رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا

حسن توفيق العدل

بسم الله الرحمن الرحيم حمداً لك أنشأتَ الكونَ فأبدعتَ، وخلقتَ الخلقَ فأحسنتَ، مهدتَ الأرضَ ورفعتَ السماءَ، وأقمتَ الأعلامَ، وأجريتَ الماءَ، وشكراً لك على ما هديتنا إلى المحجة البيضاء، والصراط السواء، وصلاة وسلاماً منك على رسولك الجامع لشتات الجامعة، من الأقطار الشاسعة، وآله وأصحابه، وأتباعه وأحبابه. وبعد، فأخبركم سادتي، وكلكم خبير بثمرات التجول في الأقطار، وملازمة عصا التَّسيار. هو السفر طالما أسفر عن عجائب، وهو الترحال كثر ما أعرب من غرائب، يدرِّبُ الإنسان ويشحذ الأذهان، وجدير بمن تحمَّل رعائبه، أن ينال رغائبه، ولو لم يكن نعمة عظمى لما منَّ سبحانه على أمَّة قريش بإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فآمن من خوفهم، وأطعم من جوعهم. وقد انتبه لفوائده أمة أوروبا فساحوا في الأقطار، وجاسوا خلال البلاد والديار. فمنهم المشرِّقُ ومنهم المغرِّبُ، يتسنمون نجداً، ويتحدرون غوراً، دائبين على استكشاف البقاع ومعرفة أحوال الأمم على اختلاف طبائعها وعوائدها، فحصلوا من ذلك

على ما أكسبهم المعرفة، وأزال عنهم الجهالة، وأوسع من نطاق علمي الجغرافيا والتاريخ اللذين هما أساس التمدن ومركز دائرة المعارف. ولم يألُ كل سائح منهم جهداً في تقييد ما شاهده من البلدان، واستكشفه من أحوال أهلها المادية والأدبية، حتى صارت مؤلفاتهم في ذلك عدداً عديداً، فمنها ما هو ضمن كتب مستقلة، ومنها ما هو طي الجرائد اليومية، تسهيلاً للمطالعين، وتثقيفاً لعقولهم، فلست ترى عائلة أوروبية إلا ولديهم مجموع عظيم من ذلك، يجلبون بمطالعته أنسهم، ويوسعون بذكره دائرة أفكارهم. ولما مَنَّ الله على الضعيف بالرحلة إلى بلاد أوروبا، والمكث في مدينة برلين عاصمة الإمبراطورية الألمانية لاكتساب الفنون والعلوم، رأيت من طبعي نزوعاً إلى السياحة والتَّجَوُّل في بلاد ألمانيا مدة المسامحة لأتعرّف أحوال أمَّته المعاشية والأدبية، تطبيقاً للعلم على العمل، وتأكيداً للسماع بالنظر. وقد أكرمتني لذلك نظارة المعارف المصرية الجليلة بمدِّ يدِ المساعدة، حيث شملتني عناية مؤسس دعائمها قديماً وحديثاً سعادة وزيرها الأفخم علي مبارك باشا لازالت أبناء المعارف تبتسم عن شكر أياديه، ولا بَرِح الإقبال طوع أيديه.

الإنطلاق من برلين

فقمت بأعباء الأمر، وأخذت في التجول في أنحاء البلدان والمدن، فاتجهت إلى بلاد ألمانيا الغربية، ثم إلى شمال وشرق سويسرا، ثم إلى ألمانيا الجنوبية، متتبعاً أهم البلاد، مستكشفاً أحوالها الطبيعية الجغرافية والتاريخية، حتى حصلت من ذلك على فوائد جزيلة، وثمرات مفيدة، قد وضعتها ضمن هذا الكتاب إيفاء بحقوق الوطنية، وشكراً للمعارف الجليلة العمومية التي أرضعتني لبان مننها، وكستني حلل كرمها، وخدمة لمصدر الكرم، وولي النعم، مُحيي روح التَّمدن والعمران، وغارس شجرة الصلاح والأمان، من أنام الأنام في ظل عدله، ولحظهم بكرمه وفضله، مليك العصر، وعزيز مصر خديونا الأعظم محمد توفيق باشا الأفخم، أدام الله لنا ذاته الشريفة، ومتَّعنا ببقاء سُدَّته المنيفة، وسرَّنا بحفظ السادة الأنجال بُدور الجلال وشموس الكمال. وها أنا أوافيكم بالتفصيل، وعلى الله قصد السبيل فأقول. الإنطلاق من برلين 16 آب - أغسطس 1889 بارحت برلين صباح يوم 18 ذي الحجة سنة 1306 هجرية الموافق 16 أغسطس سنة 1889 ميلادية قاصداً مدينة كلونيا في قطار يطير في الأقطار، وقد بلَّت أجنحتَه الأمطار، ولم يزل يعرض علينا البلاد والقرى، وأنا أتصفح بعض الكتب لأطلع على مالها من الأهمية مادياً وأدبياً. حتى إذا كان وقت الظهيرة حط

رحاله في مدينة هنوفر فنزلت ملتمساً مشاهدة منظرها، فإذا هي بلدة متّسقة الشوارع متسعتها، وقد كانت عاصمة المملكة المسمّاة باسمها، وفي سنة 1866 ميلادية استولت عليها مملكة البروسيا وجعلتها ضمن ولاياتها قبيل الحرب البروسيانية النمساوية كما شرحت ذلك في الجزء الثامن من رحلتنا البرلينية، ثم هي الآن عاصمة تلك الولاية ومنطق أهلها باللغة الألمانية أفصح ممن عداهم، وذلك في إعطاء الحروف حقَّ مخارجها كما هو مشهور، ورأيته بتتبعي لكلامهم. ولما صاح القطار بنعيرته وأعلن بالرحيل نزلت العربة فإذا أنا فيها وحيد، ولم أشعر إلا وقد انفتح باب العربة فرأيت شاباً وشابة كأنهما القمر والشمس يودِّعان أهلهما وأصحابهما، وقد أخذ الجميع في التقبيل والعناق، وتلاوة كلمات الفراق، ثم أقبلا علي يتهلَّلان فرحاً وسروراً، فألقيا السلام، فرحبت بهما، وشرفت من شأنهما، حتى إذا استقر بهما المجلس، وسار الوابور أخذا يتغازلان. وقد جرى بينهما سر الهوى، وباحت عيونهما بالجوى، فرقَّ لرقتهما قلبي، وهام بشأنهما لُبِّي وبعد لُحيظات لحظاني بعيونهما، حتى إذا علما أني غريب عن جنسهما ظنا أني لم أعرف لغتهما، فقالت فرنساوي؟ وقال بل روسي؟ إسبانيولي؟ بل إيطالياني؟ يوناني؟ بل تركي؟ فعند ذلك أخذني الضحك، فشعرا

بذلك، وطلبا مني العفو، وتجاذبنا من وقتئذ أطراف الحديث. وعلمت من حديثهما أنهما قد تقارنا قريباً بعدما أنحلهما الغرام، وهالهما الهُيام، وقد أخذا في سفر الزواج كما هي عادة الألمانيين. وإليك شرحها اختصاراً، فأقول: لما كان التزوج في البلاد الألمانية عسير الحصول بالنسبة لكثرة عدد الإناث وقلّة غنى الذكور، التزمت الآباء بإعطاء كامل الحرية لبناتهم متى بلغن 18 سنة من عمرهن، فيتركونهن في المجتمعات والمحافل يتسامرن، ويتداعبن، ويلعبن، ويرقصن مع الشبان إلى غير ذلك، فربما علق أحدهم بإحداهن وهي به، فيخرجان، وقد ثارت نيران الحب في أحشائهما، ويكون ذلك لهما موضوعاً للمراسلات العشقية، ويتراسلان، ويتواعدان ليتفسح معها في المنتزهات أوقات الفضا، ويكون مصاحباً لها أشهراً، وربما أعواماً تحت مراقبة الآباء أو أولياء شأنهما، ويسمون تلك المدة بمدة التجربة، ويستمران على ذلك حتى إذا لم يجدا مانعاً في الأثناء، وألفيا أن لا مناص من الاقتران عرضا خطبتهما على الآباء فإذا رضوا، ولم يكن ثم مانع، احتفلوا لزواجهما ليلة أو ليلتين، ثم يسافران معاً ليشتد وثوقهما، ويشد بعضهما أزر البعض تمكيناً للألفة والمحبة، وإلا فمتى حصل عائق وتفاقم غرامهما ورأيا أن لا محيد عن الفراق، فالناس في هذه

الوصول إلى مندن

الحالة مختلفون: فمنهم من يتصبر ويتسلى، ويصادم جيش الهوى حتى يأتيه السُّلوان، ومنهم من يزيد قلبه اشتعالاً ويهيجه الغرام، فيصبح صريع الموت وحشواً للقبور بمخاطرته بنفسه. وأغلب هذا القسم هم العوام، لا سيما إذا أضناهم شظف العيش، وأخذت عليهم يد الفقر، وكذلك بعض من متوسطي الناس وأشرافهم، فترى الجرائد أحياناً ممتلئة بذكر أسماء الشبان والبنات الذين خاطروا بنفسهم نعوذ بالله من تلك الفعلة التي هي في الحقيقة حِطة في التمدن الإنساني، وثَلم لما عليه قارة أوروبا من كمال الإنسانية. الوصول إلى مندن هذا ولم تزل تطوِّح بنا الطوائح إلى أن أشرفنا على مدينة مندن التي هي بلدة قديمة ومن مشهوري مدن ولاية فستفالن إحدى ولايات البروسيا، وبعدما بارحناها ببعض دقائق زج بنا في واد متسع بين جبلين يَنْهَر فيه نهر فيزر. وكان الرومانيون يسمون ذلك الوادي فستافالكا ومعناه باب فستفالن وحين شاهدته راقني موقعه، وشغفت بمنظره، حيث هو من أعظم البقاع التي يفتخر بها الجرمانيون، لانتصارهم فيه على الرومانيين قديماً. وذلك أن الرومانيين في القرن الأخير قبل الميلاد في عصر القيصر سيزار عاثوا في بلاد جرمانيا حتى فتحوا قسماً عظيماً منها، وأسسوا مدناً، وحصنوا بها قلاعاً، ولم

يزالوا، فيما بعد، رافعين ألوية الانتصار على الجرمانيين في كل حرب يقيمونها حتى أخضعوهم إليهم، ونظموا منهم جيشاً يسيرونه كيف شاءوا. ولم تزل هذه حالتهم إلى أن تولّى على الرومانيين القيصر أغسطس وفي عهده وجه إلى بلاد جرمانيا والياً له يسمى فاروس وكان مع قوة بأسه ليِّن الجانب سهل الانخداع، وحينما رأى أفراد الجيش الجرماني أولي قوة كثيري الطاعة، كما هي سنة الأمة المغلوبة للغالبة، شُغف بهم، وأعلى من درجاتهم، وكان منهم رجل جرماني يدعى هرمان شديد الجأش، عارفاً بطرق الحيل والخداع. وكانت الحمية الجرمانية تضرم في قلبه، وكراهته للرومانيين تصلي فؤاده، فأوجس في نفسه الانتقام، والتخلص من قهرهم، وأخفى ما كنَّهُ صدره، وصار يتقرب إلى ذلك الوالي شيئاً فشيئاً إلى أن اغترَّ به وأوصله إلى درجة كبرى، حتى جعله من جملة قواد الجيوش الجرمانية والرومانية. فعند ذلك انتهز الفرصة فحرَّك يد الفتنة في الجرمانيين سرّاً، وجعل بينه وبينهم مسيساً، فرفعوا عصا العصيان، وقاموا ضد الرومانيين، وكان من القائد هرمان أن هاج في الرومانيين يحثّهم على الحرب، وألان جانب الوالي والقيصر حتى تجهزوا لانتشاب نار المعارك، فقام الوالي بجيشه وقواده، ومن جملتهم القائد

هرمان وقد جعلوه ركناً لهم حصيناً لمعرفته بمكائد الحرب وجغرافية البلاد، فصار دليلاً لهم إلى أن أوصلهم إلى موضع يقال له تيتوبورج فالده قريب من ذلك الوادي، حيث هو يعلم أن الجرمانيين متربصون في معاطف الجبال والمغارات، وبينما هم سائرون به، وإذا بالجرمانيين قد انصبُّوا عليهم كالسيل العرِم، وأحاطوا بهم، وأشعلوا نار الحرب فيهم، ولما شاهد ذلك القائد هرمان أشار إلى بعض قواد الرومانيين بأن يجوزوا بالجيوش ذلك الوادي ليتحصنوا من الجهة الأخرى، ففعلوا وإذا بأرجل أفراسهم قد انغرزت في ذلك الوادي حيث كان موحلاً، فانضم القائد هرمان إلى الجرمانيين، وانقضَّ بهم على الرومانيين حتى أذاقهم كؤوس العذاب بمكره وخداعه، وحقَّت عليهم كلمة الغلبة، وحينما سمع ذلك القيصر أغسطس هاله الأمر، فقام يتردد في أودته، يضرب رأسه في الحائط هنا وهناك قائلاً: فاروس أعد لي جيشي أعدْ لي جيشي مكرراً لها. وكانت هذه الواقعة في سنة تسع بعد الميلاد، وهي أولى الوقائع التي انتصر فيها الجرمانيون على الرومانيين. ولذلك تجد الألمانيين الآن يعظمون ذروة أحد الجبلين المحيطين بذلك الوادي تذكاراً له ولبسالته.

معمل كروب للمدافع

معمل كروب للمدافع وفي وقت العصر لاحت لنا عن اليمين وعن الشمال القرى والبلدان التي منها ثروة ألمانيا، لاشتمالها على كهوف الفحم الحجري المعدني الذي يجلب بسواده الأبيض والأصفر، وقد عبق دخان المعامل التي بها. وبعد هنيهة مررنا بضواحي مدينة يقال لها أسن وإذا بالأرض كأنها تقشعر، وشمنا سحائب الدخان قد ملأت الجو، وصوت المطارق يرعد عن اليسار، ويمثله الصدى عن اليمين، فهالني ذلك، وسألت عما هنالك؟ فإذا هو معمل كروب الشهير بعمل المدافع التي عمَّ صيتها وصوتها، وهو معمل أنشأه رجل ألماني يدعى كروب سنة 1810 ميلادية، وهو الآن تحت يد ذريته، وبه 10. 000 عامل قد اتخذوا حوله مساكنهم، وسمعت أن به مطرقة ثقلها 1000 قنطار ترتفع وتنخفض بالآلات البخارية. وحينما بارحنا تلك الجهة، وفتحت التذكرة لأرقم ما شاهدته التفت إلي رجل مسن هولندي يتكلم باللغة الألمانية، وقال متبسماً: ألا كتبت أيضاً أن صوت المطارق تنادي وتؤذن بالدمار! فقلت له وإذ علمت مراده: لماذا؟ فقال: أنرى الراحة في الدنيا، وفي الممالك معامل مثل هذا، والحرب الحرب، هي الدمار بعينه ومَخْدَشة لوجه الأمان، وراحة الاجتماع! فقلت له: أيها الأديب، إن هذا الموضوع حرج صعب المسالك،

قد أَضْرَمَتْ فيه نيرانَ الجدالِ السلفُ، واشتغلت بحديثه الخلفُ، وإني أعضد رأيك ومذهبك، ولكن ذلك إذا نُزع من نفوس الأمم حب الاستئثار والفخار. فقال: ذلك أشكو، لقد كانت الحرب قديماً لإقامة الأديان، وأما الآن فهي لحب الفخار. . الآن الآن وقد ضرب التمدن بجرانه في أنحاء البسيطة. فأجبته قائلاً: نعم أنت ومذهبُك. وما علينا إلا أن نبتهل إليه سبحانه بأن يوطد دعائم الصلاح حتى تكون الأرض منزلاً واحداً لعائلة واحدة يقتسمون السرور فيما بينهم، فما ذلك عليه بعزيز. وبينما نحن بذلك الحديث وإذا بالوابور قد حطَّ رحله في مدينة كلونيا فودعته من حينئذ ونزلت بها وقد شاب النهار وأقبل شباب الليل، فبتُّ بها ليلتئذ حتى إذا كشفت الشمس قناعها، والجو صافٍ لم يطرَّز ثوبُه بعلم الغمام، نزلت قاصداً أول ما يحرك إليه الغريب قدمه ألا وهي كنيستها الكبرى التي اشتهرت بحسن موقعها وجمال صنعها، وريثما طوحت إليها النظر أرتني منها بناء شاهقاً، وجبلاً سامقاً، تكاد ببرجيها تنطح ثور السماء، ذروتها تخالها للعقرب لسعاء، فدخلتها ضمن الداخلين أمثالي المتفرجين، فما درينا ألاتساع رحباتها نهشُّ، أم لارتفاع دعائمها نُدهش؟ ثم أردنا أن نتسنم سماوتها، ونرتقي ذروتها، فعلونا يقدمنا الدليل لكيلا تشكل علينا السبيل، ومازلنا

نصعد درجات، ونسلك معاطف ووهدات، حتى إذا علونا ذروتها ورقينا قمتها لاحت لنا عجائب المناظر، وقد انتعش لرؤيتها الخاطر، ثم هبطنا إلى المنزل الأول والمكان السواء، وحدَّثنا من في الأرض، وأستغفر الله، بأخبار السماء. وبالجملة فلقد قام بناؤها دليلاً على ما صنعت يد الإنسان ناطقاً بلسان الحال والجنان: تلك آثارنا تدلُّ علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار ثم إن هذه الكنيسة كاثوليكية أمر بتأسيسها المطران كونرا دفن هوخ ستادن سنة 1248 ميلادية، ولكن لم يتم بناؤها في أيامه بل حصلت فترات بعد ذلك، فكانوا وقتا يقيمون منها وآخر يعرضون عنها إلى سنة 1840، وفيها أمر بإتمامها ملك البروسيا فريدريك فيلهلم الرابع حتى أخذت كمالها في سنة 1880م، وارتفاع برجيها 156 متراً فوق سطح الأرض، وقد كانا أعلى بنيان في أوروبا إلى أن شيد صرح أيفل في باريس الذي ارتفاعه 300 متر. وقد أخبرني بعض علماء الألمانيين وأدبائهم، وكان يتفرج معنا، أن الدراهم التي صرفت في بناء تلك الكنيسة هي ربح القمار، وذلك أن كثيراً من الشركات قد فرضت مقداراً من

حديقة الحيوان

الدراهم لمن أراد اللعب، وثلث المجموع يأخذه من تخرج له القرعة، والثلثان الباقيان يُصرفان في البناء. وحينما سمعت ذلك منه قلت له: كيف تؤسسون بيت العبادة بدراهم هي الحرام بعينه؟ فالتفت إليَّ، وقد ضمَّ كتفيه، ثم أرسلهما قائلا هذه الجملة: فحينما طرقت مسمعي أخذني الضحك حتى كدت أستلقي، وذلك أن هذه الجملة مثل مشهور بأوروبا وهو لاتيني اللفظ، ومعناه الربح ليس له رائحة. ومصدر ذلك المثل أن أحد قياصرة الرومانيين ضرب رسوماً وعوائد على كل محل يطمئن إليه الإنسان سواء في المنازل والطرقات، فقيل له في ذلك فقال: الربح ليس له رائحة. فذهبت مثلاً. حديقة الحيوان وبعد ذلك قصدت معرض الحيوانات بتلك المدينة، فشِمته بستاناً قد جمع من الحيوانات البرية والبحرية والهوائية على اختلاف أجناسها وأقطارها، وقد وضعوا كل قسم منها في محلات تألف لها، كهي في مواضعها الطبيعية، وبينما أنا أروض النظر هنا وهنالك إذا ألفيت أحد مدرسي المدارس يقود عدداً عظيماً من البنات، وبيده خريطة ذلك المحل يعرض عليهن الحيوانات، فيذكر لهن أسماءها، وخواص كل منها، وينسبها إلى الأقطار الخاصة التي هي بها، وهل هي مأنوسة أو وحشية إلى غير ذلك،

فما وجدت بنتاً منهن يهولها منظر تلك الحيوانات، أو تتهيأ لها بعبعاً، أو غولاً، أو عفريتاً! وذلك لحكمة تعلمهن في المدرسة مناظرها مصورة على الأوراق فيما قبل. ومن جملة ما شاهدته من نوادر ذلك المعرض الحمير، وقد تهافت عليها الناس نساء ورجلاً وصبياناً يرمون إليها بالحشائش، وهي تدنو إليهم تلعب لهم، ولحظت منها حماراً ساكناً ينظر يميناً ويساراً سائل الدموع كأنه يذكر الربوع، فأذكرني أخاه حمار بشار بن برد، حيث أضناه الهوى، فأصبح صريع الجوى، حيث قيل في أحاديث الشجون، وأساطير المجون، أن محمد بن الحجاج قال: جاءنا بشار يوماً وهو مغتم، فقلت له مالك مغتماً؟ فقال مات حماري، فرأيته في النوم، فقلت له: لم مِتَّ؟ ألم أكن أُحسن إليك؟ فقال: سيدي خذْ لي أتانا ... عند باب الأصبهاني تيَّمتني ببنان ... وبِدِلٍّ قد شجاني تيَّمتني يوم رحنا ... بثناياها الحسان وبغَنجٍ ودلالٍ ... سَلَّ جسمي وبراني ولها خدُّ أسيلٌ ... مثل خد الشنفراني فلذا متُّ ولو عش ... ت إذاً طال هواني

شرقي وغربي

فقلت له ما الشنفراني؟ قال ما يدريني. هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله عنه انتهى. شرقي وغربي وبعد الظهيرة من ذلك اليوم طفت بتلك المدينة مع أحد أدباء الألمانيين السيَّاحين، وقد عقدت الصدفة بيننا عروة الصحبة، فألفيت أغلب الطرق آخذاً انتظاماً على ضيقها، صغيرة المنازل ليست بعاليتها، وقد حفظت بعض منازلها القديمة لتكون أثراً للغابرين، وتذكاراً للسالفين، وكان حديثي مع ذلك الرفيق إذ ذلك في الفرق بين المشرق والمغرب، فصار كلما نمرُّ في طريق أو يحيط بنا ميدان ينبه من التفاتي معجباً بحسن الطرقات، ظانّاً أن هذا النظام لم يكن في المدن المشرقية. فمازلت أحدثه عن بلادنا وحسن مواقعها حتى قذفت بنا الأقدام في شوارع خارجة عن النظام، تسيل بها مياه المنازل كريهة الرائحة، فالتفت إليه قائلاً: أيباع في تلك الشوارع ماء كلونيا؟ فبدلاً عن أن يلتزم بالحجة عاث بيديه ورجليه مضطرباً ضاحكاً مكرراً جمل العفو، حتى هدأ باله، وأخذ يُرقم ما كان من الحديث للتذكار، ولم نزل معاً حتى تصوبت الشمس للمغيب، فمددنا يد الوداع متواعدين بتواصل الرقاع، وعمدت للمبيت بها إلى الصباح قاصداً مبارحتها إذا ابيضَّ من الدجى الجناح.

أما مدينة كلونيا فهي موضوعة على الجهة الشرقية لنهر الرين صانعة عليه قوساً، يسكنها 267000 نفس، وخمسة أسداسهم كاثوليكيون، وهي من أعظم مدن ولاية الرين إحدى ولايات البروسيا، ومن أهم موضع للتجارة بألمانيا، وتعد هي ومدينة ديتس التي توازيها من الشاطئ الآخر قلعة حصينة من الدرجة الأولى، وقد أوصلوا بينهما جسراً عظيماً حديدي المادة كبري وقد اتسع عمرانها اتساعاً عجيباً منذ ما جعلت قلعة، وذلك من سنة 1881 ميلادية. وكلمة كلونيا لاتينية ومعناها المستعمرة، أسسها أحد قواد الرومانيين المسمى أجربا في سنة 38 قبل الميلاد، ودعا إلى سكناها بعضاً من القبائل الألمانية وكانت تسمى وقتئذ كلونيا أجرينسيس أي مستعمرة أجربا، ثم اختصرت، فيما بعد، فقيل لها كلونيا فقط، ويدعوها الألمانيون بكلمة كان. وفي أواخر القرن الخامس عشر بعد الميلاد تملَّكها الإفرنج أسلاف الفرنساويين، ولم تلبث إلا وقد صارت جمهورية يحكمها مجلس يُدعى بمجلس الشيوخ. وقد كان بألمانيا مدن تماثلها في الاستقلال، وتتبع إمبراطور ألمانيا تبعية شرف، ولكل منها مجلس خاص، ولمجموعها مجلس عام كان ينعقد في مدينة لوبك في شمال ألمانيا على بحر البلطيك وفاقت كلونيا إذ ذاك باقي

تلك المدن لأهمية موقعها التجاري. وفي القرن الثاني والثالث عشر تولع أهلها بإقامة شعائر الدين المسيحي فتفننوا في بناء الكنائس والبيع حتى صارت لهم اليد الطولى في إتقان المباني، كما يدلك عليه الكنيسة الكبرى التي وصفتها آنفا، وفي القرن الرابع والخامس عشر أزهرت فيها صناعة التصوير، واشتهرت مدرستها في تلك الصناعة اشتهاراً عجيباً، وفي القرن السادس عشر أخذت كلونيا في الانحطاط شيئاً فشيئاً، ونزل بها الفرنساويون سنة 1794م واستولت عليها البروسيا في أواخر سنة 1815 في الحرب الشهيرة المسمّاة بحرب الحرية وقد ذكرتها في الرحلة البرلينية. وحينما سَلَّ الصبحُ من غمد الظلام سيفه، وفتح الأفق عن حدقة الشمس طرفه، هزتني أريحية الآمال إلى السير والترحال، فامتطيت الرين في باخرة ماخرة. يشق حَباب الماء حيزومُها بها ... كما قسم التربَ المفائلُ باليد فنَهَرت بنا تتثنى، ونحن بدلالها نتغنى، وقد بسط الربيع على الشواطئ بساطه الأخضر، وخلع عليها ثوبه الأزهر. وبساط الربيع أخضر قد ... حامَ به الرين حاملاً أطرافه

وقد كان على ظهر تلك الجارية، وتيك البضة العارية، جمٌّ من الغرباء، قد بارحوا الوطن لإمتاع الطرف بذلك المنظر الحسن، فسررت حيث ضمني وإياهم نادٍ سمعت فيه مختلف لغاتهم، وتعرفت تباين صفاتهم، فمن رجال أولي حماسة وسماحة، لطيفي السجايا فسيحي الساحة، ومن جوارٍ حسان قد تمنطقن بالجمال، وتوشحن بوشاح الكمال. حسان أعارتها الظِبا حسن وجهها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر ينثنين عن كثبان، ويتمايلن وهن غصن البان، وقد ترامت غدائرهن على الأقدام لتشفع لأولي الهوى والهيام، ولولا المجد والفضائل لأصبح مثلي أسير تلك الحبائل. وإني لأستحي من المجد أن أُرى ... حليفَ غوانٍ أو أليف أغاني على أنني من قوم، ولا فخر شيمتهم الغرام، وديدنهم الهيام، فما ترى منهم إلا في المحبة ناثراً، ولا في الصبابة إلا شاعراً. نحن قوم تذيبنا الأعين النجل ... على أننا نُذيب الحديدا ولم تزل الباخرة بنا تتثنى وتميل، ونحن نمتع الطرف بذاك المنظر الجميل، إلى أن مرَّت بنا على قرية باسقة الأشجار،

زاهية الثمار، لا أعلم منها سوى أنها وطن لرجل يدعى بتهوفن كان فريد عصره في الألحان الموسيقية بأنحاء ألمانيا، ولد بها سنة 1770 ومات في فينا سنة 1827 ميلادية، وتسمى تلك المدينة بن ومنها تأخذ الشواطئ ارتفاعاً، فتصنع أكمات وجبالاً. ويسمون الجبال الشرقية بجبال أيفل والغربية بجبال فسترفالد وهي مزروعة بالكروم والأعناب، يتخذ منها النبيذ أبيضه وأحمره، وليس لأهل تلك الجبال اشتغال إلا بزرع الأعناب وتعهدها. وبعد قليل أشرفنا على مدينة يدعونها كونجس فنتر ومنها تتفرع سبعة جبال وشاهدت بها من بعد قصراً يسمونه أدرخن فلز ومعناه صخرة الآفة وذلك أنه كان يسكنه في قديم الزمان رجل يدعى زيج فريد وكان بطلاً شجاعاً، ويزعمون أن حية كانت بمغارة هناك فتجاسر ذلك البطل على قتلها والاستحمام بدمها، ولذلك يسمون نبيذ تلك الجهة أدرخن بلود أي دم الحية. ولما كان وقت الظهيرة تليت علينا سورة المائدة فاحتاط بها الجميع، وقد امتزجت الظباء بالأسود، ودارت عليهم كؤوس ابنة العنقود، وأما أنا فتناولت، ولا فخر الراح ملؤها العذب القراح، مكتفياً بما خامر خُماري من صرف الهوى وصفو الهواء، وحسن ذلك المنظر الوضاء، ولم يزالوا بالكؤوس، يصيدون سرور النفوس،

ولطرح الأتراح يرفعون الأقداح، وهي كأنها الياقوتة الحمراء، حتى تشابه عليهم الراح والصهباء: رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر وحينما قتلتْ تلك المقتلةُ أتراحهم، وأقامتْ أفراحهم، أخذ الرجال يسامرون النساء، حيث على يمين كل منا غيداء هيفاء، وريثما جاذبت مع قسيمتي أطراف الحديث، من ماضٍ وحديث التفتت إلي ومالت: والسكر في وجنتها وجفنها ... يفتح ورداً ويغُض نرجساً وتثنت وقالت: سيدي العفو قبل الملام. فقلت: بروحي سيدتي، علام؟ فقالت: أفي ريعان الشباب وتجتنب الشراب؟ والكؤوس راحة النفوس. ونحن في مجلس أشرقت بأفقه شموس السرور، وأحدقت عليه هالة الحبور؟ وقد علمت من حديثك الفصل أنك عربي المنشأ مشرقي الأصل، وقد سارت إلينا الأخبار وامتلأت الصحائف والأسفار تنبئنا عن الخلاعة المشرقية، والصبابة العربية، فأين أنت من حانات الخلفاء السالفين، ومحافل الأدباء الماجنين، وأحاديث العشاق الذين أضناهم الحب والاشتياق؟ فحين أطربت مسمعي بلفظها الأغن، وبعبارة منطقها الحسن، علمت أنها رضيعة لبان الأدب، وسليلة

مجد وحسب، فقلت لها وكنت بها ولها: سيدتي أما الهوى فنحن كما قلت أهلوه، والهيام نحن بنوه، ونرى خمر الغرام حلالاً، وأما الصهباء فلا لا، وما كان من أحاديث السالفين فما هي إلا أساطير الأولين، تتلى علينا لنفي الأتراح، وانتعاش الأرواح، حيث نراها، ولا مرية، أعجوبة، وفي هذا العصر لمثلنا أطروبة. فانثنت عن استغراب، وقالت بدون ما إعجاب: بخٍ بخٍ لقد أبنت لي وجه النهار، وكشفت عن شمس الحقيقة سحائب الأستار، ولقد جاهرتك بحديث الطرب، ولوعاً بأخبار العرب. وبينما كنا بذلك الحديث الأغر إذا رست الباخرة على بلد أزهر. بعدها قمنا عن الطعام، وحمدنا الله على ذلك الإنعام، وقد علمت أنها ستنزل بهذا البلد، فاشتبكت منا للوداع اليد وشيعتها، وكلُّ معجب بهذا التعارف الذي عقدته يد التصادف. أما هذه البلدة فتسمى كوبلنس وهي مدينة قديمة موضوعة على زاوية حادة، أحد ضلعيها على نهر الرين، والآخر على نهر موزل حيث مصبه، وقد جعل ذلك لها موقعاً حسناً. وهي عاصمة ولاية الرين إحدى ولايات البروسيا، ويصل منها كبري إلى وادٍ في الشاطئ الغربي، وبذلك الوادي قلعة حصينة قد هدمها الفرنساويون سنة 1801 ميلادية، وأعيد بناؤها في سنة 1815م.

برج القط وبرج الفأر

وكلمة كوبلنس محرفة عن كلمة لاتينية أصلها كون فلوونس ومعناها السائل معاً إشارة إلى مصب نهر موزل في نهر الرين. برج القط وبرج الفأر ثم بارحناها فجعلت أنظر القوم وقد لعبت بعقولهم الراح، وانتعشت منهم الأرواح، يضحكهم أقل عبارة، ويطربهم أدنى إشارة، فما رأيت، حتى عجبت لأعاجيب الصهباء، وفعلها بألباب العقلاء. أما الجهات التي مررنا عليها فليس لذكرها كبير فائدة، إلى أن وصلنا إلى مصب نهر يقال له لان في الجهة الشرقية لنهر الرين. وبعد هنيهة مررنا على قرية تدعى رنكتجوار، وشاهدت بها من بعد برجين بينهما مسافة بعيدة، يسمى أحدهما برج القط، والآخر برج الفار، وكانا قديماً مسكونين بقوم يدعونهم بالفوارس اللصوص، وذلك أنهم كانوا يتربصون للقوافل التجارية، ويطلبون منهم رسوماً على البضائع. ومما يحكى عنهم أنه كثيراً ما تشاجر أهل ذينك البرجين، وكانت الغلبة دائماً لبرج الفار، وإن كان ذلك خارقاً لناموس العادة والطبيعة. ثم أشرفنا على جبل شاهق صخري وبينما كنا بحذائه إذ سمعنا صوتاً مزعجاً اضطربت له الأعصاب واقشعرت له الأبدان، وإذا به صوت مدفع أطلق بهذا الجبل تشريفاً للباخرة، وإدخالاً للسرور على السياحين بسماع صدى ذلك الصوت في مهاوي ذلك

المطران والفئران

الجبل ومغاراته، وبعدما علمنا ذلك دخلنا الاستغراب من قوة هذه الظاهرة الطبيعية. وهذا الجبل يدعونه جبل لورلاي وذلك أنهم كانوا يزعمون أن امرأة ساحرة تسمى لورلاي كانت تسكن مغارة به، وأنها كانت جميلة ذات شعر أصفر طويل، وكانت تجلس على الشاطئ فتسرح شعرها بمشط من ذهب، ثم تأخذ عوداً فتنقر عليه، وتغني، فإذا مرَّ عليها الملاحون يطربهم غناؤها، ويغشى عليهم فيغرقون، وأنها لمحت ذات يوم أحد الملاحين فكلفت به وعشقته، ثم راودته مراراً عن المجيء إليها والتزوج بها فأبى خوفاً منها، ولما طال عليها الأمد واشتدَّ غرامُها، رمت بنفسها إلى النهر فماتت. وهذه الحكاية مشهورة لدى الألمانيين كثيراً حتى إنهم صاغوها في أدوار شعرية، يوقعون عليها الألحان الموسيقية، في محافل الأغاني، ويغني بها أيضاً الرجال والنساء في المجتمعات الخصوصية. المطران والفئران وبينما نحن في المسير إذ عرجت بنا الباخرة على جزيرة بها برج عالٍ يسمى برج الجرذان (الفيران) أقامه المطران هاتو سنة 900 ميلادية، وذلك أنهم زعموا أن ذلك المطران كان ذا ثروة من الأغنياء المكثرين، وقد لحقهم في أيامه قحط شديد، فبخل بالغلال المدَّخرة لديه، أملاً منه أن يبيعها

فيما بعد بقيمة عظيمة، فابتلاه الله بالفيران فأكلت غلاله واحتاطت به، تلعب عليه أينما سار أو جلس، حتى إنها كانت تقع في مائدة طعامه إذا أكل وتخطف من يديه المأكولات، فلما أعيته الحيل أتى إلى هذه الجزيرة، وبنى بها ذلك البرج ليسكنه هرباً منها، وبينما هو به إذا بالفيران قد ملأت قاعاته ولم يزل مبتلياً بها حتى مات. وحينما سمعت هذه القصة وما ذكر آنفا، علمت يقيناً أن شواطئ نهر الرين كانت الوطن الثاني لخرافة العُذْري، وأخذني العجب من هذه الخزعبلات، وأمثالها التي ملأت العالم شرقاً وغرباً، وقامت دليلاً على شدة العقل الإنساني إلى التصديق، وحبه المفرط لما كان غريباً أو عجيباً من الأمور، ولخوارق العادات، وليس هذا بأعظم من عجبي من سرعة انتباه أهل أوروبا في هذا العصر الحالي، وتيقظهم وميلهم إلى حقائق الأشياء، وعدم اعتبارهم لمثل هذه الخرافات، وإن كان فيهم أولو جهالة وطباع بسيطة كباقي الأمم. ولم نزل نمتع الطرف بمحاسن ما على اليمين واليسار من الشواطئ ذوات الأشجار والأثمار، وقد لبست الشمس جلبابها الأصفر فرَقاً من فراقها لحسن ذلك المنظر:

ما اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلا لفرقة حسن ذاك المنظر فياله من منظر يهش إليه الخاطر، ويقرّ لرقة جماله الناظر، فكأن ابن خفاجة كان يرمقنا بطرفه حين أنشد ضمن طرفه: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء أو مجير الدين بن تميم قد حاضرنا، وقد وصف فأنشدنا: ونهر إذا ما الشمس حان غروبها ... ولاحت عليه في غلائلها الصفر رأينا الذي أبقت به من شعاعها ... كأنا أرقنا فيه كأساً من الخمر إلى أن عرجنا على قرية تسمى رودسهيم وقد أقبلت وفود النجوم فنزلت بها للمبيت في حيها، حتى إذا باح الصبح بسره حركت الأقدام للصعود على جُبَيلها المسمى نيدرفال لمشاهدة تمثال جرمانيا فصعدت ضمن الصاعدين السياحين، وحولنا الكروم والأعناب، وقد شقُّوا في ذلك الجبل طرقاً يسهل المسير فيها، ومدوا بها القضبان الحديدية لتصعد عليها عربات البخار، وحتى إذا علونا ذروته رأيناه آخذاً تسطيحاً قريباً من الاستواء، وقد شغلته الآجام والغابات، وعلى طرف ذلك الجبيل قد أقيم تمثال عظيم مشرف على نهر الرين يسمونه تمثال جرمانيا تذكاراً للحرب الأخيرة الألمانية الفرنساوية وهو على هيئة امرأة رافعة بيدها اليمنى التاج الإمبراطوري، وقابضة بيدها اليسرى القضيب الإمبراطوري كذلك قائمة على قاعدة منشورية

الشكل على قاعدة أخرى مستطيلة، نقش على أحد أوجهها صورة الإمبراطور فيلهلم الأول ونجله الإمبراطور فريدك والبرنس بسمارك، وكثير من الأمراء الألمانيين، وارتفاع ذلك التمثال 30 متراً، وأما ارتفاعه عن سطح نهر الرين فهو 225 متراً ألقى أساسه بيده الإمبراطور فيلهلم الأول في سبتمبر سنة 1877 ميلادية، وفي سبتمبر سنة 1883 تم بناؤها فقدم إليه الإمبراطور وجميع عائلته وأقاربه، وكل ملوك ألمانية وأمراؤها، واحتفلوا له، وكان يوماً مشهوداً لديهم هنأ فيه الملوك والأمراء بعضهم بعضاً، وانطلقت فيه ألسنة الخطباء، وقد خطب في جملتهم الإمبراطور فقال بعد كلام طويل، وقد أشار إلى التمثال بيده: لتكن أيها التمثال تذكاراً للذين فدوا الوطن بأرواحهم فأصبحوا حشواً للقبور، وفخراً للعائشين وقدوة لأبنائنا التابعين. ومن ذلك الميدان يرى الإنسان لمنظر نهر الرين وما حوله هيئة عجيبة، لا سيما موقع مصب نهر يقال له ناهه في نهر الرين، ثم هبطت من الجهة الأخرى على ذلك الجبيل، وشاهدت بلدة صغيرة يقال لها أسمانسهوزن وهي قرية موضوعة على نهر الرين يشغلها من السكان 1000 نفس تقريباً مشهورة بنبيذها الأحمر، وبها عين ماء معدني جارٍ، كانت معروفة ومستعملة للرومانيين قديما في الاستحمام.

ثم اتجهتُ منها إلى الشاطئ فتأملتُ طويلاً في محاسن الصنعة الإلهية التي تحار لها العقول، وطوّحت النظر إلى الشاطئ الثاني حيث مصب نهر ناهه في نهر الرين فشِمْتُ من خاطري انتعاشا لمشاهدته، فعبرت يقلني زورق حتى وصلت إلى الشاطئ، ومنه جست جسراً على نهر ناهه المذكور فوق المصب فراقني منظره العجيب، وقد اندفق ماؤه في نهر الرين بخرير صَغَت إليه النفس، وارتاح له الخاطر، حيث كان ذلك أول مرة عاينت مصب نهر في آخر، ثم ساقتني الأقدام إلى بلدة على ذلك الشاطئ تسمى بنجن فدخلتها وجست خلال سبلها، فإذا هي كثيرة الأسواق، ضيقة الشوارع غير نظيفتها، بها من السكان 7000 نفس، وكانت قديمة مطروقة للرومانيين حيث أعدوها قلعة لهم، وجعلوها باباً إلى طريق مدينة كلونيا التي تقدم لنا ذكرها. ولما نالت العين حظها من مشاهدة تلك البلدة، عبرت النهر ثانية إلى بلدة رودسهيم وقد أرخى الظلام على الآفاق أسداله، وطرزت النجوم بعسجدها أثماله، وريثما تناولت طعام المساء قلت لخادم الأوتيل: ألم يكن في حيكم هذا حلاق؟ فقال نعم، بجانبنا حلاق نظيف مشهور، وهو مخصوص بأمراء البلدة وأعاظم الناس. فخرجت وقد هداني إلى محله، فألفيت باب بيت دخلت منه فإذا برجل قد نزل إلي يدعوني إلى الصعود، وحينما صعدت

قابلتني زوجته، وأولاده يرحبون بي، وقد فرحوا فرحاً شديداً، وأدخلوني قاعة ليس بها إلا مرآة وكرسي أجلسوني عليه، واحتاطوا بي صانعين دائرة، وقد حمل أحد أولادهما سراجاً لامبه والآخر طستاً، والزوجة طفلاً لها، والرجل يحلق لي، فداخلني السرور من مشاهدة ذلك، وامتلأ صدري استغراباً كاد يهزّ من جسمي ضحكاً، لولا ما ملكت النفس، وبينما نحن بهذه الهيئة العجيبة التي تمنيت أن يراها أحد المصورين قالت الزوجة إلى زوجها: - أما تنظر سواد شعر هذا السيد؟ فقال: - نعم، وأنا منه أعجب. ثم دنا أحد أولادهما وأشار بإصبعه، قائلاً: - انظروا، انظروا وعيناه سوداوان. فغلب علي الضحك، وقلت: - سادتي أهذا عجيب بينكم؟ فأجابني الرجل: - نعم، وإني شغوف بأن أعلم من أي بلد يكون السيد؟ فقلت مداعبا: ً - برلين فضجوا استعظاماً لسماع كلمة برلين التي سمعوا بها ولم يروها، ثم التفت إلي الرجل قائلاً: - أحقيق ما يقال إن السكة الحديدية ببرلين فوق المنازل؟ فقلت ضاحكاً: - نعم، وتحتها أيضاً. ثم قالت زوجته: - أو كل البرلينيين أولو شعر أسود وأعين سود؟ فأجبتها: - نعم، ولكن أغلبهم. فتأمل الرجل طويلاً وقال: - لا، وما أظنك إلا فرنساوياً أو روسياً؟ فقلت: - ما أنا بأحدهما. ولم يزالوا يكرِّرون السؤال وأنا ما بين ضحك وملل، حتى إذا علموا أني مصري بهتوا، حيث لم يدروا

توديع الراين

أين هي بلاد مصر؟ فقلت لهم: - في شمال إفريقية، وهي من بلاد المشرق. فقال الرجل: - نعم أتذكر ذلك، وأعلم أن علامة دولتكم هي الهلال، وقد سمعت أن السبب في ذلك أن القمر في بلادكم لا يكون إلا هلالاً. فقلت: - نعم، وأرجوك أن تسرع لكثرة أشغالي. حتى إذا أتم ودعتهم شاكراً لهم، حيث أطلعوني على ما أوسع من نطاق تعرفي بالفرق بين سكان المدن والقرى مسروراً من بساطتهم وسلامة نيتهم. توديع الراين ومذ ابيضَّ جناحُ الأفق عنَّ لي أن أشاهد مكاتب تلك القرية ومدارسها، فخرجت بعدما علمت مواضعها حتى إذا دخلت أشهرها قابلني ناظرها، وقد قدمت له تذكرة زيارتي، ثم أخذ بيدي يعرض علي فصلاً فصلاً، فألفيت التعليم حميد الطريقة، وإن كانت أدوات التعليم بسيطة، وأغلب الأطفال بنات وصبياناً حفاة، ليسوا بنظيفي الملابس، كما تدعو إليه معيشة أهل القرى، أما الفنون المقروءة بها فهي القراءة، والكتابة، والحساب، وجغرافية ألمانيا وفلسطين، والقواعد الدينية. وباطلاعي على الكتب المعدة للتدريس وجدتها آخذة طريقة طبيعية سهلة المأخذ، لا سيما كتب تعليم المطالعة لاشتمالها على تراجم بعض ملوك ألمانيا ومشاهير أمرائها مع الاختصار وبساطة الألفاظ وانسجام الأسلوب، ثم خرجت من بين أيديهم

شاكراً لناظرهم على ما أولاني من جميله، وسرت الهوينا في طرق تلك القرية فشِمتها صغيرة، وتسمى كما علمت رودسيهم موضوعة على الجهة الغربية لنهر الرين صانعة عليه قوساً منحدراً من جبيلها المسمى نيدرفال المشغول بالكروم، وسكانها 4000 نفس، وهي مشهورة قديماً وحديثاً بنبيذها الأبيض والأصفر، يأتيها الغرباء كثيراً مدة الصيف لتغيير الهواء بها، ومشاهدة تمثال جرمانيا المذكور آنفاً، وأهلها ما بين زارع للأعناب وصانع. وفي مساء ذلك اليوم شرفني ناظر المدرسة المتقدم ذكرها وبصحبته خمسة من أصحابه ما بين نظار لمدارس أخرى ومعلمين، فرأيت ذلك كمال عناية منهم، ورحبت بهم، وعظَّمت من مكانهم، وقضينا المساء نتفاوض في حديث المدارس والتدريس، ثم ودعوني وأنا أتلو لهم كلمات التشكر والممنونية، ومن جملة ما تجاذبنا فيه الكلام أني عرضت عليهم سؤالاً كنت شغوفاً بمعرفة جوابه قائلاً كيف ترى الآباء في تلك البلاد والقرى أمر إلزامهم بإرسال أولادهم إلى المدرسة وتعلمهم؟ فرددوا كلمات التأوه مما يلقونه من إباء الآباء، وضجرهم من الأخذ على أيديهم، حيث لا مطمح لنظرهم إلى الحاجيات لا الكماليات، والمعيشة لديهم متوفرة بدون أخذهم بالتعليم، فقلت

لهم هذا موضوع طالما أجلت فيه الفكر، أثبت تارة وأمحو طوراً، حتى بانت لي واضحة الطريق. فرأيت ضرورة تعميم التعليم في مدن وقرى دولة يرام صلاحها. ومعلوم أن الدولة مجموع أفراد، متى كانوا جهالاً رموا بها في مهاوي الجهالة، ومتى كان البعض عارفاً، والبعض الآخر جاهلاً ضر، وأبطأ جهل البعض من نتائج معرفة الآخر، وإن كان ذلك الضرر كميناً لا يلحظ إلا بدقة النظر في الأحوال العمومية والخصوصية، وإليكم مثلاً لاحظته بقريتكم هذه، وذلك أني أرى في أغلب الطرق قوائم ملصقاً عليها الإعلانات، وتحذيرات من الضابطة موضوعها أمر الأهالي بحفظ النظام وما أشبه ذلك، فلو كان الأهالي أميين لا يعرفون القراءة لالتزمت الضابطة أن تصرف، وقتاً بعد آخر، إنسان يصيح بنعيرته في الأزقة والطرق، يبلغهم الأوامر فيحرك من سكونهم ويكدر من راحتهم، وفضلاً عن أنهم لا يفهمون، أو يفهمون ويستهزئون، يداخلهم الرعب شيئاً فشيئاً بتوالي التبليغ حتى يحط من قوة جأشهم، ويكسبهم صفة الجبن، فيصيروا هم والأغنام سواء، يحتاجون إلى راعٍ يهش عليهم بعصا القوة يحفظ من مجتمعهم، وأما الآن فما عليهم إلا أن يرفعوا أبصارهم ويطالعوا الأوامر، ولهم شغف بمضمونها، ثم يسير عنها بدون أن تهيج لها خواطرهم، على أنها تبقى لديهم نصب أعينهم أية

الوصول إلى فيسبادن ودخول الحمام الروماني

طريق ساروا بها. فكيف ترون سادتي فائدة هذا المبلغ الصامت الجالب لانقيادهم بأدنى سهولة؟ ولو نظرنا نظر تبصر إلى كثير من مثل تلك الأحوال الاجتماعية لعلمنا حكم وجوب تعميم التعليم في المدن والقرى. هذا ولما أدبرت عساكر الليل، وأقبل النهار براياته بارحت تلك البلدة بطريق البر مودعاً شواطئ نهر الرين، ولي شغف بجميل مناظرها، ومحاسن مواقعها. أما سكان تلك الشواطئ فشمتهم سميحي الأخلاق، بشوشي الوجوه ملاطفين، يغلب عليهم بعض الطيش وخفّة الحركة، ولغتهم - كما لا يخفى - ألمانية، ولكن لهم لهجة مخصوصة تخالف اللهجة البرلينيّة، فتراهم يلفظون الألفاظ ملء أفواههم مع التفخيم، وتطويل بعض المقاطع والإسراع في أخرى، ولذلك كنت شغوفاً بكثرة التكلم معهم، وسماع ألفاظهم التي كادت أحياناً تميلني ضحكاً. الوصول إلى فيسبادن ودخول الحمّام الروماني ولنرجع إلى حديثنا فنقول: ولم يزل الوابور يقذف بنا في بلاد وقرى لا أهمية لذكرها إلى أن وصلنا إلى مدينة فيسبادن المشهورة بحماماتها فنزلت بها منتصف النهار، ومكثت بها يومين للتريض بحدائقها الجميلة، والتعرف بأحوالها، وأول ما قصدت مشاهدته فيها الحمَّامات الصحية، فدخلت أشهرها بعدما أخذت تذكرة مرقوماً عليها نمرة خَلْوة للاستحمام، ثم

ضُرب جرسٌ إيذانا لأحد الخَدَمة بحضوري ليهديني، فجاء إليَّ خادم يتدحرج يقل رجلاً ويضع أخرى لسمنه، فسرني منظره الذي قام لي دليلاً على أهمية منفعة ذلك الحمَّام، ثم طلبت منه أن يعرض علي أولاً ساحات ذلك الحمَّام لمشاهدتها، فسار أمامي وتبعته حتى أوصلني إلى قاعة عمومية، حيطانها وأرضها من الرخام، وفي وسطه فسقية تبعث بالماء المعدني على هيئة قبة، وحواليها كؤوس، فشربت منها ماء حارّاً تغلب عليه الغضاضة مائلاً إلى الصفرة، ورسوم على حيطان تلك القاعة واقعة حال، ذلك أنهم صوروا شخصاً ملقى على سرير، ناحل البدن مريضاً، ثم صوروه وقد كشف عليه الطبيب وأمره بأن يتوجه إلى حمام الصحّة، ثم صورته وقد تم شفاؤه، وبيده اليسرى كشف الحساب ضارباً بيده اليمنى في جيبه يريد دفع الحساب. وقد رأيت ذلك حسناً وإن كان من باب تحلية البضاعة، ثم عرض علي عيناً طبيعية من العيون التي به وماؤها يفور فوراً أحاط بها بناء قديم أقامه الرومانيون مرقوم على حيطان القاعة التي هي بها كثير من الجمل باللغة اللاتينية، وبجوارها حوض عظيم متسع المساحة قديم، أيضاً، ينصرف فيه الماء لتبريده، فسرني رؤية ذلك كله مستعظماً ما صنعته يد الرومانيين في قارة أوروبا من تأسيسهم دعائم التمدن والعمران.

أما خلوته فهي مرمرية الأرضية، متأكسدة بخاصية أملاح الماء المعدني، وبها مغاطس وفراش للجلوس، ومرآة وما أشبه ذلك. وبالجملة فقد بارحت ذلك الحمام مسروراً من حسن انتظامه وجمال إتقانه وترتيبه. أما مدينة فيسبادن فهي موضوعة على الجنوب الغربي لنهر يقال له تونوس ويمر بها غُدير صغير، ومنازلها لطيفة وشوارعها آخذة انتظاماً شطرنجياً مع الاتساع، وقد غرس بها الأشجار، وبها ميادين متّسعة تشغلها الأشجار حول فساقي تنبعث عنها المياه مرتفعة. وتعد من أقدم المواضع المشهورة بالهواء الصافي، وكانت عيون مياهها المعدنية المسماة فونتس ماتياسي معروفة ومستعملة للرومانيين قديماً، كما علمت، وهي إلى الآن مطروقة للغرباء لأخذهم بحماماتهم، والتريض فيها، ولذلك قد أقاموا لهم في كثير من الميادين قاعات زجاجية بها آبار الماء المعدني، ويسمونها آبار الفوران، وهي معدة لكل من أراد الشرب منها بدون ثمن، فهي كالسبل لدينا. وبها بنات نظيفات أمامهن طاولة يضعن عليها كؤوساً ملآنة بذلك الماء للواردين، كما قد أعدُّوا للغرباء أيضاً محلاً متسعاً للتنزه وسماع الموسيقى، ويسمونه منزل الشفاء، وهو كقصر لطيف وسط بستان

عظيم، شقوا طرقه على أحسن انتظام، وأجروا فيه بحيرات صناعية، وبه تخوت لأولي الألحان، أما ذلك القصر فيشتمل على كثير من القاعات مبنية بالمرمر، وفراشها الحرائر، وما أشبه ذلك. وقد قسموا تلك القاعات إلى أقسام: فمنها ما هو معدٌّ للألعاب كالشطرنج والنرد، وخلافهما، ومنها لتلاوة الجرائد حيث يأتيها الجرائد من جميع الأقطار، ومنها ما هو معدّ للاستراحة فقط، والناس بتلك القاعات جالسون كأن على رؤوسهم الطير حيث لا يجوز لأحد رفع صوته فيها حرصاً على أمزجة الباقين، وإذا مشى أحد سار الهوينا، لئلا تهيج لحركاته أفكار الحاضرين، فإنهم من الذين لا يتحملون ذبابة تحول بينهم وبين الجو، وذلك لأن أغلب الغرباء الذين يأتون تلك المدينة على أقسام شتى: فمنهم من أصابه مرض الغنى، فيأخذ نفسه بالترفه والترف، وعدم الاشتغال، فيضيق منه الخاطر فتتشنج أعصابه، وأغلب ذلك القسم هم النساء والرجال، ولذلك يأتون إلى هذه المدينة لصرف أفكارهم بالتنزه، وسماع الموسيقى والألعاب، ومشاهدة مراسح التشخيص، وما أشبه ذلك، ومثلهم لدينا كالنساء اللواتي يزعمن أن عليهن الزار.

ومنهم من أصابته سهام العيون، فأصبح خدن الشجون، وشرب كؤوس الصبابة، ولم يبق بها صبابة، وأنحل العشق قوامه، وزاد الهيام غرامه، وأغلب ذلك القسم هم الشبان والبنات، فنرى الواحدة منهن كأنها فلقة قمر، أو قطعة جوهر، تميل عن قوام ترقرق فيه ماءُ الحياة، كما سار فيه سر الجمال، وتلتفت ولا تلفتَ الظباء بوجه يرتوي الظمآن من مائه الزلال، وهي مع ذلك تشكو بثّ الهوى، وتبث شكوى الجوى. ومنهم أولو الأشغال عقلية كالعلماء والكتبة وأولي الإدارة، أو بدنية كالصناع وأرباب المعامل، فيقيم الجميع بتلك المدينة شهراً أو شهرين طلباً للشفاء. ومتوسط عدد الغرباء الذين يأتونها مدة الصيف في كل سنة 60000 نفس: فمنهم من يقيم بها، ومنهم من يمر بها للتفرج. وأما عدد سكانها الوطنيين فهو 57500 نفس، وهي الآن تابعة لمملكة البروسيا منذ الحرب البروسيانية النمساوية، وذلك في سنة 1866 ميلادية، وكانت قبلئذ عاصمة لدوقية يقال لها ناسو. وريثما نالت النفس كفايتها من مشاهدة تلك المدينة بارحتها رافعاً أكف الضراعة إليه سبحانه بأن يلبس الرجال والنساء ثوب العافية ويجرد الشباب والبنات عن ثوب السقام، ويلهمهم الصبر والسلوان عن الغرام.

وبعد سويعات وصلنا إلى مدينة يقال لها مينس فنزلت بها ولي شوق مزيد لمعاينتها، فمكثت بها بضع ساعات، فشمتها مدينة لطيفة حافظة آثارها القديمة من كنائس وبيع ومنازل موضوعة على الشاطئ الغربي لنهر الرين، وتعتبر ميناء عظمى، لاتساع نهر الرين بمرفئها، وفي الشاطئ الثاني يصب فيه نهر المين المشهور، وشاهدت بها آثار مجرى ماء من أبنية الرومانيين أقاموه لتوصيل المياه من نهر الرين إلى البلاد الداخلة. وهي من أقدم المدن الألمانية، وكانت تسمى قديماً موجو نلياكم وهو اسم بلغة الكلتيين، وكانوا أمة يسكنون ضواحي نهر الرين قبل الجرمانيين، وقد انقرضوا اللهم إلا أن منهم الآن قوماً في بلاد بريطانيا يخلطون اللغة الإنجليزية ببعض ألفاظ أسلافهم، كما رأيت ذلك مسطوراً في الكتب الجغرافية والتاريخية. وكانت تسمى تلك المدينة في عصر الرومانيين موجونيا وكانت مقر والٍ لهم واعتبروها قلعة حصينة كما هي إلى الآن من أهم القلاع بألمانيا. وفي أواسط القرن الثامن الميلادي صارت المحل الذي يتوج فيه كلّ إمبراطور يتولّى على بلاد جرمانيا. وفي سنة 1462 صارت مستقلة يحكمها مطران، واستولى عليه الفرنساويون من سنة 1792 إلى سنة 1814، وهي الآن تابعة لغراندوقية يقال لها درم ستات. وعدد سكانها الآن 66300 نفس.

وبينما أنا سائر بها إذ قذفت بي الأرجل إلى ميدان أقيم في وسطه تمثال يوحنا جوتن برج مخترع الطبع، وبيده مجموع من الحروف السلكية فوقفت متذكراً عظيم ما أتى به من الاختراع الذي عاد على البسيطة بالنفع العام، وحيث سار بنا الكلام إلى حديثه أحببت أن أوافيكم بذكر ترجمته فأقول: هو يوحنا جوتن برج، وكلمة جوتن برج اسم لقطعة أرض كانت مملوكة لأسلافه ومعناها جبل طيب، ويسمى ذلك الرجل أيضاً جنرفليش ولد في مدينة مينس المذكورة بين سنة 1395 وسنة 1400 ميلادية وهو من عائلة أصيلة ليست بغنية، وكان في أوائل أمره يميل إلى الأشغال اليدوية فيشغل نفسه بأعمال صور مادتها الأخشاب أو الحديد، ثم بارح تلك المدينة، وسكن مدينة استراسبورج عاصمة الإلزاس لورين واهتدى وقتئذ إلى اختراع آلة الطبع فعمد إلى أحد أغنياء تلك المدينة المسمى تريتسين المذكور، وكان له أخ فقام يطالب يوحنا بالمصاريف التي أمده بها أخوه في حياته، فأبطأ ذلك من همته

زمنا طويلاً، ثم إنه في سنة 1443 رجع إلى بلدية مينس، واتفق مع أحد الأغنياء بها المسمى فوست وكان صائغاً مثرياً، فأمده بماله، فعمل يوحنا المذكور المطبعة الأولى من الحديد، وأول ما طبع عليها الكتاب المقدس، وقد صرفوا فيها دراهم عديدة لم تأتِ بربحها، ولذلك أقام عليه فيما بعد فوست المذكور دعوى كان غايتها أن استولى على تلك المطبعة وأخرج يوحنا صُفْر اليدين، واشتغل فيها فوست بنفسه هو وأحد أصحابه المسمى بطرس شفر فعملوا إصلاحات فيها وأحسنوا من آلاتها وطبعوا بها كثيراً من الكتب الدينية لديهم. أما يوحنا جوتن برج فإنه لم يزل في طلب من يمده بالمال لتأسيس مطبعة أخرى، حتى ساعده أحد أولي الثروة ببلدة مينس فأسس مطبعة أخرى اشتهر بها ذكره، وعلا صيته في الآفاق، وأولاه الحاكم المتصرف وقتئذ لقب شرف وهو كلمة فن وهي في مقابلة الفرنساوية، فقيل له من ذلك الوقت يوحنا فن جوتن برج ولم يزل عزيز الجانب شريفه إلى أن اخترمته يد المنية 24 فبراير سنة 1468 ميلادية. هذا ويوجد اختلاف كبير في مسألة اختراع الطبع. فقيل إنه كان قديماً في أمة الصين، وادعته أهل هولندة أيضاً، ولكن أرى

ذلك كله لا ينقص من شرف يوحنا المذكور لعدم علمه واطلاعه على ما غاب عنه، ومثل ذلك اختلاف لا يعبأ به، ومثل ما قيل إن قارة أمريكا كانت معروفة قديماً قبل استكشاف كرستوف كلمب لها، فإن ذلك لا يضع من عظم ما أتى به، ولقد شافهه كثير من الناس عند رجوعه إلى قارة أوروبا بما يفيد تهوين ما قام به، ومن ذلك أن جمعه هو وبعضاً من أشراف الناس محفل، وقد مدت بين أيديهم مائدة تحادثوا عليها بحديث الاستكشاف، فرأى منهم استقلالهم بما أتى به، قائلين إن السفر أمر سهل، واستكشاف البلاد شيء بسيط تتصرف فيه يد الصدفة فقال: لهم نعم، وإن كان كل ذلك بسيطاً فلم يهتدِ إليه أحد قبلي، ثم نظر في المائدة فتناول بيضة مسلوقة ورفعها بيده قائلاً لهم: من يقدر منكم أن يجلس تلك البيضة على أحد طرفيها؟ فقالوا بلسان واحد: إن ذلك من الأمور المستحيلة، فأخذها وضرب بأحد طرفيها المائدة فأقعدها، وقد انكسر طرفها، وقال لهم: انظروا، فقالوا هذا شيء بسيط هين، فقال: نعم وإن كان هيناً فأنا أول من فعله، وقامت عليهم حجته بذلك. ثم إني أحببت في هذا الموضع أن أوافيكم بحديث غريب وذلك أنه مدة تجولي هذا بأنحاء ألمانيا، وتقييد ما شاهدته طلباً

لوضع كتاب فيه كان يحوم بفكري القاصر أني أول مشرقي مسلم طرق تلك البلاد ووصفها مادياً وأدبياً، وكان ذلك سبباً يبعث من همتي إلى دقة البحث عن أحوال تلك البلدان ولم يزل ذلك مختلجاً في صدري حتى إذا عدت إلى برلين أردت أن أتحقق جلية الأمر، فمازلت أتصفح في كتاب يسمى آثار البلاد ما يستدل منه أن أبا بكر محمد الأندلسي الطرطوشي المعروف بابن أبي رندقة قد ساح في بلاد ألمانيا ووصف بعضاً منه: فكدت أتيه عجباً وفخراً حيث زادني دليلاً على ما قامت به أمة العرب في القرون الأولى والمتوسطة من توسيع نطاق علمي الجغرافية والتاريخ، وصار لي حجة على أهل أوروبا الذي طالما شافهني كثير منهم مفتخراً بكثرة سياحاتهم، مدعياً أن المشرقيين لا عزم ولا جأش لهم، فقلما من تجول منهم وساح في البلاد طلباً لوصفها اللهم إلا ابن بطوطة المشهور بسياحته قديماً. وأبو بكر محمد الطرطوشي هذا ولد في طرطوشة بالأندلس في إسبانيا سنة 415 هجرية تقريباً، وتُوفي سنة 520 بمدينة إسكندرية، وله بها ضريح يزار إلى الآن، ويُكنى أيضاً بأبي رندقة قال ابن خلكان: وكلمة رَنْدَقة بفتح الراء وسكون النون وفتح الدال المهملة والقاف، وهي لفظة فرنجية. قال سألت بعض الفرنج عنها فقال معناها رد تعال انتهى.

وها أنا أثبت لكم توضيحاً للمقام بعض ما وجدته في بعض الكتب نقلاً عن كتاب آثار البلاد للقزويني تحت عنوان مدينة مينس التي نحن بصدد وصفها قال: مدينة عظيمة جداً بعضها مسكون والباقي مزروع وهي بأرض الفرنج على نهر يسمى رين وهي كثيرة القمح والشعير والسلت والكروم والفواكه، بها دراهم من ضرب سمرقند في سنة إحدى واثنتين وثلاثمائة عليها اسم صاحب السِّكة وتاريخ الضرب. قال الطرطوشي أحسب أنه ضرب نصر بن أحمد الساماني، ومن العجائب أن بها العقاقير التي لا توجد إلا بأقصى الشرق، وأنها من أقصى الغرب كالفلفل والزنجبيل والقرنفل والسنبل والقسط والخاولنجان فإنها تجلب من بلاد الهند، وأنها موجودة بها مع الكثرة أقول قوله في العنوان مغانجة أراد مدينة مينس وهذه الكلمة محرفة من كلمة موجونيا كما تقدم لنا توضيحه. فأنت ترى باطلاعك على ذلك ما يقوم لك دليلاً على دعوانا، وإن كنت أخالني وأخالك مستغرباً ما ورد في نص تلك العبارة، من أنه كان يوجد بتلك الأنحاء دراهم من ضرب سمرقند، ولكن لعلَّ السبب في ذلك هو كثرة المعاملة التجارية بين تلك البلاد وأواسط قارة آسيا، وسهل عليهم ذلك المواصلات البرية والبحرية.

شلشويق

وإليك أيضاً ما نقل عن القزويني في كتاب آثار البلاد المذكور تحت عنوان مدينة شليزفك وهي مدينة في شمال ألمانيا الغربي، وكانت تابعة لمملكة الدانمرك وهي الآن بروسيانية ونص عبارته: شلشويق مدينة عظيمة جداً على طرف البحر المحيط، وفي داخلها عيون ماء عذب، أهلها عبدة الشِّعْرى إلا قليلاً، وهم نصارى لهم بها كنيسة، حكى الطرطوشي: لهم عيد اجتمعوا فيه كلهم لتعظيم المعبود والأكل والشرب، ومن ذبح شيئاً من القرابين ينصب على باب داره خشباً، ويجعل القربان عليه بقراً كان أو كبشاً أو تيساً أو خنزيراً، حتى يعلم الناس أنه يقرب به تعظيماً لمعبوده. والمدينة قليلة الخير والبركة، أكثر مأكولهم السمك فإنه كثير بها، وإذا ولد لأحدهم أولاد يُلقيهم في البحر لتخف عليهم نفقتهم، وحكى أيضاً أن الطلاق عندهم إلى النساء، والمرأة طلقت نفسها متى شاءت، وبها كحل مصنوع إذ اكتحلوا به لا يزول أبداً، ويزيد الحسن في الرجال والنساء. وقال لم أسمع غناء أقبح من غناء أهل شلشويق وهي دندنة تخرج من حلوقهم كنباح الكلاب وأوحش منه. . أقول ما أطرب عبارته هذه التي لم يغادر فيها صغيرة ولا

زيارة بيت غوتة

كبيرة من وصف تلك المدينة إلا أحصاها، أما استقباح الطرطوشي لغناء أهل تلك المدينة فأجده من نفسي أيضاً لغناء أهل أوروبا. ولكن الحق أقول: إن السبب في ذلك هو تباين اللغات واختلاف الضغط على مخارج الحروف أو الإرسال، وكما أننا لا نطرب من غنائهم لا يطربون هم أيضاً من غنائنا. زيارة بيت غوتة ولنعد إلى حديثنا فنقول: ثم بارحت مدينة مينس قاصداً مدينة فرنكفورت فدخلتها وقد ضرب الظلام على الأفق سرادقاته، ومذ خلعها عنه الصباح نزلت بها فشمتها مدينة ذات منظر جميل على نهر المين منتظمة الشوارع لطيفة المنازل والحوانيت دائمة الحركة، وشاهدت بها منزلاً لأشهر شعراء الألمانيين السالفين، وبه أدواته وأشياؤه المنزلية التي كان يستعملها في حياته وهو كأنتيقخانة لديهم، وتيك كان يشتغل فيها، وهذا هو الشباك الذي عناه في قصيدة كذا حينما رأى عشيقته فلانة إلى غير ذلك، وقد استحسنت حفظهم لمآثر وأدوات رجل قد أوسع في آداب لغتهم نظماً ونثراً أما هو فيسمى جوته ولد سنة 1749 ميلادية بمدينة فرنكفورت المذكورة ومات سنة 1832 وكان أبوه من كبار المأمورين بدائرة القضاء الأهلي، واشتهر جوته المذكور في عنفوان

فرنكفورت: معبر الفرنج

شبابه بالشعر والإنشاء حتى ذاع صيته واشتهر ذكره، وساعده على ذلك كثرة سياحاته، ووصفه للبلاد وطبيعة أراضيها، وشعره ونثره يعتبرهما الألمانيون نموذجاً ومنوالاً لأشعارهم وإنشاءاتهم، ويقرأونها في المدارس رسمياً، ولهم بها شغف حتى أن من لم يقرأ منهم أشعاره ورواياته يقذفونه بنعوت الجهالة والبساطة، ولولا ضيق المقام لأطلت في هذا الموضوع، والعود أحمد عند التكلم على آداب اللغة الألمانية في رحلتي البرلينية الخصوصية. فرنكفورت: معبر الفرنج ثم بعد ذلك حركت الأقدام إلى قصر يدعونه رومر وكان معدّاً قديماً لانتخاب قياصرة ألمانيا، فشاهدت فيه القاعة التي أعدت لذلك، فشمتها عالية العرش، مصوَّراً على حيطانها الأربع صور جميع قياصرة ألمانيا بهيئات ملابسهم التي كانوا عليها تصويراً جميلاً. وبعدما شاهدت ذلك تاقت النفس إلى التوجه للشاطئ الثاني من نهر المين لنظر بلدة صغيرة به يدعونها زاكسن هوسن ومذ كنت بها ألفيتها قرية صغيرة كضاحية فرنكفورت، وبها قليل من المنازل، وليس لأهلها سوى بيع الأسماك والفواكه والخضروات، فهي كسوق عام من الأسواق العادية غير المنتظمة، وأغلب البائعين هم النساء وبسوء أخلاقهنَّ وتوحشهن في البيع يضرب المثل في أنحاء ألمانيا لكونهن كثيرات السب واللعن

حتى إن كثيراً من العلماء الألمانيين الذين يهمهم البحث عن آداب اللغات يأتونهن قاصدين سماع ألفاظ السب التي يستعملنها، فيتصنع أحدهم في الشراء منهن ويجادلهنّ في الأثمان فتصب عليه اللعنات مختلفة التراكيب، فيأخذ في كتابتها سريعاً، وحينما يشاهدن ذلك منه يزداد غيظهن فيزدنه سبّاً ولعناً، وهو لا يزداد إلا سروراً وتقييداً لكلامهن، ثم يخرج من بينهن وقد استحصل على موضوع مهم ينظر فيه نظراً علمياً أدبياً، ربما أداه إلى وضع كتاب مخصوص فيه. وكلمة فرنكفورت مركبة من كلمتين أحدهما فرنك يعنون بها فرنج والأخرى فورت ومعناها باللغة الألمانية مَعْبَر فيكون المعنى معبر الفرن، وذلك لما قيل إن كارل الأول، المعروف لدينا في الكتب التاريخية بشارلمان، الذي كان ملكاً للفرنج وكثير من بلاد ألمانيا وقد حكم من سنة 768 إلى سنة 814 ميلادية كان من بعض أعماله أن سار بجيوشه إلى سكان مملكة صكصونيا وحاربهم لخروجهم عن طاعته، فقابلوه بجأش وقوة عزيمة، وشتتوا من جيشه، فانهزم بعسكره، ورجع القهقرى طلباً للفرار، فاعترض له في الطريق نهر المين، وقد أراد أن يعبره بجيشه إلى الشاطئ الثاني، وبينما هو في حيرته إذ رأى ظبية قد عبرت ذلك النهر فعلم أن الطريق التي

أخذته تلك الظبية لم يكن عميقاً فجاز هو وجيشه إلى الشاطئ الآخر فحمد الله على النجاة، ورسم ببناء تلك المدينة وأن تسمى فرنكفورت يعني معبر الفرنج. ولم تزل تلك المدينة آخذة في العمران حتى صارت منذ سنة 1356 مقراً لاجتماع أمراء الألمانيين حين انتخابهم قيصراً جديداً، ومن سنة 1562 ميلادية صارت محل تتويج القياصرة بتاج الملك الجرماني، وكان ذلك في القاعة التي سبق لنا وصفها. وبعد ذلك صارت مستقلة تحت حكم جمهوري، وكان بها وقتئذ مجلس عام لجميع ممالك ألمانيا ينظر في أحوالها الداخلية والخارجية إلى سنة 1866، وفيها استولت عليها مملكة البروسيا في حربها مع مملكة النمسا. وهي الآن مقر مجتمع أغلب التجار الألمانيين؛ فلهم بها اجتماعات سنوية لتوسيع معاملتهم التجارية فيما بينهم، وسكانها الآن 154500 نفس، وعشرهم إسرائيليون (يهود) وقد سكنها أسلافهم من قبلهم، وعاملهم المسيحيون قديماً معاملة الأرقاء فكانوا يسلبون أموالهم تارة، ويستخدمونهم أخرى، وفي سنة 1349 ميلادية انقضَّت عليهم عامةُ المسيحيين فأعملوا فيهم آلات القتل والذبح حتى أتوا على آخرهم إلا من هرب منهم، وبعد ذلك بقرن أتى إليها اليهود ثانية، وسكنوها، وبنوا

مبارحة فرنكفورت

لهم منازل في قطعة واحدة أحاطوها بسور له ثلاثة أبواب يغلقونها مساء. وفي سنة 1811 أعطتهم الحكومة الحرية وحق السكنى في أية نقطة من المدينة، وأغلبهم يشتغل بأرباح الأموال، ومنهم الخواجة روتشلد وأولاده المشهورون بالغنى والثروة في أنحاء البسيطة، ولهم بنوك بأغلب عواصم الممالك، وكانت هذه العائلة في ابتداء أمرها فقيرة إلى أن قام فيهم أبوهم روتشلد في أوائل هذا القرن، واحتال في الكسب والربح حتى حصل على مقدار عظيم، وفي تلك السنين تصادف أن عاث نابليون في ممالك ألمانيا، وعزل أغلب ملوكها وولّى كثيراً من أقربائه وأصحابه عليها، ومن ذلك أنه استولى على مملكة يقال لها هسن كسل وأخرج ملكها صُفْرَ اليدين من ماله وملكه، فانتهز ذلك الملك الفرصة فيما بعد وأقرضه روتشلد المذكور قدراً عظيماً من الدراهم بفوائد كبيرة حتى إذا عاد إلى ملكه وفَّاه أموالها وأرباحها، فكان ذلك سبباً في اتساع رأس ماله، وقامت أولاده من بعده بأشغال البنوك وأنشأوا لعائلتهم قانوناً مخصوصاً بأن جعلوا الوراثة في الذكور، أما الإناث فخصصوا لهن مقداراً معلوماً يكفل براحتهن. مبارحة فرنكفورت وحين نالت العين من تلك المدينة المنال حركت عصا الترحال، فبارحتها في الباخرة البرية والسائحة الجوية، حتى

إذا عرجت بنا على مدينة كانت مَرْمَى مَرامي نزلت بغنائها لحسن رَوَائها، فقرت العين بمنظرها النضير، وجمال موقعها الشهير، تحفها جبال وأنهار، وتزينها أشجار وأزهار، ولمثلها تروق النواظر، وبحسنها تقر لها النواظر. أما هي فتسمى هيدل برج إحدى مدن غراندوقية بادن بألمانيا، وأحسن البلاد الألمانية من حيث المنظر والموقع الطبيعيان لكونها في وادٍ مستطيل بين جبلين زاهيين بالأشجار، ويمر بجانبها نهر عظيم يقال له نيكار ويسمى الجبل الذي هي في منحدره شفارتس فالد والذي يقابله أودن فالد وعدد سكانها الآن 27000 نفس، وبها مدرسة جامعة قديمة أنشئت سنة 1386 ميلادية، وهي من أعظم المدارس بألمانيا، وتخرج فيها كثير من علمائهم المشهورين، وبها الآن 900 طالب تقريباً. ولا أعلم من تاريخ تلك المدينة سوى أنه كان يحكمها أحد مشاهير الألمانيين المسمى فالس جراف في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وبنى فوق أحد جبليها قصراً عظيماً ارتفاعه 100 متر عن نهر نيكار المذكور، وكان متقن البناء متناسب الأجواء، حتى إنه يقال إنه أحسن بناء أقامه الألمانيون في ذلك العصر بعد كنيسة كلونيا وأما هو الآن فأغلبه آثار

برميل خمر عظيم

وأطلال بما مسّته يد الحرب التي كان يضطرم نارها بين الألمانيين والفرنساويين أيام لويز الرابع عشر ملك الفرنساويين، فإنه هدم ذلك القصر مرتين ضمن ما هدمه من بلاد ألمانيا: إحداهما في سنة 1689، والأخرى سنة 1693 ميلادية. برميل خمر عظيم وقد شاهدت ذلك القصر مع كثير من السياحين يقودنا دليل، فما زال يدخل بنا في قاعات وساحات، وينزل بنا في مغارات ووهدات إلى أن قذفنا في قاعة متّسعة بها برميل عظيم ملقى على قوائم، وبه حنفية عظيمة أيضاً فهالنا كبره واحتطنا رافعين الأبصار لرؤية أعلاه، وطفنا حوله مكررين كلمات الاستغراب، وعلمنا أنه كان معدّاً للنبيذ تملؤه الملوك الذين سكنوا ذلك القصر في أيام المواسم والأعياد، وليالي الأنس والطرب، ثم تركناه، فجيء بنا إلى باب نزلنا منه على دركات فإذا بقاعة أخرى متسعة عالية الأرجاء قد اعترض فيها برميل آخر أعظم من الأول، وأظن أنه أكبر براميل الدنيا، وبجانبه درجات تصل بالإنسان إلى سطحه الذي كان معدّاً لإحياء ليالي المسرات من أكل وشرب ورقص وغير ذلك، وهو متّسع تحيط به حواجز خشبية جميلة الصنع، وطول ذلك البرميل 8 أمتار ونصف وعرضه 7 أمتار يسع والعياذ بالله 236 زجاجة من النبيذ.

صداقة فرنسي طائش

ويقال إن الذي أقامه هو كارل فيليب أحد ملوك هذه الدوقية، وكان له خادم يباشر ذلك البرميل يسمى بركيو قد أقيم تمثاله بجانب البرميل، حيث كان مديماً للشرب حتى هلك، وشهرته في ذلك مقرونة بشهرة البرميل في أنحاء ألمانيا حتى إنهم صاغوا أدواراً للألحان يصفون من شأنه في الشرب والسكر. وفي سنة 1886 اجتمع المعلمون والطلبة بذلك القصر وأقاموا بينهم ليلة أنس احتفالاً بمدرستهم الجامعة حيث كان لها 500 سنة منذ إنشائها، وقد أكرمتهم الحكومة بملء ذلك البرميل نبيذا إدخالاً للسرور عليهم. صداقة فرنسي طائش ثم بارحت تلك المدينة منتعش الخاطر بمحاسن مناظرها إلى أن أنَخْتُ بمدينة بادن بادن فمكثت بها يوماً قد اغرورقت فيه مُقْلَةُ السماء وأزْرَفت عن سحائبها، ونبض لها عرق البرق، ونطق لسان الرعد، فما تسنّى لي مشاهدتها إلا سويعات قد اختلستها، فإذا هي مدينة حسنة واقعة في وادٍ عظيم يدعى أوزتال ومعناه وادي أوز حيث يمر به غدير يقال له أوز، كثيرة المنتزهات منتظمة الطرقات متقنة المنازل، وهي من أعظم المدن المشهورة قديماً وحديثاً بلطافة هوائها، وسمُّوها بادن بادن، للفرق بينها وبين بادن التي هي في سويسرا وبادن التي في بلاد النمسا.

وعدد سكانها 12929 نفساً ويطرقها الغرباء كثيراً للأخذ بحمَّاماتها ذات الماء المعدني المشهور، ومن تلك المدينة طوّحت بي الأسفارُ على مدينة استراسبورغ عاصمة ولاية الالزاس وقسم لورين الألماني، وصاحبني فيها شاب فرنساوي جمعتني وإياه وحدة الغربة، ورأيت منه سرعة حركة وطيشاً سهَّلا لي صعوبات السفر. فكنت إذا وجهت إليه خطاباً وهو على يميني لا أشعر إلا وهو يجاوبني من جهة اليسار، ومازالت أهدئ من سرعته، وأطفئ من نار عنفوانه حتى آمن بفضيلة التأني، وأول ما شاهدناه الكنيسة الكبرى بها، وهي ذات بنيان شاهق أسست في القرن الثالث عشر للميلاد وارتفاع برجها 142 متراً، وبها شباك عظيم على هيئة دائرة يشغله قطع الزجاج الملون بشكل منتظم، وقطر ذلك الشباك يبلغ 14 متراً ونصف، وهو من عجائب الصناعة، ومذ دخلنا، وقد حان أوان الظهيرة شاهدنا جمعاً غفيراً من الناس يحتاطون بساعة عظيمة، فإذا هي ساعة فلكية تاريخية مشهورة بغرابة صنعها وشكلها، فوقفنا ننتظر حتى إذا حان ضربها إشارة لانتصاف النهار أرتنا منها العجائب، وذلك أنها في بناء مستطيل مخصوص أحيط به حاجز حديدي، وأمامه الكرة الأرضية، ومثلها السماوية، أما قاعدة البناء السفلي ففيها فرجة مستطيلة أفقية يتوسطها عمود، وفوق تلك القاعدة

أخرى موشورية الشكل مستطيلة أقيم بأسفلها الساعة وفوقها فرجتان قد قام بإحداهما شخص على هيئة إنسان وبيديه قدومان، وحول تلك القاعدة أشخاص أسود ودجاج، فحين يضرب ناقوس الساعة ينقر الشخص بقَدُّوميه على ناقوس بين يديه، وتتحرك الأسود والدجاج من الفرج المذكورة أشخاص تتحرك أجسامهم يُشخِّصون حوادث من التاريخ المسيحي، ولم تزل تلك الحال إلى أن يتم الضرب، وبالجملة فهي عجيبة الصنعة تشهد بحذاقة صانعها المسمى شفيلجة وقد أتم صنعها سنة 1842 ميلادية. وبينما كنا نجوس خلال تلك المدينة إذا شاهدنا تمثالاً علمت مما هو مكتوب على جداره أنه تمثال كليبر القائد الفرنساوي الذي كان مع نابليون في البلاد المصرية حين حل بها بعسكره، ولد هذا القائد في مدينة استراسبورغ سنة 1753، ومات في الديار المصرية سنة 1800 ميلادية. أما هذه المدينة فلطيفة على ضيق شوارعها وانعطافاتها موضوعة على نهر ايل الذي يصب في نهر الرين على بعد ساعتين، ودائرة محيطها حسنة المنظر مشغولة بالبساتين، ومنها شاهدت بستاناً مشهوراً يسمونه أورانجري ومدرستها الجامعة مشهورة كغيرها بألمانيا، وبناؤها أحسن مباني المدارس التي شاهدتها.

العبور إلى سويسرا

وكانت هذه المدينة مسكونة للرومانيين قديماً، وتسمى وقتئذ أرجنتوارم وفي العصر المتوسط للميلاد كانت زاهية تحت ملك الجرمانيين إلى أن استولى عليها لويز الرابع عشر ملك الفرنساويين في سنة 1681، وأخذتها البروسيا في حربها الأخيرة من فرنسا سنة 1870 وعدد سكانها الآن 111980 نفساً، وكثير منهم فرنساويو الأصل، وأغلبهم يكرهون تبعيتهم للبروسيا، كما اختبرت ذلك منهم، وهو دليل على الصداقة الوطنية، والحمية الجنسية. العبور إلى سويسرا إلى بازل ولما دعا داعي الرحيل أخذنا في السبيل نحل في آفاق وأقطار حتى بارحنا حدود البلاد الألمانية الغربية، وعُجنا على مدينة بازل فعرجتُ بها ونزلت في حيِّها، مودعاً البلاد الألمانية متذكراً محاسنها الطبيعية، وأقمت بها يوماً فشمتها آخذة نظاماً مخصوصاً، حسنة الشوارع غالباً، يمر في وسطها نهر الرين ويقسمها قسمين: قسماً على الشاطئ الجنوبي، ويسمونه بازل الكبرى والذي على الشاطئ الشمالي بازل الصغرى، ويصل بينهما جسر عظيم، ويحيط بتلك المدينة أسوار أخْنَت عليها يدُ الهرم والقدم. ولعلمي بتقدم المدارس والفنون بها قصدت مدرستها التجهيزية، وقابلني حضرة ناظرها بعد الاستئذان، وأكرم من قدري، وعرض علي جدول الأوقات للدروس اليومية لأنتخب

درساً أحضره، فشاقني مشاهدة درس الرياضة البدنية، ومذ حضرت المحل المعد لذلك ألفيته قاعة خشبية متينة أقيمت في حوش المدرسة بها طاقات زجاجية في السقف والجوانب، وهي متّسعة مغطاة أرضها بمشمع سميك طلباً لثبوت أرجل التلامذة، وعدم إحداث حركة أثناء مرورهم وقد رسم على ذلك الغطاء ما صورته.

وكان عدد التلاميذ نحو الثلاثين من سن 12 إلى 15. فأول تمرين ألقاه عليهم المعلم أن اصطفوا صفوفاً كل منهم واقف على إحدى نقط تقاطع الخطوط الأفقية والرأسية، وحركوا أذرعهم يميناً ويساراً أمام وخلف وفوق، تقليداً لما يصنعه المعلم أمامهم، ثم أمرهم بالمسير فانتظم كل خمسة منهم صفاً وراء آخر، وساروا راسمين قوساً حتى طافوا بالمحل مراراً، ثم تفرقوا فرداً يتبعه آخر، وساروا سريعاً على محيطي الدائرتين بحيث يصنعون حلقتين يتماسان في نقطة تماس الدائرتين، ولكن كان سيرهم بهيئة لا يمكن تقابل أفرادهم لطول المحيطين، وفي أثناء ذلك يضعون أيديهم على صدورهم تارة، وأخرى وراءهم، وطوراً يرفعونها مشتبكة إلى أعلى، ثم أمرهم بأن يتناول كلٌّ قضيباً من الخشب طوله متر تقريباً وقطره 3 سنتيمترات تقريباً، فقبض كل على طرفي عصاه بيديه، وصار يوجهها إلى جميع الجهات الست مراراً حتى إذا أتموا ذلك وجههم المعلم إلى آلة تمرينية أخرى هذه صورة شكلها.

فيصرف لها ثلاثا ثلاثاً بين ذينك الوجهين، ويثبون حتى يقبضوا على الخطين المتوازيين [أ] و [ب] ويسيرون إلى أن ينتهوا إلى الآخر، وهكذا غيرهم حتى يأتي على آخرهم، وبعد ذلك صرفهم إلى آلة أخرى هذا شكلها.

في بازل

فتعلق كل من التلامذة بتلك الأعمدة طالباً الصعود عليها، وهذه الأعمدة خشبية قطر كل منها 3 سنتيمترات تقريباً، معلقة بواسطة حلقات حديدية متينة بحيث تتحرك وتميل إلى أية جهة يراد توجيهها، وعند ذلك التمرين تم وقت الدرس، فرجت بعدما تشكرت لحضرتي الناظر والمعلم على ما أولياني. هذا والمعذرة لي حيث أطنبت في تفصيل ما شاهدته فقد دعاني إليه حرصي على ما ربما أن يكون مفيداً، وجميع هذه الألعاب وإن كانت سهلة العمل فهي مفيدة للجسم ورياضة الأبدان لاسيما للتلامذة مطلوب مهم، فكما أن تعلم العلوم تمرين للأفكار وتثقيف للعقول، دفعاً لما عسى أن يلحقها من الجهل الذي هو مرضها كذلك رياضة الأبدان للأجسام فإنها تقوي الأعصاب والعضلات وتزيد في القوّة الهاضمة، ومعلوم أن قوة الإنسان في عضلاته وأعصابه، فمتى كانت قوية قَوِيَ تركيب الجسم ومادته، وضعفها يهيئ الإنسان لقبول الأمراض والضعف. في بازل أما مدينة بازل فهي قاعدة قسم يسمى بازل شتات أحد قسمين يسمى الآخر بازل لاند. وسكانها 70000 نفس، وهي من المدن القديمة أسسها الرومانيون وجعلوها قلعة، ثم تخربت في الحروب التي جرت بينهم وبين الجرمانيين، وأعاد بناءها الجرمانيون في أوائل القرن العاشر، وبعد قليل انحازت إلى

الاتحاد السويسري، إلى وقتنا هذا، وللصناعة والتجارة بها أهمية كبرى، وكان فيها معامل للورق والجلد وغير ذلك، وانحطت منذ بضع سنين، ولغة أهلها ألمانية لأنها من القسم السويسري الألماني، وذلك أن بلاد سويسرا تنقسم إجمالاً إلى ثلاثة أقسام تبعاً لاختلاف لغات سكانها: وهي سويسرا الفرنساوية، وسويسرا الإيطاليانية، ومجموع هذه الأقسام يشتمل على 25 قسماً يسمى كل منها كونتيه ولكل كونتيه حقوق وقوانين مخصوصة، ولمجموعها مجلس عام ينعقد في مدينة برن ينتخبون أعضاءه بغالبية الأصوات، ويكون من عملهم تأسيس القوانين والنظر في انتخاب مديري تلك الكونتينات. وقطر سويسرا تتشعب فيه سلسلة جبال الألب الوسطى بهيئة عجيبة المنظر كما ستعلمه مما يأتي، ولكثرة بحيراتها وأنهارها وطرقها الحديدية عمّت المواصلات بها فراجت تجارتها رواجاً عظيماً، وأهم اتجارهم في المواشي لا سيما البقر، ثم الجبن المشهور، والأقمشة الحريرية والقطنية والساعات الجميلة وغير ذلك. والحالة المدنية بها على أحسن ما يرام من جهة التربية والتعليم والأخلاق، ولأهلها حمية وطنية، يضرب بها المثل بحيث يميلون إلى الحرية لا ينتمون إلى دولة أو حكومة، فيقودها ملك. وسأشرح بعض وقائعهم الدالة على ذلك في مواضعها إن شاء الله تعالى.

ثم ودَّعت بازل باكورة الصباح تقلني الباخرة البرية قاصداً برن، فسارت بنا في أودية مزهرة بين جبال مزدهرة بالزروع والأشجار، تحفها الغدران والأنهار وقد ترامى علينا النسيم بأريجها وعبيرها هذا إلى حسن منظر لم ترَ العيون مثيله، ولم يكن للفكر أن يتصور عديله، وبينما نحن نمتع النواظر بتلك المناظر إذ تعرض لنا في الطريق جبل شاهق يقال له جبل يورا، فقذف بنا القطار وسط نَقْب فيه طويل المسافة يدعى هرن ستين طوله 2808 أمتار فهالني منظره الذي دلني على أعظم ما فعلته يد الإنسان من نقب ذلك الجبل الباذخ، ولم نزل نهش بأعاجيب تلك الطبيعة إلى أن وصلنا على مدينة برن فنزلت بها للإقامة بحيها، ولا يخفى أنها قصبة كونتينه تدعى باسمها وعاصمة بلاد سويسرا بمعنى أنها مقر اجتماع المجلس العام السويسري، وهي واقعة على رأس صخر رملي يحوم حوله نهر آر فهي شبه جزيرة بالنسبة إليه، واغلب شوارعها مستقيمة، وبناء منازلها جيد، والقديم منها قائم على قناطر يمر تحتها الراجلون، واسمها مشتق من كلمة بير ومعناها الدب باللغة الألمانية وذلك لكثرته بأحيائها، وقد جعلوا صورته علامة على ولايتهم فتراها في أعلامهم وعلى المباني الرسمية لديهم.

أسسها دوق ألماني يدعى برتولد الخامس وذلك سنة 1191 ميلادية. وفي سنة 1218 استقلت تحت حكم مجلس عام، وقويت شوكتها حتى إن قيصر جرمانيا وقتئذ المسمى رودولف الأول قصدها بجيشه سنة 1288 وحاصرها مدة ولم يتمكن من أخذها، ورودولف هذا هو أول عائلة ملوك النمسا الحالية. وفي سنة 1353 انحازت مدينة برن ضمن الاتحاد السويسري، وجعلت عاصمة لسويسرا سنة 1848 ميلادية. وأحوالها التجارية والصناعية جيدة ففيها معامل لنسج القطن والكتان والحرير وبرانيط القش وغير ذلك، وبها مدارس حميدة السير لاسيما مدرستها الجامعة، ومحلات آثارها غاصّة بالأشياء القديمة، شاهدت منها متحف الحيوانات المصبرة، فرأيت منها ما لم يخطر بالي من كثرة أجناس الحيوانات البرية والبحرية والهوائية، وعاينت متحفاً آخر يشتمل على نموذج الأدوات المنزلية المعاشية لأهل سويسرا الأقدمين، ومن ذلك علمت أن أهل سويسرا كانوا قديماً يتخذون منازلهم من الخشب، ويقيمونها في البحيرات والأنهار على قوائم خشبية قريباً من الشواطئ، ذلك هرباً من الحيوانات التي كانت منتشرة وقتئذ في بلادهم، وقد دلَّ التاريخ على أن كثيراً من الأمم الخالية الذين كانوا يسكنون جنوب قارة آسيا كانوا يتخذون

النهر والأطفال

منازلهم في البحر المحيط الهندي قريباً من الساحل، وكانوا يصنعونها من خشب الأشجار غير المقلَّمة، ويقيمونها على قاعدة أفقية من الأقصاب، فيربطون تلك المنازل في الساحل كيلا تسبح بهم، وكان إذا اشمأز أحد سكانها من جيرانه يحل رباط منزله، ويسير به إلى جهة أخرى. النهر والأطفال ومما شاهدته بتلك المدينة آباراً قديمة ينبعث عنها الماء بدون آلة، وذلك لحكمة ارتفاع نقطة مصدره كما هو مقرر في علم الطبيعة، وقد جعلوا لتلك الآبار حنفيات محكمة وأقاموا عليها تماثيل أشخاص وحيوانات من الحجر المنحوت، ومن جملتها رأيت تمثالاً يعطي صورة شخص مخيف الهيئة رافعاً بيديه تماثيل أطفال يسير بهم إلى البئر يكاد يلقيهم فيه، وهم على هيئة المستغيث وبمنطقته قد علق تماثيل أطفال كذلك، ومذ عاينت تلك الهيئة قلت لابد لذلك من حادثة تاريخية، وعلمت فيما بعد أن ذلك التمثال أقيم في العهد القديم إدخالاً للخوف على الأطفال، كيلا يقربوا من تلك الآبار، فكانت الآباء والأمهات يعرضون أطفالهم على ذلك المحل، ويحذرونهم من الدنو إليه لئلا يختطفهم التمثال، ويلقيهم في الآبار، وأما الآن فأرى الأطفال محتاطين به شغوفين برؤيته، حيث استؤصلت والحمد لله في هذا العصر شأفة التخيلات الكاذبة. وبينما أنا

مناظر خلابة

أجوس خلال الطرقات إذ شاهدت برجاً مرتفعاً، وبأعلاه ساعة عظيمة، وكلما ضرب ناقوسها إشارة إلى تمام ساعة زمنية يخرج منها تمثال ديك يصيح، وكثير من تماثيل الدب بهيئة مضحكة. مناظر خلابة ثم حركت الأقدام إلى الشاطئ الثاني من نهر آر المحيط حول تلك المدينة، ومنه عاينت منظراً عجيباً ألا وهو منظر الجبال الشامخة جبال الثلوج، وشاهدت في ذلك الموضع جُباً واسعاً، قد أعدته الحكومة للدب، وفيه عدد عظيم منه، لها خدمة مخصوصون يأتونها بالأكل والماء، وحكمة ذلك كثرة وجود الدب في ضواحي هذه المدينة، وللعامة شغف كبير به. ولما نلت من مشاهدة تلك المدينة ما نلت، بارحتها في أسرع قطار في الآفاق طار، ولم يزل يزج بنا في أودية مونقة، بين أشجار مورقة، حتى حط بنا في قرية يقال لها تون، ومنها بدون ما واسطة نزلنا سفينة بخارية على بحيرة تدعى تونرزيه ومعناها بحيرة تون وهي من أعظم بحيرات سويسرا. طولها 18 كيلومتراً، وعرضها 3 كيلومترات، وأعظم عمق بها 216 متراً. وحينما شقت تلك الجارية بنا حباب الماء، وذهبت بقلاعها نحو السماء، عرضت علينا الشواطئ منظرها الرائق، وحسنها الشائق، وقد انتثرت عليها أخصاص ساكنيها، ومنازل نازليها، ثم أخذت تلك الشواطئ ارتفاعاً تدريجياً حتى توسطنا

بين جبال سامقة، وأعلام شاهقة، مزدانة بزروع قد أخرجت شطأها، وأشجار قد حملت عبأها، حتى إذا قربنا من مصب نهر آر في تلك البحيرة لاح لنا منظر بهيج، ورونق يهيج، فشاهدناه نهراً بين جبلين باذخين، وطودين منيفين، وقد مالت إليه الغصون، كأنها تميل إلى رَشْفِ رُضابه العذب، أو تحنو شفقة على هذا العاشق الصب كما قال القيراطي، وهو من أحسن موزوناته: وربَّ نهر له عيون ... تحار في وصفه العيون لما غدا الريقُ منه عذباً ... مالت إلى رشفه الغصون أو كما قيل وما أطربه من قيل: تَثَنى الغصن إعراضاً وعجباً ... على نهر يذوب أسى عليه فرق له النسيم وجاء يسعى ... ملاطفة وميله إليه ولم نزل جذلين مبتهجين، حتى رست بنا السفينة على محطة ركبنا منها عربات بخارية، قاصدين بلدة يقال لها انترلكن، وبعد أويقات زج بنا في واديها، فلاحت لنا عجائب مناظرها، ونزلت بها، وقد ناداني لسان حالها: هلم يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدى هَمِّه نسيمها يعثُر في ذيله ... وزهرُها يضحك في كُمه

ومكثت بها يومين، كأنهما طرفة عين، وقبل ما أنعت لك ما شاهدته منها، أوافيك بجغرافيتها فأقول: هي بلدة تسمى انترلكن وهي كلمة لاتينية معناها وسط البحيرتين لكونها في وادٍ صغير بين امتداد بحيرتين يقال لإحداهما برينسرزيه ومعناه بحيرة برينس والآخر تونرزيه المتقدم ذكرها، وقد أحاط بها، وبامتداد البحيرتين المذكورتين جزء من سلسة جبال الألب الوسطى بمنظر عجيب، وواديها وجبالها مستورة بالزروع، والأشجار الباسقة الفروع، وهذا الوادي يأخذ ارتفاعاً متعرجاً شيئاً فشيئاً، وبه طريق يمكن للعربات الصعود عليها، وهو بهذه الهيئة كحضيض للجبال المحتاطة به، ويرى الإنسان من ذلك الوادي جبلاً شاهقاً ذاهباً بنفسه إلى العلو مستوراً بالجليد، ارتفاعه 4167 متراً، ولكن لا يظهر للإنسان منه إلا مقدار 3805 أمتار، وهو مشهور بصعوبة مرتقاه ووعر منحدره، ولذلك يسمى في الأعصر السالفة يونج فرو، ومعناه العذراء البِكْر التي لم يطمثها أحد، وذلك لعدم صعود إنسان على ذروته حيث لا يتأتى ثبوت الأقدام على ثلوجه المتراكمة، وهذه الثلوج دائمية شتاءً وصيفاً. ثم إنه في سنة 1811 خاطر بأنفسهما اثنان فتسنَّما ذروته،

وكشفا نقابه، يسمى أحدهما رودولف، والآخر هينريك ميئر ونالا بذلك شرفاً عظيماً، وذكرا في التاريخ، ثم أراد كثير فيما بعد على وقتنا هذا أن يتسنموا ذروته فمنهم من يبلغ بلاغه وقليل ما هم، ومنهم من تفلت رجله فيصبح دفين الثلوج وكثير ما هم، وسبب شغفهم بالصعود عليه مختلف تبعاً لاختلاف الأغراض: فمنهم من يريد أن يستكشف الزهور والنباتات التي بأعلاه طلباً لتوسيع نطاق علم النباتات، ومنهم من يقصد نوال الاسم وإذاعة الصيت. وكانت هذه البلدة قديما ديراً للراهبين والراهبات، وأما الآن فهي موضع للتنزه، وتغيير الهواء لشهرتها بلطف هوائها واعتداله، ويقصدها لذلك كثير من أولي الثروة لإمضاء فصل الصيف بها، وقد أعدوا لهم فيها أوتيلات متقنة، وحوانيت لمبيع اللوازم، ومحلات لتشخيص الروايات والمغاني، وما أشبه ذلك. وترى لها مساءً وقد أضاءت بها مصابيح النور الكهربائي بين تلك الجبال والزروع منظراً يروق النواظر، ويبهج الخواطر. وسكانها 3000 نفس، كل منهم ذو سكون وَدَعَة، بشوش الوجه لطيف الأخلاق، ولا غرو فقد أكسبته طبيعة بلدته ارتياحاً أنطق منه لسان الحال فقال: لم لا أميلُ إلى الرياض وحسنها ... وأعيش منها تحت ظل ضافي

حلة على الجليد

والزهر يلقاني بثغْرٍ باسمٍ ... والماء يلقاني بقلبٍ صافي هذا ما شاهدته أول يوم مكثته فيها. حلة على الجليد ولما لاح الصباح أزمعت على تسنم بعض جبالها وإمتاع الطرف بمشاهدة جليدها، فَقَلَّتْني عربة سارت بي على عَجَل صاعدة في طريق ذلك الوادي، وقد غَصَّت تلك الطريق بالعربات تحمل الغرباء السياحين، ومازلنا نرقى الطريق مدة ساعتين، وقد اكتنفته مَهاوٍ عميقة ينحدر فيها ماء الغدران المتكسر من علو، وهو ما ذاب من الثلوج التي هي فوق الجبال، وترى له خريراً تصفو له النفوس، وتُصغي لنغمته الآذان، حتى وصلنا إلى وادٍ صغير يقال له جرندل فالد بين جبلين يقال لأحدهما شرك هورن ومعناه قرن الخوف وثانيهما يدعى فتر هورن ومعناه قرن الزعازع، ويُعَدُّ ذلك الوادي في الحقيقة كذروة جبل حيث إن ارتفاعه عن سطح البحر المحيط يبلغ 1057 متراً، وقد حططنا به الرحال طلباً للراحة ولأنه آخر مسير العربات؛ حيث لا يمكن لها مجاوزته لكثرة الغور والنجد، وألفينا به أوتيلاً أرحنا به الأجسام، وتناولنا طعام الغداء، وكنا نحو الثلاثين شخصاً رجالاً ونساء مختلفي الجنس واللغة. وبعدما حمدنا مولانا على ما أولانا، خرجنا للصعود على الأطواد، ولنا عزائم تعزم بها الجبال، وجأشٍ تستَجيشه الأبطال، وكان كل منا قد صحب مزراقاً من الخشب

حديدي الطرف مُحدَّدَه ليساعدنا على الصعود. فأخذنا الطريق ننهب مسافته، ونستأصل شأفته، وقد تعرَّف كل منا بالآخر، فألفيت أغلبهم ما بين أدباء وعلماء، وآخرين تظهر عليهم مخايل الشرف. وكنا في بادئ الأمر يحتشم بعضنا البعض حتى إذا لحقنا التعب، وصار أن لا مناص من المداعبة والخلاعة أخذ الرجال والنساء في العب والهزل واللهو بدون ما عَذْل، فأطربني منظرهم وأجْذَلَني محفلهم، وقلت لا غَرْوَ فإذا صحت الألفة سقطت الكلفة، وجاريتهم في الميدان منشداً بلسان الحال والجنان: فيَّ انقباضٌ وحِشْمةٌ فإذا ... لاقيت أهلَ الوفاء والكرم أرسلتُ نفسي على سجيتها ... وقلتُ ما قلتُ غيرَ محتشمِ وبينما نحن في لهونا ولعبنا، إذ بَغَتَنا صوتٌ مزعج ارتعدت له الفرائص، فلزم كل منا مكانه باهتاً ظاناً أن الجبال قد تدكدكت، وإذا به صوت انحدار الثلوج في مهاوي الجبال فعجبنا له، وقد مَثَّلَ لنا صوت المدافع المتوالية الطلق، وبعدما كنا نُدْهَش صرنا نَهَشُّ، وأخذنا الطريق نتسنَّم نجداً، ونتحدر غوراً، حتى وصلنا إلى موضع قامت فيه جبال الجليد عمودية، فسرنا بغنائها يقدمنا الدليل، وإذ نحن بقطعة جليد كأنها القصر تملأ زاوية منفرجة بين جبلين، فهالنا منظرها وألفينا بها مغارة

متسعة من صنع يد الإنسان فأزمعنا على الدخول فأبى من أبى، وتجلد أغلبنا، ولبس كل منا عباءة من الجلد استأجرناها من فتية تأوي إلى ذلك الكهف، ودخلنا نتبع الدليل فإذا بها طويلة يبلغ ارتفاعها نحو ثلاثة أمتار، وعرضها متران مستورة أرضها بالأخشاب لإمكان السير عليها، فتلونا بها آيات العجب والاستغراب، وخرجنا نمتع الطرف بتلكم المناظر التي هي آيات على قدرة الخالق جلَّ شأنه وعزَّ سلطانه، فتبارك الله أحسن الخالقين: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد ثم أخذنا في الأوبة على طريق أخرى، ومررنا بها على أناس ينفخون في الأبواق إظهاراً لظاهرة الصدى في منعطفات الجبا، ل يستمنحون بذلك عطايا المارين السياحين، حتى وصلنا إلى جرندل فالد وقد تصَوَّبت الشمس إلى الغروب، فركبنا العربات قاصدين العودة إلى بلدة انترلكن. وريثما انحدرت بنا إذا بالسماء قد أبرقت، وأرسلت سحائبها وهَمَلت، والريح تعبث بالأغصان، وقد انحدرت حولنا الغدران، وهوى ماؤها فتكسر، وجرى سائلاً عن المخبر. وتحدَّثَ الماءُ مع الحصى ... فجرى النسيمُ عليه يسمع ما جرى فكأن فوق الماء وشياً ظاهراً ... وكأن تحت الماء سِراً مُضْمَرا

زورق في بحيرة برينس

إلى أن دخلنا بلدنا الأمين، ومقرنا المكين، فمددنا أيدي الوداع نبث الأشواق، ونشكو الفراق. وعمدت للمبيت بها إلى الصباح، حتى إذا ابيضَّ منه الجناح، ودعت هذه البلدة الرائقة والروضة الشائقة، في الباخرة البرية، والسائحة الأرضية قاصداً موضعاً يقال له جيسباخ وجعلت في تلكم الأثناء أطالع كتاباً أدبياً ألمانياً، حيث كنت وحيداً في العربة، حتى حط بنا القطر في محطة حسبت أنه سيجوزها، ولهتني المطالعة وحسن الموضوع زمناً. في آخره حانت مني التفاتة فإذا بها آخر محطة للبواخر البرية، ورأيت الركاب قد نزلوا باخرة بحرية، وهي تسبح بهم وسط البحيرة، وقد خلفوني وحيداً أضرب كفاً على كف، وأكرر جمل الندم، ولات حين مَنْدَم. زورق في بحيرة برينس ونزلت إلى المحطة فشمت شابين تلوح عليهما شارة الآداب، ومذ دنوت منهما لأسألهما أخذا يبتسمان، ثم صارا يضحكان، وقالا: تفضل واجلس بجانبنا، فنحن مثلك قد سبقتنا الباخرة البحرية، ولابدّ أن ننتظر عودتها بعد أربع ساعات، فجلست متأسياً، حيث وجدت لي مثيلاً، وشرعنا نتجاذب أطراف الحديث، فعلمت أنهما أمريكانيان أتيا إلى بلاد ألمانيا لأخذ الفنون بمدارسها، وبينما نحن نتقلب على لظى الانتظار إذ لمحنا عربة تقصد نادينا حتى إذا قربت منا نزل منها سيد مع قرينته، وقد تأبطها، وقصد نحونا رافعاً قلنسوته سائلاً متى

تسير باخرة البحر فهز الضحك منا الأجسام، وما قدرنا أن نفصح له بالكلام، بل أشرنا له بأنها قد أخذت وجهتها، وسارت وخلَّفتنا، فتململ يرفع رجلاً ويضع أخرى، ينظر يمنة ويسرة، ثم قال سادتي ما تقولون في تأجير زورق يكون تحت تصرفنا، ويسير حسب أمرنا؟ فلبيناه بنعم، وهرولنا إلى الشاطئ، ونزلنا زورقاً صغيراً، وأردنا أن نأخذ جلسة بحيث يتعادل الثقل كيلا يميل بنا، فجلس هو وقرينته، ونحن الثلاثة وبعض العفش في مقابلتهما، وسار بنا الزروق يرقص ويلعب، ويعبث بنا ويَدْعَب، ودار بيننا الحديث، بكل ماضٍ وحديث، فعلمنا أنه من مملكة صكصونيا، وألفيناه ظريف الشمائل سمح السجايا، مادام كل منا آخذاً مكانة، أما إذا تحرك أحدنا بدون ما قصد، ومال الزروق من جهته عربد بيديه ورجليه، ثم يأخذ في الضحك ثانية. أما هذه البحيرة فتسمى بحيرة برينس التي ذكرتها آنفاً طولها 14 كيلومتراً، وأوسع عرض بها 2 كيلومتراً ونصف، وأعظم عمق بها 262 متراً، وهي محاطة بالجبال المثمرة والصخور. ولم يزل الزورق يسبح بنا نحو ساعتين إلى أن وصلنا إلى موضع جيسباخ فصعدنا على البر فإذا هو منحدر جبل ركبنا منه عربة بخارية صعدت بنا أعلاه بهيئة عجيبة، وذلك أنهم أوصلوا من أعلى الجبل قضبان حديدية إلى ذلك المنحدر تحملها قوائم سميكة، وحولها حواجز

إلى لوتسرن

بحيث تصنع ضلعاً أكبر مقابلاً لزاوية منفرجة أحد ضلعيها الجبل، والآخر المنحدر، وتصعد عليها العربة بواسطة حبال، تسحبها آلة بخارية في أعلى الجبل، ومذ صعدنا ألفينا حرشاً صغيراً مستوراً بالأشجار، وحوله الجبال شامخة، وشمنا غديراً ينصبُّ من أعلى كشلال، ويتكسر على الصخور بقوة عظيمة، حتى يصب في تلك البحيرة المذكورة صانعاً عليها قوساً منحنياً، ويسمى الجبل الذي ينحدر منه ذلك الغدير بالقرن الأسود، وارتفاعه عن سطح البحيرة 350 متراً وكلمة جيسباخ معناها (الغدير المنصَبّ). إلى لوتسرن هذا ولما انتعشت منا الخواطر بحسن تلك المناظر، مددنا يد الوداع راجين عودة التلاق بعد ذلك الفراق، فبارحت ذلك الموضع قاصداً مدينة لوتسرن وبينما ينهب القطار الأقطار إذا رأيت من نفسي بعض توعك فعرجت على قرية وسط الطريق تدعى ميرنجن ونزلت بأوتيل بها صغير قد أقيم من الأخشاب، دعوني سادتي أصف لكم قاعاته التي ما وجدت أطرب منها مدة حياتي، تميل حيطانها ولا تمايل الأغصان، إذا تحرك به الإنسان، فهي في الواقع كما قيل في وصف المثيل. تُسارِرُها هَفَوات النسيم ... فتصْغي بلا أذن سامعة وأخشى بها أن أقيم الصلاة ... فتسجد حيطانها الراكعة

إذا ما قرأتُ إذا زلزلت ... خشيت بأن تقرأ الواقعة أما سرر النوم فتزدري بالصخور صلابة، وقد امتلأ قلبها قساوة، بألحفة قد صنعتها يد البخل والقل، وعلى قدرها تُمَدُّ الأرجل، وبالجملة فقد قضيت بها الليلة ما كان أهناها وأصفاها وأبهاها وأحلاها، ليلة ولا كليلِ صُولٍ على حُنْدُج حيث قال وهو من شعراء الحماسة: في ليلِ صُولٍ تناهى العرضُ والطولُ ... كأنما ليله بالليل مَوْصولُ لا فارقَ الصبح كفِّي إن ظَفِرْتُ به ... وإن بدت غُرَّة منه وتَحجيل ومذ انفلق عن طولها الفجر بعدما نفد الصبر، ولاح الصباح، ولمع من الطير الجناح نزلت تلك القرية لأخبر شأنها فأرتني منها مناظر حسنة، حيث هي في وادٍ عظيم يشقه نهر آر وتتشعب فيه غدران وجداول، ولمحت من بعد جبلاً قد تعَرَّض، فقصدته حتى إذا قربت الخطوة منه شاهدته جبلاً قد انشقَّ قسمين من أعلاه إلى أسفله، وقد جرى بينهما آر المذكور بقوة عظيمة وهيئة عجيبة فسرتني رؤيته لاسيما ما صنعته يد الإنسان فيه، حيث أقاموا بين ذلك الشق طريقاً من الحديد لها حواجز تسهيلاً للمتفرجين، فصعدت عليها ضمن الصاعدين، وسرنا والنهر يجري تحت أرجلنا، ونحن بين جبلين يكادان يتعانقان حتى خرجنا إلى طريق أخرى مكبرين

تمثال الأسد

استعظاماً لعجائب الطبيعة والقدرة الإلهية، وهذا المحل يسمى آر شلوخت، ومعناه شق. نهر آر ارتفاعه 92 متراً. ثم عمدت إلى مبارحة تلك القرية بعدما غفوت عن ليلتها بما أراني نهارها حتى وصلت إلى مدينة لوتسرن، ومكثت بها يومين، فإذا هي مدينة ما رأيت أحسن من موقعها، فتراها صانعة نصف دائرة على بحيرة عظيمة، ويمر بها نهر يقال له ريس حتى يتصل بتلك البحيرة جبلان وهما جبل ريجي وجبل بلاتوس، وتسمى فير فالدشتيته زيه ومعناه بحيرة بلاد الأحراش الأربعة وهي مواضع محاطة هي بها وهي شفيتس وأورى وأنترفالدن ولوتسرن. ثم إن هذه المدينة تسمى لوتسرن كما علمت وهي كلمة لاتينية معناها الفنار سميت باسم فنار أقيم قديماً على نهر ريس لاهتداء الملاحين، وعدد سكانها 18000 نفس، والتجارة فيها رائجة لتمكن موقعها الجغرافي من البلاد، ولأهلها شهرة بصناعة النجارة، فيصنعون من خشب الجوز أشكالاً عجيبة، ولهم فيه تفنن ما رأيته لغيرهم. تمثال الأسد أما أهم ما شاهدته فيها فهو تمثال الأسد المشهور، ولأقدم لك مقدمة قبل وصفه، فأقول: لما كانت خيرات بلاد سويسرا

بحريات وأنهار

في القرون السالفة غير كافية لمعيشة أهلها كان يهاجر كثير منهم إلى الممالك التي حولها طلباً للرزق، ثم يعودون بما اكتسبوه، وقد اتخذت الممالك كثيراً منهم في خدمتها لما رأوه فيهم من القوة وطيب الأخلاق، ومن ذلك أن لويز السادس عشر ملك الفرنساويين أعد منهم فرقة لحرسه الخصوصي ثقة بأمانتهم وخوفاً من الفرنساويين، إلى أن حصل الانقلاب الكبير بفرنسا، حيث قام الفرنساويون على ملكهم هذا، وأرادوا عزله على ما كان عليه من حسن السير وسماحة السجية، فدافع عنه حرسُه الخصوصي المنتظم من أهل سويسرا حتى قتلوا جميعاً، وكانوا 26 ضابطاً و860 نفراً عسكرياً، وكان ذلك بمدينة باريس في 10 أغسطس سنة 1792 ميلادية، ولأجل ذلك أقامت أهل سويسرا هذا التمثال تذكاراً للذين فدوا سيدهم بأنفسهم، وكيفيته عجيبة جداً، وذلك أنهم نقروا في صخرة من جبل كهفاً فيه تمثال أسد رابض ميت، وهو قطعة من تلك الصخرة طوله 28 متراً ونصف، وبيده طِرْس عليه علامة عائلة ملوك فرنسا المسماة بالبربون، وبظهره قطعة رمح منغرزة إشارة إلى أنه قد أصيب به، ومكتوب فوق ذلك الكهف هذه الجملة اللاتينية ومعناها لأمانة وشجاعة أهل سويسرا ومَرْقومُ أدناه أسماء الضباط الذين قتلوا بهذه الحادثة. بحريات وأنهار وشاهدت أيضاًَ محلاً فيه صخور عظيمة منقورة كأنها الأجران،

الاسترقاق الغربي

يقال إنها من تأثير الثلوج في الزمن القديم حينما كان شمال أوروبا مستوراً بالجليد، ولا يعلم لذلك الزمن تاريخ، وألفيت بذلك المحل خريطة سويسرا الجغرافية وهي لطيفة الصنع، وذلك أنها مصنوعة من الورق المقوى بارزة المواضع إشارة إلى الجبال على نسبتها الحقيقية، وبينما البحيرات والأنهار عجيبة الشكل، وهي كبيرة المساحة موضوعة على قاعدة عظيمة محاطة بحواجز خشبية، وبينما كنت أشاهدها ضمن المتفرجين أقبلت علينا شابة تتهادى في سن العشرين وبيدها عصا طويلة، وأخذت تعلمنا جغرافية سويسرا، وتشير إلى المواضع من البلاد والجبال والبحيرات والأنهار إلى غير ذلك مع ذكر أسمائها، فلم يكن عجبي من حسن صناعة تلك الخريطة أشد من سروري بنباهة معلمتنا هذه. الاسترقاق الغربي ثم بارحت المدينة في سفين جرى بنا في البحيرة المذكورة آنفا بين جبال صخرية ومروج زاهية، فصرت أمعن النظر في جهاتها وموضعها لشهرتها في تاريخ سويسرا القديم تطبيقاً للتاريخ على جغرافيتها، وقد أحببت أن أوافيكم بأهم تاريخه: فأقول: لقد كانت الإمبراطورية الجرمانية في القرون المتوسطة واسعة الأرجاء كثيرة البلاد فكانت تمتدُّ من الشمال إلى الجنوب، من بحر بلطيك إلى البحر الأبيض المتوسط، بما فيها مملكة إيطاليا، ومن الشرق إلى الغرب من حدود مملكة

جغرافية سويسرا

الروسيا إلى حدود فرنسا، وكان لها صولة عظمى ولحكامها قساوة كبرى في معاملة غير جنسهم، فكانوا يتخذون من أهالي إيطاليا ومن القاطنين حول بلاد سويسرا أرقَّاء لهم، ومن بعض عوائدهم التي كانوا عليها أن الرقيق إذ تزوج يجب عليه أن يقدم عروسه لسيده قبل البناء بها، والعياذ بالله إلى غير ذلك من الأحوال الدنيئة التي كانت السبب الأقوى في سرعة إبطال الاسترقاق ببلاد أوروبا بحكمة تفاقم العدوان، ومن ذلك تعلم أيضاً السبب في مكث الاسترقاق ببلاد المشرق إلى عهد قريب، وما ذاك إلا حسن معاملة المشرقيين لأرقّائهم حتى إن الرقيق منهم كان يؤثر البقاء لدى سيده إذا خُيِّر بينه وبين العتق. وعلى كل فقد استؤصلت، والحمد لله، شأفة الاسترقاق في هذا الزمان. جغرافية سويسرا هذا وكانت جغرافية سويسرا وقتئذ لا تزيد عما أحاط بتلك البحيرة المذكورة من الجبال والأودية، وكانت تنقسم إلى ثلاثة أقسام، يعد كل منها الآن كونتينة، وهي كما علمت قسم شفيتس بكسر الفاء الهندية، ومنه أخذ اسم سويسرا ولذلك ينطق الألمانيون بها بقولهم شفيتس بفتح الفاء القسم الثاني أورى والثالث أنترفالدن وكان ساكنو تلك الجهات ما بين: زارع، وراعٍ، وصائد للحيوانات الوحشية المأكولة لهم أولي قوة وبأس، يميلون بطبعهم إلى الحرية، لا يلقون بأنفسهم

السهم والتفاحة

إلى التبعية لمملكة أو حكومة، ولكن اضطرتهم صولة المملكة الجرمانية إلى أن تبعوها تبعية شرف، وأجازوا لقيصر جرمانيا أن يوَلِّي على كل قسم والياً بصفته قاضياً يحكم بينهم بقانونهم بشرط أن لا يمسّ بحقوقهم وعوائدهم الشخصية، وكان ذلك في أواخر القرن الثاني عشر من الميلاد إلى أن تولَّى القيصر البرشت الأول على مملكة جرمانيا فأزمع على أن يستولي على تلك الجهات، ويدخلها ضمن بلاده، فولّى على قسم شفيتس والياً قاسي القلب يسمى جسلر فعامل أهلها معاملة رديئة، وكان من أمره أن أمر ببناء بروج في كل قسم لتكون سجوناً وسخر لبنائها الأهالي، ولما تفاقم عدوانه اجتمع ثلاثة من أشراف تلك الأقسام، واستصحب كل منهم عشرة رجال، وخرجوا ليلاً إلى مرج يقال له روتلى وتآخوا وتحالفوا على أن يطردوا الولاة الجرمانيين من بلادهم، وسموا أنفسهم المتحالفين، وكان من رأيهم التسويف حتى يدخل أغلب الأهالي في تحالفهم هذا وتفرقوا على ذلك، وكان هذا التحالف في 7 نوفمبر سنة 1307 ميلادية، وأهل سويسرا يعظمون ذلك اليوم من كل سنة فهو كعيد لديهم. السهم والتفاحة هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من الوالي جسلر فإنه لم يزل يتمادى في أعماله، ومنها أنه أمر بإقامة قائمة من الخشب في أحد الميادين العامة بقرية يقال لها

ألتورف عاصمة قسم أورى ووضع على تلك القائمة قلنسوة إشارة إلى أنها التاج الملوكي لجرمانيا، ووكل بها حامية شاكين السلاح ليأمروا كُلَّ مَنْ مرّ من الأهالي بأن يُطأطئ من رأسه خضوعاً لتلك القلنسوة، إلى أن مرّ عليها ذات يوم صائد مع ابنه معتقلاً رمحه يسمى فيلهلم تل وكان مشهوراً بالشجاعة والحذق في الرمي فأخذ في طريقه غير مكترث بالقلنسوة، فتعرضت له الحامية، وأمروه بأن يخضع لها، فرفع بصره إليها ضاحكاً مستهزئاً، وأبى ما أشاروا عليه، فأوثقاه بالحبال، وقد علم بذلك كثير من الأهالي، فهرعوا إليه وغصَّ بهم الميدان، وبلغ ذلك الوالي جسلر فجاء بين رهط من العساكر، وأخبرته الحامية بشأن فيلهلم تل فضحك ضحك غضوب، وأمر بحل وثاقه، ثم قال له تهكماً: أأنت البطل الرامي المشهور؟ فأجابه بنعم. قال: إذن أريد منك أن تريني مقدار حذقك فيه. فقال: سمعاً وطاعة. وأمر جسلر المذكور بإحضار تفاحة، فلما حضروا بها التفت إلى فيلهلم تل، وقال له: ضع هذه التفاحة على ناصية ولدك، وابعد عنه بمقدار خمسين خطوة، فإن أصبتها حققت مالك من الشهرة. فصاح الجميع استعظاماً لذلك الأمر، ومازال فيلهلم تل يقع على أقدامه باكياً مستغيثاً، يطلب العفو خوفاً مما عسى أن تفلت يده فيصيب ابنه، وهو لا يأبى إلا ما أمر به حتى إذا علم فيلهلم تل أن لا مناص

منه، أخرج رمحين، وبعد عن ولده خمسين خطوة، ورمى بأحدهما التفاحة، فأصابها بدون ضرر لابنه، فصفق الجميع استحساناً، وأما جسلر فإنه دعاه إليه وقال له: لماذا أخرجت رمحين وكان يكفيك أحدهما؟ فقال: إن أمَّنتني على نفسي أبين السبب. فأجابه إلى طلبه، فقال: كنت إذا أصبت ولدي بأحدهما أتبعك بثانيهما. فتبسم جسلر تبسم غضنفر، وقال: لولا ما أمنتك على حياتك. وأمر بأن يوثقوه حبالاً، ويتبعوه به، وسار جسلر إلى البحيرة، ونزل زورقاً قاصداً شفيتس ومعه بعض من العساكر وفيلهلم تل موثق، وبينما الزورق يسبح بهم إذ قامت زعازع اضطربت لها الأمواج، وخافت الملاحون من الغرق، وأشاروا على جسلر بأن يحلوا وثاق فيلهلم تل ليساعدهم على التقذيف لمعرفته التامة به، وقد كان، فأخذ فيلهلم يقذف معهم حتى إذا أتى قريباً من البر قذف بنفسه إلى صخرة وأخذ طريقه هارباً، وإلى النجاة طالباً. وبعدما وصل الوالي جسلر إلى مكانه أمر بالقبض عليه أينما كان وعلى زوجته وأولاده، ولما علم بذلك فيلهلم تل تربص ذات يوم في معاطف الجبال على طريق يعلم أن جسلر سيمر بها، وبينما هو كذلك إذ مر الوالي جسلر راكباً فرساً، ويتبعه أحد خواصه، وقد اعترضت له في الطريق امرأة من أهالي سويسرا، قد أخنى عليها الدهر تسوق أطفالاً لها عرايا

تستغيث وتسترحمه في إطلاق زوجها من السجن لفقرها المدقع، قائلة إنه لم يأتِ بشيء سوى أنه تأخر يوماً عن الذهاب إلى السخرة، فأبى طلبها، وأمر بطردها، فقبضت على زمام فرسه، وطلبت إما إطلاق زوجها أو قتلها مع أولادها، وبينما هو بهذه الهيئة، وإذا بفيلهلم تل قد أصابه برمحه فسقط طريحاً على الأرض. ولما شاهدت ذلك الأهالي نادوا بكلمة الحرية، وطردوا باقي الولاة من بلادهم واستقلوا بالأمر، وعظموا من قدر فيلهلم تل كثيراً حتى إن عامتهم إلى الآن تشغف بذكره وقصصه كشغف عامتنا بقصص عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي وغيرهما، ولكن يوجد اختلاف بين المؤرخين الآن: فمنهم من ينكر هذه الحادثة، قائلاً إن فيلهلم تل لم يكن له وجود في العالم، ومنهم من يثبت وجوده ويؤيد حصول هذه الواقعة. ولم تزل أهل سويسرا مستقلين إلى أن مات قيصر جرمانيا ألبرشت ومذ تولّى ابنه المسمى ليوبولد أراد أن يعيث في بلادهم، فقصدها سنة 1315 ميلادية، وبينما جيشه يسير بين معاطف الجبال إذا احتاط به أهل سويسرا، ورجموهم بالأحجار من أعلى الجبال، فكانت حجارة سجيل إلى أن انتصروا عليهم، وأخرجوهم من حدود بلادهم، وكانت تلك

نحو قمة افريست

الواقعة في بلدة يقال لها مورجارتن. وفي سنة 1386 أضرمت مملكة النمسا فيهم نار الحرب ببلدة يقال لها سمباخ ولكن ما أجداهم ذلك شيئاً، ورجعوا بخفي حنين، راضين من الغنيمة بالإياب. نحو قمة افريست هذا ولم يزل السفين بنا يجري حتى وصلنا إلى قرية يقال لها فتسنو ومنها بدون ما واسطة نزلنا عربة بخارية لتصعد بنا في جبل ريجي الشاهق كي تصل بنا إلى ذروته المسماة ريجي كلم فتسنمت بنا وكل معجب بهيئتها العجيبة، وذلك أن عجلاتها ذات تضاريس، تتعشق بطروس القضبان الحديدية لكي يمكنها الصعود على ذلك الجبل الباذخ، وأعلى ارتفاع نقطة صعدت عليها الباخرة هي 25 درجة من زاوية قائمة بمعنى أنه لو كانت 95 درجة لكان الجبل منتصباً مثل الحائط. ولم تزل تصعد بنا حتى علونا ذروته ومنها شاهدنا مناظر للطبيعة تكاد تنطق بحسنها، وتتباهى بجمال موقعها، فرأيت ذلك الجبل محاطاً بثلاث بحيرات: إحداها التي ذكرناها آنفاً، وثانيتها يقال لها تسوجرزيه أي بحيرة تسوج وثالثها لوفرتسرزيه أي بحيرة لوفرتس، وجهته الجنوبية مشغولة بأشجار التين واللوز والقصطل، وبه مروج متسعة مسكونة لرعاة البقر، وبلغني أن به 4000 بقرة يتعهدونها لأخذ ألبانها.

استقبال في تسوريخ

أما ارتفاع ذلك الجبل عن سطح البحر المحيط فهو 1800 متر وعن سطح البحيرة المتقدم ذكرها 1363 متراً، ويطرق هذا الجبل كثير من الغرباء لحسن موقعه، وجمال منظره ويبيتون بذروته في أوتيلات إلى الصباح كي ينظروا محاسن الطبيعة عند شروق الشمس، ولما كنت خبيراً بحسن إشراقها، وجمال أشعتها أيام عهدي بالوطن العزيز قصدت النزول والانحدار إلى نقطة أخرى، فقلتني ضمن السياحين عربة بخارية كالسابقة وانحدرت بنا، وكل يجد من نفسه كأنه يميل إلى الوقوع، لا سيما مذ تعرض لنا في الطريق مَهْوى عميق، سارت العربة فوقه على قضبان كأنها الجسر، وينحدر فيه غدير انحداراً قوياً، وعرض ذلك المهوى 36 متراً. ولا تسلني عن السيدات والأطفال وقتئذ، وقد استمسك كل بالآخر يضحكهم الخوف ويطربهم الفزع، ولم نزل نعجب ونطرب حتى استقامت لنا السبيل، فنزلنا في بلدة يقال لها أرت ومنها إلى قطار سار بنا على عجل قاصدين مدينة تسوريخ مركز الفنون والصنائع. استقبال في تسوريخ فنزلت بها، وقد آذنت الشمس بالغروب، وبت بها ليلتئذ متفكراً في أعمال الوسائط التي تمكنني من مشاهدة مدارسها، واستكشاف أحوالها، وطرق تعليمها، ولما أصبح الصباح علمت أن بهذه المدينة مكتباً أقامته الحكومة والأهالي للغرباء الذين يريدون الاستفهام عن الأحوال التجارية أو الصناعية

أو العلمية، فقصدته حتى إذا كنت به اتجهت إلى حضرة مديره، وسألته عن الوسائط في ذلك، فلم يزدني علماً إلا بمواقعها من المدينة، فتشكرت له وأردت الخروج، فطلب مني تذكرة زيارتي لتقييد اسمي في دفتر كعادتهم مع الغرباء، فناولته إياها، ومذ قرأها انتصب قائماً يطلب مني العفو، وأجلسني بجانبه قائلاً: لقد كانت رؤياك إحدى أمانيَّ، حيث سمعت بوجودك ببرلين، وإني أحمد الله عليه الآن، فقدمت له جزيل شكري، وجميل ممنونيتي. ومذ دار بيننا الحديث بشأن مشاهدتي للمدارس أجابني بالقبول. وبالجملة فقد مكثت بتلك المدينة خمسة أيام صحبني فيها حضرته، وبعض من مفتشي المدارس ونظارها وكثير من المعلمين وناظر محطة المدينة، ولازمني أغلبهم حين مشاهدتي للمحلات العمومية. وكتبوا في جرائدهم بقدومي ومبارحتي، وأعدوا لي وليمة قام فيها أغلبهم خطباء، ثم شربوا كؤوسهم على صحة مولاي الجناب الخديو الأعظم، فقمت متشكراً لهم رافعاً يدي قائلاً: ليدم تحالفكم وأمراؤكم مراراً ولما شِمْت أني مغمور بفضائلهم أعددت لهم وليمةً قمت فيها خطيباً مظهراً فخارهم، وأبهة حكومتهم، وتقدمهم في العلوم والصنائع.

مخزن الكتب المدرسية

ومن غريب ما كان أيامئذ أن جاءني أحد محرري الجرائد وطلب مني صورتي لطبعها بجرائدهم، فقدمت له اعتذاري بعدم وجودها لدي، ورغبت منه أن يضرب عن ذلك صفحاً، ثم في اليوم الثاني أتاني صاحب الأوتيل، ومعه جريدة، وصار ينظر فيها تارة ويتفرس فيَّ تارة أخرى، ثم ناولني الجريدة فإذا بها صورة مرقوم تحتها اسمي، وهي مخالفة لصورتي الحقيقة فتأثرت لمشاهدة ذلك تأثراً عظيماً. مخزن الكتب المدرسية هذا وأما ما شاهدته بتلك المدينة فمدرسة البنات، وقد سررت منها سروراً عظيماً؛ لا سيما من فصول تعليم الخياطة والتطريز والآلات المعدة لذلك المصنوعة بهيئة ترتاح لها البنات وتسهل عليهن الأعمال. ثم عاينت مخزن الكتب المدرسية، وقد مكثت به يوماً أو بعض يوم، فتصفحت الكتب الابتدائية والانتهائية على اختلاف العلوم والفنون كلا على حدته، وعلمت كيفية سير تأليفها وتقسيم موضوعاتها، وأطربني منها كتب علوم الحساب والهندسة، والطبيعة، والمطالعة، وفن الإنشاء، فإنها آخذة طريقة تكفل لمستعملها بالنجاح مع السهولة. وفي أثناء معاينتي لها قال لي ناظر المخزن نحن مأمورون بأن نعطيك كل كتاب يروقك ويعجبك هدية من إدارة المدارس، ومكتب الغرباء، فقدمت له

نبذة عن تسوريخ

شكري الجزيل معتذراً، ثم خرجت وقد امتلأ دفتر تذكاري من الملاحظات التي قيدتها بشأن تلك الكتب. ومن جملة ما شاهدته أيضاً محل نموذج الأدوات المدرسية القديمة والحديثة، فألفيته محلاً ذا قاعات عرضوا بها نموذج الأدوات المستعملة في التعليم، كآلات التطريز، والرسم، والتصوير، وأجناس الطاولات والكراسي بهيئة تكفل براحة التلامذة، ونموذج الآلات المستعملة في فن الفلك وعلم الطبيعة، ومثلها آلات تحضير الأجسام الكيماوية، وأجناس الأقلام الإفرنجية، وغير ذلك مما لست أحصره. ولولا ضيق المقام لأتيت على وصف جميع ما شاهدته من الأحوال المدرسية بتلك المدينة، ولكن سأوضح ذلك شيئاً فشيئاً عند سنوح الفرصة في رحلتنا البرلينية إن شاء الله تعالى. ولما آن وقت مبارحتي تلك المدينة شيعني جم خفير من حضرات الذين تعرفت بهم، وأبى حضرة ناظر المحطة إلا أن ينزلني في عربة من الدرجة الأولى، على أنى كنت آخذاً اشتراكاً في جميع السكك الحديدية والبحرية في الدرجة الثانية. وبالجملة فقد ودعتهم وداع شاكر ممنون مما لحظوني به من كمال العناية والاحترام، ولم تزل الرقاع بيننا متواصلة إلى الآن. نبذة عن تسوريخ أما هذه المدينة فتسمى تسوريخ وكانت تسمى لدى

الرومانيين توركوم وهي عاصمة كونتينة مسماة باسمها، وعدد سكانها مع ضواحيها 85000 نفس موضوعة على شمال بحيرة تدعى باسمها، ويمر بها نهر يقال له لمات حتى يصب في البحيرة المذكورة. وهي مركز أعظم الصنائع والتجارة بقطر سويسرا، وأهمها الحرير والقطن، فيوجد بولايتها 10000 مِنْوال لنسيج القطن والحرير، وبها معامل لصنع المراكب البحرية كما أنها نقطة معارف سويسرا، وتوازيها مدينة جنيف، فبها مدرسة جامعة بها ما ينوف عن 400 طالب، و 88 مدرساً ومدرسة صناعية، وأخرى زراعية، ومدرسة كبرى للبنات والتعليم فيها بأجمعها له نجاح عظيم وشهرة كبرى، وقد تخرج في مدارسها علماء لهم اليد البيضاء في تقدم العلوم والفنون، ولو لم يكن لهذه المدينة شرف سوى أنها بلدة العالم الشهير المسمى لديهم بستالوتسي لكفى؛ وذلك أن هذا العالم هو أول من أخرج علم التربية البيداجوجيا من العلم إلى العمل، عاش في أوائل هذا القرن الميلادي، وكان في ابتداء أمره يشتغل بتحرير حكايات وقصص، ثم اشتغل بمطالعة كتب الفيلسوف روسو الفرنساوي، ومن وقتئذ اجتهد في تحقيق علم النفس ونسبته إلى الجسم، وكيفية التربية، وألف في ذلك كتباً مفيدة باللغة الألمانية،

وأسس مدارس كثيرة حتى اشتهر ذكره في الآفاق، وقصده الملوك لمشاهدته احتراماً له، والعلماء للأخذ عنه، وعلى منوال طريقته نسجت علماء التربية في عصرنا هذا. أما روسو الفرنساوي فكان مولده بمدينة جنيف في أواخر القرن الماضي الميلادي، وكان فيلسوفاً شهيراً اشتغل أولاً بعلم التربية، ثم تبحر في الفلسفة العامة حتى تشتتت لديه مقاصدها، ومن أخباره أن أكاديمية الفنون بباريس وقتئذ عرضت سؤالاً على العلماء طالبة الجواب عنه، وجعلوا لذلك جائزة، وهذا السؤال هو (تأثير التمدن في التربية)، مدعياً أن الإنسان مفطور على الخير، وإنما التمدن يكسبه الرذائل إلى غير ذلك، وفي أواخر عمره ألف كتاباً باللغة الفرنساوية قال في مقدمته ما معناه: لقد أتيت فيه بما لم يأتِ به أحد قبلي، ولن يأتي أحد بمثله من بعدي فكان كما قال؛ وذلك أنه وصف ترجمة حياته وأعماله منذ نعومة أظفاره، وباح بسر ضميره وأخلاقه التي كان عليها سواء سيئها وحسنها. هذا ولم يزل القطار يحل آفاقاً، ويقطع أقطاراً حتى أوصلنا إلى بحيرة يقال لها بودن زيه ومعناه بحيرة بودن فنزلنا بها

ثلاثة آلهة

تقلنا باخرة بحرية قاصدين حدود مملكة بفاريا مودعين حدود بلاد سويسرا متذكرين محاسن طبائعها، وجميل مواقعها. أما هذه البحيرة فعظيمة جداً، وهي مصب ومنصرف نهر الرين يبلغ محيطها 150 كيلومتراً، وطولها 64 كيلومتراً، وعرضها 12 كيلومتراً تقريباً، ومساحة سطحها 539 كيلومتراً، وأعظم عمق بها 255 متراً محاطة بأكمات ومروج، وينصرف فيها نهر الرين، ثم يخرج عنها صانعاً شلالاً يعد أعظم شلالات أوروبا. ثلاثة آلهة هذا وحينما حان وقت الظهيرة مدت مائدة الطعام على سطح الباخرة فاحتطنا بها، وقد دار بيننا الحديث حتى إذا علموا أني مصري أخذنا في التكلم على البلاد المشرقية والمغربية، وكان من ذلك أن التفتت إليَّ سيدة كانت أمامي، وقالت على مرآى من الحاضرين ومسمع: ألم يكن حقاً أنكم أيها العرب تعبدون إلهاً غير الذي نعبده نحن؟ فأخذني الضحك، وظننت أنها تهزل، وسألتها: لماذا؟ فقالت: لقد تعلمت في المدرسة، وطالعت في الكتب أن إلهكم يسمى (الله) وأما إلهنا فيسمى جوت وهو اسم الجلالة باللغة الألمانية. فحين طرق سمعي كلامها تيقنت أن ذلك مزح صرف، وقلت لها ضاحكاً: دعينا سيدتي من هذا المزاح في الألوهيات، فما ازدادت إلى يقيناً، وصارت تطلب مني التصديق على قولها. فقلت لها وكنت حريصاً على مزاجها:

مملكة بافاريا

سيدتي أنا لا أشك في أنك تهزلين، وعلى ذلك فَأذَنِي لي بأن أقدم مزحي؛ وذلك أنه يوجد، وأستغفر الله، ثلاثة آلهة إله العرب ويسمى (الله) وإله الألمانيين ويسمى (جوت)، وإله الفرنساويين ويسمى (ديو فاضطرب الجمع ضاحكاً معتبرين ذلك مزاحاً حرصاً على مزاجها. مملكة بافاريا ولم نبرح حتى لاحت لنا حدود مملكة بفاريا فنزلنا بلدة تدعى لندو بجزيرة صغيرة قد امتد بينها وبين برِّ هذه المملكة جسر عظيم كبري ولم نلبث بها إلا دقائق، ثم سرنا بطريق السكة الحديدية، قاصدين مدينة مينك عاصمة هذه المملكة، وفي تلكم الأثناء كان أمامي رجل بالعربة تلوح عليه سيما الوقار، وشمت منه شغفاً بتعرفي، فدار بيننا الحديث، ثم علمت أنه قسيس بروتستانتي من مملكة النمسا، وحينما عرضت عليه اسمي أخذ يتفرس، ثم اندفع قائلاً: أأنت فلان الذي أتى برلين منذ سنتين؟ لقد كنت أحسب أنك ضخم الجسم طويل القامة ذو لحية بيضاء تضرب إلى صدرك، وعمة عظيمة مثل علماء المشرق، فقلت: نعم، كان كذلك القاضي الفاضل رحمة الله عليه. ثم أخبرني أن أحد القسيسين ببرلين كتب له بشأني، وأنه كان من أمانيه مشاهدتي، والتعرف بي للمباحثة في الدينيات.

وبالجملة فقد عقدنا الصحبة بيننا، ولما وصلنا مدينة منيك، وقد أقبلت عساكر الليل وانهزم جيش النهار نزلنا معا في أوتيل واحد، ولما أصبح الصباح رافقته في مشاهدة هذه المدينة إلى أن أخذت الشمس وجهة المغرب، فعدنا إلى مقرنا، وقضيناها ليلة بلغ فيها الجدال بيننا أوجه في المسائل الدينية، وكان كل منا حريصاً على آداب البحث، فأخذته بالبراهين العقلية السياسية ناظراً إلى الفطرة والطبيعة والعادات، مظهراً له السر الإسلامي الذي خفي عن إدراك أغلبهم، وفي الانتهاء نظر إلي، ومدَّ يده يريد مصافحتي قائلاً لي: برافو (بخٍ بخٍ) ليعش مثلك لدينك. ولما باح الصباح بسره ودعني آخذاً طريقه في السفر، ولم تزل الرقاع تتواصل بيننا إلى الآن. ثم عمدت إلى مشاهدة هذه المدينة فشمتها مدينة عظيمة منتظمة الطرقات واسعتها، ولا يخفى أنها عاصمة مملكة بفاريا موضوعة على مستوٍ عال مرتفع عن سطح البحر المحيط بمقدار 519 متراً، ولذلك يكثر بها البرد، وهواؤها كإقليمها يتقلب سريعاً من الحرارة إلى البرودة وبالعكس، ويمر بها نهر يقال له آزار الذي يصب في نهر الدانوب (الطونة). أسسها دوق ألماني يقال له هنري الأسد سنة 1158 ميلادية، واشتهر ذكرها في عصر ملكها المسمى لويز الأول الذي

تولّى سنة 1825؛ حيث كان محباً للصنائع حتى صارت هذه المدينة أهم مركز للصنائع الألمانية، وكان شغوفاً بالشرع والإنشاء، مائلاً إلى التغيير والتبديل حتى قيل إنه أراد أن يغير من صورة الحروف الألمانية، وفي أواخر عهده أكرهته الأمة على التنازل حيث أعطى زمام السلطة لعشيقة له كانت مغنية إسبانيولية، فتولّى بعده ابنه مكسيمليان إلى سنة 1864 وفيها جلس لويز الثاني فأزمع على التزوج بأخت إمبراطور النمسا الحالي وخطبها منه، وفي تلك الأثناء حدثت أحوال كَرِه لأجلها التزوج، فعاش وحيداً حزيناً، ولكن وجه أنظاره إلى إتقان المباني، فأقام قصوراً حسنة، وصنع بستاناً بقصره الخصوصي بتلك المدينة أجرى فيه بحيرات صناعية وشابَه به الطبيعة، فأقام فيه شمساً وقمراً ونجوماً كلها صناعية يُسَيِّرها حسب أمره، وكانت الموسيقى تعزف له به ليلاً ونهاراً، ولما تفاقم أمره عزلته الأمة ولازمة الأطباء لتشتت عقله، وبعد حين ألقى بنفسه في بحيرة بقصره فمات غريقاً هو وأحد أطبائه. ثم تولّى بعده أخوه المسمى أتو وهو المالك الحالي، ولكن بحالة يأسف الإنسان عليها لأنه أصيب أيضاً في القوة المخيِّلة حتى إنه لا يدري أنه ملك، وينوب عنه الآن في الملك عمه المسمى لويدبولد وتسمى هذه المدينة باللغة الألمانية منخن السبب في ذلك أنها كانت قديماً ديراً للرهبان واسم الراهب بلغتهم

منخ ولذلك قد جعلوا صورته علامة على هذه المدينة، فتراها مصورة على كثير من المباني والمحلات العمومية، والحالة المدنية بها حسنة جداً، ففيها كثير من الصنائع المختلفة الشهيرة لا سيما صناعة التصوير، ويقال إن مدرسته بها من أحسن المدارس، ويعنون بالمدرسة في علم التصوير الطريقة، وبها مدارس علمية تحت نظارة المعارف ناجحة كثيراً لاسيما المدرسة الجامعة، وبها أكاديمية للفنون وغير ذلك، والتعليم فيها وفي مدارس المملكة عام بمعنى أن الآباء يلزمون بإرسال أولادهم إلى المدارس. وعدد سكانها 275000 نفس وأغلبهم كاثوليكيون ولا يخفى أن مشروبهم البيرة، ولها معامل بتلك المدينة شهيرة بجميع الآفاق، ولذلك ترى محلات البيرة في جميع البلاد مصوراً عليها صورة راهب رافع بيده قدحاً مملوءاً بيرة، وما ذاك إلا إشارة إلى أنها من معامل مدينة منخن كما علمت. أما ما شاهدته بها فليس بكثير لأن تغير هوائها عاقني عن معاينتها، ولكن شاهدت متحفين أحدهما متحف التصوير، وقد عرضوا فيه صوراً تشهد لصانعيها بالتقدم، والآخر متحف الآثار القديمة، وأخص منها التماثيل الحجرية، ففيها بعض تماثيل المصريين الأقدمين والرومانيين واليونانيين منها ما هو حقيقي، ومنها ما هو صناعي تقليدي.

القصر الملكي

القصر الملكي ثم توجهت إلى القصر الملوكي، فدخلته ضمن المتفرجين، ولم نشاهد منه سوى محل يقال له قاعة الكنز وقد عرضوا فيه المصوغات والجواهر والأحجار الكريمة التي كانت مستعملة للعائلة الملوكية، ولقد أصابوا في تسميته كنزاً، حيث جمع مجموعاً عظيماً من الجواهر التي بسببها كدت أصدق بكنوز السالفين التي وردت في الحكايات والقصص الخرافية. ثم حركت الأقدام إلى تمثال عظيم أقاموه خارج المدينة يسمى تمثال بفاريا ارتفاعه 19 متراً، وهو من النحاس المجوف، على صور امرأة رافعة بيدها اليمنى غصناً، وبجانبها أسد رابض، ثم صعدت في جوفه ضمن الصاعدين على درجات من الحديد حتى وصلنا إلى مجوف الرأس فألفيناه يسع خمسة أشخاص واقفين. أسس هذا التمثال الملك لويز الثاني تذكاراً لمملكة بفاريا وهذه الكلمة لاتينية واسمها باللغة الألمانية بيئرن وهي أهم مملكة جرمانية بعد البروسيا. في نرنبرج ثم ودعت تلك المدينة بطريق البر حتى وصلت إلى أقدم مدن ألمانيا وهي مدينة يقال لها نرنبرج فأقمت بها يوماً كاملاً أمتع طرفي بمحاسن أبنيتها وطرقاتها القديمة فشمتها بلدة قد أحاط بها سور قديم سميك ذو أبواب متقنة الصنع كباب النصر وباب المتولي بمصر، ويحيط بذلك السور خندق عمقه 10 أمتار، وعرضه 30 متراً، وطرقاتهم ضيقة غير مستقيمتها كثيرة الانعطافات بهيئة يشغف بها الناظر، تحفها المنازل القديمة العجيبة البناء

المنقوشة الأحجار كالمنازل المشرقية القديمة، وبأغلب ميادينها آبار أقيم عليها أبنية مختلفة الشكل وتماثيل غريبة، ومن ذلك رايتُ بئراً قد أقاموا عليه أشكالاً هرمية منقوشة نقشاً جميلاً حول تمثال شخص قابض بيديه مزماراً كأنه يزمر، والماء يخرج من عيون ذلك المزمار بكيفية مضحكة. وشمت بئراً آخر يسمونه بئر العفاف أقيم عليه تمثال شابة جميلة الصورة آخذة أعضاؤها تناسباً لطيفاً والماء يخرج من ثدييها إلى آخره. تُلجئ الضروراتُ في الأمور إلى سلوك ما لا يليقُ بالأدب. وغير ذلك مما يقصر اليراع عن حصره ووصفه، ودلني على أن سكانها الأقدمين كانوا يميلون إلى الخلاعة والطرب، كما هي سنة المدن التي بلغت أوج كمالها. وقد كانت هذه المدينة قديماً أمْدَن بلاد جرمانيا، وكانت مستقلة تحت حكم أشرف العائلات بها، ولكن كان قيصر ألمانيا يرسل إليها مأموراً من طرفه يقيم بقلعتها ليستولي على عوائد البضائع الواردة والصادرة، وكان يعين مأموريها من عائلة يقال لها هوهنسلرن وهي عائلة إمبراطور ألمانيا الحالي. وكانت أعظم مركز للبضائع المشرقية تأتيها على طريق البندقية إلى أن استكشفت قارة أميركا، ولم تزل مستقلة إلى

سنة 1806 ميلادية، وفيها استولت عليها مملكة بفاريا إلى الآن. شاهدت بها قلعتها ويسمونها دي بورج وبها قاعة تشمل آلات التعذيب والقتل كانت مستعملة لحكامها قديماً، ومن جملتها آلة حديدية يسمونها (البكر الحديدية) وذلك أنها مصنوعة على هيئة جسم الإنسان من الرأس إلى القدم فكانوا يخلعونها على من يريدون قتله، ثم يديرونها بواسطة آلة أخرى فتضغط على الجسم شيئاً فشيئاً إلى أن تزهق الروح، وغير ذلك مما يدل على عدوان حكامها في الزمن القديم، وقساوة قلوبهم. ثم اتجهت إلى محل مجلس الشورى (البرلمان) فوجدته، على قدمه، حسن البناء لطيف الموقع، وألفيت قاعة المشورة وعلى بابها مكتوب بيت شعر باللغة الألمانية القديمة هذا نصه: , ومعناه حرفياً: رأي واحد نصف رأي، ولذلك يلزم سماع كلا الرأيين. ومن جملة ما شاهدته أيضاً مأثرتها أنتيكاخنة فَشِمْتُها عظيمة جداً بها 75 قاعة عمومية قد عرضوا فيها الأشياء الجرمانية القديمة على اختلاف الأعصر، ويقصدها علماء الآثار للبحث في آثارها طلباً لتوسيع دائرة فنونهم التاريخية

والصناعية، ومن الغريب أن تلك المأثرة لم تكن تابعة للحكومة بل أقامتها الأهالي وصرفت لأجلها الدرهم والدينار حفظاً لآثار بلادهم، وأنعم بذلك من مقصد جميل، وأكرم بها من همة عالية! ثم بارحت تلك المدينة مسروراً بما أرتني منها، وزيادة على ذلك يجدر بها أن تتباهى حيث هي بلدة الصانع المشهور المسمى بطرس هيله مخترع ساعة الجيب، وكان ذلك سنة 1500 ميلادية تقريباً، ولأجل ذلك كانوا يسمون الساعات ببيض نرنبرج لكونها كانت آخذة شكلاً بيضاوياً. ولا يخفى أن الآلات التي تدل على الزمن كانت معروفة في الأعصر الغابرة قبل الهجرة والميلاد كالمزاول وزجاجات الرمل والتي تسير بالمياه، وأول من اخترع الساعات وسيرها بواسطة الطروس السلكية العجلية والأثقال هم العرب ولا فخر، وكان ذلك في القرن الثالث عشر الميلادي، وأول ساعة طرقت بلاد أوروبا من هذا الشكل العربي هي التي أهداها السلطان صلاح الدين إلى فريدريك الثاني قيصر جرمانيا وقتئذ، كما هو مشهور بكتب التاريخ. هذا ولم يزل القطار بنا سائراً حتى بارحنا حدود مملكة بفاريا، وقذف بنا في حدود مملكة صكصونيا.

الوصول إلى لايبزغ

أما سكان مملكة بفاريا فأغلبهم غلاظ البدن لكثرة شربهم البيرة، بيض الألوان، زرق العيون تغلب عليهم الخشونة في الألفاظ والأخلاق، ولهجتهم باللغة الألمانية صعبة الفهم على غيرهم من باقي الألمانيين. الوصول إلى لايبزغ ولم نزل سائرين حتى إذا عُجْنا على مدينة ليبسك نزلت بها يومين فإذا هي مدينة لطيفة موضوعة في مستو متسع محاط ببساتين. ولا يخفى أنها هي وباريس المركز الأول على وجه البسيطة لتجارة الكتب، وذلك منذ أواسط القرن الماضي، فيها ما ينوف عن 500 مكتبة لبيع الكتب و80 مطبعة عظيمة تطبع جميع الكتب على اختلاف اللغات كالعربية والصينية وخلافهما، كما أنها موضع مهم للتجارة في أشياء أخرى، وينتظم بها سنوياً سوقان عظيمان في فصلي الخريف والربيع يقصدهما التجار من كل فج، وأهم معاملتهم في تينك السوقين هو بيع الفرو المعد للملابس والجلود والقماش والصوف والكتان والزجاج، وهي أيضاً أشهر موضع ببلاد ألمانيا لصناعة الموسيقى، وبها مدرسة لها عظيمة جداً، أما مدرستها الجامعة العلمية فتعد في الدرجة الثانية بعد مدرسة برلين تشتمل على ما ينوف عن 3000 طالب. وبهذه المدينة أيضاً المحكمة العليا لجميع الإمبراطورية الألمانية، وهي محكمة أعظم من محاكم الاستئناف لا تنظر إلا في

القضايا الجنائية أو الدعاوى المدنية التي تكون من 300 مارك فصاعداً، وحكمة وضعها بتلك المدينة هو تحكم باقي الممالك الألمانية وعدم إرادتهم أن تكون ببرلين. وكانت معروفة منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وكان يسكنها قديماً قوم من أمة الفندنيين أصول السلافنة، ولذلك سموها باسم ليبسك وهو بلغتهم علم على شجر مخصوص كانت المدينة محاطة به. أما ما رأيته بها فليس لذكره كبير فائدة، إلا أني شاهدت محلاً عظيماً تجتمع فيه تجار الكتب، وكان ظني به أن يكون مكتبة عظمى، فلما كنت به احتاط بي السماسرة والتجار، وما زلت ألاطفهم حتى خرجت من بينهم حامداً الله شاكره. وبقرب هذه المدينة الموضع الذي اضطرمت به الحرب الشهيرة بحرب الثلاثة أيام، أو حرب الأمم التي انتصرت فيها ممالك البروسيا والروسيا والنمسا على نابليون ملك الفرنساويين بعدما عاث في ممالكهم وأخضعها له، وكان ابتداء تلك الحرب يوم 16 أكتوبر سنة 1813 ميلادية، ومكثت ثلاثة أيام ليس إلا، وليس ذلك بعجيب حيث كان جيش نابليون يبلغ 150000 عسكري وجيوش الممالك الأخرى 300000 عسكري.

مدينة دريسدن

مدينة دريسدن ثم بارحت هذه المدينة حتى وصلت إلى مدينة دريزدن عاصمة مملكة صكصونيا وأقمت بها يوماً، فشمتها ذات منظر بهيج كثيرة الأبنية الجميلة والشوارع النظيفة، ويحيط بها بساتين في غاية من التألق موضوعة على ضفتي نهر ألب وسكانها 246000 نفس، وهم على مذهب البروتستانت أسست سنة 1206 ميلادية، وصارت لهذه المملكة سنة 1485، واشتهر ذكرها اشتهاراً عجيباً في عصر ملكها أغسطس الثاني الذي مات سنة 1733، وكان يميل في أعماله إلى تقليد لويز الربع عشر ملك فرنسا مثل ملك بفاريا لويز الثاني المتقدم ذكره، وهؤلاء الثلاثة أرادوا أن يكونوا مثل قياصرة الروم، وفي عصر الملك أغسطس المذكور اخترعت صناعة الخزف المشهور بالخزف الصكصوني، ومخترعه يسمى بتجره وكان ذلك سنة 1709 وأعظم معامل ذلك الخزف بمدينة بتلك المملكة تسمى ميسن، ولا يعادل هذه المدينة غيرها في صناعة النقش على الأحجار لشهرة نقاشيها، شاهدت بها قاعة في القصر الملوكي يقال لها (القبة الخضراء) فشمت بها من أثمن كنوز العالم كنموذجات أصناف الذهب والفضة المرصعة بالأحجار الثمينة والخزف والعاج وسن الفيل والنحاس والبلور بصناعة عجيبة. ورأيت معرض التصوير بها، وقد عرضوا فيه صور المصورين المشهورين قديماً وحديثاً كصور رافائيل الإيطالياني الشهير،

العودة إلى برلين والوصول إليها في 15 سبتمبر 1889

ومصوري هولاندا وفرنسا وإيطاليا وغيره، وهذا المعرض ومعارض لوفر بباريس ومدريد بإسبانيا وفلورانسا هي أعظم المعارض على وجه البسيطة. ومن جملة ما لاحظته بتلك المدينة كيفية سير الناس على جسرها العظيم الممتد على نهر ألب، وذلك أن أحد رصيفيه مُعَد للصادرين والآخر للواردين، كيلا يعوق الصادر الوارد، ثم علمت أن ذلك قانون بجميع هذه المملكة بالنسبة إلى الجسور، فياله من انتظام حسن! وتسمى مملكة صكصونيا باللغة الألمانية زاكسن وهي أعظم مملكة بألمانيا بعد البروسيا وبفاريا، وملكها الآن يسمى البرت وقد باشر الحرب الأخيرة الفرنساوية الألمانية بصفته قائداً، وكان أبوه المسمى الملك يوحنا ذا علم ومعرفة بأدب اللغة، وقد ترجم إلى اللغة الألمانية ديوان الشاعر الإيطالياني الشهير بدانته. ولما متعت بمحاسن تلك المدينة الأنظار قلت للنفس هذا آخر عهدك بالأسفار والتجول في الأقطار، وحسبي فقد قطعت الفيافي وجبت البلاد، وطرقت منها الهضاب والنجاد، وعجمت أعواد قاطنيها، وسبرت أحوال نازليها. العودة إلى برلين والوصول إليها في 15 سبتمبر 1889 وأخذت في الأوبة إلى برلين آليا باليمين أن لا أدع عصا التسيار إذا صافح اليمين مني اليسار. وقد وصلتها يوم 20 محرم سنة 1307 هجرية الموافق 15 سبتمبر 1889 ميلادية.

هذا وقد قدمت إليكم سادتي هذه العجالة التي أودعت فيها ما شاهدته بتلكم البلدان والأقطار، متبعاً في ذلك السائحين الأوروبيين، مقتدياً بأسلافنا الرحالة المشرقيين أولي السياحات العربية، الذين لهم اليد البيضاء في توسيع نطاق علم الجغرافيا وعادات الأمم، وسار على منهجهم الأوروبيون وجعلوهم ملجأً لهم فيما خفي عليهم من البلدان، حتى استكشفوها وعبروها بأنفسهم، فمنهم الجغرافي الشهير أبو إسحاق الإصطخري الذي طاف ببلاد الإسلام مبتدئا من بلاد العرب إلى الهند إلى الأوقيانوس الأتلانطيقي، ووصف كل بلاد سمع بها أو رآها وصفاً مفيداً، ورسم كتابه بالأقاليم وقد شُغف بكتابه الأوروبيون، وترجم إلى اللغة الألمانية، ويعدون الإصطخري هذا من أول جغرافيي العرب عاش في أواسط القرن السادس من الهجرة، وكذا عُثر له في مكتبة مدينة (جوتا) بأواسط ألمانيا على خريطة بلاد العراق برسم يده مؤرخة في سنة 569 هجرية، وهي على قماش بالٍ، وقد رأيت تقليداً لها ببرلين، فنسختها وقلّدت رسمها تقليداً قريباً من الأصل، وهي تحت يدي حتى الآن. ومنهم ابن حَوْقَل عاش في القرن الرابع من الهجرة، وكان تاجراً من الموصل سافر من بغداد، وطاف البلاد الإسلامية وبلاد البربر والعراق وفارس والأندلس

وصقلية سيسليا، ومكث في رحلته هذه 38 سنة، ووضع لها كتاباً سماه المسالك والممالك اطلعت عليه فألفيته مستوفياً مفيداً، وقد ترجم إلى اللغة الفارسية، ومنها إلى الإنجليزية. وللافرنج في أنفسهم منه شيء حيث قال في كتابة ما معناه: وأما بلاد النصارى والحبشة فلا أتكلم عليها إلا يسيراً لما أن تولعي بالحكمة والعدل والدين وانتظام الأحكام يأبى أن أثني عليهم بشيء من ذلك. ومنهم العلامة الشهير أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله المعروف بالشريف الإدريسي، ولد سنة 1099 ميلادية، وتُوفي في صقلية سنة 1180 أخذ في قرطبة من علمائها، واشتهر في فنون الهيئة والجغرافيا والفلسفة والطب والنجوم وقرض الشعر. طاف ببلاد مصر ومراكش وآسيا الصغرى والقسطنطينية والأندلس وفرنسا وإنجلترا ثم دعاه إليه ملك صقلية وقتئذ المسمى روجر الثاني فاصطنع له إجابة لطلبه كرة أرضية من فضة، وكتب عليها بأحرف عربية كل ما عرفه من البلدان، وشرح ما كتبه بها في كتاب سماه نزهة المشتاق في أخبار الآفاق ووصف فيه نباتات كل قطر، وقد ترجم إلى اللغة الفرنساوية وطبع باللغة العربية في رومه سنة 1593 ميلادية.

ومنهم السائح الشهير الحسن محمد بن الوزَّان الغرناطي الذي ادعته لهم الإفرنج وسموه ليو أفريكانوس ولد في إسبانيا سنة 1487 ميلادية وتُوفي سنة 1526 من أبوين مغربيين مسلمين، وانتقلا به وهو صغير، وتوطنا في فاس، ثم رافق خاله إلى تمبكتو، ثم أخذ بعد ذلك في السفر فجاب مملكة فاس ومراكش، ودقق البحث في عادات الأهالي، وسافر بين قبائل عرب البادية مصر وداخل أفريقية، ثم سافر إلى تركيا وفارس وبلاد أخرى، ثم رجع إلى القسطنطينية بحراً فأسره الإفرنج وذهبوا به إلى رومية سنة 1517 ميلادية، فدعاه إليه البابا وقتئذ المسمى ليو العاشر، ولما رآه فيه من فضله وعلمه عين له مرتباً كافلاً لمعيشته، وسماه باسمه تشريفاً له فقيل له ليو أفريكانوس ومعناه ليو الأفريقي. وبعدما أتقن اللغة الإيطاليانية أقيم معلماً للغة العربية فكتب هناك رحلته الأفريقية بالعربية، ثم ترجمت إلى الإيطاليانية، وذهب بعضهم إلى أنه تُوفي برومية، ولكن الأصح ما قاله العالم الجرماني المسمى ودمنستات وهو عالم بالأمور المشرقية من علماء القرن السادس عشر الميلادي، حيث قال أنه بعد موت البابا عاد إلى تونس ورجع إلى الإسلام.

وقد أقر الجميع بفضل تأليفه حتى قيل إنه لم يصف كاتب قبله تلك البلاد وصفاً مدققاً كوصفه. وكذلك الرحالة الشهير أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المغربي الطنجي المعروف بابن بطوطة. ولد في طنجة سنة 1302 للميلاد وتُوفي سنة 1378 وكان محباً للوقوف على أخبار الأمم وأحوال البلدان، فساح في الأقطار المصرية والفارسية والسورية والعربية والصينية والتترية والهندستانية وبعض جزائر الهند وأواسط إفريقيا وإسبانيا، وقد كتب رحلته فأودعها أخباراً مهمة غريبة، ولكن لا تزال مفقودة. أما ما نشر منها فهو قسم اختصره العلامة محمد بن محمد بن أحمد بن جزيّ الكلبي المغربي في مجلد قد طبع وتناقلته الأيدي. وقد اعتنى الإفرنج برحلته وبحثوا عن أصلها فلم يجدوا غير مختصره فترجموه إلى اللغتين الإنجليزية والفرنساوية، وقد كنت أيام صغري شغوفاً بمطالعة ذلك المختصر. ومنهم الرحالة الأديب أبو الحسن نور الدين بن سعيد المغربي الغرناطي الأخباري العجيب، ولد في غرناطة سنة 610 هجرية، وأخذ عن أعلام إشبيلية كأبي علي الشلوبين وابن عصفور. طاف ببلاد المشرق والمغرب بإفريقيا

وآسيا وألف تآليف شتّى فمنها المُغْرِب في حلَى المَغْرب والمُشْرِق في حلى المَشرق والنفحة المسْكية في الرحلة المكية وعدة المستنجز وعقلة المستوفز ذكر فيه رحلته الثانية من تونس إلى المشرق، وكان مائلاً في أخباره إلى الأدب والشعر، حيث كان شاعراً ناثراً طريف الشمائل اطلعت له على وصية وضعها لابنه، وقد أراد ابنه أن يتوجه إلى القاهرة أتى فيها بغرر الكلام، وجواهر المعاني، وسرد فيها قصيدة مطربة أولها: أودِعُك الرحمنَ في غربتك ... مُرتَقِباً رُحْماه في أوْبَتك وما اختياري كان طَوْعَ الهوى ... لكنني أجْري على بُغْيَتِك إلى أن قال فيها بيتاً أنا شغوف به، لَهُوج بإنشاده وهو: وكل ما كابَدْتَه في النوى ... إيَّاك أن يكسر من هِمَّتِك وكثير غيرهم ممن جاب البلاد ووصفها. أما الذين صنفوا في الجغرافيا من المشرقيين فأكثر من أن يحصوا، وقد أخذ عن أغلبهم الأوربيون، ولا يزالون دائبين على طبع كتبهم وتدريسها وترجمتها كجغرافية ياقوت، وأبي الفدا، وابن الفقيه الهمذاني، وأبي القاسم بن خرداذبه، والمقدسي، وقدامة الكاتب، وأبي جعفر الخازن، وأبي زيد البلخي، صاحب الخارطات الجغرافية، وأحمد بابا،

والبكري، والقزويني. وغيرهم كثير، وها أنا آخذ في تتبعهم وتعريف أعمالهم التي شغف بها علماء أوروبا، واشتهروا لديهم بجميع المدارس العليا كاشتهار علماء النحو بين طلبة الجامع الأزهر العامر. ولست ترى عالماً جغرافياً أو تاريخياً بقارة أوروبا إلا ولديه علم بتلك الكتب إن لم نقل بما حوته، ولم أقصد سادتي بحديثي هذا تشدقاً، كلا بل بعثاً من نشاطكم، وتنبيهاً من التفاتكم نحو ما قامت به أسلافكم، وتعبوا لأجله، وواصلوا الأيام بالليالي في رقمه، أكان عبثاً ما جاءوا به، حتى نتركه وراءنا ظِهْرياً أم لعباً فنهزأ به! ألم نكن نحن الجديرين بأن نقدر لأسلافنا قدر أعمالهم فنبحث وننقب عنها وندرسها، فنعلم ما هدونا إليه، وننسج على منوالهم ونتمم مشروعاتهم! تلك أعمالهم وتآليفهم بين ظهرانينا في كل فن وعلم، ولكن وا أسفاه! نراها ميتة في جلودها لا تجد لها باعثاً لروحها أو مطالعاً لأسطرها أو طابعاً لها! ألم يكن طبعها أولى من طبع ثلاثين جزءاً من قصة عنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي وسلامة، والزير سالم، وخضرا الشريفة، وغير ذلك مما لا يفيد العامة إلى تأخراً في المدنية والآداب. فأقيموا أيها الأخدان الدعائم على ما أسسه لنا السلف؛ لنكون لهم خيرَ خلفٍ، وهيا بنا نبني كما كانت أوائلنا ... تبني

ونفعل مثل ما فعلوا ولننتهز الفرصة فهذا أوانها أوان لحظنا فيه مليك عطوف، مهد لنا منهج الصلاح، وأقام لنا أعلام الفلاح، توفيق الأنام، وابتسام الأيام. لازالت سدته العلية شمساً لآفاقنا، ولا برح جوده هاطلاً بأقطارنا، مؤزراً بوزرائه الكرام، مسروراً بحفظ السادة الأنجال الفخام. فهذا نصحي، وأنا أخ لكم أبعد فيه عن التهم، ولا أسألكم عليه أجراً إلا التبصر فيه، ولست قارعاً عصا لذي الحلم، والله الهادي إلى أقوم طريق، وبه الإعانة والتوفيق. تم تحريره بقلم الفقير حسن توفيق المصري في أوائل جمادى الثانية سنة 1307 هجرية الموافقة أواخر يناير سنة 1890 ميلادية في برلين عاصمة الإمبراطورية الألمانية.

§1/1