رسالة لطيفة في شرح حديث أنت ومالك لأبيك
الصنعاني
رسالة لطيفة في شَرْحِ حَدْيثِ أنْت ومالك لأبيك
جَمِيْعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَةٌ الطَّبْعةُ الأولى 1422 هـ - 2001 م دار البشائر الإسْلاميّة للطباعَة والنّشر والتوزيع هاتف: 702857 - فاكس: 704963/ 009611 بيروت- لبنان ص ب: 5955/ 14 e-mail: [email protected]
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على المصطفى المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتَّابعين. وبعد: فهذه رسالة لطيفة في شرح حديث: "أنت ومالك لأبيك"، للإِمام الصنعاني، وهي غير مذكورة في كتبه ولعل كونها رسالة صغيرة لم يعتنِ المترجمون له بذكرها. ولا شك أنَّها له لأنَّها كُتبت بخط ولده السيِّد/ عبد الله بن محمَّد، وهو نسبها إليه. فنشرها والحال هذه إضافة جديدة. كما أنَّ موضوعها ممَّا يُحتاج إليه اليوم جدًّا؛ لِمَا فَشَى بين المسلمين من عقوق الوالدين، والانشغال بالمعاش ومتطلبات الحياة عن القيام بحقوقهما، وإن كان الرأي الذي ارتآه الإِمام الصنعاني رحمه الله في شرح الحديث خالف فيه الرأي المعتمد عند جمهور العلماء. وقد بيَّنت الرأي المعتمد باختصار حتى
لا يغترّ أحد بما ذكره الإِمام الصنعاني رحمه الله في شرح الحديث (¬1). ثم لا يخلو نشر هذه الرسالة من فوائد لطلبة العلم في التعرُّف ¬
على منهج أحد الأعلام في الحِجَاج وحسن المدافعة وإيراد البرهان في إثبات ما يراه صوابًا. هذا وقد نقلت ترجمة الإِمام الصنعاني كاملة من البدر الطالع. وأصل الرسالة التي اعتمدت عليها مصورة من مخطوطات مكتبة النجف في أحد عشر ورقة، وعدد أسطرها 22 وعليها تملك باسم السيد هبة الدين الشهرستاني. وقد قمت بضبط النص وذكرت الآيات في موقعها من المصحف الشريف والتعليق على ما يلزم. والحمد لله رب العالمين
ترجمة المؤلف من كتاب "البدر الطالع"، للشوكاني
ترجمة المؤلف من كتاب "البدر الطالع"، للشوكاني (¬1) هو السيِّد محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمَّد بن علي بن حفظ الدين بن شرف الدين بن صلاح بن الحسن بن المهدي بن محمَّد بن إدريس بن علي بن محمَّد بن أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. الكحلاني ثم الصنعاني، المعروف بالأمير، الإِمام الكبير المجتهد المطلق، صاحب التصانيف. وُلِدَ ليلة الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة 1099 تسع وتسعين وألف بكحلان، ثم انتقل مع والده إلى مدينة صنعاء سنة 1107 هـ. وأخذ عن علمائها كالسيِّد العلَّامة زيد بن محمَّد بن الحسن، والسيد العلَّامة صلاح بن الحسين الأخفش، والسيد العلَّامة عبد الله بن علي ¬
الوزير، والقاضي العلَّامة علي بن محمَّد العنسي. ورحل إلى مكة وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرَّد برئاسة العلم في صنعاء، وتظهَّر بالاجتهاد، وعمل بالأدلة، ونفر عن التقليد، وزيَّف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية. وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن، منها في أيام المتوكِّل على الله القاسم بن الحسين، ثم في أيام ولده الإِمام المنصور بالله الحسين بن القاسم، ثم في أيام ولده الإِمام المهدي العباس بن الحسين، وتجمَّع العوام لقتله مرة بعد أُخرى، وحفظه الله من كيدهم ومكرهم، وكفاه شرّهم. وولَّاه الإِمام المنصور بالله الخطابة بجامع صنعاء فاستمر كذلك إلى أيام ولده الإِمام المهدي. واتفق في بعض الجُمع أنه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرهم في الخطبة الأخرى فثار عليه جماعة من آل الإِمام الذين لا أنسة لهم بالعلم، وعَضّدهم جماعة من العوام وتواعدوا فيما بينهم على قتله في المنبر يوم الجمعة المقبلة، وكان من أعظم المحشدين لذلك السيِّد يوسف العجمي الإِمامي القادم (¬1) في أيام الإِمام المنصور بالله والمدِّرس بحضرته، فبلغ الإِمام المهدي ما قد وقع التَّواطؤ عليه، فأرسل لجماعة من أكابر آل الإِمام وسجنهم، وأرسل لصاحب الترجمة أيضًا وسجنه، وأمر من يطرد السيد يوسف المذكور حتى يخرجه من الديار اليمنية، فسكنت عند ذلك الفتنة وبقي صاحب الترجمة نحو شهرين، ثم خرج من السجن، وَوُلِّيَ الخطابة غيره، واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا، وإفتاء، وتصنيفًا. ¬
وما زال في محن من أهل عصره. وكانت العامَّة ترميه بالنصب؛ مستدلِّين على ذلك بكونه عاكفًا على الأُمَّهات وسائر كتب الحديث عاملًا بما فيها، ومن صنع هذا الصنع رمته العامَّة بذلك، لا سيَّما إذا تظهَّر بفعل شيء من سنن الصلاة، كرفع اليدين وضمهما ونحو ذلك، فإنَّهم ينفرون عنه ويعادونه ولا يقيمون له وزنًا مع أنهم في جميع هذه الديار منتسبون إلى الإِمام زيد بن علي وهو من القائلين بمشروعية الرفع والضم. وكذلك ما زال الأئمة من الزيدية يقرأون كتب الحديث الأمهات وغيرها منذ خرجت إلى اليمن ونقلوها في مصنفاتهم الأول فالأول، لا ينكره إلَّا جاهل أو متجاهل. وليس الذنب في معاداة من كان كذلك للعامة الذين لا تعلق لهم بشيء من المعارف العلمية؛ فإنَّهم أتباع كلِّ ناعق، إذا قال لهم من له هيئة أهل العلم (إنَّ هذا الأمر حق): قالوا: حق. وإن قال (باطل): قالوا: باطل. إنَّما الذنب لجماعة قرأوا شيئًا من كتب الفقه ولم يمعنوا فيها ولا عرفوا غيرها؛ فظنوا لقصورهم أنَّ المخالفة لشيء منها مخالفة للشريعة؛ بل القطعي من قطعياتها، مع أنهم يقرأون في تلك الكتب مخالفة أكابر الأئمة وأصاغرهم لما هو مختار لمصنفها؛ ولكن لا يعقلون حقيقة ولا يهتدون إلى طريقة، بل إذا بلغ بعض معاصريهم إلى رتبة الاجتهاد وخالف شيئًا باجتهاده جعلوه خارجًا عن الدِّين، والغالب عليهم أن ذلك ليس لمقاصد دينية بل لمنافع دنيوية تظهر لمن تأمَّلها، وهي أن يشيع في الناس أنَّ من أنكر على أكابر العلماء ما خالف
المذهب من اجتهاداتهم كان من خلص الشيعة الذابِّين عن مذهب الآل، وتكون تلك الشهرة مفيدة في الغالب لشيء من منافع الدنيا وفوائدها فلا يزالون قائمين وثائرين في تخطئة أكابر العلماء ورميهم بالنصب ومخالفة أهل البيت، فتسمع ذلك العامة فتظنه حقًّا؛ وتعظِّم ذلك المنكر؛ لأنه قد نفق على عقولها صدق قوله وظنوه من المحامين عن مذهب الأئمة، ولو كشفوا عن الحقيقة لوجدوا ذلك المنكِر هو المخالف لمذهب الأئمة من أهل البيت بل الخارج عن إجماعهم؛ لأنهم جميعًا حرموا التقليد على من بلغ رتبة الاجتهاد وأوجبوا عليه أن يجتهد رأي نفسه، ولم يخصوا ذلك بمسألة دون مسألة، ولكن المتعصب أعمى والمقصر لا يهتدي إلى صواب، ولا يخرج عن معتقده إلَّا إذا كان من ذوي الألباب، مع أنَّ مسألة تحريم التقليد على المجتهد هي محررة في الكتب التي هي مدارس صغار الطلبة فضلًا عن كبارهم بل هي في أول بحث من مباحثها يتلقَّنها الصّبيان وهم في المَكْتَب. ومن جملة ما اتفق لصاحب الترجمة من الامتحانات أنه لمَّا شاع في العامَّة ما شاع عنه بلغ ذلك أهل جبل برط من ذوي محمَّد وذوي حسين، وهم إذ ذاك جمرة اليمن الذين لا يقوم لهم قائم؛ فاجتمع أكابرهم -ومن أعظم رؤسائهم حسن بن محمَّد العنسي البرطي- وخرجوا على الإِمام المهدي في جيوش عظيمة ووصلت منهم الكتب أنهم خارجون لنصرة المذهب وأنَّ صاحب الترجمة قد كاد يهدمه، وأنَّ الإِمام مساعد له على ذلك، فترسَّل عليهم العلماء الذين لهم خبرة بالحق وأهله ورتبة في العلم فما أفاد ذلك، وآخِر الأمر جعل لهم الإِمام
زيادة في مقرراتهم، قيل: إنها نحو عشرين ألف قرش في كل عام، فعادوا إلى ديارهم وتركوا الخروج لأنه لا مطمع لهم في غير الدنيا ولا يعرفون من الدين إلَّا رسومًا، بل يخالفون ما هو من القطعيات، كقطع ميراث النساء، والتحاكم إلى الطاغوت، واستحلال الدماء والأموال، وليسوا من الدين في ورد ولا صدر. ومن محن الدنيا أنَّ هؤلاء الأشرار يدخلون صنعاء لمقررات لهم في كل سنة ويجتمع منهم ألوف مؤلفة، فإذا رأوا من يعمل باجتهاده في الصلاة كأن يرفع يديه أو يضمهما إلى صدره أو يتورك أنكروا ذلك عليه، وقد تحْدُث بسبب ذلك فتنة، ويتجمَّعون ويذهبون إلى المساجد التي تقرأ فيها كتب الحديث على عالم من العلماء فيثيرون الفتن، وكل ذلك بسبب شياطين الفقهاء الذين قدَّمنا ذكرهم. وأما هؤلاء الأعراب الجفاة فأكثرهم لا يصلِّي ولا يصوم ولا يقوم بفرض من فروض الإِسلام سوى الشهادتين على ما في لفظه بهما من عوج. واتَّفق في الشهر الذي حرّرت فيه الترجمة أنه دخل جماعة منهم -وفيهم عجيب وتيه، واستخفاف بأهل صنعاء على عادتهم-، وقد كانوا نهبوا في الطرقات، فوصلوا إلى باب مولانا الإِمام حفظه الله، فرأى رجل بقرة له معهم فرام أخذها، فسل من هي معه من أهل بكيل السلاح على ذلك الذي رام أخذ بقرته؛ فثار عليهم أهل صنعاء الذين كانوا مجتمعين بباب الخليفة، وهم جماعة قليلون من العوام وهؤلاء نحو أربعمائة، فوقع الرجم لهؤلاء من العامة، ثم بعد ذلك أخذوا ما معهم من الجمال التي يملكونها وكذلك سائر دوابّهم فضلًا عن
الدواب التي نهبوها على المسلمين وأكثر بنادقهم وسائر سلاحهم، وقتلوا منهم نحو أربعة أنفار أو زيادة وجنوا على جماعة منهم، وما وسعهم إلَّا الفرار إلى المساجد وإلى محلات قضاء الحاجة، ولولا أنَّ الخليفة بادر بزجر العامّة عند ثوران الفتنة لما تركوا منهم أحدًا فصاروا الآن في ذلة عظيمة، زادهم الله ذلة وقلل عددهم. وقد كان كثر أتباع صاحب الترجمة من الخاصة والعامة وعملوا باجتهاده أو تظاهروا بذلك وقرأوا عليه كتب الحديث وفيهم جماعة من الأجناد، بل كان الإِمام المهدي يعجبه التظهر بذلك وكذلك وزيره الكبير الفقيه أحمد بن علي النهمي وأميره الكبير ألماس المهدي، وما زال ناشرًا لذلك في الخاصة والعامة غير مبال بما يتوعده به المخالفون له. ووقعت في أثناء ذلك فتن كبار، وقاه الله شرها. وله مصنفات جليلة حافلة، منها: "سبل السلام" اختصره من "البدر التمام" للمغربي. ومنها: "منحة الغفار" جعلها حاشية على "ضوء النهار" للجلال. ومنها: "العدة" جعلها حاشية على "شرح العمدة" لابن دقيق العيد. ومنها: "شرح الجامع الصغير" للأسيوطي في أربعة مجلدات، شرحه قبل أن يقف على شرح المناوي. ومنها: شرح "التنقيح" في علوم الحديث للسيد الإِمام محمَّد إبراهيم الوزير وسمَّاه "التوضيح". ومنها: "منظومة الكامل" لابن مهران في الأصول وشرحها شرحًا مفيدًا. وله مصنفات غير هذه. وقد أفرد كثيرًا من المسائل بالتصنيف بما يكون جميعه في مجلدات. وله شعر فصيح منسجم جمعه ولده العلَّامة عبد الله بن محمَّد
في مجلد، وغالبه في المباحث العلمية، والتوجع من أبناء عصره والردود عليهم. وبالجملة فهو من الأئمة المجددين لمعالم الدين، وقد رأيته في المنام في سنة 1206 هـ- وهو يمشي راجلًا وأنا راكب في جماعة معي، فلما رأيته نزلت وسلمت عليه، فدار بيني وبينه كلام حفظت منه أنه قال: دقِّق الإِسناد، وتأنَّق في تفسير كلام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. فخطر ببالي عند ذلك أنه يشير إلى ما أصنعه في قراءة البخاري في الجامع، وكان يحضر تلك القراءة جماعة من العلماء ويجتمع من العوام عالم لا يحصون، فكنت في بعض الأوقات أفسر الألفاظ الحديثية بما يفهم أولئك العوام الحاضرون، فأردت أن أقول له: إنَّه يحضر جماعة لا يفهمون بعض الألفاظ العربية، فبادر وقال قبل أن أتكلم: قد علمت أنه يقرأ عليك جماعة وفيهم عامة، ولكن دقق الإِسناد وتأنق في تفسير كلام رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم. ثم سألته عند ذلك عن أهل الحديث: ما حالهم في الآخرة؟ فقال: بلغوا بحديثهم الجنة أو بلغوا بحديثهم بين يدي الرحمن، الشك مني. ثم بكى بكاءً عاليًا وضمني إليه وفارقني. فقصصت ذلك على بعض من له يد في التعبير وسألته عن تأويل البكاء والضم، فقال: لا بدَّ أن يجري لك شيء ممَّا جرى له من الامتحان. فوقع من ذلك بعد تلك الرؤيا عجائب وغرائب كفى الله شرها. وتُوُفِّي رحمه الله سنة 1182 هـ اثنتين وثمانين ومائة وألف في يوم الثلاثاء شهر شعبان منها.
ونظم بعضهم تاريخه فكان هكذا: محمَّد في جنان الخلد قد وصلا 92 + 90 + 104 + 665 + 104 + 127 = 1182 ورثاه شعراء العصر، وتأسَّفوا عليه. وله تلامذة نبلاء علماء مجتهدون. منهم: شيخنا السيد العلَّامة عبد القادر بن أحمد، والقاضي العلَّامة أحمد بن محمَّد قاطن، والقاضي العلَّامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال، والسيد العلَّامة الحسن بن إسحاق بن المهدي، والسيد العلَّامة محمَّد بن إسحاق بن المهدي، وقد تقدَّمت تراجمهم، وغيرهم ممَّا لا يحيط بهم الحصر. ووالده كان من الفضلاء الزَّاهدين في الدنيا الرَّاغبين في العمل. وله عرفان تام وشعر جيد. ومات في ثالث شهر ذي الحجة سنة 1142 هـ اثنتين وأربعين ومائة وألف، وكان ولده صاحب الترجمة إذ ذاك بشهارة. * * *
ممم صور من المخطوط صفحة عنوان الرسالة وقد ورد فيها الدليل على نسبتها للأمير
الصفحة الأولى
الصفحة الأخيرة
وردت هذه العبارة على غلاف الرسالة هذه رسالة لطيفة في شرح حديث: "أنت ومالك لأبيك"، المروي بطرق الشيعة وبطرق أهل السنّة، تأليف السيد الإِمام العلَّامة الهمام السيد محمَّد بن إسماعيل الأمير، وقد كان [حيًّا] إلى سنة 1174 هـ، وهو من فقهاء الشيعة الزيدية بأرض اليمن، وله تأليفات حسنة كـ "المسائل المرضية". وهذه الرسالة الشارحة لحديث: "أنت ومالك لأبيك"، هي بخط ولده، منقولة عن النسخة الأصلية. حرَّر ذلك مالكها السيد هبة الدِّين الشهرستاني
مقدمة المصنف
بسم الله الرحمن الرحيم حديث: "أنت ومالك لأبيك" (¬1)، أخرجه البزار، قال: حدَّثنا ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
محمد بن يحيى بن عبد الكريم، نا عبد الله بن داود الخَريبي عن هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أنتَ ومالك لأبيك". وأخرجه أبو داود (¬1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله إنَّ لي مالًا ووالدًا، وإنَّ أبي يجتاح (¬2) مالي. قال: "أنت ومالك لأبيك، إنَّ أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم"، قال الخطّابي: ومعنى يجتاحه، أي: يستأصله أخذًا وإنفاقًا. قال الترمذي (¬3) في جامعه على قوله: "وإنَّ أولادكم من ¬
حكم العمل بالحديث
كسبكم": والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، قالوا: إنَّ يد الوالد مبسوطة في مال ولده يأخذ ما شاء. انتهى. قلت: وإلى العمل بالحديث ذهب جابر بن عبد الله رضي الله عنه، راويه؛ فصح عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: يأخذ الأب والأم من مال ولدهما بغير إذنه ولا يأخذ الابن ولا الابنة من مال أبويهما بغير إذنهما. أخرجه ابن حزم (¬1)، وقال (¬2): إنَّه صح مثله عن عائشة رضي الله عنها من قولها، فهو مذهبها أيضًا. وأخرج أيضًا عن أنس بن مالك: أنه قال له الحباب بن فضالة بن نُهَير الحنفي: إنَّ جاريةً لي غلبني أبي عليها. فقال أنس: هي له، أنت ومالك لأبيك، من كسبه أنت، ومالك له حَلال، وماله عليك حرام، إلَّا ما طابت به نفسه. وأخرج أيضًا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أولادكم هبة الله لكم وأموالهم لكم. ¬
وأخرج عن ابن مسعود، عن عمر بن الخطاب: أنه أتاه أبٌ وابن، والابن يطلب أباه بألف درهم أقرضه إياه، والأب يقول: إنَّه لا يقدر عليها. فأخذ عمر بيد الابن فوضعها في يد الوالد وقال: هذا وماله من هبة الله لك. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قضى بمال الولد للوالد. وأخرج أيضًا من طريق ابن أبي شيبة، عن ابن جريج: أنَّ عطاء كان لا يرى بأسًا أن يأخذ الرجل من مال ولده من غير ضرورة. ومن طريقه عن الشعبي عن مسروق قال: أنت من هبة الله لأبيك، أنت ومالك لأبيك. ومن طريقه أيضًا، عن مجاهد والحكم، قالا جميعًا: يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء إلَّا الفرج. ومن طريق شعبة، عن ابن إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري: أنه خاصم أباه إلى الشعبي، فقال الشعبي: الله جعلك ومالك له. يعني: لوالده. وأخرج عنه ابن حزم من طريق عبد بن حميد: أنه قال: الرجل في حلٍّ من مال ولده. ومن طريق عبد بن حميد عن جرير بن حازم رضي الله عنه قال: سمعت الحسن -وسأله سائل عن شيء من أمر والده- فقال له الحسن: أنت ومالك لأبيك، أما علمت أنك عبد أبيك؟!
ومن طريق عبد بن حميد، عن قتادة، عن الحسن قال: يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء، وإن كانت جارية تسراها. قال قتادة: لم يعجبني ما قال في الجارية. ومن طريق ليث، عن مجاهد قال: يأخذ الرجل من مال ولده إلَّا الفرج. وقد رُوِي هذا عن الحسن. وقال ابن أبي ليلى: لا يُغرم الوالد من مال وَلَده ما استهلك، ويجوز بيعه لمال وَلَدِه الكبير. وأخرج عبد بن حميد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال الله: (كلوا من طيبات ما كسبتم) (¬1)، وأولادكم من أطيب كسبكم؛ فهم وأموالهم لكم. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن ماجه (¬2)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنَّ ولده من كسبِه". وأخرج عبد بن حميد، عن عامر الأحول، قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما لنا من أولادنا؟ قال: "هم من أطيب كسبكم، وأموالهم لكم". ¬
كلام الخطابي حول معنى الحديث والرد عليه
وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد قال: "يأخذ الرجل من مال ولده إلَّا الفرج". وأخرج عبد بن حميد، عن الشعبي قال: الرجل في حل من مال ولده. وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن قال: (قال) (¬1): يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء، والوالدة كذلك، وليس للولد أن يأخذ من مال والده إلَّا ما طابت به نفسه. * إذا عرفَت هذا، فمذهب علي وعمر وابن مسعود وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وابن عباس من الصحابة. ومن التابعين: مسروق والحكم ومجاهد والشعبي وعطاء وسعيد بن المسيب -فإنَّه رَوى عنه داود بن أبي هند، قال: الوالد يأكل من مال ولده ما شاء، والولد لا يأكل من مال والده إلَّا بإذنه- والحسن وقتادة. فهؤلاء سبعة من الصحابة، وثمانية من التابعين قائلون: أنَّ مال الولد لأبيه، يتصرف فيه كيف يشاء كما يتصرف فيما يملكه، وكل ما جاز له في مال نفسه من الإِنفاق وغيره جاز له في مال ولده. والحديث دليلٌ واضح فيما ذهبوا إليه. ولا يُغترّ لقول الخطابي (¬2) في "معالم السنن" على حديث أنه ¬
يجتاح أبوه ماله: أنه لا يعلم أنَّ أحدًا يقول إنَّ معنى الحديث إباحة مال الولد لأبيه وأنه يأتي عليه إسرافًا وتبذيرًا، بل معناه إذا احتاج من مالك أخذ قدر الحاجة وإذا لم يكن لك مال وكان لك كسب لزمك أن تكسب عليه، انتهى. فقوله: (إنه لا يعلم قائلًا بذلك)، خلاف ما سمعته عمَّن سردناه. وأما قوله: (إسرافًا وتبذيرًا)، فكلامٌ في غير محله، فإنَّه يحرم على الإِنسان في ملكه المجمع على أنه ملكه الإِسراف أو التبذير. ولا يعزب عنك أنَّ قوله: (يجتاح مالي) يُنافي أنه يأخذ قدر النفقة بلا فاقة فقط، فإنَّ الاجتياح ظاهرٌ في خلافه؛ قال ابن الأثير في "النهاية" (¬1): الجائحة: الآفة التي تهلك الثمار. وتقدَّم تفسيره بـ (الاستئصال). هذا، وأما أهل المذاهب، فخالفوا الحديث ومن ذُكر من الصحابة والتابعين، فذهبوا إلى أنه ليس له من ماله إلَّا أنه ينفقه الابن إن ¬
كان الأب معسرًا وأنَّ مال الولد معصوم في ملك نفسه لا يحل لأبيه إلَّا بطيبةٍ من نفسه -خلا أنه لا يُحد الأب إن وطيء أمة ابنه الصغير والكبير، ولا تقطع يده إن سرق من مالهما، ويلزمه ضمان ما أخذ. قال أبو حنيفة: ليس للأب من مال ابنه إلَّا ما احتاج إليه من طعام أو شراب أو لباس. ومثله قالت الهادوية، وللمالكية مثله إلَّا أنهم قالوا: له أن يتصدق من مال ابنه الصغير عن نفسه، ويعتق من ماله ويضمن القيمة في ذلك كله. وإنَّما ذهب الجماهير إلى ذلك عملًا بعمومات: "لا يحل مال امرءٍ مسلم إلَّا بطيبة من نفسه" (¬1)، "إنَّ الله حرم دماءكم وأموالكم" (¬2)، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، ونحوها. والجواب: أوَّلًا: إنَّها أدلة في غير محل النزاع؛ لأن الشارع جعل مال الولد مالًا للأب، فما أكل مال غيره، بل مال نفسه بحكم الشرع. وثانيًا: لو سلم شمول عمومات الأدلة لمال الأولاد وشمول النهي للآباء لكان حديث "أنت ومالك لأبيك" مخصصًا له بالدليل، كما أنَّ ¬
الجمهور خصَّصوا من تلك العمومات إيجاب النفقة لأبيه وإن كره، وأخذها من ماله ولو قهرًا إن امتنع. كما خصصها أيضًا حديث هند الصحيح بقوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا شكت أنَّ أبا سفيان زوجها شحيح لا يسمح بنفقتها وولدها الكفاية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬1). وذهب أبو محمَّد ابن حزم (¬2) إلى أنه ليس للأب والجد إلَّا الأكل من مال ولدهما إن وجداه (¬3) من بيت أو غير بيت فقط (¬4)، ولا حق لهما بهما ولا حكم في شيء من ماله، لا بعتق ولا بإسقاط (¬5) ولا بارتهان، إلَّا إن كانا فقيرين، فيأخذ الفقير منهما ما احتاج من مال ولده: من كسوة وأكل وسكنى وخدمة، وما احتاجا إليه فقط. ثم قال: فإن قلت: فأنتم القائلون بكل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم استحللتم ترك الثابت عنه من قوله [- صلى الله عليه وسلم -] (¬6): "أنت ومالك لأبيك"؟ ¬
هل مال الولد لأبيه على الإطلاق أم ماذا؟
قلنا: يعيذنا الله (¬1) أن نترك خبرًا صح عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ولو أجلب علينا من بين البحرين، إلَّا أن يصح نسخه، وهذا الخبر منسوخ بغير شك (¬3) فيه؛ لأن الله تعالى (¬4) حكم بميراث الأبوين والزوج والزوجة والبنين والبنات من مال الولد إذا مات، وأباح في القرآن لكل مالك وطء (¬5) أَمَةٍ ملكها بملك اليمين وحرمها على من لا يملكها بقوله تعالي: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 6 - 7]. فدخل في هذا من له والد ومن لا والد له (¬6). إنَّ مال الولد بيقين له لا لأبويه، ولا حقّ لهما فيه إلَّا ما جاء به النص مما ذكرنا من الأكل أو عند الحاجة فقط، ولو كان مال الولد للوالد لما ورثت زوجة الولد ولا زوج البنت ولا أولادهما من ذلك شيئًا؛ لأنه مال لإِنسان حي. ولا كان يحل لذي والد أن يطأ جارية (¬7) أصلًا؛ لأنها لأبيه تكون. فيصح (¬8) بهذين الحكمين وبقائهما إلى يوم ¬
هل الخبر منسوخ أم لا؟
القيامة ثابتين غير منسوخين: أنَّ ذلك الخبر منسوخ. وكذلك (¬1) صح بالنص والإِجماع المتيقن أنَّ من ملك عبدًا أو أمة (¬2) ولهما والد فإن ملكهما لمالكهما لا لأبيهما. فصح (¬3) خبر أنه لأبيه منسوخ؛ فزال (¬4) الإِشكال ولله الحمد. انتهى بلفظه من المجلى شرح المحلَّى. وأقول: لا يخفى أنَّ دعوى النسخ محتاجة إلى إقامة البرهان على تأخر الناسخ، ولم يأت بدليل على تأخُّره. وكيف يخفى النسخ على الصحابة وهم علي وعمر وابن مسعود وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس وابن عباس رضي الله عنهم؛ فإنَّه نقل ابن حزم (¬5) نفسه القول عنهم بأنَّ مال الولد ملك لأبيه عملًا بالحديث، ثم قال: ولا نعلم خلافًا من الصحابة لمن ذكرنا منهم في هذه المسألة. قال: إلَّا رواية عن ابن عمر ورواية عن علي لم تصح. انتهى. قلت: فأي داع إلى دعوى النسخ مع إمكان الجمع، وقد زعم أنَّ الدليل على النسخ إيجاب الميراث لمال الولد إن هلك في حياة والده، وجواز تسريه بما ملكت يمينه، وقد توهَّم أنه لا يتم الجمع بين القول بملك الأب لمال ابنه والقول بأنه يورث عنه ماله إذا مات في حياة أبيه، ¬
وكذلك الحكم في تسريه، وإنَّما لما تعذر الجمع بين الأدلة حكم بالنسخ. والجمع هنا ممكن عندنا، فإنَّا نقول: حديث "أنت ومالك لأبيك" قضى بأنَّ الولد وماله للأب، وحكم بالأدلة الأخرى أنه إذا مات الولد كان ما تحت يده ميراث لأبويه وزوجه وأولاده. فهذا حكم مال الولد بعد وفاته، والأول حكمه في حياته، فأي مانع أن يكون ما تحت يده ملكًا لأبيه مهما كانا في قيد الحياة؟؟ فإذا مضى أحدهما لسبيله ولقي الله تعالى كان مال الولد أي الذي تحت يده إن كان هو الميت ميراثًا بين ورثته على فرائض الله، وإن خلف أبويه فقط حازا ما تحت يده أثلاثًا إن كان له أم، وإلَّا فهو للأب جميعه، كما كان له في حياة ولده. وفي عدم توريث الإِخوة من الذي خلفه أخوهم وحيازة والده لماله كله وعدم مزاحمتهم له: دليل على أنه لم يكن المال للأخ الميت، ودليل على أنهم لا يملكون مع أبيهم شيئًا. فلم يجعل الله لهم نصيبًا يزاحمون فيه أباهم، بل جعل الله وجودهم صارفًا للأم عن استحقاق الثلث من مخلف ابنها إلى السدس لسر بديع، وهو أنَّ أباهم هو الكافل لهم القائم بمؤنتهم وأقواتهم، ولما لم يكن لهم وجود استحقت الثلث من مال ولدها الهالك، وتنزلت هي وأبوه منزلة الذكر والأنثى من الأولاد والإِخوة للذكر مثل حظ الانثيين. فإن قلت: أولاد الرجل يزاحمونه في تركة أمهم إذا ماتت.
قلت: لأن المال الذي تحت يدها مالها، ملك لها, ليس للأب فيه ملك كما كان له ملك مال ولده حال حياته، بل هذه المزاحمة له من الأدلة على أنَّ مال أخيهم المالك الذي لم يجعل الله لهم فيه نصيبًا مع وجود أبيهم، كان مال الأب ولا ملك فيه للولد، وإنما جعل الله فيه للأم سهمًا من ثلث أو سدس لما يعلمه الله من شدة حزنها على فقده فجعل لها ذلك السهم من الذي خلفه ولدها، وإن كان قبل وفاته مال زوجها: جبرًا لحرارة المصيبة بابنها، والحكمة لا نعلمها، على أنَّ ما حازه الأولاد من ميراث أمهم، وزاحموا فيه والدهم عائد بالآخرة ملكًا لأبيهم بنص: "أنت وما ملكت لأبيك". فإن قلت: فزوجة الابن الميت وأولاده يزاحمون والده فيما خلفه وقد كان المال كله قبل وفاته لأبيه؟ قلت: اختلاف أحكام المال في حياة مالكه وأحكامه بعد وفاته لا ينكرها أحد، بل هو أمر معروف شرعًا، بل لا تكون أحكام مال المالك لها مختلفة حياةً وموتًا، بل يحصل اختلافها قبل موته عندما (¬1) ينزل به مرض الموت؛ فإنَّه لا يتصرف في ماله الذي يملكه ضرورة وشرعًا إلَّا في ثلث منه، فإن جاوزه وقف صحة تصرفه على إجازة وارثه، والحال أنَّ وارثه لا يملك في تلك الحال نقيرًا ولا قطميرًا من مال الذي وقف نفوذه على إجازته. وكان المريض قبيل مرضه بلحظة يصح تصرفه وينفذ في ¬
ما تحت يده؛ فأحكام المال تختلف باختلاف حال مالكه. إذا عرفت هذا، فأي شيء يوجب الحكم بنسخ حديث "أنت ومالك لأبيك"؟ فإنَّه لا تناقض في الأحكام، ولا معارضة، وقد اختلف زمان الحكمين. وقد سمَّى الشارع الولد نفسه كسبًا لأبيه، وأمره بالأكل من كسبه، وأخبره بأنه من أطيب ما يأكل منه في حديث: "إنَّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنَّ أولادكم من كسبكم"، أخرجه البخاري في التاريخ والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة. والمراد من الأكل: الانتفاع على أي وجه، من باب: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية [النساء: 10]، ومن باب حديث: "آكل الربا وموكله"، فإنَّه ليس المراد الانتفاع به في أي وجه. واعلم أنَّ كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مأخوذ من كلام ربه تبارك وتعالى، فإنَّه تعالى قال في سورة النور: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} الآية [النور: 61]، وعد عشرة أصناف من قرابات الإِنسان ممن نفى الجناح عن الأكل من بيوتهم، ولم يذكر الأولاد، فلم يأت أو بيوت أولادكم؛ لأنه لا بيوت لهم بالنسبة إلى آبائهم، بل هي بيوت الآباء. وبهذا تعرف أنَّ السُّنَّة مشتقة من الكتاب وأنَّ أحكامها تفصيل ونتائج لما تضمنته آياته؛ لذلك يقول الله تعالى مخاطبًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وأما قول ابن حزم: إنه لو كان مال الولد لأبيه لما حل له وطء الأمة المشتراة من ماله، مع حل ذلك بدخوله تحت عموم {إِلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]. فجوابه: إنَّ عموم "مالك" في حديث "أنت ومالك لأبيك" مخصوص؛ فإنَّه اسم جنس مضاف، وهو من صيغ العموم، خصه الإِجماع بحل أَمَةٍ شراها الولد في حياة والده، مما تحت يده ليطأها، وكذلك إصداق زوجة ينكحها, لأن وقوع هذا معلوم في عصر النبوة أنه يتسرى البنون وينكحون مما تحت أيديهم من الأموال التي يكتسبونها في حياة آبائهم، هذا معلوم قطعًا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر لما أخبره أنَّ أباه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بفراق امرأته فقال: "أطع أباك" (¬1). على أنا نقول: المعلوم من أحوال الناس أنه لا يتزوج الولد أو يأخذ أمةً وأبوه حيٌّ إلَّا بعد أخذ رأيه وإذنه له بذلك، وإقرار الأب لولده على انفراده في بيت وإنفاقه على نفسه مما تحت يده إباحة له، وإن فعل شيئًا من ذلك عن غير رأيه كان عاقًّا آثمًا ما لم يعلم رضا والده بذلك. وإذا علم رضاه فهو كرضاه بأخذ الولد من المال الذي كسبه ¬
هل الأم كالأب في ملكها مال ابنها؟
الأب وأحرزه، ولا حق فيه لابنه. وإنَّ رضا الأب بذلك يبيح لولده مال أبيه الذي تحت يد أبيه لا فرق بينهما. فإن قلت: فهل الأم كالأب في ملكها مال ابنها؟ قلت: لم يرد النص إلَّا في الأب، وقول جابر: (يأخذ الأب والأم من مال ولدهما) كلام من قبل نفسه كما قدمناه، كأنه قاسها على الأب، وأدخلها تحت عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "إنَّ أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم". ولا ريب أنَّ الأولاد من كسب الأب والأم. والحديث وإن ورد تعليلًا لأخذ الأب من مال ولده لكن لفظ "أولادكم" عام، والعام لا يقصر على سببه. إن قلت: ضمير الإِنسان في "أولادكم"، وهذا الضمير خاص بالرجال. قلت: هو كما قلت لا يشمل الأمهات إلَّا تغليبًا، والتغليب مَجَازٌ، والأصل الحقيقة، وأيضًا فالأصل عصمة مال الولد، فلا يشارك فيه ولا يكون لغيره إلَّا بدليل قاهر كالنص في حق الأب. وأما حديث: يا رسول الله، من أبر؟ قال: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك"، أخرجه أبو داود والترمذي (¬2)، وغيرهما، فهو جواب عن ¬
الأحق بالبر، وليس فيه تعرض لتملكها ماله، إذ البر لا يستلزم ذلك قطعًا، إذ البر الإِحسان بكل نوع من أنواعه، وليس منه أن تملك أمه ماله فإنَّه واجب على الإِنسان البر بأرحامه، ولا يملكون من ماله شيئًا كما يملكه الأب، فأثر جابر وعموم "من كسبكم" لا ينهضان على ملك الأم شيئًا من مال ابنها كما يملكه الأب. فإن قلت: أي مانع عن إلحاق الأم بالأب في ملك مال الولد، فإنَّ العلة منصوصة، أعني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أولادكم من أطيب كسبكم" ولا ريب أن الولد من كسب الأبوين لا من كسب الأب فقط. قلت: هذا الدليل لا أراه بعيدًا بُعْدَ النصِّ على العلة، ومساواة الأصل للفرع فيها ما لم يأت نص أنهض من هذا، والله أعلم. نقل من خط مؤلفه سيدي الوالد العالم العلَّامة عز الإِسلام المنير (¬1)، محمَّد بن إسماعيل الأمير، حفظ الله تعالى ببقائه معالم العلوم، وحرسه بعينه التي لا تنام (¬2). * * * ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬