى ربكم وهناك الخلود فى جنة أو نار. ويدخل فى هذه الأحوال جميع الأطوار التي مرت به منذ أن كان نطفة فى بطن أمه إلى أن صار شخصا، وما مرّ به فى حياته الأولى من طفولة وشيخوخة ثم موته ثم حشره للحساب، ثم مصيره إلى الجنة أو النار. والخلاصة- لتركبنّ حالا بعد حال والحال الثانية تطابق الأولى، أي لتكونن فى حياة أخرى تماثل هذه الحياة التي أنتم فيها وتطابقها من حيث الحس والإدراك، والألم واللذة، وإن خالفت فى بعض شئونها الحياة الأولى. وبعد أن ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب أنكر عليهم استبعادهم له فقال: (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟) أي فأىّ شىء حدث لهم حتى جحدوا قدرة الله وأنكروا صحة البعث، وكل شىء أمامهم ينادى بباهر قدرته، ويرشد إلى عظيم سلطانه. وقصارى ذلك- إنه لا شبهة لهم يصح أن يستمسكوا بها على إنكار البعث والحساب. (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي وماذا حدث لهم حتى صاروا إذا قرئ عليهم القرآن لا يعترفون بإعجازه، وبلوغه الغاية التي لا يمكن البشر أن يصلوا إليها فأمرهم عجب، فهم أهل اللسان وأرباب البلاغة والبراعة، وذا يقتضى أن يعلموا إعجازه، ومتى علموه استكانوا وخضعوا له، وأدركوا صحة نبوة الرسول الذي جاء به، ووجبت عليهم طاعته.

مقاصد السورة

ثم بين السبب فى عدم إيمانهم به وانقيادهم له فقال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي إن الدلائل الموجبة للإيمان جلية واضحة، لكنهم قوم معاندون مصرّون على التكذيب إما لأنهم يحسدون الرسول صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله، وإما لخوفهم من فوت المناصب الدينية، والرياسات التقليدية، وإما لأنهم يأبون أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباءهم من عقائد زائفة، وأفعال مستهجنة. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي والله سبحانه مطلع على ما فى قلوبهم من أسباب الإصرار على الشرك ودواعى العناد والاستمرار على ما هم عليه. (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) جزاء إعراضهم على التكذيب والجحود، وإصرارهم على سيىء العمل، وفاسد الاعتقاد. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي لكن الذين آمنوا بالله ورسوله وخضعوا للقرآن الكريم وعملوا بما جاء فيه، فأولئك لهم أجر لا ينقطع مدده، ولا ينقص منه. وفى هذا ترغيب فى الطاعة، وزجر عن المعصية، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين. مقاصد السورة تشتمل هذه السورة على مقصدين: (1) إن الإنسان يلاقى نتائج أعماله يوم القيامة، فيأخذ كتابه بيمينه أو من وراء ظهره. (2) أن الناس فى الدنيا بتنقلون فى أحوالهم طبقة بعد طبقة، إما فى نعيم مقيم، وإما فى عذاب أليم.

سورة البروج

سورة البروج هى مكية، وآياتها ثنتان وعشرون، نزلت بعد سورة الشمس. ومناسبتها لما قبلها: (1) اشتمالها كالتى قبلها على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين، مع التنويه بشأن القرآن وفخامته. (2) أنه ذكر فى السورة السابقة أنه عليم بما يجمعون للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والإلقاء فى حمارة القيظ. وذكر هنا أن هذه شنشنة من تقدمهم من الأمم، ففد عذبوا المؤمنين بالنار كما فعل أصحاب الأخدود. وفى هذا عظة لقريش، وتثبيت من يعذبون من المؤمنين. [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) شرح المفردات البروج: واحدها برج، ويطلق على الحصن والقصر العالي وعلى أحد بروج السماء الاثني عشر، وهى منازل الكواكب والشمس والقمر، فيسير القمر فى كل برج منها

المعنى الجملي

يومين وثلث يوم فذلك ثمانية وعشرون يوما ثم يستتر ليلتين، وتسير الشمس فى كل برج منها شهرا، ستة منها فى شمال خط الاستواء وستة فى جنوبه فالتى فى شماله هى: الحمل والثور والجوزاء والسّرطان والأسد والسّنبلة، والتي فى جنوبه هى الميزان والعقرب والقوس والجدى والدّلو والحوت. وتقطع الثلاثة الأولى فى ثلاثة أشهر أوّلها اليوم العشرون من شهر مارس، وهذه المدة هى فصل الربيع، وتقطع الثلاثة الثانية فى ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الحادي والعشرون من شهر يونيه، وهذه المدة هى فصل الصيف، وتقطع الثلاثة الأولى من الجنوبية فى ثلاثة أشهر أيضا، أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر سبتمبر، وهذه المدة هى فصل الخريف، وتقطع الثلاثة الثانية من الجنوبية فى ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر ديسمبر، وهذه المدة هى فصل الشتاء، واليوم الموعود: هو يوم القيامة، لأن الله قد وعد به، والشاهد والمشهود: جميع ما خلق الله تعالى فى هذا العالم، فإن كل ما خلقه شاهد على جليل قدرته وعظيم حكمته. وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد وهو مشهود أيضا لكل ذى عينين، والأخدود: الشق فى الأرض يحفر مستطيلا، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود: قوم كافرون ذوو بأس وقوة رأوا قوما من المؤمنين فغاظهم إيمانهم فحملوهم على الكفر فأبوا فشقوا لهم شقا فى الأرض وحشوه بالنار وألقوهم فيه، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق وما نقموا منهم: أي ما عابوا عليهم، العزيز: أي الذي لا تغلب قوته، الحميد: أي الذي يحمد على كل حال. المعنى الجملي أقسم سبحانه بما فيه غيب وشهود، وهو السماء ذات البروج، فإن كواكبها مشهود نورها، مرئىّ ضوؤها، معروفة حركاتها فى طلوعها وغروبها، وكذلك البروج

الإيضاح

نشاهدها وفيها غيب لا نعرفه بالحس، وهو حقيقة الكواكب وما أودع الله فيها من القوى وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها. وأقسم بما هو غيب صرف، وهو اليوم الموعود وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب. وأقسم بما هو شهادة صرفة وهو الشاهد: أي ذو الحس، والمشهود: وهو ما يفع عليه الحس. أقسم سبحانه بكل ما سلف إن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم، واشتدادهم فى إيذائهم، حتى خدّوا لهم الأخاديد، وملئوها بالنيران وقذفوهم فيها ولم تأخذهم بهم رأفة، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم، وهم مع ذلك قد صبروا وانتقم الله من أعدائهم وممن أوقع بهم، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر، ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم، وليأخذنّ أعداءكم ولينزلنّ بهم ما لا قبل لهم به. وقد حكى الله هذا القصص، ليكون تثبيتا لقلوب المؤمنين، ووعدا لعباده الصالحين، وحملا لهم على الصبر والمجاهدة فى سبيله، ووعيدا للكافرين وأنه سيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم. «سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ- فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» . الإيضاح (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي قسما بالسماء ذات الكواكب العظيمة التي لم يستطع لها إحصاء ولا عدّ، منها ما لا يصل ضوؤه إلينا إلا فى ألف ألف سنة وخمسمائة ألف، مع أن الضوء يسير فى الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو، ويصل فى سيره إلى القمر فى قدر ثانية وثلث الثانية، ولو جرى حول الكرة

الأرضية لدار حولها فى الثانية الواحدة نحو ثمان مرات، ولو أطلق مدفع فإن قنبلته نجرى نحو سنة ونصف سنة حتى تقطع المسافة التي يقطعها الضوء فى ثانية واحدة. فما أبعد الكواكب التي يصل ضوؤها إلينا بعد مليون سنة ونصف المليون، وإلى أىّ حد هى عظيمة بالنسبة إلى شمسنا. وقد أقسم الله بهذه الكواكب لما فيها من عجيب الصنعة، وباهر الحكمة، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس فى هذه الحياة تدل على أن لها صانعا حكيما مدبرا إلى أنه يحثنا على البحث عن هذه العوالم، لنستدل بذلك على عظيم قدرته، وجليل حكمته. (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) وهو يوم الفصل والجزاء الذي وعد الله به على ألسنة رسله، وفيه يتفرد ربنا بالملك والحكم. (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي وبجميع ما خلق الله فى هذا الكون مما يشهده الناس ويرونه رأى العين، فمنهم من يتدبر ويستفيد من النظر إليه، ومنهم من لا يستفيد من ذلك شيئا. وقصارى ذلك- إنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة، وليعتبروا بما حضر، ويبذلوا جهدهم فى درك حقيقة ما استتر. (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي أخذوا بذنوبهم، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة. ومن حديث ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن رجل ممن كانوا على دين عيسى بن مريم فدعا أهلها إلى دينه وكانوا على اليهودية، وأعلمهم أن الله بعث عيسى بشريعة ناسخة لشريعتهم، فآمن به قوم منهم، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم وكان يتمسك باليهودية. فسار إليهم بجنود من حمير، فلما أخذهم خيرهم بين اليهودية والإحراق بالنار، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار وصار يؤتى

بالرجل منهم فيخيره، فمن جزع من النار وخاف العذاب ورجع عن دينه ورضى اليهودية تركه، ومن استمسك بدينه ولم يبال بالعذاب الدنيوي لثقته بأن الله يجزيه أحسن الجزاء- ألقاه فى النار وكان حولها يشرف على هلاكه. ثم بيّن من هم أصحاب الأخدود فقال: (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) أي إن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها، لا جرم يكون حريقها عظيما، ولهيبها متطايرا. (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها، ويحرقون فيها كما أشار إلى ذلك بقوله: (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي إن أولئك الجبابرة الذين أمروا بإحراق المؤمنين كانوا حضورا عند تعذيبهم، يشاهدون ما يفعله بهم من أتباعهم. وفى هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم، وتمكن الكفر منهم، إلى ما فيه من إشارة إلى قوة اصطبار المؤمنين وشدة جلدهم، ورباطة جأشهم، واستمساكهم بدينهم. وقد يكون المعنى- يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنه لم يقصر فى التنكيل بالمؤمنين. (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إن هؤلاء الكفار لم يعاقبوا المؤمنين إلا على شىء لا يجوز العقاب عليه، بل ينبغى لكل أحد أن يكون عليه، ويدعو غيره إلى التمسك به، وهو الإيمان بالله تعالى العزيز الغالب الذي يخشى عقابه، وتهاب صولته، المنعم الذي يرجى ثوابه، وترتقب نعماؤه. ثم أكد استحقاقه للعزة والحمد بقوله: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لأنه مالك الأمر كله فيهما، فلا مفرّ لأولئك الظالمين من سلطانه، وأن ما يلاقيه المؤمنون ليس إلا امتحانا وابتلاء مما يمحض الله به أهل طاعته، ليبلوهم أيهم أحسن عملا.

[سورة البروج (85) : الآيات 10 إلى 11]

ثم وبخهم على ما صنعوا بالمؤمنين وأوعدهم بأنهم سيلاقون جزاء ما فعلوا فقال: (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو عليم بما يكون من خلقه ومجازيهم عليه. [سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 11] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) شرح المفردات فتنوا: أي ابتلوا وامتحنوا، عذاب الحريق: هو عذاب جهنم ذكر تفسيرا وبيانا له، الفوز الكبير: أي الذي تصغر الدنيا بأسرها عنده، بما فيها من رغائب لا تفنى. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصة أصحاب الأخدود وبين ما فعلوه من الإيذاء والتنكيل بالمؤمنين وذيّل ذلك بما يدل على أنه لو شاء لمنع بعزته وجبروته أولئك الجبابرة عن هؤلاء المؤمنين، وأنه إن أمهل هؤلاء الفجرة عن العقاب فى الدنيا فهو لم يهملهم، بل أجّل عقابهم ليوم تشخص فيه الأبصار- ذكر ما أعد للكفار من العذاب الأليم، جزاء ما اجترحت أيديهم من السيئات التي منها إيذاء المؤمنين، وما أعد للمؤمنين من جميل الثواب، وعظيم الجزاء. الإيضاح (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي إن الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات بالتعذيب، ليردوهم عن دينهم،

وثبتوا على كفرهم وعنادهم ولم يتوبوا حتى أخذهم الموت- أعدّ الله لهم عذابا فى جهنم بالحريق. وقد كان الضالون من كل أمة يؤذون أهل الحق والدعاة إليه، حرصا على ما ألفوا من الباطل، وتشيعا لما وجدوا عليه أنفسهم وآباءهم الأقربين، على غير بصيرة، ولا استشارة للعقل السليم، ولا يزال هذا شأنهم إلى يوم الدين. أنظر إلى أصحاب الأخدود تجدهم قد عرضوا المؤمنين على النار وأحرقوهم بها، وإلى كفار قريش ترهم قد فتنوا المؤمنين بالكثير من الإيذاء، فعذبوا آل ياسر بفنون من العذاب، وعذبوا بلالا بما لا يحصى من ضروب الأذى، وفعلوا مثل هذا بكثير من أكابر المؤمنين، حتى لقد آذوا الرسول الأكرم وألحقوا به كثيرا من العنت والأذى، فرموه بالحجارة حتى أدموه، بل فعلوا معه أكثر من هذا فخرجوا بخيلهم ورجلهم يقاتلونه وأصحابه، ويتمنون لو يتمكنون منه ليقتلوه، ولكن الله منعه منهم: «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» . وفى قوله: «ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا» إيماء إلى أنهم لو تابوا قبل موتهم غفر الله لهم ما قدّموا قبل التوبة من ذنب. وبعد أن ذكر ما أعد لأعدائه من النكال والعذاب الأليم- أرشد إلى ما يكون لأوليائه من النعيم المقيم، ليكون ذلك أنكى للأعداء، وأشد فى غيظهم، وأبعث للأسى والحزن فى نفوسهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي إن الذين أقروا بوحدانية الله وعملوا صالح الأعمال ائتمارا بأوامره وكفوا عن نواهيه ابتغاء رضوانه- لهم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار، وهذا هو الظفر الكبير لهم، كفاء ما قدموا من إيمان وطاعة لربهم.

[سورة البروج (85) : الآيات 12 إلى 16]

[سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 16] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) شرح المفردات البطش: الأخذ بالعنف والشدة، يبدئ ويعيد: أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء مرة أخرى، ليجازيهم بما عملوا فى حياتهم الأولى، الغفور: أي الذي يعفو ويستر ذنوب عباده بمغفرته، الودود: أي الذي يحب أولياءه ويتودّد إليهم بالعفو عن صغير ذنوبهم، ذو العرش: أي صاحب الملك والسلطان والقدرة النافذة، المجيد: أي السامي القدر المتناهي فى الجود والكرم، تقول العرب: «فى كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار» : أي تناهيا فى الاحتراق حتى يقتبس منهما. المعنى الجملي بعد أن ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ووصف ما أعدّ لهم من الثواب كفاء أعمالهم- أردف ذلك كله بما يدل على تمام قدرته على ذلك، ليكون ذلك بمثابة توكيد لما سبق من الوعيد والوعد فالملك لا يعظم سلطانه وهيبته فى النفوس إلا بأمرين: (1) الجود الشامل والإنعام الكامل، وبذا يرجى خيره. (2) الجيوش الجرارة والأساطيل العظيمة التي توقع بأعدائه وتنكل بهم، وبذلك يهاب جانبه، وإليهما معا أشار بقوله فيما سلف: «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» وهنا زاد الأمر إيضاحا بقوله «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» الآية.

الإيضاح

الإيضاح (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي إن انتقامه من الجبابرة والظلمة، وأخذه إياهم بالعقوبة- لهو الغاية فى الشدة، والنهاية فى الأذى والألم. وفى هذا إرهاب لقريش ومن معها، وتعزية لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن معه. وقد زاد سبحانه أمر قدرته توكيدا فقال: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي إنه يخلق الخلق ابتداء، ثم يعيدهم بعد أن صيّرهم ترابا، وإذا كان قادرا على البدء والإعادة فهو قادر على شديد البطش بهم، لأنهم تحت قبضته، وخاضعون لسلطانه. فكأنه سبحانه يقول: إن مرجعكم إلى ربكم، فإذا لم يعاقبكم فى هذه الحياة على ما تعملون مع أوليائه فلا تظنوا أن ذلك إهمال منه أو تقصير فى شأنهم، بل أخر ذلك ليوم ترجعون إليه، وهو اليوم الذي سيكون فيه البطش والانتقام منكم. ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال فقال: (1) (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن يرجع إليه بالتوبة، فيتجاوز عن سيئاته. (2) (الْوَدُودُ) لمن خلصت نفسه بالمحبة له. (3) (ذُو الْعَرْشِ) أي ذو الملك والعظمة، والسلطان والقدرة النافذة، والأمر الذي لا يردّ. (4) (الْمَجِيدُ) أي العظيم الكرم والفضل. (5) (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي لا يريد شيئا إلا فعله وفق إرادته، فإذا أراد هلاك الجاحدين المعاندين ونصر أهل الحق الصادقين لم يعجزه ذلك، وأين هم ممن سبقهم ممن كانوا أضل منهم وأشد قوة؟

[سورة البروج (85) : الآيات 17 إلى 22]

[سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) شرح المفردات الجنود: تطلق تارة على العسكر، وتطلق أخرى على الأعوان والمراد بهم هنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله واجتمعوا على أذاهم، فرعون: هو طاغية مصر، ثمود: قبيلة بائدة من العرب لا يعرف من أخبارها إلا ما قصه الله علينا، محيط: أي هم فى قبضته وحوزته كمن أحيط به من ورائه فانسدت عليه المسالك، مجيد: أي شريف محفوظ: أي مصون من التحريف، والتغيير والتبديل. المعنى الجملي بعد أن ذكر قصص أصحاب الأخدود وبيّن حالهم، ووصف ما كان من إيذائهم للمؤمنين- أردف ذلك ببيان أن حال الكفار فى كل عصر، وشأنهم مع كل نبىّ وشيعته جار على هذا المنهج، فهم دائما يؤذون المؤمنين ويعادونهم، ولم يرسل الله نبيا إلا لقى من قومه مثل ما لقى هؤلاء من أقوامهم. والغرض من هذا كله تسلية النبي وصحبه، وشد عزائمهم على التدرّع بالصبر، وأن كفار قومه سيصيبهم مثل ما أصاب الجنود: فرعون، وثمود. الإيضاح (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي هل بلغك ما صدر من أولئك الجنود من التمادي فى الكفر والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال.

والمعنى- إنه قد أتاك خبرهم وعرفت ما فعلوا، وما جازاهم ربهم به، فذكر قومك بأيام الله، وأنذرهم أنه سيصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم من أهل الضلال. ثم بيّن من هم أولئك الجنود فقال: (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) وحديث هذين مشهور متعارف بينهم، فقد كانوا يعرفون من يهود المدينة وغيرهم ما كان من فرعون مع كليم الله موسى من العناد والإصرار على الكفر، وما كان من عاقبة أمره وأن الله أغرقه فى اليمّ هو وقومه، وأذاقه الوبال فى الآخرة والأولى. كما كانوا يعرفون قصة ثمود مع صالح عليه السلام وأنهم عقروا الناقة التي جعلها الله لهم آية، فدمّر بلادهم وأهلكهم ولم يترك لهم من باقية، وهم يمرّون على ديارهم فى أسفارهم ويسمعون أخبارهم. وخلاصة ذلك- إن الكفار فى كل عصر متشابهون، وأنّ حالهم مع أنبيائهم لا تتغير ولا تتبدل، فهم فى عنادهم واستكبارهم سواسية كأسنان المشط، فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع فى الأمم، فقد سبقتهم أمم قبلهم وحلّ بهم من النكال ما سيحل بقومك إن لم يؤمنوا، «فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» . وقد أشار إلى أن هذه شنشنتهم فى كل عصر ومصر فقال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي إن الكفار فى كل عصر غارقون فى شهوة التكذيب حتى لم يدع ذلك لعقلهم مجالا للنظر، ولا متسعا للتدبر، ولا يزالون فى غمرة حتى يؤخذوا على غرة. ثم سلى رسوله من وجه آخر فقال: (وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي إنه سبحانه مقتدر عليهم وهم فى قبضته لا يجدون مهربا، ولا يستطيعون الفرار، إذا أرادوا. فلا تجزع من تكذيبهم واستمرارهم على العناد، فلن يفوتونى إذا أردت الانتقام منهم.

مقاصد هذه السورة

ثم رد على تماديهم فى تكذيب القرآن وادعائهم أنه أساطير الأولين فقال: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي إن هذا الذي كذبوا به كتاب شريف متفرد فى النظم والمعنى، محفوظ من التحريف، مصون من التغيير والتبديل. واللوح المحفوظ شىء أخبرنا الله به، وأنه أودعه كتابه، ولكن لم يعرّفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن به، وليس علينا أن نبحث فيما وراء ذلك مما لم يأت به خبر من المعصوم صلوات الله عليه وسلامه. مقاصد هذه السورة (1) إظهار عظمة الله وجليل صفاته. (2) إنه يبيد الأمم الطاغية فى كل حين، ولا سيما الذين يفتنون للمؤمنين والمؤمنات.

سورة الطارق

سورة الطارق هى مكية، وآياتها سبع عشرة نزلت بعد سورة البلد. مناسبتها لما قبلها: (1) أنه ابتدأ هذه بالحلف بالسماء كالسورة قبلها. (2) أنه ذكر فى السابقة تكذيب الكفار للقرآن، وهنا وصف القرآن بأنه القول الفصل، وفيه ردّ على أولئك المكذبين. [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) شرح المفردات السماء: كل ما علاك فأظلك، الطارق: هو الذي يجنيئك ليلا، النجم الثاقب: هو الذي يثقب ضوؤه الظلام كأن الظلام جلد أسود والنجم يثقبه، حافظ: أي رقيب يراقبها فى أطوار وجودها، وهو الله تعالى. المعنى الجملي أقسم سبحانه فى مستهل هذه السورة بالسماء ونجومها الثاقبة- إن النفوس لم تترك سدى ولم ترسل مهملة، بل قد تكفل بها من يحفظها ويحصى أعمالها وهو الله سبحانه. وفى هذا وعيد للكافرين وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكأنه يقول لهم: لا تخزنوا لإيذاء قومكم لكم، ولا يضق صدركم لأعمالهم، ولا تظننّ أنا نهملهم ونتركهم سدى، بل سنجازيهم على أعمالهم بما يستحقون، لأنا نحصى عليهم أعمالهم

الإيضاح

ونحاسبهم عليها يوم يعرضون علينا «فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» والعدّ إنما يكون للحساب والحزاء. الإيضاح (وَالسَّماءِ) أكثر فى القرآن الحلف بالسماء وبالشمس وبالقمر وبالليل، لأن فى أحوالها وأشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها من عجائب وغرائب- دلائل لمن يتدبر ويتفكر بأن لها خالقا مدبرا يقوم بشئونها ويحصى أمرها، لا يشركه سواه فى هذا الإبداع والصنع. (وَالطَّارِقِ) أي الكوكب البادي ليلا. (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟) يقولون: وما أدراك ما كذا أي وأىّ شىء يعلمك حقيقته؟ وهو أسلوب من كلامهم يراد به التفخيم والتعظيم، كأنه فى فخامة أمره لا يمكن الإحاطة به ولا إدراكه. ثم فسر هذا الطارق بقوله: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي لا أقسم بكل طارق من الكواكب، بل أقسم بطارق معين هو النجم المضيء الذي يثقب الظلام ونهتدى به فى ظلمات البر والبحر، ونقف به على أوقات الأمطار وغيرها من أحوال يحتاج إليها الإنسان فى معاشه، وهو الثريا عند جمهرة العلماء، ويرى الحسن أن المراد كل كوكب لأن له ضوءا ثاقبا لا محالة. ثم ذكر المقسم عليه فقال: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي أحلف بالسماء وبالنجم الثاقب إن للنفوس رقيبا يحفظها ويدبر شئونها فى جميع أطوار وجودها حتى ينتهى أجلها، وذلك الحافظ والرقيب هو ربها المدبر لشئونها، المصرّف لأمورها فى معاشها ومعادها.

[سورة الطارق (86) : الآيات 5 إلى 10]

[سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 10] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) شرح المفردات دافق: أي منصبّ بدفع وسيلان وسرعة، والصلب: الظهر، والترائب: عظام صدر المرأة، والمراد من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وقال الحسن وروى عن قتادة: يخرج من صلب كل وأحد من الرجل والمرأة، وترائب كل منهما وهو الموافق لما أثبته العلم حديثا كما سيأتى، ورجعه: أي إعادته، تبلى: أي تختبر وتمتحن والمراد تظهر، والسرائر: ما يسرّ فى القلوب من العقائد والنيات وما خفى من الأعمال، واحدها سريرة، قال الأحوص: سيبقى لها فى مضمر القلب والحشا ... سريرة ودّ يوم تبلى السرائر المعنى الجملي بعد أن بيّن سبحانه أن الإنسان لم يترك سدى، ولم يخلق عبثا نبهه إلى الدليل الواضح على صحة معاده، وأنه لا بد أن يرجع إلى ربه ليجازيه على ما عمل، فذكّره بنفسه، ولفت نظره إلى كيفية خلقه ومنشئه، وأنه خلق من الماء الدافق الذي لا تصوير فيه، ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء وغيرها، ثم أنشأه خلقا كاملا مملوءا بالحياة والعقل والإدراك، قادرا على القيام بالخلافة فى الأرض. فالذى خلقه على هذه الأوضاع قادر أن يعيده إلى الحياة فى يوم تتكشف فيه المستورات، وتبين الخفايا، فيكون إبداؤها زينا فى وجوه بعض الناس، وشينا

الإيضاح

فى وجوه بعض آخرين، وليس للمرء حينئذ قوة يدفع بها عن نفسه ما يحل به من العذاب، ولا ناصر يعينه على الخلاص من الآلام. الإيضاح (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟) أي فلينظر بعقله، وليتدبر فى مبدأ خلقه ليتضح له قدرة واهبه، وأنه إذا قدر على إنشائه من موادّ لم تشمّ رائحة الحياة قط فهو على إعادته أقدر فليعمل بما به يسرّ حين الإعادة. ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله: (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي خلق من ماء مدفوق يخرج من الظهر والترائب لكل من الرجل والمرأة، فهو إنما يكون مادة لخلق الإنسان إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع فى رحم المرأة. والخلاصة- إن الولد يتكوّن من منىّ مدفوق من الرجل، فيه جرثومة حية دقيقة لا ترى إلا بالآلة المعظمة (الميكرسكوب) ، ولا تزال تجرى حتى تصل إلى جرثومة نظيرتها من جراثيم المرأة وهى البويضة، ومتى التقت الجرثومتان اتحدتا وكوّنتا جرثومة الجنين. وقد استفتيت فى نظرية الحمل وكيفية تكوين الجنين النطاسي البارع عبد الحميد العرابى بك وكيل مستشفى الملك سابقا، فأجابنى حفظه الله بما يأتى: كيفية حصول الحمل ونمو الجنين فى الرحم قال الله تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» وقال أيضا: «وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» .

اعلم أخى وفقك الله أن فى هاتين الآيتين وما شاكلهما من الآيات سرّا من أسرار التنزيل ووجها من وجوه إعجازه، إذ فيهما معرفة حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنا. بيان هذا: أن صلب الإنسان هو عموده الفقرى (سلسلة ظهره) وترائبه هى عظام صدره، ويكاد معناها يقتصر على حافة الجدار الصدرى السفلى. وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا فى منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب، وذهب فيها المفسرون مذاهب شتى على قدر ما أوتى كل منهم من علم، وإن كان بعيدا عن الفهم الصحيح والرأى السديد. ذاك أنه فى الأسبوع السادس والسابع من حياة الجنين فى الرحم ينشأ فيه ما يسمى (جسم وولف وقناته) على كل جانب من جانبى العمود الفقرى، ومن جزء من هذا تنشأ الكلى وبعض الجهاز البولى، ومن جزء آخر تنشأ الخصية فى الرجل والمبيض فى المرأة. فكل من الخصية والمبيض فى بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصّلب والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقرى تقريبا ومقابل أسفل الضلوع. ومما يفسر لنا صحة هذه النظرية أن الخصية والمبيض يعتمدان فى نموهما على الشريان الذي يمدهما بالدم، وهو يتفرع من الشريان الأورطي فى مكان يقابل مستوى الكلى الذي يقع بين الصلب والترائب، ويعتمدان على الأعصاب التي تمد كلا منهما وتتصل بالضفيرة الأورطية ثم بالعصب الصدرى العاشر، وهو يخرج من النخاع من بين الضلع العاشر والحادي عشر، وكل هذه الأشياء تأخذ موضعها فى الجسم فيما بين الصلب والترائب. فإذا كانت الخصية والمبيض فى نشأتهما وفى إمدادهما بالدم الشرياني وفى ضبط نشئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا فى ذلك كله على مكان فى الجسم يقع بين الصلب والترائب

فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم، وجاء به رب العالمين، ولم يكشفه العلم إلا حديثا بعد ثلاثة عشر قرنا من نزول ذلك الكتاب. هذا، وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ فى الهبوط إلى مكانه المعروف فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها فى الصفن، ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه فى الحوض بجوار بوق الرحم. وقد يحدث فى بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه، فتقف الخصية فى طريقها ولا تنزل إلى الصفن، فتحتاج إلى عملية جراحية حتى تصل إلى وضعها فى الموضع الطبيعي. هذا، والإنسان يبدأ حياته جنينا، والجنين يتكوّن من تلقيح بويضة تخرج من المبيض مندفعة نحو بوق الرحم بالحيوان المنوي الذي تفرزه خصية الرجل، ويكون التلقيح فى الغالب فى داخل أحد البوقين أو فيهما معا، ثم تسير البويضة فى طريقها إلى الرحم حتى تستقر فى قرار مكين إلى أجل مسمى. هذا إذا صادفها أحد الحيوانات المنوية، أما إذا أخطأها التلقيح فتكون ضمن الإفرازات الرحمية التي تطرد فى خارج الجسم. ومما يلاحظ أن إفراز البويضات عند المرأة هو عملية فسيولوجية شهرية لا علاقة لها بالاجتماع الجنسي، غير أن هذا الاجتماع ضرورى لعملية التلقيح بالحيوان المنوي الذي يسبح فى ماء الرجل. ومما سبق تعلم أن الماء الدافق يكون من كل من الرجل والمرأة، أما ماء الرجل فيتكون من الحيوانات المنوية وسوائل أخرى تفرزها الخصية والبر وستاتة والحويصلات المنوية، وهذه السوائل كلها جعلت مباءة ومستقرا للحيوان المنوي الذي يدونه لا يتم التلقيح.

وهكذا الحال فى البويضات التي يفرزها مبيض المرأة، فإنها بعد أن تكون فى المبيض على شكل حويصلة صغيرة تسمى حويصلة (جراف) تنمو وتبلغ أشدها فى نحو شهر حتى تقترب من المبيض ثم تنفجر كما تنفجر الفقاعة وتندفع منها البويضات مع السائل الذي خرج من الفقاعة إلى البوق حيث يقابلها حيوان منوى يقوم بعملية التلقيح- وكلا الماءين ماء الرجل وماء المرأة دافق، أي ينصبّ مندفعا، وهذا هو الحاصل فعلا. ومن هذا يتبين بوضوح أن الإنسان خلق ونشأ من الماء الدافق (ماء الرجل وأ همّ ما فيه الحيوان المنوي وماء المرأة وأ همّ ما فيه البويضة) الذي ينصب مندفعا من عضوين هما الخصية والمبيض، ومنشؤهما وغذاؤهما وأعصابهما كلها بين الصلب والترائب. وقد ثبت فى علم الأجنة أن البويضة ذات الخلية الواحدة تصير علقة ذات خلايا عدّة، ثم تصير العلقة مضغة ذات خلايا أكثر عددا، ثم تصير المضغة جنينا صغيرا وزعت خلاياه إلى طبقات ثلاث يخرج من كل طبقة منها مجموعة من الأنسجة المتشابهة فى أول الأمر، فإذا تمّ نموها كونت جسم الإنسان. وإذا هدى الفكر إلى كل هذا فى مبدإ خلق الإنسان، سهل أن نصدق بما جاء به الشرع وهو البعث فى اليوم الآخر، لأن خلق الإنسان من أجزاء منتشرة متفرقة فى الكون فالماء متولد من الأطعمة التي يتناولها الإنسان، فجمعها الله، ثم جمع الأبوين، ثم جمع ماءهما فى مكان واحد، ثم خلق منه الولد، وليس فى إعادته مثل ذلك، فهى أهون، ومن ثم قال: (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء من هذه المادة- قادر أن يرده حيّا بعد أن يموت. ونحو الآية قوله: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» وأصرح منهما قوله: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» .

[سورة الطارق (86) : الآيات 11 إلى 17]

ثم بيّن وقت الرجع فقال: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي هو قادر على أن يعيد الإنسان إلى الحياة فى اليوم الذي تنكشف فيه السرائر، وتتضح الضمائر، ويتميز الطيب من الخبيث، فلا يبقى فى سريرة سرّ، بل تنقلب كل خفيّة إلى الجهر، ولا يكون جدال ولا حجاج، ولا يبقى لذوى الأعمال إلا انتظار الجزاء على ما قدموا، فإما حلول فى نعيم، وإما مصير إلى عذاب أليم. (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) أي فلا تكون لأحد قوة على الإفلات مما قدّر له جزاء عمله إن كان مسيئا، ولا ناصر ينصره فيحميه مما حتم أن يقع عليه. والخلاصة- إن القوة التي بها يدافع الإنسان عن نفسه، إما من ذاته وقد نفاها بقوله: «فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ» وإما من غيره وقد نفاها بقوله: «وَلا ناصِرٍ» . [سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17] وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) شرح المفردات الرجع: إعادة الشيء إلى حال أو مكان كان فيه أوّلا، والمراد به المطر، وسمى بذلك لكونه يعاد إلى الأرض من السماء، والصدع: الشق الناشئ من تفرق بعض أجزاء الأرض وانفصال بعضها من بعض بالنبات، فصل: أي يفصل بين الحق والباطل، ويقطع الجدل والمراء، يكيدون كيدا: أي يعملون المكايد فى إبطال أمره، وإطفاء نوره، وأكيد كيدا: أي أقابلهم بكيدى فى إعلاء أمره، وانتشار نوره، رويدا: أي قريبا.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن بين قدرته تعالى على إعادة الإنسان بعد الموت، ولفت النظر إلى التدبر فى برهان هذه القدرة- شرع يثبت صحة رسالة رسوله الكريم إلى الناس، وصحة ما يأتيهم به من عند الله، وأهمّ ذلك القرآن الكريم الذي كانوا يقولون عنه: إنه أساطير الأولين، فأقسم بالسماء التي تفيض بمائها، والأرض التي تقيم أمور المعاش للناس والحيوان بنباتها، إنه لقول حق لا ريب فيه. ثم بين أنه عليم بأن الذين يدافعون عن تلك الأباطيل التي هم عليها- قوم ما كرون لا يريدون بك إلا السوء، وسيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، فلا يحزنك ما ترى منهم، ولا تستبطئ حلول النكال بهم، بل أمهلهم قليلا وسترى ما سيحل بهم. ولا يخفى ما هذا من وعيد شديد بأن ما سيصيبهم قريب، سواء أكان فى الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت، ووعد للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكل داع إلى الحق بأنهم سيبلغون من النجاح ما يستحقه عملهم، وأن المناوئين لهم هم الخاسرون. الإيضاح (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي قسما بالسماء ذات المطر، وهو أنفع شىء ينتظره المخاطبون من السماء، إذ يبدّل جدبهم خصبا، ويعيد موات أرضهم حيّا، ويصير به لهب صحرائهم هواء عليلا. (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) أي والأرض التي تتصدع بالنبات والشجر والثمار مما به حياتهم وحياة أنعامهم، وهم فى بلاد قفراء جدباء. ونظير هذا قوله: «ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا» الآية. ثم ذكر المقسم عليه فقال: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي قسما بالسماء والأرض إن هذا القول الذي

جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم لقول حق لا مجال للريب فيه، وهو جدّ لا هزل فيه فمن حقه أن يهتدى به الغواة، وتخضع له رقاب العتاة. أخرج الترمذي والدارمي عن علىّ كرم الله وجهه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنقضى عجائبه. هو الذي لم تنته الجن لما سمعته أن قالوا: «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن هدى به هدى إلى صراط مستقيم» . ثم بين ما يدبرونه للمؤمنين وما تحويه صدورهم من غلّ لهم فقال: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي إنهم يمكرون بالناس بدعوتهم إلى مخالفة القرآن بإلقاء الشبهات كقولهم: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» قولهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» أو بالطعن فيه بكون الرسول ساحرا أو مجنونا أو شاعرا، أو تبييتهم قتله، كما جاء فى قوله: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ» . بعدئذ ذكر ما قابلهم ربهم به وما جازاهم عليه كفاء عملهم فقال: (وَأَكِيدُ كَيْداً) أي وأقابل كيدهم بنصر الرسول وإعلاء دينه، وجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وقد سمى مجازاتهم كيدا منه، للتجانس فى اللفظ كما قال: «نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» . وقال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

مقاصد السورة

ثم أمر رسوله أن يتأنى عليهم، ليرى أخذه تعالى لهم فقال: (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي سر فى دعوتك ولا تستعجل عذابهم، فإنا سنمهلهم ليزدادوا إثما، حتى إذا أخذناهم لم يبق لهم من راحم. ثم أكد طلب الإمهال وأقته بوقت قريب فقال: (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي إنا سنمهلهم قليلا، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال. وفى هذا بعث للطمأنينة إلى قلوب المؤمنين الذين كانوا يخشون صولة الكفار ويحذرون اعتداءاتهم التي لا حد لها، وتخويف لهم من عاقبة إصرارهم على ما هم فيه من الكفر والمشاقّة لله ورسوله وللمؤمنين. ونحو الآية قوله: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» . وصلّ ربنا على محمد وآله، وقنا عذاب الجحيم. مقاصد السورة (1) إن كل نفس عليها حافظ. (2) إقامة الأدلة على أن الله قادر على بعث الخلق كرة أخرى. (3) إن القرآن منزل من عند الله وأن محمدا رسول الله. (4) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالانتظار حتى يحل العقاب بالكافرين.

سورة الأعلى

سورة الأعلى هى مكية وآياتها تسع عشرة، نزلت بعد سورة التكوير. ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى تلك خلق الإنسان، وأشار إلى خلق النبات بقوله: «وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» . وذكر هنا خلق الإنسان فى قوله: «خَلَقَ فَسَوَّى» . وخلق النبات فى قوله: «أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» وقصة النبات هنا أوضح وببسط أكثر، وخلق الإنسان هناك أكثر تفصيلا. أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن النعمان بن بشير «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى العيدين ويوم الجمعة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى- وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا» . [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) شرح المفردات التسبيح: التنزيه، خلق: أي خلق الكائنات، فسوى: أي فسواها ووضع خلقها على نظام كامل، لا تفاوت فيه ولا اضطراب، قدّر: أي قدّر لكل حى ما يصلحه مدة بقائه، فهدى: أي هداه وعرّفه وجه الانتفاع بما خلق له، والمرعى: كل ما تخرجه الأرض من النبات والثمار والزروع المختلفة، والغثاء: ما يقذف به السيل إلى جانب الوادي من الحشيش والنبات، والأجوى: الذي يضرب لونه إلى السواد. قال ذو الرمة: لمياء فى شفتيها حوّة لعس ... وفى اللّثات وفى أنيابها شنب

المعنى الجملي

المعنى الجملي أمر سبحانه رسوله أن ينزه اسمه عن كل ما لا يليق به واسم الله ما يعرف به، والله إنما يعرف بصفاته من نحو كونه عالما قادرا حكيما، وهذا الاسم هو الذي يوصف بأنه ذو الجلال والإكرام، وهو المراد بالوجه فى قوله: «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» وهو المذكور فى قوله: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» أي علمه رسوم الأشياء وما تعرف به. فالله يأمرنا بتسبيح هذا الاسم أي تنزيهه عن أن نصفه بما لا يليق به من شبه المخلوقات، أو ظهوره فى واحد منها بعينه، أو اتخاذه شريكا أو ولدا له، فلا تتجه عقولنا إليه إلا بأنه خالق الكائنات وهو الذي أوجدها وسوّاها، وأنه هو الذي أخرج المرعى ثم جعله جافّا حتى لفظه السيل بجانب الوادي. الإيضاح (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي نزه اسم ربك عن كل ما لا يليق بجلاله فى ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه فلا تذكره إلا على وجه التعظيم له، ولا تطلق اسمه على غيره زاعما أنه يشاركه فى صفاته. ثم وصف ذلك الاسم الأعلى فقال: (1) (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي الذي خلق الكائنات جميعا فسوى خلقها وجعلها منسقة محكمة ولم يأت بها متفاوتة غير ملتئمة، دلالة على أنها صادرة عن عالم حكيم مدبّر، أحسن تدبيرها، فأحكم أسرها. (2) (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي والذي قدر كل واحد منها على ما يستحقه، ويكون به استقرار شأنه فقدر السموات وما فيها من الكواكب، وقدر الأرض وما فيها من المعادن، وما يظهر على وجهها من النبات، وما يعيش عليها من الحيوان

[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 إلى 8]

ثم هدى كل دابة إلى استعمال ما يصلحها، وما هو أمسّ بحاجتها، بما خلق فيها من الميول والإلهامات، لتحصيل ما لها من مقاصد وغايات. (3) (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي والذي أنبت النبات جميعه، لترعاه الدوابّ والنّعم، فما من نبت إلا وهو يصلح أن يكون مرعى لحيوان من الأجناس الحيّة. (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) أي فجعل هذا المرعى بعد أن كان أخضر هشيما باليا كالغثاء يميل لونه إلى السواد، فهو القادر على إنبات العشب، وعلى تبديل حاله، لا الأصنام التي عبدها الكفرة الفجرة. وقصارى ما سلف- إنا مأمورون أن نعرف الله جل شأنه بأنه القادر العالم الحكيم الذي شهدت بصفاته آثاره فى خلقه، وألا ندخل فى هذه الصفات ما لا يليق به، كما أدخل الملحدون الذين اتخذوا من دونه شركاء، أو وصفوه بما به يشبه خلقه. وإنما توجه إلينا الأمر بتسبيح الاسم دون تسبيح الذات، ليرشدنا إلى أن مبلغ جهدنا أن نعرف الصفات بما يدل عليها، أما الذات فهى أعلى وأرفع من أن تتوجه إليها عقولنا إلا بما نلحظ من هذه الصفات بما يدل عليها. [سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 8] سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) شرح المفردات سنقرئك: أي نجعلك قارئا للقرآن، فلا تنسى: أي فلا تنساه بل تحفظه، واليسرى: أعمال الخير التي تؤدى إلى اليسر.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن أمر رسوله بتسبيح اسمه، وعلّم أمته المأمورة بأمر الله له، كيف يمكنها أن تعرف الاسم الذي تسبحه على نحو ما ذكرنا، ولا يكمل ذلك إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن، فكان هذا مدعاة إلى شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على حفظه ومن ثم وعده بأنه سيقرئه من كتابه ما فيه تنزيهه، وتبيين ما أوجب أن يعرف من صفاته، وأحكام شرائعه كما وعده بأنّ ما يقرئه إياه لا ينساه. الإيضاح (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أي سننزل عليك كتابا تقرؤه، ولا تنسى منه شيئا بعد نزوله عليك. وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه القرآن أكثر من تحريك لسانه مخافة أن ينساه، فوعد بأنه لا ينساه. ونحو الآية قوله: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» وقوله: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» . وخلاصة ذلك- إنا سنشرح صدرك، ونقوّى ذا كرتك، حتى تحفظه بسماعه مرة واحدة، ثم لا تنساه بعدها أبدا. ولما كان هذا الوعد على سبيل التأبيد يوهم أن قدرته تعالى لا تسع تغييره جاء بالاستثناء فقال: (إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي فإن أراد أن ينسيك شيئا لم يعجزه ذلك. قال الفرّاء: إنه ما شاء أن ينسى محمد صلى الله عليه وسلم شيئا، إلا أن القصد من هذا الاستثناء بيان أنه لو أراد أن يصيّره ناسيا لقدر على ذلك كما جاء فى قوله: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» .

[سورة الأعلى (87) : الآيات 9 إلى 13]

وإنا لنقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك. وقصارى هذا- إن فائدة هذا الاستثناء بيان أنه تعالى قادر على أن ينسيه، وأن عدم النسيان فضل من الله وإحسان لا من قوّته. ثم أكد هذا الوعد مع الاستثناء فقال: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي إن الذي وعدك بأنه سيقرئك، وأنه سيجعلك حافظا لما تقرأ فلا تنساه- عالم بالجهر والسر، فلا يفوته شىء مما فى نفسك، وهو مالك قلبك وعقلك، وخافى سرك وجهرك، ففى مقدوره أن يحفظ عليك ما وهبك وإن كان من خفيات روحك، ولو شاء لسلبه ولن تستطيع دفعه، لأنه ليس فى قدرتك أن تخفى عنه شيئا. ولما كان فى الوعد بالإقراء الوعد بتشريع الأحكام، وفيها ما يصعب على المخاطبين احتماله- أردف ذلك الوعد بما يزيده حلاوة فى النفوس فقال: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي ونوفقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها، ولا يصعب على العقول فهمها، ورحم الله البوصيرى حيث يقول: لم يمتحنّا بما تعيا العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم وقد جعلت الآية الإنسان هو الميسّر للفعل، وليس الفعل هو الميسر للإنسان، من قبل أن الفعل لا يحصل إلا إذا وجدت العزيمة الصادقة، والإرادة النافذة لإيجاده، مع التوفيق لسلوك أقوم الطرق التي توصل إليه، كما جاء فى الحديث: «اعملوا، فكل ميسّر لما خلق له» . [سورة الأعلى (87) : الآيات 9 الى 13] فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)

شرح المفردات

شرح المفردات التذكر: أن يتنبه الإنسان إلى شىء كان قد علمه من قبل ثم غفل عنه، ومن يخشى الله صنفان: مذعن معترف بالله وببعثه للعباد للثواب والعقاب، ومتردد فى ذلك، الأشقى: هو المعاند المصرّ على الجحد والإنكار، المتمكن من نفسه الكفر، يصلى النار: أي يذوق حرها. والنار الكبرى هى أسفل دركات الجحيم، لا يموت: أي فيستريح ولا يحيا: أي حياة طيبة فيسعد كما أشار إلى ذلك شاعرهم فقال: ألا ما لنفس لا تموت فينقضى ... عناها ولا تحيا حياة لها طعم المعنى الجملي بعد أن وعد سبحانه رسوله بذلك الفضل العظيم وهو حفظ القرآن وعدم نسيانه- أمره بتذكيره عباده بما ينفعهم فى دينهم ودنياهم- وتنبيههم من غفلاتهم وتوجيههم إلى ما فيه الخير لهم، وبين أن الذكرى لا تنجع إلا فى القلوب الخاشعة التي تخشى الله وتخاف عقابه. أما القلوب الجاحدة المعاندة فلا تجدى فيها الذكرى شيئا، فهوّن على نفسك، ولا يحزننّك جحدهم وعنادهم كما أشار إلى ذلك فى آية أخرى فقال: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» . ثم ذكر أن أولئك الجحدة العصاة يكونون فى قعر جهنم لا هم يموتون ولا يسعدون بحياة طيبة. الإيضاح (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي فذكر الناس بما أوحينا به إليك، واهدهم إلى ما فيه من بيان الأحكام الدينية. فإن أصرّ المعاندون على عنادهم ولم يزدهم

وعظك إلا تماديا فى الجحود والإنكار «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» حرصا على إيمانهم، وحزنا على بقائهم على كفرهم، وادع من تعلم أنه يجيبك ولا يحبهك ولا يؤذيك وإلى ذلك أشار بقوله: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي إنما ينتفع بتذكيرك من يخشى الله ويخاف عقابه، لأنه هو الذي يتأمل فى كل ما تذكره له، فيتبين له وجه الصواب، ويظهر له سبيل الحق الذي يجب المعوّل عليه. وفى التعبير بقوله (سَيَذَّكَّرُ) إيماء إلى أن ما جاء به الرسول بلغ حدّا من الوضوح لا يحتاج معه إلا إلى التذكير فحسب، وإنما الذي يحول بينهم وبين اتباعه واقتفاء آثاره- تقليد الآباء والأجداد فكأنهم عرفوه واستيقنوا صحته، ثم زالت هذه المعرفة بانتهاجهم خطة آبائهم من قبل. ثم أشار إلى عدم جدواها بالنظر للمعاندين الجاحدين فقال: (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي ويبتعد عن هذه التذكرة المعاند المصرّ على الجحود عنادا واستكبارا، وهو الذي يذوق حر النار الكبرى فى دركات جهنم كما قال: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» إذ لا يليق بحكمة الحكيم المتعالي أن يسوّى بين من اجترأ عليه وتهاون بأمره وارتكب أشنع الذنوب ومن كان نقىّ الصحيفة ميمون النقيبة، مطيعا لأمره، مؤديا فرائضه منتهيا عن الفحشاء والمنكر. وقصارى ما سلف- إن الناس بالنظر إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أقسام ثلاثة: (1) عارف صحتها، موقن بصدقها، لا يدور بخلده تردّد ولا شكّ، وهذا هو المؤمن الكامل الذي يخشى ربه. (2) متردد متوقف إلى أن يقوم لديه البرهان، فإذا هو سنح له بادر إلى التصديق بها، وهذا أدنى من سابقه.

[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 إلى 19]

(3) شقىّ معاند لا يلين قلبه للذكرى، ولا تنال الدعوة من نفسه قبولا، وهو شر لأقسام الثلاثة، وأبعدها من الخير. ثم بيّن عاقبة هذا الأشقى ومآل أمره فقال: (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي ومن شقى هذا الشقاء، ولقى هذا العذاب بتلك النار- يخلد فيها، ولا يقف عذابه عند غاية، ولا يجد لآلامه نهاية، فلا هو يموت فيستريح، ولا يحيا الحياة الطيبة فيسعد بها. ونحو الآية قوله: «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا. وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» . والعرب تقول لمن هو مبتلى بمرض يقعده: لا هو حىّ فيرجى، ولا ميت فينعى. [سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) شرح المفردات أفلح: أي فاز ونجا من العقاب وتزكى: أي تطهر من دنس الرذائل، ورأسها جحد الحق وقسوة القلب، وذكر اسم ربه: أي ذكر فى قلبه صفات ربه من الكبرياء والجلال، فصلى: أي فخشع وخضعت نفسه لأوامر بارئه، تؤثرون: أي تفضلون. المعنى الجملي بعد أن ذكر وعيد الذين أعرضوا عن النظر فى الدلائل التي تدل على وجود الله ووحدانيته وإرسال الرسل وعلى البعث والحساب- أتبعه بالوعد لمن زكى نفسه

الإيضاح

وطهرها من أدران الشرك والتقليد للآباء والأجداد- بالفوز بالفلاح والظفر بالسعادة فى دنياه وآخرته. ثم ذكر أن من طبيعة النفوس حبّ العاجلة، وتفضيلها على الآجلة، ولو فكروا قليلا لا ستبان لهم أن الخير كل الخير فى تفضيل الثانية على الأولى. ثم أرشد إلى أن أسس الدعوة الدينية فى كل الأديان واحدة، فما فى القرآن هو ما فى صحف إبراهيم وموسى. الإيضاح (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي قد أدرك الفلاح، وظفر بالبغية من طهر نفسه ونقاها من أوضار الكفر، وأزال عنها أدران الشرك والآثام. ومن هذا تعلم أن تزكية النفس إنما تكون بالإيمان بالله ونفى الشركاء، والتصديق بكل ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم مع صالح العمل. (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي وأحضر فى قلبه صفات ربه من الجلال والكمال فخضع لجبروته وقهره. فإن المرء متى تذكر ربه العظيم وجل قلبه، وخاف من سطوته وامتلأت نفسه خشية منه ورهبة لجلاله، كما قال فى آية أخرى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» . ثم رد سبحانه على قوم ممن قست قلوبهم، ولم يأخذوا من العبادات إلا بصورها وظنوا أن ذلك هو غاية ما يطالب الله عباده بقوله. (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي أنتم كاذبون فيما زعمتم لأنفسكم من حسن العمل، لأنكم لو كنتم صادقين فيما ذهبتم إليه لكنتم تفضلون الآخرة على الدنيا، كما يرشد إلى ذلك العقل، ويهدى إليه الشرع، فمتاع الآخرة دائم ونعيمها لا يزول، ولا تنغيص فيه ولا منّ، ومتاع الدنيا متاع زائل تشوبه الأكدار، وتحوط به الآلام، فمن استعجل هذا النعيم، واستحب زينة الدنيا

لا يكون مصدّقا بالآخرة ونعيمها، أو يكون إيمانه إيمانا لا يجاوز طرف لسانه، ولا يصل إلى قلبه، فلا يجازى عليه الجزاء الذي وعد به المؤمنون. ثم بين أن الأصول العامة التي جاءت فى هذه الشريعة هى بعينها التي جاءت فى جميع الشرائع السماوية فقال: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) أي إن ما أوحى به إلى نبيه من أمر ونهى ووعد ووعيد هو بعينه ما جاء فى صحف إبراهيم وموسى، فدين الله واحد، وإنما تختلف صوره، وتتعدد مظاهره، فإذا كان المخاطبون قد آمنوا بإبراهيم أو بموسى فعليهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يأت إلا بما جاء فى صحفهم، وإنما هو مذكّر أو محى لما مات من شرائعهم. ونحو الآية قوله: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» وقوله جل شأنه: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» . وقصارى ذلك- أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا مذكرا بما نسيته الأجيال من شرائع المرسلين، وداعيا إلى وجهها الصحيح الذي أفسده كرّ الغداة ومر العشىّ، كما طمس معالمه اتباع الأهواء، واقتفاء سنن الآباء والأجداد. اللهم وفقنا لسلوك دينك الحق، واهدنا إلى صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

سورة الغاشية

سورة الغاشية هى مكية، وآياتها ست وعشرون، نزلت بعد سورة الذاريات. ومناسبتها لما قبلها- أنه أشير فى السورة السابقة إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا، وبسط الكلام فيها هنا. [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) شرح المفردات الغاشية: القيامة، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وأهوالها، خاشعة: أي ذليلة: عاملة: أي وقع منها عمل فى الدنيا، ناصبة: أي تعبة من قولهم نصب فلان بالكسر: أي تعب، تصلى من قولهم صلى النار (بالكسر) أي قاسى حرها، حامية: أي متناهية فى الحرّ من قولهم حميت النار إذا اشتد حرها، والعين: ينبوع الماء، والآنية الشديدة الحر، والضريع: شجر ذو شوك لائط بالأرض، فإذا كان رطبا سمى بالشّبرق، قال أبو ذؤيب الهذلي: رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وصار ضريعا بان عنه النحائص الإيضاح (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) أي هل بلغك نبأ يوم القيامة وعلمت قصصه، وإننا سنعلمك شأنه الخطير.

وهذا أسلوب من الكلام لا يراد منه حقيقة الاستفهام، بلى يراد منه تعجيب السامع مما سيذكر بعد، وتشويقه إلى استماعه، وتوجيه فكره إلى أنه من الأحاديث التي من حقها أن تتناقلها الرواة، ويحفظها الوعاة. ثم فصل شأن أهل الموقف فى ذلك اليوم، وذكر أن أهله فريقان: فريق الكفرة الفجرة. وفريق المؤمنين البررة، وقد أشار إلى الأولين بقوله: (1) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي وجوه يومئذ يظهر عليها الخزي والهوان مما ترى وتشاهد من الهول. ونحو الآية قوله: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» وقوله: «وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» . والخشوع والذل وإن كان فى الحقيقة لأرباب الوجوه، نسب إلى الوجوه لما كان أثره يظهر عليها. ثم وصف الوجوه بصفات أخرى فقال: (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) أي إن هؤلاء الكفار كانوا فى حياتهم الدنيا يعملون ويجتهدون فى أعمالهم، لكن لم يتقبلها ربهم، لأنهم لم يقدّموا عليها الإيمان بالله ورسوله، وهو الدعامة الأولى فى قبول العمل عنده، ولأنهم لم يقصدوا بها وجهه تعالى، ولأنهم كانوا يجتهدون فى مشاقة الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا. والخلاصة- إن هؤلاء الكفار وقع منهم فى الدنيا عمل، وأصابهم فيه تعب ونصب، لكنهم لم يستفيدوا منه شيئا، فآثار الخيبة وحبوط العمل بادية على وجوههم. ثم ذكر جزاءها فى هذا اليوم فقال: (تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي هذه الوجوه تقاسى حر النار وتعذب بها، لأن أعمالها

فى الدنيا كانت خاسرة، غلبها الشر، وجانبها الخير، وهذه النار الحامية لا نعرف كنهها، ولكن علينا أن نؤمن بها، وبأن حلفاء الباطل يصلونها. (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي إن أهل النار إذا عطشوا فى تلك الدار وطلبوا ما يطفئ غتّهم، جىء لهم بماء من ينبوع بلغ من الحرارة غايتها، فهو لا يطفىء لهبا، ولا ينقع غلّة. وبعد أن ذكر شرابهم أردفه بوصف طعامهم فقال: (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) أي إنهم إذا أحسوا بالجوع وطلبوا الطعام أتى لهم بالضريع وهو ذلك المرعى السوء الذي لا تعقد عليه السائمة شحما ولا لحما، وإن لم تفارقه إلى غيره ساءت حالها، والمراد بهذا كله أنه يؤتى لهم بردىء الطعام. ثم وصف هذا الضريع بأنه لا يجدى ولا يفيد فقال: (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي إن هذا الطعام لا يدفع جوعا، ولا يفيد سمنا، فليس له فائدة الطعام التي لأجلها يؤكل فى الدنيا، وقد سمى الله ذلك الطعام بالضريع تشبيها له، وإلا فذلك العالم ليس فيه نمو أبدان ولا تحلل مواد على النحو الذي يكون فى الدنيا، بل هو عالم خلود وبقاء، واللذائذ فيه لذائذ سعادة، والآلام آلام شقاء، فكل ما فى ذلك العالم إنما يقع بينه وبين ما فى عالمنا نوع مشابهة، لا اتفاق ولا مجانسة. وقد جاء فى سورة الحاقة فى طعام الكافرين: «وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» وفى سورة الواقعة: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» وفى سورة الدخان: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» . فهذا كله يدل على أن طعام النار شىء يوافق النشأة الآخرة، عبر عنه بعبارات مختلفة، ليصور فى أذهاننا بشاعته وخبثه، لتنفر منه نفوسنا، وتطلب كل وسيلة للفرار منه، فتبتعد عن العقائد الفاسدة، والأعمال الخاسرة.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 إلى 16]

[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 16] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) شرح المفردات ناعمة: أي ذات بهجة وحسن، عالية: أي فى المكان لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض، واللاغية: اللغو والكذب والبهتان، عين جارية: أي ينبوع ماء جار، والسرر: واحدها سرير وهو ما يجلس أو ينام عليه، وأفضله ما كان مرفوعا عن الأرض، والأكواب: واحدها كوب وهو ما لا عروة له من الكيزان، موضوعة: أي معدة ومهيأة للشراب، والنمارق: واحدها نمرقة (بضم النون وكسرها) وهى الوسادة قال: كهول وشبّان حسان وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق والزرابيّ: واحدها زربىّ (بكسر الزاى) وزربية وهو البساط، وأصل الزرابي أنواع النبات إذا احمرت واصفرت وفيها خضرة، ويقال أزرب النبات إذا صار كذلك سموا بهذا البسط لشبهها به، ومبثوثة: أي مفرقة فى المجالس بحيث يرى فى كل مجلس شىء منها كما يرى فى بيوت ذوى الثراء. الإيضاح بعد أن وفى الكفرة الفجرة حقهم من الوصف- وصف أهل الإخلاص والصدق لتقرّ أعينهم بما سيلقون من فضله فقال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي ووجوه يومئذ ذات نضرة وبهجة كما قال: «تَعْرِفُ

فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» ولا تكون كذلك إلا إذا كانت منعمة فرحة بما لاقت جزاء سعيها فى الدنيا ورضى الله عنها ومن ثم قال: (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي إنهم جميعا يسعون فى العمل لله حين رأوا ثمرته وعاقبته الحسنى، كالرجل يعمل العمل فيجزى عليه الجميل، ويظهر له منه عاقبة حميدة، فيقول ما أحسن ما عملت، ولقد وفقت إلى الصواب فيما فعلت. وبعد أن وصف أهل الثواب وصف ديارهم بسبعة أوصاف فقال: (1) (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة، لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض. وقد يكون المراد منه العلوّ فى الدرجة، لأن نعيم الجنة بعضه أرفع من بعض فالنعيم الذي يتمتع به السابقون من الأنبياء والشهداء والصالحين أعلى منزلة وأرفع قدرا مما يتمتع به الذين اتبعوهم بإحسان. (ب) (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي إنها منزهة عن اللغو، إذ أنها منزل جيران الله وأحبائه، وقد نالوها بالجد والعمل لا باللغو، ومنازل أهل الشرف فى الدنيا تكون مبرأة من اللغو والكذب والبهتان، فكيف بأرفع المجالس فى جوار رب العالمين، ومالك قلوب الخلق أجمعين. (ح) (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) أي فى تلك الجنة ينبوع ماء جار، والمياه الجارية من الينابيع تكون صافية، وفى منظرها مسرة للنفوس، وقرّة للعيون، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» . (د) (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي مرفوعة عالية إذا جلس عليها المؤمن رأى جميع ما أعطاه الله من النعيم ورأى من فى الجنة وفى ذلك من التشريف والتكريم ما لا خفاء فيه.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 إلى 20]

(هـ) (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) على حافات العيون كلما أرادوا الشرب وجدوها. (و) (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) أي ووسائد مصفوف بعضها إلى جوانب بعض، فإن شاءوا جلسوا عليها، وإن أرادوا استندوا إليها، وإن أحبوا أن يجلسوا على بعضها ويستندوا إلى بعض فعلوا. (ز) (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) أي وبسط مبسوطة فى المجالس، بحيث يرى فى كل مجلس من مجالسهم منها شىء، كما يرى فى بيوت المترفين وذوى الثراء فى الدنيا. وقد ذكر سبحانه كل ما سلف تصويرا لترف أهل الجنة تصويرا يقرّبه من عقولهم، ويستطيعون به إدراكه وفهمه، وإلا فإن نعيم الجنة مما يسمو على الفكر ويعلو فوق متناول الإدراك فالأشياء التي عدّدها سبحانه تتشابه مع نظائرها التي فى هذه الحياة بأسمائها، فأما حقائقها وذواتها فليست مثلها ولا قريبا منها، كما أثر عن ابن عباس أنه قال: ليس فى الدنيا مما فى الآخرة إلا الأسماء. [سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 20] أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) شرح المفردات الإبل: واحدها بعير ولا واحد لها من لفظها كنساء وقوم، ورفع السماء. إمساك ما فوقنا من شموس وأقمار ونجوم، ونصب الجبال: إقامتها أعلاما للسائرين، وملجأ للحائرين، وسطح الأرض: تمهيدها وتوطئتها للإقامة عليها والمشي فى مناكبها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه مجىء يوم القيامة، وبين أن الناس حينئذ صنفان أشقياء وسعداء وأن الأشقياء يكونون فى غاية الذل والهوان، وأن السعداء يكونون يومئذ مستبشرين بادية على وجوههم علائم المسرة- أعقب هذا بإقامة الحجة على الجاحدين المنكرين لذلك، وتوجيه أنظارهم إلى آثار قدرته فيما بين أيديهم، وما يقع تحت أبصارهم من سماء تظلّ، وأرض تقلّ، وإبل ينتفعون بها فى حلّهم وترحالهم، ويأكلون من لحومها وألبانها ويلبسون من أوبارها، وجبال تهديهم فى تلك الفيافي والقفار. أخرج عبد بن حميد فى آخرين عن قتادة قال: لما نعت الله تعالى ما فى الجنة تعجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله تعالى هذه الآيات. الإيضاح (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) أي أينكر هؤلاء المشركون ما ذكرنا من أمر البعث وما يتصل به من سعادة وشقاء، ويستبعدون وقوعه، ولا يتدبرون فى الإبل التي هى نصب أعينهم، ويستعملونها فى كل حين؟ ولو أنهم تدبروا فى خلقها لرأوا خلقا بديعا لا يشاكل خلق أكثر الحيوان، فلها من عظم الجثة، وشدة القوة، وعظيم الصبر على الجوع والعطش ما لا يشاركها فيه حيوان آخر- إلى أنها تحتمل المشاقّ، وتنهض بالأوقار، وتقطع شاسع المسافات، حتى لقبوها: سفينة الصحراء- قال شاعرهم: ما فرّق الألا ... ف بعد الله إلا الإبل وما غراب ... البين إلا ناقة أو جمل إلى أنها تنقاد للصغير والكبير وتحمل أذاهما. قال العباس بن مرداس: وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير

وتكتفى فى المرعى بما تيسر لها من الشوك والشجر، إلى أنها أعجب ما عندهم، وهم واقفون على أحوالها، عالمون بطباعها. وجاء الكلام بطريق الاستفهام، إنكارا عليهم، وتوبيخا لهم على جحد أمر البعث. (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي ألا يشاهدون السماء وقد رفعت رفعا سحيق المدى بغير عمد؟ (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أي وإلى الجبال كيف وضعت وضعا ثابتا لا ميدان فيه ولا اضطراب، فيتسنى ارتقاؤها فى كل حين، وتجعل أمارة للسالكين فى تلك الفيافي والقفار، وتنزل عليها المياه التي ينتفع بها فى سقى النبات ورىّ الحيوان. (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) ومهدت على ما يقتضيه صلاح أمور ساكنيها وانتفاعهم بما فى ظاهرها من المنافع وما فى باطنها من المعادن. وقصارى ما سلف- إنه لو نظر هؤلاء الجاحدون المعاندون فيما تقع عليه أنظارهم من هذه الأشياء وفكروا فيها، لعلموا أنها صنعة لا توجد إلا بموجد عظيم، ولا تحفظ إلا بحافظ قدير، ولأدركوا أن القادر على خلق هذه المخلوقات وسوّاها وحفظها ووضعها على قواعد الحكمة- قادر على أن يرجع الناس فى يوم يوفى فيه كل عامل جزاء عمله، وأن ينشئ النشأة الآخرة من غير أن يعرفوا طريق إنشائها، فلا ينبغى أن يكون جهلهم بكيفية يوم القيام سببا فى جحده وإنكاره. وإنما خص هذه المخلوقات بالذكر، لأن الناظر منهم يفكر فى أقرب الأشياء إليه، فهو يرى بعيره الذي يمتطيه، ثم إذا هو رفع رأسه فوق رأى السماء، ثم إذا التفت يمنة أو يسرة رأى ما حواليه من الجبال فإذا مدّ ناظريه أمامه أو تحته رأى الأرض، فالعربى يرى ذلك كل يوم، ومن ثمّ أمره الله بالتدبر فيها.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 إلى 26]

[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 الى 26] فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) شرح المفردات فذكر: أي عظ قومك وابعثهم على النظر فى ملكوت السموات والأرض، بمسيطر: أي بمسلط تجبرهم على ما تريد، إيابهم: أي رجوعهم. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه دليل قدرته تعالى على بعث الأجساد ولفت أنظار الجاحدين إلى مظاهر قهره وغلبته لهذا العالم، ثم وبخهم على إنكارهم وتماديهم فى باطلهم، على وضوح الحجة وظهور البرهان، أردف ذلك أمره صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بهذه الأدلة وأشباهها مما لا يبقى معه مجال للشك والتردد. الإيضاح (فَذَكِّرْ) بآياتى، وعظهم بحججي، وبلغهم رسالاتى، وحذرهم أن يتركوا ذلك، ثم بعدئذ لا تذهب نفسك عليهم حسرات إن لم يؤمنوا. ثم علل الأمر بالتذكير فقال: (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي إنما بعثت للتذكير فحسب وليس من الواجب عليك أن يؤمنوا: فما عليك إلا التبشير والتحذير، فإن آمنوا فقد اهتدوا إلى ما تسوق إليه الفطرة، وإن أعرضوا فقد تحكمت فيهم الغفلات، وتغلبت عليهم الشهوات، واستولت على عقولهم الأهواء والجهالات. ثم أكد الإنذار وقرره بقوله:

مقاصد هذه السورة

(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي لست عليهم بمسلط تجبرهم على ما تريد، وتتعهد أحوالهم، وتكتب أعمالهم، فلم نؤت قوة الإكراه على الإيمان، والإلجاء إلى ما تدعوهم إليه كما قال: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟» وقال: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» . (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) أي إنك وإن كنت داعيا وليس لك سلطان على ما فى نفوسهم، فالله هو المسيطر عليهم، وصاحب السلطان على سرائرهم فمن تول منهم وأعرض عن الذكرى، وجحد الحق المعروض عليه فالله يعذبه العذاب الأكبر فى الآخرة وقد يضم إلى ذلك عذابا فى الدنيا من قتل أو سبى الذرية أو غنيمة للأموال، إلى نحو أولئك من صنوف البلاء التي ينزلها بهم. ثم أكد تعذيب الله لمن تولى وكفر فقال: (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي لا مفرّ للمعرضين، ولا خلاص لهم من الويل الذي أوعدوا به فإنهم راجعون إلينا، وقد حق القول منا فى عقابهم وسنحاسبهم على ما كسبت أيديهم. وفى هذا تسلية لقلب رسوله، وإزالة أحزانه وآلامه، لتكذيبهم إياه، وإصرارهم على معاندته. وصلى الله على محمد وآله البررة الكرام. مقاصد هذه السورة تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد: (1) وصف أهل الجنة ووصف أهل النار. (2) ذكر عجائب الصنعة الإلهية. (3) أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالتذكير بما أرسل إليه من الشرائع.

سورة الفجر

سورة الفجر هى مكية، وآياتها ثلاثون، نزلت بعد سورة الليل. ومناسبتها لما قبلها. (1) أنه ذكر فى تلك الوجوه الخاشعة والوجوه الناعمة، وذكر فى هذه طوائف من المكذبين المتجبرين الذين وجوههم خاشعة، وطوائف من الذين وجوههم ناعمة. (2) أن القسم الذي فى أول السورة كالدليل على صحة ما تضمنته خاتمة السورة السابقة من الوعد والوعيد. [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) الإيضاح (وَالْفَجْرِ) الفجر هو الوقت الذي ينشق فيه الضوء، وينفجر النور، وقد أقسم ربنا به، لما يحصل فيه من انقضاء الليل، وظهور الضوء، وما يترتب على ذلك من المنافع كانتشار الناس وسائر الحيوان من الطير والوحش لطلب الرزق، وهو كقوله: «وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» وقوله: «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» . (وَلَيالٍ عَشْرٍ) هى عشر ليال يتشابه حالها مع حال الفجر، فيكون ضوء القمر فيها مطارد الظلام الليل إلى أن تغلبه الظلمة، كما يهزم ضوء الصبح ظلمة الليل حتى يسطع النهار، ولا يزال الضوء منتشرا إلى الليل الذي بعده.

وضوء الأهلة فى عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام، ثم لا يزال الليل يغالبه إلى أن يغلبه، فيسدل على الكون حجبه، وهذه الليالى العشر غير متعينة فى كل شهر فإن ضوء الهلال قد يظهر حتى تغلبه الظلمة فى أول ليلة من الشهر. وقد يكون ضئيلا يغيب ضوؤه فى الشفق فلا يعدّ شيئا. والخلاصة- إن الليالى العشر تارة تبتدئ من أول ليلة، وأخرى من الليلة الثانية. (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أي والزوج والفرد من هذه الليالى فهو سبحانه أقسم بالليالي جملة ثم أقسم بما حوته من زوج وفرد. وبعد أن أقسم بضروب من الضياء أقسم بالليل مرادا منه الظلمة فقال: (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي والليل إذا يمضى ويذهب، وهو كقوله: «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» وقوله: «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ» . ونعمة الله على عباده بتعاقب الليل والنهار واختلاف مقاديرهما بحسب الأزمنة والفصول- مما لا يجحدها إلا مكابر، لا جرم أقسم ربنا بهما تنبيها إلى أن تعاقبهما بتدبير مدبر حكيم، عالم بما فى ذلك من المصلحة لعباده. انظر إلى ما فى إقبال الصبح من عميم النفع، فإنك لترى أنه يفرج كربة الليل وينبه إلى استقبال العمل، وكذلك تدرك ما فى الليالى المقمرة من فائدة، فهى تستميل النفس إلى النّقلة، وتيسر للناس النّجعة، وبخاصة فى أيام الحر الشديد فى بلاد كبلاد العرب. وكذا نعرف ما فى الظلام من منفعة، فإن فيه تهدأ النفوس، وتسكن الخواطر وتستقر الجنوب فى مضاجها، لتستريح من عناء العمل، وتستعين بالنوم على إعادة القوى، وتختفى الناس من مطاردة اللصوص، ولله در المتنبي حيث يقول: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أنّ المانوية تكذب

[سورة الفجر (89) : الآيات 6 إلى 14]

ثم قرر فخامة الأشياء التي أقسم بها قبل، وكونها أهلا لأن تعظم فقال: (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) الحجر (بكسر الحاء وسكون الجيم) العقل، ويقولون: فلان ذو حجر: إذا كان قاهرا لنفسه، ضابطا لها، مضيّقا عليها. والمراد أن من كان ذا لبّ وعقل يفطن إلى أن فى القسم بهذه المخلوقات المشتملة على باهر الحكمة، وعجيب الصنعة، الدالة على وحدانية صانعها- مقنعا أيّما مقنع، وكفاية أعظم كفاية. وجاء الكلام بصورة الاستفهام لتأكيد المقسم عليه وتقريره، كما تقول لمن يحاجّك فى أمر ثم تقيم له الحجة الناصعة التي تثبت ما تدّعى: هل فيما ذكرت لك كفاية، ومرادك أنى قد ذكرت لك أقوى الحجج وأبينها، فلست تستطيع جحد ما قلت بعد هذا. وجواب القسم محذوف يدل عليه قوله بعد: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ» الآية، ويقدر بنحو قوله إن ناصية المكذبين بيدي، ولئن أمهلتهم فلن أهملهم، ولآخذنهم أخذ الأمم قبلهم، وقد ترك لتسترسل نفس القارئ فى تأمل ما مضى وما يتبع ليجد الجواب بينهما، فيتمكن المعنى لديه فضل تمكن. [سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 14] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) شرح المفردات عاد: جيل من العرب البائدة يقولون إنه من ولد عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ويلقب أيضا بإرم، وذات العماد: أي سكان الخيام، وكانت منازلهم بالرمال والأحقاف إلى حضر موت.

المعنى الجملي

وثمود: قبيلة من العرب البائدة كذلك وهى من ولد كاثر بن إرم بن سام، ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز، جابوا الصخر: أي قطعوه ونحتوه، بالواد: أي الوادي الذي كانوا يسكنون فيه، وفرعون: هو حاكم مصر الذي كان فى عهد موسى عليه السلام، والأوتاد: المبانى العظيمة الثابتة، والطغيان: تجاوز القدر فى الظلم والعتوّ، وصب: أي أفرغ وألقى، وسوط عذاب: أي أنواعا من العقوبات التي أنزلها عليهم جزاء طغيانهم، والمرصاد: هو المكان الذي يقوم فيه الرصد، والرصد من يرصد الأمور: أي يترقبها ليقف على ما فيها من الخير والشر، ويطلق أيضا على الحارس الذي يحرس ما يخشى عليه. المعنى الجملي بعد أن أقسم سبحانه أنه سيعذب الكافرين جزاء كفرهم وإصرارهم على مخالفة أوامره- شرع يذكر بعض قصص الأمم السالفة ممن عاندوا الله ورسوله ولجوا فى طغيانهم فأوقع بهم شديد العذاب وأخذهم أخذ العزيز الجبار، ليكون فى ذلك زجر لهؤلاء المكذبين. وتثبيت للمؤمنين الذين اتبعوا الرسول وناصروه، وتطمين لقلوبهم بأن أعداءهم سيلقون ما يستحقون من الجزاء. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ؟) أي ألم تعلم أيها الإنسان، كيف أهلك ربك عادا الأولى الذين كانوا أشد الناس أجساما وأطولهم قامة، وأرفعهم مكانة، والذين لم يخلق فى البلاد كلها مدينة كمدينتهم. (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي وثمود الذين قطعوا الصخر ونحتوه وبنوا منه القصور والأبنية العظيمة كما قال فى آية أخرى: «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ» .

وفى هذا دليل على ما أنعم الله به عليهم من القوة والعقل وحسن التدبير. (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي وفرعون ذى المبانى العظيمة التي شادها هو ومن قبله من فراعنة مصر فى قديم الأزمان كالأهرام وغيرها وما أجمل التعبير عما تركه المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد، فإن شكل هياكلهم العظيمة شكل الأوتاد المقلوبة، إذ يبتدئ البناء عريضا وينتهى بأدق مما بدأ. ثم وصف من سبق ذكرهم بأقبح الأوصاف فقال: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي هؤلاء الذين سلف ذكرهم من عاد وثمود وفرعون قد استعملوا سلطانهم وقوتهم فى هضم حقوق الناس، واغتروا بعظيم قدرتهم، فكانوا سببا فى إفساد البلاد. ذاك أن من اغتر بنفسه وتهاون بحقوق غيره واعتدى عليها، وأخذ ما ليس له ولم يعط الذي عليه- يكون قد فكك شمل الجماعة وأفسد فى البلاد، فيختل نظام العمران، ويقف دولاب التعامل، ويوجس كل امرئ خيفة من بنى جلدته، ولا شك أن أمما هذه حالها تكون عاقبتها الخراب والدمار، ومن ثم ذكر عاقبة أمرها فقال: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي فأنزل الله تعالى بهم ألوانا من البلاء، وشديد العقاب. وقد شبه سبحانه ما أوقعه بهم من صنوف العذاب، وما صبّه عليهم من ضروب الهلاك- بالسوط، من قبل أن السوط يضرب به فى العقوبات، والله يوقع العذاب بالأمم عقوبة لها على ما يقع منها من أنواع التفريط فى أوامر دينه. ثم ذكر العلة فى تعذيبه لهم فقال: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي إن شأن ربك ألا يفوته من شئون عباده نقير

[سورة الفجر (89) : الآيات 15 إلى 16]

ولا قطمير، ولا يهمل أمة تعدّت فى أعمالها حدود شرائعه القويمة، بل يأخذها بذنوبها أخذ العزيز المقتدر، كما يأخذ الراصد القائم على الطريق من يمر به بما يريد من خير أو شر، لا يفرّط فيما رصد له. وقد أجمل الله فى هذه الآيات ما أوقعه بهذه الأمم من العذاب، وفصله فى غير موضع من كتابه الكريم، فقال فى سورة الحاقة: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» وقال: «وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً» . والحكمة فى تكرار القصص فى القرآن الكريم، وفى ذكر بعضها على طريق الإشارة فى بعض المواضع، وبالتفصيل فى بعض آخر- أنه قد يكون الغرض تارة إقامة الحجة على قدرته تعالى، وتوحده فى ملكه، وقهره لعباده حينا، وترقيق قلوب المخاطبين حينا آخر، وإنذار عباده وإعذارهم مرة ثالثة، ولا شك أن كل مقام من الكلام له لون منه من بسط أو إيجاز لا يكون لغيره. وقد عرفت أن الغرض هنا تطييب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن الله سيمهل الكافرين ولا يهملهم، وهو ليس بغافل عنهم، وحينئذ تدرك أن الإشارة إلى أن هذه الأمم أخذت وعذبت ولم تترك سدى- كافية جدّ الكفاية لمن فكر وتدبر. [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 16] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)

شرح المفردات

شرح المفردات ابتلاه: أي اختبره ببسط الرزق وإقتاره، فأكرمه: أي صيره مكرما يرفل فى بحبوحة النعيم، قدر عليه رزقه: أي صيره فقيرا مقترا عليه فى الرزق، تقول قدرت عليه الشيء: أي ضيقته عليه، وكأنك جعلته بقدر لا يتجاوزه كما قال: «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» . المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه أنه لا يفوته من شأن عباده شىء. وأنه يأخذ كل مذنب بذنبه- أردف ذلك ذكر شأن من شئون الإنسان، وبين أنه لا يهتم إلا بأمور الدنيا وشهواتها، فإذا أنعم الله عليه وأوسع له فى الرزق ظن أنه قد اصطفاه ورفعه على من سواه وجنبه منازل العقوبة، فيذهب مع هواه ويفعل ما يشتهى، ولا يبالى أكان ما يصنع خيرا أم شرا، فيطغى ويفسد فى الأرض، وإذا ضيق عليه الرزق (وقد يكون ذلك لتمحيص قلبه بالإخلاص أو لتظهر قوة صبره، فإن الفقر لا يزيد ذوى العزائم إلا شكرا) يقول ربى قد أهاننى، ومن أهانه الله وصغرت قيمته لديه لم يكن له عناية بعمله، فكيف يؤاخذه بما يصدر منه من شر، أو يكافئه على ما يصنع من خير، فلا شكره يكافأ بإحسان، ولا كفره يجازى بعقوبة، فينطلق يكسب عيشه بأى وسيلة عنّت له، ولا تحجزه شريعة، ولا يقف أمام قانون، ويسلك سبيل الجبارين، ويبخس الحقوق، ويفسد نظم المجتمع، ولا تزال أحوال الناس هكذا كما وصف الله فأرباب السلطان يظنون أنهم فى أمن من عقاب ربهم ولا يذكرونه إلا بألسنتهم، ولا يعرف له سلطان على قلوبهم، والفقراء الأذلاء صغرت نفوسهم عند أنفسهم، لا يبالون ماذا يفعلون؟

الإيضاح

الإيضاح (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أي إن الإنسان إذا أنعم الله عليه وأوسع له فى الرزق- زعم أن هذا الذي هو فيه من السعة- إكرام من الله له، وخيّل إليه الوهم أن الله لا يؤاخذه غلى ما يفعل، فيطغى ويفسد فى الأرض. (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي وإن رأى أن رزقه لا يأتيه إلا بقدر ظن أن ذلك إهانة من الله له وإذلال لنفسه. والإنسان فى الحالين مخطئ مرتكب أشنع وجوه الغفلة، لأن إسباغ النعمة فى الدنيا على أحد لا يدل على أنه مستحق لذلك، ولو دل على هذا لما رأيت عاصيا موسعا عليه فى الرزق، ولا شاهدت كافرا ينعم بصنوف النعم. ولعل من حكمة الله فى بسط الرزق على بعض الناس وتضييقه على بعض آخر أن وجدان المال سبب للانغماس فى الشهوات، وأنه قاطع عن الاتصال بالله، وأن فقدانه وسيلة لتمحيص المرء وابتلائه ليكون من الصابرين الذين وعدوا بالجنة. انظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يدعو به ربه من قوله: «اللهم أحينى مسكينا، وأمتنى مسكينا، واحشرني فى زمرة المساكين» تدرك سر ذلك. إلى أن من يمتحنهم الله بإسباغ النعمة عليهم يظنون أن الله قد اصطفاهم على عباده ورفعهم فوق سائر خلقه، ثم لا يزال بهم شيطان الغواية حتى يذهبوا مع أهوائهم كل مذهب، ويسيروا فى طريق شهواتهم المهلكة إلى أبعد غاية، لا يرجعون إلى ربهم، ولا يدركون أن ما عنده خير وأبقى.

[سورة الفجر (89) : الآيات 17 إلى 20]

[سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 20] كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) شرح المفردات ولا تحاضون: أي لا يأمر بعضكم بعضا، والتراث: الميراث، لمّا: أي شديدا، جمّا: أي كثيرا قال: إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا ... وأىّ عبد لك لا ألمّا المعنى الجملي بعد أن بين خطأ الإنسان فيما يعتقد إذا بسط له الرزق أو قتر عليه- أردف ذلك زجرهم عما يرتكبون من المنكرات، وأبان لهم أنه لو كان غنيهم لم يعمه الطغيان، وفقيرهم لم يطمس بصيرته الهوان، وكانوا على الحال التي يرتقى إليها الإنسان- لشعرت نفوسهم بما عسى يقع فيه اليتيم من بؤس، فعنوا بإكرامه فإن الذي يفقد أباه معرّض لفساد طبيعته إذا أهملت تربيته، ولم يهتم بما فيه العناية به ورفع منزلته، ولو كانوا على ما تحدثهم به أنفسهم من الصلاح لوجدوا الشفقة تحرك قلوبهم إلى التعاون على طعام المسكين الذي لا يجد ما يقتات به مع العجز عن تحصيله، إلى أنهم يأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منهم، ويشتدون فى أكله حتى يحرموا صاحب الحق حقه ويزداد حبهم للمال إلى غير غاية. وصفوة القول- إن شرههم فى المال، وقرمهم إلى اللذات، وانصرافهم إلى التمتع بها، ثم قسوة قلوبهم إلى ألا يألموا إلى ما تجر إليه الاستهانة بشئون اليتامى من فساد أخلاقهم، وتعطيل قواهم. وانتشار العدوى منهم إلى معاشريهم. فينتشر

الإيضاح

الداء فى جسم الأمة- دليل على أن ما يزعمون من اعتقادهم بإله يأمرهم وينهاهم، وأن لهم دينا يعظهم، زعم باطل، وإذا غشّوا أنفسهم وادّعوا أنهم يتذكرون الزواجر، ويراعون الأوامر، فذلك مقال تكذبه الفعال. الإيضاح (كَلَّا) أي لم أبتل الإنسان بالغنى لكرامته عندى، ولم أبتله بالفقر لهوانه علىّ، فالكرامة والإهانة لا يدوران مع المال سعة وقلة، فقد أوسّع على الكافر لا لكرامته، وأضيّق على المؤمن لا لهوانه، وإنما أكرم المرء بطاعته، وأهينه بمعصيته، وقد أوسع على المرء بالمال لأختبره أيشكر أم يكفر؟ وأضيق عليه لأختبره أيصبر أم يضجر؟ ثم انتقل وترقى من ذمهم بقبيح الأقوال إلى النعي عليهم بقبيح الأفعال فقال: (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أي بل لكم أفعال وأحوال شر من أقوالكم تدل على تهالككم على المال، فقد يكرمكم الله بالمال الكثير فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم وبره والإحسان إليه وقد جاء فى الحديث الحث على ذلك، فلقد قال صلى الله عليه وسلم: «أحب البيوت بيت فيه يتيم مكرم» وورد أيضا: «أنا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنة» وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلى الإبهام. قال مقاتل: أنزلت الآية فى قدامة بن مظعون وكان يتيما فى حجر أمية ابن خلف. (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث بعضكم بعضا على إطعامه وإصلاح شأنه، وإذا لم تكرموا اليتيم ولم يوص بعضكم بعضا بإطعام المسكين فقد كذبت مزاعمكم فى أنكم قوم صالحون. وإنما ذكر التحاضّ على الطعام ولم يكتف بالإطعام، فيقول ولم تطعموا

[سورة الفجر (89) : الآيات 21 إلى 26]

المسكين- ليبين أن أفراد الأمة متكافلون، وأنه يجب أن يوصى بعضهم بعضا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع التزام كلّ بفعل ما يأمر به أو ينهى عنه. ثم بين أن إهمالهم أمر اليتيم، وخلوّ قلبهم من الرحمة بالمسكين لم يكونا زهدا فى لذائذ الحياة وتخلصا من متاعبها، وعكوفا على شئون أنفسهم، بل جاء من محبتهم للمال فقال: (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا) أي إنكم تأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منكم أكلا شديدا، فتحولون بينه وبين من يستحقه، وتجمعون بين نصيبكم منه ونصيب غيركم. (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي وتميلون إلى جمع المال ميلا شديدا، ميراثا كان أو غيره. وخلاصة ذلك- أنتم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، إذ لو كنتم ممن غلب عليه حب الآخرة، لا نصرفتم عما يترك الموتى ميراثا لأيتامهم، ولكنكم تشاركونهم فيه، وتأخذون شيئا لا كسب لكم فيه، ولا مدخل لكم فى تحصيله وجمعه، ولو كنتم ممن استحبوا الآخرة لما ضريت نفوسكم على المال تأخذونه من حيث وجدتموه، من حلال أو من حرام. فهذه أدلة ترشد إلى أنكم لستم على ما ادعيتم من صلاح وإصلاح، وأنكم على ملة إبراهيم خليل الرحمن. [سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 26] كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)

شرح المفردات

شرح المفردات الدكّ: حط المرتفع بالبسط والتسوية ومنه اندكّ سنام البعير إذا انغرس فى ظهره، دكا دكا: أي دكا بعد دك: أي كرّر عليها الدك وتتابع حتى صارت كالصخرة الملساء، صفا صفا: أي صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم فى الفضل، وجىء يومئذ بجهنم: أي كشفت للناظرين بعد أن كانت غائبة عنهم، وأنى له الذكرى؟ أي ومن أين له فائدة التذكر وقد فات الأوان، والوثاق: الشدّ والربط السلاسل والأغلال. المعنى الجملي بعد أن أنكر عليهم أقوالهم وادعاءهم أن الغنى إكرام لهم، وأن الفقر إهانة لهم، ونعى عليهم أفعالهم من حرصهم على الدنيا واستفراغ الجهد فى تحصيلها، وتكالبهم على جمعها من حلال وحرام- أردفه بيان أن ما يزعمونه من أنهم لربهم ذاكرون مع فراغ قلوبهم من الرأفة بالضعفاء وامتلائها بحب المال والميل إلى الشهوات- زعم لا حقيقة له، وإنما يتذكرون ربهم فى ذلك اليوم العظيم حين يشهدون الهول. ويعوزهم الحول، ويظهر لهم مكانهم من النكال والوبال، ولكن هذه الذكرى قد فات أوانها، وانتهى إبّانها، فإن الدار دار جزاء لا دار أعمال، فلا يبقى فيها لأولئك الخاسرين إلا الحسرة والندامة، وقول قائلهم: «لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» ويكون لهم من العذاب ما لا يقدر قدره، ومن الإهانة ما يحل عن التشبيه والتمثيل. الإيضاح (كَلَّا) زجر لهم وإنكار لأفوالهم وأفعالهم، أي لا ينبغى أن يكون هذا شأنهم فى الحرص على الدنيا من حيث تتهيأ لهم سواء كانت من حلال أو حرام، وكأنهم يتوهمون أن لا حساب ولا جزاء، وسيأتى يوم يندمون فيه أشد الندم،

ولكن لا تنفعهم الندامة، ويتمنون لو كانوا أفنوا حياتهم فى التقرب إلى ربهم بصالح الأعمال. ثم بين ذلك اليوم ووصفه بأوصاف ثلاثة فقال: (1) (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي إذا دكت الأرض دكا بعد دك، وتتابع عليها. ذلك حتى صارت كالصخرة الملساء، وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور. (2) (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي وتجلت لأهل الموقف السطوة الإلهية، كما تتجلى أبّهة الملك للأعين إذا جاء الملك فى جيوشه ومواكبه، ولله المثل الأعلى. (3) (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي وكشفت جهنم للناظرين بعد أن كانت غائبة عنهم. ونحو الآية قوله: «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» أي أظهرت حتى رآها الخلق وعاينوها، وليس المراد أنها نقلت من مكانها إلى مكان آخر. (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي حينئذ تذهب الغفلة، ويتذكر المرء ما كان قد فرّط فيه، وعرف أن ما كان فيه كان ضلالا، وأنه كان يجب أن يكون على حال خير مما كان عليها. ثم بين أن هذه الذكرى لا فائدة منها فقال: (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي ومن أين لهذه الذكرى فائدة، أو ترجع إليه بعائدة وقد فات الأوان، وحمّ القضاء. والخلاصة- إنه إذا حدثت هذه الأحداث انكشفت عن الإنسان الحجب، ووضح له ما كان عليه، وذهبت عنه الغفلة، وإذ ذاك يتمنى أن يعود ليعمل صالحا، ولكن أنى له ذلك؟ ثم بين تذكره بقوله: (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي يتمنى أن يكون قد عمل صالحا ينفعه فى حياته الأخروية التي هى الحياة الحقيقية.

[سورة الفجر (89) : الآيات 27 إلى 30]

ثم بين مآله وعاقبة أمره فقال: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي فيومئذ لا يصاب أحد بعذاب مثل ذلك العذاب الذي يصيب ذلك الإنسان الذي أبطره الغنى فجحد نعمة الله عليه، أو أفسده الفقر حتى عثا فى الأرض فسادا، ولا يوثق أحد من الخلائق وثاقا مثل هذا الوثاق الذي يوثقه ذلك الإنسان. ولا يخفى ما فى ذلك من تقوية الذكرى لمن له قلب يذكر، ووجدان يشعر. [سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 30] يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) شرح المفردات المطمئنة. من الاطمئنان وهو الاستقرار والثبات، إلى ربك: أي إلى ثوابه وموقف كرامته، فى عبادى: أي فى زمرة عبادى المكرمين. المعنى الجملي بعد أن ذكر حال الإنسان الذي خلّى وطبعه، فاستولى عليه جشعه وحرصه على رغباته وشهواته، حتى خرجت عن سلطان الحكمة والعقل، ثم ذكر عاقبة أمره فى الآخرة- أعقب هذا بذكر حال الإنسان الذي ارتقى عن ذلك الطبع وسمت نفسه إلى مراتب الكمال، فاطمأن إلى معرفة خالقه، واستعلى برغائبه إلى المطامع الروحية، ورغب عن اللذات الجسمانية، فكان فى الغنى شاكرا لا يتناول إلا حقه، وفى الفقر صابرا لا يمد يده إلى ما لغيره، وبين أنه فى ذلك اليوم يكون بجوار ربه راضيا بعمله فى الدنيا، مرضيا عنده، يدخله فى زمرة الصالحين المكرمين من عباده.

الإيضاح

الإيضاح (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي يا أيتها النفس التي قد استيقنت الحق، فلا يخالجها شك، ووقفت عند حدود الشرع، فلا تزعزعها الشهوات، ولا تضطرب بها الرغبات. (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) أي ارجعي إلى محل الكرامة بجوار ربك، راضية عما عملت فى الدنيا، مرضيا عنك، إذ لم تكونى ساخطة لا فى الغنى ولا فى الفقر، ولم تتجاوزى حدود الشرع فيما لك من حق وما عليك من واجب. ثم ذكر جميل عاقبتها فقال: (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي فادخلى فى زمرة عبادى المكرمين، وانتظمى فى سلكهم، وكونى فى جملتهم، فالنفوس القدسية كالمرايا المتقابلة، يشرق بعضها على بعض، وكأنها تربّى فى هذه الدنيا بالآلام وتزين بالمعارف والعلوم، حتى إذا فارقت الأبدان جعلت فى أماكن متقاربة، بينها صفاء ومودة، وحسن صلة ومحبة. (وَادْخُلِي جَنَّتِي) فتمتعى فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اللهم اجعلنا من النفوس المطمئنة، الراضية المرضية، وأدخلنا فى جنتك مع المتقين، من الأنبياء والشهداء والصالحين، والحمد لله رب العالمين. مقاصد هذه السورة تشتمل هذه السورة على مقاصد ستة: (1) القسم على أن عذاب الكافرين لا محيص منه. (2) ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود.

سورة البلد

(3) كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام الله له، ولا البلاء دليلا على إهانته وخذلانه. (4) وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال. (5) تمنى الأشقياء العودة إلى الدنيا. (6) كرامة النفوس الراضية المرضية، وما تلقاه من النعيم بجوار ربها. سورة البلد هى مكية، وآياتها عشرون، نزلت بعد سورة ق. ومناسبتها لما قبلها: (1) أنه ذم فى الأولى من أحب المال وأكل التراث ولم يحضّ على طعام المسكين، وذكر هنا الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة، والإطعام فى يوم المسبغة. (2) ذكر هناك حال النفس المطمئنة، وذكر هنا ما يكون به الاطمئنان. [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) شرح المفردات البلد: مكة، حلّ: أي حالّ مقيم فيه، ووالد وما ولد: أي وأىّ والد وأىّ مولود من الإنسان والحيوان والنبات، والكبد: المشقة والتعب، قال لبيد يرثى أخاه أربد: يا عين هل رأيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم فى كبد

الإيضاح

الإيضاح (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) تقدّم أن قلنا إن مثل هذا التعبير قسم مؤكد فى كلام العرب، وقد أقسم ربنا بمكة التي شرفها فجعلها حرما آمنا، وجعل فيها البيت الحرام مثابة للناس يرجعون إليه ويعاودون زيارته كلما دعاهم إليه الشوق، وجعل فيه الكعبة قبلة لأهل المشرق والمغرب، وأمر بالتوجه إليها فى الصلوات التي تكرر كل يوم فقال: «وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» . (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي وأنت مقيم بهذا البلد حالّ فيه، وكأنه سبحانه جعل من أسباب شرف مكة وعظمتها كونه صلى الله عليه وسلم مقيما فيه، ولا شك أن الأمكنة تشرف بشرف ساكنيها، والنازلين بها. وأتى بهذه الجملة ليفيد أن مكة جليلة القدر فى كل حال حتى فى الحال التي لم يراع أهلها فى معاملتك تلك الحرمة التي خصها الله بها. وفى هذا إيقاظ وتنبيه لهم من غفلتهم، وتقريع على حط منزلة بلدهم. (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) أي وكل والد وكل مولود من الإنسان وغيره. وفى القسم بهذا لفت لأنظارنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود وهو طور التوالد، وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع، وإلى ما يعانيه كل من الوالد والمولود فى إبداء النشء، وتبليغ الناشئ وإبلاغه حده من النمو المقدّر له. انظر إلى البذرة فى أطوار نموها، كم تعانى من اختلاف الأجواء، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان، وتستعد لأن تلد بذرة أو بذورا أخرى تعمل عملها، وتزين الوجود بجمال منظرها. وأمر الإنسان والحيوان فى ذلك أعجب وأعظم، والتعب والعناء الذي يلاقيا كل منهما فى سبيل حفظ نوعه، واستبقاء جمال الكون بوجوده أشد وأكبر.

ثم ذكر المحلوف عليه فقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي إنه تعالى جعل حياة الإنسان سلسلة متصلة الجهاد، مبتدئة بالمشقة، منتهية بها فهو لا يزال يقاسى من ضروبها ما يقاسى منذ نشأته فى بطن أمه إلى أن يصير رجلا، وكلما كبر ازدادت أتعابه وآلامه، فهو يحتاج إلى تحصيل أرزاقه وتربية أولاده، وإلى مقارعة الخطوب والنوازل، ومصابرة النفس على الطاعة والخضوع للواحد المعبود. ثم بعد هذا كله يمرض ويموت، ويلاقى فى قبره وفى آخرته من المشاقّ والمتاعب، ما لا يقدر عليه إلا يتيسير الله سبحانه. والسر فى التنبيه إلى أن الإنسان قد خلق فى عناء- الرغبة فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم، وحضه على عمل الخير والمثابرة عليه، وألا يعبأ بما يلاقيه من الشدائد والمشاقّ، وأن ذلك لا يخلو منه إنسان. إلى ما فيه من تنبيه المغرورين الذين يشعرون بالقوة فى أنفسهم، ويظنون أنهم بها يستطيعون مصارعة الأقران، وكأنه يقول لهم: لا تتمادوا فى غروركم، ولا تستمروا على صلفكم وكبريائكم، فإن الإنسان لا يخلو من العناء فى تصريف شئونه وشئون ذويه، ومهما عظمت منزلته، وقويت شكيمته. فهو لا يستطيع الخلاص من مشاقّ الحياة. وقد جمع سبحانه بين البلد المعظم والوالد والولد، ليشير إلى أن مكة على ما بها من عمل أهلها ستلد مولودا عظيما يكون إكليلا لمجد النوع الإنسانى وشرفه، وهو دين الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وأن العناء الذي يلاقيه إنما هو العناء الذي يصيب الوالد فى تربية ولده، والمولود فى بلوغ الغاية فى سبيل نموه إلى ما فيه من الوعد بإتمام نوره ولو كره الكافرون.

[سورة البلد (90) : الآيات 5 إلى 10]

[سورة البلد (90) : الآيات 5 الى 10] أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) شرح المفردات أيحسب: أي أيظن، أهلكت: أي أنفقت، لبدا: أي كثيرا، والنجد: الطريق المرتفعة والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر. المعنى الجملي بعد ذكر أنه لا ينبغى للمفتونين بقوة أبدانهم، المغرورين بواسع جاههم، أن يتمادوا فى صلفهم وكبريائهم- شرع يوبخهم على الاغترار بقوتهم الزائلة ويذكرهم بما أنعم به عليهم من النعم الكثيرة الحسية والعقلية. روى أن قوله: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» ؟ نزل فى أبى الأشد أسيد بن كلدة الجمحي، وكان مغترا بقوته البدنية وأن قوله: «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» نزل فى الحرث بن نوفل وكان يقول: أهلكت مالا لبدا فى الكفارات منذ أطعت محمدا. وسواء أكانت هذه الآيات نزلت فى هؤلاء أم فى غيرهم فإن معناها عام كما علمت. الإيضاح (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟) أي أيظن ذلك المغترّ بقوته، المفتون بما أنعمنا به عليه- أنه مهما عظمت حاله، وقوى سلطانه، يبلغ منزلة لا يقدر عليه فيها

أحد؟ ما أجهله إذا ظن ذلك، فإن فى الوجود قوة جميع القوى هى المهيمنة على كل قوة، والمسيطرة على كل قدرة، وهى القوّة التي أبدعته، والقدرة التي أنشأته. ثم ذكر صنفا آخر من الأغنياء البخلاء المرائين فقال: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً) أي إنهم إذا طلب إليهم أن يعملوا عملا من أعمال البر قالوا: إننا ننفق الكثير من أموالنا فى المفاخر والمكارم، ولم يعلموا أن المكرمة ما عدّه الله مكرمة، والبرّ ما اعتبره الله برا، فليس من البر إنفاقهم المال فى مشاقة الله ورسوله، ولا إنفاقهم طائل الأموال فى الصدّ عن سبيل الله، والكيد للذين آمنوا بالله ورسوله. (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي أيظن ذلك المغتر بماله، المدعى أنه أنفقه فى سبيل الخير- أن الله لم يطلع على أفعاله ولم يعلم ما دعاه إلى الإنفاق؟ إنه لا ينبغى له أن يظن ذلك، فإن البارئ له مطلع على قرارة نفسه، عالم بخبيئات قلبه، لا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء، عليم بأنه لم ينفق شيئا من ماله فى سبيل الخير المشروع والبر المحمود، وإنما أنفق ما أنفق للرياء والسمعة، أو لمشاقة الله ورسوله، أو فى وجوه أخرى يظنها خيرا وهى خسران وضلال مبين. وبعد أن أنكر على هؤلاء اغترارهم بقوتهم وكثرة أموالهم- شرع يذكر آثار قدرته الغالبة، ليبين لهم أن هناك قوة لها من الآثار ما هم يشاهدون فقال: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) فهو إذا أبصر شيئا فإنما يكون ذلك بما خلقنا له من العينين، فهذه النعمة التي يعتز بها إنما هى من عملنا. (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) فإذا أبان عما فى نفسه، فإنما يبين بما وهبنا له من لدنا من تلك الجارحة التي يتكلم بها، فإذا غرّه حديثه، أو قوة حجته، فليس فضل ذلك راجعا إليه، وإنما الفضل لمن وهبه ذلك.

[سورة البلد (90) : الآيات 11 إلى 20]

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي وأودعنا فى فطرة الإنسان التمييز بين الخير والشر، وجعلنا له من العقل والفكر ما يكون مذكرا ومنبها، ونصبنا له الدلائل على حسن الخير وأرشدناه إلى ما فى الشر من هنوات وعيوب، ثم أقدرناه على أن يسلك أىّ الطريقين شاء، بعد أن آتيناه قوة التمييز، والقدرة على الاختيار والترجيح، ليسلك الطريق التي أراد منهما. فليكن نجد الخير أحبّ إلى أحدكم من نجد الشر فمن نازعته نفسه واتجهت إلى نجد الشر فليقمعها بالنظر فى آيات الله، والتدبر فى دلائله، ليعلم أن ذلك الطريق مظلم معوجّ يهوى بصاحبه إلى طريق الردى، ويوقعه فى المهالك. وإنما سماهما الله نجدين، للإشارة إلى أنهما واضحان كطريقين عاليين يراهما ذوو الأبصار، وإلى أن فى كل منهما وعورة يشق معها السلوك، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها. وفى ذلك إيماء إلى أن طريق الشر ليست بأهون من طريق الخير، بل الغالب أن طريق الشر أصعب وأشق وأحوج إلى بذل الجهد حتى تقطع إلى النهاية وتوصّل إلى الغاية. [سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

شرح المفردات

شرح المفردات اقتحم الشيء: دخل فيه بشدة، والعقبة: الطريق الوعرة فى الجبل يصعب سلوكها، والمراد بها مجاهدة الإنسان نفسه وهواه ومن يسوّل له فعل الشر من شياطين الإنس والجن، وفك الرقبة: عتقها أو المعاونة عليه، والمسبغة: الجوع، يقال سغب الرجل يسغب إذا جاع، والمقربة: القرابة فى النسب، تقول فلان من ذوى قرابتى ومن أهل مقربتى إذا كان قريبك نسبا، والمتربة: الفقر، تقول ترب الرجل إذا افتقر، وأترب إذا كثر ماله حتى صار كالتراب، تواصوا بالصبر: أي نصح بعضهم بعضا به، والميمنة: طريق النجاة والسعادة، والمشأمة: طريق الشقاء، مؤصدة: أي مطبقة عليهم من آصدت الباب، أي أغلقته، قال: تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى ... ومن دونها أبواب صنعاء موصده المعنى الجملي بعد أن وبخ سبحانه هؤلاء المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة، وحبّا فى الأحدوثة، وأنّبهم على افتخارهم بما صنعوا مع خلوّ بواطنهم من حسن النية، وبين لهم أن أفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر، والنفع والضر هو منه سبحانه، وهو القادر على سلبه منهم- أردفه بيان أنه كان عليهم أن يشكروا تلك النعم، ويختاروا طريق الخير، ويرجحوا سبيل السعادة، فيفيضوا على الناس بشىء مما أفاض به عليهم، وأفضل ذلك أن يعينوا على تحرير الأرقاء من البشر، أو يواسوا الأيتام من أقاربهم حين العوز وعزة الطعام، أو يطعموا المساكين الذين لا وسيلة لهم إلى كسب ما يقيمون به أودهم لضعفهم وعجزهم، ثم هم مع ذلك يكونون صحيحى الإيمان، صبورين على أذى الناس، وعلى ما يصيبهم من المكاره فى سبيل الدعوة إلى الحق، رحماء بعباده، مواسين لهم حين الشدائد.

الإيضاح

هذه هى الطريق التي كان من حق العقل أن يرشد إليها، لكن الإنسان قد خدعه غروره فلم يقتحم هذه العقبة، ولم يسلك هذه السبيل القويمة، ولم يسر فيما يرشد إليه العقل السليم. الإيضاح (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فهلا جاهد النفس والشيطان وعمل أعمال البر، وقد ضرب الله العقبة مثلا لهذا الجهاد، لأن الإنسان يريد أن يرقى من عالم الحس عالم الأشباح إلى عالم الأنوار والأرواح، وبينه وبين ذلك عقبات من ورائها عقبات، وسبيل الوصول إلى غايته هذه هى فعل الخيرات. ثم فخم شأن العقبة وعظم أمرها فقال: (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي وأىّ شىء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ ثم أرشد إلى أن اقتحامها يكون بفعل صنوف من الخير منها: (1) (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي عتق الرقبة أو الإعانة عليها، وقد ورد فى الكتاب الكريم والسنة الترغيب فى العتق والحث عليه. روى البراء بن عازب رضى الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلّنى على عمل يدخلنى الجنة، قال: عتق النسمة وفك الرقبة، قال: يا رسول الله أو ليسا واحدا؟ قال لا: عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها» . والكلام بتقدير مضاف: أي وما أدراك ما اقتحام العقبة، فك رقبة، لأن فك الرقبة ليس هو العقبة نفسها، وإنما هو اقتحامها لأنه سبب موصل إلى مجاوزة العقبة والوصول إلى عالم الأنوار. (2) (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي أو إطعام يتيم من أقاربه فى أيام الجوع والعوز.

وفى هذا جمع بين حقين: حق اليتيم وحق القرابة. (3) (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي أو إطعام المسكين الذي لا وسيلة له إلى كسب المال لضعفه وعجزه. (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي ثم كان مع اقتحامه العقبة من صادق الإيمان الذين يصبرون على الأذى وما يصيبهم من المكاره فى سبيل الدفاع عن الحق، ويرحمون عباد الله ويواسونهم ويساعدونهم حين البأساء. وإنما اشترط الإيمان مع فعل هذه المبارّ، لأن من فعلها دون أن يكون مؤمنا لم ينتفع بها، ولم يكن له ثواب عليها، إذ لا ينفع مع الكفر برّ. ثم بيّن مآل فاعلى هذه المبرات فقال: (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي أولئك الذين اقتحموا العقبة ففكوا الرقاب، وأطعموا المساكين، وواسوا ذوى القربى فى يوم المسغبة هم السعداء الممتعون بجنات النعيم، وهم الذين عناهم الله بقوله: «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» . ثم ذكر مقابل هؤلاء وهم الذين صدوا عن سبيل الله، وتواصوا بالإثم وتواصوا بالعدوان ومعصية الرسول فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي والذين جحدوا آياتنا الكونية وآياتنا السمعية التي جاءت على ألسنة الرسل كالقرآن وغيره من الكتب السماوية هم أصحاب المشأمة، أي أهل الشمال الذين وصفهم الله بقوله: «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ

مقاصد هذه السورة

كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» . (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي عليهم نار تطبق عليهم فلا يستطيعون الفكاك منها ولا الخلاص من عذابها. نجانا الله منها بمنه وكرمه، وجعلنا من أصحاب الميمنة. مقاصد هذه السورة تشتمل هذه السورة على خمسة مقاصد: (1) ما ابتلى به الإنسان فى الدنيا من النصب والتعب. (2) اغترار الإنسان بقوته. (3) نكران النعم التي أنعم الله بها عليه من العينين واللسان والعقل والفكر (4) سبل النجاة الموصلة إلى السعادة. (5) كفران الآيات سبيل الشقاء.

سورة الشمس

سورة الشمس هى مكية، وآياتها خمس عشرة، نزلت بعد سورة القدر. ومناسبتها لما قبلها: (1) أنه سبحانه ختم السورة السابقة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، وأعاد ذكر الفريقين فى هذه السورة بقوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» . (2) ختم السورة السالفة بشىء من أحوال الكفار فى الآخرة، وختم هذه بشىء من أحوالهم فى الدنيا. [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) شرح المفردات ضحى الشمس: ضوؤها، تلاها: أي تبعها، يقال تلا فلان فلانا يتلوه إذا تبعه، وجلاها: أي كشف الشمس وأتمّ وضوحها، يغشاها: أي يزيل ضوءها ويحجبه، والسماء: كل ما ارتفع فوق رأسك، والمراد به هذا الكون الذي فوقك وفيه الشمس والقمر وسائر الكواكب التي تجرى فى مجاريها، بناها: أي رفعها، وجعل كل

الإيضاح

كوكب من الكواكب بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة تحيط بك، وطحا الأرض بسطها وجعلها فراشا، سوّاها: أي ركب فيها القوى الظاهرة والباطنة، وجعل لكل منها وظيفة تؤديها، ألهمها: عرّفها ومكّنها، والفجور: ما يكون سببا فى الخسران والهلكة، والتقوى: إتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة، أفلح: أي أصاب الفلاح، وهو إدراك المطلوب، وزكاها: أي طهرها من أدناس الذنوب، وخاب: أي خسر، ودسّاها: أي أنقصها وأخفاها بالذنوب والمعاصي قال: ودسست عمرا فى التراب فأصبحت ... حلائله منه أرامل ضيّعا الإيضاح (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) أقسم سبحانه بالشمس نفسها غابت أو ظهرت، لأنها خلق عظيم على قدرة مبدعها، وأقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة فى كل حى، فلولاها ما أبصرت حيّا ولا رأيت ناميا، ولولاها ما وجد الضياء ولا انتشر النور، وإذا أرسلت خيوطها الذهبية على مكان فرّ منه السقم، وولت جيوش الأمراض هاربة، لأنها تفتك بها فتكا ذريعا. (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي والقمر إذا تلا الشمس فى الليالى البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضىء الليل كله من غروب الشمس إلى الفجر. وهذا قسم بالضوء فى طور آخر، وهو ظهوره وانتشاره الليل كله. وقد يكون المراد- بتلاها أي تبعها فى كل وقت، لأن نوره مستمد من نور الشمس فهو لذلك يتبعها، وقد قال بهذا الفرّاء قديما وأثبته علماء الفلك حديثا. (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي والنهار إذا جلّى الشمس وأظهرها وأتمّ وضوحها، إذ كلما كان النهار أجلى ظهورا كانت الشمس أكمل وضوحا.

وأقسم بهذه المخلوقات، للإشارة إلى تعظيم أمر الضوء وإعظام أمر النعمة فيه، وفيه لفت لأذهاننا إلى أنه آية من آيات ربنا الكبرى، ونعمة من نعمه العظمى. وفى قوله: جلاها بيان للحال التي يكشف فيها النهار تلك الحكمة البالغة، والآية الباهرة. وبعد أن أقسم بالضياء فى أطوار مختلفة أقسم بالليل فى حال واحدة فقال: (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي والليل إذا يغشى الشمس فيزيل ضوءها فى الليالى الحالكة التي لا أثر لضوء الشمس فيها، لا مباشرة كما فى النهار، ولا بالواسطة كضوء القمر المستفاد منها، وهى قليلة فإنها ليلة أو ليلتان أو بعض ليال فى الشهر. وفى هذا إيماء إلى أن الليل يطرأ على هذا الكواكب العظيم فيذهب ضوءه، ويحيل نور العالم ظلاما فهو على جليل نفعه وعظيم فائدته، لا يتخذ إلها لأن الإله لا يحول ولا يزول، ولا يعتريه تغير ولا أفول. وفيه ردع وتأنيب للمشركين على تأليهه وعبادته. وبعد أن ذكر الأوصاف الدالة على عظمة هذه الأجرام- أردفه ذكر صفات تدل على حدوثها فقال: (وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي والسماء ومن قدّرها على النحو الذي اقتضته مشيئته وحكمته. وفى ذكر البنيان إشارة إلى ما انطوى عليه رفعها وتسويتها من بارع الحكمة وتمام القدرة، وأن لها صانعا حكيما قد أحكم وضعها وأجاد تقديرها، فإنه شد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينها حتى يتماسك. ولما كان الخطاب موجها إلى قوم لا يعرفون الله بجليل صفاته، وكان القصد منه أن ينظروا فى هذا الكون نظرة من يطلب للأثر مؤثرا، فينتقلوا من ذلك إلى معرفته تعالى- عبر عن نفسه بلفظ (ما) التي هى الغاية فى الإبهام.

(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي والأرض والذي بسطها ومهدها للسكنى، وجعل الناس ينتفعون بما على ظهرها من نبات وحيوان، وبما فى باطنها من مختلف المعادن. ونحو الآية قوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً» . وقصارى ما سلف- إنه بعد أن أقسم سبحانه بالضياء والظلمة، أقسم بالسماء وما فيها من الكواكب، وبالذي بناها وجعلها مصدرا للضياء، وبالأرض والذي جعلها لنا فراشا ومصدرا للظلمة، فإنها هى التي يحجب بعض أجزائها ضوء الشمس عن بعضها الآخر فيظهر فيه الظلام. ثم أقسم بعد هذا بالنفس الإنسانية لما لها من شرف فى هذا الوجود فقال: (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي قسما بالنفس ومن سواها وركب فيها قواها الباطنة والظاهرة، وحدد لكل منها وظيفة تؤديها، وألف لها الجسم الذي تستخدمه من أعضاء قابلة لاستعمال تلك القوى. ثم بين أثر هذه التسوية فقال: (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي فألهم كل نفس الفجور والتقوى وعرفها حالهما، بحيث تميز الرشد من الغىّ، ويتبين لها الهدى من الضلال، وجعل ذلك معروفا لأولى البصائر. وبعد أن ذكر أنه ألهم النفوس معرفة الخير والشر ذكر ما تلقاه جزاء على كل منهما فقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي قد ربح وفاز من زكى نفسه ونمّاها حتى بلغت غاية ما هى مستعدة له من الكمال العقلي والعملي، حتى تثمر بذلك الثمر الطيب لها ولمن حولها. (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي وخسر نفسه وأوقعها فى التهلكة من نقصها حقها بفعل المعاصي ومجانبة البر والقربات، فإن من سلك سبيل الشر، وطاوع داعى

[سورة الشمس (91) : الآيات 11 إلى 15]

الشهوة فقد فعل ما تفعل البهائم، وبذلك يكون قد أخفى عمل القوة العاقلة التي اختص بها الإنسان، واندرج فى عداد الحيوان. ولا شك أنه لا خيبة أعظم، ولا خسران أكبر من هذا المسخ الذي يجلبه الشخص لنفسه بسوء أعماله. والمحلوف عليه الذي افتتحت به السورة- محذوف للعلم به من نظائره، وكأنه قيل: «وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... » لينزلنّ بالمكذبين منكم مثل ما نزل بثمود إذ كذبت نبيّها فأصابها العذاب، ودليل ذلك قوله بعد: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها» الآيات، فإنها ترشد إلى أن الله يعاقب من يكذب رسله، نحو ما سبق فى سورة البروج. [سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) شرح المفردات الطّغوى والطغيان: مجاوزة الحد المعتاد، انبعث: أي قام بعقر الناقة، أشقاها: أي أشقى ثمود وهو قدار بن سالف، رسول الله: هو صالح عليه السلام، ناقة الله، أي احذروا التعرض لناقة الله، وسقياها: أي شربها الذي اختصها به فى يومها، فعقروها: أي فنحروها، فدمدم: أي فأطبق عليهم العذاب، يقال: دمدم عليه القبر: أي أطبقه عليه، فسواها: أي فسوى القبيلة فى العقوبة فلم يفلت منها أحد، عقباها: أي عاقبة الدمدمة وتبعتها.

المعنى الجملي

المعنى الجملي جرت عادة القرآن أن يذكر بعض أخبار الأمم السابقة وما كان منهم مع رسلهم وما قابلوه به من التكذيب والإيذاء، ثم يذكر ما جرت به سنته سبحانه من الإيقاع بالمكذبين، وأخذهم بظلمهم وبما عملوا مع أنبيائهم، ليكون فى ذلك سلوة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يلق إلا ما لقى إخوانه الأنبياء، ولم يكابد من قومه إلا مثل ما كابدوا، وليكون فى ذلك تخويف لأولئك المكذبين الذين يعاندون رسول الله ويلحفون فى تكذيبه، بأنهم إذا استمروا على ذلك حاق بهم مثل ما حاق بالأمم السالفة ونالوا من الجزاء مثل ما نالوا. الإيضاح (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) أي كذبت ثمود نبيّها صالحا بسبب طغيانها وبغيها. ثم بين أمارة ذلك التكذيب فقال: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي كان انطلاق الأشقى لعقر الناقة والقوم راضون عنه علامة ظاهرة على تكذيبهم لنبيهم الذي جعلها دليل نبوته، وبرهانا على صدق رسالته، وأوعدهم إذا هم تعرضوا لها، وسكوت قومه على ما يفعل دليل رضاهم عن فعله، فكانوا مكذبين مثله. ثم ذكر ما توعدهم به الرسول على فعلهم فقال: (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ: ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها) أي فقال لهم صالح: احذروا ناقة الله التي جعلها آية نبوّتى، واحذروا شربها الذي اختصّت به فى يومها، فلا تؤذوها ولا تتعدوا عليها فى شربها ولا فى يوم شربها، وكان صالح عليه السلام قد اتفق معهم على أن للناقة شرب يوم، ولهم ولمواشيهم شرب يوم، فكانوا يجدون فى أنفسهم حرجا لذلك ويتضررون منه، فهمّوا بقتلها فحذّرهم أن يفعلوا ذلك،

وخوّفهم عذاب الله وعقابه الذي ينزله بهم إن هم أقدموا على هذا الفعل، لكنهم كذبوه ولم يستمعوا لنصحه كما أشار إلى ذلك بقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) أي إنهم لم يتورّعوا عن تكذيبه، ولم يحجموا عن عقر الناقة، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العذاب وأليم العقاب. وقد تقدم أن قلنا: إنهم لما رضوا بهذا الفعل نسب إليهم جميعا، وكأنهم صنعوه معه. ثم بين عاقبة عملهم وذكر ما يستحقونه من الجزاء فقال: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) أي فأطبق عليهم العذاب، وأهلكهم هلاك استئصال ولم يبق منهم ديّارا ولا نافخ نار، كما أشار إلى ذلك بقوله: (فَسَوَّاها) أي فسوّى القبيلة فى العقوبة ولم يفلت منها أحد، بل أخذ بها كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ» . وقد يكون المعنى- جعل الأرض فوقهم مستوية كأن لم تثر، ودمّر مساكنها على ساكنيها. (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي إن الله أهلكهم ولا يخاف عاقبة إهلاكهم، لأنه لم يظلمهم فيخيفه الحق، وليس هو بالضعيف حتى يناله منهم مكروه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. والمراد أنه بالغ فى عذابهم إلى غاية ليس فوقها غاية، فإن من يخاف العاقبة لا يبالغ فى الفعل، أما الذي لا يخاف العاقبة ولا تبعة العمل فإنه يبالغ فيه ليصل إلى ما يريد. وقد علمت أن القصص مسوق لتسلية رسوله بأنه سينزل بالمكذبين به مثل ما أنزل بثمود، ولقد صدق الله وعده، فأهلك من أهلك من أهل مكة فى وقعة

مقاصد هذه السورة

بدر بأيدى المؤمنين، ثم لم يزل يحل بهم الخزي والعذاب بالقتل تارة وبالإبعاد أخرى حتى لم يبق فى جزيرة العرب مكذّب، ولو سارت الدعوة إلى الإسلام سيرتها فى عهد الصحابة لما بقي فى الأرض مكذب، ولله الأمر من قبل ومن بعد. مقاصد هذه السورة اشتملت هذه السورة على مقصدين: (1) الإقسام بالمخلوقات العظيمة على أن من طهر نفسه بالأخلاق الفاضلة فقد أفلح وفاز، وأن من أغواها ونقصها حقها بجهالته وفسوقه فقد خاب. (2) ذكر ثمود مثلا لمن دسى نفسه فاستحق عقاب الله الذي هو له أهل.

سورة الليل

سورة الليل هى مكية، وآياتها إحدى وعشرون، نزلت بعد سورة الأعلى. ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر هناك فلاح المطهرين لأنفسهم وخيبة المدسّين لها وهنا ذكر ما يحصل به الفلاح وما تحصل فيه الخيبة، فهى كالتفصيل لسابقتها. [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) شرح المفردات يغشى: أي يغطى كل شىء فيواريه بظلامه، تجلى: أي ظهر وانكشف بظهوره كل شىء، وما خلق: أي والذي خلق، وشتى: واحدها شتيت، وهو المتباعد بعضه من بعض. المعنى الجملي أقسم سبحانه بما أقسم بأن سعى البشر مختلف، فأقسم: (1) بالليل الذي يأوى فيه كل حيوان إلى مستقره، ويسكن عن الاضطراب إذ يغشاه النوم الذي فيه راحة لبدنه وجسمه. (2) بالنهار الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم، وفيه تغدو الطير من أو كارها وتخرج الهوامّ من أجحارها. (3) بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى وميّز بين الجنسين مع أن المادة

الإيضاح

التي تكوّنا منها واحدة، والمحل الذي تكوّنا فيه واحد، وفى ذلك دليل على تمام العلم وعظيم القدرة كما قال: «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» . الإيضاح (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي قسما بالليل حين يغشى الأشياء ويواريها فى ظلامه، ويكون فيه مستراح للناس من أعمالهم، بما يشملهم من النوم والهدوء. (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) بزوال ظلمة الليل، فيتحرك الإنسان والحيوان، طلبا لمعاشهما، وبهذا يظهر وجه المصلحة فى اختلافهما، إذا لو كان الدهر كله ليلا لتعذر المعاش على الناس، ولو كان كله نهارا لبطلت المصلحة، فكان فى تعاقبهما آية بالغة يستدل بها على علم الصانع وحكمته، اقرأ إن شئت قوله: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً» . (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي قسما بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من ماء واحد. وفى هذا دليل على أنه عليم جدّ العلم بدقائق المادة وما فيها، إذ لا يعقل أن يكون هذا التخالف بين الذكر والأنثى فى الحيوان بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، فإن الأجزاء الأصلية فى المادة متساوية النسبة فيهما، فحدوث هذا التخالف فى الجنين دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، حكيم فيما يصنع ويضع. وقصارى ما سلف- إن بعض الماء يكون تارة سببا للحمل، وأخرى يكون غير مستعدّ للتلقيح، والأول يكون من بعضه الذكران، ومن بعضه الإناث. سبحانه ما أعظم قدرته، وأجلّ حكمته، لا إله إلا هو الفعال لما يريد.

[سورة الليل (92) : الآيات 5 إلى 11]

ثم ذكر المحلوف عليه فقال: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي إن أعمالكم أيها الناس لمتباعدة متفرقة، بعضها ضلال وعماية، وبعضها هدى ونور، وبعضها يستحق النعيم، وبعضها يستحق العذاب الأليم كما قال: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» وقال: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» . [سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 11] فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) شرح المفردات أعطى: أي بذل ماله، واتقى: أي ابتعد عن الشر وإيصال الأذى إلى الناس، بالحسنى: أي بالخصلة الحسنى التي هى أفضل من غيرها، لليسرى: أي للخصلة التي تؤدى إلى يسر وراحة بتمتعه بالنعيم، استغنى: أي عدّ نفسه غنيا عما عند الناس بما لديه من مال، فلا يجد فى قلبه راحة لضعفائهم ببذل المال والمعونة لهم، بالحسنى: أي بالفضيلة وبأنها ركن من أركان الاجتماع، للعسرى: أي الخصلة التي تؤديه إلى العسر، ويقال تردى فلان من الجبل إذا هوى من أعلاه وسقط إلى أسفله. المعنى الجملي بعد أن أشار إلى اختلاف أعمال الناس فى أنواعها وصفاتها، والجزاء الذي يعود على فاعلها- أخذ يفصل هذا الاختلاف، ويبين عاقبة كل عمل منها.

الإيضاح

الإيضاح (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) أي فأما من أعطى المال وأنفقه فى وجوه الخير، سواء كان واجبا عليه أم لا كالصدقات والنوافل كفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم، وابتعد عن كل ما لا ينبغى، فحمى نفسه عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وخاف من إيصال الأذى إلى الناس. (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي وصدق بثبوت الفضيلة والعمل الطيب، ونحو ذلك مما هو مركوز فى طبيعة الإنسان، وهو مصدر الصالحات وأفعال البر والخير. ولا يكون تصديقا حقا، ولا ينظر الله إليه إلا إذا صدر عنه الأثر الذي لا ينفك عنه وهو بذل المال، واتقاء مفاسد الأعمال. وكثير من الناس يظن نفسه مصدّقا بفضل الخير على الشر ولكن هذا التصديق يكون سرابا فى النفس، خيّله الوهم، لأنه لا يصدر عنه ما يليق به من الأثر، فتراه قاسى القلب، بعيدا عن الحق، بخيلا فى الخير، مسرفا فى الشر. ثم ذكر جزاءه على ذلك فقال: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي فسنهيئه لأيسر الخطتين وأسهلهما فى أصل الفطرة، وهو تكميل النفس إلى أن تبلغ المقام الذي تجد فيه سعادتها فالإنسان إنما يمتاز عن غيره من الحيوان بالتفكير فى الأعمال ووزنها بنتائجها. فإذا حصل ذلك وظهرت آثاره فيها سهل الله له ما هو مسوق إليه بأصل فطرته. وفاعل الخير للخير يجد أريحيّة فى نفسه، ويذوق لذة لا تعد لها لذة، فتزيد فيه رغبته، وتشتد لفعله عزيمته وهذا هو التيسير الإلهى الذي يوفق الله له الصالحين من عباده. (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) أي وأما من أمسك ماله أو أنفقه فى شهواته، ولم ينفقه فيما يقرب من ربه، وخدعته ثروته وجاهه، فظن أنه بذلك لا يحتاج إلى أحد ولا يحس

[سورة الليل (92) : الآيات 12 إلى 21]

بأنه واحد من الناس يصيبه ما أصابهم من السوء. (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي وكذب بأن الله يخلف على المنفقين فى سبيله، فبخل بماله ولم ينفق إلا فيما يلذ له ويمتّعه فى حاضره ولا يبالى بما عدا ذلك. ويدخل فى المكذبين بالحسنى أولئك الذين يتكلمون بها تقليدا لغيرهم، ولا يظهر أثرها فى أعمالهم. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي ومن مرنت نفسه على الشر وتعودت الخبث فيسهل الله له الخطة العسرى، وهى الخطة التي يحط بها قدر نفسه، وينزل بها إلى حضيض الآثام ويغمسها فى أوحال الخطيئة. (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي وإذا يسرناه للعسرى فأى شىء يغنى عنه ماله الذي بخل به على الناس ولم ينفقه فى المصالح العامة، وفيما يعود نفعه على الجماعة، ولم يصحب منه شيئا إلى آخرته التي هى موضع حاجته وفقره كما قال: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» . [سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) شرح المفردات تلظى: أصله تتلظى، أي تتوقد وتلتهب، يقال: تلظت النار تلظيا بمعنى التهبت التهابا ومنه سميت النار لظى، يصلاها: أي يحترق بها، كذب: أي كذب

المعنى الجملي

الرسول فيما جاء به عن ربه، وتولى: أي أعرض عن طاعة ربه، وسيجنبها: أي يبعد عنها ويصير منها على جانب، والأتقى: المبالغ فى اتقاء الكفر والمعاصي: الشديد التحرز منهما، يتزكى: أي يتطهر، تجزى: أي تجازى وتكافأ، ابتغاء وجه ربه: أن طلب مثوبته. المعنى الجملي بعد أن بين سبحانه أن سعى الخلائق مختلف فى نفسه وعاقبته، وأرشد إلى أن المحسن فى عمله يوفقه الله إلى أعمال البر، وأن المسيء فيه يسهل له الخذلان- أردفه أنه قد أعذر إلى عباده بتقديم البيان الذي تنكشف معه أعمال الخير والشر جميعا، ووضح السبيل أمام كل سالك، فإن شاء سلك سبيل الخير فسلم وسعد، وإن أراد ذهب فى طريق الشر فتردّى فى الهاوية. روى أن الآيات نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه. وقد كان من أمره أن بلال ابن رباح عليه الرضوان، وكان مولى لعبد الله بن جدعان- جاء إلى الأصنام وسلح عليها، فشكا كفار مكة إلى مولاه فوهبه لهم، ووهب لهم مائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم فجعلوا يعذبونه ويخرجونه إلى الرمضاء، وكان يقول وهم يعذبونه: أحد أحد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به وهو يعذب فيقول له: ينجيك أحد أحد، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه بما يلقى بلال فى الله، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب وابتاعه من المشركين وأعتقه، فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزل قوله: «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» الآيات. الإيضاح (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي إنا خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ثم بعثنا له الكملة من أفراده، وهم الأنبياء وشرعنا لهم الأحكام

وبينا لهم العقائد تعليما وإرشادا، ثم هو بعد ذلك يختار أحد السبيلين: سبيل الخير والفلاح، والسبيل المعوجّ فيتردّى فى الهاوية. وقصارى ذلك- إن الإنسان خلق نوعا ممتازا عن سائر الحيوان بما أوتيه من العقل، وبما وضع له من الشرائع التي تهديه إلى سبيل الرشاد. ثم زاد الأمر توكيدا فأبان عظيم قدرته فقال: (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي وإنا لنحن المالكون لكل ما فى الدنيا وكل ما فى الآخرة، فنهب ما نشاء لمن نريد، ولا يضيرنا أن يترك بعض عبادنا الاعتداء بهدينا الذي بيّناه لهم، ولا يزيد فى ملكنا اهتداء من اهتدى منهم، لأن نفع ذلك وضره عائد إليهم، فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما ربك بظلام للعبيد. وإذا كان ملك الحياتين لله كان هديه هو الذي يجب اتباعه فيهما، لأن المالك لأمر عالم بوجوه التصرف فيه. ثم بين سبيل الهداية الذي أوجبه على نفسه فقال: (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي لرحمتنا بكم وعلمنا الكامل بمصالحكم أسدينا إليكم الهدى، فأنذرناكم نارا تلتهب يعذب فيها من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من الآيات، وأعرض عن اتباع شرائعه، وانصرف عن وجهة الحق ولم يعد إليها تائبا نادما. (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي وسيبعد عنها المبالغ فى اتقاء الكفر والمعاصي، الشديد التحرز منهما بحيث لا يخطرهما له ببال. ثم وصف الأتقى بأفضل مزاياه فقال: (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي إن الأتقى هو الذي ينفق أمواله فى وجوه البر، طالبا بذلك طهارة نفسه وقربها من ربه، لا مريدا بذلك رياء ولا سمعة ولا طالبا مديح الناس له، فإن ذلك ضرب من النفاق الذي يبطل معه العمل، ولا يكون

لصاحبه عليه ثواب مهما أتعب نفسه وأجهدها، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه. وقد أكد هذا بقوله: (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي إنه لا يقصد بإنفاقه المال مكافأة أحد على نعمة كان قد أسلفها، ولا جزاء معروف كان قد تقدم به إليه. ثم أكده مرة ثانية فقال: (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي لكنه يفعل ذلك قاصدا رضا ربه طالبا مثوبته وحده، تقول: فعلت كذا أبتغى وجه فلان، أي لم يحملنى على الفعل إلا إجلاله وقصد مرضاته، وخيفة الوقوع فيما يغضبه. ثم وعد ذلك الأتقى بالرضا عنه فقال: (وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي ولسوف يرضيه ربه فى الآخرة بثوابه وعظيم جزائه. وفى قوله: (وَلَسَوْفَ) إيماء إلى أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفى القليل من المال، لأن يبلغ العبد منزلة الرضا الإلهى. وقصارى ما سلف: إن الناس أصناف: (1) الأبرار الذين منحهم الله من قوة العقل وصفاء اليقين ما يجعلهم يبتعدون عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. (2) الذين يلون هؤلاء، وهم من تغلبهم الشهوة أحيانا فيقعون فى الذنب، ثم يثوب إليهم رشدهم فيتوبون ويندمون، وهذان القسمان يدخلان فى (الْأَتْقَى) . (3) من يخلط بين الخير والشر فيعتقد وحدانية الله ويقترف بعض السيئات، ويصرّ عليها ولا يتوب منها، فهذا الإصرار منه دليل على أنه غير مصدّق حق التصديق بما جاء فيها من الوعيد. يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» والمراد أن صورة الوعيد تذهب عن

مقاصد هذه السورة

ذهن المخالف وتوجد عنده ضروب أخرى من الصور تقاوم أثر هذه فى النفس وتغلب عليها. (4) الكافرون الجاحدون بالله وبرسله وبما أنزل عليهم، وهذان القسمان يشملهما (الْأَشْقَى) وقد أعدت النار لكل منهما، إلا أن الفاسقين لا يخلدون فيها، ويدخلها الكافرون وهم فيها خالدون. اللهم ابعدنا عن هذه النار التي تتلظى، وأدخلنا فسيح جناتك. مقاصد هذه السورة (1) بيان أن الناس فى الدنيا فريقان: (1) فريق يهيئه الله للخصلة اليسرى، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها، وصدقوا بما وعد الله من الإخلاف على من أنفقوا. (2) فريق يهيئه الله للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة، وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا بالشهوات، وأنكروا ما وعد الله به من ثواب الجنة. (ب) الجزاء فى الآخرة لكل منهما وجعله إما جنة ونعيما، وإما نارا وعذابا أليما.

سورة الضحى

سورة الضحى هى مكية، وآياتها إحدى عشرة، نزلت بعد سورة الفجر. ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى السابقة «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» ولما كان سيد الأتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب ذلك سبحانه بذكر نعمه عزّ وجل عليه. [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) شرح المفردات الضحى: صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقى أشعتها على هذا الكون، وسجى: أي سكن والمراد سكن الأحياء فيه وانقطعوا عن الحركة، ما ودعك ربك: أي ما تركك، وما قلى: أي وما قلاك وما أبغضك، والقلى: شدة الكره والبغض. المعنى الجملي أجمع الرواة على أن سبب نزول هذه السورة حدوث فترة فى نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا إلى الجبال ليتردّى من شواهقها، وأنه ما كان يمنعه إلا تمثل الملك له وإخباره إياه أنه رسول الله حقّا. وإنما حزن لهذه الفترة خيفة أن يكون ذلك من غضب أو قلى من ربه له، بعد أن ذاق حلاوة الاتصال به، وشاهد من جمال الأنس بالوحى ما يثير لواعج

الإيضاح

شوقه إلى التزوّد منه، وقد كان يعلم أنه بشر، لا فضل له على غيره إلا بهذا القرب الذي يعلو به على من عداه، وقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على تكميل نفسه وإعدادها لتحمل ما هى بسبيله من أعباء الرسالة. لا جرم يكون حزنه لهذه الفترة شديدا، وأن يتوجس منه خيفة، ولا عجب أن يدعوه ذلك إلى التفكير فيما كان يفكر فيه، وأن يهمّ بتنفيذه. ومن ثم نزلت هذه السورة حاملة له أجمل البشرى، ملقية فى نفسه الطمأنينة، معدّدة ما أنعم الله به عليه، وكأنه تعالى يقول لرسوله: إن من أنعم عليك بكذا وكذا لم يكن ليتركك ولا ينساك بعد أن هيأك لحمل أمانته، وأعدّك للاضطلاع بأعباء رسالته، فلا تحزن على ما كان من فترة الوحى عنك، ولا يكن فى صدرك حرج منها، فما ذلك إلا لتثبيت قلبك، وتقوية نفسك على احتمال مشاقّها. الإيضاح (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أقسم سبحانه لرسوله بآيتين عظيمتين من آياته فى الكون ضحى النهار وصدره والليل وظلامه- إنه ما تركك وما أبغضك كما يقال لك وما تتوهم فى نفسك. ثم ذكر له ما يثلج صدره، وما فيه كمال الطمأنينة والبشرى فقال: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي وإن أحوالك فى مستأنف حياتك خير لك مما مضى منها، وأن كل يوم ستزداد عزّ، إلى عزّ، وسيرتفع شأنك كل يوم عما قبله، وسأمنحك كل آن جلالا فوق جلالك، ورفعة فوق رفعتك وكأنه يقول له لا تظنّن أنى كرهتك أو تركتك، بل أنت عندى اليوم أشد تمكينا وأقرب اتصالا. ولقد صدق الله وعده، فما زال يسمو بنبيه، ويرفع درجته يوما بعد يوم حتى بلغ الغاية التي لم يبلغها أحد قبله، فجعله رسول الرحمة والهداية والنور إلى جميع خلقه،

[سورة الضحى (93) : الآيات 6 إلى 11]

وجعل محبته من محبة الله، واتباعه والاقتداء به سببا للفوز العظيم بنعيمه، وجعله وأمته شهداء على الناس جميعا، ونشر دينه، وبلّغ دعوته إلى أطراف المعمورة، فأى فضل فوق ذلك الفضل؟ وأي نعمة أضفى من هذه النعمة؟ وأي إكرام فوق هذا الإكرام؟ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ثم زاده فى البشرى فقال: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أي ولسوف يظاهر ربك عليك نعمه، ويوالى عليك مننه، ومنها توارد الوحى عليك بما فيه إرشادك وإرشاد قومك إلى ما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة، وسيظهر دينك على الأديان كلها، وتعلو كلمتك ويرتفع شأنك على شئون الناس جميعا. [سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 11] أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) شرح المفردات ضالا فهدى: أي غافلا عن الشرائع فهداك إلى مناهجها، عائلا: أي فقيرا، فلا تقهر: أي فلا تستذل، فلا تنهر: أي فلا تزجر، فحدّث: أي فأدّ الشكر لموليها المعنى الجملي بعد أن ذكر رضاه عن رسوله، ووعده له أن يمنحه من المراتب والدرجات ما يرضيه، ويثلج قلبه- أردف ذلك بيان أن هذا ليس عجبا منه جل شأنه، فقد أنعم عليه بالنعم الجليلة قبل أن يصير رسولا فكيف يتركه بعد أن أعده لرسالته،

الإيضاح

ثم نهاه عن أمرين: قهر اليتيم وزجر السائل، لما لهما من أكبر الأثر فى التعاطف والتعاون فى المجتمع، ولما فيهما من الشفقة بالضعفاء وذوى الحاجة، ثم أمره بشكره على نعمه المتظاهرة عليه باستعمال كل منها فى موضعها وأداء حقها. الإيضاح (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) أي ألم تكن يتيما لا أب لك يعنى بتربيتك، ويقوم بشئونك، ويهتم بتنشئتك فما زال يحميك ويتعهدك برعايته، ويجنبك أدناس الجاهلية وأوضارها حتى رقيت إلى ذروة الكمال الإنسانى. وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم يتيما، إذ توفى أبوه وهو فى بطن أمه، فلما ولد عطف الله عليه قلب جده عبد المطلب، فما زال يكفله خير كفالة حتى توفى والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فى سن الثامنة، فكفله عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب، فكان به حفيّا، شديد العناية بأمره، وما زال يتعهده حتى كبر وترعرع، حتى أرسله الله رسولا، فقام يؤازره وينصره، ويدفع عنه أذى قريش حتى مات، فاستطاعت قريش أن تنال منه، وتجرّأ عليه سفهاؤهم، وسلطوا عليه غلمانهم، حتى اضطروه إلى الهجرة. ولو تدبر المنصف فى رعاية الله له، وحياطته بحفظه وحسن تنشئته، لوجد من ذلك العجب، فلقد كان اليتيم وحده مدعاة إلى المضيعة وفساد الخلق، لقلة من يحفل باليتيم ويحرص عليه، وكان فى خلق أهل مكة وعاداتهم ما فيه الكفاية فى إضلاله لو أنه سار سيرتهم، لكن عناية الله كانت ترعاه، وتمنعه السير على نهجهم، فكان الوفىّ الذي لا يمين، والأمين الذي لا يخون، والصّادق الذي لا يكذب، والطاهر الذي لم يدنّس برجس الجاهلية. (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي ووجدك حائرا مضطربا فى أمرك، مع اعتقادك أن قومك ليسوا على بصيرة من أمرهم، فعبادتهم باطلة، ومعتقداتهم فاسدة، وكان

يفكر فى دين اليهودية، ثم يرى اليهود أنفسهم ليسوا على حال خير من حال قومه، إذ بدلوا دينهم، وخالفوا ما كان عليه رسولهم، فيبدو عليه الإعراض عنه، ثم يفكر فى دين عيسى عليه الصلاة والسلام، فيرى النصارى على حال شر من حال اليهود، فيرجع عن التفكير فيه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف ما حوته تلك الأديان من الأحكام والشرائع. وأعظم أنواع حيرته ما كان يراه فى العرب أنفسهم من سخف فى العقائد، وضعف فى البصائر، باستيلاء الأوهام عليهم وفساد أعمالهم، وشؤمها فى أحوالهم، بتفرق الكلمة، وتفانيهم فى سفك الدماء، والإشراف على الهلاك باستبعاد الغرباء لهم وتحكمهم فيهم فالحبشة والفرس من جانب، والرومان من جانب آخر. فما العمل فى تقويم عقائدهم، وتخليصهم من تحكم العادات فيهم؟ وأىّ الطرق ينبغى أن يسلك فى إيقاظهم من سباتهم؟ وقصارى ذلك، إنه كان فى قرارة نفسه يعتقد أن قومه قد ضلوا سواء السبيل، وبدلوا دين أبيهم إبراهيم، وكانت حال أهل الأديان الأخرى ليسنت خيرا من حالهم لكن الإله الحكيم لم يتركه ونفسه، بل أنزل عليه الوحى ببين له أوضح السبل كما قال: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» . (وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى) أي إنك كنت فقيرا لم يترك لك والدك من الميراث إلا ناقة وجارية، فأغناك بما أجراه لك من الريح فى التجارة، وبما وهبته لك خديجة من مالها. وخلاصة ما تقدم- إن من آواك فى يتمك، وهداك من ضلالك، وأغناك من فقرك، لا يتركك فى مستقبل أمرك. وبعد أن بين نعمه السابقة طالبه بشكر هذه النعم وأداء حقها فقال:

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تقهر اليتيم ولا تستذله، بل ارفع نفسه بالأدب، وهذّبه بمكارم الأخلاق، ليكون عضوا نافعا فى جماعتك، لا جرثومة فساد يتعدى أذاها إلى كل من يخالطها من أمتك. ومن ذاق مرارة الضيق فى نفسه، فما أجدره أن يستشعرها فى غيره، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتيما، فباعد الله عنه ذل اليتيم فآواه، فمن أولى منه بأن يكرم كل يتيم شكرا لله على نعمته. (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي وأما المستجدى فلا تزجره، ولكن تفضل عليه بشىء أو ردّه ردّا جميلا، وقد يكون المراد من (السَّائِلَ) المسترشد وهو أيضا يطلب الرفق به وبيان ما أشكل عليه من الأمر. (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي أوسع فى البذل على الفقراء بمالك، وأفض من نعمه الأخرى على طالبيها، وليس المراد مجرد ذكر الثروة والإفاضة فى حديثها، فإن ذلك ليس من كرم الأخلاق فى شىء. وقد جرت عادة البخلاء أن يكتموا مالهم، لتقوم لهم الحجة فى قبض أيديهم عن البذل، ولا تجدهم إلا شاكين من القلّ أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل مما آتاهم الله من فضله، ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه وقد استفاضت الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الإنفاق على الفقراء، عظيم الرأفة بهم، واسع الإحسان إليهم، وكان يتصدق بكل ما يدخل فى ملكه ويبيت طاويا. اللهم صل على محمد عبدك ورسولك الذي أوحيت إليه وأرضيته، وشرحت صدره، واجعلنا من الذين يقتفون آثاره، ويتبعون سنته.

مقاصد السورة الكريمة

مقاصد السورة الكريمة اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد: (1) أن الله ما قلا رسوله ولا تركه. (2) وعد رسوله بأنه سيكون فى مستأنف أمره خيرا من ماضيه. (3) تذكيره بنعمه عليه فيما مضى وأنه سيواليها عليه. (4) طلب الشكر منه على هذه النعم. سورة الشرح هى مكية، وآيها ثمان، نزلت بعد سورة الضحى. وهي شديدة الاتصال بما قبلها حتى روى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان: هما سورة واحدة، وكانا يقرآنهما فى الركعة الواحدة، وما كانا يفضلان بينهما بالبسملة، ولكن المتواتر كونهما سورتين وإن كانتا متصلتين معنى، إذ فى كل منهما تعداد النعم وطلب الشكر عليها. [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) شرح المفردات الشرح: البسط والتوسعة، والعرب تطلق عظم الصدر وتريد به القوة وعظيم المنة والمسرة وانبساط النفس، ويفخرون بذلك فى مدائحهم، من قبل أن سعة

الإيضاح

الصدر تعطى الأحشاء فسحة للنمو والراحة، وإذا تم ذلك للمرء كان ذهنه حاضرا لا يضيق ذرعا بأمر، والوزر: الحمل الثقيل، وأنقض: أي أثقل، والظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي صوت خفى. الإيضاح (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) أي إنا شرحنا لك صدرك، فأخرجناك من الحيرة التي كنت تضيق بها ذرعا، بما كنت تلاقى من عناد قومك واستكبارهم عن اتباع الحق، وكنت تتلمس الطريق لهدايتهم، فهديت إلى الوسيلة التي تنقذهم بها من التهلكة، وتجنبهم الردى الذي كانوا مشرفين عليه. وقصارى ذلك- إنا أذهبنا عن نفسك جميع الهموم حتى لا تقلق ولا تضجر، وجعلناك راضى النفس، مطمئنّ الخاطر، واثقا من تأييد الله ونصره، عالما كل العلم أن الذي أرسلك لا يخذلك، ولا يعين عليك عدوا. (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي حططنا عنك ما أثقل ظهرك من أعباء الرسالة حتى تبلغها، فجعلنا التبليغ عليك سهلا، ونفسك به مطمئنة راضية، ولو قوبلت بالإساءة ممن أرسلت إليهم، كما يرضى الرجل بالعمل لأبنائه ويهتم بهم، فالعبء مهما ثقل عليه يخففه ما يجيش بقلبه من العطف عليهم، والحدب على راحتهم، ويتحمل الشدائد وهو راض بما يقاسى فى سبيل حياطتهم وتنشئتهم. (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي وجعلناك عالى الشأن، رفيع المنزلة، عظيم القدر، وأىّ منزلة أرفع من النبوة التي منحكها الله؟ وأي ذكر أنبه من أن يكون لك فى كل طرف من أطراف المعمورة أتباع يمتثلون أوامرك، ويجتنبون نواهيك، ويرون طاعتك مغنما، ومعصيتك مغرما. وهل من فخار بعد ذكرك فى كلمة الإيمان مع العلىّ الرحمن؟ وأي ذكر أرفع

[سورة الشرح (94) : الآيات 5 إلى 8]

من ذكر من فرض الله على الناس الإقرار بنبوته، وجعل الاعتراف برسالته بعد بلوغ دعوته، شرطا فى دخول جنته. هذا إلى أنه صلى الله عليه وسلم أنقذ أمما كثيرة من رقّ الأوهام، وفساد الأحلام، ورجع بهم إلى الفطرة الأولى من حرية العقل والإرادة، والإصابة فى معرفة الحق، ومعرفة من يقصد بالعبادة، فاتحدت كلمتهم فى الاعتقاد بإله واحد بعد أن كانوا متفرقين طرائق قددا، عبّاد أصنام وأوثان، وشموس وأقمار، لا يجدون إلى الهدى سبيلا، ولا للوصول إلى الحق طريقا فأزاح عنهم تلك الغمّة، وأنار لهم طريق الهدى والرشاد. [سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 8] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) شرح المفردات العسر: الفقر والضعف وجهالة الصديق وقوة العدو وإنكار الجميل، فرغت: أي من عمل: فانصب: أي اتعب. المعنى الجملي بعد أن أبان بعض نعمه على رسوله من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، بعد استحكام الكرب، وضيق الأمر- ذكر أن ذلك قد وقع على ما جرت به سنته فى خلقه، من إحداث اليسر بعد العسر، وأكد هذا بإعادة القضية نفسها مؤكدة لقصد تقريرها فى النفوس وتمكينها فى القلوب. الإيضاح (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي فإن مع الضيق فرجا، ومع قلة الوسائل إلى إدراك المطلوب مخرجا إذا تدرّع المرء بالصبر وتوكل على ربه، ولقد كان هذا حال النبي

صلى الله عليه وسلم فإنه قد ضاق به الأمر فى بادئ أمره قبل النبوة وبعدها إذ تألب عليه قومه، لكن ذلك لم يثنه عن عزمه، ولم يقلل من حدّه، بل صبر على مكروههم وألقى بنفسه فى غمرات الدعوة متوكلا على ربه، محتسبا نفسه عنده، راضيا بكل ما يجد فى هذا السبيل من أذى، ولم تزل هذه حاله حتى قيض الله له أنصارا أشربت قلوبهم حبه، وملئت نفوسهم بالرغبة الصادقة فى الدفاع عنه وعن دينه، ورأوا أن لا حياة لهم إلا بهدم أركان الشرك والوثنية، فاشتروا ما عند الله من جزيل الثواب بأرواحهم وأموالهم وأزواجهم، ثم كان منهم من فوّض دعائم الأكاسرة، وأباد جيوش الأباطرة والقياصرة. وقصارى ذلك- إنه مهما اشتد العسر، وكانت النفس حريصة على الخروج منه، طالبة كشف شدته، مستعملة أجمل وسائل الفكر والنظر فى الخلاص منه، معتصمة بالتوكل على ربها، فإنها ولا ريب ستخرج ظافرة مهما أقيم أمامها من عقبات واعترضها من بلايا ومحن وفى هذا عبرة لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيبدّل حاله من الفقر إلى الغنى، ومن قلة الأعوان إلى كثرة الإخوان، ومن عداوة قومه إلى محبتهم إلى أشباه ذلك. ثم أعاد الأسلوب للتوكيد فقال: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) إذا احتملت ذلك العزيمة الصادقة، وعملت بكل ما أوتيت من قوة على التخلص منه، وقابلت ما يقع من عسر بالصبر والأخذ بأسباب تفريجه ولم تستبطئ الفرج، فيدعوها ذلك إلى التواني، وفتور العزيمة. وبعد أن بين نعمه على رسوله ووعده بتفريج كربه- طلب منه أن يقوم بشكر هذه النعم بالانقطاع لصالح العمل والاتكال عليه دون من عداه فقال: (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي فإذا فرغت من عمل فاتعب فى مزاولة عمل آخر، فإنك ستجد فى المثابرة لذة تقرّبها عينك ويثلج لها صدرك.

مقاصد السورة

وفى هذا حث له عليه الصلاة والسلام على المواظبة على العمل واستدامته. (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي ولا ترغب فى ثواب أعمالك وتثميرها، إلا إلى ربك وحده، فإنه هو الحقيق بالتوجه إليه والضراعة له، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين. مقاصد السورة تشتمل هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد: (1) تعداد ما أنعم به على رسوله من النعم. (2) وعده له بإزالة ما نزل به من الشدائد والمحن. (3) أمره بالمداومة على الأعمال الصالحة. (4) التوكل عليه وحده، والرغبة فيما عنده.

سورة التين

سورة التين هى مكية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة البروج. ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى السورة السابقة حال أكمل خلق الله صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا حال النوع الإنسانى وما ينتهى إليه أمره، وما أعد سبحانه لمن آمن يرسوله. [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) شرح المفردات المراد بالتين كما قال الأستاذ الإمام هنا: عهد الإنسان الأول الذي كان يستظل فيه بورق التين حينما كان يسكن الجنة والمراد بالزيتون: عهد نوح عليه السلام وذريته حينما أرسل الطير فحمل إليه ورقة من شجر الزيتون، فاستبشر وعلم بأن الطوفان انحسر عن الأرض، وطور سينين: الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عنده، والبلد الأمين: مكة التي كرمها الله بالكعبة، والتقويم: جعل الشيء على ما ينبغى أن يكون عليه فى التأليف والتعديل يقال قوّمه تقويما: واستقام الشيء وتقوّم: إذا جاء وفق التقويم، وممنون: أي مقطوع، والدّين: الجزاء بعد البعث.

الإيضاح

الإيضاح (وَالتِّينِ) أي قسما بعصر آدم أبى البشر الأول، وهو العهد الذي طفق فيه آدم وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة. (وَالزَّيْتُونِ) أي وقسما بعصر الزيتون عصر نوح عليه السلام وذريته حينما أهلك الله من أهلك بالطوفان، ونجّى نوحا فى سفينته، وبعد لأى ما جاءته بعض الطيور حاملة ورقة من هذا الشجر فاستبشر، وعلم أن غضب الله قد سكن وأذن للأرض أن تبتلع ماءها لتعمر ويسكنها الناس، ثم أرسى السفينة ونزل هو وأولاده وعمروا الأرض. وقصارى ذلك- إن التين والزيتون يذكّران بهذين العصرين عصر آدم أبى البشر الأول، وعصر نوح أبى البشر الثاني. (وَطُورِ سِينِينَ) وهو تذكير بما كان عند ذلك الجبل من الآيات الباهرات التي ظهرت لموسى وقومه، وما كان بعد ذلك من إنزال التوراة عليه، وظهور نور التوحيد بعد أن تدنست جوانب الأرض بالوثنية، وما زال الأنبياء بعده يدعون أقوامهم إلى التمسك بهذه الشريعة، ثم عرضت لها البدع، فجاء عيسى مخلّصا لها مما أصابها، ثم أصاب قومه ما أصاب الأمم قبلهم من الاختلاف فى الدين، حتى منّ الله على الناس بعهد النور المحمدي، وإليه الإشارة بقوله: (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) الذي شرفه الله بميلاد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكرّمه بالبيت الحرام. وخلاصة ما سلف- إن الله أقسم بهذه العهود الأربعة التي كان لها أثر بارز فى تاريخ البشر، وفيها أنقذ الناس من الظلمات إلى النور.

ثم ذكر المحلوف عليه فقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي لقد خلقنا الإنسان فى أحسن صورة، فجعلناه مديد القامة، حسن البزّة، يتناول ما يريد بيده لا كسائر الحيوان يتناول ما يريد بفيه إلى أنه خصه بالعقل والتمييز والاستعداد لقبول العلوم والمعارف، واستنباط الحيل التي بها يستطيع أن يكون له السلطان على جميع الكائنات، وله من الحول والطّول ما يمتد إلى كل شىء. لكن قد غفل عما ميّز به، وظنّ نفسه كسائر المخلوقات، وراح يعمل ما لا يبيحه له العقل، ولا ترضى عنه الفطرة، وانطلق يتزوّد من متاع الدنيا والاستمتاع بشهواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأعرض عن النظر فيما ينفعه فى معاده، وما يرضى به ربه وما يوصله إلى النعيم المقيم، «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» . وهذا ما أشار إليه بقوله: (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إنه استشرى فيه الفساد، وأمعن فى سبيل الضلالة، ونسى فطرته وعاد إلى حيوانيته، وتردّى فى هاوية الشرور والآثام، إلا من عصمهم الله فظلوا على فطرتهم التي فطرهم عليها، وهم من عناهم سبحانه بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إلا الذين أشربت قلوبهم عقيدة الإيمان، وعرفوا أن لهذا الكون موجدا دبّر أمره، ووضع لخلقه شرائع يسيرون على نهجها، وأيقنوا أن للشر جزاء وللخير مثله. وهؤلاء سيعطون أجر صالح أعمالهم إذا انتقلوا إلى الحياة الثانية، وهم أتباع الأنبياء ومن هداهم الله إلى الحق من كل أمة. ثم وبخ المشركين على التكذيب بالجزاء بعد ظهور الدليل عليه فقال: (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟) أي فأىّ سبب يحملك أيها الإنسان على التكذيب

بالجزاء على أعمالك بعد أن تظاهرت لديك الأدلة على ذلك، فإن الذي خلقك من نطفة ثم صيّرك بشرا سويّا- قادر على أن يبعثك ويحاسبك فى نشأة أخرى، ومن شاهد ذلك وتدبره وأعمل فيه فكره ثم بقي على عناده، فقد طمس على بصيرته وضل سواء السبيل. ثم زاد ما سلف توكيدا فقال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) صنعا وتدبيرا، ومن ثم وضع الجزاء لهذا النوع الإنسانى، ليحفظ له منزلته من الكرامة التي أعدها له بأصل فطرته، ثم انحدر منها إلى المنازل السفلى بجهله وسوء تدبيره، ولهذا أرسل له الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الشرائع ليبينوها له ويدعوه إليها رحمة به. سبحانك، ما أعدلك وأحكمك، وأنت اللطيف الخبير، وإليك المرجع والمصير.

سورة العلق

سورة العلق هى مكية، وآياتها تسع عشرة، وهى أول ما نزل من القرآن. ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر هناك خلق الإنسان فى أحسن تقويم، وذكر هنا خلق الإنسان من علق، إلى أنه ذكر هنا من أحوال الآخرة ما هو كالشرح والبيان لما سلف. [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) تقدمة تاريخية جاء فى صحيح الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتى غار حراء (حراء جبل بمكة) يتعبد فيه الليالى ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتى فجأه الوحى وهو فى الغار إذ جاءه الملك فقال له: اقرأ، قال ما أنا بقارئ، قال: فأخذه ثانية فغطّه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ، قال ما أنا بقارئ. قال فأخذه ثالثة فغطّه حتى بلغ منه الجهد فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. قال الرواة: فرجع ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زمّلونى زملونى، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع فأخبر خديجة الخبر، ثم قال: قد خشيت على نفسى، فقالت له: كلّا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق.

الإيضاح

ثم انطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى (ابن عم خديجة) وكان امرأ قد تنصر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخى ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على عيسى، ليتنى فيها جذعا، ليتنى أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجىّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزّرا، ثم لم ينشب أن توفّى، رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم. ومن ذلك تعلم أن صدر هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن الكريم، وأول رحمة رحم الله بها عباده، وأول خطاب وجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما بقية السورة فهو متاخر النزول، نزل بعد شيوع بعثته صلى الله عليه وسلم، وبعد أن دعا قريشا إلى الإيمان به، وآمن به قوم منهم، وكان جمهرتهم يتحرشون بمن آمن به ويؤذونهم، ويحاولون ردهم عن تصديقه، والإيمان بما جاء به من عند ربه. الإيضاح (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي صر قارئا بقدرة الله الذي خلقك وإرادته بعد أن لم تكن كذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا ولا كاتبا، وقد جاءه الأمر الإلهى بأن يكون قارئا وإن لم يكن كاتبا، وسينزل عليه كتابا يقرؤه، وإن كان لا يكتبه.

وقصارى ذلك- إن الذي خلق الكائنات وأوجدها، قادر أن يوجد فيك القراءة، وإن لم يسبق لك تعلمها. ثم بين كيفية الخلق فقال: (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) العلق: الدم الجامد، أي إن الذي خلق الإنسان وهو أشرف المخلوقات كلها من العلق، وآتاه القدرة على التسلط على كل شىء مما فى هذا العالم الأرضى، وجعله يسوده بعلمه، ويسخره لخدمته، قادر أن يجعل من الإنسان الكامل كالنبى صلى الله عليه وسلم قارئا وإن لم يسبق له تعلّم القراءة. والخلاصة- إن من كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا حيا ناطقا يسود المخلوقات الأرضية جميعها، قادر أن يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم قارئا وإن لم يتعلم القراءة والكتابة. (اقْرَأْ) أي افعل ما أمرت به من القراءة. وكرر الأمر لأن القراءة لا تكسبها النفس إلا بالتكرار والتعود على ما جرت به العادة وتكرار الأمر الإلهى يقوم مقام تكرار المقروء، وبذلك تصير القراءة ملكة للنبى صلى الله عليه وسلم، تدبر قوله تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» . ثم أزاح العذر الذي بينه صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ، أي إنى أمي لا أقرأ ولا أكتب فقال: (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي وربك أكرم لكل من يرتجى منه الإعطاء، فيسير عليه أن يفيض عليك نعمة القراءة من بحار كرمه. ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة فقال: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي الذي جعل القلم واسطة التفاهم بين الناس على بعد الشّقّة، كما أفهمهم بواسطة اللسان والقلم آلة جامدة لا حياة فيها وليس من شأنها الإفهام، فمن جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان. أفيصعب عليه أن يجعل منك قارئا مبيّنا، وتاليا معلّما، وأنت إنسان كامل؟

[سورة العلق (96) : الآيات 6 إلى 19]

وقد وصف سبحانه نفسه بأنه خلق الإنسان من علق، وأنه علمه بالقلم ليبين. أحوال هذا الإنسان، وأنه خلق من أحقر الأشياء، وبلغ فى كماله الإنسانى أن صار عالما بحقائق الأشياء، فكأنه قيل: تدبر أيها الإنسان تجد أنك قد انتقلت من أدنأ المراتب وأخسها، إلى أعلى الدرجات وأرفعها، ولا بد لذلك من مدبر قادر حكيم أحسن كل شىء خلقه. ثم زاد الأمر بيانا بتعداد نعمه فقال: (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) أي إن من صدر أمره بأن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم قارئا، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم، وممتاز به عن غيره من الحيوان، وكان فى بدء أمره لا يعلم شيئا، فهل من عجب أن يعلمك القراءة، ويعلمك كثيرا من العلوم سواها، ونفسك مستعدة لقبول ذلك. وفى الآية دليل على فضل القراءة والكتابة والعلم. ولعمرك لولا القلم ما حفظت العلوم، ولا أحصيت الجيوش، ولضاعت الديانات، ولا عرف الأواخر معارف الأوائل، وعلومهم ومخترعاتهم وفنونهم، ولما سجّل تاريخ السابقين: المسيئين منهم والمحسنين، ولا كان علمهم نبراسا يهتدى به الخلف، ويبنى عليه ما به ترقى الأمم، وتتقدم المخترعات. كما أن فيها دليلا على أن الله خلق الإنسان الحي الناطق مما لا حياة فيه ولا نطق، ولا شكل ولا صورة، وعلمه أفضل العلوم وهى الكتابة، ووهبه العلم ولم يكن يعلم شيئا، فما أعجب غفلتك أيها الإنسان!. [سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19] كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

شرح المفردات

شرح المفردات المراد بالإنسان: أي فرد من هذا النوع، يطغى: أي يتكبر ويتمرد: استغنى: أي صار ذا مال وأعوان يغنى بهما، والرجعى والمرجع والرجوع: المصير والعودة، أرأيت: أي أخبرنى والمراد من الاستخبار إنكار الحال المستخبر عنها وتقبيحها على نحو ما جاء فى قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟» والسفع: الجذب بشدة والناصية: شعر الجبهة والمراد بذلك القهر والإذلال بأشد أنواع العذاب، والنادي: المكان الذي يجتمع فيه القوم، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله قال زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل والزبانية: واحدهم زبنية (بكسر فسكون) وزبنى (بالكسر) ، والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم الله على تعذيب العصاة من خلقه. المعنى الجملي بعد أن ذكر سبحانه فى مطلع السورة دلائل التوحيد الظاهرة، ومظاهر القدرة الباهرة، وعلامات الحكمة، ودقة الصنع، وكان ذلك كله بحيث يبتعد من العاقل ألا يلتفت إليه، أتبعه جل شأنه ببيان السبب الحقيقي فى طغيان الإنسان وتكبر وتماديه، وهو حبه للدنيا، واشتغاله بها، وجعلها أكبر همه، وذلك يعمى قلبه، ويجعله يغفل عن خالقه، وما يجب له في عنقه من إجلال وتعظيم، وقد كان ينبغى أن يكون حين الغنى والميسرة، وكثرة الأعوان، واتساع الجاه، أشد حاجة إلى الله

الإيضاح

منه فى حال الفقر والمسكنة، لأنه فى حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه وأعضائه، أما فى حال الغنى فيتمنى ذلك ويتمنى سلامة مماليكه وأتباعه وأمواله. ألا يعلم أنه راجع إلى ربه فمجازيه على ما يعمل؟ وقد بلغ من حمقه أن يأمر وينهى، وأنه يوجب على غيره طاعته، ثم هو بعد ذلك يعرض عن طاعة ربه. أما ينبغى له أن يهتدى ويشتغل بأمر نفسه؟ فمن كان ذا عقل ورأى وثروة وجاه وأعوان، واختار الهدى، وتخلق بأخلاق المصلحين، كان ذلك خيرا له، وأجدى. وإنا لننكلنّ به نكالا شديدا فى العاجلة، ونهيننّه يوم العرض والحساب، وليدع أمثاله من المغرورين، فإنهم لن يمنعوه، ولن ينصروه ثم ختم السورة بأمره بالتوفر على عبادة ربه فعلا وإبلاغا للناس، مبتغيا بذلك القربى منه. الإيضاح (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي حقا إن أمر الإنسان لعجيب فإنه متى أحسّ من نفسه قدرة وثروة خرج من الحد الذي يجب أن يكون عليه، واستكبر عن الخشوع لربه، وتطاول بأذى الناس، وعدّ نفسه فوقهم جميعا، وقد كان من حقه أن يكون وإياهم أعضاء أسرة واحدة يتعاونون فى السراء والضراء. ويحب الخير لهم كما يحب لنفسه. روى البخاري: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» . وروى عن علىّ فى نصيحته لابنه الحسن: أحب الخير لغيرك كما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها. وقد حكم على الإنسان باعتبار الأعم الأغلب فى أفراده، وإلا فإن الغنى والقوة فى أيدى الأتقياء من وسائل الخير، وأفضل أسباب السعادة الدنيوية والأخروية،

لأنهم يستعملونهما فيما يرضى ربهم، ويعود عليهم بالنفع فى دينهم ودنياهم. ثم حذر من الطغيان وأنذر من عاقبته، وأبان أن ما بيد الطاغي عارية، وليست نفسه بباقية، وأن مرجع الأمر كله لله فقال: (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي إن المرجع إلى ربك وحده، وهو مالك أمرك وما تملك، وسيتبين لك عظيم غرورك حينما تخرج من هذه الحياة، وتظهر فى مظهر الذل، وتحاسب على كل ما اجترحته فى حياتك الأولى، قلّ أو كثر، عظم أو حقر كما قال: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» . ثم أعقب ما تقدم بالوعيد والتهديد والتعجيب فقال: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى) أي أخبرنى عن حال هذا الأحمق، فإن أمره لعجب، فقد بلغ به الكبر والتمرد والعناد أن ينهى عبدا من عبيد الله عن صلاته ويعتقد أنه يجب عليه طاعته، وهو ليس بخالق ولا رازق، فكيف يستسيغ ذلك لنفسه، ويعرض عن طاعة الخالق الرازق. وقد روى أن عليا كرم الله وجهه رأى قوما يصلون قبل صلاة العيد فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى» . (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي أخبرنى عن حال ذلك الطاغية لو تخلق بأخلاق المصلحين، ودعا إلى البر وتقوى الله، أما كان ذلك خيرا له من الكفر به والنهى عن طاعته، فإن ذلك يفوّت عليه أعلى المراتب، ويجعله فى أحط الدركات وأدناها.

والخلاصة- أما كان الأفضل له أن يهتدى ويهدى غيره إلى خصال البر والخير، وقد كانت هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم فعمله كان إما فى إصلاح نفسه بالعبادات من صلاة وصيام وغيرهما، وإما فى إصلاح غيره بأمره بالتقوى ودعائه إليها. (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى) أي أنبئنى عن حال هذا الكافر، إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة. وأمارات القدرة الباهرة، وأعرض عن دعوتك والاستماع لهديك، ودعا الناس إلى مثل ذلك أفلا يخشى أن تحل به قارعة، ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله؟ ألا عقل له يرشده إلى أن خالق هذا الكون مطلع على عمله، وأنه حكيم لا يهمل عقابه، وأنه سيؤاخذه بكل ما اقترف من جرم؟ ولا يخفى ما فى هذا من تهديد وتخويف للعصاة والمذنبين. ثم زاد فى الزجر والوعيد فقال: (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أي لا يستمرنّ بهذا الكافر جهله وغروره وطغيانه، قسما لئن لم ينته عن هذا الطغيان، ويكفّ عن نهى المصلى عن صلاته لنأخذن بناصيته ولنذيقنه العذاب الأليم. ألا إن تلك الناصية لكاذبة لغرورها بقوتها، مع أنها فى قبضة خالقها، فهي تزعم ما لا حقيقة له، وإنها لخاطئة، لأنها طغت وتجاوزت حدها، وعتت عن أمر ربها. ونسبة الكذب والخطيئة إلى الناصية، والكاذب والمخطئ صاحبها، من قبل أنها مصدر الغرور والكبرياء. وقد أمر هذا الكافر على ضرب من التهكم والتوبيخ بأن يدعو أهل الدفاع من قومه وذوى النجدة والبطش لينقذوه مما سيحل به فقال: (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) أي فليجمع أمثاله ممن ينتدى معهم ليمنع المصلين المخلصين، ويؤذى أهل الحق الصالحين، فإنه إن فعل ذلك تعرض لسخط

مقاصد هذه السورة

ربه والتنكيل به، وسندعو له من جنودنا كل قوىّ متين لا قبل له بمغالبته فيهلكه فى الدنيا، أو يرديه فى النار فى الآخرة. والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم الله على تعذيب العصاة من خلقه، وسمّوا زبانية لأنهم يزبنون الكفار فى النار أي يدفعونهم ويسوقونهم إليها. روى أن أبا جهل قال للنبى صلى الله عليه وسلم حين أغلظ له فى القول: يا محمد بمن تهددنى؟ وإنى لأكبر هذا الوادي ناديا. وروى أنه قال: لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لأطأن عنقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو فعل لأخذته الملائكة. ثم بالغ فى زجر الكافر عن صلفه وكبريائه، ونفى قدرته علي ما تهدد به فقال: (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي إنه لن يصل إلى زعمه وأن يدعو نادى قومه، ولئن دعاهم لا ينفعونه ولا ينصرونه، فإنه أذل وأحقر من أن يقاومك، فلا تطعه إذا نهاك عن عبادة ربك كما قال: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ» وتوفر على عبادته بالفعل وإبلاغ الرسالة للناس، وتقرّب بذلك إليه، ولا تبتعد عنه بتركها، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وصلّ وسلم ربنا على من أمرته بالتقرب إليك، ونهيته عن طاعة عدوك الصّلف المتكبر. مقاصد هذه السورة تشتمل هذه السورة على المقاصد الآتية: (1) حكمة الله فى خلق الإنسان، وكيف رقاه من جرثومة صغيرة إلى أن بسط سلطانه على جميع العوالم الأرضية. (2) إنه لكرمه وعظيم إحسانه علمه من البيان ما لم يعلم، وأفاض عليه من العلوم ما جعل له القدرة على غيره مما فى الأرض. (3) بيان أن هذه النعم على توافرها قد غفل عنها الإنسان، فإذا رأى نفسه غنيا صلف وتجبر واستكبر.

سورة القدر

سورة القدر هى مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة عبس. ومناسبتها لما قبلها- أن فى تلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ القرآن باسم ربه الذي خلق، واسم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وفى هذه ذكر القرآن ونزوله وبيان فضله، وأنه من عند ربه ذى العظمة والسلطان، العليم بمصالح الناس وبما يسعدهم فى دينهم ودنياهم، وأنه أنزله فى ليلة لها من الجلال والكمال ما قصته السورة الكريمة. [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) شرح المفردات القدر: العظمة والشرف، من قولهم لفلان قدر عند فلان: أي منزلة وشرف، تنزل الملائكة: أي تنزل وتتجلى للنفس الطاهرة التي هيأها الله لقبول تجليها، وهى نفس النبي الكريم، سلام: أي أمن من كل أذى وشر، مطلع الفجر: أي وقت طلوعه. تقدمة تبين ميقات هذه الليلة أشار الكتاب الكريم إلى زمان نزول القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فى أربعة مواضع من كتابه الكريم، والقرآن يفسر بعضه بعضا.

الإيضاح

(1) فى سورة القدر: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» . (2) فى سورة الدخان: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» . (3) فى سورة البقرة: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ» . (4) فى سورة الأنفال: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . فآية القدر صريحة فى أن إنزال القرآن كان فى ليلة القدر، وآية الدخان تؤكد ذلك وتبين أن النزول كان فى ليلة مباركة، وآية البقرة ترشد إلى أن نزول القرآن كان فى شهر رمضان، وآية الأنفال تدل على أن إنزال القرآن على رسوله كان فى ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين فى غزوة بدر، التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، ونصر حزب الرحمن على حزب الشيطان، ومن ذلك يتضح أن هده الليلة هى ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان. الإيضاح (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي إنا بدأنا ننزل الكتاب الكريم فى ليلة الشرف، ثم أنزلناه بعد ذلك منجما فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث التي كانت تدعو إلى نزول شىء منه، تبيانا لما أشكل من الفتوى فيها، أو عبرة

بما يقص فيه من قصص وزواجر، ولا شك أن البشر كان فى حاجة إلى دستور يبين لهم ما التبس عليهم من أمر دينهم ودنياهم، ويوضح لهم أمر النشأة الأولى وأمر النشأة الآخرة، لأنهم كانوا أعجز من أن يفهموا مصالحهم الحقة حتى يسنّوا لأنفسهم من النظم ما يغنيهم عن الدين والتدين، وحوادث الكون التي نراها رأى العين كفيلة بأن تبين وجه الحق فى ذلك، فإن الناس من بدء الخليقة يبدئون ويعيدون. ويصححون ويراجعون فى قوانينهم الوضعية، ثم يستبين لهم بعد قليل من الزمن أنها لا تكفى لهدى المجتمع والأخذ بيده إلى موضع الرشاد، وتمنعه من الوقوع فى مهاوى الزلل، ومن ثم قيل: لا غنى للبشر عن دين ولا عن وازع روحى يضع لهم مقابيس الأشياء وقيمها بعد أن أبان لهم العلم وصفها وخواصها، كما لا غنى له عن الاعتقاد فى قوة غيبية يلجأ إليها حين يظلم عليه ليل الشك، وتختلط عليه صروف الحياة وألوان مآسيها اهـ. ثم أشار إلى أن فضلها لا يحيط به إلا هو فقال: (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟) أي ولم تبلغ درايتك وعلمك غاية فضلها، ومنتهى علوّ قدرها. وفى هذا إيماء إلى أن شرفها مما لا يحيط به علم العلماء، وإنما يعلمه علام الغيوب الذي خلق العوالم وأنشأها من العدم. ثم أوضح مقدار فضلها فقال: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) لأن ليلة يسطع فيها نور الهدى وتكون فاتحة التشريع الجديد الذي أنزل لخير البشر، ويكون فيها وضع الحجر الأساسى لهذا الدين الذي هو آخر الأديان الصالح لهم فى كل زمان ومكان، هى خير من ألف شهر من شهورهم التي كانوا يتخبطون فيها فى ظلام الشرك وضلال الوثنية، حيارى لا يهتدون إلى غاية، ولا يقفون عند حد.

وقد يكون التحديد بالألف جاريا على ما يستعملونه فى تخاطبهم من إرادة الكثرة منه، لا إرادة العدد المعين، كما جاء فى قوله: «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» . والله تعالى يفضل ما شاء من زمان ومكان لمعنى من المعاني التي تدعو إلى التفضيل، وله الحكمة البالغة. وأي عظمة أعلى من عظمة ليلة يبتدئ فيها نزول هذا النور والهداية للناس بعد أن مضت على قومه صلى الله عليه وسلم حقب متتابعة وهم فى ضلال الوثنية. وأىّ شرف أرفع من شرف ليلة سطع فيها بدر المعارف الإلهية على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة بعباده، يبشرهم وينذرهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ويجعل منهم أمة تحرر الناس من استعباد القياصرة، وجبروت الأكاسرة، ويجمعهم بعد الفرقة، ويلمّ شعثهم بعد الشتات. فحقّ على المسلمين أن يتخذوا هذه الليلة عيدا لهم، إذ فيها بدأ نزول ذلك الدستور السماوي، الذي وجه المسلمين تلك الوجهة الصالحة النافعة، ويجددوا العهد أمام ربهم بحياطته بأنفسهم وأموالهم، شكرا له على نعمه، ورجاء مثوبته. ثم ذكر سبحانه بعض مزايا هذه الليلة المباركة فقال: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي تنزلت الملائكة من عالمها الروحاني حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم، وتمثل له الروح (جبريل) مبلّغا للوحى، وهذا التجلي على النفس الكاملة كان بإذن ربهم بعد أن هيأه لقبوله ليبلغ عباده ما فيه الخير والبركة لهم. ونزول الملائكة إلى الأرض شأن من شئونه تعالى، لا نبحث عن كيفيته، فنحن نؤمن به دون أن نحاول معرفة تفاصيله وأسراره، فما عرف العالم بعد علمه

المادي بشتى وسائله إلا النذر اليسير من الأكوان كما قال تعالى: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» . والخلاصة- إن هذه الليلة عيد للمسلمين لنزول القرآن فيها، وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك، تشاركهم فيها الملائكة بما يشعر بعظمتها، ويشعر بفضل الإنسان وقد استخلفه الله فى الأرض. (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي هذه الليلة التي حفّها الخير بنزول القرآن، وشهود ملائكة الرحمن، ليلة كلها سلامة وأمن، وكلها خير وبركة، من مبدئها إلى نهايتها ففيها فرّج الله الكرب عن نبيه، وفتح له سبل الهداية والإرشاد. وصل وسلم ربّنا على محمد الذي أكرمته بإنزال الدستور الشامل لخير البشر إلى يوم القيامة.

سورة البينة

سورة البينة هى مدنية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة الطلاق. ووجه مناسبتها لما قبلها- أن قوله: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» إلخ كالعلة لإنزال القرآن، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة. [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) شرح المفردات أهل الكتاب: اليهود والنصارى، المشركون: عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم، منفكين: أي مفارقين ما هم عليه، والبينة: الحجة الواضحة، والمراد

المعنى الجملي

بها النبي صلى الله عليه وسلم، والصحف: واحدها صحيفة: وهى ما يكتب فيه، مطهرة: أي مبرأة من الزور والضلال، والقيمة: المستقيمة التي لا عوج فيها لاشتمالها على الحق، والبينة: الثابتة الدليل، والإخلاص: أن يأتى بالعمل خالصا له تعالى، لا يشرك به سواه، الدين: العبادة، وإخلاص الدين لله: تنقيته من أدران الشرك، حنفاء: واحدهم حنيف، وهو فى الأصل المائل المنحرف والمراد به المنحرف عن الزيغ إلى إسلام الوجه لله، والبرية: الخليقة، خشى الله: أي خاف عقابه. المعنى الجملي كان اليهود والنصارى من أهل الكتاب فى ظلام دامس من الجهل بما يجب الاعتقاد به والسير عليه من شرائع أنبيائهم، إلا من عصم الله، لأن أسلافهم غيروا وبدّلوا فى شرائعهم، وأدخلوا فيها ما ليس منها، إما لسوء فهمهم لما أنزل على أنبيائهم، وإما لاستحسانهم ضروبا من البدع توهموها مؤيدة للدين، وهى هادمة لأركانه، وإما لإفحام خصومهم، والرغبة فى الظفر بهم. وقد توالت على ذلك الأزمان، وكلما جاء جيل زاد على ما وضعه من قبلهم حتى خفيت معالم الحق، وطمست أنوار اليقين. وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممن مرنت نفوسهم على عبادتها، والخنوع لها، وأصبح من العسير تحويلهم عنها، زعما منهم أن هذا دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وكان الجدل ينشب حينا بين المشركين واليهود، وحينا آخر بين المشركين والنصارى، وكان اليهود يقولون للمشركين: إن الله سيبعث نبيا من العرب من أهل مكة، وينعتونه لهم ويتوعدونهم بأنه متى جاء نصروه، وآزروه، واستنصروا به عليهم حتى يبيدهم. قد كان هذا وذاك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قام المشركون يناوئونه

الإيضاح

ويرفعون راية العصيان فى وجهه، وألّبوا الناس عليه، وآذوا كل من اتبعه وسلك سبيله ممن أنار الله بصائرهم، وشرح صدورهم لمعرفة الحق. كذلك قلب له اليهود ظهر المجنّ بعد أن كانوا من قبل يستفتحون به، إذا وجدوا نعته عندهم فى التوراة، فزعموا أن ما جاء به من الدين ليس بالبدع الجديد، بل هو معروف فى كتبهم التي جاءت على لسان أنبيائهم، فلا ينبغى أن يتركوا ما هم عليه من الحق، ليتبعوا رجلا ما جاء بأفضل مما بين أيديهم، بل قد بلغ الأمر بهم أن كانوا عليه مع المشركين الذين كانوا يعاندونهم ويتهددونهم بأنهم سيتبعون هذا النبي وينصرونه. ففى الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون واضح الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر فيه- نزلت هذه السورة. الإيضاح (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لم يكن الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنكروا نبوته من اليهود والنصارى والمشركين بمفارقين لكفرهم، تاركين لما هم عليه من الغفلة عن الحق، والوقوف عند ما كان عليه آباؤهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا، حتى يأتيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فيحدث مجيئه رجّة فيما رسخ من عقائدهم، وتمكن من عاداتهم، ومن ثم أخذوا يحتجون لعنادهم بأن ما جاء به هو ما كان بين أيديهم وليس بمستحسن أن يتبع، والبقاء على ما هم عليه أجدر وأجمل، والسير على نهج الآباء أشهى إلى النفس وأسلم. ثم فسر البينة التي تعرّفهم وجه الحق فقال: (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي هذه البينة هى محمد صلى الله عليه وسلم يتلو لهم صحف القرآن المطهرة من الخلط والزيغ والتدليس، والتي

تنبعث منها أشعة الحق كما قال: «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» وفيها الصحيح القويم من كتب الأنبياء السابقين كموسى وعيسى وإبراهيم كما قال «وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» ، وقال: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» . وقد يكون المراد بالكتب سور القرآن وآياته فإن كل سورة منه كتاب قويم، أو الأحكام والشرائع التي تضمنها كلام الله، والتي بها يتبين الحق من الباطل كما قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ» . وقصارى ذلك- إن حال الكافرين من اليهود والنصارى والمشركين بعد محى الرسول تخالف حالهم قبلها، فقد كانوا قبل مجيئه كفارا يتيهون فى عماية من الأهواء والجهالات، فلما بعث آمن به قوم منهم، فلم تبق حالهم كما كانت قبل، إلى أنهم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم كانوا جازمين بما هم عليه، واثقين بصحته، فلما بعث إليهم تغيرت حال جميعهم، فمنهم من آمن به، واعتقد أن ما كان فيه ضلال وباطل، ومنهم من لم يؤمن ولكنه صار مترددا فى صحة ما هو عليه، أو هو واثق بعدم صحته، ولكن يمنعه العناد والتكبر والاقتداء بالآباء من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم سلّى رسوله صلى الله عليه وسلم عن تفرق القوم فى شأنه فقال: (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لا تبخع نفسك عليهم حسرات، ولا يكوننّ فى صدرك حرج منهم، فإن هذا شأنهم الذي درجوا عليه، وديدنهم وديدن أسلافهم الذين بدلوا وافتروا على أنبيائهم، وتفرقوا طرائق قددا حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند غيره بغيا وعدوانا وقولا بالتشهى والهوى، ولم يكن تفرقهم لقصور حجتك أو خفاء شأنك عليهم، فهم إن يجحدوا

ييّنتك فقد جحدوا بينة من قبلك، وإن أنكروا نبوتك فقد أنكروا آيات الله بعد ما استيقنتها أنفسهم. وإذا كانت هذه حال أهل الكتاب فما ظنك بالمشركين وهم أعرق فى الجهالة وأسلس مقادة للهوى. ثم أنّبهم ووبخهم على ما صاروا إليه من الأفعال، وعلى ما بلغوه من فساد العقل والضلال فقال: (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي إنهم تفرقوا واختلفوا وهم لم يؤمروا إلا بما يصلح دينهم ودنياهم، وما يجلب لهم سعادة فى معاشهم ومعادهم من إخلاص لله فى السر والعلن، وتخليص أعمالهم من الشرك به، واتباع ملة إبراهيم الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة له كما قال: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وقال: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» . والمراد من إقامة الصلاة الإتيان بها مع إحضار القلب لهيبة المعبود، ليعتاد الخضوع له، وإيتاء الزكاة إنفاقها فيما عين لها فى الكتاب الكريم من المصارف. (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي هذا الذي ذكر من إخلاص العبادة للخالق، والميل عن الشرك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، هو الدين الذي جاء فى الكتب القيمة. وقصارى ما سلف- إن أهل الكتاب افترقوا فى أصول الدين وفروعه، مع أنهم ما أمروا إلا بأن يعبدوا الله ويخلصوا له فى عقائدهم وأعمالهم، وألا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف. وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب فى افتراقهم فى دينهم، فما بالنا نحن المسلمين وقد ملأنا ديننا بدعا ومحدثات، وتفرقنا فيه شيعا، أفليس ما نحن فيه من ذلّ وهوان، وضعف بين الأمم جزاء من ربنا لما صرنا إليه من انحراف عن منهج الشرع القويم، والسير على الصراط المستقيم؟.

ثم بين جزاء الذين جحدوا رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي إن هؤلاء الذين دسّوا أنفسهم بقبيح الشرك واجتراح المعاصي، وإنكار الحق الواضح بعد أن عرفوه كما يعرفون أبناءهم، يجازيهم ربهم بالعقاب الذي لا يخلصون منه أبدا، فيدخلهم نارا تلظى جزاء ما كسبت أيديهم، وجزاء إعراضهم عما دعا إليه الداعي، وهدت إليه الفطرة. ثم حكم عليهم بحكم آخر فقال: (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي هم شر الخليقة على الإطلاق، إذ منكر الحق بعد معرفته، وقيام الدليل عليه منكر لعقله، جالب لنفسه الدمار والوبال. وبعد أن ذكر جزاء الجاحدين الكافرين، أردفه جزاء المؤمنين المخبتين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي إن الذين سطع نور الدليل فى قلوبهم، فاهتدوا به وصدقوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا صالح الأعمال، فبذلوا النفس فى سبيل الله وجهاد أعدائه، وبذلوا نفيس المال فى أعمال البر، وأحسنوا معاملة خلقه، أولئك هم خير الخليقة، لأنهم بمتابعة الهدى أدّوا حق العقل الذي شرفهم الله به، وبعملهم للصالحات حفظوا الفضيلة التي جعلها الله قوام الوجود الإنسانى. ثم بين ما سيلقون من جزاء عند ربهم فقال: (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي هؤلاء يجازيهم ربهم بجنات يقيمون فيها أبدا، وفيها من اللذائذ ما هو أكمل وأوفر من لذات الدنيا. وعلينا أن نؤمن بالجنة ولا نبحث عن حقيقتها، ولا أين موضعها، ولا كيف نتمتع فيها، فإن علم ذلك عند ربنا لا يعلمه إلا هو، فهو من علم الغيب الذي استأثر بعلمه.

سورة الزلزلة

ثم ذكر أسباب هذا الجزاء فقال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي إنهم حازوا رضا الله بالتزام حدود شريعته، فحمدوا مغبة أعمالهم، ونالوا ما يرضيهم فى دنياهم وآخرتهم. (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي هذا الجزاء الحسن إنما يكون لمن ملأت قلبه الخشية والخوف من ربه. وفى ذلك تحذير من خشية غير الله، وتنفير من إشراك غيره به فى جميع الأعمال كما أن فيه ترغيبا فى تذكر الله ورهبته لدى كل عمل من أعمال البر حتى يكون العمل له خالصا، إلى أن فيه إيماء إلى أن أداء بعض العبادات كالصلاة والصوم بحركات وسكنات مجردين عن الخشية لا يكفى فى نيل ما أعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات من الجزاء، لأن الخشية لم تحلّ قلوبهم، ولم تهذب نفوسهم. نسأل الله أن يطهر قلوبنا، وينير بصائرنا، حتى لا نرهب سواه، ولا نخشى إلا إياه، والحمد لله رب العالمين. سورة الزلزلة هى مدنية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة النساء. ووجه مناسبتها لما قبلها- أنه لما ذكر فيما سلف جزاء المؤمنين والكافرين، بين هنا وقت ذلك الجزاء وعلاماته. [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

شرح المفردات

شرح المفردات الزلزلة: الحركة الشديدة مع اضطراب، والأثقال: واحدها ثقل، وهو فى الأصل متاع البيت كما قال: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» والمراد هنا ما فى جوف الأرض من الدفائن كالموتى والكنوز، وتقول أوحيت له وأوحيت إليه ووحي له ووحي إليه، أي كلمه خفية أو ألهمه كما جاء فى قوله: «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» يصدر: أي يرجع، فالوارد هو الآتي للماء ليشرب أو يستقى، والصادر: هو الراجع عنه، أشتاتا: واحدهم شتيت أي متفرقين متمايزين لا يسير محسنهم ومسيئهم فى طريق واحدة، الذرة: النملة الصغيرة، أو هى الهباء الذي يرى فى ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة، ومثقال الذرة: وزنها، وهو مثل فى الصغر. سبب نزول هذه السورة كان الكفار كثيرا ما يسألون عن يوم الحساب فيقولون «أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ» ويقولون: «مَتى هذَا الْوَعْدُ؟» وما أشبه ذلك، فذكر لهم فى هذه السورة علامات ذلك فحسب، ليعلموا أنه لا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم الذي يعرض الناس فيه على ربهم لعقاب المذنبين وثواب المؤمنين. الإيضاح (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي إذا اضطربت الأرض وتحركت حركة شديدة ونحو الآية قوله: «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا» ، وقوله: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» . وفى ذلك إيماء إلى شدة الحال يومئذ، ولفت لأنظار الكافرين إلى أن يتدبروا

الأمر ويعتبروا، وكان يقال لهم: إذا كان الجماد يضطرب لهول هذا اليوم، فهل لكم أن تستيقظوا من غفلتكم، وترجعوا عن عنادكم؟. (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي وأخرجت الأرض ما فى جوفها من الكنوز والدفائن والأموات، فإنها لشدة اضطرابها يثور باطنها ويقذف ما فيه. ونحو الآية قوله: «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ» . ومثال هذا ما نراه فى حياتنا الدنيا من جبال النار الثائرة (البراكين) كما حدث فى إيطاليا سنة 1909 من ثوران بركان ويزوف وابتلاعه مدينة مسينا ولم يبق من أهلها ديّارا ولا نافخ نار. (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها؟) أي وقال من يكون من الناس مشاهدا لهذا الزلزال الذي يخالف أمثاله فى شدته، ويحار العقل فى معرفة أسبابه، ويصيبه الدّهش مما يرى ويبصر: ما لهذه الأرض، وما الذي وقع لها مما لم يعهد له نظير من قبل؟ كما جاء فى آية أخرى: «وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى» . (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي فى ذلك الوقت وقت الزلزلة تحدثك الأرض أحاديثها، والمراد أن حالها وما يقع فيها من الاضطراب والانقلاب، وما لم يعهد له نظير من الخراب، تعلم السائل وتفهمه أن ما يراه لم يكن لسبب من الأسباب التي وضعت لأمثاله مما نراه حين استقر نظام هذا الكون. ثم بين سبب ما يرى فقال: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي إن ما يكون للأرض يومئذ إنما هو بأمر إلهي خاص، فيقول لها كونى خرابا كما قال لها حين بدء النشأة الأولى كونى أرضا، وإنما سمى ذلك وحيا، لأنه أتى على خلاف ما عهد منذ نشأة الأرض، قاله الأستاذ الإمام. (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي يوم يقع الخراب العظيم لهذا العالم الأرضى، ويظهر ذلك الكون الجديد كون الحياة الأخرى، يصدر الناس متفرقين

مقاصد السورة

متمايزين فلا يكون محسن فى طريق واحد مع مسىء، ولا مطيع مع عاص، ليريهم الله جزاء ما قدمت أيديهم، ويجنوا ثمر ما غرسته أيمانهم. ثم فصل ذلك بقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) أي فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنه يجد جزاءه، ومن يعمل الشر ولو قليلا يجد جزاءه، لا فرق بين المؤمن والكافر. وحسنات الكافرين لا تخلصهم من عذاب الكفر فهم به خالدون فى الشقاء، وما نطق من الآيات بحبوط أعمال الكافرين وأنها لا تنفعهم، فالمراد به أنها لا تنجيهم من عذاب الكفر وإن خففت عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم من السيئات الأخرى، أما عذاب الكفر فلا يخفف عنهم منه شىء، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» . فقوله: «فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» صريح فى أن المؤمن والكافر فى ذلك سواء. وأن كلا يوفّى يوم القيامة جزاءه، وقد ورد أن حاتما يخفف عنه لكرمه، وأن أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا تلخيص ما قاله الأستاذ الإمام فى تفسير الآية. مقاصد السورة اشتملت هذه السورة الكريمة على مقصدين: (1) اضطراب الأرض يوم القيامة ودهشة الناس حينئذ. (2) ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ثم مجازاتهم على أعمالهم.

سورة العاديات

سورة العاديات هى مكية، وآياتها إحدى عشرة، نزلت بعد سورة العصر. ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها- أنه لما ذكر هناك الجزاء على الخير والشر أتبعه تعنيف الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ولا يستعدون لحياتهم الثانية، بتعويد أنفسهم فعل الخير. [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) شرح المفردات العاديات: واحدها عادية من العدو وهو الجري، والضبح: صوت أنفاس الخيل حين الجري. قال عنترة: والخيل تكدح حين تضبح فى حياض الموت ضبحا والموريات: واحدها مورية من الإيراء، وهو إخراج النار، تقول: أورى فلان إذا أخرج النار بزند ونحوه، والقدح: الضرب لإخراج النار كضرب الزناد بالحجر، والمغيرات: واحدها مغيرة من أغار على العدو إذا هجم عليه بغتة ليقتله أو يأسره، أو يستلب ماله، والإثارة: التهييج وتحريك الغبار، والنقع: الغبار، وسطن:

الإيضاح

أو توسطن تقول وسطت القوم أسطهم وسطا: إذا صرت فى وسطهم، والكنود: الكفور، يقال كند النعمة أي كفرها ولم يشكرها وأنشدوا: كنود لنعماء الرجال ومن يكن ... كنودا لنعماء الرجال يبعّد وأصل الكنود الأرض التي لا تنبت شيئا، شبه بها الإنسان الذي يمنع الخير ويجحد ما عليه من واجبات، لشهيد: أي لشاهد على كنوده وكفره بنعمة ربه، والخير: المال كما جاء فى قوله: «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» ، لشديد: أي لبخيل، بعثر: أي بعث وأثير، وحصّل: أي أظهر محصلا مجموعا، ما فى الصدور: أي ما في القلوب من العزائم والنوايا. الإيضاح (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) أي قسما بالخيل التي تعدو وتجرى ويسمع لها حينئذ ضبح أي زفير شديد. (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) أي والخيل التي تخرج النار بحوافرها ويتطاير منها الشرر أثناء الجري. (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي والخيل التي تعدو لتهجم على العدو وقت الصباح، لأخذه على غير أهبة واستعداد. (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أي فهيجن فى الصبح غبارا لشدة عدوهن. (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي فتوسطن جمعا من الأعداء ففرقنه وشتتن شمله. أقسم سبحانه بالخيل التي لها هذه الصفات، والتي تعمل تلك الأعمال، ليعلى من شأنها فى نفوس عباده المؤمنين أهل الجد والعمل، وليعنوا بتربيتها وتعويدها الكرّ والفرّ، وليحملهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل والإغارة بها ليكون كل امرئ مسلم منهم عاملا ناصبا إذا جدّ الجد واضطرت الأمة إلى صد عدوّ أو بعثها باعث على كسر شوكته، يرشد إلى ذلك قوله فى آية أخرى:

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» . وفى إقسام الله بها بوصف العاديات المغيرات الموريات- إشارة إلى أنه يجب أن تقنى الخيل لهذه الأغراض والمنافع لا للخيلاء والزينة، وأن الركوب الذي يحمد ما يكون لكبح جماح الأعداء، وخضد شوكتهم، وصد عدوانهم. وقصارى ذلك- إن للخيل فى عدوها فوائد لا يحصى عدّها، فهى تصلح للطلب، وتسعف فى الهرب، وتساعد جد المساعدة فى النجاء، والكر والفر على الأعداء وقطع شاسع المسافة فى الزمن القليل. ثم ذكر المحلوف عليه بتلك الأيمان الشريفة فقال: (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي إن الإنسان طبع على نكران الحق وجحوده وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له إلا من عصمهم الله وهم الذين روّضوا أنفسهم على فعل الفضائل، وترك الرذائل، ما ظهر منها وما بطن. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكنود الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده» أي إنه لا يعطى شيئا مما أنعم الله به عليه، ولا يرأف بعباده، كما رأف به، فهو كافر بنعمته، مجانف لما يقضى به العقل والشرع. وسر هذه الجبلّة- أن الإنسان يحصر همه فيما حضره، وينسى ماضيه، وما عسى أن يستقبله، فإذا أنعم الله عليه بنعمة غرته غفلته، وقسا قلبه، وامتلأ جفوة على عباده. (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي وإنه مع كنوده، ولجاجته فى الطغيان، وتماديه فى الإنكار والبهتان، إذا خلّى ونفسه رجع إلى الحق، وأذعن إلى أنه ما شكر ربه على نعمه، إلى أن أعماله كلها جحود لنعم الله، فهى شهادة منه على كنوده، شهادة بلسان الحال، وهى أفصح من لسان المقال.

سورة القارعة

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي وإن الإنسان بسبب محبته للمال وشغفه به وتعلقه بجمعه وادخاره- لبخيل شديد فى بخله، حريص متناه فى حرصه، ممسك مبالغ فى إمساكه متشدد فيه، قال طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدّد ثم هدد الإنسان الذي هذه صفاته وتوعده بقوله: (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ؟. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي أفلا يعلم هذا الإنسان المنكر لنعم الله عليه، الجاحد لفضله وأياديه- أنه سبحانه عليم بما تنطوى عليه نفسه، وأنه مجازيه على جحده وإنكاره يوم يحصّل ما فى الصدور ويبعثر ما فى القبور؟ وقد عبر سبحانه عن مجازاتهم على ما كسبت أيديهم- بالخبرة بهم والعلم المحيط لأعمالهم، وهذا كثير فى الكلام، تقول لشخص فى معرض التهديد: سأعرف لك عملك هذا مع أنك تعرفه الآن قطعا، وإنما عرفانه الآتي هو ظهور أثر المعرفة وهو مجازاته بما يستحق، وقد جاء على هذا النسق قوله تعالى: «سَنَكْتُبُ ما قالُوا» مع أن كتابة أقوالهم حاصلة فعلا، فالمراد سنجازيهم بما قالوا الجزاء الذي هم له أهل، والله أعلم. سورة القارعة هى مكية، وآياتها إحدى عشرة، نزلت بعد سورة قريش. ومناسبتها لما قبلها- أن آخر السابقة كان فى وصف يوم القيامة، وهذه السورة يأسرها فى وصف ذلك اليوم، وما يكون فيه من الأهوال.

[سورة القارعة (101) : الآيات 1 إلى 11]

[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) الإيضاح (الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة كالحاقة والصاخّة والطامّة والغاشية وسميت بذلك لأنها تقرع القلوب بهولها، كما تسمى الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة، قال تعالى: «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ» أي حادثة عظيمة تقرعهم وتصك أجسادهم فيألمون لها. (مَا الْقارِعَةُ؟) أي أىّ شىء هى القارعة، وهذا أسلوب يراد به تهويل أمرها كأنها لشدة ما يكون فيها من الأهوال، التي تفزع منها النفوس، وتدهش لها العقول يصعب تصوّرها، ويتعذر إدراك حقيقتها. ثم زاد أمرها تعظيما فقال: (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) أي وأىّ شىء يعرّفك بها، كأنه لا شىء يحيط بها فمهما تخيلت أمرها وحدست شأنها فهى أعظم من تقديرك. ولما ذكر سبحانه أن إدراك حقيقتها مما لا سبيل إليه، أخذ يعرف بزمانها الذي تكون فيه، وما يحدث للناس حينئذ من الأهوال فقال:

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الفراش: هو الحشرة التي تراها تترامى على ضوء السراج ليلا، وبها يضرب المثل فى الجهل بالعاقبة قال جرير: إن الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلى والمبثوث: المفرق المنتشر، تقول بثثت الشيء: أي فرقته. أي إن الناس من هول ذلك اليوم يكونون منتشرين حيارى هائمين على وجوههم لا يدرون ماذا يفعلون، ولا ماذا يراد بهم كالفراش الذي يتجه إلى غير جهة واحدة. بل تذهب كل فراشة إلى جهة غير ما تذهب إليها الأخرى. وجاء تشبيههم فى آية أخرى بالجراد المنتشر فى كثرتهم وتتابعهم فقال: «كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» . (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) العهن (بكسر العين وسكون الهاء) الصوف ذو الألوان، والمنفوش: الذي نفش ففرقت شعراته بعضها عن بعض حتى صار على حال يطير مع أضعف ريح. أي إن الجبال لتفتتها وتفرق أجزائها لم يبق لها إلا صورة الصوف المنفوش فلا تلبث أن تذهب وتتطاير، فكيف يكون الإنسان حين حدوثها وهو ذلك الجسم الضعيف السريع الانحلال. وقد كثر فى القرآن ذكر حال الجبال يوم القيامة فقال: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» وقال: «وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» وقال: «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» كل ذلك ليبين أن هذه الأجسام العظيمة التي من طبعها الاستقرار والثبات تؤثر فيها هذه القارعة، فما بالك أيها المخلوق الضعيف الذي لا قوة له؟ وفى هذا تحذير للإنسان وتخويف له كما لا يخفى. وبعد أن ذكر أوصاف هذا اليوم بما يكون من أحوال بعض الخلائق- أعقب ذلك بذكر الجزاء على الأعمال فقال:

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) يقال ثقل ميزان فلان إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة، كأنه إذا وضع فى ميزان كان له به رجحان، وإنما يكون المقدار والقيمة لأهل الأعمال الصالحة، والفضائل الراجحة، فهؤلاء يجزون النعيم الدائم ويكونون فى عيشة راضية، تقرّ بها أعينهم، وتسر بها نفوسهم. ويرى بعض المفسرين أن الذي يوزن هو الصحف التي تكتب فيها الحسنات والسيئات. ولما ذكر نعيم أهل الخير أردفه عقاب أهل الشر فقال: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) يقال خف ميزانه: أي سقطت قيمته فكأنه ليس بشىء حتى لو وضع فى كفة ميزان لم يرجح بها على أختها، ومن كان فى الدنيا كثير الشر، قليل فعل الخير، فدسّى نفسه بالشرك واجتراح المعاصي وعاث فى الأرض فسادا، لم يكن شيئا، فلا ترجح له كفة ميزان لو وضع فيها. وعلى الجملة فعلينا أن نؤمن بما ذكره الله من الميزان فى هذه الآية وفى قوله: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» ومن وزن الأعمال، وتمييز مقدار لكل عمل، وليس علينا أن نبحث وراء ذلك، فلا نسأل كيف يزن، ولا كيف يقدر؟ فهو أعلم بغيبه، ونحن لا نعلم. أما أن الميزان له لسان وكفّتان فهذان لم يرد به نص عن المعصوم يلزمنا التصديق به، وكيف يوزن بهذا الميزان الذي تعلمه الإنسان فى مهد البداوة الأولى، ويترك ما هو أدق منه مما اخترع فيما بعد وهدى إليه الناس، على أن جميع ما عمله البشر، فهو ميزان للأثقال الجسمانية لا ميزان للمعانى المعقولة كالحسنات والسيئات، فلنفوض أمر ذلك إلى عالم الغيب. والمراد من كون أمه هاوية- أن مرجعه الذي يأوى إليه مهواة سحيقة فى جهنم يهوى فيها، كما يأوى الولد إلى أمه، قال أمية بن أبى الصلت: فالأرض معقلنا وكانت أمّنا ... فيها مقابرنا وفيها نولد

سورة التكاثر

(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟) أي وأىّ شىء يخبرك بما هى تلك الهاوية، وأنها أىّ شىء تكون؟ ثم فسرها بعد إبهامها فقال: (نارٌ حامِيَةٌ) أي هى نار ملتهبة يهوى فيها ليلقى جزاء ما قدّم من عمل، وما اجترح من سيئات. وفى هذا إيماء إلى أن جميع النيران إذا قيست بها ووزنت حالها بحالها لم تكن حامية، وذلك دليل على قوة حرارتها، وشدة استعارها. وقانا الله شر هذه النار الحامية، وآمننا من سعيرها بمنه وكرمه. سورة التكاثر هى مكية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة الكوثر. ومناسبتها لما قبلها- أن فى الأولى وصف القيامة وبعض أهوالها وجزاء الأخيار والأشرار، وأن فى هذه ذكر الجحيم وهى الهاوية التي ذكرت فى السورة السابقة، وذكر السؤال عما قدم المرء من الأعمال فى الحياة الدنيا، وهذا بعض أحوال الآخرة. [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

شرح المفردات

شرح المفردات اللهو: ما يشغل الإنسان، سواء أكان مما يسرّ أم لا، ثم خص بما يشغل مما فيه سرور وإذا ألهى المرء بشىء فهو غافل به عما سواه، والتكاثر: التباهي بالكثرة بأن يقول كل للآخر أنا أكثر منك مالا، أنا أكثر منك ولدا، أنا أكثر منك رجال ضرب وحرب، حتى زرتم المقابر: أي حتى صرتم من الموتى، قال جرير: زار القبور أبو مالك ... فأصبح ألأم زوّارها علم اليقين: أي علم الأمر الميقون الموثوق به، والجحيم: دار العذاب. عين اليقين: أي عين هى اليقين نفسه. أسباب نزول السورة أخرج ابن أبى حاتم عن أبى بريدة قال: نزلت «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» فى قبيلتين من الأنصار وهما بنو حارثة وبنو الحرث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: أفيكم مثل فلان وفلان؟ وقالت الأخرى: مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: أفيكم مثل فلان وتشير إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله هذه السورة. الإيضاح (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أي شغلكم التفاخر والتباهي بكثرة الأنصار والأشياع، وصرفكم ذلك عن الجد فى العمل، فكنتم فى لهو بالقول عن الفعل، وفى غرور وإعجاب بالآباء والأعوان، وصرفكم ذلك عن توجيه قواكم إلى العمل بما فرض عليكم من الأعمال لأنفسكم وأهليكم، وما زال ذلك ديدنكم ودأبكم الذي سرتم عليه

وفى صحيح مسلم عن مطرّف عن أبيه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر قال: يقول ابن آدم مالى ومالك، يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» وروى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان: ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب» . قال الأستاذ الإمام: وقد يكون معنى التكاثر التغالب فى الكثرة، أي طلب كل واحد منهما أن يكون أكثر من الآخر مالا أو جاها، والسعى إلى ذلك لمجرد المغالبة، لا يبغي الساعي فى سعيه إلا أن يكون ماله أكثر من مال الآخر، أو أن يكون عضده أقوى من عضده، لينال بذلك لذة التعلى والظهور بالقوة كما هو شأن الجمهور الغالب من طلاب الثروة والقوة، ولا ينظر الدائب منهم فى عمله إلى تلك الغاية الرفيعة غاية البذل مما يكسب فى سبل الخير، أو النهوض بالقوة إلى نصر الحق، وحمل المبطلين على معرفته والتوجه إليه، ثم المحافظة بعد ذلك عليه. وهذا معنى معقول ذهب إليه بعض المفسرين، وهو يتفق كل الاتفاق مع ما يفهم من لفظ (أَلْهاكُمُ) فإن الذي يلهى الناس عن الحق فى كل حال، ويصرف وجوههم عنه إلى الباطل: هو طمع كل واحد منهم أن يكون أكثر من الآخر مالا أو عدد رجال، ليعلو عليه، أو ليستخدمه لسلطانه، بقدر ما يدخل فى إمكانه، أما التفاخر بالأقوال فإنما يلهيهم فى بعض الأحوال اهـ. (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي حتى هلكتم وصرتم من الموتى، فأضعتم أعماركم فيما لا يجدى فائدة، ولا يعود عليكم بمائدة، فى حياتكم الباقية الخالدة. قال العلماء: إن زيارة القبور من أعظم الدواء للقلب القاسي، لأنها تذكر بالموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد فى الدنيا وترك الرغبة فيها،

ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهّد فى الدنيا وتذكركم الآخرة» . كما لا خلاف فى منع زيارتها إذا حدث فى ذلك منكرات وأشياء مما نهى عنه الدين كاختلاط الرجال بالنساء وحدوث فتن لا تحمد عقباها. ثم نبههم إلى خطإ ما هم فيه، وزجرهم عن البقاء على تلك الحال التي لها وخيم العاقبة فقال: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي ازدجروا عن مثل هذا العمل الذي لا تكون عاقبته إلا القطيعة والهجران، والضغينة والأحقاد، والجئوا إلى التناصر على الحق، والتكاثف على أعمال البر، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات، من تقويم الأخلاق، وتطهير الأعراق، وإنكم سوف تعلمون عاقبة ما أنتم فيه من التكاثر إذا استمر بكم هذا التفاخر بالباطل بدون عمل صحيح نافع لكم فى العقبى. ثم أكد هذا وزاد فى التهديد فقال: (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وهذا وعيد بعد وعيد فى مقام الزجر والتوبيخ كما يقول السيد لعبده: أقول لك لا تفعل، ثم أقول لك لا تفعل. (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال، وإنّ ما تدعونه علما ليس فى الحقيقة بعلم، وإنما هو وهم وظن لا يلبث أن يتغير، لأنه لا يطابق الواقع، والجدير بأن يسمى علما هو علم اليقين المطابق للواقع، بناء على العيان والحس، أو الدليل الصحيح الذي يؤيده العقل، أو النقل الصحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وإنما ذكر سبحانه هذا زيادة فى زجرهم لتغريرهم بأنفسهم، فقد جرت عادة الغافلين أنهم إذ ذكّروا بعواقب حالهم أن يقولوا: إنهم يعلمون العواقب، وأنهم فى منتهى اليقظة وسداد الفكرة.

ثم ذكر لهم بعض ما ينهى إليه هذا اللهو، وهو عذاب الآخرة بعد خزى الدنيا فقال: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) أي إن دار العذاب التي أعدت لمن يلهو عن الحق لا ريب فيها ولترونّها بأعينكم، فاجعلوا صورة عذابها حاضرة فى أذهانكم، لتنبهكم إلى ما هو خير لكم مما تلهون به. والمراد برؤية الجحيم ذوق عذابها، وهذا استعمال شائع فى الكتاب الكريم. ثم كرر ذلك للتأكيد فقال: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أي لترونها رؤية هى اليقين نفسه، إلى أي دين أو إلى أي شخص كانت نسبتكم فلتتقوا الله ربكم، ولتنتهوا عما يقذف بكم فيها، ولتنظروا إلى ما أنتم فيه من نعمة، ولترعوا حق الله فيها، فاستعملوها فيما أمر أن تستعمل فيه، ولا تجترحوا السيئات وتقترفوا المنكرات، إنكم لتمنون أنفسكم بأنكم ممن يعفو الله عنهم، ويزحزحهم من النار بمجرد نسبتكم إلى الدين الإسلامى وتلقيبكم بألقابه، مع مخالفتكم أحكام القرآن وعملكم عمل أعداء الإسلام. ثم شدد عليهم وزاد فى تأنيبهم فقال: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي إن هذا النعيم الذي تتفاخرون به وتعدونه مما يباهى بعضكم بعضا- ستسألون عنه- ماذا صنعتم به؟ هل أديتم حق الله فيه. وراعيتم حدود أحكامه فى التمتع به، فإن لم تفعلوا ذلك كان هذا النعيم غاية الشقاء فى دار البقاء. روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: «أىّ نعيم نسأل عنه يا رسول الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظلال المساكن والأشجار، والأخبية التي تقيكم الحر والبرد، والماء البارد فى اليوم الحار» .

سورة العصر

وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أصبح آمنا فى سربه، معافى فى بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» . اللهم وفقا لشكر نعمتك وأداء حقها، لنجد الجواب حاضرا حين سؤالنا عنها، اللهم آمين. سورة العصر هى مكية، وآياتها ثلاث، نزلت بعد سورة الشرح. ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى السورة السابقة أنهم اشتغلوا بالتفاخر والتكاثر وبكل ما من شأنه أن يلهى عن طاعة الله، وذكر هنا أن طبيعة الإنسان داعية له إلى البوار، وموقعة له فى الدمار إلا من عصم الله وأزال عنه شرر نفسه، فكأن هذا تعليل لما سلف- إلى أنه ذكر فى السالفة صفة من اتبع نفسه وهواه، وجرى مع شيطانه حتى وقع فى التهلكة، وهنا ذكر من تجمل بأجمل الطباع، فآمن بالله وعمل الصالحات، وتواصى مع إخوانه على الاستمساك بعرى الحق، والاصطبار على مكارهه. [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) شرح المفردات العصر: الدهر، والإنسان: هو هذا النوع من المخلوقات، والخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال، والمراد به ما ينغمس فيه الإنسان من الآفات المهلكة،

الإيضاح

والحق: هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أرشد إليها دليل قاطع، أو عيان ومشاهدة، أو شريعة صحيحة جاء بها نبى معصوم، والصبر: قوة للنفس تدعوها إلى احتمال المشقة فى العمل الطيب، وتهوّن عليها احتمال المكروه فى سبيل الوصول إلى الأغراض الشريفة. والتواصي بالحق: أن يوصى بعضهم بما لا سبيل إلى إنكاره وهو كل فضيلة وخير، والتواصي بالصبر: أن يوصى بعضهم بعضا به ويحثه عليه، ولا يكون ذلك نافعا مقبولا إلا إذا كمّل المرء نفسه به وإلا صدق عليه قول أبى الأسود الدؤلي: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذى السّقام وذى الضنى ... كيما يصح به وأنت سقيم الإيضاح (وَالْعَصْرِ) أقسم ربنا سبحانه بالدهر لما فيه من أحداث وعبر يستدل به على قدرته وبالغ حكمته وواسع علمه، انظر إلى ما فيه من تعاقب الليل والنهار وهما آيتان من آيات الله كما قال: «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» وإلى ما فيه: من سراء وضراء، وصحة وسقم، وغنى وفقر، وراحة وتعب، وحزن وفرح، إلى نحو ذلك مما يسترشد به حصيف الرأى إلى أن للكون خالقا ومدبرا، وهو الذي ينبغى أن يوجه إليه بالعبادة ويدعى لكشف الضر وجلب الخير- إلى أن الكفار كانوا يضيفون أحداث السوء إلى الدهر، فيقولون هذه نائبة من نوائب الدهر، وهذا زمان بلاء، فأرشدهم سبحانه إلى أن الدهر خلق من خلقه، وأنه ظرف تقع فيه الحوادث خيرها وشرّها، فإن وقعت للمرء مصيبة فبما كسبت يداه، وليس للدهر فيها من سبب. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أي إن هذا الجنس من المخلوقات- لخاسر فى أعماله ضربا من الخسران إلا من استثناهم الله، فأعمال الإنسان هى مصدر شقائه، لا الزمان

ولا المكان، وهى التي توقعه فى الهلاك، فذنب المرء فى حق بارئه، ومن يمنّ عليه بنعمه الجليلة، وآلائه الجسيمة، جريمة لا تعد لها جريمة أخرى. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فاعتقدوا اعتقادا صحيحا أن للعالم كله إلها خالقا قادرا يرضى عن المطيع، ويغضب على العاصي، وأن هناك فرقا بين الفضيلة والرذيلة، فدفعهم ذلك إلى عمل البر والخير- وجماع ذلك نفع المرء نفسه ونفعه للناس أجمعين. وخلاصة أمرهم- أنهم باعوا الفاني الخسيس، واشتروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات، فيالها من صفقة ما أربحها، ومنقبة جامعة للخير ما أوضحها. (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره، ولا زوال فى الدارين لمحاسن آثاره، وهو الخير كله من إيمان بالله عز وجل واتباع لكتبه ورسله فى كل عقد وعمل. (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالصبر عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية، وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها، وعلى ما يبتلى الله تعالى به عباده من المصايب ويتلقاها بالرضا ظاهرا وباطنا، فلا بد للنجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ويمكّنوه من قلوبهم، ثم يحمل بعضهم بعضا على سلوك طريقه، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التي لا قرار للنفوس عليها، ولا دليل يهدى إليها. وخلاصة ما سلف- إن الناس جميعا فى خسران إلا من اتصفوا بأربعة أشياء: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فيعملون الخير ويدعون إلى العمل به، ولا يزحزحهم عن الدعوة إليه ما يلاقونه من مشقة وبلاء. والإنسان جميعه خسر مساعيه وضلّ مناهجه، وصرف عمره فى غير مطالبه، فهو قد جاء إلى الأرض ليخلص نفسه من الرذائل ويتحلى بالفضائل، حتى إذا رجع

سورة الهمزة

إلى عالم الأرواح كان أقوى جناحا، وأمضى سلاحا، لكنه حين رجع إلى مقره فى عالم السموات بالموت لم يجد إلا نقصا يحيط به، وجهلا يرديه، فندم إلا طائفة منه عاشوا فى الدنيا مفكرين، فآمنوا بأنبيائهم وصدقوا برسلهم، وأحبوا بنى جنسهم، وأحسنوا إلى إخوانهم فساعدوهم بأنفسهم وأموالهم، وصاروا معهم متعاضدين متعاونين وصبروا على ما نزل بهم من الحدثان، ورموا به من البهتان، فهؤلاء فى الدنيا يفوزون بما يريدون، وفى الآخرة بالنعيم يفرحون. جعلنا الله فى زمرة أولئك العاملين الذين تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. سورة الهمزة هى مكية، وآياتها تسع، نزلت بعد سورة القيامة. ومناسبتها لما قبلها- أنه لما ذكر سبحانه فى السورة السابقة أن جميع أفراد الإنسان منغمسون فى الضلال إلا من عصم الله- ذكر هنا بعض صفات أهل الضلال. أسباب نزول هذه السورة قال عطاء والكلبي: نزلت هذه السورة فى الأخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم وبخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل: نزلت فى الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ويطعن فيه فى وجهه. وقال محمد بن إسحق صاحب السيرة: ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت فى أمية ابن خلف.

[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 إلى 9]

[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) شرح المفردات ويل: أي خزى وعذاب، وهو لفظ يستعمل فى الذم والتقبيح والمراد به التنبيه على قبح ما سيذكر بعد من صفاتهم، والهمزة للمزة: الذي يطعن فى أعراض الناس ويظهر عيوبهم ويحقّر أعمالهم، تلذذا بالحط منهم وترفعا عنهم وأصل الهمز: الكسر يقال همز كذا: أي كسره، وأصل اللمز الطعن، يقال لمزه بالرمح: أي طعنه ثم شاع استعمالها فيما ذكرنا، قال زياد الأعجم: إذا لقيتك عن شحط تكاشرنى ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه وعن مجاهد وعطاء: الهمزة الذي يغتاب ويطعن فى وجه الرجل، واللمزة: الذي يغتاب من خلفه إذا غاب، ومنه قول حسان: همزتك فاختضعت بذلّ نفس ... بقافية تأجّج كالشواظ عدّده: أي عده مرة بعد أخرى شغفا به، أخلده: أي ضمن له الخلود فى الدنيا، والنبذ: الطرح مع الإهانة والتحقير، والحطمة: من الحطم وهو الكسر، يقال رجل حطمة إذا كان شديدا لا يبقى على شىء. وفى أمثالهم: شرّ الرّعاء الحطمة: أي الذي يحطم ما شيته ويكسرها بشدة سوقها قال: قد لفّها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزّار على ظهر وضم

الإيضاح

والمراد بها النار، لأنها تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب، تطّلع على الأفئدة: أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها، مؤصدة: أي مطبقة من أوصدت الباب: أي أغلقته قال: تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى ... ومن دونها أبواب صنعاء موصده والعمد: واحدها عمود، وممدّدة: أي مطولة من أول الباب إلى آخره. الإيضاح (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أي سخط وعذاب من الله لكل طعّان فى الناس، أكال للحومهم، مؤذ لهم فى غيبتهم أو فى حضورهم. ثم ذكر سبب عيبه وطعنه فى الناس فقال: (الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ) أي إن الذي دعاه إلى الحط من أقدار الناس والزراية بهم هو جمعه للمال وتعديده مرة بعد أخرى، شغفا به وتلذذا بإحصائه، لأنه يرى أن لا عزّ إلا به، ولا شرف بغيره، فهو كلما نظر إلى كثرة ما عنده ظن أنه بذلك قد ارتفعت مكانته، وهزأ بكل ذى فضل ومزية دونه، ثم هو لا يخشى أن تصيبه قارعة بهمزة ولمزه وتمزيقه أعراض الناس، لأن غروره أنساه الموت، وأعمى بصيرته عن النظر فى مآله، والتأمل فى أحواله. ثم بين خطأه فى ظنه فقال: (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن هذا الهماز العياب أن ما عنده من المال قد ضمن له الخلود فى الدنيا، وأعطاه الأمان من الموت، فهو لذلك يعمل عمل من يظن أنه باق حيّا أبد الدهر، ولا يعود إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سىء الأعمال.

وبعد أن توعد من هذه صفاته بشديد العقاب، وأردفه ذكر السبب الذي حمله على ارتكاب هذه الخلال للمقوتة، من ظنه أن ماله يضمن له الأمان من الموت، أعقبه بتفصيل ما أعدّ له من هذا العذاب المحتوم فقال: (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) أي ازدجر أيها العيّاب عما خيل إليك من أن المال يخلدك ويبقيك، بل الذي ينفع هو العلم وصالح العمل، فإنك والله مطروح فى النار لا محالة، لا يؤبه لك ولا ينظر إليك. وأثر عن علىّ كرم الله وجهه من عظة له: يا كميل هلك خزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم فى القلوب موجودة. يريد أن خزان الأموال ممقوتون مكروهون عند الناس، لأنهم لا ينالون منهم شيئا، أما العلماء فالثناء عليهم مستمر ما بقي على الأرض إنسان ينتفع بعلمهم، ويغترف من بحار فضلهم. ثم أخذ يهوّل أمر هذه النار ويعظم شأنها فقال: (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) أي إن هذه الحطمة مما لا تحيط بها معرفتك، ولا يقف على حقيقتها عقلك، فلا يعلم شأنها، ولا يقف على كنهها، إلا من أعدها لمن يستحقها. ثم فسر هذه الحطمة بعد إبهامها فقال: (نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) أي إنها النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه، إذ هو الذي أنشأها وأعدها لعقاب العصاة والمذنبين، وفى وصفها بالموقدة إيماء إلى أنها لا تخمد أبدا بل هى ملتهبة التهابا لا يدرك حقيقته إلا من أوجدها. ثم وصفها بأوصاف تخالف نيران الدنيا ليؤكد مخالفتها لها فقال: (1) (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي إنها تتغلب على الأفئدة وتقهرها، فتدخل فى الأجواف حتى تصل إلى الصدور، فتأكل الأفئدة، والقلب أشد أجزاء البدن تألما، فإذا استولت عليه النار فأحرقته، فقد بلغ العذاب بالإنسان غاية لا يقدرها قدرها.

وقد يكون المراد بالاطلاع المعرفة والعلم، وكأن هذه النار تدرك ما فى أفئدة الناس يوم البعث، فتميز العاصي عن المطيع، والخبيث عن الطيب، وتفرق بين من اجترحوا السيئات فى حياتهم الأولى، ومن أحسنوا أعمالهم، وإنا لنكل أمر ذلك إلى علام الغيوب. وفى وصفها بالاطلاع على الأفئدة التي أودعت باطن الإنسان فى أخفى مكان منه- إشارة إلى أنها إلى غيره أشد وصولا وأكثر تغلبا. (2) (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي إنها مطبقة عليهم لا يخرجون منها، ولا يستطيعون الخروج إذا شاءوا، فهم «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها» . (3) (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال مقاتل: إلا الأبواب أطبقت عليهم، ثم شدّت بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح اهـ. والمراد بذلك تصوير شدة إطباق النار على هؤلاء وإحكامها عليهم، والمبالغة فى ذلك ليودع فى قلوبهم اليأس من الخلاص منها. وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كون العمد من نار أو حديد ولا فى أنها تمتد طولا أو عرضا، ولا فى أنها مشبهة لعمد الدنيا، بل نكل أمر ذلك إلى الله، لأن شأن الآخرة غير شأن الدنيا، ولم يأتنا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك، فالكلام فيه قول بلا علم، وافتراء على الله الكذب. نسأل الله أن يحفظنا من غضبه، وبقينا شر النار الموصدة، بمنه وكرمه.

سورة الفيل

سورة الفيل هى مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الكافرين. ومناسبتها لما قبلها- أنه بين فى السورة السابقة أن المال لا يغنى من الله شيئا وهنا أقام الدليل على ذلك بقصص أصحاب الفيل. [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) شرح المفردات الكيد: إرادة وقوع ضر بغيرك على وجه الخفاء، والتضليل: التضييع والإبطال تقول ضلّلت كيد فلان إذا جعلته باطلا ضائعا، والطير: كل ما صار فى الهواء، صغيرا كان أو كبيرا، والأبابيل: الجماعات، لا واحد له من لفظه، والسجيل: الطين الذي تحجر، والعصف: ورق الزرع الذي يبقى بعد الحصاد، وتعصفه الرياح: فتأكله الماشية، مأكول: أي أكلت الدواب بعضه وتناثر بعضه الآخر من بين أسنانها. المعنى الجملي ذكّر الله سبحانه نبيه ومن تبلغه رسالته بعمل عظيم دالّ على بالغ قدرته، وأن كل قدرة دونها فهى خاضعة لسلطانها- ذاك أن قوما أرادوا أن يتعززوا بفيلهم

قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير

ليغلبوا بعض عباده على أمرهم، ويصلوا إليهم بشرّ وأذى، فأهلكهم الله، وردّ كيدهم، وأبطل تدبيرهم، بعد أن كانوا فى ثقة بعددهم وعددهم ولم يفدهم ذلك شيئا. قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير حادث الفيل معروف متواتر لدى العرب، حتى إنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث، فيقولون: ولد عام الفيل، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل، ونحو ذلك. وخلاصة ما أجمع عليه رواتهم- أن قائدا حبشيا ممن كانوا قد غلبوا على اليمن أراد أن يعتدى على الكعبة المشرّفة ويهدمها، ليمنع العرب من الحج إليها، فتوجه بجيش جرار إلى مكة، واستصحب معه فيلا أو فيلة كثيرة زيادة فى الإرهاب والتخويف ولم يزل سائرا يغلب من يلاقيه، حتى وصل إلى «المغمّس» وهو موضع بالقرب من مكة، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنما جاء لهدم البيت، ففزعوا منه، وانطلقوا إلى شعف الجبال ينظرون ما هو فاعل. وفى اليوم الثاني فشا فى جند الحبشي داء الجدرىّ والحصبة، قال عكرمة: وهو أول جدرىّ ظهر ببلاد العرب، ففعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذعر الجيش وصاحبه وولّوا هاربين، وأصيب الحبشي ولم يزل لحمه يسقط قطعة قطعة، وأنملة أنملة، حتى انصدع صدره ومات فى صنعاء. الإيضاح (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ؟) أي ألم تعلم الحال العجيبة والكيفية الهائلة الدالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته، فيما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا هدم البيت الحرام، فتلك حال قد جاءت على غير ما يعرف من

الأسباب والعلل، إذ لم يعهد أن يجىء طير فى جهة فيقصد قوما دون قوم، وهم معهم فى جهة واحدة، فذلك أمارة أنه من صنع حكيم مدبر بعثه لإنقاذ مقصد معين. وإنما عبر عن العلم بالرؤية، للإيماء إلى أن الخبر بهذا القصص متواتر مستفيض، فالعلم به مساو فى قوة الثبوت مع الوضوح- للعلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة. وخلاصة ذلك- إنك قد علمت ذلك علما واضحا لا لبس فيه ولا خفاء. ثم بين الحال التي وقع عليها فعله فقال: (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ؟) أي إنك لترى ما كان عليه فعل الله بأولئك القوم، فقد ضيع تدبيرهم، وخيّب سعيهم. ثم فصل تدبيره فى إبطال كيد أولئك القوم فقال: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي إنه تعالى أرسل عليهم فرقا من الطير تحمل حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، فابتلوا بمرض الجدري أو الحصبة حتى هلكوا. وقد يكون هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، أو تكون هذه الحجارة من الطين اليابس المسموم الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذا الطير، فإذا اتصل بجسم دخل فى مسامّه، فأثار فيه قروحا تنتهى بإفساد الجسم وتساقط لحمه. ولا شك أن الذباب يحمل كثيرا من جراثيم الأمراض، فوقوع ذبابة واحدة ملوّثة بالمكروب على الإنسان كافية فى إصابته بالمرض الذي يحمله، ثم هو ينقل هذا المرض إلى الجمّ الغفير من الناس، فإذا أراد الله أن يهلك جيشا كثير العدد ببعوضة واحدة لم يكن ذلك بعيدا عن مجرى الإلف والعادة، وهذا أقوى فى الدلالة على قدرة الله وعظيم سلطانه، من أن يكون هلاكهم بكبار الطيور، وغرائب الأمور، وأدل على ضعف الإنسان وذله أمام القهر الإلهى، وكيف لا وهو مخلوق تبيده ذبابة، وتقضّ مضجعه بعوضة، ويؤذيه هبوب الريح.

سورة قريش

قال الأستاذ الإمام: فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت، أرسل الله عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكه، وهى نعمة من الله غمر بها أهل حرمه على وثنيتهم، حفظا لبيته حتى يرسل إليه من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وسلم، وإن كانت نقمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت بدون جرم اجترمه، ولا ذنب اقترفه. (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي فجعل هؤلاء القوم كعصف وقع فيه الاكال وهو السوس، أو أكلت الدواب بعضه، وتناثر بعضه الآخر من بين أسنانها. وصلّ ربنا على محمد الذي قصصت عليه ما فيه العبرة لمن ادّكر، وأوحيت إليه ما فيه مزدجر، لمن تدبر واعتبر، إنك أنت العليم الحكيم. سورة قريش هى مكية، وآياتها أربع، نزلت بعد سورة التين. ومناسبتها لما قبلها- أن كلا منهما تضمن ذكر نعمة من نعم الله على أهل مكة فالأولى تضمنت إهلاك عدوهم الذي جاء ليهدم بيتهم وهو أساس مجدهم وعزهم والثانية ذكرت نعمة أخرى هى اجتماع أمرهم، والتئام شملهم، ليتمكنوا من الارتحال صيفا وشتاء فى تجارتهم، وجلب الميرة لهم. ولوثيق الصلة بين السورتين كان أبىّ بن كعب يعتبرهما سورة واحدة، حتى روى عنه أنه لم يفصل بينهما ببسملة.

[سورة قريش (106) : الآيات 1 إلى 4]

[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) شرح المفردات تقول ألفت الشيء إلفا وإلافا، وآلفته إيلافا: إذا لزمته وعكفت عليه مع الأنس به وعدم النفور منه، وقريش: اسم للقبائل العربية من ولد النضر بن كنانة، والرحلة: ارتحال القوم أي شدهم الرحال للمسير، أطعمهم: أي وسع لهم الرزق، ومهّد لهم سبيله، وآمنهم: أي جعلهم فى أمن من التعدي عليهم، والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم. الإيضاح (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي فلتعبد قريش ربها شكرا له على أن جعلهم قوما تجرا ذوى أسفار فى بلاد غير ذات زرع ولا ضرع، لهم رحلتان رحلة إلى اليمن شتاء لجلب الأعطار والأفاويه التي تأتى من بلاد الهند والخليج الفارسي إلى تلك البلاد ورحلة فى الصيف إلى بلاد الشام لجلب الحاصلات الزراعية إلى بلادهم المحرومة منها. وقد كان العرب يحترمونهم فى أسفارهم، لأنهم جيران بيت الله وسكان حرمه، وولاة الكعبة، فيذهبون آمنين، ويعودون سالمين، لا يمسهم أحد بسوء على كثرة ما كان بين العرب من السلب والنهب والغارات التي لا تنقطع. فكان احترام البيت ضربا من القوة المعنوية التي تحتمى بها قريش فى الأسفار، ولهذا ألفتها نفوسهم، وتعلقت بالرحيل، استدرارا للرزق.

وهذا الإجلال الذي ملك نفوس العرب من البيت الحرام، إنما هو من تسخير رب البيت سبحانه، وقد حفظ حرمته، وزادها فى نفوس العرب ردّ الحبشة عنه حين أرادوا هدمه، وإهلاكهم قبل أن ينقضوا منه حجرا، بل قبل أن يدنوا منه. ولو نزلت مكانة البيت من نفوس العرب، ونقصت حرمته عندهم، واستطالت الأيدى على سفّارهم لنفروا من تلك الرحلات، فقلّت وسائل الكسب بينهم، لأن أرضهم ليست بذات زرع ولا ضرع، وما هم بأهل صناعة مشهورة يحتاج إليها الناس فيأتوهم وهم فى عقر ديارهم ليأخذوا منها، فكانت تضيق عليهم مسالك الأرزاق وتنقطع عنهم ينابيع الخيرات. َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) الذي حماه من الحبشة وغيرهم، ومكّن منزلته فى النفوس، وكان من الحق أن يفردوه بالتعظيم والإجلال. ثم وصف رب هذا البيت بقوله: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي إنه هو الذي أوسع لهم الرزق، ومهد لهم سبله، ولولاه لكانوا فى جوع وضنك عيش. (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي وآمن طريقهم، وأورثهم القبول عند الناس، ومنع عنهم التعدي والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم، ولولاه لأخذهم الخوف من كل مكان فعاشوا فى ضنك وجهد شديد. وإذا كانوا يعرفون أن هذا كله بفضل رب هذا البيت، فلم يتوسلون إليه بتعظيم غيره، وتوسيط سواه عنده؟ مع أنه لا فضل لأحد ممن يوسطونه فى شىء من النعمة التي هم فيها، نعمة الأمن ونعمة الرزق: وكفاية الحاجة. اللهم ألهم قلوبنا الشكر على نعمك التي تترى علينا، وزدنا بسطة فى العلم والرزق.

سورة الماعون

سورة الماعون هى مكية، وآياتها سبع، نزلت بعد سورة التكاثر. ووجه مناسبتها لما قبلها: (1) أنه لما قال فى السورة السابقة: «أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» ذم فى هذه من لم يحضّ على طعام المسكين. (2) أنه قال فى السورة السابقة: َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» وهنا ذم من سها عن صلاته. (3) أنه هناك عدّد نعمه على قريش وهم مع ذلك ينكرون البعث ويجحدون الجزاء وهنا أتبعه بتهديدهم وتخويفهم من عذابه. [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) شرح المفردات أرأيت: أي هل عرفت وعلمت والمراد بذلك تشويق السامع إلى تعرّف ما يذكر بعده مع تضمنه التعجب منه، كما تقول: أرأيت فلانا ماذا صنع، وأ رأيت فلانا كيف عرّض نفسه للمخاطر- أنت فى كل ذلك تريد بعث المخاطب على التعجب مما فعل، والدين: هو الخضوع لما وراء المحسوس من الشؤون الإلهية التي لا يمكن الإنسان أن يعرف حقيقتها، وإنما يجد آثارها فى الكون باعثة على الإذعان

والتصديق، كوجود الله ووحدانيته، وبعثه الرسل مبشرين ومنذرين، والتصديق بحياة أخرى يعرض الناس فيها على ربهم للجزاء، يدعّ اليتيم: أي يدفعه ويزجره زجرا عنيفا كما جاء فى قوله: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» يحض: أي يحث ويدعو الناس إلى ذلك، يراءون: أي يفعلون بقدر ما يرى الناس أنهم يفعلون ذلك من غير أن تستشعر قلوبهم خشية الله بها وحقيقة الرياء طلب ما فى الدنيا بالعبادة وطلب المنزلة فى قلوب الناس، ويكون فعل ذلك على ضروب (1) بتحسين السمت مع إرادة الجاه وثناء الناس. (2) بلبس الثياب القصار أو الخشنة ليأخذ بذلك هيبة الزهاد فى الدنيا. (3) بإظهار السخط على الدنيا، وإظهار التأسف على ما يفوته من فعل الخير. (4) بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة لرؤية الناس له. والماعون: ما جرت العادة بأن يسأله الفقير والغنى كالقدر والدلو والفأس. وقال جار الله: ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله عليه الصلاة والسلام: «ولا غمّة فى فرائض الله» لأنها أعلام الإسلام، وشعائر الدين، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفى، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا الاقتداء به كان جميلا، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فيثنى عليه بالصلاح، وعن بعضهم أنه رأى رجلا فى المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها فقال: ما أحسن هذا لو كان فى بيتك؟ وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة. على أن اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرياء أخفى من ديب النملة السوداء فى الليلة الظلماء على المسح الأسود» اهـ. المسح: كساء خشن من صوف يلبسه الزهاد.

الإيضاح

الإيضاح (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أي هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية، والشئون الغيبية، بعد أن ظهر له بالدليل القاطع، والبرهان الساطع، فإن كنت لا تعرفه بذاته، فاعرفه بصفاته وهى: (1) (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي فذلك المكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم ويزجره زجرا عنيفا إن جاء يطلب منه حاجة، احتقارا لشأنه وتكبرا عليه. (2) (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث غيره على إطعامه، وإذا كان لا يحث غيره على ذلك ولا يدعو إليه، فهو لا يفعله بالأولى. وفى هذا توجيه لأنظارنا إلى أنا إذا لم نستطع مساعدة المسكين كان علينا أن نطلب من غيرنا معونته ونحثه على ذلك كما تفعل جماعات الخير: «الجمعيات الخيرية» . وقصارى ما سلف- إن للمكذب بالدين صفتين: أولاهما أن يحتقر الضعفاء ويتكبر عليهم. وثانيتهما أن يبخل بماله على الفقراء والمحاويج، أو يبخل بسعيه لدى الأغنياء، ليساعدوا أهل الحاجة ممن تحقق عجزهم عن كسب ما ينقذهم من الضرورة، ويقوم لهم بكفاف العيش. وسواء أكان المحتفر للحقوق، البخيل بالمال والسعى لدى غيره مصليا أو غير مصلّ فهو فى وصف المكذبين، ولا تخرجه صلاته منهم، لأن المصدق بشىء لا تطاوعه نفسه على الخروج مما صدّق به، فلو صدّق بالدين حقا لصار منكسرا متواضعا لا يتكبر على الفقراء ولا ينهر المساكين ولا يزجرهم فمن لم يفعل شيئا من ذلك فهو مراء فى عمله، كاذب فى دعواه، ومن ثم قال سبحانه: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي فعذاب لمن يؤدى الصلاة بجسمه ولسانه من غير أن يكون لها أثر فى نفسه، ومن غير أن تؤتى ثمرتها التي

شرعت لأجلها، لأن قلبه غافل عما يقوله اللسان، وتفعله الجوارح، فيركع وهو لاه عن ركوعه، ويسجد وهو لاه عن سجوده، ويكبر وهو لا يعى ما يقول وإنما هى حركات اعتادها، وكلمات حفظها، لا تدرك نفسه معناها، ولا تصل إلى معرفة ثمرتها. (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أي إنهم يفعلون أفعالا ظاهرة بقدر ما يرى الناس، دون أن تستشعر قلوبهم بها، أو تصل إلى معرفة حكمها وأسرارها. (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي ويمنعون ما لم تجر العادة بمنعه مما يسأله الفقير والغنى، وينسب منعه إلى لؤم الطبع وسوء الخلق كالقدر والفأس، والقدوم ونحو ذلك. قال الأستاذ الإمام: فأولئك الذين يصلّون، ولا يأتون من الأعمال إلا ما يرى للناس، مما لا يكلفهم بذل شىء من مالهم، ولا يخشون منه ضررا يلحق بأبدانهم، أو نقصا يلمّ بجاههم، ثم يمنعون ما عونهم، ولا ينهضون بباعث الرحمة إلى سدّ حاجة المعوزين، وتوفير ما يكفل راحتهم وأمنهم وطمأنينتهم- لا تنفعهم صلاتهم، ولا تخرجهم عن حد المكذبين بالدين، لا فرق بين من وسموا أنفسهم بسمة الإسلام أو غيره، فإن حكم الله واحد، لا محاباة فيه للأسماء المنتحلة، التي لا قيمة لها إلا بمعانيها الصحيحة المنطبقة على مراده تعالى من تحديد الأعمال وتقرير الشرائع. فخاصة المصدّق بالدين التي تميزه عن سواه من المكذبين هو العدل والرحمة وبذل المعروف للناس، وخاصة المكذب التي يمتاز بها عن المصدقين هى احتقار حقوق الضعفاء وقلة الاهتمام بمن تلذعهم آلام الحاجة، وحب الأثرة بالمال، والتعزز بالقوة، ومنع المعروف عمن يستحقه من الناس. فهل للمسلمين الذين يزعمون أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به أن يقيسوا أحوالهم وما يجدونه من أنفسهم بما يتلون فى هذه السورة الشريفة؟ ليعرفوا هل هم من قسم المصدقين أو المكذبين؟ وليقلعوا عن الغرور برسم هذه الصلاة التي لا أثر لها إلا فى ظواهر أعضائهم، وبهذا الجوع الذي يسمونه صياما

سورة الكوثر

ولا أثر له إلا فى عبوس وجوههم، وبذاذة ألسنتهم، وضياع أوقاتهم فى اللهو والبطالة، ويرجعوا إلى الحق من دينهم، فيقيموا الصلاة، ويحيوا صورتها بالخشوع للعلىّ الأعلى فلا يخرجون من الصلاة إلا وهم ذاكرون أنهم عبيد لله يلتمسون رضاه فى رعاية حقوقه بما يراه، ويجعلوا من الصوم مؤدبا للشهوة، ومهذّبا للرغبة، رادعا للنفس عن الأثرة، فلا يكون فى صومهم إلا الخير لأنفسهم ولقومهم، ثم يؤدون الزكاة المفروضة عليهم، ولا يبخلون بالمعونة فيما ينفع الخاصة والعامة اهـ والله أعلم: سورة الكوثر هى مكية وآياتها ثلاث، نزلت بعد سورة العاديات. ومناسبتها لما قبلها- أنه وصف فى الأولى الذي يكذب بالدين بأمور أربع: البخل. الإعراض عن الصلاة. الرياء. منع المعونة- وهنا وصف ما منحه رسوله صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة، فذكر أنه أعطاه الكوثر وهو الخير الكثير، والحرص على الصلاة ودوامها، والإخلاص فيها والتصدّق على الفقراء. أسباب نزول هذه السورة كان المشركون من أهل مكة والمنافقون من أهل المدينة يعيبون النبي صلى الله عليه وسلم ويلمزونه بأمور: (1) أنه إنما اتبعه الضعفاء ولم يتبعه السادة الكبراء، ولو كان ما جاء به الدين صحيحا لكان أنصاره من ذوى الرأى والمكانة بين عشائرهم، وهم ليسوا ببدع فى هذه المقالة، فقد قال قوم نوح له فيما قصه الله علينا: «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» .

[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 إلى 3]

وقد جرت سنة الله فى خلقه أن يسرع فى إجابة دعوة الرسل الضعفاء، من قبل أنهم لا يملكون ما لا فيخافوا أن يضيع فى سبيل الدعوة الجديدة، ولا جاها ونفوذا فيخافوا أن يضيعا أمام الجاه الذي منحه صاحب الدعوة- وأن يتخلف عنها السادة الكبراء حتى يدخلوا فى دين الله وهم له كارهون، ومن ثم يظل الجدل بين أولئك الصناديد ورسل الله، ويأخذون فى انتقاصهم. وكيل التهم لهم تهمة بعد تهمة، والله ينصر رسله ويؤيدهم ويشدّ أزرهم. وعلى هذا السّنن سار أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تخلف عنه سادتهم وكبراؤهم حسدا له ولقومه الأدنين. (2) إنهم كانوا إذا رأوا أبناءه يموتون، يقولون: انقطع ذكر محمد وصار أبتر، يحسبون ذلك عيبا فيلمزونه به ويحاولون تنفير الناس عن اتباعه. (3) إنهم كانوا إذا رأوا شدة نزلت بالمؤمنين طاروا بها فرحا وانتظروا أن تدول الدّولة عليهم وتذهب ريحهم، فتعود إليهم مكانتهم التي زعزعها الدين الجديد. فجاءت هذه السورة لتؤكد لرسوله أن ما يرجف به المشركون وهم لا حقيقة له، ولتمحص نفوس الذين لم تصلب قناتهم، ولتردّ كيد المشركين فى نحورهم، ولتعلمهم أن الرسول منتصر لا محالة. وأن أتباعه هم المفلحون. [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

شرح المفردات

شرح المفردات الكوثر: المفرط فى الكثرة، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر، ويقال للرجل الكثير العطاء هو كوثر، قال الكميت الأسدى: وأنت كثير يا ابن مروان طيّب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا والمراد به هنا النبوة والدين الحق والهدى وما فيه سعادة الدنيا والآخرة، والشانئ: المبغض، وأصل الأبتر: الحيوان المقطوع الذنب، والمراد به هنا ما لا يبقى له ذكر ولا يدوم له أثر- شبه بقاء الذكر الحسن واستمرار الأثر الجميل بذنب الحيوان من حيث إنه يتبعه وهو زينة له. وشبه الحرمان منه ببتر الذنب وقطعه. الإيضاح (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي إنا أعطيناك من المواهب الشيء الكثير الذي بعجز عن بلوغه العدّ، ومنحناك من الفضائل ما لا سبيل للوصول إلى حقيقته، وإن استخف به أعداؤك واستقلوه، فإنما ذلك من فساد عقولهم، وضعف إدراكهم. (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي اجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك وما هو نسك لك لله أيضا، فإنه هو الذي رباك وأسبغ عليك نعمه دون سواه كما قال: تعالى آمرا له: «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» . وبعد أن بشر رسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم البشارة، وطالبه بشكره على ذلك، وكان من تمام النعمة أن يصبح عدوه مقهورا ذليلا، أعقبه بقوله: (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي إن مبغضك كائنا من كان هو المقطوع ذكره من

سورة الكافرون

خيرى الدنيا والآخرة، وأما أنت فستبقى ذريتك، ويبقى حسن صيتك، وآثار فضلك إلى يوم القيامة. وشانئوه ما كانوا يبغضونه لشخصه، لأنه كان محبّبا إلى نفوسهم، بل كانوا يمقتون ما جاء به من الهدى والحكمة، لأنه سفّه أحلامهم، وعاب معبوداتهم، ونادى بفراق ما ألفوه ونشئوا عليه. وقد حقق الله فى شانئيه من العرب وغيرهم فى زمنه صلى الله عليه وسلم ما يستحقونه من الخذلان والخسران، ولم يبق لهم إلا سوء الذكر أما النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اهتدى بهديه فإن الله رفع منزلتهم فوق كل منزلة، وجعل كلمتهم هى العليا. قال الحسن رحمه الله: عنى المشركون بكونه أبتر: أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه، والله بيّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك اهـ. وصلّ ربنا على نبيك محمد الذي أعليت ذكره، وأذللت شانئه، صلاة تبقى ما بقي الدهر. سورة الكافرون هى مكية، وآياتها ستّ، نزلت بعد سورة الماعون. ومناسبتها لما قبلها- أنه فى السورة السابقة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعبادته، والشكر له على نعمه الكثيرة، بإخلاص العبادة له، وفى هذه السورة التصريح بما أشير إليه فيما سلف.

أسباب نزول السورة

أسباب نزول السورة روى أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف فى جماعة آخرين من صناديد قريش وساداتهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: هلمّ يا محمد فاتبع ديننا ونتبع دينك، ونشر كك فى أمرنا كله. تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا حظا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا كنت قد شركتنا فى أمرنا، وأخذت حظك منه، فقال: معاذ الله أن نشرك به غيره، وأنزل الله ردا على هؤلاء هذه السورة فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رءوسهم، ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك، وطفقوا يؤذونه ويؤذون أصحابه حتى كانت الهجرة. [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) الإيضاح (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي قل لهم: إن الإله الذي تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده، لأنكم تعبدون من يتخذ الشفعاء أو الولد، أو يتجلى فى شخص أو يتجلى فى صورة معينة أو نحو ذلك مما تزعمون، وأنا أعبد إلها لا مثيل له ولا ندّ، وليس له ولد ولا صاحبة، ولا يحل فى جسم، ولا تدرك

كنهه العقول، ولا تحويه الأمكنة، ولا تمر به الأزمنة، ولا يتقرّب إليه بالشفعاء، ولا تقدم إليه الوسائل. وعلى الجملة فبين ما تعبدون وما أعبد، فارق عظيم، وبون شاسع، فأنتم تصفون معبودكم بصفات لا يجمل بمعبودى أن يتصف بها. (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي إنكم لستم بعابدين إلهى الذي أدعو إليه لمخالفة صفاته لإلهكم، فلا يمكن التوفيق بينهما بحال. وبعد أن نفى الاختلاف فى المعبود نفى الاختلاف فى العبادة، من قبل أنهم كانوا يظنون أن عبادتهم التي يؤدونها أمام شفعائهم. أو فى المعابد التي أقاموها لها أو فى خلواتهم وهم على اعتقادهم بالشفعاء عبادة خالصة لله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضلهم فى شىء فقال: (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي ولا أنا بعابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتى قاله أبو مسلم الأصفهانى. وخلاصة ما سلف- الاختلاف التامّ فى المعبود، والاختلاف البيّن فى العبادة فلا معبودنا واحد، ولا عبادتنا واحدة، لأن معبودى منزه عن الندّ والنظير، متعال عن الظهور فى شخص معين، وعن المحاباة لشعب أو واحد بعينه، والذي تعبدونه أنتم على خلاف ذلك. كما أن عبادتى خالصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك، مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى، فلا تسمى على الحقيقة عبادة. ثم هددهم وتوعدهم فقال: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم جزاؤكم على أعمالكم ولى جزائى على عملى كما جاء فى قوله تعالى: «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» . وصل ربنا على محمد الذي جعل الدين لك خالصا، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سورة النصر

سورة النصر هى مدنية، وآياتها ثلاث، نزلت بعد سورة التوبة. ومناسبتها لما قبلها- أنه لما ذكر فى السورة السابقة اختلاف دين الرسول الذي يدعو إليه، ودين الكفار الذي يعكفون عليه- أشار فى هذه السورة إلى أن دينهم سيضمحل ويزول، وأن الدين الذي يدعو إليه سيغلب عليه، ويكون هو دين السواد الأعظم من سكان المعمورة. [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) شرح المفردات النصر: العون يقال نصره على عدوه ينصره نصرا: أي أعانه، ونصر الغيث الأرض: إذا أعان على إظهار نباتها ومنع من قحطها، قال شاعرهم: إذا دخل الشهر الحرام فجاوزى ... بلاد تميم وانصرى أرض عامر والفتح: الفصل بينه وبين أعدائه وإعزاز دينه وإظهار كلمته، والأفواج: واحدهم فوج وهو الجماعة والطائفة، واستغفره: أي اسأله أن يغفر لك ذنوبك ولقومك الذين اتبعوك، توّابا: أي كثير القبول لتوبة عباده. المعنى الجملي كان المؤمنون أيام قلتهم وفقرهم وكثرة عدد عدوهم وقوته، يمر الضجر بنفوسهم ويقضّ مضاجعهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزن ويضيق صدره،

الإيضاح

لتكذيب قومه له على وضوح الحق وسطوع البرهان، كما قال تعالى مخاطبا رسوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقال: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» وقال: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» . وفى هذا القلق والضجر استبطاء لنصر الله للحق الذي بعث به نبيّه، بل فيه سهو عن وعد الله بتأييد دينه، كما جاء فى قوله: «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ» ؟. هذا الضجر ليس بنقص يعاب به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله يعدّه على أقرب عباده إليه، كما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد يراه النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى نفسه وخرج من غمرة شدته ذنبا يتوب إلى الله منه ويستغفره، ومن ثم ورد الأمر الإلهى بالاستغفار مما كان منه من حزن وضجر فى أوقات الشدة حين يجىء الفتح والنصر. الإيضاح (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) أي إذا رأيت نصر الله لدين الحق، وانهزام أهل الشرك وخذلانهم، وفتح الله بينك وبين قومك، بجعل الغلبة لك عليهم، وإعزاز أمرك، وإعلاء كلمتك. (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً) أي ورأيت الناس يدخلون فى دينك، وينضوون تحت لوائك جماعات لا أفرادا كما كان فى بدء أمرك وقت الشدة.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي إذا تمّ لك كل ذلك فنزّه ربك وقدّسه عن أن يهمل الحق، ويدعه للباطل يتغلب عليه، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به، بأن يجعل كلمتك العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ويتم نعمته عليك ولو كره الكافرون. وليكن تنزيهه بحمده على ما أولاك من نعم، وشكره على ما منحك من خير، والثناء عليه بما هو له أهل، فإنه هو القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين، فلن يضيع أجر العاملين. (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي واسأله أن يغفر لك ولمن اتبعك من أصحابك ما كان منهم من القلق والضجر والحزن والأسى لتأخر النصر. والتوبة من هذا القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليبها على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وإن كان ذلك مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله قد علم أن نفس رسوله قد تبلغ ذلك الكمال، ومن ثم أمره به، وهكذا يحدث فى نفوس الكملة من أصحابه وأتباعه ما يقارب ذلك، والله يتقبله منهم. ثم علل طلب الاستغفار بقوله: (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي إنه سبحانه كثير القبول لتوبة عباده، لأنه يربى النفوس بالمحن، فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشدّد عزيمتها بحسن الوعد، ولا يزال بها حتى تبلغ مرتبة الكمال. وخلاصة ما سلف- إذا حصل الفتح وتحقق النصر، وأقبل الناس على الدين الحق فقد زال الخوف، فعليك أن تسبّح ربك وتشكره وتنزع عما كان من خواطر النفس وقت الشدة، فلن تعود الشدائد تأخذ نفوس المخلصين من عباده ماداموا على تلك الكثرة، ينزل بساحتهم الإخلاص وتجمعهم الألفة.

سورة المسد

وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم من هذا أن الأمر قد تمّ، ولم يبق إلا أن يلحق بالرفيق الأعلى، فقال فيما روى عنه: إنه قد نعيت إليه نفسه. قال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى فى حجة الوداع، ثم نزلت «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فعاش بعدها ثمانين يوما، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوما، ثم نزلت: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما، ثم نزلت: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» فعاش بعدها واحدا وعشرين يوما. وصلّ وسلّم ربّنا على محمد وآله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا ورابطوا فى سبيل الله. سورة المسد هى مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الفتح. ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر فى السورة السابقة أن ثواب المطيع حصول النصر والاستعلاء فى الدنيا، والثواب الجزيل فى العقبى. وهنا ذكر أن عاقبة العاصي الخسار فى الدنيا والعقاب فى الآخرة. أسباب نزول هذه السورة روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى (يا صباحاه) فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبّحكم أو ممسّيكم أكنتم تصدقونى؟ قالوا نعم، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبّا لك!! وفى رواية: إنه قام ينفض يديه ويقول: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» .

[سورة المسد (111) : الآيات 1 إلى 5]

[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) شرح المفردات التباب: الهلاك والخسران: قال تعالى: «وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ» وأبو لهب: أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزّى بن عبد المطلب، وتبّ: أي قد تبّ وخسر، يصلى نارا: أي يجد حرها ويذوقه، ولهب النار: ما يسطع منها عند اشتعالها وتوقدها، والجيد: العنق، والمسد: الليف. الإيضاح (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) هذا دعاء عليه بالخسران والهلاك، ونسب الهلاك إلى اليدين، لأنهما آلة العمل والبطش، فإذا هلكتا وخسرتا كان الشخص كأنه معدوم هالك. (وَتَبَّ) أي وقد تب وهلك. والجملة الأولى دعاء عليه بالخسران والهلاك، والجملة الثانية إخبار من الله بأن هذا الدعاء قد حصل، وقد خسر الدنيا والآخرة. ثم ذكر أن ما كان يعتزّ به فى الدنيا من مال وجاه لم يغن عنه من الله شيئا يوم القيامة فقال: (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي لم يفده حينئذ ماله ولا عمله الذي كان يأتيه فى الدنيا من معاداته رسول الله طلبا للعلوّ والظهور فكما أن ذلك لم يجده شيئا

فى الدنيا، إذ لم يتغلب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقطع ما أراد الله أن يوصل لم يفده فى الآخرة، بل لحقه البوار والنكال وعذاب النار. وقد كان أبو لهب شديد العداوة للنبى صلى الله عليه وسلم، شديد التحريض عليه شديد الصدّ عنه. روى أحمد عن ربيعة بن عباد قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فى الجاهلية فى سوق ذى المجاز وهو يقول: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضىء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابىء كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب. ومن ذلك تعلم أن أبا لهب كان يصدّ عن الحق، وينفّر عن اتباعه، وذاع عنه تكذيبه للرسول صلى الله عليه وسلم وتحدّيه واتباع خطواته لدحض دعوته، والحط من شأن دينه وما جاء به. (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي سيذوق حر النار ويعذب بلظاها. وخلاصة ما سلف- خسر أبو لهب وضل عمله، وبطل سعيه الذي كان يسعاه للصد عن دين الله، ولم يغن عنه ماله الذي كان يتباهى به، ولا جدّه واجتهاده فى ذلك، فإن الله أعلى كلمة رسوله، ونشر دعوته، وأذاع ذكره، وأنه سيعذب يوم القيامة بنار ذات شرر ولهيب، وإحراق شديد، أعدها الله لمثله من الكفار المعاندين، فوق تعذيبه فى الدنيا بإبطال سعيه، ودحض عمله وستعذب معه امرأته التي كانت تعاونه على كفره وجحده، وكانت عضده فى مشاكسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه، وكانت تمشى بالنميمة للإفساد، وإيقاد نار الفتنة والعداوة كما قال: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي وستعذب أيضا بهذه النار امرأته أروى بنت حرب أخت أبى سفيان بن حرب، جزاء لها على ما كانت تجترحه من السعى بالنميمة إطفاء لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم والعرب تقول لمن يسعى فى الفتنة ويفسد

بين الناس: هو يحمل الحطب بينهم، كأنه بعمله يحرق ما بينهم من صلات. وقيل إنها كانت تحمل حزم الشوك والحسك والسّعدان، وتنثرها بالليل فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيذائه. وقد زاد سبحانه فى تبشيع عملها وتقبيح صورته فقال: (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي فى عنقها حبل مما مسد من الحبال أي أحكم فتله، وقد صوّرها الله بصورة من تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها فى جيدها كبعض الحطّابات الممتهنات احتقارا لها، واحتقارا لبعلها، حين اختارت ذلك لنفسها. وقصارى أمرها- إنها فى تكليف نفسها المشقة الفادحة، للإفساد بين الناس وإيقاد نيران العداوة بينهم، بمنزلة حاملة الحطب التي فى عنقها حبل خشن تشدّ به ما تحمله إلى عنقها حين تستقلّ به، وهذه أبشع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب وهى على تلك الحال. ويرى بعض العلماء أن المراد بيان حالها وهى فى نار جهنم، إذ تكون على الصورة التي كانت عليها فى الدنيا، حين كانت تحمل الشوك إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهى لا تزال تحمل حزمة من حطب النار، ولا يزال فى جيدها حبل من سلاسلها، ليكون جزاؤها من جنس عملها فقد روى عن سعيد بن المسيّب أنه قال: كانت لأم جميل قلادة فاخرة فقالت: لأنفقنّها فى عداوة محمد، فأعقبها الله حبلا فى جيدها من مسد النار. نسأل الله الوقاية من النار، والبعد من الصدّ عن دينه وكتابه، إنه هو السميع العليم.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص هى مكية، وآياتها أربع، نزلت بعد سورة الناس. أسباب نزولها روى الضحاك أن المشركين أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن الطّفيل فقال له عنهم: شققت عصانا (فرّقت كلمتنا) ، وسببت آلهتنا، وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيرا أغنيناك، وإن كنت مجنونا داويناك، وإن كنت قد هويت امرأة زوجنا كها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست بفقير ولا مجنون، ولا هويت امرأة، أنا رسول الله، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته، فأرسلوه ثانية وقالوا: قل له: بيّن لنا جنس معبودك، أم من ذهب أم من فضة؟ فأنزل الله هذه السورة: [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) شرح المفردات أحد: أي واحد لا كثرة فى ذاته، فهو ليس بمركب من جواهر مختلفة مادية ولا من أصول متعدّدة غير مادية، والصمد: الذي يقصد فى الحاجات كما قال: لقد بكر الناعي بخير بنى أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد الكفء والمكافئ: النظير فى العمل والقدرة.

المعنى الجملي

المعنى الجملي هذه السورة تضمنت أهمّ الأركان التي قامت عليها رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وهى توحيد الله وتنزيهه، وتقرير الحدود العامة للأعمال، ببيان الصالحات وما يقابلها، وأحوال النفس بعد الموت من البعث وملاقاة الجزاء من ثواب وعقاب، وقد ورد فى الخبر: «إنها تعدل ثلث القرآن» لأن من عرف معناها، وتدبر ما جاء فيها حق التدبر، علم أن ما جاء فى الدين من التوحيد والتنزيه تفصيل لما أجمل فيها. الإيضاح (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي قل لمن سألك عن صفة ربك: الله هو الواحد المنزه عن التركيب والتعدّد، لأن التعدد فى الذات مستلزم لافتقار المجموع إلى تلك الأجزاء والله لا يفتقر إلى شىء. (اللَّهُ الصَّمَدُ) أي هو الله الذي يقصده العباد ويتوجهون إليه، لقضاء ما أهمهم دون واسطة إلى شفيع وبهذا أبطل عقيدة مشركى العرب الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء، وعقيدة غيرهم من أهل الأديان الأخرى الذين يعتقدون بأن لرؤسائهم منزلة عند ربهم ينالون بها التوسط لغيرهم فى نيل مبتغاهم، فيلجئون إليهم أحياء وأمواتا، ويقومون عند قبورهم خاضعين خاشعين، كما يخشعون لله أو أشد خشية. (لَمْ يَلِدْ) أي تنزه ربنا عن أن يكون له ولد، وفى هذا ردّ لمزاعم مشركى العرب الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، ولمزاعم النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، اقرأ إن شئت قوله تعالى: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» . (وَلَمْ يُولَدْ) لأن ذلك يقتضى مجانسته لسواه، وسبق العدم قبل الوجود- تنزه ربنا عن ذلك.

سورة الفلق

وأثر عن ابن عباس أنه قال: لم يلد كما ولدت مريم، ولم يولد كما ولد عيسى وعزير، وهو ردّ على النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، وعلى اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له ندّ ولا مماثل، وفى هذا نفى لما يعتقده بعض المبطلين من أن لله ندّا فى أفعاله كما ذهب إلى ذلك مشركو العرب حيث جعلوا الملائكة شركاء لله. والخلاصة- إن السورة تضمنت نفى الشرك بجميع أنواعه، فقد نفى الله عن نفسه أنواع الكثرة بقوله: «الله أحد» ونفى عن نفسه أنواع الاحتياج بقوله: «اللَّهُ الصَّمَدُ» ونفى عن نفسه المجانسة والمشابهة لشىء بقوله: «لَمْ يَلِدْ» ونفى عن نفسه الحدوث والأوّلية بقوله: «وَلَمْ يُولَدْ» ونفى عن نفسه الأنداد والأشباه بقوله: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. سورة الفلق هى مكية، وآياتها خمس، نزلت بعد سورة الفيل. [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) شرح المفردات أعوذ: أي ألجأ، والفلق: شق الشيء وفصل بعضه من بعض، تقول فقلت الشيء فانفلق كما قال تعالى: «فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى» والشيء المفلوق يسمى فلقا،

الإيضاح

والمراد به كل ما يفلقه الله كالأرض التي تنفلق عن النبات، والجبال التي تنفلق عن عيون الماء، والسحائب التي تنفلق عن ماء الأمطار، والأرحام التي تنفلق عن الأولاد. والغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه، ووقب: دخل ظلامه فى كل شىء، ويقال وقبت الشمس إذا غابت، والنفاثات: واحدهم نفاثة كعلامة، من النفث وهو النفخ من ريق يخرج من الفم، والعقد: واحدها عقدة، والحاسد: هو الذي يتمنى زوال نعمة المحسود. الإيضاح (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي قل: أستعيذ برب المخلوقات، ومبدع الكائنات، من كل أذى وشر يصيبنى من مخلوق من مخلوقاته طرّا. ثم خصص من بعض ما خلق أصنافا يكثر وقوع الأذى منهم فطلب إليه التعوذ من شرهم ودفع أذاهم، وهم: (1) (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) أي ومن شر الليل إذا دخل وغمر كل شىء بظلامه، والليل إذا كان على تلك الحال كان مخوفا باعثا على الرهبة- إلى أنه ستار يختفى فى ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى- إلى أنه عون لأعدائك عليك. (2) (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) أي ومن شر النمامين الذين يقطعون روابط المحبة، ويبددون شمل المودة، وقد شبه عملهم بالنفث، وشبهت رابطة الوداد بالعقدة، والعرب تسمى الارتباط الوثيق بين شيئين عقدة، كما سمى الارتباط بين الزوجين: (عقدة النكاح) . فالنميمة تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة بالوسائل الخفية التي تشبه أن تكون ضربا من السحر، ويصعب الاحتياط والتحفظ منها فالنمام يأتى لك بكلام يشبه الصدق، فيصعب عليك تكذيبه، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد

أن يحل عقدة المحبة بين المرء وزوجه، إذ يقول كلاما ويعقد عقدة وينفث فيها، ثم يحلها إيهاما للعامة أن هذا حل للعقدة التي بين الزوجين. قال الأستاذ الإمام ما خلاصته: قد رووا هاهنا أحاديث فى أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم، وأثّر سحره فيه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو يأتى شيئا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك، وأخرجت موادّ السحر من بئر، وعوفى صلى الله عليه وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة. ولا يخفى أن تأثير السحر فى نفسه عليه الصلاة والسلام- ماس بالعقل آخذ بالروح، فهو مما يصدق قول المشركين فيه: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» . والذي يجب علينا اعتقاده أن القرآن المتواتر جاء بنفي السحر عنه عليه الصلاة والسلام، حيث نسب القول بإثبات حصوله له إلى المشركين ووبخهم على ذلك. والحديث على فرض صحته من أحاديث الآحاد التي لا يؤخذ بها فى العقائد، وعصمة الأنبياء عقيدة لا يؤخذ فيها إلا باليقين، ونفى السحر عنه صلى الله عليه وسلم لا يستلزم نفى السحر مطلقا، فربما جاز أن يصيب السحر غيره بالجنون، ولكن من المحال أن يصيبه صلى الله عليه وسلم، لأن الله عصمه منه. إلا أن هذه السورة مكية فى قول عطاء والحسن وجابر، وما يزعمونه من السحر إنما وقع بالمدينة، فهذا مما يضعف الاحتجاج بالحديث، ويضعف التسليم بصحته. وعلى الجملة فعلينا أن نأخذ بنص الكتاب، ونفوض الأمر فى الحديث ولا نحكمه فى عقيدتنا اهـ. (3) (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) أي ونستعيذ بك ربنا من شر الحاسد إذا أنفذ حسده، بالسعي والجدّ فى إزالة نعمة من يحسده، فهو يعمل الحيلة، وينصب

سورة الناس

شباكه، لإيقاع المحسود فى الضرر، بأدق الوسائل، ولا يمكن إرضاؤه، ولا فى الاستطاعة الوقوف على ما يدبره، فهو لا يرضى إلا بزوال النعمة، وليس فى الطوق دفع كيده، وردّ عواديه، فلم يبق إلا أن نستعين عليه بالخالق الأكرم، فهو القادر على ردّ كيده، ودفع أذاه، وإحباط سعيه. نسألك اللهم وأنت الوزر والنصير، أن تقينا أذى الحاسدين، وتدفع عنا كيد الكائدين، إنك أنت الملجأ والمعين. سورة الناس هى مكية، وآياتها ست، نزلت بعد سورة الفلق [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) شرح المفردات رب الناس: أي مربيهم ومنميهم ومراعى شؤونهم، الوسواس: أي الموسوس الذي يلقى حديث السوء فى النفس، والخناس: من الخنوس وهو الرجوع والاختفاء والجنة: واحدهم جنىّ، كإنس وإنسى. الإيضاح (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أمر رسوله أن يستعين بمن يربى الناس بنعمه، ويودبهم بنقمه.

(مَلِكِ النَّاسِ) أي مالكهم ومدبر أمورهم، وواضع الشرائع والأحكام التي فيها سعادتهم فى معاشهم ومعادهم. (إِلهِ النَّاسِ) أي المستولى على قلوبهم بعظمته، وهم لا يحيطون بكنه سلطانه بل يخضعون بما يحيط منها بنواحي قلوبهم، ولا يدرون من أىّ جانب يأتيهم، ولا كيف يسلط عليهم. وإنما قدم الربوبية، لأنها من أوائل نعم الله على عباده، ثم ثنى بذكر المالكية لأن العبد إنما يدرك ذلك بعد أن يصير عاقلا مفكرا، ثم ثلّث بذكر الألوهية، لأن المرء بعد أن يدرك ويعقل يعلم أنه هو المستوجب للخضوع والعزة والمستحق للعبادة وإنما قال: رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وهو رب كل شىء ومالك كل شىء وإله كل شىء من قبل أن الناس هم الذين أخطئوا فى صفاته وضلوا فيها عن الطريق السوىّ، فجعلوا لهم أربابا ينسبون إليهم بعض النعم، ويلجئون إليهم فى دفع النقم، ويلقبونهم بالشفعاء، ويظنون أنهم هم الذين يدبرون حركاتهم، ويرسمون لهم حدود أعمالهم. وبحسبك أن تقرأ قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» وقوله: «وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟» . والخلاصة- إنه سبحانه أراد أن ينبه الناس بأنه هو ربهم، وهم أناس مفكرون، وملكهم وهم كذلك، وإلههم وهم هكذا، فباطل ما اخترعوا لأنفسهم من حيث هم بشر. (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) أي ألجأ إليك ربّ الخلق وإلههم ومعبودهم أن تنجينا من شر الشيطان الموسوس الكثير الخنوس والاختفاء، لأنه يأتى من ناحية

الباطل، فلا يستطيع مقاومة الحق إذا صدمه، ولكنه يذهب بالنفس إلى أسوإ مصير، إذا انجرّت مع وسوسته، وانساقت معه إلى تحقيق ما خطر بالبال. وهذه الأحاديث النفسية إذا سلط عليها نظر العقل خفيت واضمحلت، ولكن الموسوس عند إلقائها. وحديث النفس بالفواحش وضروب الأذى للناس، يذهب هباء إذا تنبهت النفس لأوامر الشرع، وهكذا إذا وسوس لك امرؤ وبعثك على فعل السوء ثم كرّته بأوامر الدين يخنس ويمسك عن القول، إلى أن تستح له فرصة أخرى. وقد وصف الله هذا الوسواس الخناس بقوله: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أي إن هذا الوسواس الخناس الذي يوسوس فى صدور البشر، قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس، كما جاء فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» فشيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى، وشيطان الإنس كذلك، فكثيرا ما يريك أنه ناصح شفيق، فإذا زجرته خنس وترك هذه الوسوسة، وإذا أصغيت إلى كلامه استرسل واستمر فى حديثه وبالغ فيه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل تجاوز لأمتى عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» رواه أبو هريرة وخرّجه مسلم. وإنما جعل الوسوسة فى الصدور من قبل أنه عهد فى كلام العرب أن الخواطر فى القلب، والقلب مما حواه الصدر عندهم، ألا تراهم يقولون: إن الشك يحوك فى صدرك، ويجيش فى صدرى كذا، ويختلج ذلك بخاطري، وما الشك إلا فى نفسه وعقله، وأفاعيل العقل تكون فى المخ، ويظهر لها أثر فى حركات الدم وضربات القلب، وضيق الصدر وانبساطه. قال الأستاذ الإمام: الموسوسون قسمان: (1) قسم الجنة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم، وإنما نجد فى أنفسنا

أثرا ينسب إليهم، ولكل واحد من الناس شيطان، وهى قوة نازعة إلى الشر، ويحدث منها فى نفسه خواطر السوء. (2) قسم الناس، ووسوستهم ما نشاهده ونراه بأعيننا، ونسمعه بآذاننا. وما أوردوه فى خرطوم الشيطان وخطمه ومنقاره وجثومه على الصدر أو على القلب ونحو ذلك فهو من قبيل التمثيل والتصوير اهـ ملخصا. وقد بدئت السورة برب الناس، ومن كان مربيهم فهو القادر على دفع إغواء الشيطان ووسوستهم. وقد أرشد فى هذه السورة إلى الاستعانة به تعالى شأنه، كما أرشد إليها فى الفاتحة للإشارة إلى أن ملاك الأمر كله هو التوجه إليه وحده، والإخلاص له فى القول والعمل والالتجاء فيما لا قدرة لنا على دفعه. اللهم اجعلنا من المخلصين فى أعمالنا، وادفع عنا أذى شياطين الإنس والجن، وأبعد عنا شر الموسوسين، وقنا عذاب جهنم، ولا تفضحنا يوم العرض. وصل ربنا على محمد وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الذين ذادوا عن دينك، بقدر ما غرست فى قلوبهم من برد اليقين، وأثلجت صدورهم بمحبة هذا الدين.

خاتمة التفسير

خاتمة التفسير حمدا لك اللهم على نعمائك، وشكرا لك على جزيل آلائك، سبحانك رب وفقتني لتفسير كتابك الكريم، وبيان أسراره ومغازيه لجمهرة المسلمين، بعد أن كانت تقوم أمامهم عقبات تلو عقبات فمن مصطلحات للعلوم لا تستسيغها إلا طوائف ممن تخصصوا لدرسها، ومن تفسير لنظريات طبية أو فلكية دلت أبحاث العلماء المحدثين على أن تفسير العلماء القدامى لها كان مجانفا للحقائق التي أثبتها العلم الحديث، ومن قصص دوّن فى كتب التفسير يعوزه الدليل النقلى الصحيح، ولا يوافق على صدقه العقل الرجيح، ولا سيما قصص الأنبياء وأخبار الأمم البائدة، وبدء التكوين، وخلق السموات والأرض. وكم سهرت الليالى الطوال فى أيام القرّ، وإبّان الحرّ، لا تؤنسني إلا معونة الله وجميل توفيقه، وما أشعر به من لذة تخفف عنى ما أنقض ظهرى. وحينما كنت أحس بسأم من العمل المضنى- آنس أن نفحة من روح الله يهب نسيمها على قلبى، فأنشط للعمل، وأدأب على المضي قدما، لمواصلة الدرس والتأليف. وهكذا كانت تمر الليالى والأيام، فلا أجد مع ذلك الجهد إلا انشراحا وسرورا بمواصلة العمل. وقد أعاننى الله على إتمامه بعد سبع سنين دائبا العمل ليل نهار، صباح مساء. وكان مسك الختام، وإنجاز التفسير فى سلخ ذى الحجة من سنة 1365 خمس وستين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة سيد ولد عدنان بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية. ولله الحمد فى الآخرة والأولى، وإليه المرجع والمآب.

خاتمة الطبع

خاتمة الطبع بسم الله الرّحمن الرّحيم حمدا لمن أنزل القرآن تبيانا للناس وهدى وموعظة للمتقين، وأرسل سيدنا محمدا بشيرا ونذيرا ورحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه مصابيح الهدى وترجمان القرآن الذي هو حجة الله على الناس أجمعين. أتى رب العالمين فيه بالبراهين الساطعة، والحجج الدامغة على انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه جل ذكره بالمعبودية. دمغ به الباطل وأزهقه، وزيف به عقائد العرب وبين لهم النجدين، فمنهم من مال إلى الإسلام، ومنهم من خضع بالسيف والسنان. ولقد وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاصده، وبين مراميه وفسر بعض آياته، واقتدى به الصحابة ومن بعدهم فى ذلك. ولله در حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ «أحمد مصطفى المراغي بك» حيث خاض لجة بحر علم تفسير القرآن، فشرح الألفاظ المفردة التي يصعب على القارئ فهمها لأول وهلة، ثم تلاها بالمعنى المراد من الآيات فى عبارة مختصرة، ثم ثلثها بإيضاح المعاني إيضاحا شاملا شافيا، مع تجنب القصص الإسرائيلية المدسوسة والخرافات الدخيلة على هذا العلم النفيس، فذكر منها الصريح والنقل الصحيح. اهتدى إلى ما لم يهتد إليه الفحول من متقدميه، واستدل بأحاديث الرسول فى بعض المواضيع، وبأشعار العرب، وبأقوال أهل اللغة والعلماء الموثوق بعلمهم ونقلهم، فهو كما قال القائل: وإنى وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل وقد قام بطبعه طبعا متقنا ونشره بين الأنام السادة النبلاء من نشروا كتب الجهابذة الأعلام فى أنحاء المعمورة، أصحاب: [شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر] فلله درهم حيث قدموه لجمهور القراء بهذا الشكل البديع مع الاعتناء بتصحيحه بمعرفة لجنة التصحيح بالشركة.

فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء الصفحة المبحث 5 كان المشركون كثيرا ما يتحدثون فى شأن البعث والحساب فنزلت سورة عم 8 للظلمة فوائد وللنور فوائد 9 فى الشمس سر الحياة 11 أمر الكائنات فى يوم الفصل على غير ما نعهد 14 ذكر جرائم الكفار التي استحقوا عليها العذاب 17 التمتع بالنساء فى الآخرة يكون على نهج يشاكل العالم الأخروى 19 الملائكة مخلوقات غيبية نصدق بما جاء فى الكتاب من أوصافها 20 فى يوم القيامة تتجلى للمرء أعماله التي كانت فى حياته الأولى 23 الإقسام ببعض المخلوقات فى الكتاب الكريم يكون لأحد أمرين 25 استبعد المشركون أمر البعث لأسباب ثلاثة 27 قصص موسى مع فرعون طاغية مصر 30 البعث هين إذا قيس بخلق السموات والأرض 31 تعاقب الليل والنهار يهيىء الأرض للسكنى 33 يوم القيامة يتذكر كل امرئ ما عمل فى الدنيا 35 كان المشركون يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فأمره أن يقول لهم: علمها عند ربى 37 يوم القيامة يظن المشركون أنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا عشية أو ضحاها

9 عتاب الله لنبيه على الإعراض عن هذا الأعمى 42 الهداية تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل 47 الآيات المنبثة فى الآفاق والأنفس 49 ذكر بعض أهوال يوم القيامة التي توجب الفزع 50 الناس فريقان: سعداء وأشقياء 53 حين تقع أحداث القيامة تعلم كل نفس ما قدّمت من عمل 55 افتنّ العرب فى وأد البنات 56 لا يتقبل الله من الأعمال إلا ما كان عن قلب ملىء بالإيمان 59 أوصاف جبريل عليه السلام 60 صفة النبي عليه الصلاة والسلام 61 على مشيئة المكلف تتوقف الهداية 65 فى يوم الحشر يسأل الإنسان عما دعاه إلى مخالفة خالقه. 66 الإنسان لا يعيش كما يعيش سائر الحيوان 67 لا يمنع الإنسان من التصديق بالبعث إلا العناد. 71 جزاء التطفيف فى الكيل والميزان 73 التطفيف يكون فى غير الكيل والميزان 75 مقالة المشركين فى القرآن. 76 لا يكذب بيوم الدين إلا المعتدى الأثيم 78 ما يقال للكفار يوم القيامة 80 أعمال الأبرار فى كتاب يسمى عليين وأعمال الفجار فى كتاب يسمى سجينا

81 أثر النعيم فى أهل الجنة 83 ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين فى الدنيا 84 من شأن القوى أن يضحك ممن يخالفة 88 الناس فى الآخرة فريقان: بررة وفجرة 89 حين اختلاف نظام هذا العالم تمدّ الأرض مدّ الأديم العكاظي 91 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم حاسبنى حسابا يسيرا 92 إيتاء الكتاب باليمين أو بالشمال تصوير وتمثيل 94 إقسام الله تعالى بآياته الباهرات فى هذا الكون 98 الإقسام بما فيه غيب وشهود 99 تعذيب المشركين للمؤمنين شنشنة قديمة 100 حديث أصحاب الأخدود 102 ما أعد الله للكافرين من العذاب الأليم 104 ما يعظم به الملك فى الدنيا 106 فى قصص أصحاب الأخدور تسلية للنبى وصحبه 107 أحوال الكفار متشابهة فى كل عصر 109 إقسام الله تعالى بأن النفوس لم تخلق سدى 112 كيفية خلق الجنين ونموّ الحمل كما أثبته العلم حديثا 114 الماء الدافق يكون من كل من الرجل والمرأة 118 فى الحديث «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم» إلخ 121 اسم الله ما يعرف به

123 وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيقرئه من كتابه ما فيه تنزيهه 125 أمره صلى الله عليه وسلم بتذكير عباده بما ينفعهم فى دينهم ودنياهم 126 الناس بالنظر إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أقسام ثلاثة 127 وعد من زكى نفسه بالفوز والفلاح والظفر بالسعادة 129 الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا مذكرا بما نسيته الأجيان من شرائع المرسلين 134 وصف الجنة وما فيها. 136 إقامة الحجة على المنكرين ليوم البعث 137 ضرب أمثلة دالة على قدرته تعالى. 141 نعمة الله على عباده بتعاقب الليل والنهار 143 ذكر قصص الأمم الماضية وما فيها من سلوى لرسوله صلى الله عليه وسلم 143 الإنسان لا يهتم إلا بشئون الدنيا 148 توبيخ الإنسان على زجر اليتيم والمسكين 150 إيثار الناس للحياة الدنيا على الآخرة 151 يندم الإنسان على ما فرط منه حين لا يجدى الندم 152 وصف يوم القيامة وما فيه من أحداث 157 خلق الإنسان فى عناء 161 الحض على مواساة اليتيم وإطعام المسكين 163 فعل البر لا يجدى نفعا إلا مع الإيمان واطمئنان القلب 166 الحكمة فى القسم بالشمس والقمر والليل والنهار

168 ألهم الله تعالى النفوس الفجور والتقوى وعرّفها حالها 170 ذكر بعض أخبار الأمم الماضية وما جوزوا به 174 اختلاف الأجنة فى الذكورة والأنوثة دليل على أن واضع النظام عليم بما يفعل 178 أعذر الله إلى عباده فأبان لهم الخير والشر وأرشد إلى عاقبتهما 180 الناس أصناف ثلاثة 182 سبب نزول سورة الضحى 184 تعداد ما أنعم الله به على رسوله قبل النبوة 186 مطالبته عليه الصلاة والسلام بشكر هذه النعم 187 كان صلى الله عليه وسلم كثير الإنفاق على الفقراء عظيم الرأفة بهم 189 لا فخار أعظم من ذكره صلى الله عليه وسلم فى كلمة الإيمان مع العلى الرحمن 191 ستخرج النفس ظافرة مهما اشتد العسر إذا اعتصمت بالصبر وتوكلت على ربها 194 أقسم ربنا بالعهود الأربعة التي كان لها أثر بارز فى تاريخ البشر 197 صدر سورة اقرأ أول القرآن نزولا 200 نعم الله على عباده 201 أسباب طغيان الإنسان 205 ما دار من الحواريين النبي صلى الله عليه وسلم وأبى جهل 206 أشار القرآن إلى نزول القرآن فى أربعة مواضع 208 فضل ليلة القدر 215 النعي على المسلمين فيما أحدثوا من البدع 217 علامات يوم القيامة

223 أقسم الله سبحانه بالخيل ليعلى من قدرها 227 نحن نؤمن بالميزان يوم القيامة لكنا لا نعرف حقيقته. 230 زيارة القبور أعظم دواء للقلب القاسي 232 يسأل الكفار عن النعيم الذي كانوا يتمتعون به فى الدنيا 234 الدهر خلق من خلق الله تقع فيه الحوادث خيرها وشرها 235 الناس فى خسر إلا من اتصفوا بأربع صفات 238 سخط الله وعذابه لكل طعان فى الناس أكّال للحوم 242 قصص أصحاب الفيل كما رواه الثقات. 243 البعوض الذي أهلك أصحاب الفيل 245 تعداد النعم على قريش 248 الرياء على ضروب 251 أسباب نزول سورة الكوثر 257 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لتكذيب قومه له 262 كان أبو لهب يصدّ عن الحق وينفر الناس عن اتباعه 264 ورد أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن. 264 سورة الإخلاص تضمنت نفى الشرك بجميع أنواعه 267 علمنا الله أن نتعوّذ به من أصناف من الخلق 268 نفى تأثير السحر فى النبي صلى الله عليه وسلم 271 الموسوسون قسمان 273 خاتمة التفسير 274 خاتمة الطبع

§1/1