حكم الجاهلية

أحمد شاكر

حكم الجاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أحمد محمد شاكر ترجم للمؤلف وعرّف به محمود محمد شاكر

بين يدي الكتاب

بين يدي الكتاب * كلمة عن الكتاب ونشره: بقلم الأستاذ أسامة أحمد شاكر "ابن المؤلف -رحمه الله-". * كلمة حول تحكيم القوانين الوضعية: بقلم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. مفتي الديار السعودية -رحمه الله- تعالى. * ترجمة المؤلف -رحمه الله-: بقلم العلامة محمود محمد شاكر "شقيق المؤلف -رحمه الله-".

الشيخ أحمد شاكر -علم من أعلام العصر -بقلم ابن الشيخ

بسم الله الرحمن الرحيم الشيخ أحمد محمد شاكر علم من أعلام العصر 1309 - 1377 هجرية = 1892 - 1958 ميلادية ولد والدي الشيخ أحمد محمد شاكر -رحمه الله- يوم الجمعة 29 من جمادى الآخرة سنة 309 هـ الموافق 29 يناير سنة 1892م وتوفي صباح يوم السبت 26 من ذي القعدة سنة 1377هـ الموافق 14 يونية سنة 1958م. وقد رغبت مكتبة السنة تكريمه بإصدار كتاب أسمته "حكم الجاهلية" وذلك بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده في يناير 1992م. وهذا الكتاب عبارة عن موضوعات شتى للشيخ أحمد محمد شاكر في كتب ومقالات متفرقة تناولت موضوعاً يكاد يكون واحداً عن حكم الجاهلية، فرجعت إلى كتب عمدة التفسير (مختصر تفسير ابن كثير) والمسند والسمع والطاعة والكتاب والسنة والعمدة ومقالات وردت في كتاب "كلمة الحق" وفي مجلة الفتح والهدي النبوي، ونشكر مكتبة السنة على هذا العمل القيم. أما بالنسبة لوالدي الشيخ أحمد محمد شاكر -رحمه الله- تعالى، فإنه بحق كان علماً من أعلام العصر وذلك بشهادة كل من عرفه أو عاصره أو قرأ له سواء في مصر أو في العالم العربي والإسلامي بل والمستشرقين. وهو قد درس العلم في بدء حياته بكلية غوردون بالسودان حينما كان والده

الشيخ محمد شاكر -رحمه الله- قاضياً لقضاة السودان، ثم التحق بمعهد الإسكندرية (الذي أنشأه والده) بعد العودة من السودان، وأكمل دراسته بالأزهر الشريف حتى حصل على العالمية، ثم التحق بالتدريس لعدة أشهر ثم التحق بالقضاء الشرعي. ولكن توليه منصب القضاء لم يمنعه من القراءة والبحث الدقيق في كتب الحديث والتفاسير، فوضع نصب عينيه أن يحقق كتاب المسند للإمام أحمد بن حنبل فبدأ في ذلك، قبل مولدي، وعلى ما علمته منه بدأ ذلك سنة 1911م وهو في بدء شبابه واستمر يقرأ ويراجع ويعلق في مسودات حتى سنة 1943م حينما أخرج الجزء الأول من كتاب المسند بعد 32 سنة من القراءة والتحقيق وهو جهد لم يدانيه فيه أحد حتى الآن بهذه الدقة في التحقيق وتخريج الأحاديث النبوية، وكان يقوم بهذا الجهد بجانب عمله في القضاء الذي بدأه بالعمل موظفاً قضائياً ثم قاضياً ثم نائباً لرئيس محكمة ثم رئيساً لمحكمة حتى عين عضواً بالمحكمة العليا الشرعية إلى أن أحيل إلى المعاش في يناير 1952م. وكان في عمله في القضاء يصدر أحكامه بعد مراجعة دقيقة بالرجوع إلى كتب الفقه والحديث والسنة وبالاجتهاد، مما أفضى به إلى مخالفة القدماء والمحدثين في أمور شتى وأيد رأيه بالأدلة البينة وذلك كان ديدنه في تحقيق الكتب كذلك. هذا وقد صدرت في حياته كثير من الكتب أهمها 16 جزءاً من كتاب المسند للإمام أحمد بن حنبل وخمسة أجزاء من كتاب عمدة التفسير (مختصر تفسير ابن كثير) وجزءان من كتاب سنن الترمذي والجزء الأول من صحيح ابن حبان والرسالة للإمام الشافعي وجماع العلم للشافعي والشعر والشعراء لابن قتيبة (جزءان) والمحلى لابن حزم ولباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ وشارك شقيقه الأستاذ الأديب محمود محمد شاكر (أطال الله بقاءه) في كتاب تفسير الطبري كما شارك ابن

خاله الأستاذ عبد السلام محمد هارون -رحمه الله- في تحقيق كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت والمفضليات والأصمعيات، كما شارك شقيقه الشيخ علي محمد شاكر -رحمه الله- في تحقيق بعض الكتب، كما شارك الشيخ محمد حامد الفقي في إخراج كتاب سنن أبي داود. ومرة ثانية نشكر مكتبة السنة على هذا الجهد في تجميع هذه الآراء في كتاب واحد لتكون مرجعاً لكل باحث عن الحقيق، فالشيخ أحمد محمد شاكر -رحمه الله- كان يرى أن تبحث أمور الدين بمقارعة الرأي بالرأي الآخر دون شطط ودون الالتجاء إلى الآراء الشاذة التي لا تستند إلى سند من القرآن والحديث لتبرير آرائهم، والله الموفق. 21/ 12/1991م أسامة أحمد شاكر

تحكيم القوانين بقلم سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ

بسم الله الرحمن الرحيم تحكيم القوانين بقلم سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي الديار السعودية، -رحمه الله- تعالى إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59] وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يُحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، نفياً مؤكداً بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء:65] ولم يكتف تعالى وتقدّس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يُضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: (ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ). والحَرَج: الضيق. بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب.

ولم يكتف تعالى أيضاً هنا بهذين الأمرين، حتى يضمّوا إليهما التسليم وهو كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلون ها هنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتم تسليم، ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل شأنه (تَسْلِيماً) المبين أنه لا يُكْتفى ها هنا بالتسليم ... بل لا بد من التسليم المطلق. وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). كيف ذكر النكرة وهي قوله: (شَيْءٍ) في سياق الشرط وهو قوله جل شأنه: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ) المفيد العموم، فيما يُتصوّر التنازع فيه جنساً وقَدْراً، ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطا في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: (إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، ثم قال جل شأنه: (ذَلِكَ خَيْرٌ) فشيء يُطلق الله عليه أنه خير، لا يتطرق إليه شر أبداً، بل هو خير محض عاجلاً وآجلاً ... ثم قال: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي: عاقبة في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع شر محض وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة. عكس ما يقوله المنافقون: (إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً)، وقولهم: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة:11] ولهذا رد الله عليهم قائلاً: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) [البقرة:12]. وعكس ما عليه القانونيون

من حكمهم على القانون بحاجة العالم (بل ضرورتهم) إلى التحاكم إليه وهذا سوء ظن صِرْف بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن هذا لازم لهم. وتأمل أيضاً ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: (فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) فإن اسم الموصول مع صلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القَدْر، فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير، وقد نفى الله الإيمان عن من أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً)] النساء: 60]. فإن قوله عز وجل: (يَزْعُمُونَ) تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد. فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه، وذلك أنه من حق كل أحد أن يكون حاكما بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط لا بخلافه، كما أن من حق كل أحد أن يُحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمن حاكم

بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوز حده، حكماً أو تحكيما، فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حده. وتأمل قوله عز وجل: (وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ) تعرف منه معاندة القانونيين، وإراداتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعاً والذي تُعبِّدوا به هو: الكفر بالطاغوت لا تحكيمه، (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة:59]. ثم تأمل قوله: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ) كيف دل على أن ذلك ضلال، وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصور القانونيون من بُعْدهم من الشيطان، وأن فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بُعثَ به سيد ولد عدنان معزولاً من هذا الوصف، ومنحى عن هذا الشأن، وقد قال تعالى منكراً على هذا الضرب من الناس، ومقرراً ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحاً أنه لا حكم أحسن من حكمه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50] فتأمل هذه الآية الكريمة وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية، وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية الموضح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية، شاءوا أم أبوا، بل هم أسوء منهم حالا، وأكذب منهم مقالا، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد. وأما القانونيون فمتناقضون، حيث يزعمون الإيمان بما جاء به

الرسول صلى الله عليه وسلم، ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً) [النساء:151] ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50] قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكيز خان" الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء،

العادل في كل شيء" [انتهى قول الحافظ ابن كثير]. وقد قال عز شأنه قبل ذلك مخاطبا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة: 48] وقال تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) [المائدة: 49] وقال تعالى: مخيراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم إن جاءوه لذلك: (فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة: 42] والقسط هو: العدل، ولا عدل حقاً إلا حكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم والضلال والكفر، والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44] (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45] (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة:47]. فانظر كيف سجل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يسمّي الله سبحانه الحاكمَ بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدل أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة، أما الأول، وهو كفر الاعتقاد فهو

أنواع: أحدها أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعا مجمعاً عليه، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعيا، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة. الثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقا، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقاً أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضاً لا ريب أنه كفر، لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصِرْف حثالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد. وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله، وليس معنى ما ذكره العلماء من تغيُّر الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قل نصيبهم أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها منقادة

إليها، مهما أمكنهم فيحرفون لذلك الكلم عن مواضعه، وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مستصحبه فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وإنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم، كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد. الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] ونحوها من الآيات الكريمة، الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه. الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلا لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدُق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه. الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقه لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً

وإرصاداً وتأصيلا، وتفريعاً وتشكيلا وتنويعاً وحكما وإلزاماً، ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع، هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة. وذِكْر أدلة جميع ما قدمنا على وجه البَسْط معلومة معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضع، فيا معشر لعقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى! كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم، ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله، نصا أو استنباطا، تدعونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم، وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله، الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل

من حكيم حميد، وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم الحميد، الرؤف الرحيم، دون حكم المخلوق، الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات، فيجب على العقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلا عن كونه كفراً بنص قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر، والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمونها "سلومهم"، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحصلون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءاً على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: "كفر دون كفر" وقوله أيضاً: "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه" اهـ. وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية، بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن

حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ، ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر، كالزنا وشرب الخمر، والسرقة واليمين الغموس، وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه: "كفراً"، أعظم من معصية لم يسمها كفرا، نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقياداً ورضاءاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أحمد محمد شاكر "إمام المحدثين" -بقلم محمود محمد شاكر

بسم الله الرحمن الرحيم أحمد محمد شاكر "إمام المحدثين" محمود محمد شاكر في الساعة السادسة بعد فجر يوم السبت 26 من ذي القعدة سنة 1377 هـ =14 من يونية سنة 1958م، فقد العالم الإسلامي إماماً من أئمة علم الحديث في هذا القرن، هو الأستاذ أحمد محمد شاكر، المحدث المشهور، وهو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية، قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى. وكان له اجتهاد عُرف به في جرح الرجال وتعديلهم، أفضى به إلى مخالفة القدماء والمحدثين، ونصر رأيه بالأدلة البيِّنة، فصار له مذهب معروف بين المشتغلين بهذا العلم، على قلّتهم. وقد تولى القضاء في مصر أكثر من ثلاثين سنة، فكانت له أحكام مشهورة في القضاء الشرعي، قضى فيها باجتهاده غير مقلّد ولا متّبع، وكان اجتهاده في الأحكام مبنياً على سعة معرفته بالسنة النبوية، التي اشتغل بدراستها منذ نشأته إلى أن لقي ربه. وهو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر من آل أبي علياء، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وأبوه الإمام العلامة الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً، وجدّه لأمّه هو العالم الجليل الشيخ هارون عبد الرازق، وأبوه وأمه جميعاً من مديرية جرجا بصعيد مصر.

وَوُلِد الشيخ أحمد، -رحمه الله-، بعد فجر يوم الجمعة 29 من جمادى الآخرة سنة 1309، الموافق 29 من يناير سنة 1892، بمنزل والده بدرب الإنسية، بقسم الدرب الأحمر، بالقاهرة. وسماه أبوه: "أحمد شمس الأئمة، أبو الأشبال"، وكان أبوه يومئذ أميناً للفتوى مع أستاذه الشيخ العباسي المهدي، مفتي الديار المصرية. فلما صدر الأمر بإسناده منصب قاضي قضاة السودان، إلى والده الشيخ محمد شاكر، في 10 من ذي القعدة سنة 1317هـ=11 من مارس سنة 1900م عقب خمود الثورة المهدية، رحل بولده إلى السودان، فألحق ولده "أحمد" بكلية غوردون، فبقي تلميذاً بها حتى عاد أبوه من السودان، وتولى مشيخة علماء الإسكندرية في 26 من أبريل سنة 1904، فألحق ولده من يومئذ بمعهد الإسكندرية الذي يتولاه. وكان السيد أحمد منذ عقل وطلب العلم، محباً للأدب والشعر، كدأب الشباب في صدر أيامه، فاجتمع في الإسكندرية وأديب من أدباء زمانه في هذا الثغر؛ هو الشيخ عبد السلام الفقي، من أسرة الفقي المشهورة بالمنوفية، فحرضه على طلب الأدب، وحرّض معه أخاه علياً، وهو أصغر منه، وصار يقرأ لهما أصول كتب الأدب في المنزل زمناً طويلاً. ثم أراد الشيخ عبد السلام أن يختبر تلميذيه، فكلفهما إنشاء قصيدة من الشعر، فعمل علي --أطال الله بقاءه-، أبياتاً، أما أحمد فلم يستطع أن يصنع غير شطر واحد ثم عجز؛ فمن يومئذ انصرف أخوه علي إلى الأدب، وانصرف هو إلى دراسة علم الحديث بهمة لا تعرف الكلل منذ سنة 1909 إلى يوم وفاته. ولكنه لم ينقطع قط عن قراءة الآداب: حديثها وقديمها، مؤلفها ومترجمها، كما سيظهر بعد من الكتب التي تولى نشرها في حياته -رحمه الله-. وكان أول شيوخه في معهد الإسكندرية الشيخ "محمود أبو دقيقة"، وهو أحد

العلماء الذين تركوا في حياة الفقيد أثراً لا يمحى؛ فهو الذي حبب إليه الفقه وأصوله، ودرّبه وخرّجه في الفقه حتى تمكن منه. ولم يقتصر فضل هذا الشيخ على تعليمه الفقه، بل علمه أيضاً الفروسية وركوب الخيل، والرماية والسباحة، فتعلق السيد أحمد بركوب الخيل والرماية، ولم يتعلق بالسباحة تعلقاً يذكر. أما أعظم شيوخه أثراُ في حياته، فهو والده الشيخ "محمد شاكر"؛ فقد قرأ له ولإخوانه التفسير مرتين، مرة في تفسير البغوي، وأخرى في تفسير النسفي، وقرأ لهم صحيح مسلم، وسنن الترمذي والشمائل، وبعض صحيح البخاري. وقرأ لهم في الأصول: جمع الجوامع، وشرح الأسنوي على المنهاج، وقرأ لهم في المنطق: شرح الخبيصي، وشرح القطب على الشمسية، وقرأ لهم في البيان: الرسالة البيانية، وقرأ لهم في فقه الحنفية كتاب الهداية على طريقة السلف في استقلال الرأي وحرية الفكر، ونبذ العصبية لمذهب معين. وكثيراً ما خالف والده في هذه الدروس مذهب الحنفية عند استعراض الآراء وتحكيم الحجة والبرهان، ورجح ما نصره الدليل الصحيح. هكذا قال السيد أحمد في ترجمة والده. وقد ظهر أثر والده هذا ظهوراً بيناً في دراسة الشيخ أحمد للحديث، وفي أحكامه التي قضى بها في مدة توليه القضاء بمصر. وكان لوالده أعظم الأثر في توجيهه إلى دراسة علم الحديث منذ سنة 1909، فلما كانت سنة 1911 اهتم، السيد أحمد، بقراءة مسند أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله-، وظل منذ ذلك اليوم مشغولاً بدراسته حتى ابتدأ في طبع شرحه على المسند سنة 1365 من الهجرة = سنة 1946 من الميلاد، كما بين ذلك مختصراً في مقدمة المسند. ولما انتقل والده من الإسكندرية إلى القاهرة وكيلاً لمشيخة الأزهر في ربيع

الآخر سنة 1327هـ 29 من أبريل سنة 1909، التحق السيد أحمد، هو وأخوه السيد علي بالأزهر، فكانت إقامته في القاهرة بدء عهد جديد في حياته، فاتصل بعلمائها ورجالها، وعرف الطريق إلى دور كتبها في مساجدها وغير مساجدها. وتنقل بين دكاكين الكتبية. وكانت القاهرة يومئذ مستراداً لعلماء البلاد الإسلامية، وكان من التوفيق أن حضر إلى القاهرة من المغرب الأقصى السيد عبد الله بن إدريس السنوسي، عالم المغرب ومحدثها، فتلقى عنه طائفة كبيرة من صحيح البخاري، فأجازه هو وأخاه برواية البخاري، ورواية باقي الكتب الستة. ولقي بها أيضاً الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي، فأخذ عنه كتاب بلوغ المرام، وأجازه به وبالكتب الستة، ولقي أيضاً الشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي، عالم القبائل الملثمة، فأجازه هو وأخاه بجميع علمه. وتلقى أيضاً من الشيخ شاكر العراقي. وكان أسلوبه في التحديث أن يسأله أحد طلابه عن مسألة، فيروي عندئذ كل ما ورد فيها من الأحاديث في جميع كتب السنة بإسنادها، مع بيان اختلاف روايتها. فأجازه وأجاز علياً بجميع كتب السنة. ولقي أيضاً في القاهرة من علماء السنة الشيخ "طاهر" الجزائري عالم سورية المتنقل، والسيد "محمد رشيد رضا" صاحب المنار، ولقي كثيراً غير هؤلاء من علماء السنة يطول ذكرهم بالتفصيل. وهذا اللقاء المتتابع للعلماء، هو الذي مهّد لهذا العالم أن يستقلّ بمذهب في علم الحديث، حتى استطاع أخيراً أن يقف في منتصف هذا القرن علماً مشهوراً لا ينازعه في إمارة التحديث إلا قليل. ولما حاز شهادة العالمية من الأزهر في سنة 1917، عُين مدرساً بمدرسة ماهر، ولكن لم يبق بها غير أربعة أشهر، ثم عين موظفاً قضائياً ثم قاضياً، وظل في القضاء حتى أحيل إلى المعاش في سنة 1951 عضواً بالمحكمة العليا، ولكنه لم ينقطع في

خلال ذلك عن دراساته، وعن المشاركة في نشر التراث الإسلامي، في الحديث والفقه والأدب. وأول كتاب عرف به الشيخ "أحمد محمد شاكر" وعرف به إتقانه وتفوقه، هو نشره رسالة الإمام الشافعي، عن أصل تلميذه الربيع بن سليمان، الذي كتبه بخطه في حياة الشافعي من إملائه. ونشره رسالة الشافعي يعدّ من أعظم الآثار التي تولى العلماء نشرها في هذا العصر. ثم شرح سنن الترمذي شرحاً دقيقاً، ولكنه لم يتمه، وشارك في نشر شرح "سنن أبي داود"، ونشر كتاب جماع العلم للشافعي، وشارك أيضاً في نشر المحلى لابن حزم، وشرح صحيح ابن حبان، ولم ينشر منه غير الجزء الأول. أما عمله الذي استولى به على الغايات فهو شرحه على مسند أحمد بن حنبل، أصدر منه خمسة عشر جزءاً فيها من البحث والفقه والمعرفة ما لم يلحقه فيه أحد في زمانه هذا. ونشر من كتب الأدب والشعر، كتاب "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والمفضّليات للمفضل الضبي، والأصمعيات للأصمعي، وشاركه في نشرهما ابن خاله الأستاذ "عبد السلام محمد هارون"، ونشر كتاب المعرّب للجواليقي نشراً علمياً دقيقاً. وشارك أخاه الأستاذ "محمود محمد شاكر" في تفسير الطبري، فتولى جزءاً من تخريج أحاديثه إلى الجزء التاسع، وعلق على بعضها إلى الجزء الثالث عشر، ثم وافته المنية، ولم ينظر بعد في أحاديث الجزء الرابع عشر. وكان قبل وفاته، -رحمه الله-، قد شرع في اختصار تفسير القرآن لابن كثير،

وسماه "عمدة التفسير"، وصل فيه إلى الجزء الخامس من عشرة أجزاء. وقد قصد فيه الإبانة عن معاني القرآن، بما يوافق حاجة المتوسطين من المثقفين، مع المحافظة على ألفاظ المؤلف ما استطاع. أما سائر الكتب التي تولى نشرها فهي كثيرة يطول ذكرها. وله في جميع ما نشره وألفه تعليقات دافع فيها عن أحكام الإسلام وآدابه دفاعاً تفرد به، ونطق فيه بالحق الذي يراه، غير متهيب ولا متلجلج. وأما أهم ما ألفه فهو كتاب نظام الطلاق في الإسلام دل فيه على اجتهاده وعدم تعصبه لمذهب من المذاهب، واستخرج فيه نظام الطلاق من نص القرآن، ومن بيان السنة في الطلاق، وكان لظهور هذا الكتاب ضجة عظيمة بين العلماء، ولكنه دافع فيه عن اجتهاده دفاعاً مؤيداَ بالحجة والبرهان، ومن قرأ الكتاب عرف كيف يكون الاحتجاج في الشريعة، وظهر له فضل هذا الرجل وقدرته على ضبط الأصول الصحيحة، وضبط الاستنباط فيها ضبطاً لا يختل. فرحم الله فقيدنا، وبعث في هذه الأمة من يخلفه للنهوض بما ابتدأه. محمود محمد شاكر

1 - حكم الجاهلية

بسم الله الرحمن الرحيم 1 - حكم الجاهلية قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50]. قال الإمام ابن كثير (¬1): "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا ¬

يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أي يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء"اهـ. قال الشيخ (¬1): "والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها". والنوع الآخر: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا. وإنما هي كلمة مغلية، أصلها: ياسة، فحرفها أهل مصر، وزادوا بأولها سيناً فقالوا: سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام، فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية! وما الأمر فيها إلا ما قلت؛ واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام. وذلك أن جنكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق، لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة -قرر قواعد وعقوبات، أثبتها في كتاب سماه: ياسة، ومن الناس من يسميه: يسق، والأصل في اسمه: ياسة، ولما تمم وضعه ¬

كتب ذلك نقشاً في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده، حتى قطع الله دابرهم. وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض -كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره -فصار الياسة حكماً بتاً في أعقابه، لا يخرجون عن شيء من حكمه -ثم قال (¬1) في ص (359) بعد ذكر أمثلة من سخافات هذه الياسه: "وجعل حكم الياسه لولده جقتاي بن جنكز خان، فلما مات التزم من بعده أولاده وأتباعهم حكم الياسة، كالتزام أول المسلمين حكم القرآن، وجعلوا ذلك ديناً لم يعرف عن أحد منهم مخالفته بوجه". * ... * ... * قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50] قال الحافظ ابن كثير (¬2): "أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عقل عن الله شرعه وآمن به، وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء"اهـ. قال الشيخ (¬3): "أقول: أفيجوز -مع هذا- في شرع الله أن يُحكم المسلمون في ¬

بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيرونه ويبدلونه كما يشاؤون، لا يبالي واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها؟. إن المسلمين لم يبلوا بهذا قط -فيما نعلم من تاريخهم- إلا في ذلك العهد، عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام. ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه ولم يعلموه أبناءهم. فما أسرع ما زال أثره. أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير -في القرن الثامن- لذاك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكز خان؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام: أتى عليها الزمان سريعاً، فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت. ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً وأشد ظلماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بذاك "الياسق" الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام، ثم يتعلمها أبناء المسلمين، ويفخرون بذلك آباءاً وأبناءاً، ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا

"الياسق العصري" ويحقرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعياً" و"جامدا"!!، إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة. بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقى في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى "ياسقهم الجديد"، بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخديعة تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرحون -ولا يستحيون- بأنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!!. أفيجوز إذن -مع هذا- لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا، واعتناقه واعتقاده والعمل به، عالماً كان الأب أو جاهلاً؟!. أو يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا "الياسق العصري"، وأن يعمل به ويُعرض عن شريعته البينة؟! ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتاباً محكماً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة رسوله الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال - ما أظنه يستطيع إلا أن يجزم غير متردد ولا متأول بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة! إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضحة وضوح الشمس، هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة. ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ

لنفسه، و"كل امرئ حسيب نفسه" ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ولا مقصرين. سيقول عني عبيد هذا "الياسق العصري" وناصروه، أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاؤا، فما عبأت يوماً ما بما يقال عني، ولكني قلت ما يجب أن أقول". * ... * ... * قال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام: 114 - 117]. قال الشيخ (¬1): "هذه الآيات وما في معناها تدمغ بالبطلان نوع الحكم الذي يخدعون به الناس ويسمونه "الديمقراطية"، إذ هي حكم الأكثرية الموسومة بالضلال، هي حكم الدهماء والغوغاء". * ... * ... * ¬

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء: 59 - 65]. قال الشيخ (¬1): وها هي ذي الآيات في هذه السورة، من الآية: 59 إلى آخر الآية: 65 واضحة الدلالة، صريحة اللفظ، لا تحتاج إلى طول شرح، ولا تحتمل التلاعب بالتأويل. يأمرنا الله سبحانه فيها بطاعته وطاعة رسوله، وأولي الأمر منا، أي من المسلمين. ويأمرنا إذا تنازعنا في شيء واختلفنا أن نرده ¬

إلى حكم الله في كتابه وحكم رسوله في سنته. ويقول في ذلك: (إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ). فيرشدنا سبحانه وتعالى إلى أن طاعته وطاعة رسوله في شأن الناس كلهم، وفيما يعرض لهم من قضايا وخلاف ونزاع -شرط في الإيمان بالله واليوم الآخر. وكما قال الحافظ ابن كثير آنفاً -ص209 - : "فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك- فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر". ثم يرينا الله سبحانه حكمه في الذين يزعمون أنهم يؤمنون برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه، ثم يريدون (أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ)، فيحكم بأنهم منافقون، لأنهم إذا دُعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، صدوا عنه صدوداً، والنفاق شر أنواع الكفر. ثم يعلمنا الله سبحانه وتعالى أنه لم يرسل الرسل عبثاً، وإنما أرسلهم ليطيعهم الناس بإذن الله. ثم يُقْسِم ربنا تبارك وتعالى بنفسه الكريمة المقدسة: إن الناس لا يكونون مؤمنين حتى يحتكموا في شأنهم كله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى يرضوا بحكمه طائعين خاضعين، لا يجدون في حكمه حرجاً في أنفسهم، وحتى يُسَلِّموا في دخيلة قلوبهم، إلى حكم الله ورسوله تسليماً كاملاً، لا ينافقون به المؤمنين، ولا يخضعون في قبوله لقوة حاكم أو غيره، بل يرضون به مهما يلقوا في ذلك من مشقة أو مؤنة. وأنهم إن لم يفعلوا لم يكونوا مؤمنين قط، بل دخلوا في إعداد الكافرين والمنافقين.

فانظروا أيها المسلمون، في جميع البلاد الإسلامية، أو البلاد التي تنتسب للإسلام، في أقطار الأرض -إلى ما صنع بكم أعداؤكم المبشرون والمستعمرون: إذا ضربوا على المسلمين قوانين ضالة مدمرة للأخلاق والآداب والأديان، قوانين إفرنجية وثنية، لم تُبْن على شريعة ولا دين، بل بُنيت على قواعد وضعها رجل كافر وثني، أبى أن يؤمن برسول عصره -عيسى عليه السلام- وأصر على وثنيته، إلى ما كان من فسقه وفجوره وتهتكه!. هذا هو جوستنيان، أبو القوانين وواضع أسسها فيما يزعمون، والذي لم يستح رجل من كبار رجالات مصر المنتسبين -ظلماً وزوراً- إلى الإسلام، أن يترجم قواعد ذاك الرجل الفاسق الوثني، ويسميها مدونة "جوستنيان"! سخرية وهُزءا بـ"مدونة مالك"، إحدى موسوعات الفقه الإسلامي المبني على الكتاب والسنة، والمنسوبة إلى إمام دار الهجرة. فانظروا إلى مبلغ ذلك الرجل من السخف، بل من الوقاحة والاستهتار! هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام السافروا العداوة، هي في حقيقتها دين آخر جعلوه ديناً للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي، لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها، وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها. حتى لقد تجري على الألسنة، والأقلام كثيرا كلمات "تقديس القانون"

"قدسية القضاء" "حرمة المحكمة" وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن توصف بها الشريعة الإسلامية وآراء الفقهاء الإسلاميين. بل هم حينئذ يصفونها بكلمات "الرجعية" "الجمود" الكهنوت" "شريعة الغاب" إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية، التي يكتبها أتباع أولئك الوثنيين! ثم صاروا يطلقون على هذه القوانين ودراساتها كلمة "الفقه" و"الفقيه" و"التشريع" و"المُشرِّع"، وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها. وينحدرون فيتجرؤون على الموازنة بين دين الإسلام وشريعته وبين دينهم المفترى الجديد!! ثم نفوا شريعتهم الإسلامية عن كل شيء، وصرح كثير منهم في كثير من أحكامها القطعية الثبوت والدلالة بأنها لا تناسب هذا العصر، وأنها شرعت لقوم بدائيين غير متمدنين، فلا تصلح لهذا العصر الإفرنجي الوثني!! خصوصاً في الحدود المنصوصة في الكتاب والعقوبات الثابتة في السنة. فترى الرجل المنتسب للإسلام، المتمسك به في ظاهر أمره، المشرب قلبه هذه القوانين الوثنية، يتعصب لها ما لا يتعصب لدينه. بل يجتهد ليتبرأ من العصبية للإسلام، خشية أن يُرمى بالجمود والرجعية! ثم هو يصلي كما يصلي المسلمون، ويصوم كما يصوم المسلمون، وقد يحج

كما يحج المسلمون. فإذا ما انتصب لإقامة القانون، لبسه شيطان الدين الجديد، فقام له قومة الأسد يحمي عرينه، ونفى عن عقله كل ما عرف من دينه الأصلي! ورأى أن هذه القوانين ألصق بقلبه، وأقرب إلى نفسه! هذا في المستمسك منهم بدين الإسلام، وهم الأقل. دع عنك أكثرهم. وقد ربى لنا المستعمرون من هذا النوع طبقات، أرضعوهم لبان هذه القوانين، حتى صار منهم فئات عالية الثقافة، واسعة المعرفة، في هذا اللون من الدين الجديد، الذي نسخوا به شريعتهم. ونبغت فيهم نوابغ يفخرون بها على رجال القانون في أوربا، فصار للمسلمين من أئمة الكفر، ما لم يُبتَل به الإسلام في أي دور من أدوار الجهل بالدين في بعض العصور. وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام ويحكمون بها سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئاً من أحكامه الشريعة وما خالفها. وكله باطل وخروج، لأن ما وافق الشريعة إنما وافقها مصادفة، لا اتباعاً لها، ولا طاعة لأمر الله وأمر رسوله. فالموافق والمخالف كلاهما مرتكس في حمأة الضلالة، يقود صاحبه إلى النار. لا يجوز لمسلم أن يخضع له أو يرضى به. وقد نزيد هذا المعنى بياناً، عند كلام الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: 50 من سورة المائدة، إن شاء الله. قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ

يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة: 38 - 40] * ... * ... * قال الشيخ (¬1): "هذا حكم الله في السارق والسارقة، قاطع صريح اللفظ والمعنى، لا يحتمل أي شك في الثبوت ولا في الدلالة، وهذا حكم رسول الله تنفيذاً لحكم الله وطاعة لأمره، في الرجاء والنساء: قطع اليد، لا شك فيه، حتى ليقول صلى الله عليه وسلم: بأبي هو وأمي-: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". فانظروا إلى ما فعل بنا أعداؤنا المبشرون المستعمرون! لعبوا بديننا، وضربوا علينا قوانين وثنية ملعونة مجرمة، نسخوا بها حكم الله وحكم رسوله، ثم ربوا فينا ناساً ينتسبون إلينا، أشربوهم في قلوبهم بغض هذا الحكم، ووضعوا على ألسنتهم كلمة الكفر: أن هذا حكم قاس لا يناسب هذا العصر الماجن، عصر المدنية المتهتكة! وجعلوا هذا الحكم موضع سخريتهم وتندرهم! فكان عن هذا أن امتلأت السجون -في بلادنا وحدها- بمئات الألوف من اللصوص، بما وضعوا في القوانين من عقوبات ¬

للسرقة ليست برادعة، ولن تكون أبداً رادعة، ولن تكون أبداً علاجاً لهذا الداء المستشري. ثم أدخلوا في عقول الطبقة المثقفة، وخاصة القائمين على هذه القوانين الوثنية -ما يسمونه "علم النفس". وهو ليس بعلم ولا شبيه به، بل هو أهواء متناقضة متباينة. لكل إمام من أئمة الكفر في هذا العلم رأي ينقض رأي مخالفه. ثم جاؤوا في التطبيق يلتمسون الأعذار من "علم النفس" لكل لص بحسبه، ثم زاد الأمر شراً أن يكتب اللصوص أنفسهم كلاماً يلتمسون به الأعذار لجرمهم، وقام المدافعون عنهم المقامات التي توردهم النار: يعلمون أن الجريمة ثابتة، فلا يحاولون إنكارها، بل يحاولون التهوين من شأنها، بدراسة نفسية المجرم وظروفه!!. ولقد جادلت منهم رجالاً كثيراً من أساطينهم، فليس عندهم إلا أن حكم القرآن في هذا لا يناسب هذا العصر!! وأن المجرم إن هو إلا مريض يجب علاجه لا عقابه. ثم ينسبون قول الله سبحانه في هذا الحكم بعينه: (جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ)، فالله سبحانه -وهو خالق الخلق، وهو أعلم بهم، وهو العزيز الحكيم- يجعل هذه العقوبة للتنكيل بالسارقين، نصاً قاطعاً صريحاً، فأين يذهب هؤلاء الناس؟!. هذه المسألة: -عندنا نحن المسلمين- هي من صميم العقيدة، ومن صميم الإيمان، فهؤلاء المنتسبون للإسلام، المنكرون حد القطع، أو الراغبون عنه -سنسألهم: أتؤمنون بالله وبأنه خلق هذا الخلق؟ فسيقولون: نعم، أفتؤمنون بأنه يعلم ما كان وما يكون، وبأنه أعلم يخلقه من أنفسهم وبما

يصلحهم وما يضرهم؟ فسيقولون: نعم، أفتؤمنون بأنه أرسل رسوله محمداً بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه هذا القرآن من لدنه هدى للناس وإصلاحاً في دينهم ودنياهم؟ فسيقولون: نعم، أفتؤمنون بأن هذه الآية بعينها (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) من القرآن؟ فسيقولون: نعم، أفتؤمنون بأن تشريع الله قائم ملزم للناس في كل زمان وفي كل مكان، وفي كل حال؟ فسيقولون: نعم، إذن فأنى تصرفون؟!، وعلى أي شرع تقومون؟! أما من أجاب -ممن ينتسب للإسلام- على أي سؤال من هذه السؤالات بأن: لا، فقد فرغنا منه وعرفنا مصيره، وقد أيقن كل مسلم، من عالم أو جاهل، مثقف أو أمي-: أن من يقول في شيء من هذا "لا" فقد خرج من الإسلام، فلن نجادلهم في هذا، ولن نسايرهم في الحديث عنه، إذ لم يؤمنوا بمثل ما آمنا، ولن يرضوا عنا أبداً إلا أن نقول مثل قولهم! وعياذاً بالله من ذلك. ولو عقل هؤلاء الناس -الذي ينتسبون للإسلام- لعلموا أن بضعة أيد من أيدي السارقين لو قطعت كل عام، لنجت البلاد من سبة اللصوص، ولما وقع كل عام إلا بضع سرقات، كالشيء النادر، ولخلت السجون من مئات الألوف التي تجعل السجون مدارس حقيقية للتفنن في الجرائم لو عقلوا لفعلوا، ولكنهم يصرون على باطلهم، ليرضى عنهم سادتهم ومعلموهم! وهيهات!! ". * ... * ... *

قال الله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... سُئل ابن عباس عن قوله: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم ...) الآية؟ قال: "هي به كفر"، قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. رواه ابن جرير، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه. ورواه الحاكم في مستدركه، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". قال الشيخ (¬2): "وهذه الآثار -عن ابن عباس وغيره- مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا، من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرآء على الدين: يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة التي ضربت على بلاد الإسلام. وهناك أثر عن أبي مجلز في جدال الإباضية الخوارج إياه، فيما كان ¬

يصنع بعض الأمراء من الجور، فيحكمون في بعض قضائهم بما يخالف الشريعة، عمداً إلى الهوى، أو جهلاً بالحكم، والخوارج من مذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافر، فهم يجادلون يريدون من أبي مجلز أن يوافقهم على ما يرون من كفر هؤلاء الأمراء، ليكون ذلك عذراً لهم فيما يرون من الخروج عليهم بالسيف، وهذا الأثران رواهما الطبري: 12025، 12026؛ وكتب عليهما أخي السيد محمود محمد شاكر تعليقاً نفيساً جداً، قوياً صريحاً، فرأيت أن أثبت هنا نص أولى روايتي الطبري، ثم تعليق أخي على الروايتين. فروى الطبري: 12025، عن عمران بن حدير قال: "أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أريت قول الله: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) أحق هو؟ قال نعم، قالوا: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أحق هو؟ قال نعم، قالوا: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، أحق هو؟ قال نعم، قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً، فقالوا: لا والله، ولكنك تَفْرق! قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم ترون هذا، ولا تحرّجون! ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك، أو نحواً من هذا". ثم روى الطبري: 12026، نحو معناه وإسناداه صحيحان، فكتب

أخي السيد محمود محمد شاكر بمناسبة هذين الأثرين ما نصه (¬1): "اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة. وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها. والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسؤول، فأبو مجلز (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة، وكان يحب علياً -رضي الله عنه- وكان قوم أبي مجلز وهو بنو شيبان، من شيعة علي يوم الجمل وصفين، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي -رضي الله عنه-، طائفة من بني شيبان، ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل، وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز، ناس من بني عمرو بن سدوس (كما في الأثر: 12025)، وهم نفر من الإباضية (كما في الأثر 12026)، والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، وهم يقولون بمقالة سائر الخوارج في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه -إذ حكم الحكمين، وأن علياً لم يحكم بما أنزل الله في أمر التحكيم، ثم إن عبد الله ¬

بن إباض قال: إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم. ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقاً لا ندري معه -في أمر هذين الخبرين- من أي الفرق كان هؤلاء السائلون، بيد أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد، إلا معسكر السلطان فإنه دور كفر عندهم، ثم قالوا أيضاً: إن جميع ما افترض الله سبحانه وتعالى على خلقه إيمان، وأن كل كبيرة فهي كفر نعمة، لا كفر شرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون أبداً. ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه في تكفير الأمراء لأنهم في معسكر السلطان ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول (رقم: 12025): "فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً" وقال لهم في الخبر الثاني: "إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب" وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه. والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه

وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع، على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها، فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!!. ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكما وجعله شريعة، ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى: أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما إن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة، وإما أن يكون حكم به متأولاً حكما خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحداً لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثراً لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فلذلك لم يكن قط، فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام

الله: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام "فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. وكتبه محمود محمد شاكر". * ... * ... * قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). [المائدة:45]. قال الإمام ابن كثير (¬1): "قال ابن عباس: تقتل النفس بالنفس، وتقفأ العين بالعين، وتقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم، إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس ... "اهـ. قال الشيخ (¬2): "هذا التشريع الثابت بنص القرآن الكريم، والذي أخبرنا الله سبحانه ¬

في هذه الآية أنه ثابت في التوراة -جعله الإفرنج الكفرة الفجرة مما يتندرون به في أقوالهم وكتاباتهم، يسمونه "شريعة الغاب"!! عن كفرهم بالأديان، وإنكارهم للشرائع السماوية، حتى سارت هذه الكلمة المنكرة مثلاً، ثم يقلدهم الملحدون من المنتسبين للإسلام، والجاهلون من المسلمين، لا يدرون أنهم بذلك طعنوا في التشريع الإلهي الثابت في الأديان الثلاثة السماوية!. فليحذر المسلمون مواطن الزلق، وليصونوا ألسنتهم وأقلامهم، أما الملحدون فهم الملحدون". * ... * ... *

2 - الملحدون واعتذار الرسول صلى الله عليه وسلم

2 - الملحدون واعتذار الرسول صلى الله عليه وسلم عن طلحة قال: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم في رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء"؟ قالوا: يلقّحونه، يجعلون الذكر في الأنثى، قال: "ما أظن ذلك يغني شيئاً"، فأخبروا بذلك، فتركوه فأُخْبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن كان ينفعهم فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا أخبرتكم عن الله -عز وجل- بشيء فخذوه، فإني لن أكذب على الله شيئاً". قال الشيخ (¬1): "وهذا الحديث مما طنطن به ملحدوا مصر وصنائع أوربا فيها، من عبيد المستشرقين، وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلاً يحاجّون به أهل السنة وأنصارها وخدام الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام، في المعاملات وشؤون الاجتماع وغيرها، يزعمون أن هذه من شؤون الدنيا، يتمسكون برواية أنس: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"، والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين، ولا يالألوهية، ولا بالرسالة، ولا يصدقون القرآن في قرارة نفوسهم، ومن آمن ¬

منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهراً ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة، ولكن تقليداً وخشية فإذا ما جدّ الجدّ، وتعارضت الشريعة -الكتاب والسنة- مع ما درسوا في مصر أو في أوربا، لم يترددوا في المفاضلة، ولم يحجموا عن الاختيار، فضّلوا ما أخذوه عن سادتهم، واختاروا ما أشربته قلوبهم! ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك، أو ينسبهم الناس إلى الإسلام!!. والحديث واضح صريح، لا يعارض نصاً، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة في كل شأن، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فكل ما جاء عنه فهو شرع وتشريع: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، وإنما كان في قصة تلقيح النخل أن قال لهم: "ما أظن ذلك يغني شيئاً" فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن في ذلك سنة، حتى يتوسع في هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع، بل ظن، ثم اعتذر عن ظنه، قال: "فلا تؤاخذوني بالظن"، فأين هذا مما يرمي إليه أولئك؟ هدانا الله وإياهم سواء السبيل" اهـ.

3 - الحكم بقتل شارب الخمر في الرابعة

3 - الحكم بقتل شارب الخمر في الرابعة 6197 - عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن شربها فاجلدوه، فإن شربها فاجلدوه، فقال في الرابعة أو الخامسة: فاقتلوه". قال الشيخ (¬1): "بقيت كلمة لا نجد بداً من قولها، في هذا العصر الذي استهتر فيه المسلمون بشرب الخمر، من كل طبقات الأمم الإسلامية، من أعلاها ومن أدناها، حتى النساء، يجاهرون بشربها في البيوت والنوادي والمحافل العامة، وحتى الحكومات التي تدّعي أنها إسلامية، تقدمها علانية في الحفلات الرسمية! يزعمون أنها مجاملة لسادتهم الأجانب، الذين يقلدونهم في كل سيئة من المنكرات والذين يستخذون لهم ويُستضعفون! يخشون أن ينتقدهم أولئك السادة ويتندروا بهم! وما كانت الخمر حلالاً في دين من الأديان، على رغم من رغم، وزعم من زعم غير ذلك؛ وأقبح من ذلك وأشد سوءاً: أن يحاول هؤلاء الكذابون المفترون المستهترون، أن يلتمسوا العذر لسادتهم في الإدمان على هذه السموم التي تسمم الأجسام والأخلاق، بأن بلادهم باردة وأعمالهم شاقة، فلا بد لهم من شربها في ¬

بلادهم، وينددون "بالرجعيين الجامدين" أمثالنا، الذين يرفضون أن يجعلوا هذه الأعذار الكاذبة الباردة مما يجوز قبوله، ويزعمون أن "جمودنا" هذا ينفر الأمم الإفرنجية وغيرها من قبول الإسلام؛ كأنهم قبلوا الإسلام في كل شيء إلا شرب الخمر!! ويكادون يصرحون بوجوب إباحتها لأمثال تلك الأمم الفاجرة الداعرة الملحدة الخارجة عن كل دين. ففي حديث ديلم الجيشاني ما يخزي هؤلاء المستهترين الكاذبين. فقد أبدى ديلم هذا العذر نفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن بلادهم باردة شديدة البرد، وأنهم يعالجون بها عملاً شديداً، كأنه يلتمس رخصة بذلك للإذن بشرب الخمر، أو يجد إغضاءاً وتسامحاً فما كان الجواب إلا الجواب الحازم الجازم: المنع والتحريم مطلقاً، فلما كرر السؤال والعذر، ولم يجد إلا جواباً واحداً، ذهب إلى العذر الأخير، إنهم لا يصبرون على شرابهم وأنهم غير تاركيه؟ فكان الجواب القاطع، الذي لا يدع عذراً لمعتذر: "فإن لم يصبروا عنه فاقتلوهم". فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة أتم بلاغ وأعلاه، وأدى الأمانة حق أدائها، ووضع العظة موضعها، ثم وضع السيف موضعه، وبهذا فلاح الأمم، والحمد لله". * ... * ... *

4 - خمارة حقيقية

4 - خمّارة حقيقية (¬1) إن حوادث القاهرة في يوم السبت 26 يناير سنة 1952، لا تكاد تُنسى. فهي أشد ما رأينا من الفظائع والإجرام بما كان فيها من عدوان وبغي، وسرقة وتدمير، دون أن يردع المجرمين رادع. والسلطة القائمة الآن بسبيل وضع اليد على المجرمين اللصوص، وعلى من وراءهم من المحرضين والمدبرين. ونحن على ثقة من وصول يد العدل إلى هؤلاء وأولئك، إن شاء الله. ولكن لنا عبرة في بعض النواحي التي تكشف عنا هذه الأحداث المدمرة فمن مُثُل ذلك أنا كنا نسمع ونحن أطفال صغار، ثم شبان ناشئون، أن يُطلق العامة وأشباههم على "لوكندة شبرد" اسم "خمارة شَبَت". وكنا لا نعرف ما وراء هذا الاسم من حقيقة فظيعة، لم يكن خيالنا ليصور وجودها في بلد "إسلامي" أو هكذا يسمى. حتى جاءت هذه الأحداث الفظيعة، فكشفت لنا بعض هذه الحقائق المنكرة. وما ندري أيهما أشد فظاعة وأنكى؟ أهذه الحوادث أم هذه الحقائق؟!! حتى أعلمتنا هذه الحقائق أن العامة في طفولتنا كانوا: مُلْهمين، وإما عارفين. فقد رأينا في بعض الصحف التي تصف ما لقيت" لوكندة شبرد" من التدمير أن "قبو الفندق كان يحتوي على أكثر من 26 ألف صندوق من ¬

صناديق الويسكي" وقد ضاعت كلها في الحريق. وذلك يعني أن مخزون الويسكي بالفندق زاد على ربع مليون زجاجة. كما يقولون إن نحو مائة ألف زجاجة شمبانيا قد ذهبت هي الأخرى طعمة للنيران. كما دمرت عدة صناديق من الكونياك المعروف باسم كونياك نابليون، وعمر الزجاجة الواحدة منه أكثر من 70 سنة. وكانت إدارة الفندق تحتفظ بهذه الزجاجات ولا تقدمها إلا لنزلائها من الملوك، فإذا صدق ما قيل من أن المواد الكحولية هي التي ألهبت الحريق، وكانت السبب المباشر للتدمير الشامل، فإن ذلك يعني أن حريق شبرد قد غذّته هذه المشروبات الروحية بأكثر من 70.000 سبعين ألف جالون من المواد الكحولية الملتهبة". (عن جريدة الأساس يوم الأربعاء 17 جمادى الأولى سنة 1371هـ 13 فبراير سنة 1952). إذن فلم يكن "شبرد" فندقاً، أو لوكندة كما يسمى: بل كان "خمارة حقيقية" هي أجدر باسم "خمارة شبت"، كما كان يسميها العوام والدهماء. إذن فقد كان وصمة عار في جبين بلد يوصف بأنه "بلد إسلامي"، وفي جبين دولة ينص دستورها على أن "دين الدولة الإسلام". وها نحن أولاء نرى الأخبار تبشِّر البلاد! بأن شركة مصرية قد تتشرف بإعادة هذه "الخمارة" إلى سابق مجدها المخزي المخجل! وما ندري ما حقيقة هذا؟ ولكنا على ثقة بأن سيعود هذا الخزي والفجور سافراً متهتكا، سواء أقامه ناس من الحيوانات الأوربية المنحلة، أم أقامه ناس من

عبيدهم عقلا وروحاً ممن ينتسبون عاراً بحق الوِلاد إلى هذه الأمة الإسلامية المسكينة!. وما كانت "خمارة شبت" وحدها بالعار الذي تخزَى به هذه الأمة المنتسبة إلى الإسلام. ولكن الحوادث أظهرتها مصادفة مثالا بارزا يُتحدّث عنه. وأرى أنه يجب على الأمة الإسلامية عامة، وعلى الأمة المصرية خاصة، أن تحدد موقفها من الدين والخلق، ثم من الدنيا ومتاعها. وأنا أعرف ما سيتحدّث به عبيد أوربا وعبيد المال، من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وممن لا يستطيعون الصبر عن تلمّس المتعة حيث كانت، وممن لا يستطيعون الصبر عن "الفن والجمال"!! وعن الشهوات وعبادة المال. أتريد هذه الأمة أن تعبد الله وحده، وتقف عند حدوده التي أُمر بها كل من انتسب إلى الإسلام، أم نريد أن تعبد المال وحده، فتحرص على وروده من أوربة من أي طريق كان، ولو من طريق التهتك والفجور؟!. على الأمة أن تختار أحد الطريقين: فإما إلى الجنة وإما إلى النار. ولكن، فليعلم المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه" (¬1) ¬

_ (¬1) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد في المسند (رقم16،1) من حديث أبي بكر الصديق.

وليعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الخمر، ولعن شاربها وساقيها وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها" (¬2) فليختر امرؤ لنفسه. ¬

_ (¬2) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد في المسند (5716) من حديث عبد الله بن عمر ورواه أيضاً أبو داود وابن ماجة.

5 - الرد على من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بين أهل الكتاب بشرعهم

5 - الرد على من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بين أهل الكتاب بشرعهم قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهودياً ويهودية، وبصدد الرد على زعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين أهل الكتاب بشرعهم. قال الشيخ (¬1): " ... فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يحكم بينهم بما يحكم به بين المسلمين، بما شرعه الله له وأنزله عليه، كما أمره ربه بذلك، ونهاه ربه أن يتبع أهواءهم، أو يرجع إليهم في شريعتهم، وإنما أرجعهم إلى التوراة في هذه الواقعة ... إقامة للحجة عليهم، وفضيحة لهم في تلاعبهم بدينهم وبكل دين، ونحن إنما أمرنا باتباع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بكتاب مهيمن على ما بين يديه من الكتاب، لا تابعاً لهم، ولا آخذاً منهم شيئاً" إلى أن قال: " ... فمن زعم أنه يجوز للمسلم أن يحكم بين أهل الكتاب بشرعهم، وهم ليس لهم شرع يعرف، بل هي أهواء الفرق والطوائف منهم: فقد خالف أمر الله، ولا يقبل عذره إذا اعتذر، فإن أصر على ذلك خرج من الإسلام يقيناً، ومن حكم بغير ما أنزل الله عامداً عارفاً بذلك فهو ¬

_ (¬1) في تعليقه على "المسند" للإمام أحمد (14/ 180 - 184) عند رقم (7747).

كافر، ومن رضي عن ذلك وأقره فهو كافر؛ سواء أحكم بما يسميه "شريعة أهل الكتاب" أم بما يسمى "تشريعاً وضعياً". فكله كفر وخروج من الملة، أعاذنا الله من ذلك". * ... * ... *

6 - هل إذا أسلم غير المسلم يجبر على الاحتكام إلى غير شريعة الإسلام؟

6 - هل إذا أسلم غير المسلم يُجبر على الاحتكام إلى غير شريعة الإسلام؟ يا حضرات الأخوان (¬1) أصدر مجلس الوزراء أول من أمس (الأربعاء 27 ربيع الأول 1358) مشروعاً بقانون لتنظيم المحاكم الدينية لغير المسلمين قرأتموه كلكم في الصحف. ولا يعنيني أن أنقده الآن، ولكن الذي يعنيني منه في مقامي هذا المادة الثامنة، ونصها "تغيير دين أحد الخصوم أثناء سير الدعوى لا يؤثر في اختصاص المحكمة التي رفع إليها النزاع وفقاً لأحكام هذا القانون". ومعنى هذا بالقول الصريح: أن الرجل إذا دخل دين الإسلام أثناء التقاضي كان للمحكمة الأخرى غير المسلمة أن تحكم بتطليق زوجته منه، حكما تقره الدولة. وهي في عصمته في حكم دين الإسلام الذي تدين به الأمة والدولة. وهي في عصمته في حكم دين الإسلام الذي تدين به الأمة والدولة. وأن المرأة إذا أسلمت أثناء التقاضي حكمت عليها المحكمة غير المسلمة بالدخول في طاعة زوجها الذي أبى الإسلام، ونفذت قوات الدولة الإسلامية هذا الحكم، ومكنت غير المسلم من المرأة المسلمة .. إلى غير ذلك مما يعرض لكم من الحوادث كل يوم. ¬

_ (¬1) كلمة ألقاها حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي في اجتماع الجمعية العمومية لقضاة محكمة مصر الشرعية صباح يوم الجمعة 29 ربيع الأول سنة 1358هـ. [محب الدين الخطيب -مجلة الفتح- العدد رقم 656].

وفي يقيني أن هذه المادة لا أثر لها في أحكام الأديان الأخرى سوى الإسلام، لأن المسلم إذا ارتد عن دينه خرج من بحبحة الإسلام ورخصه، إلى الضيق والحرج. إخواني ... تعرفون ما يتعلل به أنصار هذه المادة، وما يبررون به ضرب الذلة على المسلمين بها، إذ يزعمون أن من يسلم في هذه الحال إنما يسلم فراراً من حكم يصدر عليه أو يخشى صدوره، أو هرباً من زوجة نغصت عليه عيشه، أو نغص عليها عيشها، أو زوجة فارك تبغض زوجها وتريد أن تصل بالإسلام إلى الخروج من عصمته. وأنا أسلم لهم كل هذا ولا أجادل فيه. ولكنهم نسوا أن الإسلام جاء بالرأفة والرخص للناس، وأنه رغبهم في الدخول فيه، بما سن لهم من شرائع تخفف عنهم مما أرهقوا به. يقول الله تعالى في سورة الأعراف: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). وفاتهم أن من تيسير الإسلام أن يقبل التظاهر بالدخول فيه "والله يتولى سرائرهم". وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على من قتل رجلاً في الحرب بعد أن نطق بالشهادتين مستعيذاً من السيف فقال: "هلا شققت عن قلبه؟ ". وأن الإسلام دين عزة وغلبة وقوة، وأنه يحمي من لاذ بحماه أن يعتدي عليه أحد، حتى إن أحقر المسلمين شأناً إذا حمى شخصاً في

الحرب وجب على المسلمين جميعاً حمايته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويسعى بذمتهم أدناهم". وحتى إن والي مصر شكا إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز نقص جباية المال، بكثرة دخول الذميين في الإسلام، فراراً من الجزية، وكأنه يرجو أن يأذن له عمر ببقاء الجزية عليهم، إذا كان يرى أن إسلامهم كان حيلة ألحقت الضرر بخزينة الدولة، فما كان جواب عمر إلا أن قال له: "إن الله بعث محمداً هادياً، ولم يبعثه جابياً". وحتى إن رجلاً شكا إلى الفاروق عمر بن الخطاب أنه أسلم والجزية تؤخذ منه، فقال عمر: لعلك أسلمت متعوذااً؟ فقال: أما في الإسلام ما يعيذني؟ قال: بلى، ثم أمر أن لا تؤخذ منه الجزية. ونسوا من معنى الوطنية، ومن العزة القومية الإسلامية، أن أية أمة من أمم الأرض إنما يحكم فيها بشريعة أكثريتها، وأن الأقليات لا تخرج في التشريع عن حكم الأكثرية أبداً. وإنما كانت هذه الأقليات في بلادنا لها حكم دينها بما أذن الله للمسلمين أن يدعوهم وما يدينون، زيادة في العزة والظفر، لا خنوعاً ولا ذلاً. أفينتهي هذا التشريع الإسلامي العالي إلى أن يجعل في بلادنا سبباً لذلة المسلمين، وامتهاناً لكرامة الإسلام؟! هذا التشريع منحة من شريعة الإسلام لأهل الذمة، فعليهم أن يقبلوه في حدود أحكام الله. وإذا أبوه عادوا إلى التشريع العام: أن يُحكم بينهم بحكم الإسلام، أما أن يجعل التشريع الاستثنائي هو الأصل، ثم تهدم به أحكام الإسلام، فلا يعقل ذلك أحد، ولا يقبله مسلم يعرف دينه ويخاف ربه. إن محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو الأمين المأمون، وهو سيد الأوفياء بالعهود، عاهد

قريشاً يوم الحديبية، أن لا يأتيه أحد من مكة إلا ردّه إليهم، وإن كان مؤمناً، وقد أوفى بعهده، فردّ أبا جندل ابن سهيل وغيره، وفاء بالعهد، ثم جاء نساء مؤمنات مهاجرات من مكة، فأتى أهلهن يسألونه الوفاء بعهده، فمنعه الله من ذلك، وأمره أن لا يرد النساء إليهم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) [الممتحنة: 10]. أفيراد من المسلمين بعد هذا النص القرآني القاطع أن يخرجوا على دينهم، فيسلموا المرأة التي أسلمت إلى الرجل ليس من أهل ملتها؟! اللهم إن هذا لا يرضيك، وإنا نأبى أن نخضع له. أيها الإخوان: قد زعمت فرنسا من عهد قريب أنها مستطيعة أن تعمل في سوريا ما يراد أن يصنع بنا الآن، وكان من حجتها عليهم أن هذا كائن بمصر، وهي زعيمة الدول الإسلامية، فأبى مسلموا الشام الذلة والصغار، ورفضوا أن يحارب دينهم في بلادهم جهاراً، وأنت تعرفون ما كان من شأنهم بعد ذلك. ولم يكن هذا المشروع موجوداً بمصر كما ادعوا، وإنما كانت في وزارة العدل لجنة ليس لها وجود قانوني، تسمي نفسها (لجنة تنازع الاختصاص)، وتعطي نفسها من السلطان ما لم يكن لها، وتفعل مثل هذه الأعمال فيما يعرض عليها من أحكام المحاكم الشرعية، إذا عارضتها أحكام من جهات أخرى. وكانت تصل إلينا فلتات من أخبارها، ولا تصل إليها

أيدينا وأقلامنا. حتى كشف عن غطائها أخونا الأستاذ العلامة الشيخ عباس الجمل، في مجلس الشيوخ في الدورة الماضية. ويراد الآن بالمسلمين أن يعترفوا علناً وقانوناً بمثل هذه الأعمال؛ التي تخالف نصوص القرآن، وبديهيات الإسلام. وأنتم حماة الشرع، أنتم وسائر العلماء، وعليكم جميعاً عبء الدفاع عنه، الذب عن حوضه، فلا تهنوا، ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. أيها الإخوان: إن الواجب على العلماء الآن أن يقولوها كلمة صريحة واضحة خالصة لوجه الله، أن هذه المادة عدوان على الإسلام، وخروج على كتاب الله، وأنها إذا أقرت نهائياً كانت ردة وانفصاماً عن الدين، لا حكم لها غير ذلك. واعلموا أن لا عذر لكم عند الله وعند الناس في السكوت عنها. وأن الله سبحانه قال لخير الناس بعد الأنبياء، وهم أصحاب محمد، في شأن أهون من هذا، وهو النفقة في سبيل الله، ولستم أكرم على الله منهم، قال لهم: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) والسلام عليكم ورحمة الله (¬1). * ... * ... * ¬

_ (¬1) (الفتح) -وقد علمنا أن هذه الكلمة الخالصة لله وحده، لما ألقيت في الاجتماع الرسمي لقضاة محكمة مصر الشرعية، أقرها القضاة جميعاً وعاهدوا الله على ضم أصواتهم بمعناها. ولعل كل من يعلم أن الله عز وجل لا يرضيه غير ذلك يحرض على إبلاغ هذه الحقيقة إلى من بيدهم ردّ الحق إلى نصابه كما فعل المسلمون في الشام فأرضوا الله عز وجل بوقفتهم المشهورة المشكورة. [محب الدين الخطيب].

7 - جزاء الفجور بالمحارم

7 - جزاء الفجور بالمحارم (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً) [النساء: 22]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشيم حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: "مر بي عمي الحارث بن عمير، ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أي عم أين بعثك النبي؟ قال: "بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه". قال الشيخ (¬2): وهذا حكم الله وحكم رسوله فيمن ركب هذه الفاحشة المستبشعة، فانظروا ماذا جنت علينا القوانين الوثنية؟ تزوج رجل امرأة شابة، وكان له ابن شاب لا يخاف الله، ولا يرقب في خُلُق ولا عرض إلا ولا ذمة. فزنا بامرأة أبيه، ثم شعر المجرمان بأن الرجل يكاد يكشف ما ركبا من فجور، فتآمرا وقتلاه، وثبتت هذه الوقائع، وقد استحق هذان الفاجران القتل بجريمة الفجور بين المحارم، واستحقا القتل مرة أخرى بقتل الأب والزوج ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 469). (¬2) عمدة التفاسير (3/ 135).

عمدا. ولكن هذه القوانين أفسدت على الناس عقولهم وفطرتهم الإسلامية، بل فطرتهم الآدمية، فحكمت على هذين الفاسقين القاتلين بالتعزير! ببضع سنين من الأشغال الشاقة! دون نظر إلى الجريمة الخلقية البشعة، ودون نظر إلى القتل العمد، وخاصة قتل الأب الوالد، وكان التعليل لنقل الحد من القتل إلى التعزير أعجب! بتصوير الرجل القتيل المظلوم -المعتدى على دمه وعرضه- بصورة المخطئ المتسبب في هاتين الجريمتين! بزعم أنه رجل كبير السن تزوج امرأة فتية! بما وضعه المبشرون وأتباعهم في نفوس المنتسبين للإسلام، من إنكار زواج الكبير بالصغيرة، قصدا إلى المساس بالمقام الأعلى (¬1). ولا أحب أن أقول أكثر من هذا، ولكني أقول: إنه لا يشك مسلم -عالماً كان أو عامياً- أن هذا لا يصدر عن مسلم، وأن المسلم الذي يقوله أو يرضى به يخرج من الإسلام إلى حمأة الكفر والردة -والعياذ بالله. * ... * ... * ¬

_ (¬1) يقصد الشيخ النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تزوج بعائشة وهي بنت ست سنين، وبنى بها ولها تسع سنوات، والله أعلم.

8 - النساء والجندية.

8 - النساء والجنديّة. (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ...) [النساء: 32] قال الحافظ ابن كثير (¬1): قال الإمام أمحمد حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث فأنزل الله (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ). ورواه الترمذي .... وقال: غريب، ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت يا رسول الله فذكره، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحاكم في مستدركه ... ". قال الشيخ (¬2): " ... وهذا الحديث يرد على الكذابين المفترين -في عصرنا- الذين يحرصون على أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، فيخرجون المرأة عن خِدْرِها، وعن صونها وسترها الذي أمر الله به، فيدخلونها في نظام ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 488). (¬2) عمدة التفاسير (3/ 157).

الجند، عارية الأذرع والأفخاذ، بارزة المقدمة والمؤخرة، متهتكة فاجرة!! يرمون بذلك -في الحقيقة- إلى الترفيه الملعون عن الجنود الشبان، المحرومين من النساء في الجندية، تشبها بفجور اليهود والإفرنج، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. * ... * ... *

9 - الرد على من قال بمساواة المرأة بالرجل

9 - الرد على من قال بمساواة المرأة بالرجل (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء:34] قال الحافظ ابن كثير (¬1): (وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيّما عليها كما قال الله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) الآية. قال الشيخ (¬2): أما النساء في عصرنا، فقد ملأهن الكبر والغرور والطغيان، بما بث أعداؤنا المبشرون والمستعمرون في نفوسهن، بالتعليم المتهتك الفاسق. فزعمن لأنفسهن حق المساواة بالرجال في كل شيء! في ظاهر أمرهن، وهن على الحقيقة مستعليات طاغيات، يردن أن يحكمن الرجال في الدار وخارج الدار، وأن يعتدين على التشريع الإسلامي، حتى فيما كان فيه من ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 492). (¬2) عمدة التفاسير (3/ 164).

النصوص الصريحة من الكتاب والسنة. بل يردن أن يكنّ حاكمات فعلا، يتولين من شئون الرجال ما ليس لهن، وأن يخرجن على ما أمر الله به ورسوله. بل يكفرن بأن الرجال قوامون على النساء، ويكفرن بأنه "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، حتى طمعن في مناصب القضاء وغيرها، وساعدهن الرجال الذين هم أشباه الرجال. ولم يخش هؤلاء ولا أولئك ما وراء ذلك من فساد وانهيار، ثم من سخط الله وشديد عقابه. * ... * ... *

10 - جزاء من يخالف الشرع مع الإقرار بصحته.

10 - جزاء من يُخالف الشرع مع الإقرار بصحته. (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ...) [البقرة:85] قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها؛ ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك، وشهادتهم له بالصحة ... ". قال الشيخ (¬2): ومما يملأ النفس ألما وحزنا: أن صار أكثر الأمم التي تنتسب للإسلام إلى هذا الوصف المكروه، وقعوا في مثل هذا العمل الذي ذمّ الله اليهود من أجله، وجعل جزاء مَن يفعله خزيا في الحياة الدنيا، ورداً في الأخرى إلى ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 122). (¬2) عمدة التفاسير (1/ 175).

أشد العذاب، فنرى أكثر الأمم المنتسبة للإسلام يعتقدون صحة القرآن ويشهدون بذلك ويعرفونه، ويزعمون القيام بأمره -ثم هم يخالفونه في التشريع، في شئونهم المالية والجنائية والخلقية، ولا يستحون أن يعلنوا أن تشريعه وتشريع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته لا يوافق العصر! ويجعلون من حقهم أن يشرعوا ما شاؤا، وافق الكتاب والسنة أم خالفه! ويصطفون قوانين أوروبة الوثنية الملحدة، ويشربونها في قلوبهم، يزعمونها أهدى وأنفع للناس مما أنزل إليهم من ربهم. ولا يتعظون بما أنذرهم به ربهم من المثل بالأمم قبلهم. * ... * ... *

11 - التشبه بأوربة في قوانينهم الكافرة

11 - التشبه بأوربة في قوانينهم الكافرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة:104]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلا ... وقد روي أبو داود ... "من تشبه بقوم فهو منهم" ففيه دلالة على النهي الشديد، والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تُشرع لنا ولا نقرّ عليها. قال الشيخ (¬2): فانظر إلى ما يفعله المسلمون -بل المنتسبون للإسلام- في عصرنا، من التشبه بالكفار في كل شيء، حتى ليريد الوقحاء من الكُتّاب أن يدخلوا شعائرهم أو ما يشبهها في عباداتنا، وحتى ضربوا على أنفسهم الذلة والصغار، باصطناع تشريع أوروبة الوثنية الملحدة في قوانينهم المجرمة الكافرة. أعاذنا الله من الفتن، وأعاد للمسلمين عقولهم ودينهم. ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 149). (¬2) عمدة التفاسير (1/ 204).

12 - جزاء من اتبع أهواء اليهود والنصارى

12 - جزاء من اتبع أهواء اليهود والنصارى (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) [البقرة:120]. قال الشيخ (¬1): عصم الله المسلمين، منذ أن هداهم الله للإسلام إلى قريب من عصرنا هذا -من أن يتبعوا ملة اليهود والنصارى، إلا ما يكون من حوادث فردية، أكثرها من المعاصي العملية. ثم ذل المسلمون لأعدائهم من اليهود والنصارى، فزادوا في التشبه بهم قليلاً قليلاً. ثم وجد من أهل العلم فيهم ومن أهل الرأي -من حاول أن يدافع عن الإسلام أسوأ دفاع، فصاروا يتقربون شيئاً فشيئاً لسادتهم، بتأويل القرآن والسنة، وتحريف معانيهما، ليقاربوا بين شريعتهم المطهرة، وشرائع تلك الأمم الضالة المغضوب عليها ... بل ليقاربوا شريعتنا ونصوصنا الصريحة ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير (1/ 227).

إلى عقائد الملحدين الوثنين من أهل أوروبة وأمريكا، فكان في علمائنا وكتابنا من ينكر الغيب أو أكثره، فيتأولون صفة الملائكة، ووصف الجن، وينكرون المعجزات النبوية عامة -لأنها لم ترد في القرآن، زعموا! ثم يحرّفون المعنى فيما ثبت منهما في القرآن أو السنة المتواترة. ثم كشفوا عن وجوههم فضربوا على المسلمين قوانين أوربة الوثنية المجرمة الملعونة، ثم استباحوا أكثر المحرمات، يصرحون بإباحتها من غير حياء ولا غيرة. ثم صاروا ينبزون الشرائع الإسلامية والأخلاق الكريمة التي هدانا الله إليها ورسوله -بالتقاليد وبالرجعية، لينفروا الناس منها، وقامت في عصرنا هذه الدعوة سافرة وقحة إلى تغيير الشريعة النقية في تعدد الزوجات والطلاق والمواريث. بل إن من يحمل "شهادة العالمية" من الأزهر كتب في الصحف من غير حياء: "إن الإسلام يحرم تعدد الزوجات"! وضعُفَ الأزهر كله عن أن يضرب على يديه، خشية أن يغضب من وراءه ومن ينصره في كفره وافترائه على الله. وحتى إن بعض الصحف القوية الماجنة الداعرة لتدعوا إلى الزنا علناً، دون أن يردعها أحد، بل أن بعضهم ليصرح بمنع العلماء من الكتابة في المسائل "الإجتماعية". والصحف الأخرى لا ترضى أن تنشر لأحد من العلماء دفعا لهذا الكفر البواح، بل إن نسوانا ماجنات فاجرات ينشرن في الصحف الدعوة

السافرة إلى الفجور، بعد انتشار السفور. فلئن لم يدفع المسلمون -أو المنتسبون للإسلام- هذه المنكرات عن دينهم وعن بلادهم، ليسلطن الله عليهم عدوهم، وليستأصلن شأفتهم، وليستبدلن بهم قوما غيرهم، ثم لن يكونوا أمثالهم. * ... * ... *

13 - لعن الله آكل الربا.

13 - لعن الله آكل الربا. (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ...) [البقرة: 275]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه" قالوا: وما يشهد عليه ويكتب: لا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسداً، فالاعتبار بمعناه لا بصورته ... " قال الشيخ (¬2): هذا كان حين كان الحكم في بلاد الإسلام للإسلام، فكان من يريد العصيان والخروج يحتال بمظهر العمل الصحيح. أما الآن، وأكثر البلاد التي تنتسب للإسلام، وتسمي نفسها بلاداً إسلامية، ثم تحكم بتشريع آخر غير دين الإسلام، تشريع مقتبس عن القوانين الوثنية والنصرانية والأمم الملحدة -هؤلاء لا يحتاجون إلى الحيل للظهور بمظهر العمل الصحيح!! بل هم يكتبون العقود ظاهرة صريحة ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 329). (¬2) عمدة التفاسير (2/ 192).

بالربا وبالعقود الباطلة في دين الإسلام، لأنهم اتخذوا دينا غيره، بخضوعهم ورضاهم بتشريع غير شرعته، فالإسلام قول وعمل، وسمع وطاعة، فلن يُقبل من أحد أن يقول كلمة الإسلام ثم يخضع نفسه وأمته لشرعة أعدائه، ويضمر في قلبه أنه بذلك يصنع الصواب، أو يختار ما فيه من المصلحة، أو يلزم ما يناسب عصره! فيهدم بعمله ما يقوله بلسانه (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فإنا لله وإنا إليه راجعون. * ... * ... *

14 - تسمية الربا بالفائدة!

14 - تسمية الربا بالفائدة! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة: 278 - 279]. قال الشيخ (¬1): " ... وها هو ذا القرآن الكريم يحرم الربا كله أشد التحريم، ويفسره التفسير الواضح الذي لا يحتمل تأويلاً: أنه ما زاد على رأس المال، وتؤكده الأحاديث الصحاح في التحريم والتفسير. ويتوعد الله آكلي الربا أشد الوعيد: بالحرب من الله ورسوله، يتوعد آكلي الكثير والقليل، بل يتوعد آكلي (مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ليشمل أقل القليل. وها هي ذي أقوال الصحابة والتابعين، في استتابة المرابين، ثم وجوب قتلهم إن لم يتوبوا عنه -فقها منهم دقيقاً لمعنى الآية في إعلام المرابين بالحرب. ¬

_ (¬1) عمدةالتفاسير (2/ 196).

هذا فيمن يفعل دون مجاهرة باستحلال الربا. أما المستحل ما حرم الله في كتابه وعلى لسان رسوله، المعلوم تحريمه من الدين بالضرورة -فلا يشك مسلم من عامة المسلمين في أنه مرتد خارج من الإسلام، مباح الدم بالردة عن الإسلام، لا بأكل الربا والإصرار عليه فقط. فانظروا -أيها المسلمون إن كنتم مسلمين- إلى بلاد الإسلام في كافة أقطار الأرض إلا قليلا، وقد ضربت عليها القوانين الكافرة الملعونة، المقتبسة من قوانين أوربة الوثنية الملحدة، التي استباحت الربا استباحة صريحة بألفاظها وروحها، والتي يتلاعب فيها واضعوها بالألفاظ، بتسمية "الربا": "فائدة".جتى لقد رأينا ممن ينتسب إلى الإسلام، من رجال هذه القوانين ومن غيرهم ممن لا يفقهون -من يجادل عن هذه الفائدة، ويرمي علماء الإسلام بالجهل والجمود، إن لم يقبلوا هذه المحاولات لإباحة الربا. أيها المسلمون! إن الله لم يتوعد في القرآن بالحرب على معصية من المعاصي غير الربا، فانظروا إلى أنفسكم وأممكم ودينكم. ولن يغلب الله غالب. * ... * ... *

15 - الربا محرم بكافة أنواعه

15 - الربا محرم بكافة أنواعه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ... [آل عمران: 130]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون: "إذا حل أجل الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي" فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخر في القدر، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا ... " قال الشيخ (¬2): والمتلاعبون بالدين من أهل عصرنا، وأولياؤهم من عابدي التشريع الوثني الأجنبي -بل التشريع اليهودي في الربا- يلعبون بالقرآن، ويزعمون أن هذه الآية تدل على أن الربا المحرم هو "الأضعاف المضاعفة"! ليجيزوا ما بقي من أنواع الربا، على ما ترضاه أهواؤهم وأهواء سادتهم، ويتركوا الآية الصريحة: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 405). (¬2) عمدة التفاسير (3/ 38).

تُظْلَمُونَ) انظر ما مضى (¬1) ج2 ص188 - 196. فكانوا في تلاعبهم بتأول هذه الآيات الصريحة أسوأ حالا ممن (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) -"فأولئك الذي سمّي الله فاحذروهم" .. * ... * ... * ¬

_ (¬1) قد ذكرناه هنا ص 52.

16 - ولاية المرأة القضاء

16 - ولاية المرأة القضاء قال الشيخ (*): لا يزال كثير من الناس يذكرون ذلك الجدال الغريب الذي ثار في الصحف، بشأن الخلاف في جواز ولاية المرأة القضاء!! والذي أثار هذا الجدال هو وزارة العدل، إذ تقدم إليها بعض (البنات) اللائي أعطين شهادة الحقوق، ورأين أنهن بذلك صرن أهلا لأن يكنّ في مناصب النيابة، تمهيداً لوصولهن إلى ولاية القضاء! فرأت الوزارة أن لا تستبد بالفصل في هذه الطلبات وحدها، دون أن تستفتي العلماء الرسميين. وذهب العلماء الرسميون يتبارون في الإفتاء، ويحكون في ذلك أقوال الفقهاء. فمن ذاكرٍ مذهب أبي حنيفة في إجازة ولايتها القضاء في الأموال فقط، ومن ذاكرٍ المذهب المنسوب لابن جرير الطبري، في إجازة ولايتها القضاء بإطلاق، ومن ذاكرٍ المذهب الحق الذي لا يجيز ولايتها القضاء قط، وأن قضاءها باطل مطلقاً، في الأموال وغير الأموال. ومن أعجب المضحكات في هذا الجدال الغريب: أن تقوم امرأة فتكتب رداً على من استدل من العلماء بالحديث الصحيح الثابت: "لن

_ (*) كلمة الحق (ص49) ط مكتبة السنة.

يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (¬1) "، فتكون طريفة كل الطرافة، وتدل على أنها تكتب بعقل المرأة حقاً، فتستدل على بطلان هذا الحديث، بأنه لا يعقل أن يقوله رسول الله الذي يقول: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء"!! وهي لا تعرف هذا الحديث ولا ذاك الحديث، ولا تعرف أين يوجدان أو يوجد أحدهما، من كتب السنة أو كتب الشريعة أو غيرها، لأن كتابتها تدل على أنها مثقفة ثقافة إفرنجية خالصة! ليس لها من الثقافة العربية أو الإسلامية نصيب!. ووجه العجب المضحك في استدلالها هذا الطريف: أن الحديث الذي استدلت به حديث لا أصل له أبداً، أي هو حديث مكذوب لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولست أزعم أنها هي التي اخترعته، فإني لا أظنها تصل إلى هذه الدرجة. ولكنه حديث ذُكر في بعض المصنفات القديمة، ونص حفاظ الحديث ونقدته العارفون العالمون على أنه حديث منكر، لم يجد له العلماء الحفاظ إسناداً قط، بل قال ابن القيم الإمام: "كل حديث فيه يا حميراء، أو ذكر الحميراء، فهو كذب مختلق" (¬2). فاعجبوا -في بلد العجائب- أن تقوم امرأة لا تعرف من الشريعة شيئاً، إلا أن يكون ما يعرفه العوام، على شك في هذا أيضاً-: فترد على العلماء الرسميين، وتجزم بتكذيب حديث صحيح ثابت، استناداً إلى حديث مختلق مكذوب!! وليتها -مع هذا كله- تعرف الفرق بين ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الصحيح (97:8و46:13من فتح الباري) ورواه أيضاً الترمذي والنسائي. (¬2) بل قد صح فيه أكثر من حديث فيه ذكر الحميراء.

الشهادة والرواية عند علماء الأصول، وبين الولاية والشهادة، حتى تستطيع أن تحكم هذا الحكم الطريف. ولو عرفت لعلمت أن الشريعة فرقت بين رواية المرأة العلم، إذا كانت مسلمة عارفة بدينها متمسكة به محافظة عليه، مستوفية شروط العدالة الشرعية، وأنها في هذه الحال تُقبل روايتها العلم، تُصدّق فيما روت. وأنها إذا استوفت هذه الشروط كلها كانت شهادتها في الأموال مقبولة، على أن تكون نصف شهادة فقط، أي تقبل شهادتها مع امرأة أخرى مثلها، وتكونان معاً في مقام شاهد واحد من الرجال، بشرط أن يكمّل نصاب الشهادة بشهادة رجل آخر، بنص القرآن الكريم: (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) (¬1). إنها لو علمت ذلك لفهمت أن الحديث المكذوب الذي تستدل به لو كان صحيحاً لما كان منافياً للحديث الصحيح في منع ولاية المرأة، كما هو بديهي! ثم ندع هذا الاستطراد، ونعود إلى أصل الموضوع: سألت وزارة العدل العلماء فأجابوا. ولست أدري لم أجابوا؟ وكيف رضوا أن يجيبوا في مسألة فرعية، مبنية على أصلين خطيرين من أصول الإسلام، هدمهما أهل هذا العصر أو كادوا؟!. ولو كنت ممن يسأل في مثل هذا، لأوضحت الأصول، ثم بنَيْتُ عليها ¬

_ (¬1) الآية (282) من سورة البقرة.

الجواب عن الفرع أو الفروع. فإن ولاية المرأة القضاء، في بلدنا هذا، في عصرنا هذا -يجب أن يسبقها بيان حكم الله في أمرين بنيت عليهما بداهة: أولاً: أيجوز في شرع الله أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربة الوثنية الملحدة، بل بتشريع لا يبالى واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها؟ إن المسلمين لم يُبْلَوا بهذا قط، فيما نعلم من تاريخهم، إلا في عهد من أسوأ عهود الظلم والظلام، في عهد التتار، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته، وزال أثر ما صنعوا من سوء، بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلموه، ولم يعلموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره. ولذلك لا نجد له في التاريخ الإسلامي -فيما أعلم أنا- أثراً مفصلاً واضحاً، إلا إشارة عالية محكمة دقيقة، من العلامة الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 (¬1). والحافظ ابن كثير من أجلّ تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ومن ¬

_ (¬1) وقد ذكر الحافظ ابن كثير أيضاً بعض أشياء عن هذا، في تاريخه الكبير (البداية والنهاية ج13 ص117 - 121). وكذلك ذكر المقريزي بعض ذلك في الخطط (ج3 ص357 - 360 من طبعة مطبعة النيل بمصر سنة 1325).

أعظمهم. وقد ذكر ذلك في تفسيره (ج3 ص174 من طبعة المنار) عند تفسير قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (¬1) وأرى أن أذكر هنا الآيتين اللتين قبل هذه الآية، وهي كلها متصلة في السياق: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ!) (¬2). فقال الحافظ ابن كثير: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية، ¬

_ (¬1) الآية (50) من سورة المائدة. (¬2) سورة المائدة، الآيات، (50:48).

المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه. فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحِكّم سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟) أي يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون؟ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ!) أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها. فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء". أرأيتم هذا الوصف القوي من ابن كثير في القرن الثامن؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر في القرن الرابع عشر؟ إلا في فرق واحد، أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام، أتى عليها الزمن سريعاً، فاندمجت في الأمة الإسلامية، وزال أثر ما صنعت؟. ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً منهم، لأن الأمة كلها الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بالياسق الذي اصطنعه جنكيز خان، يتعلمها أبناؤها، ويفخرون بذلك آباء وأبناء، ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا "الياسق العصري" ويشجبون من عارضهم في ذلك، حتى لقد أدخلوا أيديهم في التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى

"ياسقهم الجديد" بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخُدع تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطان في الدولة تارات. ويصرحون -ولا يستحيون أنهم يعملون على فصل الدولة عن الدين!! وأنتم ترون ذلك وتعلمون. أفيجوز مع هذا لمسلم أن يعتنق هذا الدين الجديد؟ أعني التشريع الجديد! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به، ذكراً كان الابن أو أنثى، عالماً كان الأب أو جاهلاً؟!. هذه أسئلة في صميم الموضوع وأصله، يجب الجواب عنها إثباتاً أو نفياً أولاً، حتى إذا ما تحقق الجواب بالأدلة الشرعية الصحيحة، التي لا يستطيع مسلم أن يخالفها أو ينفيها أو يخرج عليها، استتبع ذلك -بالضرورة- سؤالاً محدوداً واضحاً: أيجوز حينئذ لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا "الياسق العصري" وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينة؟!! ما أظن أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصيلاً، ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله على رسوله كتاباً محكماً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال -ما أظنه يستطيع إلا أن يفتي فتوى صريحة بأن ولاية الرجال القضاء في هذا الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة!!. ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة هذا القضاء من تلقاء نفسه.

وثانياً: أيجوز في شرع الله أن تذهب الفتيات في فورة الشباب إلى المدارس والجامعات، لتدرس القانون أو غيره، سواء مما يجوز تعلمه ومما لا يجوز؟! وأن يختلط الفتيان والفتيات هذا الاختلاط المعيب، الذي نراه ونسمع أخباره ونعرف أحواله. أيجوز في شرع الله هذا السفور الفاجر الداعر، الذي تأباه الفطرة السليمة والخلق القويم، والذي ترفضه الأديان كافة، على الرغم مما يظن الأغرار وعباد الشهوات؟!. يجب أن يجيب عن هذا أولا، ثم نبحث بعد فيما وراءه. ثم يسقط السؤال عن ولاية المرأة القضاء من تلقاء نفسه. ألا فلْيجِب العلماء وليقولوا ما يعرفون، وليبلغوا ما أُمروا بتبليغه، غير متوانين ولا مقصرين. سيقول عني عبيد "النسوان" الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا: أني جامد، وأني رجعي، وما إلى ذلك من الأقاويل، ألا فليقولوا ما شاؤوا، فما عبأت يوماً ما بما يقال عني، ولكني قلت ما يجب أن أقول. * ... * ... *

يظهر أنني سأضطر لإثارة هذا الموضوع مراراً، بما يثيره أنصار (النسوان) وأتباعهن في مصر وغيرها، وبما (جعلن) من هذا الموضوع مادة لمهاجمة الإسلام في صورة الدفاع عنه، وبتحريف معنى (الإسلام) وحقيقته، عن عمد أو عن جهل عجيب!. وأعتقد أن إثارته من قبل المرأة وأنصارها فيه خير كثير، لأنه فرصة جيدة لوضع الحقائق مواضعها، وإيضاحها وضوحاً لا يدع شكاً لمستريب. وأنا أحب أن أواجه المسائل بالصراحة، دون التواء ولا مداراة، مهما يكن فيها من دقة علمية، ومهما يكن من ورائها من تبعات قد يرى الناس أن الدوران حولها أولى. وأحب المثابرة والثبات على الدعوة الحقة، إلى آخر الشوط، فإما انتصرت وإما انهزمت فلا أثر لهذا عندي ما قلت (كلمة الحق). والذي حفزني إلى معالجة الموضوع مرة أخرى، أن إحدى المجلات الأسبوعية التي تدعو إلى السفور، وتنشر ألواناً مما ينكره الإسلام من شؤون هاته (النسوة)، وهي مجلة "أخبار اليوم" -نشرت في عددها الصادر يوم السبت (23 محرم سنة 1370هـ ... 4 نوفمبر سنة 1950) كلمة لمكتبها في الإسكندرية، عن قضية إحدى البنات طالبات مناصب القضاء، قدمتها إلى محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة. وهذا نص ما

جاء في المجلة: "هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ " "وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية؟ " "دخلت قضية مساواة المرأة بالرجل، في دور حاسم، بعد أن لجأت الأستاذة أمينة مصطفى خليل المحامية إلى محكمة القضاء الإداري، تشكو وزير العدل، لامتناعه عن تعيينها وكيلة نيابة أو محامية، في قلم قضايا الحكومة. "وقد قال محاميها في عريضة دعواها المقدمة إلى رئيس مجلس الدولة: إن المدعية بعد أن نالت إجازة الحقوق عام 1948 بدرجة جيد، ومارست المحاماة بنجاح وتوفيق، طلبت في 5 أبريل سنة 1950 تعيينها محامية، فجاءها الرد في 19 أبريل بأن طلبها أحيل إلى النيابة الحسبية. فبعثت في 17 يوليو بمذكرة إلى وزير العدل أوضحت فيها حقها الطبيعي في هذا التعيين، طالبة إلى النائب العام تعيينها في وظيفة "معاونة نيابة". "ولكن وزير العدل رأى أن يصبغ المسألة بالصبغة الدينية فاستفتى رجال الدين فيها. فجاءت الفتوى مضطربة في التدليل، حائرة بين آراء متباينة منسوبة إلى أئمة المذاهب، ثم انتهت إلى أن تولية المرأة غير صحيحة. "وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين تستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين في كثير أو قليل. فكان حقا عليها -حتى لا تتخلف عن السير في ركب الحضارة -أن تسائل

نفسها: هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقاً وصدقاً؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي، تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ فإذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة، أو ليست المرأة تزاول مهنة المحاماة طبقا للقوانين التي وضعتها وزارة العدل؟ وما هي الفوارق بين المحاماة في صفوف الدفاع عن الأفراد، والمحاماة في صفوف الدفاع عن الحكومة. "ثم طلبت المدعية تحديد جلسة يحكم فيها بإلغاء القرار الخاص برفض طلب تعيينها معاونة للنيابة، أو محامية في إدارة قضايا الحكومة". وجاء في جريدة المصري الصادرة صباح يوم الثلاثاء 18 صفر سنة 1370 (28 نوفمبر سنة 1950) ما نصه: "حقوق المرأة أمام القضاء" "تُنظر أمام محكمة القضاء الإداري غدا القضية التي رفعتها الأستاذة عائشة راتب على مجلس الدولة من أجل الاعتراف بمبدأ قبول خريجات كلية الحقوق من الفتيات في وظائفه. "وقد سبق أن أشارت الصحف إلى دعوة الأستاذة عائشة راتب إلى العمل بمجلس الدولة ونجاحها في الامتحان الذي فرض عليها، وموافقة جميع المستشارين على قبولها فيه، ثم رفض طلبها بدون إبداء أي تبرير قانوني. وقد قابلت الآنسة عائشة وسألتها عن أملها في كسب هذه

القضية الهامة؟ فقالت: إنها تعتقد أن هذه القضية ليست قضية شخصية تتعلق بمصالحها الخاصة، وإنما هي قضية إنسانية عامة، متعلقة بحقوق المرأة المصرية العادلة المهضومة، وعبرت الآنسة عائشة عن آمال جميع خريجات كلية الحقوق اللاتي يناضلن منذ وقت طويل من أجل قبولهن في مناصب الحكومة التي ما زالت مغلقة أمامهن، في مجلس الدولة وإدارة قضايا الحكومة والقضاء والسلك السياسي". وأنا لم أقرأ صحيفة الدعوى التي تقدمت بها المدعية، ولكن إذا صدق الملخص الذي نقلته عنها مجلة "أخبار اليوم" استطعنا أن نحدد الاتجاه الذي تتجه إليه المدعية ومحاميها في توجيه دعواها. وهو اتجاه طيب جداً!! وقد تعجبون أن أقول هذا، ولكني أقوله وأقصد إلى معناه وأصر عليه! لأنه اتجاه يكشف عما يراد بالإسلام، مصارحة، دون مواربة أو نفاق!. فقد يذكر كثير من القراء، وخصوصاً أترابنا أندادنا في السن، الذين أدركوا بدء الحركة الملعونة: حركة السفور، أو حركة تحرير المرأة. وما أحاطها بها دُعاتها، وفي مقدمتهم قاسم أمين، والذين كانوا من ورائه، واللائي كن من ورائه يدفعونه ويدفعنه إلى تقحّم المهالك، ويتساقطون ويتساقطن فوقه في الهوة كالذباب، أحاطها هؤلاء ومن تبعهم ومن جاء من بعدهم بسياج قوي براق، من المداورة والنفاق، يزعمون أنهم لا يريدون الخروج على الإسلام، وأنهم إنما يبغون تفسيره بما لم يعلمه من قبلهم من العلماء الجهلاء، والأئمة الجامدين!! وأنهم إنما يريدون له النقاء

والصفاء، وإزالة ما غشّى وجهه من أكدار تراكمت عليه بمر العصور، وتعريضه للضوء والنور: نور أوربة، حتى يُعجب الخواجات! زعموا أنهم لا يرمون إلا إلى السفور: سفور الوجه فقط، لا سفور الصدور، ولا سفور النهود والظهور، ولا سفور شيء مما وراء ذلك، مما يراه الناس عياناً في كل حفل وناد، بل يرون بعضه أو كثيراً منه في المدارس والمعاهد، بل يرون شيئاً منه في المساجد والمعابد. ثم جاءت هذه البُنَيَّة المدعية، فكشفت الستار كله عن مقاصد هؤلاء الدعاة، الذين كانوا يجمجون ولا يكادون يصرحون بالأصل الذي إليه يقصدون، وإن كانوا ليفعلون ويفعل من وراءهم، من المبشرين وأتباع المبشرين وأبناء المبشرين. ومن وراء أولئك المستعمرون المستترون والظاهرون: الذين يريدون استعباد المسلمين الأعزة، وهم يعلمون أنهم لا يصلون إلى ذلك إلا أن يقلبوهم أذلة بانتزاع هذا الإسلام، الذي أعزهم الله به من قلوبهم حتى يصيروا أذلة. والذين مهما ينسوا فلا ينسوا ثأر "لويس التاسع" الذي أسره المسلمون في مدينة "المنصورة"، وحبسوه في "دار لقمان"، ولا ينسوا ثأر هزائمهم المتوالية في الحروب الصليبية في مصر والشام، وطردهم من "بيت المقدس"، إلى آخر ما يعرف الناس عامة إجمالاً أو تفصيلاً. هذه المدعية صرحت بما يريدون، بأوضح عبارة تكشف عن مقاصدهم وأقساها، ووضعت الأمر كله بين يدي هيئة قضائية من أكبر هيئاتهم، إن لم تكن أكبرها وأعلاها فقد كانوا من قبل يعملون على هينة وفي لين، وإذا تحدثوا عن ذلك تحدثوا بحكمة وتحوط حتى لا يثور عليهم

المسلمون غيرة على دينهم! فإذا ما تحدث منهم متحدث، ألان القول ومهّد له، حتى لا يكاد القارئ المتوسط يشعر بما وراء ذلك من خطر على الدين وتدمير. ولا أكاد أذكر قولاً صريحاً لواحد منهم، إلا كلمة رقيقة لينة، تنساب على الهوينى انسياب الأفعى، لرجل من كبار رجالهم ممن له مظهر إسلامي، أو ممن كان له مظهر إسلامي على الصحيح، قال في كلمة نشرت في صحيفة إسلامية!! واسعة الانتشار، في أواسط سنة 1368 هـ (أوائل سنة 1949م) قال فيها مما قال: "ولا يخفى أننا في مصر نجري -في حكمة واعتدال!! على فصل الدين عن أمور الحكم وخلافات السياسة"!!. ولست أدعي أن هذه الكلمة هي أصرح ما قالوا من هذا اللون من القول، ولا أنهم لم يقولوا مثلها مراراَ، فإن مقدرتي على الاطلاع وعلى القراءة محدودة. ولكني أستطيع أن أجزم بأني لم أقرأ، أو على الأقل لا أذكر أني قرأت مثلها في التصريح بما ينوون ويعتزمون. وإن كنت واثقاً منذ عقلت الدين، وفقهت الأوضاع السارية في بلدنا، أن هذا هو المرمى والمآل من قبل أن نولد، بل من قبل أن يولد آباؤنا. ثم جاءت هذه الدعوى، تضع الأمر كله على المنصة بين يدي القضاء، تعرض الموضوع من أوله: "هل تقوم في مصر حكومة دينية؟ وهل الحكومة القائمة تطبق المبادئ الشرعية حقاً وصدقاً؟ أو هل يعيش المصريون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف؟ ".

وهذه أسئلة في الصميم، لا تستطيع المدعية ولا محاميها، بل لا يستطيع من هو أكبر منهما وأعلم، من رجال القانون وغيرهم، أن يجيبوا إلا بالسلب. بل أنا لا أستطيع أن أجيب إلا بالسلب! فليس في مصر حكومة دينية، والحكومة القائمة -أعني نظم الدولة- لا تطبق المبادئ الشرعية حقاً وصدقاً، بل لا تطبقها كذباً وزوراً! بل أقول أكثر من هذا: إن النص في الدستور على أن دين الدولة الإسلام لا يمثّل حقيقة واقعة، إنما هو خيال ووهم، كبعض ما اقتبسنا من سخافات أوربة في الخيال والتمثيل. والمصريون لا يعيشون في مجتمع شرعي تطبق فيه أحكام الدين الحنيف. ذلك بأن المبشرين والمستعمرين وأتباعهم وأنصارهم ربّوا فينا أجيالاً متتابعة، يُنزع الدين منها تدريجاً، وتُقلب حقائقه في النفوس والعقول وعلى مبادئ الثورة الفرنسية وغيرها من مبادئ الهدم والإلحاد، حتى لقد وضعوا على ألسنة العلماء أنفسهم أنهم "رجال الدين"، يضاهئون بذلك "رجال الدين" هناك، ليمكن يوماً ما أن يقال ما قالته هذه المدعية: "فإذا كانت الإجابة على هذه الأسئلة بالسلب، حق على وزارة العدل أن تتورع عن الزج بالدين في الأمور الاجتماعية البحتة"!! وليمكنها أن تقول أيضاً: "وقد أخطأت وزارة العدل السبيل حين توجهت إلى رجال الدين تستفتيهم في مسألة اجتماعية لا تتعلق بالدين في كثير أو قليل"!! بل ليمكنها أن تدعي أن مثل هذا يكون سبباً لأن "تتخلف عن السير في ركب الحضارة"!!. فالمدعية ومحاميها، وأمثالهما، وكبراؤهم وزعماؤهم، يرون ما تراه

أوربة، أو ترون ما فهموا أنه رأي أوربة، بل يغلون في ذلك أكثر من غلو سادتهم، فيزعمون أن دخول الدين في الحكم وفي المسائل الاجتماعية تخلف عن ركب الحضارة!! فيجهلون بديهيات الإسلام ومزايا دينهم القويم، ويرون أنهم إذا تمسكوا به وخضعوا لأحكامه تخلفوا عن ركب الحضارة! فلا يكون هناك خمر ولا رقص، ولا سفور ولا فجور، ولا اختلاط الشبان والشابات في المدارس والجامعات، والقهاوي والندوات، والصيد والقنص، والخلوات في الصحاري والسيارات! فإذا فقدوا هذا وأمثاله، فماذا بقى لهم من مقومات الحضارة؟!. وأعجب من ذلك وأغرب: أن المدعية بلسان محاميها، تسُبّ دينها هذا السب المقذع، ثم تصفه بأنه "الحنيف"! ولم تكن بها حاجة إلى هذا التكلف والتناقض، وكان أقرب إلى منطق كلامها أن تصفه بوصف يناسب ديناً يتخلف المستمسك به عن ركب الحضارة!!. ثم كان من المغالطات الكبرى أنهم -بما أُودع في نفوسهم من معارف ملتوية، وبما أشْرِبَتْه قلوبهم من فقه لدين أوربة ووثنيتها وثورتها، بل وحضارتها-: أنهم فهموا الإسلام على غير وجهه، وظنّوه دين عقيدة وعبادة فقط، بل ليتهم أخذوا به على المعنى الذي فهموا، وإن كان خطأ أو نقصاً، إذن لسار بهم الدين "الإسلامي الحنيف" في سبيل الحق والهدى، حتى يعرفهم بما استمسكوا به من عقيدة وعبادة -لو كانتا- بأنه ليس كما رأوا عند أوربة ودرسوا، ولعرّفهم أنه "دين ودولة، وحكم وسياسة، وقضاء وولاية". وإذن لعرفوا معنى ما نقلناه عن الحافظ ابن كثير في

الكلمة الماضية، أن من قدم أي قانون أو أي رأي على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله "فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير" (¬1). وهذا شيء بديهي معلوم من دين الإسلام بالضرورة، لا يعذر بجهله أحد، أياً كانت منزلته من العلم أو الجهل، ومن الرقي أو الانحطاط. وليس هذا الخطأ من المدعية أو محاميها، وممن وراءهما من رجال ونساء، قاصراً على بلادنا. أنه ليكاد يكون عاماً في أكثر المتعلمين المثقفين في بلاد الإسلام، خصوصاً البلاد التي خضعت لسيطرة المستعمرين يدفعهم المبشرون، وعامة في البلاد التي سايرت "رَكْب الحضارة المتعصبة ضد الإسلام. فتجد في بعض ما يقول الكبراء التناقض العجيب المدهش، كمثل ما نقلت إحدى الصحف الأسبوعية في عددها الصادر يوم الجمعة 7 صفر سنة 1370هـ (17 نوفمبر سنة 1950م) عن ضيف كبير من ضيوف مصر، هو "سعادة السيد تمييز خان رئيس الجمعية التأسيسية بالباكستان" نقلت عنه تلك المجلة أنه قال: "إن الباكستان دولة إسلامية، ولكنها ليست دولة دينية، لأن الدولة التي تقوم على تعاليم الدين الإسلامي غير الدولة التي يتولى الحكم فيها رجال الدين"!! فهذا رجل عظيم، من أمة إسلامية عظيمة، أعرف أنا أنها تحرص على أن يكون تشريعها من دينها الحنيف، دين الإسلام، سواء أصابت في ¬

_ (¬1) مجلة الهدي النبوي (العدد 3 من السنة 15 شهر صفر سنة 1370 ص13).

التطبيق أم أخطأت، فكل إنسان عرضة للخطأ. وهذا الرجل العظيم لم يسبق لي التعرف إليه حتى أحكم في شأنه حكماً صحيحاً، ولكني أظن أنه أعلم بدينه وبقوانين أوربا من المدعية وأمثالها وها هو ذا يخطئ في مثل هذه الدقائق -إذا صح ما نقلته عنه المجلة فيعقد فرقاً بين "الدولة الإسلامية" و"الدولة الدينية" وهو فرق باطل، كأنه فرق اصطلاحي فقط. فإن كل مسلم يعرف أن "الإسلام دين"، بل يعتقد المسلمون بنص ما أنزل الله عليهم في كتابه أن الدين عند الله الإسلام. ويظن سعادته -تقليداً لاصطلاح إفرنجي- أن في الإسلام شيئاً يسمى "رجال الدين"!! ولطالما حاولت نقض هذه الأسطورة، أسطورة وجود شيء في الإسلام يُدعى "رجال الدين"!! من ذلك ما قلته في محاضرة أعددتها لألقيها يوم 6 ربيع الأول سنة 1360هـ (3 أبريل سنة 1941م) ومنعني من إلقائها الوزير القائم على الأحكام العرفية الإنجليزية إذ ذاك، وهو حسين سرّى باشا رئيس الوزراء. وكان مما قلت فيها عن آثار القوانين الإفرنجية في نفوس متعلميها: "كان لها أثر بين بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين، أو جعلتهم معسكرين: فالذين عُلِّموا تعليماً مدنياً، وربوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها ولما وضعت من نظم ومبادئ وقواعد، يرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصاً محكماً قطعياً في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من

الدين بالضرورة. ويزدري الفريقَ الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسماً اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسموهم (رجال الدين). وليس في الإسلام شيء يسمى (رجال الدين). بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا". (¬1) ولقد أخطأ هذا الرجل الكبير "رئيس الجمعية التأسيسية بالباكستان" خطأ آخر -إن صدق ما نقلته عنه تلك المجلة أخطأ في ظنه أن الدولة الدينية هي التي يتولى الحكم فيها رجال الدين!! فما أظن أن أحداً يقصد إلى هذا أو يرمي إليه، حتى ممن يسمونهم غلطاً (رجال الدين). لأن غاية كل مسلم يفقه الإسلام ويعرف حدوده وحقائقه، أن يحكم المسلمون بتشريعهم، بل أن يجاهدوا في سبيل الله حتى يحكموا به العالم كله إذا استطاعوا. وأن يعملوا على نشره في الأمم الإسلامية أولاً على حقيقته النّيرة النقية، وأن يتعلمه الذين يملكون السيطرة على شؤون الدولة في بلاد الإسلام، والذين يلُون فيهم الأحكام. فإذا ما كان ذلك كانوا أيضا (رجال الدين) أياً كان لونهم من أنواع العلوم الأخر، حتى هذه القوانين الآثمة التي ضُربت على المسلمين لإذلالهم ومحو دينهم في عقر دارهم فإن المعرفة بها إذ ذاك لا تضر. بل لعلها قد تنفع في الموازنة بين التشريع المبني على الوحي ¬

_ (¬1) هذه المحاضرة الممنوعة نشرناها في مجلة الهدى النبوي (في العدد 6 من المجلد: 5) ثم نشرتها مع بحث آخر في كتاب (الشرع واللغة) المطبوع بدار المعارف بمصر، والفقرة التي هنا في (ص71) منه. (ثم أعادت طباعة الكتاب في صورته الأخيرة: دار الكتب السلفية بالقاهرة -في سنة 1406هـ).

الصحيح الصادق من عند الله، وبين الأهواء والأكاذيب، بل السخافات (في بعض الأحيان) التي تبنى عليها القوانين الوثنية الملحدة!! ولقد صدق الله: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) (¬1). وقد أوضحت هذا المعنى وما إليه، بأقوى ما أستطيع من بيان، في تلك المحاضرة المصادرة إذ ذاك. وكانت للدعوة إلى أن (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر) وهذا هو عنوانها وموضوعها الذي أُعدّت من أجله. فقلت فيها: "وأريد أولاً أن أقول كلمة ترفع شبهة عن دعوتنا. فإني عُرِفْتُ بين إخواني ومعارفي بالدفاع عن العلماء عامة، وعن القضاء الشرعي خاصة، فقد يبدو لبعض الناس أن يؤوّل دعوتي إلى نحو من هذا المقصد. "كلا، فإن الأمر أخطر من ذلك، ومقصدنا أسمى من أن نجعله تنازعاً بين طائفتين، أو تناحرا بين فريقين. إنما نريد رفع ما ضُرب على المسلمين من ذل، ما لقيت شريعتهم من إهانة بوضع هذه القوانين الأجنبية. "إنما ندعوكم بدعوة الله، ندعو الأمة أن تعود إلى حظيرة الإسلام، ندعو إلى وحدة القضاء، وإلى التشريع بما حكم الله: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬2) (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ¬

_ (¬1) الآية 49 من سورة المائدة. (¬2) الآية 51 من سورة النور.

وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (¬1). "ضعوا القوانين على الأساس الإسلامي، الكتاب والسنة، ثم افعلوا ما شئتم، فليحكم بها فلان أو فلان. لسنا نريد إلا وجه الله" (¬2) هذا ما قلته ولا أزال أقوله، وأعتقد أن كل داع إلى العمل بالشريعة الإسلامية يقوله. وأظن أنه يرفع كل شبهة عن دعوتنا الحقة الصادقة المخلصة، ولا يدع مجالاً لمن يعادي التشريع الإسلامي، ممن أُشربوا عقائد الإفرنج، أن يظنوا حالنا كحال أوربة قبل موجة الإلحاد، التي قامت هناك لتدمير سلطان "رجال الدين" عندهم وطغيانه. ثم لا يدع محالاً لأن يقول ما قالته المدعية وما قاله أمثالها من قبل، من الفرق في الإسلام بين شؤون الاجتماع وشؤون الحكم وشؤون المعاملة وغيرها وبين الدين. فكل ما يفعل الناس وما يرون وما يعتقدون، وما يأخذون وما يدعون، داخل في حكم الإسلام وخاضع لسلطانه، رضي هؤلاء وسادتهم من المستعمرين والمبشرين أم أبوا، فالإسلام واضح بيّن لكل من أراد الهدى، وهو كما قلت في تلك المحاضرة "لا يرضى من متّبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبى من الرضى ببعض أحكامه فقد أباه كله (¬3) ". ولذلك صارحت الأمة كلها حينذاك، ورجال القانون خاصة، ¬

_ (¬1) الآية 36 من سورة الأحزاب. (¬2) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين - ص34. (¬3) ص66 من كتاب (الشرع واللغة).

بالدعوة إلى وضع تشريع جديد على مبادئ الكتاب والسنة وفي حدود قواعدهما، متعاونين متساندين جميعاً. وصارحت رجال القانون بأننا سنعمل بالطريق السلمي للوصول إلى الحكم دونهم إذا أبوا أن يصغوا لهذه الدعوة الحقة لإعادة سلطان الإسلام في بلاد المسلمين، وبأني سأدعو العلماء عامة، من رجال الأزهر، ورجال مدرسة القضاء، ورجال دار العلوم "وسيستجيبون لي، وسيحملون عبء هذا العمل العظيم، سيرفعون راية القرآن بأيديهم القوية، التي حملت مصباح العلم في أقطار الإسلام ألف عام"، وبينت لهم السبيل الذي نسلكه، أنه "السبيل الدستوري السلمي: أن نبثّ في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة. ولئن فشلنا مرة فسنفوز مراراً. بل سنجعل من إخفاقنا، إن أخفقنا في أول أمرنا، مقدمة لنجاحنا، بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مُبصرا لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصا لله وفي سبيل الله" (¬1). وهأنذا قد صارحتهم بذلك منذ عشر سنين أو نحوها، وما أظنهم صارحونا بقريب مما فعلنا، فيما أعلم، إلا النفاق والمداورة، ومدح الإسلام والتظاهر بالدفاع عنه والغيرة عليه، مع تنحية أحكامه عن كل شيء في الدولة، أو تغيير أحكامه بالتأويل الكاذب، والفهم الباطل، ليقربوه من أوربة التي هم لها خاضعون، حتى يكون "إسلاماً إفرنجياً"!!. ¬

_ (¬1) ص91 - 92 من كتاب (الشرع واللغة).

حتى جاءت هذه المدعية فكشفت عن الأمر كله، لتقرر علناً وصراحة أن هذا البلد ليس بلداً إسلامياً، وأنه لا يجوز أن ينظر فيه إلى "المسائل الاجتماعية" زعمت!! نظرة إسلامية. وعن ذلك أعجبتني دعواها هذه الواضحة الصريحة، حتى يعرف المسلمون ماذا يراد بدينهم، من غير أقلامنا، ومن غير أشخاصنا. وأما شأن المدعية نفسها، فيما تطلب من المحكمة أن تحكم لها به، فلا أعبأ به، ولا يهمني في قليل ولا كثير، ولا من قريب ولا من بعيد، أن يحكم لها بما طلبت، فتدخل في مناصب القضاء، أو ترفض دعواها! لأني قلت من قبل إن ولاية الرجال أنفسهم هذا القضاء "باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة (¬1) " فلا يزيده بطلاناً -في نظري- أن تتولاه امرأة، أو يتولاه شخص ما، أيا كان لونه أو صفته، فالأمر عندي فيه سواء. أما بعد: فإنه أثناء كتابة هذه الكلمة، نظرت المحكمة هذه القضية بجلسة يوم الأربعاء 19 صفر سنة 1370هـ (29 نوفمبر سنة 1950م) برئاسة المستشار "سعادة السيد علي بك" ولخصت جريدة المصري في اليوم التالي (الخميس 20 صفر) بعض ما دار في الجلسة فذكرت أنه حضر فيها "سيزا نبراوي وكلية الاتحاد النسائي، وأعلنت انضمام الاتحاد للمدعية طرفاً ثالثاً في القضية، ووقف محامي الحكومة وطلب برفض انضمام الاتحاد، لأنه ليست له مصلحة مباشرة في هذا، ورد رئيس الجلسة بأنه ¬

_ (¬1) (كلمة الحق) رقم 2 ص15 من عدد شهر صفر سنة 1370 من مجلة (الهدى النبوي).

يعتقد أن الاتحاد يرى أن هذه القضية هي قضية الجنس، وأن الحكم فيها يتعلق بمستقبل المرأة المصرية عامة"، ثم ذكرت الجريدة أن القضية أُجلت لجلسة 31 يناير سنة 1951 للمرافعة. وليس لنا أن نتحدث في قبول ما يُدْعى "الاتحاد النسائي" خصماً ثالثاً في الدعوى أو عدم قبوله، فهذا شيء من اختصاص المحكمة وحدها، تفصل فيه بما ترى، بعد سماع المرافعة من طالب الدخول ومن المعارض فيه، ولكنا نتحدث عما يدل عليه طلب الدخول في ذاته، وأنه يؤيد كل حرف قلناه من قبل، ويكشف عما يراد بالتشريع الإسلامي كشفاً واضحاً. وإذا كان لي أن أقترح، فإني أقترح على حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وهو مَن نعرفه علماً وديناً وتقوى وغيرة على الإسلام بشخصه أولاً، وبوصفه شيخاً للأزهر ثانياً، وبوصفه رئيساً لأكبر هيئة علمية إسلامية رسمية، وهي "جماعة كبار العلماء" ثالثاً، أن يرسل محامياً يتدخّل في هذه القضية بلسان فضيلته ولسان الأزهر، خصماً ثالثاً أيضاً. لأنه يرى -فيما نعتقد جميعاً - أن هذه القضية هي قضية الإسلام وشرعته، قبل أن تكون "قضية الجنس". وليدفع عن الإسلام ما يريده به هؤلاء النسوة، اللائي لا يعرفن من الإسلام إلا ما أخذته عن (الخواجات وأمثال الخواجات)، واللائي يُرِدن الانطلاق، لا يردن غيره، وليدفع عن الإسلام ما قد يقوله أنصار (النسوان) من نقد أو تأويل بالباطل أو افتراء.

ولست أدري أيلقى اقتراحي هذا قبولاً أم إعراضاً، ولكنني إذا لم أجد لاقتراحي صدى، فسأُفكر في التدخل في القضية بنفسي، خصماً ثالثاً، بوصفي من العلماء القدماء، بالسن على الأقل، وبوصفي مجاهداً طوال حياتي ضد الحركة النسوية خاصة، وضد مهاجمي الإسلام والمتلاعبين به عامة، وإن كان هذا التدخل فوق مقدوري علمياً ومالياً، ولكني سأحاول ما استطعت، إن شاء الله. * ... * ... *

17 - الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

17 - الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر (*) أيها السادة! تشرفت اليوم بالمثول بين أيديكم لأتحدث إليكم في موضوع من أشد المواضيع خطورة في حياتنا الماضية والمستقبلة، والكتاب -كما يقولون -يُعرف من عنوانه. وعنوان كلمتي محدود مُحرر، صريح بيّن (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر). نعم، ومصر بلد إسلامي، وهي تقعد الآن بين الأمم مقعد الصدارة في ممالك الإسلام، وإلى ما تصنع ينظر المسلمون في أنحاء الأرض، وبها يقتدون، فيهتدون أو يضلون، ومعاذ الله أن تضل مصر بعد أن ملكت أمرها، استقلت بشؤونها، فتحمل إثم العالم الإسلامي كله، ورسول الله يقول: "من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". أيها السادة! إن الله أرسل محمداً هادياً وبشيراً ونذيراً، وحاكما بين الناس بما أنزله

_ (*) نُشرت هذه المحاضرة في كتاب مستقل يحمل نفس العنوان في مكتبة السنة بالقاهرة عام 1408هـ. وكانت قد نشرت من قبل باسم الشرع واللغة في طبعتها الأولى -الناشر.

عليه أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ودعا الناس إلى طاعته في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، عباداتهم ومعاملتهم. وأنزل عليه شريعة كاملة، لم تَسْمُ إليها شريعة من الشرائع قبلها، ولن يأتي أحد من بعده بخير منها ولا بمثلها. ذلك بأن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وذلك بأن محمداً خاتم النبيين. شرع الله هذه الشريعة الكاملة للناس كافة، وفي كل زمان ومكان، بعموم بعثة الرسول الأمين، وبختم النبوة والرسالة به. فكانت الباقية على الدهر، ونسخت جميع الشرائع. ولم تكن خاصة بأمة دون أمة، ولا بعصر دون عصر. ولذلك كانت العبادات مفصلة بجزئياتها، لأن العبادة لا تتغير باختلاف الدهور والعصور. وكان ما سواها من شؤون الفرد والمجتمع، في المعاملات المدنية، والمسائل السياسية، ونظام الحكومات، والقواعد القضائية، والعقوبات، وما إلى ذلك، قواعد كلية سامية، لم ينص على تفاصيل الفروع فيها، إلا على القليل النادر، في الأمر الخطير، مما لا يتأثر باختلاف الزمان والمكان. فقام سلفنا الصالح، المسلمون الأولون، بإبلاغ هذه الشريعة والعمل بها، في أنفسهم وفيما دخل من البلدان في سلطانهم، فنفذوا أحكامها على الناس كافة، وفي جميع الأحوال، واجتهدوا في تطبيق قواعدها على الوقائع والحوادث، واستنبطوا منها الفروع الدقيقة، والقواعد الأصولية والفقهية، بما آتاهم الله من بسطة في العلم، وإخلاص في الدين، حتى تركوا لنا ثروة تشريعية، لا نجد لها مثيلاً في شرائع الأمم، وحتى كان من

بعدهم عالة عليهم. ولم يكن الفقهاء والحكام والقضاة في العصور الأولى مقلدين ولا جامدين، بل كانوا سادة مجتهدين. ثم فشا التقليد بين أكثر العلماء، إلا أفراداً كانوا مصابيح الهدى في كل جيل. ومع ذلك فقد كان المقلدون من العلماء يحسنون التطبيق والاستنباط في تقليدهم. وكان الملوك والأمراء والقواد والزعماء علماء بدينهم متمسكين به، إلى أن جاء عصر ضعف المسلمين، بضعف العلماء واستبداد الأمراء الجاهلين. فتتايع (¬1) الناس في التقليد، واشتد تعصبهم لأقوال الفقهاء المتأخرين، في فروع ليست منصوصة في الكتاب والسنة، ولعل كثيرا منها مما استنبطه العلماء بني على عرف معين، أو لظروف يجب على العالم مراعاتها عند الاجتهاد، بل لعل بعضها مما أخطأ فيه قائله، بأنه ليس بمعصوم. وكثر الحرج واشتد الضيق، إلى أن جاء الجيل الذي سبق جيلنا، والأمر ظلمات بعضها فوق بعض، والعلماء -أو أكثرهم- يزدادون جموداً وعصبية، والزمن يجري إلى تطور سريع، يقعد بهم تقليدهم عن مسايرته، فضلا عن سبقه. حتى لقد عرض بعض الأمراء في الجيل الماضي على العلماء أن يضعوا للناس قانوناً شرعياً، يقتبسونه من المذاهب الأربعة، حرصاً على ما ألفوا من التقليد، وهو طلب متواضع، قد يكون علاجاً وقتياً، فأبوا واستنكروا، فأعرض عنهم. ثم دخلت علينا في بلادنا هذه القوانين الإفرنجية المترجمة، نقلت نقلا ¬

_ (¬1) بالياء التحتية، وهو التتابع في الشر فقط.

حرفيا عن أمم لا صلة لنا بها، من دين أو عادة أو عرف، فدخلت لتشوه عقائدنا وتمسخ من عاداتنا، وتلبسنا قشوراً زائفة تسمى المدنية!!. ثم جاءت النهضة العلمية الإسلامية الحاضرة، وقد نفخ في روحها رجال كانوا نبراس عصرهم، وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا. ووضع أصولها عمليا، وأرسى قواعدها، ووثق بنيانها: والدي محمد شاكر، رضي الله عنهم جميعاً. فاستيقظت العقول، وثارت النفوس على التقليد، ونبغ في العلماء من يذهب إلى وجوب الاجتهاد، وقد يكون اجتهاداً مبتسراً، وقد يكون اجتهاداً فيه خطأ كثير، ولكنه خير من الجمود، وأجدى إن شاء الله على الأمة والدين. أيها السادة! إننا جميعاً مسلمون، نحرص على ديننا، ونزعم أننا لا نبغي به بدلاً، ولكننا نخطئ فهم الدين، ونظن أنه لا يتجاوز ما يقام فينا من شعائر العبادة، وما يهتف به الوعاظ والخطباء من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ويخيل إلى كثير منا أنه لا شأن للدين بالمعاملات المدنية، والحقوق الاجتماعية، والعقوبات والتعزير، ولا صلة له بشؤون الحرب، ولا بالسياسة الداخلية والخارجية. كلا، إن الإسلام ليس على ما يظنون. الإسلام دين وسياسة، وتشريع وحكم وسلطان. وهو لا يرضى من متبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبى من الرضا ببعض أحكامه فقد أباه كله. اسمعوا كلام الله ثم اختاروا لأنفسكم ما تريدون.

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (¬1). (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ، وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬2). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية (36). (¬2) سورة النور: الآيات (47 - 51).

وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (¬1). أيها السادة! هذه آيات الله وأوامره، قد سمعتموها كثيراً، وقرأتموها كثيراً. ولست الآن بصدد تفسيرها أو شرحها، فهي آيات محكمة صريحة بينة، فيها عبرة لكم وعظة لو تأملتموها، وفكرتم في حالكم من طاعتها أو عصيانها، وفيما يجب عليكم حيالها، وأنتم تحكمون بقوانين لا تمت إلى الإسلام بصلة، بل هي تنافيه في كثير من أحكامها وتناقضه، بل لا أكون مغاليا إذا صرحت أنها إلى النصرانية الحاضرة أقرب منها إلى الإسلام، ذلك أنها ترجمت ونقلت كما هي عن قوانين وثنية، عُدّلت ثم وضعت لأمم تنتسب إلى المسيحية، فكانت، وإن لم توضع عندهم وضعاً دينياُ، أقرب إلى عقائدهم وعاداتهم وعرفهم، وأبعد عنا في كل هذا. وقد ضربت علينا هذه القوانين في عصر كان كله ظلمات، وكانت الأمة لا تملك لنفسها شيئاً، وكان علماؤها مستضعفين جامدين. هذه القوانين كادت تصبغ النفوس كلها بصبغة غير إسلامية، وقد دخلت قواعدها على النفوس فأُشربتها، حتى كادت تفتنها عن دينها، وصارت القواعد الإسلامية في كثير من الأمور منكرة مستنكرة، وحتى ¬

_ (¬1) سورة النساء الآيات (59 - 65).

صار الداعي إلى وضع التشريع على الأساس الإسلامي يجبن ويضعف، أو يخجل فينكمش، مما يلاقي من هزء وسخرية!! ذلك أنه يدعوهم -في نظرهم- إلى الرجوع القهقري ثلاثة عشر قرناً، إلى تشريع يزعمون أنه وضع لأمة بادية جاهلة!! لا تظنوا -أيها السادة- أني أذهب فيما أصف مذهب الغلو أو الإسراف في القول، فإني جعلت هذه الدعوة هجيراي وديدني، وجادلت وحاججت، ورأيت وسمعت. ولو شئت أن أسمي لسميت لكم أسماء ممن نجل ونحترم، ونعرف لهم فضلا وذكاء وعلماً. ألا تعجبون إن ذكرتكم بأن مصر كلها فرحت حين أمكن مندوبيها في مؤتمر من مؤتمرات أوربة، منذ بضع سنين، أن يقنعوا المؤتمرين ليصدروا قراراً بأن (الشريعة الإسلامية تصلح أن تكون مصدراً من مصادر القوانين) وظنت أنها أوتيت فتحاً مبيناً! نعم هو فتح مبين هناك، ولكنه في بلادنا ضعف وهوان، لأن شريعتنا يجب أن تكون وحدها هي مصدر القوانين في البلاد الإسلامية. إني أرى أن هذه القوانين الأجنبية إليها يرجع أكثر ما نشكو من علل، في أخلاقنا، في معاملتنا، في ديننا، في ثقافتنا، في رجولتنا، إلى غير ذلك. وسأقص عليكم بعض المثل من آثارها مما أرى: كان لها أثر بيّن بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين، أو جعلتهم معسكرين: فالذين علموا تعليما مدنياً، وربوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها ولما وضعت من نظم ومبادئ

وقواعد، ويرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم. وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصاً محكما قطعيا في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة. ويزدري الفريق الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسما اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسموهم (رجال الدين) وليس في الإسلام شيء يسمى (رجال الدين) بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا. ثم عزلوهم عن كل أعمال الحياة وأعمال الدولة، واحتكروا لأنفسهم مناصبها، زعماً منهم أن (رجال الدين) لا يصلحون لشيء من أعمال الدنيا، أيا كان مبلغهم من العلم والثقافة والمعرفة، وحصروا الألوف من العلماء المثقفين فيما سموه المناصب الدينية، حتى لا متنفس لهم، فإن ضجوا أو تذمروا حجوهم بأنهم رجال الدين، زعموهم رهباناً، ولا رهبانية في الإسلام. وابتدعوا شيئاً لم يستطيعوا إلى الآن أن يحدوه حداً علمياً صحيحاً، فسموه (الأحوال الشخصية) وقصروا عليها القضاء الإسلامي، وسموه القضاء الشرعي. ثم وضعوه في الدولة غير موضعه، وذهبوا ينتقصون من أطرافه، ويحدون من سلطانه، وظنوا أن لفظة (الشرع) قاصرة على الأمور الداخلة في اختصاص المحاكم الشرعية، وأن ما عداها خارج عن الشرع، ثم ذهب بهم الوهم إلى أن هذه الكلمة تطلق على هذا النوع المعين من الاختصاص، سواء أكان للشريعة الإسلامية أم لغيرها! حتى لقد رأيت في بعض التعبير الرسمي كلمة "شرعاً" في أمور خاصة بالمجالس المِلّيّة، مع أن

البديهي الذي لا ينبغي لمسلم أن يجهله: أن "الشرع" في ألفاظ المسلمين وعرف بلاد الإسلام لا يكون إلا الشرع الإسلامي. وما ضربت هذا المثل إلا لأريكم أثر التشبع بهذه القوانين في النفوس والعقول. أيها السادة! إن القوانين إذا حكمت بها أمة السنين الطوال تغلغلت في القلوب، ونكتت فيها آثاراً سوداء أو بيضاء، وصبغت بها الروح، ومرنت عليها النفس. وهذه القوانين الأجنبية أثرت أسوأ الأثر في نفوس الأمة، وصبغتها صبغة إلحادية مادية بحتة، كالتي ترتكس فيها أوربة، ونزعت من القلوب خشية الله والخوف منه. وكان التشريع الإسلامي يدخل القلوب ويرققها ويطهرها من الدنايا. فكان المسلم إذا حكم الحاكم أو قضى القاضي، علم أن دينه يأمره في دخيلة نفسه أن يسمع ويطيع، وأنه مسؤول عن ذلك بين يدي الله يوم القيامة، قبل أن يكون مسؤولا عند الناس. وعلم أنه إن عصى ما قضى به قاضيه، كان عاصيا لربه، حتى لو أيقن أن القاضي مخطئ في قضائه، وكان المقضي له مأموراً من قبل دينه أن لا يأخذ ما قضي له به إن كان يعلم أنه غير حقه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار". هذه تربية الشريعة للأمة. فانظروا تربية القوانين المادية الأجنبية، لم

يحترمها المسلمون في عقيدتهم ودينهم، وإنما رهبوها وخافوا آثارها الظاهرة، ولم يعتقدوا وجوب طاعتها في أنفسهم، فكان ما نرى من اللدد في الخصومة، والإسراف في التقاضي، واتباع المطامع، والتغالي في إطالة الإجراءات، والتفصي بالحيل القضائية عن تنفيذ الأحكام، وعم هذا كله دور القضاء، شرعية وغيرها. ذلك أن الناس مردت نفوسهم على الباطل، وفقدوا قلوبهم، فاتبعوا شهواتهم وأسلسوا لشيطان المادة مقادهم. وكان ما نرى من إباحية سافرة فاجرة، عصفت بالأخلاق السامية، والتقاليد النبيلة، حتى كادت توردنا موارد الهلكة. أيها السادة! إن قسم المتعلمين في الأمة إلى فريقين أو معسكرين مكن لأقواهما من أن يستأثر بالتشريع والإفتاء، فيحدوا بالأمة ويعدل بها عن سواء الصراط. ذلك أنهم أفهموا وعلموا أن مسائل التشريع ليست من الدين، وظنوا أن الدين الإسلامي كغيره من الأديان، وأن تعرض العلماء والفقهاء لهذه المسائل تعرض لما لا يعنيهم، وعصبية للاحتفاظ بسلطانهم، شبهوهم بالقسس في أوربة، وغلبت عليهم مبادئ الثورة الفرنسية في محاربة الكنيسة، فاندفعوا في عصبيتهم ضد شريعتهم ودينهم، وأبوا أن يسمعوا قولاً لقائل، أو نصحاً لناصح. وذهبوا يضعون القوانين للمسلمين، على غرار القوانين التي وضعت لغيرهم، بأنها توافق مبادئ التشريع الحديث!! وابتلي فريق منا بهذا التشريع الحديث، فذهبوا يلعبون بدينهم، فيما

عرفوا وما لم يعرفوا، فأحلوا وحرموا، وأنكروا وأقروا، واضطربوا وترددوا، وكثير منهم يؤمن بالإسلام، ويحرص على التمسك به، ولكنه أخطأ الطريق، بما أُشرب في قلبه من مبادئ التشريع الحديث. واندفع العامة والدهماء وراءهم، يقلدون سادتهم وكبراءهم، ويتبعون خطواتهم. ومرج أمر الناس واضطربوا، حتى إنهم ليحاولون علاج أمراضهم النفسية والاجتماعية بمبادئ التشريع الحديث. وبين أيديهم كتاب الله: (مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (¬1) و (هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (¬2) ولكن قومنا اكتفوا من القرآن بالتغني به في المآتم والمواسم، وتركوا تدبر معانيه واتباع هديه، واتخذوا هذا القرآن مهجوراً! ثم قد أجرمت هذه القوانين في حق الأمة والدين أكبر الجرائم، فبثت في كثير من الناس روح الإلحاد والتمرد على الدين، أو حمتها وساعدت على بقائها ونمائها. وحمت التبشير وما وراءه من منكرات ومفاسد، بما تدعيه من حرية الأديان، ولم يوجد دين يحمي حرية الأديان كما حماها الإسلام، ولم توجد أمة وسعت مخالفيها وأفسحت لهم صدروها كما فعل المسلمون. ولكن الإسلام دين ودولة معا، فهو لا يأبى على اللاجئين إليه أن يحتفظوا بعقائدهم، بل هو يحميهم من العدوان. فإن كانوا معاهدين أو محالفين وفى لهم بعهدهم، وإن كانوا رعية له كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. ولكنه يأبى كل الإباء أن يكونوا ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية (57). (¬2) سورة فصلت الآية (44).

دولة في الدولة، يعبثون كما يشاؤون، ويفتنون الناس عن دينهم، ويدعون أن لهم حقوقاً خاصة ليست لعامة الأمة، وأن لهم أن يتقاضوا إلى قضاء غير قضائه، أو يتحاكموا إلى شريعة غير شريعته. كلا، ما كان الإسلام ليرضى بشيء من هذا، لأنه لم يأت للمسلمين بالذل والهوان، وإنما جاءهم بالعز والمنعة، وأمرهم ألا يرضوا إلا أن تكون كلمة الله هي العليا. فمن دخل في الدين قبله، ومن خرج منه قتله، لأن الردة عن الإسلام شر أنواع الخيانة العظمى. الإسلام لا يرضى أن يكون في بلاده حكم غير حكمه، ولا يعرف امتيازاً لآجنبي على رعيته، ولا لذي دين غيره في دولته، بل من شاء من غير أهله أن يكون في بلاده، منحه حمايته، ولم يعرض لعقيدته، على أن يكون خاضعاً لحكمه وقانونه في كل أمره. أيها السادة! كان من أثر مبادئ التشريع الحديث أن تعجز الأمة عن تربية ناشئتها على قواعد الإسلام، وأن تحاول جعل تعليم الدين إجباريا في مدارسها فلا تصل إليه، وأن توجد في البلد مدارس تربي أبناء المسلمين وتعلمهم غير دينهم، وغير لغتهم، فتسلخهم من الأمة، ثم يكونون حرباً عليها في عقائدها وآدابها. وأن يكون ذلك عن رضى المستضعفين من آبائهم؛ وأن يأبى مديرو هذه المدارس أن يسمعوا لأمر وزارة المعارف، إذ أمرتهم بتعليم الإسلام لأبناء المسلمين، بما يشعرون في أنفسهم من كبر وغرور، وبما

يتوهمون فينا من ضعف ولين، وبما يظنون من حمايتهم بمبادئ التشريع الحديث. إن فرنسة، هي حامية النصرانية في الشرق، وداعية الإلحاد في الغرب، والتي قامت ثورتها الكبرى على عداء الدين، حين رأى رجلها العظيم، المارشال بيتان، عواقب ما جنى الانحلال على أمته، لم يتردد في جعل تعليم الدين إجبارياً في كل المدارس، ولم يفكر في مبادئ التشريع الحديث. وكان من أثر التربية المدنية المادية، والغلو في تقليد أوربة وترسم خطاها، أن ظن ضعاف الإيمان أن التعليم الجامعي لا يكون صحيحاً إلا بمحاربة الدين، أو بالانسلاخ من الدين. فذهب الذين تولوا كبره منهم يذيعون هذا النغم، ويضربون على هذا الوتر، يستهوون العقول الناشئة، ويستميلون القلوب الغضة. يريدون أن يخدعوا الشباب، والشباب سياج الأمة والدين. هذا أقرب مثل لما أقول: نشرت جريدة البلاغ قريباً (9 مارس سنة 1941م) أن اللجنة التي ألفت في وزارة المعارف للعمل على ضم دار العلوم إلى الجامعة، لا تزال أمامها مسائل تحتاج إلى البحث والتمحيص، قبل استقرار الرأي، وأن منها "مسألة الثقافة الإسلامية، وهل تجتمع مواد الدراسة في الدار على إحياء هذه الثقافة والتخصص فيها من جميع وجوهها؟ أم تفتح في المناهج ثغرة للمباحث الحرة، إلى أن تتخلص دار العلوم من لونها القديم، وتصبح جامعية في مناهجها وفكرتها"؟!

هذا نص ما قالت البلاغ، وهي صحيفة إسلامية، وصاحبها رجل مسلم عاقل، أثق به وأحترمه، وأعرف أنه لا ينشر في صحيفته مثل هذا الهذيان، إلا أن يكون صادراً ممن نسب إليه، وإلا أن يعجب الناس منه!! فانظروا واعتبروا، دار العلوم الأزهرية الإسلامية، التي ازدهرت فيها علوم اللغة والدين، والتي أخرجت للبلد رجالا من أساطين العلم وحماة الإسلام، أمثال عبد العزيز شاويش، وحسن منصور، والسكندري، ومحمد زيد، وأحمد إبراهيم، وعبد الوهاب النجار، هذه الدار يراد بها أن تخرج على دينها وعلى علمها، لتتخلص من لونها القديم، من الثقافة الإسلامية، زعموا، لتبحث المباحث الحرة، وتصبح جامعية في مناهجها وتفكيرها!! وكل هذا من جناية ما يسمونه التفكير العصري في حماية التشريع الحديث. أيها السادة! إن هذه القوانين الآجنبية كادت تقضي على ما بقي في أمتكم من دين وخلق، فأبيحت الأعراض، وسفكت الدماء. لم تنه فاسقاً، ولم تزجر مجرماً، حتى اكتظت السجون، وصارت مدارس لإخراج زعماء المجرمين. ونزعت من الناس الغيرة والرجولة، وامتلأ البلد بالمراقص والمواخير، وشاع الاختلاط بين الرجال والنساء، حتى لا مزدجر. وصرتم ترون ما ترون، وتقرؤون ما تقرؤون، في الصحف والمجلات والكتب، بما يسرت من سبل الشهوات، وبما حمت من الإباحية السافرة المستهترة، وبما نزعت من القلوب الإيمان، حتى صار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً.

ومن عجب أن القائمين منا على مبادئ التشريع الحديث، والذابين عنها، لا تكاد تجد لهم اجتهاداً مستقلاً، أو رأياً خاصاً، إلا في القليل النادر. إنما همهم الاحتجاج بآراء الأوربيين، من مختلف الشعوب والأمم، صغرت أو كبرت، جلت أو حقرت، ثم يلمؤون ماضغيهم بها فخراً!! فكأننا أبينا أن نقلد أئمة المسلمين، لنتخذ من دونهم أئمة آخرين!! أيها السادة! إن أكبر الكبائر في الإسلام ترك الصلاة عمداً، ثم قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وقد جعل الله لكم في القصاص حياة، وكتب علينا كما كتب على من قبلنا أن النفس بالنفس. ولم يرد في الكتاب ولا في السنة شرط لوجوب القصاص إلا أن يكون القتل عمداً، ولم يأذن الله بالعفو عن القصاص لأحد إلا لولي الدم وحده، لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، لا من المجتهدين ولا من المقلدين. ومع ذلك فإن هذه القوانين، التي تحكمون بها، شرطت في القصاص شرطاً لم يشرطه الله، ولم يقل به أحد من المسلمين، ولا موضع له في النظر السليم، فأباحت به الدم الحلال، وكان له أثر كبير فيما نرى من كثرة جرائم القتل. ذلك أن المادة (230 من قانون العقوبات) شرطت في عقاب القاتل بالإعدام العمد "مع سبق الإصرار والترصد" وأكدت ذلك المادة (234) فنصت على أن "من قتل نفساً عمداً من غير سبق إصرار ولا ترصد يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة".

نحن أمة إسلامية، تجري في أعراقنا الدماء العربية الوثابة، لا ننام على وتر، ولا نسكت عن ثأر، وقد كان من أثر هذا الشرط الباطل، شرط سبق الإصرار، أن أهدرت دماء حرام، لم يأذن الله بإهدارها، بل أوجب القصاص فيها، وأن كثرت جرائم القتل، وتحامى الناس الإرشاد عن أدلتها، وخاصة في مصر الوسطى والعليا، بلاد الصعيد. فإن كثيراً من أولياء الدم يخشون أن تطل دماء قتلاهم، وأن لا ينالوا ثأرهم الذي جعله الله لهم (وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ) (¬1) فهم يحاولون أن يطمسوا آثار الجريمة، وأن يحموا المجرم وهم يعرفون جرمه، فلا تناله يد القانون الظالم في شرعهم، لينالوه بأيديهم. ثم تتسلسل الجرائم هكذا دواليك. وكثيراً ما يخطئون تقدير أدلة الإجرام، وهم عامة أو أشباه عامة، فينالون غير قاتلهم، بما جنى عليه وعليهم هذا القانون. ولو أننا حكمنا شريعتنا، وأطعنا ربنا، وأعطينا الدماء حقها وحرمتها، فوضعنا القصاص موضعه، وتركنا في جريمة القتل العمد الشروط التي ليست في كتاب الله، وما يسمى الظروف المخففة، وتركنا هذه الإجراءات المطولة المعقدة، وأسرعنا في إقامة العدل، وأظهرنا منه موضع العبرة والموعظة، لو فعلنا هذا لنقصت جرائم القتل نقصاً بيناً، لما يعلم القاتل أن يد الشرع لا تفلته. وهذه جرائم السرقة، ليست بي حاجة أن أفصل لكم ما جنت كثرتها على الأمة وعلى الأمن، وها أنتم أولاء تسمعون حوادثها وفظائعها، ¬

(¬1) سورة الإسراء 33.

وتقرؤون من أخبارها في كل يوم، وترون السجون قد ملئت بأكابر المجرمين العائدين، وبتلاميذهم المبتدئين الناشئين، ثم كلما زادوهم سجناً زادوا طغياناً. ولو أنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، وحدوا السارق بما حكم الله به عليه، لكنتم تتشوفون إلى أن تسمعوا خبراً واحداً عن سرقة، ثم لو وقع كان فاكهة يتندر الناس بها، ذلك أن عقوبة الله حاسمة، لا يحاول اللص معها أن يختبر ذكاءه وفنه. نعم، أنا أعرف أن كثيراً منا يرون أن قطع يد السارق لا يناسب مبادئ التشريع الحديث! ولكن المسلم الصادق الإيمان لا يستطيع إلا أن يقول: ألا سحقاً لهذا التشريع الحديث!. أفندع الألوف من المجرمين، يروعون الآمنين، لا يرهبون قويا، ولا يرحمون ضعيفاً، في سبيل حماية يد أو يدين تقطعان في كل عام، وقد يكون ذلك في كل بضعة أعوام؟! وأنتم ترون أنه قد تزهق عشرات من النفوس لاختلاف على مبدأ سياسي، أو لمظاهرة قد لا تضر ولا تنفع، بحجة المحافظة على الأمن والنظام. لا تظنوا أنكم ستقطعون من السارقين بقدر ما تسجنون. فهاكم الأمن في الحجاز وبادية العرب، وقد كان مجرموهم قساة لا يحصيهم العد، وعجزت الحكومات السابقة عن تأديبهم بمثل قوانينكم، فما هو إلا أن جاءت الدولة الحاضرة، واتبعت شرع الله وأقامت حدوده، حتى استتب الأمن، ثم لا تكاد تجد سارقاً هناك، إلا أن يكون من الغرباء في موسم الحج.

إن بعض النظريات الحديثة ترفه عن المجرم حتى يظن أنه موضع إكرام بما جنى، وتدعي أن القصد من العقاب التربية والتأديب فقط، وأنه لا يجوز أن يقصد به إلى الانتقام، وتزعم أن الواجب درس نفسية الجاني، فتلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة، وظروف الجريمة، ومن نشأته وتربيته، ومن صحته ومرضه، وما يعتمل في جوانحه من عواطف وشهوات، وما يحيط به من مغريات أو موبقات، إلى آخر ما هنالك، مما لعلكم أعلم به مني. ونسي قائلوها أن يدرسوا المجني عليه هذا الدرس الطريف، ليروا أي ذنب اجترح، حتى يكون مهددا في سربه، معتدى عليه في مأمنه، من حيث لا يشعر. ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية: أمن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيته وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً، لا ينزع إلى الشر، فكان مجنيا عليه، أمن كان على الضد من ذلك فكان جانياً؟ إن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم ما يصلح الفرد وما يصلح الأمة، وقد شرع الحدود في القرآن زجراَ ونكالاً، بكلام عربي واضح لا يحتمل التأويل. أفيعتقد المخدوعون منا بمثل هذه النظريات أن السنيور لمبروزو أعلم بدخائل نفس الجاني من خالقه؟ أم هم يشكون في أن هذا القرآن من عند الله؟ أيها السادة! إن المدنية الأوربية قد أفلست، بما بنيت عليه من عبادة المادة، بعد أن جنت على بلاد المسلمين ما جنت. وإن العالم يغلي ويفور، وإنه ليستقبل أحداثاً كباراً، وانقلابات هائلة في مصائر الأمم. وكما عرفنا بعد الحرب الماضية

كيف نسترد استقلالنا السياسي أو أكثره، فسنعرف الآن كيف نسترد استقلالنا التشريعي والعقلي كله، وسنعيد للإسلام مجده، إن شاء الله. لست رجلا خياليا، ولست داعياً إلى ثورة جامحة على القوانين، وأنا أعتقد أن ضرر العنف الآن أكثر من نفعه. إنما قمت فيكم أدعوكم إلى العمل الهادئ المنتج، بسنة التدرج الطبيعي، حتى نصل إلى ما نريد، من جعل قوانيننا من شريعتنا، وأنا أعرف أن هذا لا يوصل إليه في يوم ولا يومين، ولا في عام ولا عامين. وأريد أولا أن أقول كلمة ترفع شبهة عن دعوتنا، فإني عرفت بين إخواني ومعارفي بالدفاع عن العلماء عامة، وعن القضاء الشرعي خاصة، فقد يبدو لبعض الناس أن يؤول دعوتي إلى نحو من هذا المقصد. كلا، فإن الأمر أخطر من ذلك، مقصدنا أسمى من أن نجعله تنازعاً بين طائفتين، أو تناجراً بين فريقين. إنما نريد رفع ما ضرب على المسلمين من ذل، وما لقيت شريعتهم من إهانة، بوضع هذه القوانين الأجنبية. إنما ندعوكم بدعوة الله، ندعوا الأمة أن تعود إلى حظيرة الإسلام، ندعو إلى وحدة القضاء، وإلى التشريع بما حكم الله. (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬1). (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ¬

_ (¬1) سورة النور (51).

الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (¬1). ضعوا القوانين على الأساس الإسلامي، الكتاب والسنة، ثم افعلوا ما شئتم، فليحكم بها فلان أو فلان، لسنا نريد إلا وجه الله. يا رجال القانون في مصر! بكم أبدأ دعوتي، وأنتم أصحاب السلطان في البلد، وبيدكم الأمر والنهي، وأنتم الذين تضعون القوانين، ولجانكم تعمل الآن في تعديلها على مبادئ التشريع الحديث. تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، تضع أيدينا في أيديكم، ونعمل مخلصين لله. أنتم أعلم بأسرار القوانين منا، ونحن أعلم بالكتاب والسنة وأسرار الشريعة منكم، فإذا تعاونا أخرجنا أبدع الآثار. دعوا التعصب لتشريع الإفرنج وآرائهم، ولا أقول لكم سندع التعصب للإسلام من جانبنا، بل أدعوكم إلى التعصب له معنا، فإنكم مسلمون مثلنا، وسؤالنا سؤالكم عنه واحد عنه واحد بين يدي الله يوم القيامة، ولن تقبل منكم معذرتكم بأنكم لستم من رجال الدين، فالناس سواء في وجوب طاعة الله، والآخرة خير من الأولى (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (¬2). لا تظنوا أني حين أدعوكم إلى التشريع الإسلامي أدعوكم إلى التقيد بما ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب (36). (¬2) سورة الشعراء (88 - 89).

نص عليه ابن عابدين أو ابن نجيم مثلاً، ولا إلى تقليد الفقهاء في فروعهم التي استنبطوها غير منصوصة في الكتاب والسنة، وكثير منها فيه حرج شديد، كلا، فأنا أرفض التقليد كله ولا أدعو إليه، سواء أكان تقليداً للمتقدمين أم للمتأخرين. ثم الاجتهاد الفردي غير منتج في وضع القوانين، بل يكاد يكون محالاً أن يقوم به فرد أو أفراد. والعمل الصحيح المنتج هو الاجتهاد الاجتماعي، فإذا تبودلت الأفكار، وتداولت الآراء، ظهر وجه الصواب، إن شاء الله. فالخطة العملية فيما أرى: أن تختار لجنة قوية من أساطين رجال القانون وعلماء الشريعة، لتضع قواعد التشريع الجديد غير مقيدة برأي، أو مقلدة لمذهب، إلا نصوص الكتاب والسنة، وأمامها أقوال الأئمة وقواعد الأصول وآراء الفقهاء، وتحت أنظارها آراء رجال القانون كلهم. ثم تستنبط من الفروع ما تراه صواباً، مناسباً لحال الناس وظروفهم، مما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة، ولا يصادم نصا، ولا يخالف شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة. وستجدون من يسر الإسلام ودقائق الشريعة ما يملأ صدوركم إعجاباً، وقلوبكم إيماناً، وسترون أن ما تتوهمون من عقبات في سبيل التشريع الإسلامي قد ذلل ومهد، بما رفع من قيود التقليد وستلمسون بأيديكم إعجاز هذا القرآن، وستؤمنون بمصداق قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (¬1). ¬

_ (¬1) سورة المائدة (48).

وثم خطوة أخرى يجب أن تخطوها إلى أن يوضع هذا التشريع الإسلامي: أن تشركوا في لجانكم القانونية كلها رجالا من علماء الشريعة، على قدم المساواة معكم. وفي مقدمة هذه اللجان اللجنة التشريعية ولجنة أقلام القضايا، حتى لا تصدر قوانين أو فتاوى تصادم نصوص الدين، أو تنافي مبادئ الإسلام. قد نجد بعض القيود، فيما بيننا وبين الدول الأجنبية من علاقات وعهود. ومثل هذا لن يكون عقبة في سبيل تشريعنا، فمنه ما يمكن التفاهم فيه بالطرق السياسية المعتادة، ومنا ما سترفعه الأحداث القادمة. والنادر الذي يبقى نحصره في أضيق حدوده، حتى يوفق الله إلى تذليله. ثم هم إذا رأوا منا العزمة الصادقة، رضوا بالأمر الواقع، بل مدحوه ومدحوكم على التمسك به، ولطالما جربناهم من قبل. هذه دعوتي إليكم، أرجو أن تكون قد صادفت آذاناً واعية، وقلوباً مطمئنة بالإيمان. وأنتم الذين وكلت إليكم الأمة أمرها، ووضعت آمالها فيكم، وذلك ظني بكم، إن شاء الله. أما إذا أبيتم، وأعيذكم بالله أن تأبوا، فسأدعو رجال الأزهر، علماء الإسلام، رجاله ورجال مدرسة القضاء ودار العلوم، وسيستجيبون لي، وسيحملون عبء هذا العمل العظيم، وسيرفعون راية القرآن، بأيديهم القوية، التي حملت مصباح العلم في أقطار الإسلام ألف عام، وسينهضون به كما نهضوا من قبل بكل حركات الرقي والتقدم في الأمة، وفيهم رجال لا يبارون علماً وكفاءة وحكمة وعزماً، وسيجدون الأعوان الصادقين

المخلصين، منكم رجال القانون ومن سائر طبقات الأمة. وإذا ذاك سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة، السبيل الدستوري السلمي: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة. ولئن فشلنا مرة فسنفوز مراراً. بل سنجعل من إخفاقنا، إن أخفقنا في أول أمرنا، مقدمة لنجاحنا، بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصرا لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصاً لله وفي سبيل الله. فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى وأن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم، كما تفعل كل الأحزاب، إذا فاز أحدهما في الانتخاب، ثم نفي لقومنا -إن شاء الله- بما وعدنا، من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة. ومن بشائر الفوز وأمارات النجاح، بإذن الله، أن رأينا كثيراً من ذوي الرأي يقولون بقولنا، ويتمنون أن تستجاب دعوتنا، ويرجون أن تعود الأمة إلى دينها وشريعتها، وأن بعض الجمعيات القوية جعلت هذا المقصد من أهم مقاصدها. ويا رجال الأزهر!

قد أكثرنا القول، وأقللنا العمل، وقد عرفنا ما يجب علينا لديننا ولأمتنا، وظن بنا الناس الظنون، وزعموا أننا عاجزون عن مقادة الأمة في سبيل إعلاء كلمة الله، وإعادة مجد الإسلام. وأفزعونا بغول التعصب، وألقوا في روعنا أننا رجال الدين، بمعناهم الذي يفهمون، لا بالمعنى الذي يجب أن يكون. وقد كدنا أن تستيئس، وأن يقع في وهمنا أننا كما يصفون. وقد آن الأوان، أن نكثر من العمل، ونوجز من القول، وأن نحفز همتنا، ونعقد عزمتنا، وأن نلقي عن كواهلنا ما أثقلها، وأن نقوم لله وفي سبيل الله، مشتركين مع غيرنا أو منفردين، وستكون لكم الآخرة والأولى. (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (¬1). أما بعد أيها السادة! فإني أجدني غير مستطيع أن تزول قدماي عن مكاني هذا قبل أن أقول لكم ما قال الزعيم الإسلامي المنسي المجهول، السيد عبد الرحمن الكواكبي: هذه كلمة حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غداً بالأوتاد. وما قال العبد الصالح: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (¬2). وأستغفر الله لي ولكم. 6 ربيع الأول سنة 1360 هـ- 3 أبريل سنة 1941م. * ... * ... * ¬

_ (¬1) سورة الحج (40). (¬2) سورة غافر (44).

- الخطة العملية لاقتباس القوانين من الشريعة

- الخطة العملية لاقتباس القوانين من الشريعة قلت في المحاضرة، فيما مضى: "لا تظنوا أني حين أدعوكم إلى التشريع الإسلامي أدعوكم إلى التقيد بما نص عليه ابن عابدين أو ابن نجيم مثلا، ولا إلى تقليد الفقهاء في فروعهم التي استنبطوها غير منصوصة في الكتاب والسنة، وكثير منها فيه حرج شديد. كلا فأنا أرفض التقليد كله ولا أدعو إليه، سواء أكان تقليداً للمتقدمين أم للمتأخرين. ثم الاجتهاد الفردي غير منتج في وضع القوانين. بل يكاد يكون محالاً أن يقوم به فرد أو أفراد. والعمل الصحيح المنتج هو الاجتهاد الاجتماعي، فإذا تبودلت الأفكار، وتداولت الآراء، ظهر الصواب، إن شاء الله". "فالخطة العملية، فيما أرى: أن تختار لحنة قوية من أساطين رجال القانون وعلماء الشريعة، لتضع قواعد التشريع الجديد، غير مقيدة برأي، أو مقلدة لمذهب، إلا نصوص الكتاب والسنة. وأمامها أقوال الأئمة وقواعد الأصول وآراء الفقهاء، وتحت أنظارها آراء رجال القانون كلهم. ثم تستنبط من الفروع ما تراه صواباً، مناسبا لحال الناس وظروفهم، مما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة، ولا يصادم نصا، ولا يخالف شيئا معلوماً من الدين بالضرورة". فهذه اللجنة يجب أن تكون موفورة العدد، يكون منها لجنة عليا، تضع الأسس وترسم المناهج، وتقسم العمل بين لجان فرعية، ثم تعيد النظر

فيما صنعوا ووضعوا، لتنسيقه وتهذيبه، ثم صوغه في الصيغة القانونية الدقيقة. فيعرض كاملا على الأمة، ليكون موضع البحث والنقد العلمي، حتى إذا ما استقر الرأي عليه، عرض على السلطات التشريعية، لإقراره واستصدار القانون للعمل به. وأول ما يجب على اللجنة العليا عمله، أن تدرس، بنفسها أو باللجان الفرعية، مسائل علم أصول الفقه، ومسائل علم أصول الحديث (مصطلح الحديث) لتحقيق كل مسألة منها وتوحيد منهج الاستنباط من الأدلة. فتحقق المسائل التي يرجع فيها لدلالة الألفاظ على المعاني في لغة العرب، من نحو الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والصريح والمؤول، المفسر والمجمل، وسائر قواعد الأصول، كأبواب القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وما إلى ذلك. وتحقق القواعد في نقد رواية الحديث ورواته، من ناحية المتن وناحية الإسناد، وما يكون به الحديث صحيحاً يصلح للاحتجاج ويجب الأخذ به، وما يكون به ضعيفاً لا يصلح للاحتجاج. وتحقق القاعدة الجليلة الدقيقة، التي لم يحققها أحد من العلماء المتقدمين، فيما نعلم، إلا أن القرافي أشار إليها موجزة في الفرق السادس والثلاثين من (كتاب الفروق) (ج1 ص:249 - 252 طبعة تونس) وهي الفرق بين تصرف رسول الله بالفتوى والتبليغ، وبين تصرفه بالإمامة، وبين تصرفه بالقضاء. وهو بحث أساسي لدرس الأحاديث والاستدلال بها درساً صحيحاً، فيفرق به بين الأحاديث التي لها صفة العموم والتشريع،

وبين الأحاديث التي جاءت عن رسول الله تصرفاً منه بالإمامة، فليست لها صفة العموم والتشريع، بل المرجع في أمثالها إلى ما يأمر به الإمام من المصالح العامة، وبين الأحاديث في أقضية جزئية، تصرفاً منه صلى الله عليه وسلم بالقضاء، فيكون الحديث عن قضية بعينها، يستنبط منه ما يسمى في عصرنا (المبدأ القضائي). وقد حققت مثالا من مثل هذه القاعدة العظيمة في شرحي على (كتاب الرسالة) للإمام الشافعي ص: 240 - 242. وأجلّ عمل وأعظمه أثراً أن تحقق اللجنة باب (تعارض الأدلة والترجيح بينها) فذلك هو علم الأصول على الحقيقة، وذلك هو ميدان الاجتهاد، وذلك هو أساس الفقه والاستنباط. فإذا تم هذا، ووحدت القواعد التي يبنى عليها الاستدلال والاستنباط، نظر في القواعد العامة التي يرجع إليها الفقهاء في فقههم، على اختلاف مذاهبهم، وطبقت عليها قواعد الأصول التي أقرتها اللجنة العليا أو اللجنة العامة، "أصول الفقه وأصول الحديث" ثم وزنت بميزان الكتاب والسنة الصحيحة، وأخذ منها ما قام الدليل على صحته وموافقته للتشريع الصحيح. ثم تدرس اللجنة القواعد العامة للقوانين الوضعية، على اختلاف مبادئها وأنواعها، وتزنها بميزان القواعد التشريعية الإسلامية، فتختار منها ما تقضي المصلحة العامة باختياره، مما لا يعارض نصاً من نصوص الكتاب والسنة، ولا يُناقض شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، ولا قاعدة

أساسية من قواعد التشريع الإسلامي. وبعد هذا كله، بعد أن تستقر القواعد التي تُستنبط الفروع والمسائل على أساسها، وتوضع الموازين الصحيحة البينة، حتى لا تتشعب الطرق بالمجتهد، تقسم أبواب الفقه بين اللجان الفرعية، لتطبق فروع المسائل وجزئياتها على القواعد التي أقرت، وتضع لها الأحكام الصحيحة التي تقتضيها الأدلة الصحيحة نصاً أو استنباطاً. وهذا عمل كبير ضخم، لا يضطلع به إلا العلماء الأفذاذ المخلصون، من علماء الشرع وعلماء القانون، فيجب أن يسمو اختيارهم على الرغبات الشخصية والأهواء الحزبية، وما إلى ذلك مما قد يُفسد الاختيار أو يضعفه. وسيدعوهم هذا العمل إلى أن يفرغوا له وحده، فلا يجوز أن يعهد إلى أي واحد منهم بعمل غيره، حتى يكون وقتهم كله وقفاً عليه، ليسير على وتيرة واحدة، سيراً حثيثاً موصلاً إلى الغرض المقصود منه في أقرب وقت وأوجزه، وسيدعو إلى اختيار عشرات كثير من الأعضاء والمساعدين، ولعله مع كل هذا لا يتم في أقل من عشرين سنة. هذا تصوير تقريبي للخطة العملية، لاقتباس القوانين من الشريعة، فيه كثير من الإجمال، لا أستطيع التوسع في تفصيله، إلا أن يوضَع الدرس والبحث، ليكون حقيقة واقعة، لا خيالا وأمنية، أرجو أن ينال من عناية الباحثين، ومن نقد الناقدين، ما يرشدني ويرشد غيري إلى وجه الصواب، فيما اقترحت وفيما فاتني أو خفي عليه. وأسأل الله الهُدى والسداد والعصمة والتوفيق. * ... * ... *

18 - عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية والشريعة

18 - عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية والشريعة (¬1) أثار حضرة صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا فتنة شعواء، يحارب فيها لغة العرب، ويسعى لتمزيقها، ثم يحاول أن يظهر للناس في ثوب نصيرها المدافع عنها، وقد كنا سمعنا عن اقتراحه -كتابة العربية بالحروف اللاتينية -قبل أن ينشر نصه، فوقع في نفسي أنه استمرار لمحاولة قديمة من فئة معروفة كانت تدعو منذ عشرات قليلة من السنين إلى اتخاذ اللهجات العامية لغة رسمية للقراءة والكتابة والتعليم ... ثم قال المؤلف -رحمه الله- (¬2): " ..... : وهذا الرجل الذي بلغ علمه بالقرآن وباللغة وبعلوم الإسلام ما ترى، والذي أشرب في قلبه قوانين الإفرنج حتى لا يسع غيرها، لم يكد يمسك القلم حتى خلق فرصة، لا أدري كيف خلقها، لإبراز ما يحمل قلبه من ضغن على التشريع الإسلامي، ولتقديس قوانين الإفرنج والإشادة بها، وللذود عنها، خشية أن يفوز القائمون بالدعوة إلى تشريع مقتبس من الكتاب والسنة موافق لروح الإسلام وعقائد المسلمين. فخرج عن موضوع بدعته الميتة "بدعة الحروف اللاتينية" إلى موضوع لا صلة له بها من قريب أو بعيد. ¬

_ (¬1) الشرع واللغة (ص48 - ط مكتبة السنة) .. (¬2) ص82 من المصدر السابق (الكتاب والسنة) ط مكتبة السنة.

ولكن الله أراد أن يوفقه للإبانة عن ذات نفسه، والكشف عن خبيئة قلبه، ليوقن الناس أن بدعة الحروف اللاتينية جزء من خطة مرسومة واضحة مدمرة، يظن أصحابها أن سيفلحون. وذلك أنه أراد أن يرد على الكاتب القدير: "السيد محب الدين الخطيب" في نقده بدعته، وأن يسوطه بلسانه الحاد، فوجد من أبرز عيوبه عنده أنه يدعو إلى العمل بالشريعة الإسلامية بدلاً من القوانين الأجنبية، فثارت ثائرته، وأخذته الحمية، غيرة على مقدساته أن تُنتقص من أطرافها، أو خشية أن تقتلع من جذورها، فتعود الأمة المصرية عربية الثقافة، عربية التفكير، عربية الدين. فذهب يهزأ بكل التشريع الإسلامي، ويسخر من علماء الإسلام، فإذا اضطره هواه أن يكرمهم بالقول خديعة للناس، افترى عليهم ورماهم بما إن صدق فيه كانوا غير مسلمين. وسأنقل لكم بعض قوله في ذلك كله بحروفه، معرضاً عن فضول القول، مما سود به صحف كتابه، فاقرؤوا واعجبوا. قال معاليه: "ولأني، من ناحية أخرى، رأيت أن له -يعني السيد محب الدين -غرضاً أساسياً يسعى إليه، هو تسويء كل القوانين الوضعية القائمة الآن في البلاد، والرجوع إلى ما بناه الفقهاء الأكرمون من صرح الشريعة الغراء، وهو غرض مهم في ذاته، ومن شأنه أن يدفع إلى الإشادة بما ترك الليث بن سعد وباقي السلف الصالح من الآثار، كما يدفع إلى النعي على كل حادث يُتوهم منه المساس بتلك المخلفات" ص40.

وقال: "إن الدين لله. أما سياسة الإنسان فللإنسان وما لله ثابت لا يتغير، لأن الله حي قيوم أبدي، يستحيل عليه التغير، أما ما للإنسان فكالإنسان يتغير ويتبدل ويحول ويزول بفعل الزمان والمكان والأحداث، وإذا كان أحد لا يستطيع في الإسلام أن يمس العقائد وفرائض العبادات، فإن الحاكم في الإسلام عليه، بهذا القيد، أن يسوس الناس عاملاً على أن يحقق مصالحهم بحسب الزمان والمكان ومقتضيات الظروف والأحوال، مؤسساً عمله على الحق، خائطاً له بسياج من العدل الذي بدونه لا تنتظم أمور العباد. فهل يرى حضرة الطابع أو الكاتب في القوانين الموجودة الآن، من مدنية وتجارية وجنائية ومالية وإدارية، ومن نظم للهيئات المكلفة بتطبيقها وللهيئات التشريعية العليا المختصة بسنها وإصدارها -هل يرى في تلك النظم والقوانين ما يخالف شيئاً من عقائد المسلمين أو يعطل فرضاً من فروض الدين؟ أو لا ينظر ويسمع هو ومن لف لفه، إن كان لهم أعين يبصرون بها أو آذان يسمعون بها، أن في الدولة المصرية من تلك النظم هيئة اسمها وزارة الأوقاف قائمة بتعمير مساجد الله وإقامة شعائر الدين في بيوت الله؟ وهل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين التي تتطور بالاستمرار تبعاً لأحوال الناس بل وللظروف العالمية جمعاء". ثم يقول له جواباً عن هذا السؤال: "إنك لن تستطيع الجواب. لأنك إن أجبت سلباً كذبت على السلف الصالح علنا"!! ص42. ويقول أيضاً مستهتراً مُصِراً على رفض التشريع الإسلامي: "إننا الآن عيال على الأوربيين لا في خصوص العلوم والفنون فحسب، بل كذلك

في أمور التشريعات والقوانين، وإن ثقل عليك قولي فسل رجال كلية الحقوق وكلية التجارة، وأقلام قضايا الحكومة التي تجهز مشروعات القوانين، وسل كل من بالمحاكم الأهلية والمختلطة من القضاة المصريين ومن يشتغل لديها من المحامين المصريين. سلهم يأتوك جميعاً بالخبر اليقين. ومن أجل هذا، مضافاً إليك طريقتك العوجاء في خدمة الدين، يؤسفني أني لن أجيب رغبتك في الرجوع لسلفنا الصالح، في أمر القوانين" ص44 - 45. ثم يزداد إصراراً وتقديساً للسادة الأوروبيين فيقول: "وإذا كنت -على ما أظن- لم تتصل أنت ولا من يكتب لك، بقوانين الأوربيين ولم تدرس شيئاً من قوانين الأوربيين، فهل ترى لنفسك حقاً في الموازنة بين عمل سلفنا الصالح وعمل الأوربيين؟ لو سمحت لي بأن أدلك على الحق الواقع لما أحجمت عن إفادتك، بل سماحك ليس في العِير عندي ولا في النفير. اعلم معلماً، أن العقول التي كشفت لك عن عجائب الكهرباء وفجرت لجارك ينابيع النور في كل زاوية من أركان بيته العامر، وأغنته عن المسارج والقناديل وهمّ المسارج والقناديل، وهيأت للناس التلغراف السلكي واللاسلكي، وكشفت لك عن خواص الراديو فجعلت سمعك الضعيف يدرك ما يحدث بأقصى بقعة في الكرة الأرضية من الأصوات، كما كشفت لك عن معجزات الطيران الذي طبق عليك وعلي وعلى جميع الناس أرجاء السماء، هذه العقول الجبارة لها أخ من أبويها يشتغل إلى جانبها بمسائل القانون، ويسمو في بيئته إلى ما يسمو إليه إخوته الآخرون" ص45.

ثم لا يزداد إلا إصراراً وجهلاً بالدين وبأصول التشريع فيقول: "ارجع إلى عمل الصالحين السابقين يُفِدْك في العبادات والمعتقدات، لأنها لا تتغير بمر السنين، أما أحوال الاجتماع وسياسة الاجتماع وقوانين الاجتماع، فاتركنا أنت وغيرك نساير فيها أمم الأرض، ما دام قُوّامنا فيها، على كره منك، يحترمون الدين ولا يخلون بشيء من أمور الدين. أنا وأنت مقتنعان بأن عملك وعمل كثير من أضرابك دنيوي واه لا شأن له بالدين، لأني أفهم الدين، ولأنك أنت ترى بعيني رأسك أن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين" ص46. هذا بعض قوله بحروفه. وأستغفر الله من حكايته، ولولا الضرورة إلى نقله لنقضه والتحذير منه لما فعلت: 1 - وقد بدأ معالي الباشا استدلاله بكلمة منكرة "أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان" وما هذه الكلمة إلا تحريف أو تحوير لكلمة ليست إسلامية، وليست عربية، كلمة فيها خنوع وخور واستسلام لاستبداد القياصرة، لا يرضاها مسلم، ولا يرضاها عربي. نعم: إن الدين كله لله، وإن الأمر كله لله. ولكن هذا الرجل والذين يظاهرونه يريدون أن يفهموا الدين على غير ما يعرف المسلمون، وعلى غير ما أنزل الله في القرآن وعلى لسان الرسول. يريدون أن يَنفُثوا في روع الأغرار والجاهلين أن الدين هو العقائد والعبادات فقط، وأن ما سواهما من التشريع ليس من أمر الدين، عدواً منهم وبغياً، واستكباراً وعتواً، على

المسلمين، بل جهلاً وعجزاً، ثم استكانة وذلاً، للسادة الأوربيين "ذوي العقول الجبارة". ثم لا يستحي أحدهم أن يدعي أنه يفهم الدين، وأن يزعم أنه مكتف بما يسّر الله له من دينه، وأنه موقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين!! 2 - والأدلة في القرآن وبديهيات الإسلام على وجوب اتباع ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله، في العقائد والعبادات، وأحكام المعاملات والعقوبات وغيرها، متوافرة متواترة، لا ينكرها مسلم ولا يستطيع. وأظن أن معالي الباشا سمع مرة أو مرات قول الله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [سورة المائدة الآية: 44]. وقوله سبحانه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [سورة الماءدة: 49]. أيجرؤ معاليه أن يتأول هذه الآيات ونحوها على أنها في العقائد والعبادات؟ وإن جرؤ على ذلك، فماذا هو قائل في قول الله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) [سورة الأحزاب: 36]. وقوله: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ

إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) [سورة النور: 47 - 51]. أفيجرؤ أن يتأولها أيضاً على العقائد والعبادة؟ أم هو يلعب بالألفاظ والألباب! 3 - ولقد كررت الدعوة إلى الأخذ بالتشريع الإسلامي المستند إلى الكتاب والسنة، وأسهبتُ في الدلالة على وجوب العمل به، في مناسبات عدة، أهمها محاضرة (6 ربيع الأول سنة 1360هـ - 3 أبريل سنة 1941م) وهي التي جعلناها القسم الثاني من هذا الكتاب. 4 - ولست أدري وجه استدلال هذا الرجل العجيب بصفات الله الحسنى، وأنه أبديّ يستحيل عليه التغيّر، وبأن الإنسان يتغير ويتبدل، على صحة رأيه في رفض التشريع الإسلامي؟! وما أظن أن أحداً يدري! ما لهذا وما للتشريع!! إن الله سبحانه، وهو الحي القيوم، أنزل على رسوله شريعة كاملة، في العقائد والعبادات والمعاملات كلها، وأمر بطاعتها كلها، وجعل من يرفض شيئاً منها خارجاً عليها، حتى إنه ليقول لرسوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ

الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً) [سورة النساء: 60 - 61]. ثم يقول له في هذه الآيات: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [65]. 5 - وإني أسأل معالي الباشا سؤالاً واضحاً صريحاً، أرجو أن يجيبني عنه جواباً واضحاً صريحاً، لا حَيْدة فيه ولا دوران: ما يقول هو وأمثاله في قول الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) أهو فرض من فرائض الدين، واجب الطاعة على المسلمين، في كل زمان ومكان؟ أم هم يرونه أمراً قد سقطت طاعته عن المسلمين، بأنهم أخذوا أخذ الأوربيين، وبأنه في شأن من شؤون الإنسان، و"أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان؟ " (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً). 6 - وهذا الاستدلال الطريف المدهش، بصفات الله الحسنى على إلغاء الشريعة الإسلامية! أيجد له هذا الرجل مثيلاً في استدلال العقلاء؟ لقد أعجبتني كلمة قالها الأخ الدكتور عبد الوهاب عزام، فيما دفع به عدوان الباشا عليه، قال: "وليت شعري أهذا رأي حديث عرض لسعادة الأستاذ، أم كان بهذه الطريقة نفسها يعالج قضايا الناس محامياً ونائباً وقاضياً؟ " (مجلة الرسالة العدد 587 في 2 أكتوبر سنة 1944م). وصدق

الدكتور عزام، فإن مغالطات الرجل في استدلاله بلغت حداً يسقط معه كل مناظرة. ولولا خشيةُ أن يُخْدَع ناس بشيء مما لعب به لما عبأنا بالرد عليه، ولأعرضنا عنه إعراضاً. وإن استكثرتم عليه هذا الوصف فاقرؤوا اعتذاره بين يدي شتمه للدكتور عزام وسخريته منه في ص66 من كتابه، إذ يقول تبريراً لما جنى عليه: "على أن القلم والمداد والقرطاس كل أولئك ملك يدي، وانتفاع المرء بما يملك حلال في الشرع والقانون"!! أفرأيتم أيها الناس حجة كهذه الحجة؟! وممن؟ من رجل وُسِم في وقت من الأوقات بأنه أكبر رجال القانون في مصر! ما أظن أن رجلاً من أضعف الناس مدارك يرضى لنفسه أن يبرر عدوانه على غيره بمثل هذا الكلام، ولكنه الاستعلاء والطغيان. 7 - ولطالما سمعنا اعتذار المسرفين على أنفسهم، ممن يأبون العود بالأمة إلى تشريعها الإسلامي، ولطالما جادلناهم، فما رأينا أحداً منهم أجرأ على الله وعلى الدين من هذا الباحث العلامة! ما زعم لنا واحد منهم قط "أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان" وأن "الحاكم في الإسلام عليه أن يسوس الناس على ما يحقق مصالحهم، مؤسساً عمله على الحق والعدل، على أن لا يمس العقائد وفرائض العبادات". لأن معنى هذا الكلام الخروج بالإسلام عن حقيقته،

وجعله دين عبادة فقط، وإنكار ما في القرآن والسنة الصحيحة من الأحكام في كل شؤون الإنسان. والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص. فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه. وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج الإسلام جملة، ورفضه كله. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. 8 - إنهم كانوا يدورون حول هذا المعنى ويجمجمون ولا يصرحون، حتى كشف هذا الرجل عن ذات نفسه، وأخشى أن يكون قد كشف عما كانوا يضمرون. ولكني لا أحب أن أجزم في شأنهم، فلسنا نأخذ الناس بالظنة، وحسابهم بين يدي الله يوم القيامة. 9 - وأعجب ما في الأمر أن يسأل معالي الباشا السيد محب الدين الخطيب: "هل يرى في تلك النظم والقوانين ما يخالف شيئا من عقائد المسلمين أو يعطل فرضاً من فرائض الدين؟ " وسأجيبه أنا جواباً حاسماً: نعم، إن القوانين الإفرنحية والنظم الأوربية، فيها كثير مما يخالف عقائد المسلمين، وفيها تعطيل لكثير من فروض الدين.

فيها إباحة الخمور علناً، والترخيص رسمياً ببيعها، بتصريح كتابي يوقّع عليه وزير من وزراء الدولة أو موظف كبير من موظفيها. بل إن فريقاً من رجال الدولة الكبار لا يخجلون أن تدار عليهم الخمور في حفلات رسمية، ينفق عليها من أموال الدولة، بحجة أن هذا إكرام لمدعويهم من الأجانب، أو بما شئت من حجج تجردت من الحياء. حتى إن الدهماء ومن يسمونهم بسمة "الطبقة الراقية" اقتدوا بساداتهم وكبرائهم، واستغلوا هذه القوانين فيما يُذهب عقولهم ويذيب أموالهم، فانحطوا إلى الدرك الأسفل. وفيها إباحة الميسر بكل أنواعه، بشروط ورخص وضعوها. فخربت البيوت، واختلت الأعصاب والعقول، مما هو مشاهد، يعجز قلمي عن وصفه. وفيها إباحة الفجور بطرق عجيبة، من حماية الفجار من الرجال والنساء، من سلطان الآباء والأولياء، بحجة حماية الحرية الشخصية. ثم ما في الحانات والمواخير، ثم اختلاط الرجال والنساء، ثم المصايف وما فيها من البلاء، ثم هذه المراقص العامة والخاصة، بل المراقص التي تنفق عليها الدولة في الحفلات والتمثيل، اقتداء بالسادة الأوربيين" ذوي العقول الجبارة التي كشفت الكهرباء والراديو ومعجزات الطيران"! وفيها إبطال الحدود التي نزل بها القرآن كلها، مسايرة لروح التطور العصري، واتباعاً لمبادئ التشريع الحديث! وتباً لهذا التشريع الحديث وسحقاً.

وفيها إهداء الدماء في القتلى، باشتراط شروط لم ينزل بها كتاب ولا سنة، في الحكم بالقصاص. مثل شرط سبق الإصرار، مع العمد الموجب وحده للقصاص في شرعة الإسلام. ومثل البحث فيما يسمونه "الظروف المخففة" و"درس نفسية الجاني وظروفه". ومثل جعل حق العفو للدولة، لا لولي الدم، الذي جعل الله له وحده حق العفو بنص القرآن، فأهدرت الدماء، وفشا القتل للثأر، حتى لا رادع. والأمة والحكومة والصحف وغيرها، تتساءل عن علة ازدياد جرائم القتل؟ والعلة في هذه القوانين، التي خالفت العرف والدين. إلى غير ذلك ما لا نستطيع أن نحصيه في هذه الكلمة وكل هذه الأشياء وأمثالها تحليل لما حرم الله، واستهانة بحدود الله، وانفلات من الإسلام. وكلها حرب على عقائد المسلمين، وكلها تعطيل لفروض الدين. 10 - ولسنا ننعيَ على هذه القوانين كل جزئية فيها، بالضرورة، ففيها فروع في مسائل مفصلة، تدخل تحت القواعد العامة في الكتاب والسنة، ولكنا ننكر المصدر الذي أخذت منه، وهو مصدر لا يجوز لمسلم أن يجعله إمامه في التشريع، وقد أمر أن يتحاكم إلى الله ورسوله. فالكتاب والسنة وحدهما هما الإمام، نستنبط منهما وفي حدودهما ما يوافق كل عصر وكل مكان، مسترشدين بالعقل وقواعد العدل. ولكنا نسخط على الروح الذي يملي هذه القوانين ويوحي بها، روح الإلحاد والتمرد على الإسلام، في كثير من المسائل الخطيرة، والقواعد الأساسية،

فلا يبالي واضعوها أن يخرجوا على القرآن، وعلى البديهي من قواعد الإسلام، وأن يصبغوها صبغة أوربية، مسيحية أو وثنية، إذا ما أرضوا عنهم أعداءهم، ونالوا ثناءهم، ولم يخرجوا على مبادئ التشريع الحديث!! وهم، في نظر الشرع، مخطئون إذا ما أصابوا، مجرمون إذا ما أخطؤوا. أصابوا عن غير طرق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنهما ابتغاء مرضاة غير الله، جهلوهما جهلاً عجيباً. وأخطؤوا عامدين أن يخالفوا ما أمرهم به ربهم، ساخطين إذا ما دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم. والحجة عليهم قول كبيرهم: "إن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين"!! وإصراره على أنه لو كان قوياً في صحته فلن يجيب إلى "الرجوع لسلفنا الصالح في أمر القوانين". 11 - والفرية الكبرى أن يرمي معالي الباشا فقهاءنا وأئمتنا السابقين، بما يخرجهم من الدين! فإنه سأل محب الدين: "هل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين، لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين"؟ ثم لم يتريث حتى يجيبه محب الدين أو غيره، فبادر بالجواب، مثبتاً عليهم هذا الذي زعم، غير عابئ أن يخاصموه جميعاً فيَخْصِموه، بين يدي الله يوم القيامة، بأنه وصمهم بما لم يخطر ببال أحد غيره، وحسابه على الله. ونحن نجيبه الجواب الحاسم الصحيح: أن سلفنا الصالح لو مد الله في أجلهم إلى اليوم، ما رضوا عن هذه القوانين، وما خنعوا لها وما استكانوا،

بل ما جرؤ أحد أن يفكر في وضعها لبلاد المسلمين. وليس الذي ينفي عنهم عار هذه السُّبَّة هو الذي يكذب عليهم علناً، وهم أجلّ في أنفسهم وفي نفوس المسلمين، من أن يصدق عليهم ما رماهم به معاليه. ومن ظن بهم غير ذلك، فقد جهل العلم والدين، وأنكر التاريخ، أو قال غير الحق، زراية بهم وإسرافاً عليهم، وهو يعلم أن الحق غير ما قال. يا صاحب المعالي: لعلي قد قسوت عليك بعض القسوة، بما لم تعتد أذنك سماعه من المتزلفين والمجاملين، وما أريد إلا الدفاع عن الإسلام وبيان حقيقته، والدفاع عن القرآن ومنع العبث به، والمحافظة على العربية ووحدة أممها. وقد يكون في هذا فائدة عظيمة في عاقبة أمرك، أن تعرف الإسلام وحقوقه، وترجع عما أخطأت فيه، فإن الرجل الحازم يعرف كيف يرجع إلى الحق علناً، كما حاد عنه علناً. فإن أبيت فلا تنس بيت بشر بن أبي خازم: ولا يُنْجي من الغمرات إلا ... بُراكاء القتال أو الفرار * ... * ... *

19 - متى ولمن!! السمع والطاعة؟

19 - متى ولمن!! السمع والطاعة؟ قال الإمام أحمد بن حنبل في مسند عبد الله بن عمر: حدثنا يحيى عن عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ... "السمع والطاعة على المرء فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". قال الشيخ (¬1): إسناد صحيح. ورواه البخاري (6: 82 و13: 109 من فتح الباري) عن مسدّد عن يحيى بن سعيد، بهذا الإسناد، ورواه أيضاً (6: 82) من طريق إسماعيل بن زكريا عن عبيد الله، ورواه مسلم (6: 86) من طريق الليث بن سعد، ومن طريق يحيى القطان وابن نمير، ثلاثتهم عن عبيد الله. وهذا الحديث أصل جليل خطير من أصول الحكم. لا نعلم أنه جاء في شريعة من الشرائع، ولا في قانون من القوانين، على هذا الوضع السليم الدقيق المحدد، الذي يحدد سلطة الحاكم، ويحفظ على المحكوم دينه وعزته. ¬

_ (¬1) في تعليقه على المسند (ج6 /ص301 - 306/ رقم 4668).

فقد اعتاد الملوك والأمراء، واعتادت الحكومات في البلاد التي فيها حكومات منظمة وقوانين، أن يأمروا بأعمال يرى المكلف بها أن لا مندوحة له عن أداء ما أمر به. وصارت الرعية، في هؤلاء وهؤلاء، لا يطيعون فيما أمروا به إلا إن يوافق هوى لهم أو رغبة عندهم، وإلا اجتهدوا أن يقصروا في أداء ما أمروا به، ما وجدوا للتقصير سبيلاً، لا يلاحقهم فيه عقاب أو خوف. وكل هذا باطل وفساد، تختل به أداة الحكم، وتضطرب معه الأنظمة والأوضاع، إذ لا يرون أن الطاعة واجبة عليهم، وإذ يطيعون -في بعض ما يطيعون- شبه مرغمين إذا لم يوافق هواهم ولم يكن مما يحبون. أما الشرع الإسلامي: فقد وضع الأساس السليم، والتشريع المحكم، بهذا الحديث العظيم. فعلى المرء المسلم أن يطيع من له عليه حق الأمر من المسلمين، فيما أحب وفيما كره، وهذا واجب عليه، يأثم بتركه، سواء أعرف الآمر أنه قصر أم لم يعرف، فإنه ترك واجباً أوجبه الله عليه، وصار ديناً من دينه، إذا قصر فيه كان كما لو قصر في الصلاة أو الزكاة أو نحوهما من واجبات الدين التي أوجب الله. ثم قيّد هذا الواجب بقيد صحيح دقيق، يجعل للمكلف الحق في تقدير ما كُلِّف به، فإن أمره من له الأمر عليه بمعصية، فلا سمع ولا طاعة، ولا يجوز له أن يعصي الله بطاعة المخلوق، فإن فعل كان عليه الإثم، كما كان على من أمره، لا يُعذر عند الله بأنه أتى هذه المعصية بأمر غيره، فإنه

مكلف مسؤول عن عمله، شأنه شأن آمره سواء. ومن المفهوم بداهة: أن المعصية التي يجب على المأمور أن لا يطيع فيها الآمر، هي المعصية الصريحة التي لا يتأول فيها المأمور ويتحايل، حتى يوهم نفسه أنه امتنع لأنه أمر بمعصية، مغالطة لنفسه ولغيره. ونرى أن نضرب لذلك بعض المثل. مما يعرف الناس في زماننا هذا، إيضاحاً وتثبيتاً: 1 - موظف أمره من له عليه حق الأمر أن ينتقل من بلد يحبه إلى بلد يكرهه، أو من عمل يرى أنه أهل له، إلى عمل أقل منه، أو أشد مشقة عليه، فهذا يجب أن يطيع من له عليه حق الأمر، لا مندوحة له من ذلك، أحب أو كره، فإن أبى من طاعة الأمر كان آثماً، وكان إباؤه حراماً، سواء أبى إباء صريحاً واضحاً، أم أبى إباء ملتوياً مستوراً، يتمحل الأسباب والمعاذير. ولقد يرى المأمور أنه بما أُمر به مغبون، أو مظلوم مهضوم الحق، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكنه يجب عليه أن يطيع في كل حال، فإن الظلم في مثل هذه الأمور أمر تقديري، تختلف فيه الأنظار والآراء، والمأمور في هذه الحال ينظر لنفسه، ويحكم لنفسه، فمن النادر أن يكون تقديره للظلم الذي ظن أنه لحقه تقديراً صحيحاً، لما يشبه أن يكون من غلبة الهوى عليه، ولعل آمره أقدر على الإحاطة بالمسألة من وجوهها المختلفة، ولعل تقديره إذ ذاك أقرب إلى الصواب، إذا لم يكن فعل ما فعل عن هوى واضح

وتعنت مقصود. والظلم في مثل هذا حرام، ولكنه حرام على الآمر، أما المأمور فلم يؤمر بمعصية، لأن ما أُمر به في ذاته ليس معصية، إنما المعصية في إصدار الأمر على غير جهة الحق. 2 - نرى بعض القوانين تأذن بالعمل الحرام الذي لا شك في حرمته، كالزنا، ويبع الخمر ونحو ذلك، وتشرط للإذن بذلك رخصة تصدر من جهة مختصة معينة في القوانين. فهذا الموظف الذي أمرته القوانين أن يعطي الرخصة بهذا العمل إذا تحققت الشروط المطلوبة فيمن طلب الرخصة لا يجوز له أن يطيع ما أمر به، وإعطاؤه الرخصة المطلوبة حرام قطعاً، وإن أمره بها القانون، فقد أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة. أما إذا رأى أن إعطاء الرخصة في ذلك حلال، فقد كفر وخرج عن الإسلام، لأنه أحل الحرام القطعي المعلوم حرمته من الدين بالضرورة. 3 - نرى في بعض بلاد المسلمين قوانين ضربت عليها، نقلت عن أوربة الوثنية الملحدة، وهي قوانين تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، وذلك أمر واضح بديهي، لا يخالف فيه إلا من يغالط نفسه، ويجهل دينه أو يعاديه من حيث لا يشعر، وهي في كثير من أحكامها أيضاً توافق التشريع الإسلامي، أو لا تنافيه على الأقل.

وإن العمل بها في بلاد المسلمين غير جائز، حتى فيما وافق التشريع الإسلامي، لأن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوربة أو لمبادئها وقواعدها، وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه، فهو آثم مرتد بهذا، سواء أوضع حكماً موافقاً للإسلام أم مخالفاً. وقد وضع الإمام الشافعي قاعدة جليلة دقيقة في نحو هذا، ولكنه لم يضعها في الذين يشرعون القوانين عن مصادر غير إسلامية، فقد كانت بلاد الإسلام إذ ذاك بريئة من هذا العار، ولكنه وضعها في المجتهدين العلماء من المسلمين، الذين يستنبطون الأحكام قبل أن يتثبتوا مما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، ويقيسون ويجتهدون برأيهم على غير أساس صحيح، فقال في الكتاب (الرسالة) رقم: 178 بشرحنا وتحقيقنا: "ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب -إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه". ومعنى هذا واضح: أن المجتهد في الفقه الإسلامي، على قواعد الإسلام، لا يكون معذوراً إذا ما كان اجتهاده على غير أساس من معرفة، وعن غير تثبت في البحث عن الأدلة من الكتاب والسنة، حتى لو أصاب في الحكم، إذ تكون إصابته مصادفة، لم تبن على دليل، ولم تبن على يقين، ولم تبن على اجتهاد صحيح.

أما الذي يجتهد ويتشرع!! على قواعد خارجة عن قواعد الإسلام، فإنه لا يكون مجتهداً، ولا يكون مسلما، إذا قصد إلى وضع ما يراه من الأحكام، وافقت الإسلام أم خالفته، فكانت موافقته للصواب، إن وافقه من حيث لا يعرفه، بل من حيث لا يقصده، غير محمودة، بل كانوا بها لا يقلون عن أنفسهم كفراً حين يخالفون، وهذا بديهي. وليس هذا موضع الإفاضة والتحقيق في هذه المسألة الدقيقة. وما كان هو المثل الذي نضربه، ولكنه تمهيد. والمثل: أنّا نري كثيراً من المسلمين الذين عُهد إليهم بتنفيذ هذه القوانين والقيام عليها، بالحكم بها، أو بالشرح لها، أو بالدفاع فيها، نراهم مسلمين فيما يتبين لنا من أمرهم، يصلون ويحرصون على الصلاة، ويصومون ويحرصون على الصوم، ويؤدون الزكاة ويجودون بالصدقات راضية نفوسهم مطمئنين، ويحجون كأحسن ما يحج الرجل المسلم، بل نرى بعضهم يكاد يحج هو وأهله في كل عام، ولن تستطيع أن تجد عليهم مغمزاً في دينهم، من خمر أو رقص أو فجور، وهم فيما يفعلون مسلمون مطمئنون إلى الإسلام، وراضون معتقدون عن معرفة ويقين. ولكنهم إذا مارسوا صناعتهم في القضاء أو التشريع أو الدفاع، لبستهم هذه القوانين، وجرت منهم كالشيطان مجرى الدم، فيتعصبون لها أشد العصبية، ويحرصون على تطبيق قواعدها والدفاع عنها، كأشد ما يحرص الرجل العاقل المؤمن الموقن بشيء يرى أنه هو الصواب ولا صواب غيره، وينسون إذ ذاك كل شيء يتعلق بالإسلام في هذا التشريع، إلا

ما يخدع به بعضهم أنفسهم أن الفقه الإسلامي يصلح أن يكون مصدراً من مصادر التشريع! فيما لم يرد فيه نص في قوانينهم، ويحرصون كل الحرص على أن يكون تشريعهم تبعاً لما صدر إليهم من أمر أوربة في معاهدة منترو، مطابقاً لمبادئ التشريع الحديث، وكما قلت مراراً في مواضع من كتبي وكتاباتي: وتبًّا لمبادئ التشريع الحديث. فهؤلاء الثلاثة الأنواع: المتشرع والمدافع والحاكم، يجتمعون في بعض هذا المعنى ويفترقون، والمآل واحد. أما المتشرع: فإنه يضع هذه القوانين وهو يعتقد صحتها وصحة ما يعمل، فهذا أمره بيّن، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. وأما المدافع: فإنه يدافع بالحق وبالباطل، فإذا ما دافع بالباطل المخالف للإسلام معتقداً صحته، فهو كزميله المتشرع. وإن كان غير ذلك كان منافقاً خالصاً، مهما يعتذر بأنه يؤدي واجب الدفاع. وأما الحاكم: فهو موضع البحث وموضع المثل. فقد يكون له في نفسه عذر حين يحكم بما يوافق الإسلام من هذه القوانين، وإن كان التحقيق الدقيق لا يجعل لهذا العذر قيمة. أما حين يحكم بما يُنافى الإسلام، مما نص عليه في الكتاب أو السنة، ومما تدل عليه الدلائل منهما، فإنه -على اليقين- ممن يدخل في هذا الحديث: قد أمر بمعصية القوانين التي يرى أن عليه واجباً أن يطيعها أمرتْه بمعصية، بل بما هو أشد من المعصية: أن يخالف كتاب الله وسنة رسوله،

فلا سمع ولا طاعة، فإن سمع وأطاع كان عليه من الوزر ما كان على آمره الذي وضع هذه القوانين، وكان كمثله سواء. 4 - وقد صنع رجال كبار من رجال القانون عندنا شيئاً شبيهاً بهذه القاعدة، احتراماً منهم لقوانينهم التي وضعوها. فقد قرر مجلس الدولة مبدأين خطيرين، فيما إذا تعارض قانون عادي من قوانين الدولة مع القانون الأساسي، وهو الدستور، فجعل الأولية للدستور، وأنه يجب على المحاكم أن لا تطبق القانون العادي إذا عارضه. ومجلس الدولة هيئة من أعلى الهيئات القضائية، وُكل إليه فيما وُكل إليه من الاختصاص أن يحكم بإلغاء القرارات الإدارية التي تصدرها الحكومة إذا ما صدرت مخالفة للقوانين. وهذان المبدآن اللذان نحن بصددهما أصدرتهما الدائرة الأولى من ذلك المجلس، برئاسة رئيسه محمد كامل مرسي باشا، وهو واضع قانون مجلس الدولة، أو هو الذي له اليد الطولى في إصداره، وهو الذي ولى رئاسته أول ما أُنشىء، وهو مرسي قواعده، ومثبت أركانه. والمبدآن اللذان قررهما: أحدهما: "أنه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث دستورية القوانين، بله المراسيم بقوانين، سواء من ناحية الشكل، أو الموضوع".

وثانيهما: أنه لا جدال في أن الأمر الملكي رقم 42 لسنة 1923م بوضع نظام دستوري للدولة المصرية، هو أحد القوانين التي يجب على المحاكم تطبيقها، ولكنه يتميز عن سائر القوانين بما له من طبيعة خاصة تضفي عليه صفة العلوّ، وتسمه بالسيادة، بحسبانه كفيل الحريات وموئلها، ومناط الحياة الدستورية ونظام عقدها. ويستتبع ذلك: أنه إذا تعارض قانون عادي مع الدستور في منازعة من المنازعات التي تطرح على المحاكم، وقامت بذلك لديها صعوبة، مثارها أي القوانين هو الأجدر بالتطبيق، وجب عليها بحكم وظيفتها القضائية أن تتصدى لهذه الصعوبة، وأن تفصل فيها على مقتضى أصول هذه الوظيفة، وفي حدودها الدستورية المرسومة لها. ولا ريب في أنه يتعين عليها عند قيام هذا التعارض أن تطرح القانون العادي وتهمله، وتغلب عليه الدستور وتطبقه، بحسبانه القانون الأعلى الأجدر بالاتباع. وهي في ذلك لا تتعدى على السلطة التشريعية، ما دامت المحكمة لا تضع بنفسها قانوناً، ولا تقضي بإلغاء قانون، ولا تأمر بوقف تنفيذه. وغاية الأمر. أنها تفاضل بين قانونين قد تعارضا، فتفصل في هذه الصعوبة، وتقرر أيهما الأولى بالتطبيق. وإذا كان القانون العادي قد أُهمل، فمرد ذلك في الحقيقة إلى سيادة الدستور العليا على سائر القوانين، تلك السيادة التي يجب أن يلتزمها كل من القاضي والشارع [يريد المتشرع!!] على حد سواء". (القضية رقم 65 سنة1) قضائية، في مجموعة أحكام مجلس الدولة، تأليف الأستاذ محمود عاصم ج1 ص377، 379).

ومن البين البديهي الذي لا يستطيع أن يخالف فيه مسلم: أن القرآن والسنة أسمى سمواً، وأعلى علواً، من "الدستور" ومن كل القوانين، وأن المسلم لا يكون مسلماً إلا إذا أطاع الله ورسوله، وقدم ما حكما به على كل حكم وكل قانون، وأنه يجب عليه أن يطرح القانون إذا عارض حكم الشريعة الثابت بالكتاب والسنة الصحيحة، طوعاً لأمر رسول الله في هذا الحديث: "فإن أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" * ... * ... *

20 - الشورى في الإسلام

20 - الشورى في الإسلام (... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ...) [آل عمران: 159]. قال الشيخ (¬1): وهذه الآية (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) والآية الأخرى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، اتخذهما اللاعبون بالدين في هذا العصر -من العلماء وغيرهم- عدتهم في التضليل بالتأويل، ليواطؤا صنع الإفرنج في منهج النظام الدستوري الذي يزعمونه، والذي يخدعون الناس بتسميته "النظام الديمقراطي"! فاصطنع هؤلاء اللاعبون شعاراً من هاتين الآيتين، يخدعون به الشعوب الإسلامية أو المنتسبة للإسلام. يقولون كلمة حق يراد بها الباطل: يقولون: "الإسلام يأمر بالشورى"، ونحو ذلك من الألفاظ. وحقا إن الإسلام يأمر بالشورى. ولكن أي شورى يأمر بها الإسلام؟ إن الله سبحانه يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ). ومعنى الآية واضح صريح، لا يحتاج إلى تفسير، ولا يحتمل التأويل. فهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم لمن يكون ولي الأمر من بعده: أن يستعرض آراء أصحابه الذين يراهم موضع الرأي، الذين هم أولو الأحلام ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير (3/ 64).

والنُّهى، في المسائل التي تكون موضع تبادل الآراء وموضع الاجتهاد في التطبيق. ثم يختار من بينها ما يراه حقاً أو صواباً أو مصلحة، فيعزم على إنقاذه، غير متقيد برأي فريق معين، ولا برأي عدد محدود، لا برأي أكثرية، ولا برأي أقلية، فإذا عزم توكل على الله، وأنفذ العزم على ما ارتآه. ومن المفهوم البديهي الذي لا يحتاج إلى دليل: أن الذين أُمر الرسول بمشاورتهم -ويأتسي به فيه من يلي الأمر من بعده -هم الرجال الصالحون القائمون على حدود الله، المتقون لله، المقيمو الصلاة، المؤدو الزكاة، المجاهدون في سبيل الله، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى". ليسوا هم الملحدين، ولا المحاربين لدين الله، ولا الفجار الذين لا يتورعون عن منكر، ولا الذين يزعمون أن لهم أن يضعوا شرائع وقوانين تخالف دين الله، وتهدم شريعة الإسلام، هؤلاء وأولئك -من بين كافر وفاسق- موضعهم الصحيح تحت السيف أو السّوط، لا موضع الاستشارة وتبادل الآراء. والآية الأخرى: آية سورة الشورى -كمثل هذه الآية وضوحاً وبيانا وصراحة: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). ثم هي ما كانت خالصة بطرق الحكم وأنظمة الدولة. إنما هي في خُلُق المؤمنين الطائعين المتبعين أمر ربهم: أن من حُلُقهم أن يتشاوروا في شؤونهم الخاصة والعامة، ليكون ديدنهم التعاون والتساند في شأنهم كله. ومجال القول ذو سعة. وفيما قلنا عبرة وعظة وكفاية، إن شاء الله. * ... * ... *

21 - المرأة ليست كالرجل في الميراث.

21 - المرأة ليست كالرجل في الميراث. (وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [النساء: 14] قال الشيخ (¬1): هذا الوعيد الشديد هو لمن تعدّى حدود الله في الوصية والميراث وإعطاء كل ذي حق حقه، وخالف عن أمر ربه، وظن أنه يعمل ما يراه -بعقله القاصر أو بهواه- ما فيه مصلحة لورثته. أعني أن هذا في المخالفة العملية التي لا تتصل بالعقيدة، كما هو ظاهر من سياق الآيات الربانية. أما الخارجون على شريعة الله وحدوده، الذين يطالبون بمساواة المرأة بالرجل في الميراث -من الجمعيات النسائية الفاجرة المتهتكة، ومن الرجال أو أشباه الرجال، الذين يروجون لهذه الدعوة، ويتملقون النسوة فيما يصدرون ويردون- فإنما هم خارجون من الإسلام خروج المرتدين، لاتصال ذلك بأصل العقيدة، وإنكار التشريع الإسلامي. فيجب على كل مسلم أن يقاومهم ما استطاع، وأن يدفع شرهم عن دينه وعن أمته. * ... * ... * ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير (3/ 125).

22 - خواطر ...

22 - خواطر ... 1 - في التعليم: قال الشيخ (¬1): يريد المجددون أن يجمعوا في التعليم بين الذكور والإناث -جريا على ما اختطوا لأنفسهم من خطط في هدم الدين ونشر الإباحية- وأحسن ما رأيناه صالحاً للرد عليهم وكشف أغراضهم كلمة لكاتب فاضل من رجال التعليم في أهرام الخميس (6 مارس سنة 1930م) قال فيها: "أننا نري الآن في المدارس أنه كثيراً ما يختلط طالب السنة الخامسة الثانوية الذي تجاوز الثامنة عشر ربيعاً مع طالب السنة الأولى الذي لا يجاوز الثانية عشر. وهناك فارق عظيم بين سنيهما في الأخلاق والآداب والاجتماع بينهما كثيرا ما يكون قل دخول الفصول وفي أوقات الفسح. وهذا الاجتماع بين كبار الطلبة وصغارهم كان من الواجب منعه لأن أسباب الضرر التي تنتج عن ذلك معروفة ولا موضع لذكرها. ومن المحتم الفصل بين هاتين الطبقتين فيحدد موعد لدخول كبار التلامذة وموعد لدخول صغارهم .. وكذلك عند الانصراف من المدرسة حتى يمتنع الاختلاط. ¬

_ (¬1) الفتح العدد رقم (190).

2 - في المحاضرة الحمقاء

ولإمكان منع هذا الاختلاط أيضاً يجب أن نمنع تناول الغداء في المدارس لأنه فرصة للاجتماع". ويظهر من كلام حضرة الكاتب أنه ممن مارس التربية ووقف على أسرار المدارس ودرس أخلاق الطلاب أدق درس. فهل يخجل بعد هذا من يزعمون أنهم يجددون للأمة في كل نواحي حاجاتها -حتى الدين- ما أظنهم يخجلون! 2 - في المحاضرة الحمقاء: قد أحسن جداً من وسمها بهذه السمة. ولا ندري إلى م تغضى الأمة -ولا أقول الحكومة- عمن يهاجمها في دينها وعقائدها ويسب نبيها صلى الله عليه وسلم؟ كما فعل ذاك المحاضر الآخر بقاعة الجامعة الأمريكية. أترضى أمة من الأمم أن تغضى عن مثل هذا!! أئذا قام رجل مسلم في أي بلد من بلدان أوربة أو أمريكا وطعن علناً في سيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم -بل في أحد من يقدسونهم من الرجال والنساء وكثير ما هم- أقول هل يتركه القوم هناك يقول ما شاء؟! كلا والله. وإن الأمم التي تفقد الغيرة على دينها وأعراضها ليس لها إلا الدمار. أيها المسلمون، الأمم تجدّ وأنتم تهزلون. بالأمس قام رجل مسلم غيور -هو صاحب الفتح- ينقد أعمالا مما صنع أمان الله- ملك الأفغان

3 - في الأعراض

السابق- يمقتها الإسلام، وما كتب إلا غيرة على دينه وانتصاراً لعقيدته وللأخلاق ومع هذا فقد كان جزاؤه الحبس ولو مع إيقاف التنفيذ. وها هم أولاء يهاجموننا في ديننا وعقائدنا ولا يستحون أن يطعنوا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخصه مقدس عند كل مسلم، ثم لا يرون أمامهم إلا جبناً وخنوعاً. 3 - في الأعراض: بلغنا أن شاباً خدع فتاة قاصراً لم تبلغ السادسة عشر وعاشرها وظهر أنها حامل منه -وكثيراً ما يحدث مثل هذا- فهذا أضاع عليها شرفها وما ترجو في حياتها ولا يمكن تزويجها منه لأنه مسيحي وهي مسلمة. ومن الأسف أن القانون لا يصل إليه لعقابه (طبقا للمادة 232 عقوبات) لأن سنها زادت عن أربعة عشر عاما. تحدثت في هذا الأمر مع أحد أفاضل نوابنا الكرام، فكان من رأيه اقتراح رفع السن في هذه المادة إلى ستة عشر عاماً وكان من رأيي رفعها إلى واحد وعشرين -إن لم يمكن الآن تحريم الزنا في القوانين كما هو محرم في الأديان -وحجتي واضحة في نظري وهي: أن القاصر لم يبح له في التشريع الحديث قبل بلوغ هذا السن أن يتصرف في شيء من ماله وجعل اختياره في بيعه وشرائه كأنه لم يكن. فكيف تكون له الخيرة في التصرف في عرضه وهو أغلى من كل مال؟! إنا نعرض أمثال هذا الحادث على الغيورين من رجال الشريعة ورجال

4 - لصوص الثياب

القانون ليبدوا فيه آراءهم ويبحثوا عن الدواء وقد ظهر الداء. وفقهم الله جميعاً. 4 - لصوص الثياب: لصّ (¬1) المجددون من الشبان المفتونين بهم دينهم وعقولهم، وسرقوا من الفتيات عفافهن وحياءهن، والآن يريدون أن يسرقوا من الفريقين ثيابهم بالدعوة إلى "العري" قاتلهم الله أنّى يؤفكون! ألا ترى قائلهم يقول في المجلة السلموسية (يناير 1930): إننا (طغينا طغياناً عظيما في تزيين اللباس حتى باتت الزينة خطراً على كل شاب مراهق تملأ رأسه خيالات كاذبة لو أنه عرف حقيقتها لخفف من غلوائه في غرامه بجمال المرأة. ولو كنا نعيش كلنا عرايا كما تفعل الآن في أوقات معينة إحدى الطوائف في ألمانيا لأخذ الاشمئزاز شيئاً كبيراً من ذلك الغرام" ويقول أيضاً: "ويجب أن لا يبرح من أذهاننا أن الإغراء الجنسي إنما يأتي من كثرة الملابس وليس من قلتها بل إن للتجرد أو العري أدعى للاشمئزاز منه إلى الإغراء". فما أوقح وما أفجر!! وهذا نوع من تجديدهم لا يحتاج إلى تعليق. ¬

_ (¬1) لص بمعنى سرق كما في المصباح وهو من زياداته على اللسان.

5 - هل في شعائر الإسلام وثنية؟

5 - هل في شعائر الإسلام وثنية؟ (¬1) وهذا مجدد آخر من طراز راق!! كتب في الأهرام (7 مارس سنة 1930م) فوصف ما شاهد في روما (مدينته الخالدة) من تقبيل قدم صنم من أصنامهم ثم قال: "وكذلك في مكة يقبلون الحجر الأسود، وكذلك يقبلون في طنطا عمود السيد. وهنا يقبلون قدم تمثال بطرس. فنحن وإن اختلفنا مذاهب وشيعة ما زلنا حافظين منذ أجيال دون وعي منا شيئا من عبادة الأسلاف .. شيئا من الوثنية! ... ". دعنا الآن مما يظهر في ثنايا كلمات حضرة الكاتب من تقديس النصرانية والحدب عليها -والكاتب يسمى باسم من أسماء المسلمين- فذاك من النتائج الخطيرة في حياة المسلمين من نظم التعليم في مدارس المبشرين وفي البعثات إلى أوروبا، بل وفي المدارس المصرية نفسها قاطبة، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ودعنا من محاسبته على لوازم أقواله ومراميها الدقيقة البعيدة، فلو حوسب حضرته عليها لكان من المدحضين. ولكن نسأل الكاتب: هل قال مسلم قبل اليوم إن تقبيل الحجر الأسود من شعائر الوثنية ومن عبادة الأسلاف؟ بل هل كان الحجر الأسود سلفا لأحد من الناس؟ ¬

_ (¬1) مجلة الفتح العدد (رقم 191).

اللهم إنا نعوذ بك من فلتات ألسنتنا ومن غلبة أهوائنا وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم" (¬1). وإذ يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوي بها في جهنم" (¬2). إن تقبيل الحجر الأسود ليس له في شعائر الحج عند المسلمين أي معنى من معاني العبادة وإنما هو عمل نقتدي فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم مما عمل من مناسك الحج، وقد أمرنا أن نأخذ عنه المناسك. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تقبيل الحجر: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" (¬3). وإنما أوهم حضرة الكاتب الفاضل جهله بالشريعة الإسلامية وفرائضها -إذ سمع من بعض الناس إنهم يقبلون الحجر الأسود- أنهم يقبلونه على معنى من معاني الوثنية كما تفعل أمم ذات أديان أخرى، ولعله معذور في هذا الفهم لأن النفس لا تتجه إلا إلى ما نشأت عليه وأشربته في قلبها فتنساق إلى تأويل ما تسمعه أو تراه على ما رسخ فيها من عقائد وعادات. ولو كان المعنى الذي رآه حضرته مما يجول في خاطر أحد من المسلمين ¬

_ (¬1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه هو والترمذي. وانظر الترغيب والترهيب (ج4 ص5). (¬2) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وانظر فتح الباري (ج11 ص245 - 246) والعيني (ج23 ص71 - 72). (¬3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

لكان أولى أن يجول في خواطر الصحابة رضي الله عنهم وهم كانوا قبل أن هداهم ربهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وثنيين متعمقين في الوثنية متعصبين لها يقاتلون عنها بأنفسهم وأموالهم، فما هو إلا أن أنقذهم الله بهدايته وصدقوا رسوله حتى كانوا حرباً عليها وألدّ أعدائها. أقول: مع كل هذا لم يظن أحد منهم في تقبيل هذا الحجر معنى الوثنية التي كانت في أعماق قلوبهم وما توهموه قط رحمهم الله ورضي عنهم. وأما تقبيل عمود السيد فإننا ننكره على من يفعله وما يفعله إلا العامة وأشباههم جهلا منهم وكثيراً ما أنكره المهتدون. بل هذه القبور والقباب لا أصل لها في شريعة الإسلام وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور بالأرض لأن الإسلام جاء بالحرب على الوثنية لاقتلاعها بجذورها من القلوب. ومن الفكاهات في هذا الموضوع أن حضرة الكاتب زعم أن عمود السيد في طنطا مع أن المعروف أنه في القاهرة في المسجد المنسوب إلى سيدنا "الحسين بن علي" رضي الله عنه. * ... * ... *

6 - بحث في تاريخ السيد البدوي.

6 - بحث في تاريخ السيد البدوي. وبهذه المناسبة نريد أن نسأل المؤرخين العارفين عن تاريخ "السيد أحمد البدوي" الذي يقول بعضهم بوجوده وينكره بعضهم وأعني بهذا أنه هل وجد شخص حقيقي بهذا الاسم هو المدفون في طنطا والذي نسب إليه المسجد. لأن الذين كتبوا في ترجمة حياته إنما هم المتأخرون ويزعمون أنه توفي في منتصف القرن السابع الهجري -أي بين سنتي 600 و750 هجرية -لأني لم أحد من ذكره من المؤرخين السابقين الذين يوثق بنقلهم إلا جلال الدين السيوطي الحافظ -رحمه الله- وهو من رجال أواخر القرن الثامن لأنه مات سنة 911 هجرية وبين التاريخين بون شاسع، ولم يذكر السيوطي عمن تلقى خبر تاريخه. والقاعدة الصحيحة عند علماء النقل وزعمائه -وهم حفاظ الحديث- أن المرسل لا تقوم به الحجة وهو ما يرويه شخص عمن لم يدركه ولم يتلق عنه مباشرة لما فيه من جهالة الواسطة فلعله غير ثقة. وهذا أمر معروف. ولعل من يجيبنا عن هذا السؤال يذكر من أين نقل والكتاب الذي نقل منه، على أنا لا نريد إلا التحقق من هذا الأمر. ونسأل الله العون والتوفيق. * ... * ... *

7 - مقاطعة الملحدين

7 - مقاطعة الملحدين (¬1) بث الملحدون دعوتهم بين كثير من الناس فأفسدوا كثيراً من عقائدهم ولمسنا خطرهم على الإسلام بأيدينا ورأيناه بأعيننا ثم رأوا من المسلمين الصادقين التواكل والسكون فراشوا سهامهم وأعدوا عدتهم وهاجمونا من كل جانب والمبشرون من ورائهم يؤيدونهم بأموالهم وصحفهم اتباعا لخطة اختطوها بعد التجارب وقد علموا أن تنصير المسلم دون خرط القتاد فاكتفوا الآن -مؤقتاً- بالعمل على تنفيرهم من الإسلام وتحقيره في أعينهم وانتزاع عقائده من صدورهم. وآية ذلك أن تجد هؤلاء المجددين لا يطعنون إلا في دين الإسلام وإن تظاهروا بمحاربة كل الأديان. وقد قامت حركة مباركة بين المخلصين المجاهدين في سبيل الله بالكتابة ضد كل من تحدثه نفسه بالعدوان على الدين الحق، ولكن الكتابة في نظري غير كافية والمناظرة لا تجدي إلا قليلا. وإنما الجهاد عمل. ولا يجوز لنا أن نعتمد في كل أمورنا -بل في أمر هو حياة الإسلام -على الحكومة، وما هي بمجيبة لنا دعوة، ولا بسامعة لصوتنا صدى. والإسلام يكره العنف والهوج، ولكنه بجانب هذا يحتقر الجبن والذل ويرفض من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض. ويقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ¬

_ (¬1) الفتح العدد (رقم 194).

أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4] فكرت في هذا كثيرا فما وجدت من طرق الجهاد السلمي الهادئ أجدى علينا من مقاطعة الملحدين. لا أقصد بهذا أن لا نكلمهم فقط فذا أمر هين، ولكني أريد أن نقاطعهم في كل شيء. لا نأكل طعامهم ولا نضيفهم ولا نبايعهم ولا نصاهرهم ونقطع كل صلة بأي فرد منهم، ونعلمهم بحكم الله تعالى بأنهم خرجوا من الإسلام وحاربوه فلا صلة بينهم وبين المسلمين. إذا مات أحدهم لا يرثه وارثه المسلم، وإذا مات قريب لهم لا يرثونه، وإذا علمت المرأة أن زوجها منهم وجب عليها أن تفارقه فإن نكاح الكافر للمسلمة نكاح باطل ومعاشرتها له حرام. إذا كان للرجل ولد منهم حرم عليه إبقاؤه معه تحت سقف واحد ووجب عليه إخراجه وأن لا ينفق عليه، وكل ما بعطيه فإنما ينفقه في إعانة من يحارب دينه وهو عليه حرام. وقد أعجبني من هذا النوع كلمة لأستاذنا السيد رشيد رضا للآنسة التي أيدت الأستاذ محمود عزمي في وجوب مساواة المرأة بالرجل فإنه قال لها (في عدد رمضان سنة 1348هـ من مجلة المنار الغراء): "يجب أن تعلم هذه الفتاة هي وأهلها أنها إذا كانت تعتقد ما يعتقده عزمي في هذه

المساواة وتنكر حقيقة ما قرره الإسلام وحسنه فهي مرتدة لا يجوز لمسلم أن يتزوجها ولا ترث المسلمين ولا يرثونها". وهكذا يجب أن نفعل كل من أبدى للإسلام صفحته؛ صدعنا بأمر الله وصارحناه بحكم الإسلام فيه، وعاملناه بما تأمرنا به الشريعة في كل أموره. هذه فكرة كانت تجول بخاطري من زمن بعيد وكلما هممت بكتابتها تريثت حتى تنضج، وأنا أعرضها الآن على إخواني المؤمنين فما قولهم؟ * ... * ... *

8 - الكشف الطبي على راغبي الزواج

8 - الكشف الطبي على راغبي الزواج (¬1) في الأسبوع الماضي أبى مجلس النواب أن يوافق على مشروع هذا القانون الذي قدمه صديقنا النائب المحترم الدكتور عبد الرحمن عوض. وبالرغم من احترامنا الكثير لحضرة الناب واعتقادنا إخلاصه في اقتراح هذا المشروع وفي أنه يرجو -وهو نقي الضمير- أن يحارب الأمراض السرية المهلكة التي أضاعت على كثير من الشبان حياتهم وسعادتهم-: بالرغم من كل هذا نحبذ قرار المجلس الموقر ونرى أنه قرار حكيم. إن محاربة الأمراض السرية لا تكون بزيادة القيود التي قيد بها الزواج ويكفي ما أرهق به الناس منها -إلى إعراض أكثر الشبان النافعين، وهم زهرة الأمة عن الزواج. حاربوا الأمراض السرية إن شئتم بإلغاء البغاء المعلن والخفي، حاربوها بمنع الخمور وبإقفال دور الفسق. حاربوها بمنع الصور المتهتكة المخجلة التي تسمونها الصور الفنية. حاربوها بمنع ما ترون كل يوم في دور التمثيل والملاهي، وقد أضاعت على فتيانكم وفتياتكم رونق الشباب وجدته. حاربوها بإيجاب الزواج على كل من أطاقه من الرجال والنساء، وبمنع التغالي في المهور والجهاز والأفراح. ¬

_ (¬1) الفتح العدد (رقم 192) الصادر يوم الخميس 26 شوال سنة 1348 - 27 مارس 1930م.

حاربوها بإعانة الأسر البائسة والأرامل واليتيمات، ممن يعانين شظف العيش ويجاهدون في سبيل الحياة حتى يدفعن الفقر المدقع إلى التفريط في الأعراض. حاربوها بإقامة حدود الله لا تخافون لومة لائم. أنا أعلم أن اقتراح إقامة الحدود في هذا البلد في هذا العصر يقابل بالسخرية والاستهزاء من فريق كبير من المسلمين -وأنا آسف- وآخرون منهم يرونه شيئاً فات ويشفقون على من يطالب به خشية أن يكون مسّ!! هذا كله أعرفه وأشعر به ولكني أفهم أني أخطاب قوماً مسلمين. أيها الناس: إن الله تعالى يقول في كتابه، وهو القانون الأول والدستور الأعظم الذي لا يجوز لمؤمن أن يخرج على شيء من أحكامه. (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النور: 2]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". أيها المسلمون: طغت عليكم سيول المدنية الكاذبة فأنستكم دينكم واقتلعت من قلوب كثير منكم حبه واحترامه والغيرة عليه حتى صرتم

تنكرون على من يدعوكم إليه ثم تحاربونه جهاراً. ولا والله لا فلاح لكم حتى تراجعوه وتهتدوا بهديه. سيقول كثير منكم: أنعود إلى أحكام العصور الوسطى؟ ونعم يا سيدي؛ إن القرون الوسطى كانت على أوربا ظلماً وظلاماً وضلالة، ولكنها كانت على المسلمين عدلاً ونوراً وهدى. أيها الناس: إن الله أرحم بعباده من رحمة الأم بطفلها وأعلم بما يصلحهم في دينهم ودنياهم وقد حد لهم هذه الحدود -وهو عالم الغيب والشهادة- هداية لهم وزجراً، يداوي بها أمراضهم العصية. وهأنتم قد رأيتم عاقبة تركها، وسيستعصي عليكم الداء حتى تلجأوا إلى الدواء. أين المجددون؟! ها هي أمة من الأمم تريد أن تعود القهقري فهلا أخذتم بيدها فأنقذتموها من (الرجعية)؟! أما قرأتم في البرقيات الخصوصية في مقطم الثلاثاء 18 مارس سنة 1930م: (وافق مجلس النواب الإيطالي على مشروع القانون القاضي بإدخال التعليم الديني في المدارس العالية -نعم! المدارس العالية- طبقا لما جاء في المعاهدة بين الحكومة الإيطالية والفاتيكان وقد بنى موافقته على أن الأمة لا تستطيع أن تبلغ درجة رفيعة من الرقي بغير التربية الدينية). أين أقلامكم الماضية وأسلحتكم المرهفة في محاربة الأديان وفي منع

تعليمها!! هذا مجال لكم واسع تجولون فيه فإن فزتم نلتم أعظم فخر بهداية أمة أوربية وإنقاذها من ظلمات الرجعية!. أؤكد لكم أيها المصلحون أن أحدكم سيغص بريقه ألف مرة قبل أن ينطق لسانه بكلمة أو يخط بقلمه حرفاً. وما بكم من عجز أو عيّ، ولكنكم لا تحاربون من الأديان إلا دين الإسلام. * ... * ... *

9 - تعليم الدين في المدارس

9 - تعليم الدين في المدارس (¬1) فكرت كثيراً في أن أجد وجهاً معقولاً، أو سبباً مقنعاً يمنع من تعليم الدين في المدارس -من كل نوع- فما اهتديت لشيء. الأمة بحمد الله مسلمة وحكومتها تعلن أنه دينها الرسمي هو دين الإسلام وبجانب هذا يخرجون ناشئتها تجهل دينها ثم لا يزال بها الجهل حتى تعاديه -وقديما قالوا: "من جهل شيئا عاداه" وصدقوا -لا تجد الآن في المدارس كلمة في تعليم الدين وتهذيب النفوس، حتى المدارس الإبتدائية، وطلبتها أطفال، ليس فيها من ذلك إلا قشور إن لم تضر لم تنفع ثم جعلوا درس الدين في آخر اليوم بعد أن يسأم الطفل ويمل، وجعلوه علما إضافيا -لا امتحان فيه- فأهمله المدرسون وكثير منهم يشغل هذا الوقت الضئيل بتقوية الطلاب في العلم الذي يمتحنون فيه ويسأل عنه إذا ساءت نتيجة الامتحان. هذه حقائق يعلمها كل من له أولاد في المدارس ويشعر بآثارها السيئة في نفوس الطلاب وأخلاقهم وآدابهم. وبعد كل هذا يدخل الطالب المدارس الثانوية فينسى المسكين الكلمات القليلة التي حفظها في المدرسة الأولى ولم ترسخ في عقله ولم تتشربها نفسه، فما يكاد يشبّ حتى تتناوله أيدي الشياطين من إخوانه وغيرهم فإذا به مهيأ للإلحاد. ¬

_ (¬1) الفتح العدد (رقم 193) الصادر يوم الخميس 4 ذي القعدة سنة 1348 - 3 أبريل 1930.

ثم لا يدخل المدارس العالية -قل: الجامعة- حتى يكون من أساطين الملحدين المجددين، فدينه محقر في نظره السامي! وأهله جامدون، ومعلموه المتمسكون بدينهم رجعيون، وهو وحده النابغ. ولن أسترسل في وصف ما صرنا إليه من هذه الحال، فإنه معروف لكل من يخالطهم ويسمع آراءهم ويحضر محاضراتهم. هذا هو الأكثر الأغلب إلا من هدى الله. إثم كل هذه السيئات في عنق من يستطيع المدواة ثم لا يفعل. أرادوا أن يعلموا الأمة ويهذبوها فانقلبت عليهم أغراضهم. وجدوا أمامهم الأزهر يعلم الناس، وكان إذا ذاك قائماً وحده بالتعليم، وكان ما فيه من علوم لا يكفي لما يناسب العصر الحاضر، وكان الطريق الصحيح للرقي أن يدخلوا عليه ما شاءوا من التهذيب والإصلاح، ولكنهم لم يفعلوا، فتركوه جانبا وأنشأوا بجواره أنواعا من المدارس، ثم جاءوا إلى العلوم التي اختص بها، وهي الشرائع والعلوم اللغوية، فعملوا لها مدرستين، وزادوا أخيرا ثالثة، هي "قسم الآداب بالجامعة" حتى يتم القضاء عليه فلا تقوم له قائمة، وما أدري هل عمدوا أو أخطأوا؟ إنما نرى النتائج والآثار، وعلم النيات عند الله. الأمة تريد العلم والتهذيب وتحرص على دينها، ولكن بجانب هذا يريد الإنسان الحياة، يريد أن يطرق سبل الكسب، يريد أن ينال حظه من نعيم الدنيا، وهذه المدارس قد احتكرت كل الفنون التي تنفع في اكتساب

10 - الجامعة المصرية.

الرزق فأقبل الناس على زج أبنائهم فيها وتكالبوا عليها، وليس في مقدورهم الإعراض عنها. وقد حببت إليهم العاجلة. وإن كثيراً من الآباء ليبكون الدم أسفا على ما وصل إليه أولادهم من استهزاء بالدين وإعراض عنه وما فعلت بهم آراء الإباحية التي بُثت فيهم وامتزجت بأرواحهم. وها قد صارت الأمة في خطر شديد من هذه الخطط التي وضعت فكادت تقضي على عقائد شبانها وأخلاقهم وتهذيبهم فهل نجد في رجالها وكبرائها من يغيثها ويحفظ عليها ما بقي من فضائل. إن عاطفة تقليد الأجانب استولت على أكثر الأفئدة واستهوتهم وقد قرر مجلس النواب الإيطالي بالأمس وجوب تعليم الدين في المدارس الإيطالية، فقلدوهم أيها الناس في هذه الحسنة كما قلدتم كل أمة في سيئاتها!!. 10 - الجامعة المصرية. يظهر أن الجامعة المصرية لا تريد أن تقف عند حد في بث الدعوات الإلحادية ولا تكتفي بما يفعل بعض أساتذتها ومعلميها في نفوس الطلاب. فقد رتبوا مناظرة في قاعة المحاضرات لا بأس بها في موضوعها لو لزم المتناظرون حدود ما يتكلمون فيه، وموضوعها (هل حققت المدنية كل أحلام الإنسانية) وهو موضوع بديع يجد القائل فيه مجالا واسعاً للقول فيما يرى من حسنات وسيئات. ولكن هل من الضروري في نظر أي

عاقل أن يقحم الجملة الآتية في مناظرته. "إن في أديان الهمج شروراً فهو (كذا) يعتقد بالشياطين والعفاريت" تقال هذه الكلمة في وسط أمة دينها الإسلام ومن الأشياء المعروفة فيه المنصوصة صريحاً في القرآن والسنة وجود الشياطين والعفاريت- وإن لم يكن كما يتصوره بعض العوام- وهي من الأشياء الغائبة عنا وكلفنا الإيمان إذ أمرنا بتصديق القرآن وبتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وما كان من شأن المؤمن أن يكذب بكل ما لم يره؛ والله تعالى يصف المؤمنين في أول كتابه بأنهم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). ثم إن كان لحضرة المناظر عقيدة في هذه الأشياء تخالف عقيدة المسلمين فهل من حسن الذوق أن يرمى دينهم بالهمجية في بلدهم في وجوههم وإن كان هو منهم بالاسم؟! ما نظن أن هذا القسم من الجامعة أنشئ إلا لهذا ولله الأمر من قبل ومن بعد. * ... * ... *

23 - الإيمان بالغيب

23 - الإيمان بالغيب حدثنا يزيد، أخبرنا حماد بن سلمة -وعفان، حدثنا حماد -أخبرنا علي بن زيد، عن أوس بن خالد، عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "تخرج الدابة ومعها عصا موسى عليه السلام، وخاتم سليمان عليه السلام، فتخطم الكافر قال عفان: أنف الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، حتى إن أهل الخوان ليجتمعون على خوانهم، فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر". قال الشيخ (¬1): وهذا الحديث بيان للدآبة المشار إليها في قوله تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ) الآية:82 من سورة النمل. والآية صريحة بالقول العربي أنها "دآبة" ومعنى "الدآبة" في لغة العرب معروف واضح، لا يحتاج إلى تأويل. وقد بين هذا الحديث بعض فعلها، ووردت أحاديث كثيرة في الصحاح وغيرها بخروج هذه الدآبة [المذكورة في] (¬2) الآية، وأنها تخرج ¬

_ (¬1) المسند (15/ 82/ رقم 7924). (¬2) زيادة يقتضيها السياق، إلا إذا كان يقصد بالآية العلامة، أي أنها من علامات يوم القيامة.

آخر الزمان. ووردت آثار أخر في صفتها، لم تنسب إلى رسول الله، المبلّغ عن ربه، والمبين آيات كتابه. فلا علينا أن ندعها. فانظر -مثلا- تفسير ابن كثير (6: 305 - 310). ولكن بعض أهل عصرنا، من المنتسبين للإسلام، الذين فشا فيهم المنكر من القول، والباطل من الرأي، الذين لا يريدون أن يؤمنوا بالغيب، ولا يريدون إلا أن يقفوا عند حدود المادة، التي رسمها لهم معلموهم وقدوتهم من ملحدي أوربة الوثنيين الإباحيين، المتحللين من كل خُلُق ودين -هؤلاء لا يستطيعون أن يؤمنوا بما نؤمن به، ولا يستطيعون أن ينكروا إنكارا صريحاً، فيجتمعون، ويحاورون ويداورون، ثم يتأولون. فيخرجون بالكلام عن معناه الوضعي الصحيح في لغة العرب، يجعلونه أشبه بالرموز، لما وقر في أنفسهم من الإنكار الذي يبطنون! بل إن بعضهم لينقل التأويل عن رجل هندي معروف أنه من طائفة تنتسب للإسلام وهي له عدو مبين، وعبيد لأعدائه المستعمرين!! فانظر إليهم أنى يتردَّوْن ويصرفون؟ وأي نار يتقحمون؟ ذلك بأنهم بآيات الله لا يوقنون. * ... * ... *

24 - من هم أهل الكتاب؟

24 - من هم أهل الكتاب؟ قال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة: 5]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... فدل بمفهومه -مفهوم المخالفة- على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل ... ". قال الشيخ (¬2): "هذا كله في طعام أهل الكتاب، إذا كانوا أهل كتاب أما المنتسبون الآن للنصرانية واليهودية في أوربا وأمريكا وغيرهما -فنحن نقطع أنهم ليسوا أهل كتاب، لأنهم كفروا بأديانهم، وإن اصطنع بعضهم رسومها الظاهرة فقط، فأكثرهم ملحدون لا يؤمنون بالله ولا بالأنبياء، وكتبهم ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (2/ 21). (¬2) عمدة التفاسير (4/ 86).

وأخبارهم بين أيدينا، فهم قد خرجوا على كل دين، ودانوا بالإباحية والتحلل في الأخلاق والأعراض، فلا يجوز نكاح نسائهم لفقدانهم صفة "أهل الكتاب" على الحقيقة، ولا يجوز أكل طعامهم، لذلك، ولأن الثابت أنهم لا يذبحون في بلادهم قط، بل يرون الذبح الشرعي المعروف تعذيباً للحيوان -أخزاهم الله- ويقتلون الحيوان بطرق أخرى، يزعمون أنها أرفق بالحيوان فكل اللحوم عندهم ميتة، لا يجو لمسلم أن يأكل منها. * ... * ... *

25 - المراد بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب

25 - المراد بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) [المائدة: 5]، فقيل أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد: المحصنات الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد الأخرى عنه، وهو قول الجمهور ههنا، وهو الأشبه، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذميّة وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: "حَشَفا وسوء كيلة"، والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنا ... ". قال الشيخ (¬2): "وأكثر النساء من تيك الأمم التي تنتسب لليهودية والمسيحية -ليس فيهن عفيفات، بل قد صرن لا يعرفن البكارة ولا يحرصن عليها. يعاشرن الأخدان دون حياء، ولا حرص على عرض، أبحن من أنفسهم لأخدانهن وأحبابهن كل شيء، لا تتزوج امرأة منهم رجلاً إلا بعد أن تعرفه معرفة ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (2/ 21). (¬2) عمدة التفسير (4/ 87 - 88).

تامة، ومعرفة داخلية في كل شيء، وبعد أن تكون تقلبت بين أيدي الرجال. إلا النادر الذي لا يؤبه له، ولا حكم له. وأقبح من هذا وأسوأ أثراً: أن هذه الحال المنكرة فشت في الأمم المنتسبة للإسلام، خاصة في الطبقات المتعلمة، التي تصطنع تقليد الإفرنج، والتي ترى أن الرقي والمدنية لا يكونان إلا في التهتك والإباحية، والرقص والفجور وشرب الخمر والقمار -إلى ما يبث فيهن معلموهن من الإلحاد وإنكار الأديان، والكفر بالله وبالأنبياء، ومن السخرية بالدين والمستمسكين به، وإلى ما تذيعه المجلات الماجنة الداعرة من الدعوة إلى الاختلاط، والحرص على ما يسمونه "حقوق المرأة" و"مساواتها بالرجل"، بل زادوا فجوراً ونكراً فسموا "العفة" التي أمر الله بها في كل دين "كبتاً". وصارت الدعوة سافرة إلى تخفيف هذا "الكبت" عن الشبان من الجنسين بل صارت الدعوة علانية إلى البغاء، لا يستحي الداعون إليه! بل يريدون "تنظيم البغاء"، حتى لا يضار الشبان من "الكبت"!! فهؤلاء ملعونون في كل دين، وعلى لسان كل نبي. وقد صرنا نأسف أن نرى أكثر عقود الزواج بين هذه الطبقات باطلة شرعاً، بحكم الكفر الذي اختاروه لأنفسهم. وصارت الأنساب في هذه الطبقات مدخولة، بحكم الفجور من ناحية، حين يكون الفجور، وبحكم الردة والكفر من كل النواحي فيهم: فالملحد -وهو كافر مرتد -زواجه بمثله من النساء زواج باطل، لا ينتج عنه نسل شرعي ثابت النسب، وزواجه بالمسلمة الحقيقية أشد بطلاناً.

والمسلم الحقيقي زواجه بالملحدة المرتدة باطل، لا ينتج عنه نسل شرعي ثابت النسب، وهكذا الحكم فيما إذا كان الزوجان مسلمين عند عقد الزواج، ثم تردى أحدهما أو كلاهما في حمأة الردة والإلحاد والكفر. فلينظر المسلمون لأنفسهم، وليروا أين يذهب بهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون. * ... * ... *

26 - النصارى لا يزالون في شقاق وخلاف وبغضاء

26 - النصارى لا يزالون في شقاق وخلاف وبغضاء قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [المائدة: 14]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... أي: فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضاً، ولا يزالون كذلك إلى فيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم، لا يزالون متباغضين متعاونين، يكفّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية. والأريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم القيامة يقوم الأشهاد ... ". قال الشيخ (¬2): "وقد حقق الله وحده، وسيحققه عليهم إلى يوم القيامة، وقوله الصدق، ووعده الحق. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (2/ 34). (¬2) عمدة التفسير (4/ 111).

ولذلك ترى هذه الأمم الفاجرة الضالة، الذين ينتسبون إلى المسيح عليه السلام -زوراً وبهتاناً، أولئك يزعمون أنهم نصارى -لا يزالون في شقاق وخلاف، وعداوة بينهم، وحروب مدمرة، وألوان من العدوان فاقت عدوان الوحوش الكاسرة. وقد حقّت عليهم كلمة العذاب، إلى يوم القيامة، إن شاء الله. * ... * ... *

27 - عاقبة قوم لوط

27 - عاقبة قوم لوط قال الله تعالى: (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ، وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ، فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف: 80 - 84]. قال الشيخ (¬1): "وقد شاعت هذه الفاحشة القذرة، في كثير من البلاد، وأكثر ما شاعت في الأمة الإنجليزية الملعونة، حتى صارت عندهم شيئاً هيناً لا يعبأ به، بل شيئاً لا ينكر؛ وزاد الأمر أن كثيراً من قساوستهم -لعنهم الله- أعلنوا أن ليس في هذا العمل المنكر جريمة، إذا ما كان بالتراضي! فكانوا خزياً لدينهم ولأمتهم. ونحن نبشر تلك الأمة الفاجرة القذرة الطاغية بأن ستكون عاقبتهم كمثل عاقبة قوم لوط، يدمر الله عليهم، بما اجترؤا على هذا المنكر، ثم على ذيوعه، ثم على التصريح بإباحته، أخزاهم الله وأراح العالم من شرورهم وطغيانهم". * ... * ... * ¬

_ (¬1) عمدة التفسير (5/ 197).

28 - المتبعون لأهواء سادتهم من المبشرين

28 - المتبعون لأهواء سادتهم من المبشرين قال الحافظ ابن كثير في مقدمة التفسير (¬1): " ... أما إذا أجمعوا (¬2) على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على قول بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك، فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام ... والله أعلم". قال الشيخ (¬3): "أما في عصرنا، فقد نابت نوائب، ونبتت نوابت، ممن استعبدوا لآراء المبشرين وأهوائهم. وممن جهلوا لغة العرب إلا كلام العامة وأشباههم، وجهلوا القرآن فلم يقرؤه، ولا يكادون يسمعونه إلا قليلا، وجهلوا السنة، بل كانوا من أعدائها. وممن سخروا من علم علماء الإسلام، وسفهت أحلامهم، ومردت ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (1/ 6). (¬2) أي التابعون كما ذكره هو في أول الكلام. (¬3) عمدة التفاسير (1/ 46).

ألسنتهم على قولة السوء في سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. بل لا يؤمنون بالغيب إلا قليلا. هؤلاء وأشباههم وأمثالهم، اجترؤا على العبث بالقرآن، واللعب بالسنة، فعرضوا لتفسير القرآن، وزعموا لأنفسهم الاجتهاد الجاهل، يفتون الناس ويعلمونهم اللعب والعبث، وينزعون من قلوبهم الإيمان. لا أقول: إن هؤلاء وأولئك يفسرون القرآن بأهوائهم، فإنهم أضعف من أن تكون لهم أهواء وأشد جهلاً. بل بأهواء سادتهم ومعلميهم من المبشرين والمستعمرين أعداء الإسلام. * ... * ... *

29 - بطلان نظرية داروين وأتباعه

29 - بطلان نظرية داروين وأتباعه (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 31]. قال الشيخ (¬1): آيات القرآن الصريحة المتكاثرة، والأحاديث الصحيحة المتواترة -كلها قاطعة الدلالة على أن الله خلق آدم على صورته وهيئته التي توارثها عنه أبناؤه إلى اليوم، والتي يتوارثها من سيكون من نسله إلى قيام الساعة. أدلة صريحة، لا تحتمل تأويلا، ولا تقبل جدلا في دلالتها، بما تدل به الألفاظ على المعاني. فمن عجب أن يأتي من ينتسبون إلى الإسلام، ويتسمون بأسماء المسلمين، فيقبلوا نظرية التطور الإفرنجية، التي يقول دروين وأتباعه وأشباهه، يقبلونها ويسلمون بها، ويؤمنون إيمانهم بالقطعي من الدين، بل أشد وأوثق. ثم يتأولون الدلائل القطعية الثبوت والدلالة، من الكتاب والسنة، فيحرفونها عن مواضعها، كما فعل اليهود في دينهم من قبل. ثم لا يستحون أن ينكروا الأحاديث المتواترة المعنى في ذلك. ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير (1/ 130).

ثم يدور كلامهم وأدبهم وعلومهم على حساب هذه النظرية التي لم تثبت قط، والتي لا تقوم أمام النقد، والتي تتهافت تهافتا شديداً. ثم يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون، ويسمون أنفسهم علماء وهم مقلدون! تعالى الله عما يفترون. * ... * ... *

30 - تزيين الشيطان لآدم عليه الصلاة والسلام

30 - تزيين الشيطان لآدم عليه الصلاة والسلام (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [البقرة:36]. قال الشيخ (¬1): وقد دأب الكتاب والأدباء في عصرنا هذا على فرية أن آدم عليه السلام خدعته حواء حتى أكل من الشجرة!! يصطنعون قول الكاذبين المفترين من أهل الكتاب، بما حرفوا وكذبوا. ثم اجترؤا واجترأت الصحف الماجنة والمجلات الداعرة، على السخرية بآدم وحواء، وتصويرهما في صور قبيحة منكرة، جرأة منهم على الدين، واستهزاء بأول النبيين، وما كان لمسلم أن يفعل هذا أو يقوله. أعاذنا الله مما يقولون ويصنعون. * ... * ... * ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير (1/ 136).

31 - الذكر والابتهالات الدينية

31 - الذكر والابتهالات الدينية (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الحسن بن الصباح أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا عمارة الصيدلاني أخبرنا مكحول الأزدي قال: قلت لابن عمر أرأيت قاتل النفس، وشارب الخمر، والسارق والزاني -يذكر الله، وقد قال الله تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ). قال: إذا ذكر الله هذا، ذكره الله بلعنته حتى يسكت". قال الشيخ (¬2): وهذا الذي قال ابن عمر حق، ينطبق تماما على ما يصنع أهل الفسق والمجون في عصرنا، من ذكر الله -سبحانه وتعالى- في مواطن فسقهم وفجورهم، وفي الأغاني الداعرة، والتمثيل الفاجر الذي يزعمونه تربية وتعليماً، وفي قصصهم المفترى، الذي يجعلونه أنه هو الأدب وحده أو يكادون، وفي تلاعبهم بالدين، بما يسمونه "القصائد الدينية" و"الابتهالات" التي يتلاعب بها الجاهلون من القراء، يتغنون بها في مواطن ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 197). (¬2) عمدة التفاسير (1/ 272).

الخشوع وأوقات التخلي للعبادة، حتى لبّسوا على عامة الناس شعائر الإسلام. فكل أولئك يذكرون الله فيذكرهم الله بلعنته حتى يسكتوا. * ... * ... *

32 - لا وصية لوارث

32 - لا وصية لوارث (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 180]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع بل منهي عنه للحدي المتقدم: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". قال الشيخ (¬2): حديث "لا وصية لوارث". صحيح بالأسانيد التي أشرنا إليها آنفا، لا شك في صحته. وإن تكلم بعض أهل العلم في بعض أسانيده، فإن هذه الأسانيد يشد بعضها بعضا، لا يشك في ذلك من شذا شيئا من العلم بالحديث والأسانيد. والإمام الشافعي لم يصل إليه بإسناد صحيح متصل، وإن كان قد ثبت عند غيره، ولكنه أثبته بطريق أقوى من الأسانيد المفاريد، فقال في ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 212). (¬2) عمدة التفاسير (2/ 18).

كتاب (الرسالة): 398 - 401، بتحقيقنا: "ووجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا من أهل العلم بالمغازي، من قريش وغيرهم -لا يختلفون في أن النبي قال عام الفتح: "لا وصية لوارث، ولا يقتل مؤمن بكافر"، ويأثرونه عمن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي، فكان هذا نقل عامة من عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد. وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين. وروي بعض الشاميين حديثا ليس مما يثبته أهل الحديث، فيه: أن بعض رجاله مجهولون. فرويناه عن النبي منقطعا. وإنما قبلناه بما وصفتُ من نقل أهل المغازي وإجماع العامة عليه -وإن كنا قد ذكرناه الحديث فيه- واعتمدنا على حديث أهل المغازي عاما وإجماع الناس". فالشافعي جزم بتواتر الحديث، وبالإجماع على حكمه. وهو كما قال، -رحمه الله-: وأما أهل عصرنا، المتبعون للأهواء، الأجرياء على الدين وعلى الشريعة -فقد اصطنعوا قانوناً أجازوا فيه الوصية للوارث، خروجا على الشريعة، يحادّون الله ورسوله. اصطنعه لهم رجال ينتسبون إلى العلم، يلتمسون رضى عامة الناس عنهم، لا يبالون أنى يصدرون وأنى يردون. وحسابهم عند ربهم ... * ... * ... *

33 - لا نكاح إلا بولي

33 - لا نكاح إلا بولي (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ...) [البقرة:232]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): "عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع ابن لكع، أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك، قال فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ .. إلى قوله .. وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك. زاد ابن مروديه: "وكفّرت عن يميني" ¬

(¬1) التفسير (1/ 283).

قال الشيخ (¬1): وزيادة ابن مردويه، روي البيهقي معناها، في روايته7: 104 - "فكفرت عن يميني فأنكحتها". والحديث رواه البخاري أيضا مطولا ومختصرا 8: 143، 9: 160 - 161. وذكره الحافظ ابن كثير هنا من الرواية المختصرة مع الإشارة لإسناديه، ثم ذكر أنه رواه "أبو داود وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير". وقال الترمذي -بعد روايته: "وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي. لأن أخت معقل بن يسار كانت ثيباً، فلو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل بن يسار. وإنما خاطب الله في هذه الآية الأولياء، فقال: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن". ففي هذه الآية دلالة على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهن". وقال الطبري 5: 26 - 27 (من طبعتنا): "وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي من العصبة. وذلك أن الله تعالى ذكره منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها -لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها. وذلك أنها كانت متى ¬

(¬1) عمدة التفاسير (2/ 123).

أرادت النكاح جاز لها إنكاح نفسها، أو إنكاح من توكله بإنكاحها -فلا عضل هنالك لها من أحد فينهى عاضلها عن عضلها". وهذا الذي قاله الترمذي وابن جرير -بديهي واضح من معنى الآية وفقهها. لا يخالف في ذلك إلا جاهل، أو ذو هوى وعصبية جامحة. ثم الذي يشك فيه أحد من أهل العلم بالحديث -أن حديث "لا نكاح إلا بولي": حديث صحيح، ثابت بأسانيد تكاد تبلغ مبلغ التواتر المعنوي الموجب للقطع بمعناه. وهو قول الكافة من أهل العلم، الذي يؤيده الفقه في القرآن، ولم يخالف في ذلك -فيما نعلم- إلا فقهاء الحنفية ومن تابعهم وقلدهم. وقد كان لمتقدميهم بعض العذر، لعله لم يصل إليهم إذ ذاك بإسناد صحيح. أما متأخروهم، فقد ركبوا رؤسهم وجرفتهم العصبية، فذهبوا يذهبون كل مذهب في تضعيف الروايات أو تأويلها. دون حاجة أو دون إنصاف. وها نحن أولاء - في كثير من بلاد الإسلام، التي أخذت بمذهب الحنفية في هذه المسألة -نرى آثار تدمير ما أخذوا به للأخلاق والآداب والأعراض، مما جعل أكثر أنكحة النساء اللاتي ينكحن دون أوليائهن، أو على الرغم منهم- أنكحة باطلة شرعاً، تضيع معها الأنساب الصحيحة. وأنا أهيب بعلماء الإسلام وزعمائه، في كل بلد وكل قطر، أن يعيدوا النظر في هذه المسألة الخطيرة. وأن يرجعوا إلى ما أمر الله به ورسوله، من شرط الولي المرشد في النكاح، حتى نتفادى كثيرا من الأخطار الخلقية

والأدبية، التي يتعرض لها النساء، بجهلهن وتهورهن، وباصطناعهن الحرية الكاذبة، وباتباعهن للأهواء. وخاصة الطبقة المنهارة منهن، طبقة المتعلمات- ما يملأ القلب أسفا وحزنا. هدانا الله لشرعة الإسلام، ووقاء سوء المنقلب. * ... * ... *

34 - فتح القسطنطينية

34 - فتح القسطنطينية (إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ...) [آل عمران: 55]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... فلهذا لما كانوا (¬2) هم المؤمنين بالمسيح حقاً سلبوا النصارى بلاد الشام، وألجؤهم إلى الروم، فلجؤا إلى مدينتهم القسطنطينية ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أمته بأن آخرهم سيتفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً لم ير الناس مثلها، ولا يرون بعدها نظيرها .. " قال الشيخ (¬3): فتح القسطنطينية المبشر به في الحديث -سيكون في مستقبل قريب أو بعيد، يعلمه الله عز وجل. وهو الفتح الصحيح لها، حين يعود المسلمون ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 368). (¬2) أي الصحابة، كما ذكر هو في أول كلامه. (¬3) عمدة التفاسير (2/ 256).

إلى دينهم الذي عرضوا عنه. وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا فإنه كان تمهيدا للفتح الأعظم. ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين، منذ أعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية. وعاهدت الكفار أعداء الإسلام، وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة. وسيعود الفتح الإسلامي لها، إن شاء الله، كما بشر به رسول الله. * ... * ... *

35 - أين الرجال!! أين الرجال ..

35 - أين الرجال!! أين الرجال .. (... وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ...) [آل عمران: 97]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته: "هذه ثم ظهور الحصر" -يعني ثم الزمن ظهور الحصر، ولا تخرجن من البيوت. قال الشيخ (¬2): فإذا كان هذا في النهي عن الحج بعد حجة الفريضة، على أن الحج من أعلى القربات عند الله -فما بالك بما يصنع النساء المنتسبات للإسلام في هذا العصر، من التنقل في البلاد، حتى ليخرجن سافرات عاصيات ماجنات إلى بلاد الكفر، وحدهن دون محرم، أو مع زوج أو محرم كأنه لا وجود له! فأين الرجال! أين الرجال؟!. * ... * ... * ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 386). (¬2) عمدة التفاسير (3/ 11).

36 - لا يجوز إطلاع أهل الذمة على أسرار المسلمين

36 - لا يجوز إطلاع أهل الذمة على أسرار المسلمين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118] قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان حدثنا عيسى بن يونس عن أبي حيان التيمي عن أبي الزنباع عن ابن أبي الدهقانة قال: "قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن ها هنا غلاما من أهل الخيرة، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبا، فقال: "قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين". ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم، التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب. ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 399).

قال الشيخ (¬1): وقد ابتلى المسلمون بهذا بلاء شديداً وشاع فيهم، ورأوا من خطره ما فيه عبرة لمن يعتبر. وأنى هذا؟ * ... * ... * ¬

_ (¬1) عمدة التفاسير (3/ 28).

37 - كروية الأرض

37 - كُروية الأرض (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): " ... أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر ... ". قال الشيخ (¬2): هذا أحد الدلائل على أن كروية الأرض كانت معروفة عند علماء الإسلام، قبل أن تخطر ببال الإفرنج ومن يشايعهم. ليخزي الله المستهترين بالطعن في علوم الإسلام وعلمائه. جهلا منه وتقليداً. * ... * ... * ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 405). (¬2) عمدة التفسير (3/ 39).

38 - طاعة الكفار = خسران مبين.

38 - طاعة الكفار = خسران مبين. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) [آل عمران: 149]. قال الحافظ ابن كثير (¬1): يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة. قال الشيخ (¬2): وقد وقع المسلمون في هذه العصور الأخيرة فيما نهاهم الله عنه من طاعة الذين كفروا. فأسلموا إلى الكفار عقولهم وألبابهم، وأسلموا إليهم -في بعض الأحيان- بلادهم، وصاروا في كثير من الأقطار رعية للكافرين من الحاكمين، وأتباعا لدول هي ألد الأعداء للإسلام والمسلمين، ووضعوا في أعناقهم ربقة الطاعة لهم، بما هو من حق الدولة من طاعة المحكوم للحاكم. بل قاتل ناس ينتسبون للإسلام من رعايا الدول العدوة للإسلام -إخوانهم المسلمين في دول كانت إسلامية إذ ذاك. ¬

_ (¬1) التفسير (1/ 412). (¬2) عمدة التفاسير (3/ 51).

ثم عم البلاد، فظهر حكام في كثير من البلاد الإسلامية يدينون بالطاعة للكفار -عقلا وروحا وعقيدة- واستذلوا الرعية من المسلمين وبثوا فيهم عداوة الإسلام بالتدريج، حتى كادوا يردوهم على أعقابهم خاسرين، وما أولئك بالمسلمين. فإنا لله وإنا إليه راجعون. * ... * ... *

39 - صحف الهلال والدعاية ضد الإسلام

39 - صحف الهلال والدعاية ضد الإسلام (¬1) صحف الهلال 1. نشرت صحيفة الفكاهة بعددها رقم 50 ما نصه: "تشاجر اثنان في الزنكلون، فسب أحدهما دين الآخر، وقدم هذا الأخير طلباً إلى المحكمة الشرعية بأن خصمه قد ارتد. فوافقت المحكمة، وأخرجته من الإسلام وفصلت بينه وبين زوجته". وهذا اعتداء من المحكمة الشرعية على اختصاص المحاكم الأهلية التي تنظر وتعاقب من يسب الدين، فأي عقاب تعاقب به الحقانية هذا القاضي الشرعي الذي لا يبالي بهدم عائلة ولو كان هذا العمل من غير اختصاصه". فلما قرأتها أرسلت لها كلمة أبين فيها خطأها في هذا النقد المستنكر، وطليت منها نشرها. وبعد أيام ورد لي خطاب خاص بأمضاء صاحبيها، ولم ينشرا مقالي، وهذا حقهما. فرأيت أن أنشر كلمتي والجواب عليها في جريدة (الفتح) ليرى الناس كيف يحترم ضيوفنا عادات هذه البلاد، ودينها الرسمي، وقضاءها الشرعي الذي هو أصل القضاء في هذا البلد. وها نص ¬

_ (¬1) مجلة الفتح العدد (رقم 72) الصادر يوم الخميس 30 جمادى الأولى سنة 1346 هـ -24 نوفمبر 1927م.

المقال والكتاب: حضرة صاحب الفكاهة: بعد السلام. قرأت في العدد 50 بتاريخ 9 نوفمبر سنة 1927م من الفكاهة تعرضاً لحكم زعمت الجرائد أنه صدر من محكمة شرعية بالتفريق بين رجل سب الدين وبين زوجه. وليس فيما كتبتم شيء من النقد القانوني أو الشرعي، وإنما هو اعتداء صرف على كرامة القضاء واستقلاله، وتعرض بالسخط لأحكام الشريعة الإسلامية في بلد أهله مسلمون ودينه الرسمي الإسلام. وقد لاحظت مراراً في صحفكم (الهلال، وكل شيء، والفكاهة) كتابات تمس الدين الإسلامي وتهزأ بعلماء الإسلام، ولاحظ هذا غيري كثير من الناس، وآلمنا أشد الألم لصدوره من جرائد مسيحية ليس لها أن تتعرض لدين الإسلام. وأظنكم لم تروا جريدة إسلامية في مصر تكلمت بكلمة تمس الدين المسيحي. نعم إن في بلدنا هذا كثيراً من الملحدين الذين تسموا بأسماء المسلمين، وهم يقولون كثيراً، ولكن الناس مهما سكتوا عن أقوالهم أو سفهوا آراءهم فإنهم لا يحتملون المساس بدينهم من غيرهم، هذا من جهة المبدأ في الكتابة. وأما من جهة الموضوع فإنه يظهر أن كاتب الكلمة في الفكاهة لا يعرف الشريعة الإسلامية، ولا القوانين الوضعية، ولا قواعد الاختصاص

في المحاكم، ولا يشعر في نفسه بعاطفة احترام القضاء ولو أخطأ. فالذي يسب الدين الإسلامي هو مرتد وخارج عن الإسلام ويجب التفريق بينه وبين زوجه في الشريعة، وإذا حكم القاضي الشرعي بذلك فإنه قد أدى ما وجب عليه ولم يتعد اختصاصه. والعقوبة المفروضة في قانون العقوبات شيء آخر. ولئن كان حكمه خطأ لسبب من الأسباب فسبيله أن يطعن المحكوم عليه بالطرق الرسمية من معارضة واستئناف وغيرهما. وحتى لو كان القاضي مخطئاً ومتعدياً على اختصاص غيره فليس للكاتب أي وجه في طلبه أن تعاقب الحقانية القاضي الذي حكم به، إلا إن كان القاضي متأثراً بأشياء خارجة عن موضوع القضية. والخطأ القضائي المبني على اجتهاد في الرأي لا عقوبة عليه. فالقاضي غير معصوم. وها هي المحاكم الشرعية والأهلية والمختلطة كثيراً ما يتعدى بعضها اختصاصه وما رأينا ولا سمعنا أن قاضيا من قضائها عوقب لشيء من ذلك. ولم نر جريدة من الجرائد كتبت كلمة تمس قاضياً أهلياً أو مختلطاً لخروجه عن دائرة اختصاصه. ويظهر أن هذا خاص عندكم بالمحاكم الشرعية لتنفيذها أحكام الشريعة الإسلامية. ثم إن هذه الواقعة التي رواها مكاتب الأهرام بالزنكلون لم نسمع بحصولها في دائرة مديرية الشرقية ولا ندري من أين أتى بها حضرته، وكنا نود من الصحافة الشريفة النابهة أن تتحرى الوقائع قبل نقدها

والتعليق عليها. وإني أرجو أن تنشروا كلمتي هذه بنصها في جريدتكم وأن تتقبلوا مني التحية؟ وهذا نص الجواب الذي جاءني صادراً من إدارة الهلال: حضرة الفاضل الأستاذ أحمد محمد شاكر تحية. واحتراما. وبعد فقد أخذت خطابكم وشكرت لكم عنايتكم. على أني قد أسفت لما تبادر إلى ذهنكم من أن مجلاتنا تنشر كتابات عن الدين الإسلامي وتهزأ بعلماء المسلمين. فهذا أبعد شيء عن خطتنا منذ إنشاء الهلال. على أننا مع رغبتنا الأكيدة في تجنب هذه الموضوعات لا يسعنا -ومجلاتنا تتناول الحوادث الجارية والمباحث الاجتماعية التي يتحدث عنها الناس -إلا أن نشير إلى ما يجري في هذا البلد. ولما كان معظم محرري مجلاتنا من المسلمين فهم بطبيعة الحال يبدون ما يعنّ لهم من الأفكار في هذه الشؤون كما يفعل الكتاب في جميع الجرائد والمجلات السيارة بصرف النظر عن دين أصحابها. وقد تكون أفكارهم مخالفة لأفكار فريق من رجال الدين فإرضاؤهم جميعا غير ميسور. وأنتم تعلمون أن مجال الشرح والتفسير واسع جداً يختلف فيه العلماء أنفسهم اختلافاً كبيراً.

وهذا وأننا نكرر لكم الشكر على ما أبديتم من الملاحظات كما نكرر ونقرر بعدنا عن كل غرض ورغبتنا الأكيدة في تجنب كل ما يمس الدين أو رجال الدين. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام أميل وشكري زيدان صاحبا الهلال * ... * ... * قال الشيخ: ولقد ترددت بعد أن جاء هذا الخطاب في نشره ونشر مقالي، ولكني رأيت فيه أشياء تحتاج إلى إيضاح. وأراد الله أن أجد لي من قلم (الفكاهة) حجة أقيمها عليها، لأرى إخواني الفرق بين نقدها للقضاء الأهلي وبين نقضها القضاء الشرعي الذي يفصل بين الناس بالشريعة الإسلامية الغراء. فإنها نشرت في العدد 51 ما نصه: "القضاء حر فيما يحكم به، ولكن للأحكام آثارها في الجمهور وفي النظام الاجتماعي. وقد حكم بإحالة الأستاذ محمود عزمي المحرر في السياسة إلى محكمة الجنايات لاتهامه بالعيب في ذات الملك" الخ.

إذن فالقاضي الأهلي إذا خالف رأي (الفكاهة) حر فيما يحكم به، وأما القاضي الشرعي فإنه يطلب من وزارة الحقانية عقابه. ألهذا في نظر العقلاء معنى إلا ما قلناه من أن هذه الصحف لا تبغي إلا التعرض لما كان مصبوغاً بصبغة الإسلام! يعتذر أصحاب الصحيفة في كتابهم بأن محرري مجلاتهم من المسلمين! وما لنا ولهذا، إنا لا نرى أمامنا إلا صحفاً بأسمائهم؛ ويزعمون أنها لا شأن لها بالأديان ولم تكن أنشئت للتبشير، فما بالهم كلما عرض لهم شيء يتعلق بالإسلام نبزوه بألسنتهم وتناولته أقلامهم! لو أنهم أعلنوا أن صحفهم دينية جعلت للمناظرة بين الأديان لما عبأنا بالرد عليهم -فنحن أشد الناس مقتاً للجدل حول الأديان- ولما قرأ صحفهم أحد من المسلمين. والمدهش أن يقارنوا بين بحث في اختصاص القاضي والمحافظة على كرامة القضاء وبين أفكار محرري صحفهم (وقد تكون مخالفة لأفكار فريق من رجال الدين فارضاؤهم جميعاً غير ميسور). لا لا أيها الكتاب، إنما ننعي عليكم طغيان أقلامكم وفلتات ألسنتكم، لا مخالفة آرائكم لآرائنا، ولا نبحث عن رضانا أو رضا غيرنا، وليست هذه المسألة مما يخالف فيه أحد من المسلمين فضلا عن رجال الدين. إنا لا نريد من صحف الهلال أن تكون نصيرة للإسلام، ولكنا

نرجوها أن تبعد أقلام محرريها عن التعرض له في كتاباتها وأن تنفذ رغبتهم الأكيدة (في تجنب كل ما يمس الدين أو رجال الدين) كما وعد أصحابها، ونكتفي بهذا الوعد منهم ونطلب منها أن تنشر اعتذاراً عن التعرض للقضاء لأن طلب عقاب القاضي الذي أصدر الحكم -في ظنهم- يعتبر إهانة للقضاء الشرعي كله، وهذا الذي نصر على طلبه منهم حرصاً منا على كرامة القضاء الإسلامي. وإني أتمنى لو كانت الحادثة وقعت فعلا وحكم فيها القضاء إذن لكان للقاضي شأن آخر مع (الفكاهة). * * *

صحف الهلال 2.

صحف الهلال 2. قال الشيخ (¬1): يظهر أن "صحف الهلال" لا يروقها أن ترى في مصر مظهراً من مظاهر الإسلام. وهي ترى أن لواء الإسلام الآن بيد الأزهر وعلمائه، والمحاكم الشرعية وموظفيها. وأنهم القائمون بإحياء شعائره والمظهرون سلطانه والحافظون لما بقى من عزه ومجده في مصر تحت رعاية حضرة صاحب الجلالة نصير الدين ورافع أعلامه "مولانا الملك فؤاد" كبير ملوك الشرق الإسلامي أيده الله بتأييده. إن صحف الهلال ترى الأزهر والمحاكم الشرعية قذى في أعين لا ندري كيف تبصر، وشجى في حلق جمعيات التبشير وصحف الدعاية. فلا تفتأ تناوئهما بالحرب وتنادي -من وجودهما على ظهر الأرض- بالويل والثبور. فما جاء ذكر للأزهر أو للمحاكم الشرعية إلا وانبرت ألسنتها تفري الأعراض وتزن بالسوء. وحاولت أفواهها أن تطفئ نور الله -"والله متم نوره"- باسم الإصلاح والغيرة على مرافق البلد (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11 - 12]. ولقد كنا نود أن نحبس أقلامنا ¬

_ (¬1) مجلة الفتح.

عن مساجلتهم في ميدان، لولا أن خشينا فتنتهم لشباننا وناشئتنا، فيملؤن قلوبهم الطاهرة حقداً وضغناً على دينهم، وهو عنوان مجدهم، وهاديهم إلى سبيل السعادة في الدنيا والآخرة. يعتذرون بأن التعرض للدين الإسلامي والعلماء أبعد شيء عن خطتهم منذ إنشاء الهلال. قد يكون هذا حقاً في حياة مؤسس الهلال، فقد كان فيما نرى حازماً يحسن البعد عن مزالق الأقدام. ومهما قلنا عن أغلاطه في تاريخ الإسلام وفي كتبه الأخرى فلن نبيح لأنفسنا الحكم على خفايا الصدور. ولن نتهمه بالقصد إلى ما أخطأ في نسبته من سيئات للمسلمين، مما نبه عليه في حينه كبار رجال العلم في الإسلام. وأما خَلَفه من بعده فقد رسموا لأنفسهم طريقا جديداً -لأنهم مجددون- ورأوا أن يغيروا ما اختطه سلفهم لنفسه ثم لهم، وأرادوا أن ينشئوا صحفاً أسبوعية إلى جانب هلالهم تدخل علي العاتق في خدرها -حتى تخرجها منه- ويقرؤها الطالب والأستاذ والطفل والشيخ. تستهوي قلوب الناس مما تظهر من صور مكتوبة وأخرى مصورة تثير من شهوات الشباب المتقدة وتنشر في الملأ أخلاقاً وآداباً جاء الإسلام -وهو الهدى ودين الحق- حرباً على كثير منها. وخشوا أن يثوب الناس إلى رشدهم ويرجعوا إلى هدى ربهم بإرشاد علماء الإسلام، فلم يجدوا لهم سبيلاً إلا أن يدخلوا في أذهان قرائهم أن هؤلاء العلماء جامدون متعصبون رجعيون،

وأنهم هم المجددون المصلحون. فكلما لاح لهم مقصد رموا الشيوخ والأزهر والمحاكم الشرعية بما تجود به آدابهم وكانوا لا يكادون يصرحون بما تضمنته قلوبهم إلا لماما. وقد رددنا عليهم قولهم في محكمة شرعية في المقال السابق، وأظهرنا ما يكنون في صدورهم نحو المحاكم الشرعية وأقمنا الحجة عليهم من نقدهم لمحكمة أهلية بجواز طعنهم في الشرعية. وها هم الآن أبدوا لنا عن صفحتهم جواباً عن مقالنا فكتب كاتبهم ففي مجلة (كل شيء) في العدد 106 بتاريخ 21 نوفمبر سنة 1927م كلمة هذا نصها: لا مؤاخذة في وزارة الحقانية لجنة تنظر في حال المحاكم الشرعية وتحاول وضع نظام لإصلاحها، أو تحاول إصلاح نظامها الحاضر، ولست أريد أن أقول إن نظام هذه المحاكم سيء، فإن هذه الحقيقة الأليمة معروفة يعلمها كل إنسان، فالذي أريد أن أقوله ولا مؤاخذة هو ... إلغاء ... هذه ... المحاكم. وأضع إصبعي في عين من يدعي أني أعتدي على الشرع لأني أغار على الشرع أكثر منه ومن أبيه ومن أهله ومن أهل بلده جميعاً، ولكن أريد أن يتخلص الشرع من سوء الإدارة. عجز المصلحون عن إصلاح هذه المحاكم ووضعوا (صباعهم في الشق). ولست أدري ما المانع الشرعي من إلغائها وإحالة أعمالها إلى

المحاكم الأهلية في جلسات يكون القاضي مسلماً ويحضر معه شيخ من مشايخ القضاء الشرعي إلى أن تتوسع مدرسة الحقوق في تعليم الشريعة الإسلامية ويومئذ يلغى عمل الشيخ الذي يحضر مع قاضي المحكمة الأهلية. هذا مع الاعتراف بأن بين القضاة الشرعيين رجالا يستحقون الإعجاب بهم وعددهم قليل لا يمنع شر هذا النظام. هل المسلم لا يكون متفقهاً في دينه إذا كان أفندياً أو بيكاً" اهـ. هله كلمة (كل شيء) بألفاظها. وإني قبل أن أرد عليها كلمتها أرى من الواجب علي أن أعتذر لقراء (الفتح) الكرام من وضع مثل هذه القطعة بين أيديهم بنشرها في هذه الصحيفة الشريفة. فما اعتادوا أن يروا فيها شيئاً من هذا الطراز ولكن الضرورة ملجئة. هل رأيتم أن صحف الهلال لا تريد أن ترى المحاكم الشرعية قائمة في البلد بل ولا هؤلاء الشيوخ؟ وفي ظني أنها لو استطاعت أن تزيلهم من هذا الوجود لأزالتهم ليرضى عنها المجددون ومن ورائهم جمعيات التبشير، أستغفر الله، بل جمعية الشبان المسيحية. هل رأيتم هذا الكاتب الأديب الذي يطعن في المحاكم الشرعية جملة ويذكر الآباء والأهل في مقال ينشر بجريدة سيارة أسبوعية بألفاظ السوقة؟!

يريد حضرته أن يتخلص الشرع من سوء الإدارة، يعني أنه يطعن في أشخاص جميع القضاة؛ وليس طعنه فيهم إلا من قبل أنهم شيوخ مسلمون! وها هي المحاكم الشرعية قائمة بيننا الآن فهل رأى الناس في قضاتها من يرتكبون المنكرات جهاراً ويقتلون الأخلاق الفاضلة في وضح النهار؟ نحن لا يهمنا طلب الكاتب إلغاء هذه المحاكم فإننا من أعرف الناس بها وبما فيها ونعلم أنه لا يجرؤ شخص مسؤول في مصر على اقتراح هذا الإلغاء، ونعلم أن المسلمين من ورائها يحوطونها بقلوبهم ويذبون عنها بما تملك أيديهم، فإنها البقية الباقية من السلطان للشريعة الإسلامية. لسنا ننكر أن في بعض النظم في المحاكم ما يشكون منه كثير من الناس، وبخاصة إذا كانوا ذوي غرض. وهذه الشكوى ليست من المحاكم الشرعية وحدها بل هي أيضا في المحاكم الأهلية والمختلطة، ولكن طرق الدعاية والنشر تجعل الأصوات لا ترتفع إلا بما يمس المحاكم الشرعية ولكنا نريد من هؤلاء الكتاب أن يتأدبوا بالأخلاق الفاضلة ويكبحوا من جماح أقلامهم، وليضطغنوا في قلوبهم ما شاؤوا، فإن للكتابة آداباً وللنقد حدوداً. وعفا الله عن سديف الشاعر حيث يقول: لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن تحت الضلوع داء دويا إن هؤلاء القوم أبعد الناس عن الأزهر والمحاكم الشرعية والعلماء، ليس لهم أبناء ولا إخوان يدرسون في المعاهد وليس لواحد منهم صلة بمحكمة

شرعية ومع هذا فإنهم قد نصبوا أنفسهم لإصلاح هذا الأزهر وهذه المحاكم كأنهم لم يجدوا منكراً إلا فيها وكأنهم ألصق الناس بها، ولو خلصت نياتهم وتأدبت أقلامهم لتقبلنا منهم ذلك، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيثما وجدها. في مصر بجوار المسلمين نصارى ويهود من كل الطوائف والمذاهب، وفيهم رجال لأديانهم ومجالس مالية تحكم بينهم -وهم أمس الناس بها رحما- فما بالهم لا ينقدون واحدا من رجالها ولا يتعرضون لشيء من نظمها وتعاليمها وأحكامها- وفي كثير منها قول لقائل- أفكان هؤلاء منزهين عن الخطأ؟ وكانت نظمهم وتعاليمهم في الذروة العليا من الاتقان والعدالة، لا مغمز فيها لطاعن؟ أم هو الغرض والهوى والعصبية توقد نارها في القلوب جمعيات التبشير (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ). * ... * ... *

صحف الهلال 3.

صحف الهلال 3. قال الشيخ (¬1): عز على صحف الهلال أن يمضي أسبوعان ولا تنشر الجرائد اليومية خبرا -ولو كان غير صحيح- تعلق عليه بالطعن في الأزهر أو المحاكم الشرعية. فأوحت إلى أوليائها أن يوافوها ببعض بنات أفكارهم، فما لبثنا أن رأينا في (كل شيء) في العدد رقم (107) المؤرخ 28 نوفمبر سنة 1927م مقالا طويلا عريضا في صدره ملأ صحيفة منه، ولسنا نجني على قراءة (الفتح) بأن نسمعهم جميع ما قال (كل شيء). وحسبنا أننا امتحنا بقراءة ما يكتب هؤلاء القوم. فرى عاملهم كتاباً زعم أنه من أحد الطلاب في الأزهر الشريف، وقدمه إلى قرائه في نصف مقاله ثم علق عليه أخيرا. وهو لا يقصد بما كتب إلا أن يبث في نفس من رآه أن هذا الأزهر وهذه المعاهد الدينية الإسلامية تفسد عقول الناشئة وتمحق من تفكيرهم بما تعلمهم من الثقافة القديمة. وأن حضرات (أصحاب صحف الهلال) "في حاجة إلى أن تدخل العلوم الحديثة إلى جميع معاهدنا وقاية لعقول شبابنا من فساد هذه التعاليم القديمة" يقول حضرات (أصحاب صحف الهلال) في مقدمة مقالهم عن الأزهر: "يجب أن تكون مدارسنا معاهد لتثقيف الشباب بالثقافة الحديثة. وليس معنا ذلك أن نهجر الثقافة القديمة فإنها يجب أن يختص لها علماء ¬

_ (¬1) مجلة الفتح.

يدرسونها ويوضحون لنا منها تطور الفكر الإنساني وكيف ارتقى من الجهل إلى العلم وكيف كانت علومه في الأصل أساطير وحكومته استبداد وطغيان (كذا) ومدنه مباءة أقذار، ثم ارتقى ذلك كله إلى ما نرى من العلوم الدقيقة والحكومات الدستورية والمدن النظيفة. ومن الغباوة الفظيعة بل المحرمة أن نغرس في ذهن الشاب المصري أن العلوم القديمة كانت أنفع للناس من العلم الدقيق الراهن أو أن حكومات القدماء كانت أنظم وأعدل من حكوماتنا. فلندرس كل قديم ولكن باعتبار أنه قديم لقيمته التاريخية فقط ولكن لا لنقتدي به أو لنؤمن بصحته". هذه قالة يقولونها عن الأزهر والمعاهد التي تعليم قاصديها علوم الشريعة الإسلامية وآداب الإسلام وفنون اللغة العربية وبلاغة العرب -لا عن معاهد أوروبا منذ قرنين، ولا عن محاكم التفتيش في الأندلس. أفرأيتم أيها الناس أن هذه الصحف ترمي الثقافة الإسلامية العالية بأن علومها إن هي إلا أساطير، وتنبز حكومات الإسلام العادلة بأنها حكومات استبداد وطغيان أو رأيتم أنها تريدنا على أن ندرس علومنا وآدابنا وتاريخنا الناصع وأحكام ديننا لا لنقتدي بها ولا لنؤمن بصحتها ولكن لقيمتها التاريخية فقط؟! ألا تصدقون معي أن هذه الصحف أنما تمتح من البؤرة التي سبقها إليها أستاذ الآداب بالجامعة المصرية، وأنها إنما ينهزها إرضاء جمعيات التبشير؟ لا يزعم أن علوم الثقافة الإسلامية أساطير إلا من جهلها فعاداها،

أو كان يدفعه الهوى فينكر ضوء الشمس. وها هم علماء أوربة من المستعربين يدرسون علوم العرب وتاريخهم وتشريعهم ويبذلون في نشرها والإشادة بذكرها من الجهود ما لو وفقنا إليه من بضع عشرات السنين لكان للمسلمين شأن غير ما نرى ولعاد إلينا كثير مما أضعنا من المجد والقوى و (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). وهذا هو الكتاب المفترى: "أنا أزهري اسماً، عصري ثقافة ولحما ودما، تؤثر في كلماتك الغالية، حتى كأنها تسري في عروقي سرى الدم فأشعر عند قراءتها بخجل وحرارة معا، فهي في عقلي ثقافة وفي جسمي حياة! وأريد أن أعرض عليك يا سيدي نوعاً من الذين يجلسون منا مجلس المعلمين ... قال بعض "العلماء" إن القيامة ستقوم قبل سنة 1450 هـ لا محالة ... ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه لا تأتي على أمتي سنة هجرية اسمها 1450هـ ... وقال غيره إن النيل يأتينا من الجنة!؟ ... فحزنت لأن صموئيل بيكر دخل الجنة قبلنا ... وغيره يقول إن: حسان بن ثابت كان يمسح بلسانه شعر رأسه كأن حسانا لا يكون شاعر النبي إلا بهذا اللسان (العجالي) الذي يريد أن يلحقه به الشيخ!؟ .. ويقرؤن لنا في حصة (الأخلاق) خرافات المتصوفة وحكايات الصالحين! ... كل هذا يا سيدي حضرته بنفسي، ولو أردت أن أكتب لك كثيرا من هذا "العلم الشريف لفعلت، ولكني أعلم أن نفثات قلمك الجريء لا يصح

أن أقتطع منها أكثر من هذا متعة ومنفعة. محمود ... ". تدعي هذه الصحف أن هذا الكتاب المخترع جاءها من أحد طلاب الأزهر الشريف، ولن يقرأه ذو مسكة من عقل إلا واستيقن أنه مصنوع لديهم، وأنه بقلم سلامة موسى. وآية صنعه أن طلاب الأزهر -دعك من علمائه- وطلاب المدارس بل والدهماء من كاتب وأمي يعلمون أن تواطؤ المسلمين على بدء تأريخهم بعام هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في خلافة عمر رضي الله عنه -في السنة الثالثة من خلافته في سنة 16 - وأن التاريخ بذلك لم يكن معروفاً أصلا في عصر النبوة، فمن غير المعقول إذن أن يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن انتهاء الحياة الدنيا سيكون قبل سنة 1450هـ، ومن غير المعقول أن ينسب هذا إلى الرسول الكريم عالم أو جاهل من المسلمين، وإنما يتقحم هذه الحفر من لا يرى في نفسه للإسلام حرمة ولم تخالط بشاشة الإيمان قلبه ولم يسمع قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". ثم هاتم خبرونا من من المسلمين -جاهلهم أو عالمهم- يرضى أن ينسب هذا الهراء إلى سيد الفصحاء والبلغاء، من أوتي جوامع الكلم واختصر لكم القول اختصاراً صلى الله عليه وسلم؟! أيرضى لنفسه كاتب أن تصدر عنه هذه الجملة "سنة هجرية اسمها 1450" أيا كان من طبقات الكتاب؟ اللهم إن هذا كذب من أوقح الكذب

على رسولك. وما أصدق قول العربي: إن كنت كذوباً فكن ذكوراً. وإن مثل صاحب الأكذوبة المفضوحة كمثل رجل سمعنا عنه فكاهة لطيفة في صبانا: زعموا أن نفرا اجتمعوا في مصر العليا -وهناك يتضايق وادي النيل- فتفاخروا بالصافنات الجياد وكان فيهم رجل فياش (¬1) فزعم لهم أنه ركب جواده فطار به في الوادي من الجبل إلى الجبل! ففجأه أحدهم: وأين البحر؟ فبهت وقال هذا الذي أنسيته. فهذا نسي النيل بين الجبلين. وذاك نسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يؤرخ المسلمون من الهجرة بست سنوات. وأما كلمتهم في حسان بن ثابت رضي الله عنه فإنا نظنها لاحقة بسابقتها وقد جهدنا في البحث عنها فلم نجدها في شيء من كتب التراجم المعتمدة. ولكنا نذكر أنا قرأنا في بعض كتب الأدب أن حسان كان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، وهذا -على أننا لا نثق بصحته من طريق التحقيق العلمي- لا نراه شيئاً مستغرباً. وانظروا إلى ألفاظهم حين يذكرون صحابياً جليلاً كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! ¬

_ (¬1) يقال فلان فياش إذا كان نفاخا بالباطل وليس عنده طائل.

ويميناً بالله إنهم لا يرضون أن يصفوا بأمثال هذه الكلمات أصعر قس من قساوستهم فضلاً عن واحد من أصحاب سيدنا عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم. ولو فلتت فلتة مثل هذه من قلم أحد الكاتبين لهم في وصف رجل ممن ينسبون لدينهم لغضبوا لها وأبوا نشرها. وأما ما ذكروا من شأن النيل فليس كما خيل إليهم. ولفظ الحديث في صحيح البخاري من حديث طويل في وصف المعراج: "وإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان. فقلت ما هذان يا جبريل قال أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات" وفي حديث آخر في صحيح مسلم إن النيل والفرات من أنهار الجنة؛ ومن المعروف ببداهة الحس والعقل أن النيل والفرات في هذه الأرض التي نعيش على ظهرها وأنهما شقا في أديمها، يعرف ذلك الجاهل والعالم ولا يخالف فيه أحد: لا قبل ارتياد منابع النيل ولا بعده. والفرات في العراق من الجهة الشرقية للمدينة المنورة. والنيل في مصر من الجهة الغربية لها وبينهما بلاد وأقطار. وهذه حقيقة يعرفها العرب قبل الإسلام وقد كانوا يسافرون شرقا وغربا ويدخلون العراق ومصر. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق -أنه رأى النيل والفرات يجريان في الجنة، وهي عالم آخر غير هذه الأرض، وهو يعلم أن سامعيه يعرفون هذه الحقائق، وأنهم لن يشبه عليهم قوله، فيظنوا أن هذين النهرين اللذين رأهما في الجنة هما بعينهما النهران اللذان رأوهما في الدنيا.

وهم يعرفون إن الدنيا عالم والجنة عالم آخر، هذه دار العمل وتلك دار الجزاء. فهل تحب صحف الهلال والطالب الذي اخترعوه أن ندلهم على قاعدة صغيرة من قواعد علم البيان. وهي أن المجاز: ما استعمل في غير ما وضع له لقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي -ونأسف جداً أن نمثل لهم بالمثال الذي يعطى لصغار الطلاب المبتدئين- كما تقول: رأيت أسداً في الحمام. فإذا كان الحمام قرينة مانعة من إرادة المعني الحقيقي مع أن وجود أسد حقيقي في الحمام غير مستبعد إلا أنه ليس كثير الحصول. أفلا تكون كل هذه الحقائق البدائه التي قلنا -كافية لدلالة السامع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد المعنى الظاهر للفظ بل أراد معنى آخر أرقى من هذا المعنى المحال؟ وأنه يريد أن في الجنة نهرين هما نيل وفرات تنويهاً بذكر هذين اللذين في الأرض وإشادة بفضلهما وأنهما مصدر لكثير من الخيرات والبركات على أهليهما وأنهما مما أنعم الله به على خلقه فقامت على ضفافهما أقدم الحضارات في الدنيا إلى معاني وإشارات أدق وأعلى. ولعلنا نوفق إلى بيان كثير منها في مقال خاص إن شاء الله. ويرحم الله أبا الطيب إذ يقول: وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم وبعد فقد نرى أن عدونا بالقوم قدرهم، وقد كانت كلكمتنا الأولى كافية في كشف خبيئتهم وفضح نياتهم، ولكنا أردنا أن نأخذ بحجزهم

عن الوقوع في أعراض المسلمين وأن نحمي أبناءنا وإخواننا من الوقوع في حبائلهم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ، وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 29 - 31]. (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) [التوبة:56 - 57]. * ... * ... *

40 - نساء بدون حياء!!

40 - نساء بدون حياء!! عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم". قال الشيخ (¬1): "وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، لصيانة المرأة وحفظها أن تُعرَّض لما يفسد خلقها، ويمس عرضها، بأنها ضعيفة يسهل التأثير عليها، واللعب بعقلها، حتى تغلبها شهوتها، وقد أعرض المسلمون في عصرنا، أو بعبارة أدق: من يسمون مسلمين وينتسبون إلى الإسلام فتراهم، كما ترى، يطلقون نساءهم، من الطبقات التي تسمى العليا، ومن غيرها من الطبقات، فيجلن في البلاد، ويخرجن سافرات غير محصنات، حتى يسافرن إلى الأقطار الأوروبية والأمريكية وغيرها، وحدهن، ليس معهن محرم، فيفعلن الأفاعيل، وتأتي أسوأ الأخبار عنهن، لا يتورعن ولا يستحين، وليس بهن من رادع، بل إن الدولة، وهي تزعم أنها دولة إسلامية لترسل الفتيات في بعثات للتعلم في البلاد الأجنبية، وهن في فورة الشباب، وجنون الشهوة، ولا تجد أحداً ينكر هذا المنكر، أو يأمر في ذلك بالمعروف، بل إن علماء الأزهر لا يحركون في ذلك ساكناً، إن لم أقل ¬

_ (¬1) في تعليقه على "مسند الإمام أحمد" (6/ 281 - 282) برقم (4615).

إنهم صاروا لا يرون في ذلك بأساً، إن لم أقل إن لبعضهم بنات يتردين في هوة هذه البعثات. ولقد حدثت أحداث لا يرضى عنها مسلم، من أسوئها أثراً أن كثيرات ممن يسافرن إلى بلاد الكفر والإلحاد من أعلى الطبقات في الأمة ومن غيرها ارتددن عن دينهن، اتباعاً للشهوة الجامحة، وتزوجن برجال من كفار أوربا وأمريكا الملحدين الوثنيين، الذين ينتسبون كذباً إلى اليهودية أو المسيحية، فاخترن سخط الله وأبَيْن رضوانه، هن وأهلن، ومن رضي عنهن، وعن عملهن، وإنا لله وإنا إليه راجعون". * ... * ... *

41 - الطلاق عند عبيد الخواجات

41 - الطلاق عند عبيد الخواجات عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة كان عمر يكرهها، فقال: طلقها، فأبيت، فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أطع أباك". قال الشيخ (¬1): "وليتأمل هذا الحديث أهل عصرنا، وخاصة المتفرنجين منهم، وعبيد النساء، حين يرون الطلاق عملاً فظيعاً، يشنعون به أقبح التشنيع، ويريدون أن يكون الزواج مؤبداً، مهما تعتوره من عقبات ومنغصات، ويرون أن فيه ظلماً للمرأة، وهم ظلموها حين أخرجوها إلى الطرقات، والتصرف بالمعاملات، والعمل في المتاجر، والمصانع، وحين أطلقوا لشهوتها العنان بالخمور والمراقص، والاختلاط والخلوات. فهذا عبد الله بن عمر يحب امرأته، وأبوه يكرهها ويأمره بطلاقها فيأبى، فيأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعة أبيه مقدماً طاعة أبيه الواجبة، على حبه وعلى زوجه، والنساء غيرها كثير، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر". * ... * ... * ¬

_ (¬1) في تعليقه على "مسند الإمام أحمد" (6/ 322) برقم (4711).

42 - ظلم ونكد عيش الأجراء والخدم

42 - ظُلم ونَكَد عَيْش الأُجراء والخدم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب: أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي خادماً يسيء ويظلم، أفأضربه؟ قال: "تعفو عنه كل يوم سبعين مرة". قال الشيخ (¬1): "فهذا ما نرى في أدب رسول الله للمسلمين في معاملة الخدم والرفق بهم، وقد كان المسلمون الأولون يتأديون بهذا الأدب، إلا من أخطأ منهم أو جهل، وكان الرقيق نعمة من نعم الله عليهم جليلة، بل كان نعمة على الرقيق أنفسهم، ثم أخطأهم التوفيق وخالفوا عن أمر الله ورسوله، فقسوا على الرقيق، وركبهم العنف، وبطروا نعمة الله، فسلط الله عليهم عدوهم من قساة القلوب الوحوش، أوربا الوثنية الملحدة، زعموا أنهم يحررون الرقيق ليستعبدوا الأمم الأحرار المستضعفين الأذلاء! ثم لا يزال الناس في حاجة إلى الخدم لا تنقضي، فاستخدموا الأجراء، وطغت عليهم المدنية الجارفة الكاذبة، فكانوا في معاملة الأُجراء، أسوأ مما كانوا في معاملة الرقيق وأشد تنكيلاً، لا يخافون الله، بل يخافون القانون الإفرنجي الذي ضرِبَ عليهم. ¬

_ (¬1) في تعليقه على "مسند الإمام أحمد" (8/ 30 - 31) برقم (5635).

ولم يكن هذا علاجاً، بل كان أسوأ أثراً، بما جُبلت عليه النفوس من الظلم والطغيان، وبما تساهل مطبقوا القانون في النظر إلى الطبقة الظالمة دون الطبقة المظلومة، حتى لقد رأينا في عصرنا حوادث تقشعر منها الأبدان، وتتقزز النفوس، نضرب منها مثلاُ نذكره قد يغني عن كل مثال: فقد عُرِضَ على القضاء الأهلي المصري، منذ عهد غير بعيد، حادث امرأة قبطية استأجرت خادمين صغيرين، وكانت من قسوة القلب ومن الطغيان لا تفتأُ تعذبهما بأنواع العذاب، حتى الكي بالنار، حتى مات الخادمان بعد أن رجعا إلى أهليهما. فكان العجب كل العجب أن تحكم عليها محكمة الجنايات بالحبس سنة واحدة مع وقف التنفيذ، بحجة أعجب من حكمها، تنبئ عن نفسية لا أستطيع وصفها! أن هذه المرأة المجرمة المتوحشة كبيرة السن، ومن أسرة كريمة!! بل مثل آخر عجيب، لا يتصل بقضايا التعذيب، ولكنه يكشف عن نفسية الطبقة التي تسمى عالية في بلادنا، وما علوها إلا الكبرياء والاستعلاء على أمتهم، ثم العبودية لسادتهم الخواجات والاستخذاء!! امرأة من نساء طبقة المستوزرين جمعت جمعاً من مثيلاتها في دارها، وكانت الصحف المصرية تفيض بالمنكر الذي يسميه النسوان وعبيد النسوان (حق المرأة في الانتخاب). فنظرت هذه المرأة إلى خادمها النوبي، وعجبت لمن حولها أن يكون لهذا (العبد) حق الانتخاب دونها، وهي المتعلمة المثقفة التي تراقص الوزراء والكبراء والخواجات!!.

وما كان الرجل (عبداً) لها ولا لأبيها ولا لزوجها، وإنما هو من فئة معروفة بالحفاظ والكرامة، فئة النوبيين الأمناء. وأنا أثق أن لو قد سمع هذا (العبد) ما قالت لعرف كيف يؤدبها ويؤدب اللائي حولها من النسوان. بل لعرف كيف يؤدب زوجها الوزير الخطير!!. وما أعتقد أن أمثال هؤلاء مسلمون، وإن ولدوا على فُرش إسلامية، وإن سماهم آباؤهم بأسماء المسلمين. ذلك بأنهم أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين!!، والله سبحانه يصف المؤمنين بأنهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ). وذلك بأن المسلمين إنما هم الذين يطيعون أمر الله وأمر رسوله، ويعفون عن الخادم إن أساء وظلم "كل يوم سبعين مرة". * ... * ... *

43 - قحة الأجرياء المتفرنجين

43 - قُحَّة الأجرياء المتفرنجين عن نافع [عن ابن عمر] قال: "كان النساء والرجال يتوضؤون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ويُشْرعون فيه جميعاً". قال الشيخ (¬1): "وهذا الحديث وما في معناه يريد أن يستمسك به السخفاء في عصرنا، ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يريدون أن يستدلوا به على جواز كشف المرأة ذراعيها وغير ذلك أمام الرجال، وأن ينكروا ما أمر الله به ورسوله من حجاب المرأة وتصونها عن أن تختلط بالرجال غير المحارم! حتى لقد سمعت أنا مثل هذا اللغو من رجال ابتلى المسلمون وابتلي الأزهر بأن رُسِمَ من "العلماء" يريد المسكين أن يكون "مجدداً"، وأن يرضى عنه المتفرنجون والنساء وعبيد النساء". ولقد كذبوا وكذب هذا "العالم" المسكين! فما في حديث ابن عمر على اختلاف رواياته شيء يدل على ما يريدون من سقط القول. وإنما يريد ابن عمر الرد على من ادّعى كراهية الوضوء أو الغسل بفضل ¬

_ (¬1) في تعليقه على "المسند" للإمام أحمد (9/ 99 - 100).

المرأة، ويستدل بذلك على أن النهي عن ذلك منسوخ، فأراد أن يبين أن وضوء الرجل والمرأة من الإناء الواحد معاً، أو غسلهما معاً ليس فيه شيء، وأنهم كانوا يفعلونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون به بأساً؛ وأقرب لفظ إلى هذا رواية الدارقطني: "يتوضأ الرجل والمرأة من إناء واحد"، وهو حين يقول: "كنا نتوضأ رجالاً ونساء" أو "كنا نتوضأ نحن والنساء"، أو ما إلى ذلك من العبارات -لا يريد اختلاط النساء والرجال في مجموعة واحدة أو مجموعات، يرى فيها الرجال من النساء الأذرع والأعضاء والصدور والأعناق، مما لا بد من كشفه حين الوضوء، وإنما يريد التوزيع، أي كل رجل مع أهله وفي بيته وبين محارمه، وهذا بديهي معلوم من الدين بالضرورة، ولذلك ترجم البخاري في "الصحيح" (1/ 258) على روايته هذا الحديث: "باب وضوء الرجل مع امرأته"، فحديث ابن عمر في هذا كحديث عائشة: "كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف فيه أيدينا، من الجنابة" رواه أحمد والشيخان، كما في "المنتقي" رقم (18)، ولو عقل هؤلاء الجاهلون الأجرياء، وهذا "العالم" الجاهل المجدد! لفكروا: أين كان في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ميضأة عامة يجتمع فيها الرجال والنساء، على النحو الذي فهموا بعقولهم النيرة الذكية!!، فالمعروف أنهم كانوا يستقون من الآبار التي كانت في المدينة، رجالاً ونساء، والعهد بالصحابة رضي الله عنهم -وبمن بعدهم من التابعين وتابعيهم المؤمنين المتصونين إلى عصرنا هذا، أن يتحرز الرجال فلا يظهروا على شيء من عورات النساء التي أمر الله بسترها، وأن يتحرز النساء فلا يظهرن ما أمر الله بستره، وقد رأينا هذا في المدينة وأهلها، صانها الله عن دخول الفجور الذي ابتلي به أكثر بلاد المسلمين". * ... * ... *

44 - حرمة التشبه بالكفار

44 - حرمة التشبه بالكفار عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبين معصفرين قال: "ثياب الكفار، لا تلبسها". قال الشيخ (¬1): "وهذا الحديث يدل بالنص الصريح على حرمة التشبه بالكفار في اللبس وفي الهيئة والمظهر، كالحديث الآخر الصحيح: "ومن تشبه بقوم فهو منهم". ولم يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا -أعني في تحريم التشبه بالكفار- حتى في هذه العصور المتأخرة، فنبتت في المسلمين نابتة ذليلة مستعبدة، هجيراها وديدنها التشبه بالكفار في كل شيء، والاستخذاء لهم والاستعباد، ثم وجدوا من الملتصقين بالعلم المنتسبين له، من يزين لهم أمرهم، ويهون عليهم أمر التشبه بالكفار في اللباس والهيئة والمظهر والخُلُق وكل شيء، حتى صرنا في أمة ليس لها من مظهر الإسلام إلا مظهر الصلاة والصيام والحج، على ما أدخلوا فيها من بدع بل من ألوان من التشبه بالكفار أيضاً، وأظهر مظهر يريدون أن يضربوه على المسلمين هو غطاء الرأس الذي يسمونه القبعة "البرنيطة"، وتعللوا لها بالأعاليل ¬

_ (¬1) في تعليقه على "مسند الإمام أحمد" (10/ 19).

والأباطيل وأفتاهم بعض الكبراء المنتسبين إلى العلم أن لا بأس بها، إذا أريد بها الوقاية من الشمس! وهم يأبون إلا أن يظهروا أنهم لا يريدون بها إلا الوقاية من الإسلام!! فيُصرِّح كتابهم ومفكروهم بأن هذا اللباس له أكبر الأثر في تغيير الرأس الذي تحته، ينقله من تفكير عربي ضيق إلى تفكير إفرنجي واسع!!. ثم أبى الله لهم إلا الخذلان، فتناقضوا ونقضوا ما قالوا من حجة الشمس، إذ وجدوا أنهم لم يستطيعوا ضرب هذه الذلة على الأمة، فنزعوا غطاء الرأس بالمرة، تركوا "الطربوش" وغيره، ونسوا أن الشمس ستضرب رؤوسهم مباشرة، دون واسطة الطربوش، ونسوا أنهم دعوا إلى القبعة، وأنه لا وقاية لرؤوسهم من الشمس إلا بها!! ثم كان من بضع سنين، أن خرج الجيش الإنجليزي المحتل للبلاد من القاهرة والإسكندرية بمظهره المعروف، فما لبثنا أن رأيناهم ألبسوا الجيش المصري والشرطة المصرية قبعات كقبعات الإنجليز، فلم تفقد الأمة في العاصمتين داخل البلاد منظر جيش الاحتلال، الذي ضرب الذلة على البلاد سبعين سنة، فكأنهم لم يصبروا على أن يفقدوا مظهر الذل الذي ألفوه واستساغوه وربوا في أحضانه. وما رأيت مرة هذا المنظر البشع، منظر جنودنا في زي أعدائنا وهيئتهم إلا تقززت نفسي، وذكرت قول عميرة بن جعل الشاعر الجاهلي، يذم قبيلة تغلب: إذا ارتحلوا عن دار ضَيْم تعاذلوا ... عليهم ورَدُّوا وفدهم يستقيلها * ... * ... *

45 - دعوة ادعاء نسب الغير

45 - دعوة ادِّعاء نسب الغير عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش، وللعاهر الأثلب (¬1) " قالوا: وما الأثلب، قال: "الحجر". قال الشيخ (¬2): "وهذه الدعوة، ادعاء نسب الغير، وادعاء نسب اللقطاء، ومحاولة إثبات نسب المولودين لغير رشدة، كلها من المنكرات الخبيثة، التي شاعت في بلادنا، بما أشاع النسوان، وأنصار النسوان، من الإباحية والتحلل الخلقي ومن الخروج على الدين، ومحاولة هدم كل تقليد إسلامي صحيح، وبما أُشْرِبت قلوبهم من تقليد أوربا، ومن القوانين الوثنية التي ضربت على أكثر الأمم الإسلامية. بل إن القوانين المصرية الحديثة لتحاول الاعتراف الصريح بأبناء الفجور، مما عجزت فرنسا نفسها عن الاعتراف به، وهي أساس كل منكر ¬

_ (¬1) الأثلب: بكسر الهمزة واللام وفتحهما، والفتح أكثر: الحَجَر؛ والعاهر: الزاني كما في الحديث الآخر: "وللعاهر الحجر"، قيل معناه: له الرجم، وقيل: هو كناية عن الخيبة، وقيل الأثلب: دقاق الحجارة، وقيل: التراب وهذا يوضح أن معناه الخيبة إذ ليس كل زان يرجم" أهـ. من النهاية لابن الأثير (1/ 23 - 24). (¬2) في تعليقه على "مسند الإمام أحمد" (10/ 159).

وكل فجور في العالم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولئن لم ينته المسلمون عن الخضوع لمثل هذا، ولئن لم ينتبهوا لما يراد بهم وبدينهم، ليأخذنهم الله بسنته، وليكونن من الخاسرين ولن يفلحوا إذن أبداً. * ... * ... *

46 - عودة إلى وثنية نصب التماثيل

46 - عودة إلى وثنية نصب التماثيل عن أبي زُرْعة قال: دخلت مع أبي هريرة دار مروان بن الحكم فرأى فيها تصاوير، وهي تُبْنى، فقال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي! فليخلقوا ذرة، أو فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة". قال الشيخ (¬1): "في عصرنا هذا كنا نسمع عن أناس كبار يُنسبون إلى العالم، ممن لم ندرك أن نسمع منهم، أنهم يذهبون إلى جواز التصوير كله، بما فيه التماثيل الملعونة تقرباً إلى السادة الذين يريدون أن يقيموا التماثيل تذكراً لآبائهم المفسدين، وأنصارهم العتاة أو المنافقين، ثم تقرباً إلى العقائد الوثنية الأوروبية، التي ضربت على مصر وعلى بلاد الإسلام من أعداء الإسلام الغاصبين، وتبعهم في ذلك المقلدون والدهماء، أتباع كل ناعق، حتى امتلأت بلاد المسلمين بمظاهر الوثنية السافرة؛ من الأوثان والأنصاب، ومن تعظيمها وتبجيلها، بوضع الأزهار والرياحين عليها، وبالتقدم بين يديها بمظاهر الوثنية الكاملة حتى بوضع النيران أحياناً عندها. ¬

_ (¬1) في تعليقه على "مسند الإمام أحمد" (12/ 149 - 151).

وكان من حجة أولئك الذين شرعوا لهم هذا المنكر أول الأمر، الذين أجازوا نصب التماثيل بالفتاوى الكاذبة المضللة: أن تأولوا النصوص بربطها بعلة لم يذكرها الشارع ولم يجعل مناط التحريم هي -فيما بلغنا- أن التحريم إنما كان أول الأمر لقرب عهد الناس بالوثنية. أما الآن وقد مضى على ذلك وهو طويل، فقد ذهبت علة التحريم ولا يخشى على الناس أن يعودوا لعبادة الأوثان!!. ونسي هؤلاء ما هو بين أيديهم من مظاهر الوثنية الحقة بالتقرب إلى القبور وأصحابها، واللجيء إليها عند الكروب والشدائد. وأن الوثنية عادت إلى التغلغل في القلوب دون أن يشعر أصحابها، بل نسوا نصوص الأحاديث الصريحة في التحريم وعلة التحريم!!. كنا نعجب لهم من هذا التفكير العقيم، والاجتهاد الملتوي! وكنا نظنهم اخترعوا معنى لم يُسبقوا إليه، وإن كان باطلاً، ظاهراً البطلان. حتى كشفنا بعد ذلك أنهم في باطلهم مقلدين، وفي اجتهادهم واستنباطهم سارقين!!. فرأينا الإمام الحافظ الحجة ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702هـ، يحكي مثل قولهم ويرده أبلغ رد، وبأقوى حجة، في كتابه "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (جـ1/ ص359 - 360) بتحقيق الأخ الشيخ حامد الفقي، ومراجعتنا، و (جـ2/ ص171 - 173) من الطبعة المنيرية، في شرح حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أولئك إذا

مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله". فقال ابن دقيق العيد: "فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل، وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال: "إن ذلك محمول على الكراهة، وأن هذا التشديد كان في ذلك الزمان، لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان، وهذا الزمان -حيث انتشر الإسلام وتمهدت قواعده-: لا يساويه في هذا المعنى، فلا يساويه في هذا التشديد!! هذا أو معناه. وهذا القول عندنا باطل قطعاً لأنه قد ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة، بعذاب المصورين، وأنهم يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وهذه علّة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صرح بذلك في قوله عليه السلام: "المشبهون بخلق الله"، وهذه علّة عامة مستقلة مناسبة، لا تخصّ زماناً دون زمان، وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتضافرة بمنعى خيالي، يمكن أن يكون هو المراد، مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره، وهو التشبه بخلق الله". هذا ما قاله ابن دقيق العيد، منذ أكثر من 670 سنة، يرد على قوم تلاعبوا بهذه النصوص، في عصره أو قبل عصره، ثم يأتي هؤلاء المفتون المضللون، وأتباعهم المقلدون الجاهلون، أو الملحدون والهدّامون، يعيدونها جذعة، ويلعبون بنصوص الأحاديث، كما لعب أولئكم من قبل!!.

ثم كان من أثر هذه الفتاوى الجاهلة أن ملئت بلادنا بمظاهر الوثنية كاملة، فنصبت التماثيل، ومُلِئت بها البلاد، تكريماً لذكرى من نسبت إليه تعظيماً! ثم يقولون لنا إنها لم يقصد بها التعظيم!. ثم ازدادوا كفراً ووثنية، فصنعوا الأنصاب ورفعوها تكريماً لمن صنعت لذكراهم، وليست الأنصاب مما يدخل في التصوير، حتى يصلح لهم تأويلهم! إنما هي وثنية كاملة صِرف، نهى الله عنها في كتابه، بالنص الصريح الذي لا يحتمل التأويل. وكان من أثر هذه الفتاوى الجاهلة أن صنعت الدولة وهي تزعم أنها دولة إسلامية، في أمة إسلامية: ما سمته: "مدرسة الفنون الجميلة"، أو "كلية الفنون الجميلة"!!، صنعت معهداً للفجور الكامل الواضح! ويكفي للدلالة على ذلك أن يدخله الشبان الماجنون، من الذكور والإناث، إباحيين مختلطين، لا يردعهم دين ولا عفاف ولا غيره. يصورون فيه الفواجر من الغانيات، اللائي لا يستحين أن يقفن عرايا، ويجلسن عرايا، ويضطجعن عرايا، على كل وضع من الأوضاع الفاجرة، يظهرن مفاتن الجسد، وخفايا الأنوثة، لا يسترن شيئاً ولا يمنعن شيئاً!! ثم يقولون لنا: هذا فن!! لعنهم الله، ولعن من رضي هذا منهم أو سكت عليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون". * ... * ... *

47 - ولكن القوم لا يستحون!!

47 - ولكن القوم لا يستحون!! عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال، والتصفيح للنساء". قال الشيخ (¬1): "فلينظر السفهاء الحمقى أنصار المرأة في عصرنا! من الملحدين، ومن الجاهلين الجرآء، الذين يدّعون العلم بما لا يعلمون، ممن أخرجوا المرأة المسلمة من خدرها إلى الطرقات والجامعات والمصانع والملاهي، الذين يريدون إفساد الخُلق الإسلامي السامي، ويفترون على الله ورسوله، أن الإسلام سوى المرأة بالرجل، ولم يحجبها عن مخالطة الرجال! لينظروا كيف صان الله ورسوله المرأة المسلم عن أن يظهر صوتها حتى في الصلاة، ولكن القوم لا يستحيون! قاتلهم الله أنى يؤفكون". * ... * ... * ¬

_ (¬1) في تعليقه على "المسند للإمام أحمد" (13/ 9) (رقم 7283).

48 - العطف على الفقير .... وحكم من احتكر

48 - العطف على الفقير .... وحكم من احتكر ... عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برىء من الله تعالى، وبرئ الله تعالى منه، وإيما أهل عَرْصَة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى". قال الشيخ (¬1): "العَرْصَة، بفتح العين وسكون الراء: كل موضع واسع لا بناء فيه، يريد بذلك الجيران الذين تجمع دورهم ساحة واحدة، فهم متقاربون متشاركون في المرافق، وهذا الحديث مما أهمل المسلمون الآن العمل به، بما غلبهم من حب المال والحرص على الدنيا وعلى الشهوات، وتعقيد الحياة والغلو في الاستمتاع بالكماليات، حتى اتسعت الهوة بين الطبقات: فمن منفق على سفه وطيش ومتعة عالية، حتى ينفق على كلابه ما يبخل به على أخيه الفقير الجائع، بل يقسو عليه إذا رآه أشد قسوة، وحتى يأتي أحدهم بزهور من أوروبا بطائرة خاصة ليقدمها لامرأة يشتهيها، ويضن على أرملة، أو يتيم ببضع قروش تحفظ عليهما الحياة أو العفاف!!. وهم لا يشعرون أنهم بذلك يهدمون أنفسهم، ويهدمون أمتهم، ويحاربون دينهم، أستغفر الله، بل هم لا يشعرون بهذا الدين، وإن انتسبوا ¬

_ (¬1) في تعليقه على "المسند" للإمام أحمد (7/ 49).

إليه، وإن ولدوا على فرش آباء كانوا مسلمين، أو كانوا مثلهم إلى الإسلام منتسبين، ولا ندري ماذا تكون عواقب ذلك غداً، والله خير حفظاً وهو أرحم الراحمين". * ... * ... *

49 - حكم من سب الدهر أو القدر

49 - حكم من سب الدهر أو القَدَر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار". قال الشيخ (¬1): "وقد تأدب المسلمون في هذا بأدب الله ورسوله، حتى نشأت فيهم ناشئة رضعوا لإلحاد أوروبا ووثنيتها، وغلبت على عقولهم وأدبهم، بما أشربوا من تعظيمها والخنوع لها في كل شأنهم، فصاروا يقلدون أولئك الحيوانات العجم الملحدة، وشاع على ألسنتهم كلام السوء، وغلبت عليهم شقوتهم، حتى كبار المتعلمين أو المتعالمين، فلا يتحرزون عن أن يقولوا كلمة الكفر، بسب الدهر، وسب القدر، ووصف القدر بما تنضح به عقولهم وقلوبهم، لا يفقهون ولا يعقلون، وإذا وعظوا أو نبهوا استكبروا وأخذتهم العزة بالإثم". * ... * ... * ¬

_ (¬1) في تعليقه على "المسند" (12/ 238 رقم 7244).

50 - في تعدد الزوجات

50 - في تعدد الزوجات (¬1) قال الشيخ: نبتت في عصرنا هذا الذي نحيا فيه نابتة إفرنجية العقل، نصرانية العاطفة، رباهم الإفرنج في ديارنا وديارهم، وأرضعوهم عقائدهم، صريحة تارة، وممزوجة تارات. حتى لبّسوا عليهم تفكيرهم، وغلبوهم على فطرتهم الإسلامية. فصار هجِّيراهم وديدنهم أن ينكروا تعدد الزوجات، وأن يروه عملاً بشعاً غير مستساغ في نظرهم! فمنهم من يصرح، ومنهم من يجمجم، وجاراهم في ذلك بعض من ينتسب إلى العلم من أهل الأزهر، المنتسبين للدين، والذين كان من واجبهم أن يدفعوا عنه، وأن يعرّفوا الجاهلين حقائق الشريعة. فقام من علماء الأزهر من يمهد لهؤلاء الإفرنجيّي العقيدة والتربية -للحد من تعدد الزوجات، زعموا!! ولم يدرك هؤلاء العلماء! أن الذين يحاولون استرضاءهم لا يريدون إلا أن يزيلوا كل أثر لتعدد الزوجات في بلاد الإسلام، وأنهم لا يرضون عنهم إلا أن جاروهم في تحريمه ومنعه جملة وتفصيلا. وأنهم يأبون أن يوجد على أي وجه من الوجوه، لأنه منكر بشع في نظر سادتهم الخواجات!! ¬

_ (¬1) كلمة الحق (ص303) ط مكتبة السنة بالقاهرة.

وزاد الأمر وطمّ، حتى سمعنا أن حكومة من الحكومات التي تنتسب للإسلام وضعت في بلادها قانوناً منعت فيه تعدد الزوجات جملة، بل صرحت تلك الحكومة باللفظ المنكر: أن تعدد الزوجات -عندهم- صار حراماً، ولم يعرف رجال تلك الحكومة أنهم بهذا اللفظ الجريء المجرم صاروا مرتدين خارجين من دين الإسلام، تجري عليهم وعلى من يرضى عن عملهم كل أحكام الردة المعروفة، التي يعرفها كل مسلم، بل لعلهم يعرفون ويدخلون في الكفر والردة عامدين عالمين. بل إن أحد رجال الذين ابتلي الأزهر بانتسابهم إلى علمائه، تجرأ مرة وكتب بالقول الصريح أن الإسلام يحرم تعدد الزوجات، جرأة على الله، وافتراء على دينه الذي فرض أن يكون هو من حفظته القائمين على نصره!! واجترأ بعض من يعرف القراءة والكتابة -من الرجال والنسوان فجعلوا أنفسهم مجتهدين في الدين!! يستنبطون الأحكام، ويفتون في الحلال والحرام، ويسبون علماء الإسلام إذا أرادوا أن يعلموهم ويقفوهم عند حدهم. وأكثر هؤلاء الأجرياء، من الرجال والنساء، لا يعرفون كيف يتوضئون ولا كيف يصلون، بل لا يعرفون كيف يتطهرون، ولكنهم في مسألة تعدد الزوجات مجتهدون!! بل لقد رأينا بعض من يخوض منهم فيما لا يعلم، يستدل بآيات القرآن بالمعنى، لأنه لا يعرف اللفظ القرآني!!

وعن صنيعهم هذا الإجرامي، وعن جرأتهم هذه المنكرة، وعن كفرهم البواح -دخل في الأمر غير المسلمين، وكتبوا آراءهم مجتهدين!! كسابقيهم، يستنبطون من القرآن وهم لا يؤمنون به، ليخدعوا المسلمين ويضلوهم عن دينهم. حتى إن أحد الكتاب غير المسلمين كتب في إحدى الصحف اليومية التي ظاهر أمرها أن أصحابها مسلمون كتب مقالاً بعنوان "تعدد الزوجات وصمة"! فشتم بهذه الجرأة الشريعة الإسلامية، وشتم جميع المسلمين من بدء الإسلام إلى الآن! ولم نجد أحدا حرك في ذلك ساكناً. مع أن اليقين أن لو كان العكس، وأن لو تجرأ كاتب مسلم على شتم شريعة ذلك الكاتب، لقامت الدنيا وقعدت، ولكن المسلمين مؤدبون. وبعد: فإن أول ما اصطنعوا من ذلك: أن اصطنعوا الشفقة على الأسرة وعلى الأبناء خاصة! وزعموا أن تعدد الزوجات سبب لكثرة المتشردين من الأطفال! بأن أكثر هؤلاء من آباء فقراء تزوجوا أكثر من واحدة! وهم في ذلك كاذبون، والإحصاءات التي يستندون إليها هي التي تكذبهم. فأرادوا أن يشرعوا قانوناً يحرم تعدد الزوجات على الفقير ويأذنون به للغني القادر!! فكان هذا سوأة السوءات: أن يجعلوا هذا التشريع الإسلامي السامي وقفاً على الأغنياء! ثم لم ينفع هذا ولم يستطيعوا إصداره. فاتجهوا وجهة أخرى يتلاعبون فيها بالقرآن:

فزعموا أن إباحة التعدد مشروطة بشرط العدل، وأن الله سبحانه أخبر بأن العدل غير مستطاع، فهذه أمارة تحريمه عندهم!! إذ قصروا استدلالهم على بعض الآية وتركوا باقيها: (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ) وتركوا ما فيها: (فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ). فكانوا كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض! ثم ذهبوا يتلاعبون بالألفاظ، وببعض القواعد الأصولية، فسمّوا تعدد الزوجات "مباحاً"! وأن لولي الأمر أن يقيد بعض المباحات بما يرى من القيود للمصلحة! وهم يعلمون أنهم في هذا كله ضالون مضلون. فما كان تعدد الزوجات مما يطلق عليه لفظ "المباح" بالمعنى العلمي الدقيق: أي المسكوت عنه، الذي لم يرد نص بتحليله أو تحريمه، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو". بل إن القرآن نص صراحة على تحليله، بل جاء إحلاله بصيغة الأمر، التي أصلها للوجوب: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء). وإنما انصرف فيها الأمر من الوجوب إلى التحليل بقوله: (مَا طَابَ لَكُم). ثم هم يعلمون -علم اليقين- أنه حلال بكل معنى كلمة "حلال"، بنص القرآن، وبالعمل المتواتر الواضح الذي لا شك فيه، منذ عهد النبي

صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى اليوم. ولكنهم قوم يفترون! وشرط العدل في هذه الآية (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً) -شرط شخصي لا تشريعي، أعني: أنه شرط مرجعه لشخص المكلف، لا يدخل تحت سلطان التشريع والقضاء. فإن الله قد أذن للرجل -بصيغة الأمر- أن يتزوج ما طاب له من النساء، دون قيد بإذن القاضي أو بإذن القانون أو بإذن ولي الأمر أو غيره، وأمره أنه إذا خاف -في نفسه- أن لا يعدل بين الزوجات أن يقتصر على واحدة. وبالبداهة أن ليس لأحد سلطان على قلب المريد الزواج. حتى يستطيع أن يعرف ما في دخيلة نفسه من خوف الجور أو عدم خوفه. بل ترك الله ذلك لتقديره في ضميره وحده. ثم علمه الله سبحانه أنه على الحقيقة لا يستطيع إقامة ميزان العدل بين الزوجات إقامة تامة لا يدخلها ميل، فأمره أن لا يميل"كل الميل فيذر بعض زوجاته كالمعلقة". فاكتفى ربه منه -في طاعة أمره بالعدل- أن يعمل منها بما استطاع، ورفع عنه ما لم يستطع. وهذا العدل المأمور به مما يتغير بتغير الظروف، ومما يذهب ويجيء بما يدخل في نفس المكلف. ولذلك لا يعقل أن يكون شرطاً في صحة العقد، بل هو شرط نفسي متعلق بنفس المكلف وبتصرفه في كل وقت بحسبه: فربّ رجل عزم على الزواج المتعدد، وهو مصر في قلبه على عدم العدل، ثم لم ينفذ ما كان مصراً عليه، وعدل بين أزواجه. فهذا لا يستطيع

أحد يعقل الشرائع أن يدعي أنه خالف أمر ربه. إذ أنه أطاع الله بالعدل، وعزيمته في قلبه من قبل لا أثر لها في صحة العقد أو بطلانه -بداهة- خصوصاً وأن النصوص كلها صريحة في أن الله لا يؤاخذ العبد بما حدّث به نفسه، ما لم يعمل به أو يتكلم. ورُبّ رجل تزوج زوجة أخرى عازماً في نفسه على العدل، ثم لم يفعل، فهذا قد ارتكب الإثم بترك العدل ومخالفة أمر ربه. ولكن لا يستطيع أحد يعقل الشرائع أن يدعي أن هذا الجور المحرم منه قد أثّر على أصل العقد بالزوجة الأخرى، فنقله من الحل والجواز إلى الحرمة والبطلان. إنما إثمه على نفسه فيما لم يعدل، ويجب عليه طاعة ربه في إقامة العدل. وهذا شيء بديهي لا يخالف فيه من يفقه الدين والتشريع. والقوم أصحاب هوى ركب عقولهم، لا أصحاب علم ولا أصحاب استدلال، يحرفون الكلم عن مواضعه. ويلعبون بالدلائل الشرعية من الكتاب والسنة ما وسعهم اللعب. فمن ألاعيبهم: أن يستدلوا بقصة علي بن أبي طالب، حين خطب بنت أبي جهل في حياة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استؤذن في ذلك قال: "فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنها هي بضعة مني، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها". ولم يسوقوا لفظ الحديث، إنما لخصوا القصة تلخيصاً مريباً! ليستدلوا بها على أن النبي صلى الله عليه وسلم يمنع تعدد الزوجات، بل صرح بعضهم بالاستدلال بهذه القصة على ما يزعم من التحريم! لعباً

بالدين، وافتراء على الله ورسوله. ثم تركوا باقي القصة، الذي يدمغ افتراءهم -ولا أقول استدلالهم- وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحادثة نفسها: "وإني لست أحرم حلالاً، ولا أحل حراماً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً". واللفظان الكريمان رواهما الشيخان: البخاري ومسلم. انظر البخاري 9: 286 - 287، و6: 149 (فتح). ومسلم2: 247 - 248. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، المبلغ عن الله، والذي كلمته الفصل في بيان الحلال والحرام، يصرح باللفظ العربي المبين -في أدق حادث يمس أحب الناس إليه، وهي ابنته الكريمة السيدة الزهراء- بأنه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، ولكنه يستنكر أن تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في عصمة رجل واحد. وعندي وفي فهمي: أنه صلى الله عليه وسلم لم يمنع علياً من الجمع بين بنته وبنت أبي جهل بوصفه رسولاً مبلغاً عن ربه حكماً تشريعياً؛ بدلالة تصريحه بأنه لا يحرم حلالاً ولا يحل حراماً، وإنما منعه منعاً شخصياً بوصفه رئيس الأسرة التي منها على ابن عمه وفاطمة ابنته، بدلالة أن أسرة بنت أبي جهل هي التي جاءت تستأذنه فيما طلب إليهم علي رضي الله عنه. وكلمة رئيس الأسرة مطاعة من غير شك، خصوصاً إذا كان ذلك الرئيس هو سيد قريش، وسيد العرب، وسيد الخلق أجمعين، صلى الله عليه وسلم.

وليس بالقوم استدلال أو تحرّ لما يدل عليه الكتاب والسنة، ولا هم من أهل ذلك ولا يستطيعونه. إنما بهم الهوى إلى شيء معين، يتلمسون له العلل التي قد تدخل على الجاهل والغافل. بل إن في فلتات أقلامهم ما يكشف عن خبيئتهم، ويفضح ما يكنون في ضمائرهم. ومن أمثلة ذلك: أن موظفاً كبيراً في إحدى وزارتنا كتب مذكرة أضفى عليها الصفة الرسمية، ونشرت في الصحف منذ بضع سنين، وضع نفسه فيها موضع المجتهدين، لا في التشريع الإسلامي وحده، بل في جميع الشرائع والقوانين!! فاجترأ على أن يعقد موازنة بين الدين الإسلامي في إحلاله تعدد الزوجات، وبين الأديان الأخرى -زعم!! - وبين قوانين الأمم حتى الوثنية منها! ولم يجد في وجهه من الحياء ما يمنعه من الإيحاء بتفضيل النصرانية التي تحرم تعدد الزوجات، ومن ورائها التشريعات الأخرى التي تسايرها بل يكاد قوله الصريح ينبئ عن هذا التفضيل!! ونسي أنه بذلك خرج من الإسلام بالكفر البواح، على الرغم من أن اسمه يدل على أنه ولد على فراش رجل مسلم. إلى ما يدل عليه كلامه من جهله بدين النصارى، حتى عقد هذه المفاضلة!! فإن اليقين الذي لا شك فيه: أن سيدنا عيسى عليه السلام لم يحرم تعدد الزوجات الحلال في التوراة التي جاء هو مصدقا لها بنص القرآن الكريم. وإنما حرمه بعض البابوات بعد عصر سيدنا عيسى بأكثر من ثمانمائة سنة على اليقين. بما جعل هؤلاء لأنفسهم من حق التحليل والتحريم، الذي نعاه الله عليهم في

الكتاب الكريم: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ) والذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين استفسر منه عدي ابن حاتم الطائي -الذي كان نصرانياً وأسلم- إذ سمع هذه الآية فقال: إنهم لم يعبدوهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم". انظر تفسير الآية: 31 من سورة التوبة، إن شاء الله. فيا أيها المسلمون: لا يستجرينكم الشيطان، ولا يخدعنكم أتباعه، وأتباع عابديه، فتستخفوا بهذه الفاحشة التي يريدون أن يذيعوها فيكم، وبهذا الكفر الصريح الذي يريدون أن يوقعوكم فيه. فليست المسألة مسألة تقييد مباح أو منعه، كما يريدون أن يوهموكم. وإنما هي مسألة في صميم العقيدة: أتصرون على إسلامكم وعلى التشريع الذي أنزله الله إليكم وأمركم بطاعته في شأنكم كله؟ أم تعرضون عنهما -والعياذ بالله- فتتردّوا في حمأة الكفر، وتتعرضوا لسخط الله ورسوله؟ هذا هو الأمر على حقيقته. إن هؤلاء القوم -الذين يدعونكم إلى منع تعدد الزوجات- لا يتورع أكثرهم عن اتخاذ العدد الجم من العشيقات والأخدان، وأمرهم معروف مشهور. بل إن بعضهم لا يستحي من إذاعة مباذله وقاذوراته في الصحف والكتب. ثم يرفع علم الاجتهاد في الشريعة والدين، ويزري بالإسلام والمسلمين.

إن الله حين أحل تعدد الزوجات -بالنص الصريح في القرآن- أحله في شريعته الباقية على الدهر، في كل زمان وكل عصر. وهو سبحانه يعلم ما كان وما سيكون. فلم يعزب عن علمه -عز وجل- ما وقع من الأحداث في هذا العصر، ولا ما سيقع فيما يكون في العصور القادمة. ولو كان هذا الحكم مما يتغير بتغير الزمان -كما يزعم الملحدون الهدامون- لنصّ على ذلك في كتابه أو في سنة رسوله: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). والإسلام بريء من الرهبانية، وبريء من الكهنوت. فلا يملك أحد أن ينسخ حكماً أحكمه الله في كتابه أو في سنة رسوله. ولا يملك أحد أن يحرم شيئاً أحله الله، ولا أن يحل شيئاً حرمه الله. لا يملك ذلك خليفة ولا ملك، ولا أمير ولا وزير. بل لا يملك ذلك جمهور الأمة، سواء بإجماع أم بأكثرية. الواجب عليهم جميعاً الخضوع لحكم الله، والسمع والطاعة. اسمعوا قول الله سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). وقوله سبحانه: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ؟). ألا فلتعلمن أن كل من حاول تحريم تعدد الزوجات أو منعه، أو تقييده بقيود

لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فإنما يفتري على الله الكذب. ألا فلتعلمن أن "كل امرئ حسيب نفسه"، فلينظر امرؤ لنفسه أنّى يصدر وأنّى يرد. وقد أبلغت. والحمد لله رب العالمين. كتبه / أحمد محمد شاكر - عفى الله عنه بمنه - * ... * ... *

§1/1